ج11. أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري
سورة التغابن
مكية إلا آخرها فمدني وآياتها ثماني عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ
وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ
فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ
مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
شرح الكلمات:
يسبح لله :أي ينزه الله ويقدسه عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله.
ما في السموات وما في الأرض :أي من سائر المخلوقات بلسان الحال والقال.
له الملك وله الحمد :أي له دون غيره الملك الدائم الحق وله الحمد العام.
وهو على كل شيء قدير :أي هو ذو قدرة كاملة على فعل ما أراد ويريد.
فمنكم كافر ومنكم مؤمن :أي فبعضكم مؤمن موقن بربه ولقائه
وبعضكم كافر جاحد دهري، والواقع
شاهد.
وصوركم فأحسن صوركم :أي صوركم في الأرحام فأحسن صوركم.
وإليه المصير :أي المرجع يوم القيامة.
والله عليم بذات الصدور :أي بما في الصدور من الضمائر والسرائر.
معنى الآيات:
قوله تعالى {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي1 السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} يخبر
تعالى معلماً عباده بربوبيته الموجبة لعبادته وطاعته وطاعة رسوله بأنه يسبحه جميع
خلائقه في الملكوت الأعلى والأسفل وقوله {لَهُ2 الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} أي
أنه له الملك وهو الملك الحق وأنه له الحمد وهو الثناء الجميل {وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي وأنه على فعل كل شيء قدير لا يعجزه شيء {هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} أي وأنه خالق الكل فمن عباده
المؤمن به ومنهم لكافر كما هو الواقع. وأنه بما يعمل عباده من خير أو شر من حسنات
أو سيئات خبير أي مطلع وسيجزى الكل بأعمالهم حسنها وسيئها، وأنه خلق السموات
والأرض3 بالحق لا للهو ولا اللعب وللعبث بل بالحق وهو أن يذكر ويشكر من عباده وأنه
صور العباد في الأرحام فأحسن صورهم وجملها، فهي أجمل المخلوقات الأرضية على
الإطلاق، وأنه إليه لا إلى غيره المرجع يوم القيامة فيحاسب ويجزي وهو الحكم العدل العزيز
الحكيم. وأنه تعالى يعلم ما في السموات والأرض من سائر المخلوقات والحوادث
والأحداث، وأنه يعلم ما يسر عباده من أعمال وأقوال ونيات، وما يعلنون من ذلك. وأنه
عليم بذات الصدور أي ما فيها من أسرار وخواطر ونيات وإرادات.
أخبر عباده بهذا4 ليؤمنوا به ويعبدوه دون غيره فيكملون ويسعدون بعبادته فله الحمد
وله المنة وهو الرحمن الرحيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تعليم الله تعالى عباده وتعريفهم بجلاله وكماله ليؤمنوا به ويعبدوه ليكملوا
ويسعدوا في
__________
1 اللام في قوله: (له) مزيدة لتقوية الكلام إذ فعل سبح يتعدى بنفسه يقال: سبحه:
إذا نزهه وقال: (ما في السموات) ولم يقل: من تغليباً لغير العاقل لكثرته.
2 (له الملك): تقديم الخبر على المبتدأ هنا للدلالة على الاختصاص فهو تعالى مختص
بكل من الملك والحمد.
3 الباء في (بالحق) للملابسة أي خلقاً ملتبساً بالحق بعيدا عن اللهو، واللعب
الباطل.
4 في الآيات تقرير البعث وإمكانه بحجج عقلية لا ترها العقول الراجحة والفطر
السليمة.
الحياتين بالإيمان به وبطاعته وطاعة رسوله.
2- تقرير عقيدة القضاء والقدر إذ المؤمن مؤمن، والكافر كافر مكتوب ذلك في كتاب
المقادير، ثم يظهره تعالى في عالم الشهادة قائما على سننه في خلقه.
3- وجوب مراقبة الله تعالى والحياء منه لأنه عليم بذات الصدور.
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ
أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا
وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
شرح الكلمات:
ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل :أي ألم يأتكم يا كفار قريش خبر الذين كفروا من
قبلكم.
فذاقوا وبال أمرهم :أي عقوبة كفرهم في الدنيا.
ولهم عذاب أليم :أي في الآخرة.
ذلك: أي العذاب في الدنيا والآخرة.
بأنه كانت تأتيهم رسلهم : أي بسبب أنها كانت تأتيهم رسلهم.
بالبينات: أي بالحجج القواطع الدالة على صحة رسالاتهم.
فقالوا: أبشر يهدوننا:أي ردوا عليهم ساخرين مكذبين: أبشر يهدوننا؟
فكفروا وتولوا:أي فكفروا برسلهم وتولوا عنهم أي أعرضوا.
واستغنى الله : أي عن إيمانهم.
والله غني حميد : أي غني عن خلقه محمود بأفعاله وآلائه على خلقه.
معنى الآيتين:
بعد أن بين تعالى للناس مظاهر ربوبيته المقتضية لعلمه وقدرته وحكمته وعدله ورحمته
في الآيات السابقة والموجبة لألوهيته قرر في هاتين الآيتين نبوة ورسالة نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم فقال لكفار
مكة {أَلَمْ يَأْتِكُمْ1 نَبَأُ} أي خبر {الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} 2كقوم عادٍ وثمود وأصحاب مدين، {فَذَاقُوا وَبَالَ
أَمْرِهِمْ3} أي عقوبة كفرهم التي كانت عقوبة ثقيلة شديدة فأهلكوا في الدنيا بعذاب
إبادي استئصالي، وفي الآخرة لهم عذاب أليم4 وبين لهم سبب ذلك الهلاك والعذاب فقال:
{ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ5 تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالحجج
والبراهين على أنهم رسل إليهم، وأنه لا إله إلا الله فلا تصح العبادة لغير الله، فيقابلونها
بالسخرية والإعراض والاستنكار وهو ما أخبر تعالى به عنهم في قوله: {فَقَالُوا
أَبَشَرٌ6 يَهْدُونَنَا} أي كيف يكون بشر مثلكم يهدوننا، وبذلك كفروا وتولوا عن
الإيمان والإسلام. واستغنى الله عن إيمانهم فأهلكهم لما كفروا به وبرسله. ولم يأسف
أو يأس عليهم لعدم حاجته إليهم والله غني عنهم وعن سائر خلقه حميد أي محمود
بأفعاله الشاهدة بكماله وجلاله وجماله.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- توبيخ من يستحق التوبيخ وتأنيب من يستحق التأنيب.
2- التكذيب للرسل والكفر بتوحيد الله موجب للعقوبة في الدنيا والعذاب في الآخرة.
3- تقرير نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإثباتها لأن شأنه شأن الرسل من قبله.
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي
لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ
ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً
يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
__________
1 الاستفهام تقريري.
2 حذف المضاف إليه مع (قبل) ونوي معناه دون لفظه فلذا بنيت قيل على الضم والتقدير:
نبأ الذين كفروا من قبلكم.
3 الوبال: السوء، وما يكره، والأمر: الشأن والحال.
4 أي: في الآخرة لأن العطف يقتضي المغايرة.
5 الإشارة عائد إلى المذكور قبلها وهو الوبال والعذاب الأليم.
6 الاستفهام في (أبشر) استفهام إنكاري إبطالي.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا أُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
شرح الكلمات:
زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا :أي قالوا كاذبين إنهم لن يبعثوا أحياء من قبورهم.
قل بلى وربي لتبعثن: قل لهم يا رسولنا بلى لتبعثن ثم تنبئون بما عملتم.
وذلك على الله يسير :وبعثكم وحسابكم ومجازاتكم بأعمالكم شيء يسير على الله.
والنور الذي أنزلنا :أي وآمنوا بالقرآن الذي أنزلناه.
ليوم الجمع :أي يوم القيامة إذ هو يوم الجمع.
ذلك يوم التغابن :أي يغبن المؤمنين الكافرين يأخذ منازل الكفار في الجنة وأخذ
الكفار منازل المؤمنين في النار.
ذلك الفوز العظيم :أي تكفيره تعالى عنهم سيئاتهم وإدخالهم جنات تجري من تحتها
الأنهار هو الفوز العظيم.
بئس المصير: أي قبح المصير الذي صاروا إليه وهو كونهم أهلاً للجحيم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في مطلب هداية قريش إنه بعد أن ذكرهم بمصير الكافرين من
قبلهم وفي ذلك دعوة واضحة لهم إلى الإيمان بتوحيد الله وتصديق رسوله. دعاهم هنا
إلى الإيمان بأعظم أصل من أصول الهداية البشرية وهو الإيمان بالبعث والجزاء وهم
ينكرون ويجاحدون ويعاندون قيه فقال في أسلوب غير المواجهة بالخطاب زعم1 الذين
كفروا والزعم ادعاء باطل وقول إلى الكذب أقرب منه إلى الصدق. أن لن يبعثوا أي أنهم
إذا ماتوا لن يبعثوا أحياء يوم القيامة.
قل لهم يا رسولنا: {بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا
عَمِلْتُمْ } ولازم ذلك الجزاء العادل على كل أعمالكم وهي أعمال فاسدة غير صالحة
مقتضية للعذاب والخزي في جهنم {وَذَلِكَ عَلَى2 اللَّهِ يَسِيرٌ} أي وأعلمهم أن
بعثهم وتنبئنهم بأعمالهم وإثابتهم عليها أمر سهل هين لا صعوبة فيه وبعد هذه
__________
1 هنا كلام مستأنف استئنافاً ابتدائياً المخاطب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
يذكر فيه كفر المشركين بالبعث ويرد عليهم بتقرير ما نفوه وزعموا أنه غير واقع,
والزعم: القول الموسوم بمخالفة الواقع, ويطلق على الخبر المشكوك في وقوعه.
2 (وذلك على الله يسير): تذييل, واسم الإشارة عائد إلى البعث المفهوم من قوله:
(لتبعثن).
اللفتة اللطيفة دعاهم دعوة كريمة إلى طريق سعادتهم
ونجاتهم فقال عز وجل: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ1 وَرَسُولِهِ} أي صدقوا بتوحيد الله
وبنبوة رسوله وبالنور الذي أنزلنا وهو القرآن الكريم، واعملوا الصالحات وتباعدوا
عن السيئات {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي وسيجزيكم بأعمالكم. وذلك
{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} وهو يوم القيامة ويجازيكم بأعمالكم خيرها
وشرها ذلك يوم التغابن2 الحقيقي حيث يرث أهل الجنة منازل أهل النار في الجنة ويرث
أهل النار منازل أهل الجنة في النار، وهذا قائم على أساس أن الله تعالى أوجد لكل
إنسان منزلاً في الجنة وآخر في النار، فمن آمن وعمل صالحا دخل الجنة وحاز منزله
ومنزل إنسان آخر هو في النار فحصل بذلك الغبن بينه وبين من هو في النار قد ورث
منزله فيها وبعد هذا الدعاء الخاص الموجه إلى كفار قريش قال تعالى واعداً عامة
الناس عربهم وعجمهم من وجد منهم ومن لم يوجد بعد: ومن يؤمن بالله3 ويعمل صالحاً
يكفر4 عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز
العظيم لأنه نجاة من النار ودخول الجنة هذا وعده الصادق لمن آمن وعمل صالحاً.
وقال: {وَالَّذِينَ 5كَفَرُوا} أي بالله ورسوله ولقائه وكذبوا بآيتنا أي القرآن
وما فيه من شرائع وأحكام والتكذيب مانع من العمل الصالح قطعاً إذاً {أُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} النار والخلود فيها
هذا وعيده تعالى المقابل لوعده السابق اللهم اجعلنا من أهل وعدك ولا تجعلنا من أهل
وعيدك يا واسع الفضل يا رحمن.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير البعث والجزاء.
2- تقرير التوحيد والنبوة.
3- بيان كون القرآن نوراً فلا هداية في هذه الحياة إلا به فمن طلبها في غيره ما
اهتدى.
__________
1 (فآمنوا): الفاء هي الفصيحة إذ أفصحت عن شرط مقدر، والتقدير: فإذا علمتم هذه
الحجج وتذكرتم ما حل بأسلافكم من العقاب فآمنوا بالله ورسوله لتنجوا مما حل
بالكافرين من أمثالكم.
2 الإتيان باسم الإشارة بدل الضمير كان لقصد الاهتمام بهذا اليوم بتمييزه مع ما
يفيده اسم الإشارة من البعد والعلو نحو: (ذلك الكتاب) والتغابن: تفاعل صادر بين
اثنين هذا مغبون وذاك غابن، والغبن: أن يعطى البائع ثمناً دون ثمن بضاعته.
3 هذه الآية متضمنة تفصيلاً لما أجمل في الجمل قبلها وتحمل عفواً عاماً لمن آمن من
الكافرين ووحد من المشركين بأن الله تعالى سيعفو عنهم ويغفر لهم ويدخلهم الجنة.
4 قرأ نافع: ( نكفر) و(ندخل) بنون العظمة على الالتفات من الغيبة إلى المتكلم.
وقرأ حفص (يكفر) و(يدخل) بياء الغيبة على مقتضى الظاهر.
5 أي: والذين استمروا على الكفر والتكذيب ولم يتوبوا بالإيمان وترك الشرك والمعاصي
فجزاؤهم الملائم لخبث نفوسهم من جراء الشرك والمعاصي هو ما ذكر تعالى من الخلود في
النار.
4- الترغيب في الإيمان والعمل الصالح وبيان أنهما مفتاح
دار السلام.
5- التحذير من الكفر والتكذيب بالقرآن وشرائعه وأحكامه فإن ذلك يقود إلى النار.
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ
يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا
الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
شرح الكلمات:
ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله:أي ما أصابت أحداً من الناس مصيبةٌ إلا بقضاء الله
تعالى وتقديره ذلك عليه.
ومن يؤمن بالله يهد قلبه:أي ومن يصدق بالله فيعلم أنه لا أحد تصيبه مصيبة إلا
بإذنه تعالى يهد قلبه للتسليم والرضاء بقضائه فيسترجع ويبصر.
فإن توليتم:أي عن طاعة الله ورسوله فلا ضرر ولا بأس على رسولنا في توليكم إذ عليه
إبلاغكم لا هدايتكم.
معنى الآيات:
قوله تعالى {مَا أَصَابَ1 مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} 2 في هذه الآية
رد على الكافرين الذين يقولون لو كان المسلمون على حق، وما هم عليه حقاً لصانهم
الله من المصائب في الدنيا، ولما سلط عليهم كذا وكذا... فأخبر تعالى أنه ما من أحد
من الناس تصيبه مصيبة في نفس أو ولدٍ أو مالٍ إلا وهي بقضاء الله وتقديره ذلك
عليه، ومن يؤمن بالله رباً وإلهاً عليماً حكيماً وأن ما أصابه لم
__________
1 قال القرطبي: قيل سبب نزول هذه الآية أن الكفار قالوا: لو كان ما عليه المسلمون
حق لصانهم الله من المصائب في الدنيا ورد تعالى عليهم بأن المصائب التي تصيب العبد
هي بإذن الله ولها أسبابها مرتبطة معها وهي سنن لله تعالى لا تتخلف.
2 أنثت المصيبة لأنها بمعنى الحادثة والإذن: أصله إجازة الفعل لمن يفعله والمراد
هنا أن ما يصيب العبد من خير وشر هو بتدبير الله تعالى في ربطه الأسباب بالمسببات
فعاد الأمر إلى أذنه تعالى بوقوع ما أراده من خير أو غيره.
يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه1 يهد قلبه فيصبر
ويسترجع فيؤجر وتخف عنده المصيبة بخلاف الكافر بالله وقضائه وقدره.
وقوله تعالى {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فلا يخفى عليه شيء فلا يحدث حدث
في الكون إلا بعلمه وإذنه وهذه حال تقتضي الرضا بالقضاء والقدر والتسليم لله تعالى
فيما يقضي به على عبده وفي ذلك خير كثير لا يعرفه إلا أصحاب الرضا بالقضاء
والتسليم للعليم الحكيم.
وقوله تعالى { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} يأمر تعالى عباده عامة
بطاعة الله وطاعة رسوله لأن كمال الإنسان وسعادته مرتبطة بهذه الطاعة التي هي
عبارة عن تطبيق نظام دقيق ينتج صفاء روح وزكاة نفس يتأهل بها العبد إلى النزول
بالملكوت الأعلى (الجنة دار الأبرار).
وقوله {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أي أعرضتم عن هذه الدعوة فرفضتم طاعة الله ورسوله
فلا ضرر على رسولنا ولا ضير إذ عليه البلاغ المبين وقد بلغ مبيناً غاية التبيين،
وأما هدايتكم فلم يكلف بها إذ لا يقدر عليها ولا يكلف الله نفساً إلا طاقتها.
وقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي أن الذي أمركم بطاعته وطاعة
رسوله هو الله الذي لا إله إلا هو أي المعبود الذي لا تنبغي العبادة ولا تصلح إلا
له لأنه الخالق لكم الرازق المدبر لحياتكم، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ2
الْمُؤْمِنُونَ} فإنه يكفي المؤمن الذي يتوكل عليه يكفيه كلما يهمه من أمر دنياه
وآخرته. ولا كافي إلا هو سبحانه وتعالى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة القضاء والقدر.
2- وجوب الصبر عند نزول المصيبة والرضا والتسليم لله تعالى في قضائه وحكمه، ومن
تكن هذه حاله يهد الله قلبه3 ويرزقه الصبر وعظيم الأجر ويلطف به في مصيبته وإن هو
استرجع قائلاً إنا لله وإنا إليه راجعون أخلفه الله عما فقده وآجره.
3- وجوب طاعة الله وطاعة رسوله في الأمر والنهي.
4- تقرير التوحيد.
__________
1 (يهد قلبه) عندما تصيبه المصيبة فيسترجع أي: يقول إنا لله وإنا إليه راجعون
ويصبر، فالإيمان هو السبب في حصول هداية القلب فإذا هدى القلب حصل الاسترجاع وحصل الصبر
وخف وقع المصيبة.
2 الجملة معطوفة على قوله: {وأطيعوا الله} فهي في معنى: أطيعوا الله وأطيعوا
الرسول، وتوكلوا على الله وحده لأن الطاعة تتطلب عملا وجهداً وهما يتطلبان اعتمادا
على الله إذ هو المعين للعبد على الطاعة دون غيره فليكن التوكل عليه وحده.ً
3 (يهد قلبه) فيسترجع ويبصر، والإيمان الصحيح هو الذي ينتج هداية القلب فإذا اهتدى
القلب إلى معرفة حكم الله وقضائه صبر وظفر.
5- وجوب التوكل على الله تعالى وهو فعل المأمور وترك
المنهي وتفويض الأمر لله بعد ذلك. ولن يكون إلا خيراً بإذن الله تعالى.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً
لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ
عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا
وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً
يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
شرح الكلمات:
إن من أزواجكم وأولادكم عدوا: أي من بعض أزواجكم وبعض أولادكم عدواً أي يشغلونكم
عن طاعة الله أو
لكم ينازعونكم في أمر الدين أو الدنيا.
فاحذروهم :أي أن تطيعوهم في التخلف عن فعل الخير كترك الهجرة أو الجهاد أو صلاة
الجماعة أو التصدق على ذوي الحاجة.
وإن تعفوا: أي عمن ثبطكم عن الخير من زوجة وولد.
وتصفحوا وتغفروا: أي وتعرضوا عنهم وتغفروا لهم ما عملوه معكم من تأخيركم عن الهجرة
أو الجهاد أو الإنفاق في سبيل الله.
فإن الله غفور رحيم: أي يغفر لمن يغفر ويرحم من يرحم.
إنما أموالكم وأولادكم فتنة: أي بلاء واختبار لكم
فاحذروا أن يصرفوكم عن طاعة الله أو يوقعوكم في معصيته.
والله عنده أجر عظيم: أي فآثروا ما عنده تعالى على ما عندكم من مال وولد.
فاتقوا الله ما استطعتم: أي افعلوا ما تقدرون عليه من أوامره, واجتنبوا نواهيه
كلها.
ومن يوق شح نفسه: أي ومن يقه الله شح نفسه فيعافيه من البخل والحرص على المال.
يضاعفه لكم: أي الدرهم بسبعمائة.
والله شكور حليم: أي يجازي على الطاعة ولا يعاجل بالعقوبة.
معنى الآيات:
هذه الآيات الكريمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إلى قوله {الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ} نزلت في1 أناس كان لهم أزواج وأولاد عاقوهم عن الهجرة والجهاد فترة من
الوقت فلما تغلبوا عليهم وهاجروا ووجدوا الذين سبقوهم إلى الهجرة قد تعلموا
وتفقهوا في الدين فتأسفوا عن تخلفهم فهموا بأزواجهم وأولادهم الذين عاقوهم عن
الهجرة فترة طويلة أن يعاقبوهم بنوع من العقاب من تجويع أو ضرب أو تثريب وعتاب
فأنزل الله تعالى هذه الآيات يا أيها الذين آمنوا أي يا أيها المؤمنون إن من2
أزواجكم3 وأولادكم أي من بعضهم لا كلهم إذ منهم من يساعد على طاعة الله ويكون
عوناً عليها عدواً لكم يصرفكم عن طاعة الله والتزود للدار الآخرة, وقد ينازعونكم
في دينكم ودنياكم إذاً فاحذروهم أي كونوا منهم على حذر أن تطيعوهم في التخلف عن
فعل الخير من هجرة وجهاد وغيرهما وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا أي عمن شغلوكم عن طاعة
الله فعاقوكم عن الهجرة والجهاد فلم تضربوهم ولم تجوعوهم ولم تثربوا عليهم ولم
تعاتبوهم بل تطلبون العذر لما قاموا به نحوكم يكافئكم الله تعالى بمثله فيعفو عنكم
ويصفح ويغفر لكم كما عفوتم وصفحتم وغفرتم لأزواجكم وأولادكم الذين أخروا هجرتكم
وعطلوكم عن الجهاد في سبيل الله.
__________
1 قال القرطبي: قال ابن عباس: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي بالمدينة النبوية شكا
إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده, وعن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة
التغابن كلها جملة إلا هؤلاء الآيات (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم..) الخ.
2 الآية عامة في الرجال والنساء فكما يكون للرجل من امرأته وولده عدو يكون كذلك
للمرأة من زوجها وولدها عدو, ووجب الحذر على المؤمنين, ويكون الحذر بوجهين: إما
لضرر في البدن وإما لضرر في الدين, وضرر البدن يتعلق بالدنيا وضرر الدين يتعلق
بالآخرة فحذر الله تعالى العبد من ذلك وأنذره به.
3 (من) للتبعيض إذ ما كل من له زوجة وولد كانوا له عدواً.
وقوله تعالى {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ
فِتْنَةٌ1 وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي إنما أموالكم وأولادكم أي كل
أموالكم وأولادكم فتنة واختبار من الله لكم هل تحسنون التصرف فيهم فلا تعصوا الله
لأجلهم لا بترك واجب ولا بفعل ممنوع, أو تسيئون التصرف فيحملكم حبهم على التفريط
في طاعة الله أو التقصير في بعضها بترك واجب أو فعل حرام والله عنده أجر عظيم
فآثروا ما عند الله على ما عندكم من مال وولد, إن ما عند الله باق, وما عندكم
فانٍ, فآثروا الباقي على الفاني.
وقوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ2} هذا من إحسان الله تعالى إلى
عباده المؤمنين إنه لما علمهم أن أموالهم وأولادهم فتنة وحذرهم أن يؤثروهم على
طاعة الله ورسوله علم أن بعض المؤمنين سوف يزهدون في المال والولد, وأن بعضاً سوف
يعانون أتعاباً ومشقة شديدة في التوفيق بين خدمة المصلحتين فأمرهم أن يتقوه في
حدود ما يطيقون فقط وخير الأمور الوسط فلا يفرط في ولده وماله, ولا يفرط في علة
وجوده وسبب نجاته وسعادته وهي عبادة الله تعالى التي خلق لأجلها وعليها مدار نجاته
من النار ودخوله الجنة.
وقوله تعالى واسمعوا3 ما يدعوكم الله ورسوله إليه {وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا} في
طاعة الله من أموالكم4 خيراً لأنفسكم من عدم الإنفاق فإنه شر لكم وليس بخير.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
أعلمهم أن عدم الإنفاق ناتج عن شح النفس, وشح النفس لا يقي منه إلا الله, فعليكم
باللجوء إلى الله تعالى ليحفظكم من شح نفوسكم فادعوه وتوسلوا إليه بالإنفاق قليلاً
قليلاً حتى يحصل الشفاء من مرض الشح الذي هو البخل مع الحرص الشديد على جمع المال
والحفاظ عليه ومن شفي من مرض الشح أفلح وأصبح في عداد المفلحين الفائزين بالجنة
بعد النجاة من النار وقوله {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ
لَكُمْ5 وَيَغْفِرْ لَكُمْ} هذا الترغيب عظيم من الله تعالى للمؤمنين للنفقة في
سبيله
__________
1 (فتنة) أي: بلاء واختبار يحملكم على كسب المحرم ومنع حق الله تعالى فلا تطيعوهم
في معصية الله تعالى, روي عن ابن مسعود أنه كان يقول: لا تقولوا: اللهم اعصمني من
الفتنة فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال وأهل وولد إلا وهو مشتمل على فتنة ولكن
ليقل اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن.
2 هل هذه الآية مخصصة لآية آل عمران: (فاتقوا الله حق تقاته) هذا هو الطاهر إذ من
غير الممكن أن يتقى الله حق تقاته أي: تقواه الحقة فلو أن العبد ذاب ذوباناً من
خشية الله تعالى ما اتقى الله حق تقاته.
3 قال القرطبي: اسمعوا ما توعظون به وأطيعوا فيما تؤمرون به وتنهون عنه, والآية
أصل في السمع والطاعة في بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة ولأولى
الأمر.
4 يصح في نصبه ثلاثة أوجه الأول أن يكون الخير بمعنى المال ويكون خيراً مفعولاً
به, والثاني: أن يكون (خيراً) نعتاً لمصدر محذوف أي أنفقوا إنفاقاً خيراً, والثالث
أن يكون منصوباً بفعل مضمر دل عليه أنفقوا أي ايتوا في الإنفاق خيراً لأنفسكم.
5 المضاعفة: هي إعطاء الضعف, والشكور: فعول بمعنى فاعل أي: مبالغة في الشكر.
إذ سماها قرضاً والقرض مردود وواعد بمضاعفتها وزيادة
أخرى أن يغفر لهم بذلك ذنوبهم, واشتراط الحسن للقرض اشتراط معقول وهو أن يكون
المال الذي أقرض الله حلالاً لا حراماً, وأن تكون النفس طيبة به لا كارهة له, وهذا
من باب النصح للمؤمنين ليحصلوا على الأجر مضاعفاً. وقوله تعالى {وَاللَّهُ شَكُورٌ
حَلِيمٌ} ترغيب أيضا لهم في الإنفاق لأن الشكور معناه يعطي القليل فيكافيء
بالكثير,والحليم الذي لا يعاجل بالعقوبة. ومثله يقرض القرض الحسن.
وقوله {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ترغيب أيضاً في الإنفاق إذا أعلمهم أنه
لا يغيب عنه من أمورهم شيء يعلم الخفي منها والعلنى، وما غاب عنهم فلم يروه وما
ظهر لهم فشهدوه فذو العلم بهذه المثابة معاملته مضمونة لا يخاف ضياعها ولا
نسيانها. وقوله {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي العزيز الانتقام من أعدائه الحكيم في
إجراء أحكامه وتدبير شؤون عباده.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن من بعض الزوجات والأولاد عدواً فعلى المؤمن أن يحذر ذلك ليسلم من شرهم.
2- الترغيب في العفو والصفح والمغفرة على من أساء أو ظلم.
3- التحذير من فتنة المال والولد ووجوب التيقظ حتى لا يهلك المرء بولده وماله.
4- وجوب تقوى الله بفعل الواجبات وترك المنهيات في حدود الطاقة البشرية.
5- الترغيب في الإنفاق في سبيل الله تعالى والتحذير من الشح فإنه داء خطير.
سورة الطلاق
----
قلت المدون لم يتنبه الشيخ الجزائري الي ان اللام في كلمة{لــ عدتهن} هي لام انتهاء الغاية وليست لام ابتداء الحدث وأنها نقلت بدأ تحقيق الطلاق الذي كان الازواج يبدأون به حدث الطلاق حين سيادة أحكامه في سورة البقرة2هـ -الي ما بعد العدة في سورة الطلاق5هـ مما يعني تصدير وبدأ الزوج وزوجته للعدة قبل التلفظ بالطلاق و هذا يعني تأجيل تحقيق الطلاق لنهاية العدة انظر مدونة النخبة في شرعة الطلاق ورابطها
https://fafy22222222.blogspot.com/2019/09/blog-post.html
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً (1)
شرح الكلمات:
يا أيها النبي :أراد الله بالنداء النبي صلى الله عليه وسلم وأمته بدليل ما بعده.
إذا طلقتم النساء : أي إذا أردتم طلاقهن.
فطلقوهن لعدتهن :أي لقبل عدتهن أي في طهر لم يجامعها فيه.
وأحصوا العدة :أي احفظوا مدتها حتى يمكنكم المراجعة فيها.
واتقوا الله ربكم :أي أطيعوه في أمره ونهيه.
لا تخرجوهن من بيوتهن :أي لا تخرجوا المطلقة من بيت زوجها الذي طلقها حتى تنقضي
عدتها.
إلا أن يأتين بفاحشة مبينة :أي إلا أن يؤذين بالبذاء في القول وسوء الخلق, أو
يرتكبن فاحشة من زناً بينة ظاهرة لا شك فيها.
وتلك حدود الله :أي المذكورات من الطلاق في أول الطهر وإحصاء العدة وعدم إخراج
المطلقة من بيتها حتى تنقضي عدتها.
لا تدري لعل الله يحدث بعد :أي يجعل في قلب الزوج الرغبة في مراجعتها فيراجعها إذا
لم تكن الثالثة من
ذلك أمراً الطلقات.
معنى الآية:
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}1 يخاطب الله
تبارك وتعالى رجال أمة الإسلام في شخصية نبيها محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: إذا
طلقتم2 أي إذا أردتم طلاقهن لأمر اقتضى ذلك فطلقوهن لعدتهن أي لأول عدتهن وذلك في
طهر لم تجامع فيه لتعد ذلك الطهر أول عدتها. وقوله تعالى:
__________
1 في سنن ابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم طلق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها بأمر الله تعالى وقيل له:
راجعها فإنها قوامة صوامة رضي الله عنها وأرضاها، وضعف الحديث، وعلى كل حال فالآية
تشريع عام لأمة الإسلام بغض الطرف عن سبب النزول.
2 وردت أحاديث كثيرة ضعيفة السند ومجموعها يدل على كراهية الطلاق وأنه عمل غير
صالح إن كان بدون ضرورة وهي رفع الضرر عن أحد الكتزوجين. الجمهور أن من طلق
واستثنى فله ما استثناه فلو قال: أنت طالق إن شاء الله فله استثناؤه ولا طلاق
عليه.
{وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} أي احفظوها فاعرفوا بدايتها
ونهايتها لما يترتب على ذلك من أحكام من صحة المراجعة وعدمها، ومن النفقة،
والإسكان وعدمهما. وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} فامتثلوا أوامره وقفوا
عند حدوده فلا تتعدوها، لا تخرجوهن أي المطلقات من بيوتهن اللاتي طلقن فيهن، ولا
يخرجن أي ويجب أن لا يخرجن من بيوتهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة كزناً ظاهرٍ أو
تكون سيئة بذيئة اللسان فتؤذي أهل البيت أذىً لا يتحملونه فعندئذ يباح إخراجها.
وقوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي المذكورات من الطلاق لأول الطهر،
وإحصاء العدة، وعدم إخراجهن من بيوتهن، وقوله {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ}
فيتجاوزها ولم يقف عندها فقد ظلم نفسه وتعرض لعقوبة الله تعالى عاجلاً أو آجلاً.
وقوله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} أي بأن
يجعل الله تعالى في قلب الرجل رغبة في مراجعة مطلقته فيراجعها، وفي ذلك خير كثير.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان السنة في الطلاق وهي أن يطلقها في طهرٍ لم يمسها 1في بجماع.
2- أن يكون الطلاق واحدة لا اثنتين ولا ثلاثاً.
3- وجوب إحصاء العدة ليعرف الزوج متى تنقضي عدة مطلقته لما يترتب على ذلك من أحكام
الرجعة والنفقة والإسكان.
4- حرمة إخراج المطلقة من بيتها الذي طلقت فيه إلى أن تنقضي عدتها إلا أن ترتكب
فاحشة ظاهرة كزناً أو بذاءة أو سوء خلق وقبيح معاملة فعندئذ يجوز إخراجها.
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ
__________
1 وأن يكون لا اثنتين ولا ثلاثاً، وطلاق البدعة خلافه وهو: أن يطلقها وهي حائض أو
في طهر جامعها فيه أو بلفظ اثنين أو ثلاث ومن أهل العلم من لا يعد الطلاق البدعي
طلاقاً، ومنهم من يمضيه واحتج المانعون والمجيزون بحديث ابن عمر في الصحيح: (إذ
طلق ابن عمر زوجته وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:
ليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهراً
قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر بها الله عز وجل) فمن قال: إن الرسول صلى الله
عليه وسلم قد حسبها له طلقة قال الطلاق في الحيض يمضي وهو بدعة، ومن قال: إن الرسول
صلى الله عليه وسلم لم يعدها بل قال له: "إذا طهرت ليطلق أو ليمسك" قال:
الطلاق في الحيض بدعة ولا يمضي.
وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ
مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ
جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)
شرح الكلمات:
فإذا بلغن أجلهن :أي قاربن انقضاء عدتهن.
فأمسكوهن بمعروف :أي بأن تراجعوهن بمعروف من غير ضرر.
أو فارقوهن بمعروف :أي أتركوهن حتى تنقضي عدتهن ولا تضاروهن بالمراجعة.
وأشهدوا ذوي عدل منكم :أي اشهدوا على الطلاق وعلى المراجعة رجلين عدلين منكم أي من
المسلمين فلا يشهد كافر.
وأقيموا الشهادة لله :أي لا للمشهود عليه أوله بل لله تعالى وحده.
ذلكم يوعظ به من كان يؤمن :أي ذلكم المذكور من أول السورة من أحكام يؤمر به وينفذه
من كان يؤمن بالله
بالله واليوم الآخر واليوم الآخر.
ومن يتق الله :أي في أمره ونهيه فلا يعصه فيهما.
يجعل له مخرجاً :أي من كرب الدنيا والآخرة.
ويرزقه من حيث لا يحتسب : أي من حيث لا يرجوا ولا يؤمل.
فهو حسبه : أي كافيه ما يهمه من أمر دينه ودنياه.
قد جعل الله لكل شيء قدراً :أي من الطلاق والعدة وغير ذلك حداً وأجلاً وقدراً
ينتهي إليه.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في بيان العدد وأحكام الطلاق والرجعة. قال تعالى: {فَإِذَا
بَلَغْنَ} 1 أي المطلقات أجلهن أي قاربن انقضاء العدة فأمسكوهن بمعروف أي راجعوهن
على أساس حسن العشرة والمصاحبة الكريمة لا للإضرار بهن كأن يراجعها ثم يطلقها يطول
عليها العدة فهذا لا
__________
1 هذا لقوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن) أي: قاربن من انقضاء
الأجل.
يجوز لحرمة الإضرار بالناس وفي الحديث: لا ضرر1 ولا
ضرار. وقوله {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وذلك بأن يعطيها ما بقي لها من
مهرها ويمتعها2 بحسب حاله غنىً وفقراً. وقوله تعالى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ
مِنْكُمْ} أي أشهدوا على النكاح والطلاق والرجعة أما الإشهاد على النكاح فركن ولا
يصح النكاح بدونه، وأما في الطلاق والرجعة فهو مندوب، وقد يصح الطلاق والرجعة
بدونه، ويشترط في الشهود أن يكونوا عدولاً، وأن يكونوا مسلمين لا كافرين.3 وقوله
{وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} أي أدوها على وجهها ولا تراعوا فيها إلا وجه
الله عز وجل. وقوله: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أي ذلكم المأمور به من أول السورة كالطلاق في طهر لم
يجامعها فيه وكإحصاء العدة وعدم إخراج المطلقة من بيتها والإمساك بالمعروف والفراق
بالمعروف والإشهاد في النكاح والطلاق والرجعة والإقساط في الشهادة كل ذلك يوعظ به
أي يؤمر به وينفذه المؤمن بالله واليوم الآخر إذ هو الذي يخاف عقوبة الله وعذابه
فلا يقدم على معصيته.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ
حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} هذه الآية نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أتى رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقال يا رسول الله إن ابني أسره العدو وجزعت أمه فبم تأمرني؟ قال
آمرك وإياها أن تكثروا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله. فقالت المرأة نعم ما
أمرك به فجعلا يكثران منها فغفل العدو عن ابنهما فاستاق غنمهم وجاء بها إلى أبويه
فنزلت هذه الآية، وهي عامة في كل من يتق الله تعالى فإنه يجعل له من كل ضيق مخرجاً
ومن كل كرب فرجا، ويرزقه من حيث لا يرجو ولا يؤمل، ولا يخطر له على بال، ومن يتوكل
على الله تعالى في أمره فلا يفرط في أمر الله، ولا يضيع حقوقه فإن الله تعالى
يكفيه ما يهمه من أمر دينه ودنياه. وقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ}4
أي منفذ أمره في عباده لا يعجزونه أبداً، وقد5 جعل لكل شيء قدراً أي مقداراً
وزماناً ومكاناً فلا يتقدم ولا يتأخر، ولا يزيد ولا ينقص فمن رضي فله الرضا، ومن
سخط فله السخط، ولا يقع في ملك الله إلا ما يريد الله.
__________
1 رواه مسلم في صحيحه.
2 المتعة واجبة للمطلقة التي لم يفرض لها صداق ولغيرها من المطلقات سنة مستحبة.
3 قرأ نافع (إن الله بالغ أمره) بتنوين بالغ ونصب أمره على أنه معمول لاسم الفاعل
المنون، وقرأ حفص بإضافة بالغ إلى أمره فبالغ مرفوع بدون تنوين وأمر: مجرور
بالإضافة إليه.
4 قرأ نافع (إن الله بالغ أمره) بتنوين بالغ ونصب أمره على أنه معمول لاسم الفاعل
المنون، وقرأ حفص بإضافة بالغ إلى أمره فبالغ مرفوع بدون تنوين وأمره: مجرور
بالإضافة إليه.
5 أي: لكل شيء من الشدة والرخاء أجل ينتهي إليه. قال القرطبي: وما في التفسير أوضح
وأشمل.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- لا تصح الرجعة إلا في العدة فإن انقضت العدة فلا رجعة وللمطلقة أن تتزوج من
شاءت هو أو غيره من ساعة انقضاء عدتها.
2- لا تحل المراجعة للإضرار، ولكن للفضل والإحسان وطيب العشرة.
3- مشروعية الإشهاد على الطلاق والرجعة معاً.
4- يشترط في الشهود العدالة، فإذا خفت العدالة في الناس استكثر من الشهود.
5- وعد الله الصادق بالفرج القريب لكل من يتقه سبحانه وتعالى، والرزق من حيث لا
يرجو.
6- تقرير عقيدة القضاء والقدر.
7- كفاية الله لمن توكل عليه.1
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ
فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ
الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ
يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ
إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ
أَجْراً (5)
شرح الكلمات:
واللائي يئسن من المحيض :والنسوة اللائي يئسن من المحيض.
إن ارتبتم :أي شككتم في عدتهن.
واللائي لم يحضن :أي لكبر سن أو صغر سن.
وأولات الأحمال :أي ذوات الأحمال: النساء الحوامل.
أجلهن :أي في انقضاء عدتهن أن يضعن حملهن.
__________
1 روى القرطبي عن الربيع بن خيثم قوله: إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل
عليه كفاه ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه ومن وثق به نجاه ومن دعاه أجاب له
وتصديق ذلك في كتاب الله (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) (ومن يتوكل على الله فهو
حسبه). (إن تقرضوا الله قرضاً حسنا يضاعفه لكم) (ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط
مستقيم) (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان).
ذلك أمر الله :أي ذلك المذكور في العدة وتفاصيلها.
أنزله إليكم :أي لتأتمروا به وتعملوا بمقتضاه.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في بيان أحكام الطلاق والرجعة والعدة فقال تعالى:
{1وَاللَّائِي يَئِسْنَ2 مِنَ الْمَحِيضِ} أي لكبر سنهن كمن تجاوزت الخمسين من
عمرها إذا طلقت بعد الدخول بها. إن ارتبتم3 أيها المؤمنون في مدة عدتهن، فعدتهن
ثلاثة أشهر. واللائي لم يحضن أي لصغرهن كذلك، عدتهن ثلاثة أشهر وقوله {وَأُولاتُ
الْأَحْمَالِ} أي الحوامل إن طلقن أو مات عنهن أزواجهن أجلهن في انقضاء عدتهن أن
يضعن حملهن أي وضع حملهن فمتى ولدت ما في بطنها من جنين فقد انقضت عدتها ولو وضعته
قبل استكمال التسعة أشهر، إن لم تتعمد إسقاطه بالإجهاض المعروف اليوم عند الكوافر
والكافرين.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} أي منكم أيها المؤمنون في هذه الأحكام
المتعلقة بالطلاق والرجعة والعدة فلا يخالف أمره في ذلك يكافئه الله تعالى من فضله
فيجعل له من أمره يسرا فيسهل عليه أمره ويرزقه ما تقر به عينه ويصلح به شأنه.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} أي ذلك المذكور من
الأحكام في هذه السورة من الطلاق والرجعة والعدة وتفاصيلها حكم الله أنزله إليكم لتأمروا
وتعملوا به فاعملوا به ولا تهملوه طاعة لله وخوفاً من عذابه ومن يتق الله في
أوامره ونواهيه فيؤدى الواجبات ويتجنب المحرمات يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً أي
يغفر له ذنوبه ويدخله الجنة.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- بيان العدة وهي كالتالي:
1- متوفى عنها زوجها وهي غير حامل عدتها: أربعة أشهر وعشر ليال.
__________
1 روي أن عددا من الصحابة وهم: أبي بن كعب وخلاد بن النعمان ومعاذ بن جبل كل واحد
سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عدة الصغيرة والكبيرة ممن لا يحضن وعدة
الحامل كذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية: (واللائي يئسن). والآية مخصصة لعموم آية
البقرة (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) فقد نزلت سورة الطلاق بعد سورة
البقرة.
2 اليأس: عدم الأمل والميؤوس منه في الآية هو: الحيض وسواء كان قد وجد وانعدم أم
لم يوجد بعد.
3 أطلق الفقهاء على التي تحيض وانقطع حيضها وهي لم تبلغ سن اليأس أطلقوا عليها:
(المرتابة) وألزموها بأن تتربص تسعة أشهر وهي مدة الحمل فإن لم تحض ولم يظهر لها
حمل اعتدت بثلاثة أشهر فتتم لها سنة ثم لها أن تتزوج لانقضاء عدتها.
2- متوفى عنها زوجها وهي حامل: عدتها وضع حملها.1
3- مطلقة لا تحيض لكبر سنها أو لصغر سنها وقد دخل بها: عدتها ثلاثة أشهر.
4- مطلقة تحيض عدتها ثلاثة قروء أي حيض تبتدئ بالحيضة التي بعد الطهر الذي طلقت
فيه. أو ثلاثة أطهار2 كذلك الكل واسع ولفظ القرء مشترك دال على الحيض وعلى الطهر.
5- بيان أن أحكام الطلاق والرجعة والعدد مما أوحى الله به وأنزله في كتابه فوجب
العمل به ولا يحل تبديله أو تغييره باجتهاد أبداً.
6- فضل التقوى وأنها باب كل يسر وخير في الحياة الدنيا والآخرة.
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ
لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ
حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ
أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ
فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا
آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)
شرح الكلمات:
من وجدكم :أي من وسعكم بحيث يسكن الرجل مطلقته في بعض سكنه.
ولا تضاروهن :أي لا تطلبوا ضررهن بأي حال من الأحوال سواء في السكن أو النفقة.
__________
1 اختلف في الحامل تسقط هل تنقضي عدتها بالإسقاط أو لا فالإجماع إن كان ما سقط
منها ولد تام الخلقة فإن عدتها انتهت بذلك، واختلف فيما إذا كان السقط مجرد علقة
أو مضغة والراجع أنها تحل لأن العبرة بخلو الرحم يقيناً وقد خلا بالإسقاط.
2 الاعتداد بالأطهار أولى لما فيه من التخفيف على المعتدة ولظاهر الآية (فطلقوهن
لعدتهن) أي: لأول عدتهن وهو الطهر الذي طلقها فيه ولم يمسها.
لتضيقوا عليهن :أي لأجل أن تضيقوا عليهن السكن فيتركنه
لكم ويخرجن منه.
وإن كن أولات أحمال :أي حوامل يحملن الأجنة في بطونهن.
فإن أرضعن لكم :أي أولادكم.
فآتوهن أجورهن :فأعطوهن أجورهن على الإرضاع هذا في المطلقات.
وأتمروا بينكم بمعروف :وتشاورا أو ليأمر كل منكم صاحبه بأمر ينتهى باتفاق على أجرة
معقولة لا إفراط فيها ولا تفريط.
وإن تعاسرتم :فإن امتنعت الأم من الإرضاع أو امتنع الأب من الأجرة.
لينفق ذو سعة من سعته :أي لينفق على المطلقات المرضعات ذو الغنى من غناه.
ومن قدر عليه رزقه :ومن ضيق عليه عيشه فلينفق بحسب حاله.
معنى الآيتين :
بعد بيان الطلاق بقسميه الرجعى والبائن وبيان العدد على اختلافها بين تعالى في
هاتين الآيتين أحكام النفقات والإرضاع فقال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ
سَكَنْتُمْ1 مِنْ وُجْدِكُمْ} أي من وسعكم ولا تضاروهن2 بأي مضارة لا في السكن ولا
في الإنفاق ولا في غيره من أجل أن تضيقوا عليهن فيتركن لكم السكن ويخرجن. وهؤلاء
المطلقات طلاقا رجعياً وهن حوامل أو غير حوامل. وقوله تعالى {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ
حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أي وإن كانت
المطلقة طلاق البتة أي طلقها ثلاث مرات فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن أي أسكنوهن
وأنفقوا عليهن إلى أن يلدن فإن وضعت حملها فهما بالخيار إن شاءت أرضعت له ولده
بأجرة يتفقان عليها وإن شاء هو أرضع ولده مرضعاً غير أمه وهو معنى قوله تعالى فإن
أرضعن3 لكم فآتوهن أجورهن وائتمروا بينكم بمعروف وذلك يتم بتبادل الرأي إلى
الاتفاق على أجرة معينة, وإن تعاسرا بأن طلب كل واحد عسر الثاني أي تشاحاً في
الأجرة فلم يتفقا فلترضع له أي للزوج امرأة أخرى من نساء القرية.
__________
1 قال أشهب عن مالك: يخرج عنها إذا طلقها ويتركها في المنزل للآية (أسكنوهن)
والصحيح أن المنزل إذا كان يتسع لهما معاً هي في حجرة وهي في أخرى فلا داعي
لإخلائه لها وإن كان لا يتسع إلا لواحد فنعم يجب أن يتركه لها, وقوله تعالى: (من
حيث سكنتم) يقرر أن السكنى تكون في بيت الزوج المطلق.
2 المضارة: الإضرار, والمراد بالتضييق المحرم: إحراجهن أو أذاهن بأي أذىً. فقوله
تعالى (ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن) شامل للمضايقة في السكنى والنفقة وفي العدة بأن
يطلقها حتى إذا كادت تنقضي عدتها راجعها ثم يطلقها.
3 هل على المرأة أن ترضع ولدها؟ إن كانت عصمة الزوجية قائمة فالصحيح أنها ترضع
ولدها وجوباً وإن انفصلت عروة الزوجية قلا يجب على الوالدة إرضاع إلا إذا لم يقبل
غيرها وخيف عليه الموت فيتعين عليها إرضاعه بأجرة إن شاءت. وأبو حنيفة لا يرى وجوب
الإرضاع على الأم مطلقاً ويرى بعض العكس. والوسط ما قدمناه وهو الحق.
وقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو1 سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ
وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} أمر تعالى
المؤمن إذا طلق أن ينفق على مطلقته التي ترضع له ولده أو التي هي في عدتها في بيته
بحسب يساره أو إعساره أو غناه وافتقاره، إذ ى يكلف الله نفساً إلا ما أعطاها من
قدرة أو غنىً وطول والقاضي هو الذي يقدر النفقة عند المشاحنة وتكون بحسب دخل الرجل
وما يملك من مال.
وقوله تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} هذا وعد صدق أتمه لأصحاب
رسوله حيث كانوا في عسر ففتح عليهم ملك كسرى والروم فأبدل عسرهم يسراً. وأما غيرهم
فمشروط بالتقوى كما تقدم ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن
يتق الله يجعل له من أمره يسراً.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- وجوب السكن والنفقة للمطلقة طلاقاً رجعياً.
2- وجوب السكنى والنفقة للمطلقة الحامل حتى تضع حملها.
3- وجوب السكنى والنفقة للمتوفى عنها زوجها وهي حامل.
4- المطلقة البائن والمبتوتة لم يقض لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفقة ولا
سكنى لحديث فاطمة2 بنت قيس أخت الضحاك، ومن الفضل الذي ينبغي أن لا ينسى إن كانت
محتاجة إلى سكن أو نفقة أن يسكنها مطلقها وينفق عليها مدة عدتها. وأجره عظيم لأنه
أحسن والله يحب المحسنين.
5- النفقة الواجبة تكون بحسب حال المطلق غنىً وفقراً والقاضي يقدرها أن تشاحا.
6- المطلقة طلاقاً بائنا إن أرضعت ولدها لها أجرة إرضاعها حسب اتفاق الطرفين الأم
والأب.
7- بيان القاعدة العامة وهي أن لا تكلف نفس إلا وسعها.
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ
فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً (8)
فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً (9)
__________
1 في الآية دليل على وجوب نفقة الولد على والده وأما الأم فلا إلا لضرورة كأن يموت
الوالد أو يعجز، وكانت الأم قادرة فلتنفق وجوباً على طفلها.
2 وصف المالكية حديث فاطمة بالغرابة، وأن عمر رضي الله عنه لم يقل به، وقال: لا
نترك كتاب الله لقول امرأة يعني أن الآية عامة في كل مطلقة لا فرق بين البائن
وغيرها، فالسكنى والنفقة للجميع وهو أرحم وأعظم أجراً والله أعلم.
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا
اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ
إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ
لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ
اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ
يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)
شرح الكلمات:
وكأين من قرية :أي وكثير من قرية أي مدينة.
عتت عن أمر ربها :أي عصت يعني أهلها عصوا ربهم ورسله.
عذاباً نكراً :أي فظيعاً.
ذكراً رسولاً : أي القرآن وأرسل إليكم رسولاً هو محمد صلى الله عليه وسلم.
من الظلمات إلى النور :أي من ظلمات الكفر والشرك إلى نور الإيمان والتوحيد.
قد أحسن الله له رزقا :أي رزق الجنة التي لا ينقطع نعيمها أبداً.
ومن الأرض مثلهن : أي سبع أرضين أرضاً فوق أرض كالسموات سماء فوق سماء.
يتنزل الأمر بينهن :أي الوحي بين السموات والأرض.
لتعلموا أن الله على كل شيء :أي أعلمكم بذلك الخلق العظيم والتنزيل العجيب
لتعلموا..
قدير
معنى الآيات:
لما قرر تعالى أحكام الطلاق والرجعة والعدة والنفقات وقال ذلك أمر الله أنزله
إليكم، وأوجب
العمل به حذر في هذه الآية من إهمال تلك الأحكام
وتجاهلها وعدم القيام بها فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ1 قَرْيَةٍ} أي كثير من المدن
عتا أهلها أي ترفعوا متكبرين عن أوامر الله ورسله فلم يمتثلوها وعن الحقوق فلم
يؤدوها حاسبها2 الله تعالى في الدنيا حساباً شديداً وعذبها عذاباً نكراً أي3
فظيعاً. فذاقت بذلك وبال أمرها أي عقوبته وكان عاقبة أمرها خسراً أي خساراً
وهلاكاً وأعد الله لهم عذاباً شديداً هو عذاب يوم القيامة وفي تكرار الوعيد تحذير
من الوقوع فيه بالشرك والظلم. وقوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ} أي خافوا عقابه
فلا تهملوا أحكامه ولا تعطلوها فيحل بكم ما حل بغيركم ممن عتوا عن أمر ربهم ورسله
يا أولي الألباب أي العقول الذين آمنوا قد أنزل إليكم ذكراً هو القرآن {رَسُولاً}
4 هو محمد صلى الله عليه وسلم {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ5}
واضحات في نفسها لا خفاء فيها ولا غموض، ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من
الظلمات أي ظلمات الكفر والشرك إلى النور نور الإيمان والتوحيد والعمل الصالح.
وقوله تعالى {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ6 جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ7
اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} هذا وعد كريم من رب رحيم يعد كل من آمن به وعمل صالحاًُ أن
يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً قد أحسن له فيها رزقاً وهو
نعيم الجنة الذي لا ينفد ولا ينقطع أبداً.
وقوله {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ8}
أي سبع أرضين واحدة فوق الأخرى كالسموات سماء فوق سماء هذا هو الله المعبود بحق
الذي لا إله غيره ولا رب سواه.
وقوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ
اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} أي9
__________
1 (وكأين): اسم لعدد كثير مبهم يفسره ما يميزه بعده من اسم مجرور بمن وهو بمعنى:
كم الخبرية، والمراد بالقرية: أهلها والقرية: المدينة الكبيرة.
2 (حاسبناها) بمعنى: جازينها مجازاة دقيقة دقة الحساب.
3 قرأ نافع (نكراً) بضم النون والكاف، وقرأ حفص (نكراً) بضم النون وإسكان الكاف.
والعذاب النكر: ما ينكره المرء من فظاعة كيفيته إنكاراً شديداً.
4 جائز أن يكون (رسولاً) بدل اشتمال من (ذكر) لتوقف الذكر على الرسول، وجائز أن
يكون (رسولاً) معمولا لفعل محذوف تقديره وأرسل إليكم رسولاً، وهذا واضح.
5 قرأ نافع (مبينات) بفتح الياء، وقرأ حفص (مبينات) بكسرها والمعنى واحد.
6 قرأ نافع ندخله بالنون وقرأ حفص يدخله بالياء.
7 أحسن الله له رزقاً قوله أحسن أبلغ من أعد لأن الإحسان لا يكون إلا بعد الإعداد.
8 كون الأرضين سبعاً يشهد له قوله تعالى ومن الأرض مثلهن أي مثل السموات السبع
ويشهد له السنة الصحيحة فقد روى عن سعيد بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: " من أخذ شبراً من الأرض ظلماً فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع
أراضين". ومثله أبي هريرة وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا
يأخذ أحد شبراً من الأرض بغير حق إلا طوقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة".
9 المراد بالأمر هنا أمر الله تعالى وهو ما يدبر به شؤون مخلوقاته في الأرض
والسماء. من موت وحياة وغيرهما وأمر ونهي وعطاء ومنع وغيرهما، والله أعلم بمراده
من كلامه وهو العليم الحكيم.
أعلمكم بخلقه العظيم من السموات والأرضين وبتنزل الأمر
بينهن في كل وقت وحين لتعلموا أنه تعالى على كل شيء قدير لترغبوا فيما عنده وأنه
أحاط بكل علما لترهبوه وتراقبوه، وبذلك تتهيؤن لإنعامه ورضاه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التحذير من ترك الأحكام الشرعية وإهمالها والعبث بها.
2- بيان منة الله على هذه الأمة بإنزال القرآن عليها وإرسال الرسول إليها.
3- بيان أن الكفر ظلمة وأن الإيمان نور.
4- بيان عظمة الله تعالى وسعة علمه.
سورة التحريم
...
سورة التحريم1
مدنية وآياتها اثنتا عشر آية
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي
مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ
تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ
بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ
فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ
الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ
وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى
رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً
__________
1 وتسمى سورة النبي أيضاً.
خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ
تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً (5)
شرح الكلمات:
لم تحرم ما أحل الله لك :أي لم تحرم جاريتك مارية التي أحلها لك.
تبتغي مرضات أزواجك :أي بتحريمها.
قد فرض لكم تحلة أيمانكم :أي شرع لكم تحليلها بالكفارة المذكورة في سورة المائدة.
وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه :هي حفصة بنت عمر رضي الله عنهما.
حديثا :هو تحريم مارية وقوله لها لا تفشيه.
فلما نبأت به :أي نبأت حفصة عائشة أي أختبرها به ظناً منها أنه لا حرج في ذلك
باجتهادٍ.
وأظهره الله عليه :أي اطلعه عليه أي على المنبأ به.
عرف بعضه :أي لحفصة.
وأعرض عن بعض :أي تكرما منه صلى الله عليه وسلم.
إن تتوبا إلى الله :أي حفصة وعائشة رضي الله عنهما تقبل توبتكما.
فقد صغت قلوبكما :أي مالت إلى تحريم مارية أي سركما ذلك.
وإن تظاهرا عليه :أي تتعاونا أي على النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكرهه.
فإن الله هو مولاه :أي ناصره.
وصالح المؤمنين :أي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
والملائكة بعد ذلك ظهير :أي ظهراء وأعوان له.
قانتات :أي عابدات.
سائحات :أي صائمات أو مهاجرات.
معنى الآيات :
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ1 اللَّهُ لَكَ
تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ
__________
1 روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب
بنت جحش فيشرب عندها عسلا، قالت فتواطأت أنا وحفصة إن أيتنا دخل عليها رسول الله
صلى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير: أكلت مغافير: فدخل على إحداهما
فقالت له ذلك فقال بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له. فنزل {لم تحرم ما
أحل الله لك} إلى { إن تتوبا} ، المغافير جمع مغفور بقلة من البقول.
رَحِيمٌ} في هذا عتاب من الله تعالى لرسوله صلى الله
عليه وسلم إذ حرم جاريته مارية ترضية1 وذلك أنه صلى الله عليه وسلم خلا بها في بيت
إحدى نسائه فاطلعت عليه فقالت يا رسول الله في بيتي وعلى فراشي فجعلها أي مارية
عليه حراماً ترضية لصاحبة الحجرة والفراش. فأنزل الله تعالى هذه الآيات مشتملة على
هذه القصة فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكَ} يعني جاريته مارية القبطية أم إبراهيم. {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ
أَزْوَاجِكَ} أي تطلب رضاهن {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} بك فلا لوم عليك بعد هذا
ولا عتاب فجاريتك لا تحرم عليك وكفر عن يمينك. إذ قال لها هي علي 2حرام و والله لا
أطؤها.
وقوله تعالى {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ3 تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أي ما تحللون
به من أيمانكم إذا حلفتم وهي ما جاء في سورة المائدة من قوله تعالى
{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ
أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}
وقوله تعالى والله مولاكم أي متولي أمركم وناصركم. وهو العليم بأحوال عباده الحكيم
في قضائه وتدبيره لخلقه.
وقوله تعالى {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ} أي أذكر إذ أسر النبي لبعض أزواجه حديثا
وهي حفصة بنت عمر رضي الله عنها إذ قال لها لقد حرمت فلانة و والله لا أطأها وطلب
منها أن لا تفشي هذا السر. فحدثت به عائشة وكانت متصافية معها توادها.
فأطلع الله رسوله على ذلك. فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه لحفصة وأعرض عن
بعض تكرماً منه صلى الله عليه وسلم. قالت أي حفصة من أنبأك هذا؟ قال نبأني العليم
الخبير. وقوله: إن تتوبا إلى الله أي حفصة وعائشة فقد صغت قلوبكما أي مالت إلى
تحريم مارية أي سركما كذلك. وجواب الشرط تقديره تقبل توبتكما. وقوله تعالى:
{وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} أي تتعاونا عليه صلى الله عليه وسلم فيما يكرهه، فإن
تعاونكما يا حفصة وعائشة رضي الله عنكما لن يضره شيئاً فإن الله هو مولاه وجبريل
وصالح المؤمنين أبو بكر وعمر، والملائكة بعد ذلك ظهير له أي ظهراء وأعوان له عن كل
من يؤذيه أو يريده بسوء.
__________
1 ترضية لبعض أزواجه أي طلباً لرضاها وهي حفصة بنت عمر رضي الله عنهما.
2 اختلف أهل العلم فيمن حرم شيئاً فإن كان غير الزوجة فالجمهور على أنه لا يحرم
ولا كفارة عليه، وبعض يقول عليه كفارة يمين: أما الزوجة فقد بلغت الأقوال فيها
ثمانية عشر قولاً أعدلها أن من حرم زوجته بلفظ أنت حرام أو بالحرام إن نوى طلاقها
فعليه طلقة، وإن لم ينو طلاقها فإن عليه كفارة يمين كما في صحيح مسلم عن ابن عباس
قال: إذا حرم الرجل عليه امرأته فهي يمين يكفرها، وقال: لقد كان لكم في رسول الله
أسوة حسنة.
3 تحلة اليمين كفارتها أي من حلف على شيء وأراد أن يعود إليه فليكفر عن يمينه
وليأت ما حلف عليه.
وقوله تعالى {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ
يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ} ، وفي هذا تخويف شديد لأمهات المؤمنين
وتأديب رباني كبير لهن إذ وعد رسوله أنه لو طلقهن لأبدله خيراً منهن {مُسْلِمَاتٍ
مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ} أي1 صائمات أو مهاجرات،
{ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} أي بعضهن ثيبات وبعضهن أبكاراً إلا أن الرسول صلى الله
عليه وسلم لم يطلقهن والله تعالى لم يبدله فهن زوجاته في الدنيا زوجاته في الآخرة
هذا وأنبه إلى أن خلافاً كبيراً بين أهل التفسير في الذي حرمه رسول الله صلى الله
عليه وسلم على نفسه وعاتبه ربه عليه. وأحله الله له هل هو شراب كان يحبه، أو هو
جاريته مارية ومن2 الجائز أن يكون غير ما ذكر؛ لأن الله تعالى لم يذكر نوع ما حرم
رسوله على نفسه، وإنما قال لم تحرم ما أحل الله لك. والجمهور على أن المحرم مارية،
وفي البخاري أنه العسل والله أعلم فلذا استغفر الله تعالى أن أكون قد قلت عليه أو
على رسوله ما لا يرضيهما أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله إن ربي غفور رحيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوته صلى الله عليه وسلم وبشريته الكاملة.
2- أخذ الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى من هذه الآية أن من قال لزوجته أنت حرام
أو حرمتك وهو لم ينو طلاقها أن عليه كفارة يمين لا غير، وذكر القرطبي في هذه
المسألة ثمانية عشر قولاً للفقهاء أشدها البتة وأرفقها أن فيها كفارة يمين كما هو
مذهب الإمامين الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى.
3- كرامة الرسول صلى الله عليه وسلم على ربه.
4- فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا
يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا
__________
1 قيل سمي الصائم سائحاً لأن السائح لا زاد معه فكذلك الصائم لا زاد معه.
2 نعم من الجائز أن يكون غير ما ذكر ولكن بتتبع لروايات وأقوال العلماء سلفاً
وخلفاً ثبت أن الأمر يدور بين أن ما حرمه صلى الله عليه وسلم على نفسه ترضية هو
جاريته مارية، أو العسل لا غيرهما.
الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا
تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا
إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ
يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا
نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
شرح الكلمات:
قوا أنفسكم وأهليكم :أي اجعلوا لها وقاية بطاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم.
ناراً وقودها الناس والحجارة : أي توقد بالكفار والأصنام التي تعبد من دون الله،
لا بالحطب ونحوه.
لا تعتذروا اليوم :أي لأنه لا ينفعكم اعتذار، يقال لهم هذا عند دخولهم النار.
توبة نصوحا :أي توبة صادقة بأن لا يعاد إلى الذنب ولا يراد العود إليه.
يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا :أي بإدخالهم النار.
يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم :أي أمامهم ومن كل جهاتهم على قدر أعمالهم.
ربنا أتمم لنا نورنا :أي إلى الجنة، لأن المنافقين ينطفيء نورهم.
معنى الآيات:
قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ1 وَأَهْلِيكُمْ
نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} هذا نداء الله إلى عباده المؤمنين
يعظهم وينصح لهم فيه أن يقوا أنفسهم وأهليهم2 من زوجة وولد، ناراً عظيمة، وقودها
__________
1 قال علي رضي الله عنه ومجاهد وقتادة: قوا أنفسكم بأفعالكم، وقوا أهليكم بوصيتكم.
قال ابن العربي هذا هو الصحيح لما يعطيه العطف الذي يقتضي التشريك بين المعطوف
والمعطوف عليه في معنى الفعل كقول الشاعر:
علفتها تبناً وماء بارداً
أي وسقيتها ماءً بارداً
2إن الوقاية لا تتم إلا بالإيمان وصالح الأعمال بعد اجتناب الشرك والمعاصي، وهذا
يتطلب العلم بذلك وتوطين النفس على العمل بما يعلم من ذلك فعلا لما يفعل وتركاً
لما يترك فليأخذ العبد نفسه وأهله بهذا نصحاً له ولهم حتى يقي نفسه ويقي أهله.
أي ما توقد به الناس من المشركين والحجارة التي هي
أصنامهم التي كانوا يعبدونها يقون أنفسهم بطاعة الله ورسوله تلك الطاعة التي تزكي
أنفسهم وتؤهلهم لدخول الجنة بعد النجاة من النار.
وقوله تعالى {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا
أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي على النار قائمون عليها وهم الخزنة
التسعة عشرة غلاظ القلوب1 والطباع شداد البطش إذا بطشوا ولا يعصون الله أي لا
يخالفون أمره، وينتهون إلى ما يأمرهم به وهو معنى ويفعلون ما يأمرون. وقوله تعالى
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ2} هذا يقال لأهل
النار ينادون ليقال لهم: لا تعتذروا اليوم حيث لا ينفع الاعتذار. وإنما تجزون ما
كنتم تعملون الحسنة بالحسنة والسيئة بالسيئة.
وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً
نَصُوحاً} هذا هو النداء الثاني الذي ينادي فيه الله تعالى عباده المؤمنين يأمرهم
فيه بالتوبة العاجلة النصوح التي لا يعود صاحبها إلى الذنب كما لا يعود البن إلى3
الضرع، ويعدهم ويبشرهم يعدهم بتكفير سيئاتهم، ويبشرهم بالجنة دار النعيم المقيم
فيقول {عَسَى4 رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ}
أي بعد ذلك {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي
اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} أي بإدخالهم الجنة. وقوله تعالى
{نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} أي وهم مجتازون الصراط
يسألون ربهم أن يبقي5 لهم نورهم لا يقطعه عنهم حتى يجتازوا الصراط وينجوا الصراط
وينجوا من السقوط في جهنم كما يسألونه أن يغفر لهم ذنوبهم التي قد يردون بها إلى
النار بعد اجتياز الصراط.
وقولهم: إنك على كل شيء قدير هذا توسل منهم لقبول دعائهم حيث توسلوا بصفة القوة
والقدرة لله تعالى فقالوا إنك على كل شيء قدير فأتمم لنا نورنا واغفر لنا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب العناية بالزوجة والأولاد وتربيتهم وأمرهم بطاعة الله ورسوله ونهيهم عن
ترك ذلك.
2- وجوب التوبة الفورية على كل من أذنب من المؤمنين والمؤمنات وهي الإقلاع من
الذنب فوراً
__________
1 قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وروى مرفوعاً
ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب.
2 لأن عذرهم لا ينفعهم. والقصد من هذا النهي هو تحقيق اليأس منهم.
3 قال القرطبي اختلف في تحديد التوبة النصوح على ثلاث وعشرين قولاُ وقدم ما في
التفسير على تلك الأقوال.
4 عسى من الله تعالى واجبة، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه التائب من الذنب كمن لا
ذنب له.
5 قال ابن عباس ومجاهد: هذا دعاء المؤمنين حين أطفأ الله نور المنافقين.
أي تركه والتخلي عنه، ثم العزم على أن لا يعود إليه في
صدق، ثم ملازمة الندم والاستغفار كلما ذكر ذنبه استغفر ربه وندم على فعله وإن كان
الذنب متعلقاً بحق آدمي كأخذ ماله أو ضرب جسمه أو انتهاك عرضه وجب التحلل منه حتى
يعفو ويسامح.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ
عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ
عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا
عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ
رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ
وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ
عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا
وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
شرح الكلمات:
جاهد الكفار :أي بالسيف.
والمنافقين :أي باللسان.
واغلظ عليهم : أي أشدد عليهم في الخطاب ولا تعاملهم باللين.
فخانتاهما :أي في الدين إذ كانتا كافرتين.
فلم يغنيا عنهما :أي نوح ولوط عن امرأتيهما.
من الله شيئاً :أي من عذاب الله شيئاً وإن قل.
امرأة فرعون :أي آسيا بنت مزاحم آمنت بموسى.
أحصنت فرجها :أي حفظته فلم يصل إليه الرجال لا بنكاح ولا
زنا.
فنفخنا فيه من روحنا :أي نفخنا في كم درعها بواسطة جبريل الملقب بروح القدس.
وصدقت بكلمات ربها :أي بولدها عيسى أنه كلمة الله وعبده ورسوله.
معنى الآيات:
في الآية الأولى (9) يأمر تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بعدما ناداه
بعنوان النبوة تشريفاً وتكريماً يأمره بجهاد الكفار والمنافقين فالكفار بالسيف،
وشن الغارات1 عليهم حتى يسلموا، والمنافقون بالقول الغليظ والعبارة البليغة
المخيفة الحاملة للوعيد والتهديد. وقوله تعالى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} أي أشدد
وطأتك على الفريقين على المنافقين باللسان، وعلى الكافرين بالسنان. ومأواهم2 جهنم
وبئس المصير إذا ماتوا على نفاقهم وكفرهم، أو من علم الله موتهم على ذلك. وقوله
تعالى في الآية الثانية (10) ضرب الله مثلاً في عدم انتفاع الكافر بقرابة المؤمن مهما
كانت درجة القرابة عنده. وهو امرأة نوح3 وامرأة لوط إذ كانت كل واحدة منهما تحت
نبي رسول فخانتاهما في4 دينهما فكانتا كافرتين فامرأة نوح تفشي سر من يؤمن بزوجها
وتخبر به الجبابرة من قوم نوح حتى يبطشوا به وكانت تقول لهم إن زوجها مجنون،
وامرأة لوط كانت كافرة وتدل المجرمين على ضيوف لوط إذا نزلوا عليه في بيته وذلك في
الليل بواسطة النار، وفي النهار بواسطة الدخان. فلما كانتا كافرتين لم تغن عنهما
قرابتهما بالزوجية شيئاً. ويوم القيامة يقال لهما: ادخلا النار مع الداخلين من قوم
نوح وقوم لوط. هذا مثل آخر في عدم تضرر المؤمن بقرابة الكافر ولو كانت القرابة
الزوجية وما أقواها، وهو –المثل- امرأة فرعون الكافر الظالم آسيا بنت مزاحم كانت
قد آمنت بموسى مع من آمن فلما عرف فرعون إيمانها أمر بقتلها فلما علمت بعزم
الطاغية على قتلها قالت في مناجاتها لربها: رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني
من فرعون وعمله الذي هو الكفر والظلم حتى لا أكون كافرة بك ولا ظالمة لأحد من
خلقك، ونجني من القوم الظالمين أي من عذابهم فشدت أيديها وأرجلها لتلقى عليها صخرة
عظيمة إن هي أصرت على الإيمان فرفعت بصرها إلى السماء فرأت بيتها في الجنة ففاضت
روحها شوقاً إلى الله وإلى بيتها في الجنة وقد
__________
1 من المعلوم أن الكفار يدعون إلى الإسلام أولاً مبيناً لهم ما فيه من الهدي
والخير وما يجلبه لأهله من الكمال والإسعاد، فإن أبوا فليقاتلوا.
2 ومأواهم جهنم هذا عائد على الفريقين الكافرين والمنافقين معاً.
3 قال مقاتل اسم امرأة نوح والهة واسم امرأة لوط والعة وروي مرفوعاً بضعف أن اسم
امرأة نوح واغلة وامرأة لوط والهة والله أعلم.
4 الإجماع أن خيانة المرأتين كانت في الدين ولم تكن في العرض وإنما هي في الكفر
والنفاق.
رأته فوصلت الصخرة إليها بعد أن فاضت روحها فنجاها الله
من عذاب القتل الذي أراده لها1 فرعون وعصابته الظلمة الكافرون.
وقوله تعالى ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها. عطف تعالى مريم على آسيا ليكون
المثل مكوناً من امرأتين مؤمنتين، كالمثل الأول كان مكوناً من امرأتين كافرتين
فقال عز وجل ومريم بنت عمران التي أحصنت فرجها عن الرجال في الوقت الذي عم البغاء
والزنا ديار بني إسرائيل كما هي الحال اليوم في ديار اليهود وأمثالهم قد لا تسلم
امرأة من الزنا بها فلم يضر بذلك مريم لما كانت عفيفة طاهرة بل أكرمها الله لما
أحصنت فرجها بأن أرسل إليها روحه جبريل عليه السلام وأمره أن ينفخ في كم درعها
فسرت النفخة بقدرة الله تعالى في جسمها فحملت بعيسى الذي كان بكلمة الله كن فكان
في ساعة وصول هواء النفخة وولدته للفور كرامة الله للتي أحصنت فرجها خوفاً من الله
وتقربا إليه، وما ضرها أن العهر والزنا قد انتشر حولها ما دامت هي طاهرة كما لم
يضر كفر فرعون آسيا الطاهرة. وكما لم ينفع إيمان وصلاح نوح ولوط امرأتيهما
الكافرتين الخائنتين.
قال ابن عباس رضي الله عنهما ما بغت امرأة نبي قط، وهو كما قال فوالله ما زنت
امرأة نبي قط لولاية الله تعالى لأنبيائه فكيف يخزيهم ويذلهم حاشاه تعالى أن يخزي
أولياءه أو يذلهم فالمراد من الخيانة المذكورة في قوله تعالى فخانتاهما الخيانة في
الدين وإفشاء الأسرار.
وقوله تعالى: وصدقت بكلمات ربها أي بشرائعه وبكتبه2 التي أنزلها على رسله، وكانت
من القانتين3 أي المطيعين لله تعالى الضارعين له المخبتين.
__________
1 قال يحيى بن سلام: ما ضربه الله مثلا للذين كفروا يحذر به عائشة وحفصة رضي الله
عنهما من مخالفتهما حين تظاهرتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ضرب به
تعالى مثلا لامرأة فرعون ومريم بنت عمران ضربه ترغيباً لعائشة وحفصة في التمسك
بالطاعة والثبات عليها والصحيح أنه حث لكل المؤمنين على الصبر في الشدة مهما كانت.
2 قرأ نافع وكتابه وجائز أن يكون الإنجيل وهو كتاب ابنها عيسى عليه السلام وجائز
أن يكون المراد به ما كتبه الله وقدره وقرأ حفص وكتبه بالجمع أي آمنت بسائر كتب
الله تعالى المنزلة وعليه فالكتاب في قراءة نافع اسم جنس صادق على جميع كتب الله تعالى
المنزلة.
3 لم قال من القانتات؟ لأنه أراد من القوم القانتين وهم المكثرون من العبادة وفي
هذا ثناء عليها وعلى قومها الصالحين وأنها نبتت طيبة في نبات طيب كقول القائل: وهل
ينبت الخطي إلا وشيجه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب الجهاد في الكفار بالسيف وفي المنافقين باللسان، وعلى حكام المسلمين
القيام بذلك لأنهم خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم في أمته.
2- تقرير مبدأ: لا تزر وازرة وزر أخرى. فالكافر لا ينتفع بالمؤمن يوم القيامة.
3- والمؤمن لا يتضرر بالكافر ولو كانت القرابة روحية نبوة أو إنسانية أو أبوة أو بنوة
فإبراهيم لم يضره كفر آزر، ونوح لم يضره كفر طنعان ابنه، كما أن آزر وكنعان لم
ينفعهما إيمان وصلاح الأب والإبن.
هذا وقرابة المؤمن الصالح تنفع المؤمن دون الصالح لقوله تعالى والذين آمنوا
واتبعهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم.
سورة الملك
...
الجزء التاسع والعشرون
سورة الملك1
مكية وآياتها ثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا
تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ
فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ
خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا
بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ
عَذَابَ السَّعِيرِ (5)
شرح الكلمات:
تبارك الذي بيده الملك :أي تعاظم وكثر خير الذي بيده الملك أجمع ملكاً وتصرفا
وتدبيراً.
وهو على كل شيء قدير : أي وهو على إيجاد كل ممكن وإعدامه قدير.
الذي خلق الموت والحياة :أي أوجد الموت والحياة فكل حي هو بالحياة التي خلق الله
وكل ميت هو بالموت الذي خلق الله.
ليبلوكم أيكم أحسن عملا :أي أحياكم ليختبركم أيكم يكون أحسن عملا ثم يميتكم
ويحييكم ليجزيكم.
وهو العزيز الغفور :أي وهو العزيز الغالب على ما يريده الغفور العظيم المغفرة
للتائبين.
__________
1 وتسمى الواقية والمنجية وورد في فضلها أحاديث أصحها حديث السنن وهو قوله صلى
الله عليه وسلم أن سورة في القرآن ثلاثين آية شفعت لصاحبها حتى غفر له: تبارك الذي
بيده الملك.
طباقا :أي طبقة فوق طبقة وهي السبع الطباق ولا تماس
بينها.
ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت :أي من تباين وعدم تناسب.
هل ترى من فطور :أي من شقوق أو تصدع.
كرتين :أي مرتين مرة بعد مرة.
خاسئا وهو حسير :أي ذليلا مبعداً كالاً تعباً منقطعاً عن الرؤية إذ لا يرى خللا.
بمصابيح :أي بنجوم مضيئة كالمصابيح.
رجوما للشياطين :أي مراجم جمع مرجم وهو ما يرجم به أي يرمى.
وأعتدنا لهم عذاب السعير :أي وهيأنا لهم عذاب النار المسعرة الشديدة الاتقاد.
معنى الآيات:
قوله {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
مجد الرب تعالى نفسه وعظمها وأثنى عليها بما هو أهله من الملك والسلطان والقدرة
والعلم والحكمة فقال عز وجل1 تبارك أي تعاظم وكثر خير الذي بيده الملك الحقيقي
يحكم ويتصرف ويدبر بعلمه وحكمته لا شريك له في هذا الملك والتدبير والسلطان.
{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فما أراد2 ممكنا إلا كان, ولا أراد انعدام
ممكن إلا انعدم. الذي خلق الموت3 والحياة لحكمة عالية لا بطلا ولا عبثا كما يتصور
الكافرون والملاحدة الدهريون بل {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ4 أَحْسَنُ عَمَلاً} أي
خلق الحياة بكل ما فيها، ليذكر ويشكر من عبادة فمن ذكر وشكر وأحسن ذلك، أعد له جناتٍ
ينقله إليها بعد نهاية الحياة والعمل فيها، ومن لم يذكر ولم يشكر أو ذكر وشكر ولم
يحسن ذلك بأن لم يخلص فيه لله، ولم يؤده كما شرع الله أعد له ناراً ينقله إليها
بعد نهاية الحياة الدنيا حياة العمل، إذ هذه الحياة للعمل, وحياة الآخرة للجزاء
على العمل. وقوله تعالى {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} ثناء آخر أثنى به تعالى
على نفسه فأعلم أنه العزيز الغالب الذي لا يحال بينه وبين ما يريد الغفور العظيم
المغفرة إذ يغفر الذنوب للتائب ولو كانت مثل الجبال وزبد البحر. وقوله {الَّذِي
خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} هذا ثناء آخر بعظيم القدرة وسعة
__________
1 القرطبي: تبارك قال الحسن تقدس, وقيل دام فهو الدائم الذي لا أول لوجوده ولا آخر
لدوامه.
2 التعبير بالممكن وغير الممكن فيه جواب لمن قال من المبطلين إن كان الله على كل
شيء قديراً فهل يقدر أن يخلق إلهاً مثله: والجواب أن خلق إله مثل الله غير ممكن
فلذا لا يخلقه سبحانه وتعالى.
3 قدم ذكر الموت على الحياة لأن الموت أكبر واعظ للإنسان. قال العلماء الموت ليس
عدماً محضاً ولا فناءً صرفاً، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته،
وحيلولة بينهما وتبديل حال وانتقال من دار إلى دار. والحياة عكس ذلك.
4 ليبلوكم أي ليعاملكم معاملة المختبر لكم فيرى أحسنكم عملاً من أسوأه وقد رتب
الجزاء على ذلك، وأحسن العمل أخلصه وأصوبه أي أخلصه لله تعالى وأصوبه أي أداؤه كما
شرعه بلا زيادة ولا نقصان.
العلم والحكمة خلق سبع سموات طباقا سماء فوق سماء مطابقة
لها ولكن من غير مماسة إذ ما بين كل سماء وأخرى هواء وفراغ مسيرة خمسمائة عام
فالمطابقة المعادلة والمساواة في الجرم لا بوضع سماء على الأخرى كغطاء القدر مثلا.
وقوله {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} أي من اختلاف أو تضاد
وتباين والسماء فوقك فإنك لا تجد إلا الاتساق والانتظام لا تصدع ولا انفطار وإن
شئت فارجع البصر وانظر هل ترى من فطور أي إنك لا ترى ذلك ثم ارجع البصر كرتين1
فإنك لا تجد تفاوتا ولا تبايناً أبداً ولو نظرت الدهر كله كل ما في الأمر أن بصرك
أيها الناظر إلى السماء يرجع إليك خاسئا أي ذليلا مبعداً2 مما أراد، وهو حسير أي
كليل تعب وقوله تعالى {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا } أي هذه الدانية
من الأرض القريبة منها بمصابيح3 هي النجوم والكواكب. وجعلناها أي النجوم رجوماً4
للشياطين ترجم بها الملائكة شياطين الجن الذين يريدون استراق السمع من كلام الملائكة
حتى لا يفتنوا الناس في الأرض عن دين الله عز وجل. وقوله تعالى {وَأَعْتَدْنَا
لَهُمْ عَذَابَ السَّعِير5ِ} أي وهيأنا للشياطين عذاب السعير يعذبون به يوم
القيامة كسائر الكافرين من الإنس والجن.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير ربوبية الله تعالى بعرض دلائل القدرة والعلم والحكمة والخير والبركة وهي
موجبة لألوهيته أي عبادته دون من سواه عز وجل.
2- بيان الحكمة من خلق الموت والحياة.
3- بيان الحكمة من خلق النجوم وهي في قول قتادة رحمه الله : أن الله جل ثناؤه إنما
خلق هذه النجوم لثلاث خصال: زينة لسماء الدنيا، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى
بها.6
__________
1 كرتين منصوب على المصدر لأن الكرة الرجعة فكرتين بمعنى رجعتين أي مرة بعد أخرى
والعامل فارجع.
2 يقال خسئت الكلب أي أبعدته وطردته.
3 سميت الكواكب مصابيح لإضائتها.
4 الرجوم جمع رجم وهو اسم لما يرجم به أي ما يرمى به الرامي من حجر وغيره من باب
تسمية المفعول بالمصدر مثل الخلق للمخلوق والرد للمردود، والمراد من النجوم التي
يرمى بها هي الشهب التي تنفصل عن النجوم والكواكب، وجائز أن تكون كواكب صغيرة ترمى
بها الشياطين شأنها شأن الشهب لحديث: الكوكب الذي انقض البارحة.
5 لا يقولن قائل: الشياطين خلقوا من نار فكيف يعذبون بها؟ والجواب: السعير أقوى من
مادة النار التي خلقوا منها كما أن الشياطين تحولوا عن أصل المادة التي خلقوا
منها. تحول الإنسان من طين إلى لحم وعظم وعصب ودم.
6 تمام قوله: فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به، وتعدى وظلم.
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ
تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ
سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ
جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ
أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ
نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ
فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
شرح الكلمات:
كفروا بربهم :أي لم يؤمنوا به فلم يعبدوه.
إذا ألقوا فيها :أي في جهنم ألقتهم الملائكة فيها وذلك يوم القيامة.
سمعوا لها شهيقا :أي سمعوا لجهنم صوتاً منكراً مزعجا كصوت الحمار.
وهي تفور تكاد تميز من الغيظ :أي تغلي تكاد تتقطع من الغيظ غضباً على الكفار.
سألهم خزنتها :سؤال توبيخ وتقريع وتأنيب.
ألم يأتكم نذير :أي رسول ينذركم عذاب الله يوم القيامة؟.
وقلنا ما نزل الله من شيء :أي كذبنا الرسل وقلنا لهم ما نزل الله مما تقول لنا من
شيء.
إن أنتم إلا في ضلال كبير :أي ما أنتم أيها الرسل إلا في ضلال كبير أي خطأ عقلي
وتصور نفسي باطل.
لو كنا نسمع أو نعقل : أي وبخوا أنفسهم بأنفسهم وقالوا لو كنا في الدنيا نسمع أو
نعقل لآمنا وعبدنا الله وما كنا اليوم في أصحاب السعير.
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى في الآيات السابقة أنه أعد للشياطين مسترقي السمع من الملائكة في
السماء عذاب السعير عطف عليه قوله {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ1} أي جحدوا
ألوهيته ولقاءه فما عبدوه ولا
__________
1 هذا تتميم للكلام السابق أي كما كان للشياطين عذاب السعير فللذين كفروا عذاب
جهنم وبئس المصير.
آمنوا به من الإنس والجن عذاب جهنم وبئس المصير هي أي
جهنم يصيرون إليها وينتهون إلى عذابها شرابها الحميم وطعامها الضريع والزقوم,
وقوله تعالى في وصف ما يجري في النار {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا
شَهِيقا1 } إذا ألقي الكافرون في النار سمعوا لها شهيقا أي صوتا منكراً مزعجاً
كصوت الحمار إذا شهق أو نهق. {وَهِيَ تَفُورُ} تغلي2 {تَكَادُ تَمَيَّزُ} 3 أي
تقرب أن تتقطع من الغيظ الذي هو شدة الغضب وغضبها من غضب الرب مالكها لما غضب
الجبار غضبت لغضبه, وكل مؤمن بالله عارف به يغضب لما يغضب له ربه ويرضى لما يرضى
به ربه. وقوله تعالى
{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ } أي جماعة {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} أي
الملائكة الموكلون بالنار وعذابها وهم الزبانية وعددهم تسعة عشر ملكاً سألوهم سؤال
توبيخ وتقريع لأنهم يعلمون ما يسألونهم عنه {أَلَمْ يَأْتِكُمْ4 نَذِيرٌ} أي رسول
في الدنيا يدعوكم إلى الإيمان والطاعة؟ فيجيبون قائلين {بَلَى} قد جاءنا نذير ولكن
كذبنا الرسل وقلنا لهم رداً على دعوتهم {مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} أي مما
تقولون وتدعوننا إليه {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ5 } أي وقلنا لهم
ما أنتم أيها الرسل إلا في ضلال عقلي وخطأ تصوري كبير. ثم رجعوا إلى أنفسهم
يوبخونها بما أخبر تعالى به عنهم في قوله {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ
نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} قال تعالى { فَاعْتَرَفُوا
بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً} أي بعداً بعداً من رحمة الله {لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} أي
سعير جهنم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1-تقرير عقيدة البعث والجزاء ببيان ما يجري فيها من عذاب وعقاب.
2- بيان أن تكذيب الرسل كفر موجب للعذاب, وتكذب العلماء كتكذيب الرسل بعدهم أي في
وجوب العذاب المترتب على ترك طاعة الله ورسوله.
3- بيان أن ما يقوله أهل النار في اعترافهم هو ما يقوله الملاحدة اليوم في ردهم
على العلماء بأن التدين تأخر عقلي ونظر رجعي.
4- تقرير أن الكافر لا يسمع ولا يعقل أي سماعاً ينفعه وعقلاً يحجزه عن المهالك
باعتراف أهل النار إذ قالوا {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا
فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.
__________
1 قال عطاء الشهيق في الصدور والزفير في الحلق.
2 قال حسان:
تركتم قدركم لا شيء فيها
وقدر القوم حامية تفور
أي تغلي.
3 أصل تميز أي تتميز أي تنقطع وينفصل بعضها عن بعض قيل هذا التغيظ هو من شدة الغيظ
على أعداء الله, وقيل هو من الغليان.
4 الاستفهام للتوبيخ والتقريع.
5 إن أنتم إن نافية بدليل الاستثناء بعدها.
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا
بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) ألا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً
فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
شرح الكلمات:
يخشون ربهم بالغيب :أي يخافونه وهم غائبون عن أعين الناس فلا يعصونه.
لهم مغفرة وأجر كبير :أي لذنوبهم وأجر كبير وهو الجنة.
ألا يعلم من خلق :أي كيف لا يعلم سركم كما يعلم جهركم وهو الخالق لكم فالخالق يعرف
مخلوقه.
وهو اللطيف الخبير :أي بعباده الخبير بهم وبأعمالهم.
ذلولا :أي سهلة للمشي والسير عليها.
فامشوا في مناكبها :أي في جوانبها ونواحيها.
وإليه النشور :أي إليه وحده مهمة نشركم أي إحياءكم من قبوركم للحساب والجزاء.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى جزاء الكافرين وأنه عذاب السعير رغب في الإيمان والطاعة للنجاة من
السعير فقال {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ1 بِالْغَيْبِ} أي يخافونه وهم
لا يرونه, وكذا وهم في غيبة عن الناس فيطيعونه ولا يعصونه هؤلاء لهم مغفرة لما فرط
من ذنوبهم وأجر كبير عند ربهم أي الجنة. ولما قال بعض المشركين في مكة لا تجهروا
بالقول فيسمعكم إله محمد فيطلعه على قولكم قال تعالى رداً عليهم وتعليما
{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} فإنه يعلم السر وما هو أخفى منه
كحديث
__________
1 بعد ذكر جزاء أهل الكفر والشرك الشر والفساد ذكر تعالى جزاء أهل الإيمان
والتوحيد والخير والصلاح فكان الأسلوب أسلوب الترهيب والترغيب الذي عرف به القرآن
الكريم كتاب الهداية الإلهية.
النفس وخواطرها {إِنَّهُ1 عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
أي بما هو مكنون مستور في صدور الناس {أَلا يَعْلَمُ مَنْ2 خَلَقَ} أي كيف لا يعلم
من خلقهم وهو اللطيف بهم الخبير بأحوالهم وأعمالهم. وقوله تعالى {هُوَ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً} أي3 سهلة فامشوا في مناكبها جوانبها ونواحيها
شرقاً وغرباً وكلوا من رزقه الذي خلق لكم، وإليه وحده نشوركم أي إحيائكم وإخراجكم
من قبوركم ليحاسبكم ويجزيكم على إيمانكم وطاعتكم بخير الجزاء وهو الجنة ونعيمها،
وعلى كفر من كفر منكم وعصى بشر الجزاء وهو النار وعذابها.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضيلة الإيمان بالغيب ومراقبة الله تعالى في السر والعلن.
2- مشروعية السير في الأرض لطلب الرزق من التجارة والفلاحة وغيرهما.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ
(16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً
فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ
صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
شرح الكلمات:
أن يخسف بكم الأرض :أي يجعلها بحيث تغورون فيها وتصبحون في جوفها.
فإذا هي تمور :أي تتحرك وتضطرب حتى يتم الخسف بكم.
أن يرسل عليكم حاصباً :أي ريحاً عاصفاً نرميكم بالحصباء فتهلكون.
كيف نذير :أي كان عاقبة إنذاري لكم بالعذاب على ألسنة رسلي.
__________
1 إنه عليم بذات الصدور الجملة تعليل للتسوية بين السر والجهر من أقوال المشركين
نحو قوله أصبروا أو لا تصبروا أي استوى عنده السر والجهر كما استوى عند أهل النار
الصبر والجزع.
2 ألا يعلم السر من خلق السر أي أنا خلقت السر في القلب أفلا أكون عالماً بما في
قلوب العباد. إذ لابد وأن يكون الخالق عالماً بما خلق والاستفهام إنكاري وجملة وهو
اللطيف الخبير في محل نصب حال.
3 ذلولاً فعول بمعنى مفعول أي مذللة مسخرة منقادة لما تريدون منها من مشي عليها وزرع
وغرس وبناء وإنشاء وتعمير.
فكيف كان نكير :أي إنكاري عليهم الكفر والتكذيب والجواب
كان إنكاراً حقاً واقعاً موقعه.
صآفات :أي باسطات أجنحتها.
ويقبضن :أي ويمسكن أجنحتهن.
ما يمسكهن إلا الرحمن :أي حتى لا يسقطن على الأرض حال البسط للأجنحة والقبض لها.
معنى الآيات:
يقول تعالى واعظاً عباده ليؤمنوا به ويعبدوه وحده فيكملوا ويسعدوا أأمنتم1 من في
السماء الذي هو العلو المطلق وهو الله عز وجل في عليائه فوق عرشه بائن من خلقه أن
يخسف بكم الأرض لتهلكوا كلكم في جوفها فإذا هي حال الخسف تمور أي تتحرك وتضطرب حتى
تغوروا في بطنها والجواب لم يأمنوا ذلك فكيف إذاً يصرون على الشرك والتكذيب للرسول
وقوله {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ2 فِي السَّمَاءِ} وهو الله عز وجل أن يرسل عليكم
حاصباً أي ريحاً تحمل الحصباء والحجارة فتهلكهم {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}
أي إنذاري لكم الكفر والتكذيب أي أنه حق وواقع مقتضاه وقوله تعالى {وَلَقَدْ
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} كعاد وثمود وغيرهما أي كذبوا رسلي بعدما
أنكروا عليهم الشرك والكفر فأهلكناهم {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي إنكاري لهم كان
حقاً وواقع المقتضى وقوله تعالى {أَوَلَمْ 3يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ
صَافَّاتٍ} أي باسطات أجنحتهن ويقبضنا ما يمسكهن في حالة البسط أو القبض إلا
الرحمن الذي أنكره المشركون وقالوا وما الرحمن وهم يعيشون في رحمته التي وسعت كل
شيء وهي متجلية حتى في الطير تحفظه من السقوط والتحطيم أي أينكرون ألوهية الله
ورحمته ولم يروا إلى الطير وهي صافات وقابضات أجنحتها ولا يمسكها أحد من الناس فمن
يمسكها إذاً؟ إنه الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه بما شاء من السنن والنواميس التي
يحكم بها خلقه ويدبر بها ملكوته إن أمر المشركين في كفرهم بالله لعجب وقوله
{إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
__________
1 قال ابن عباس رضي الله عنهما أأمنتم عذاب من في السماء إن عصيتموه يريد أن
يصيبكم به إن أصررتم على تكذيبه وتكذيب رسوله. هكذا عقيدة السلف في إثبات صفة
العلو لله تعالى، وأما الخلف فيقولون: أأمنتم من في السماء قدرته وسلطانه وعرشه
وملائكة هروباً إلى التأويل حتى لا يصفوا الله تعالى بما وصف به نفسه من العلو
الذاتي فما أضل القوم والاستفهام إنكاري أي ينكر عليهم أمنهم من الخسوف بهم وهم
قائمون على معاصي توجب لهم ذلك.
2 أم: هي المنقطعة التي تؤول ببل والاستفهام وهو إنكاري تعجبي ينكر عليهم أمنهم من
عذاب الله بإرسال حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط فتهلكهم كما أهلكتهم إذ
هم متعرضون لذلك بتكذيبهم وشركهم وكفرهم وحذفت الياء من نذيري ونكيري وهي ضمير
المتكلم حذفت تخفيفاً.
3 الهمزة داخلة على محذوف أي أغفلوا ولم يروا إلى الطير فوقهم حال كونها صافات
أجنحتها وتقبضها أحياناً ولم تسقط فتتجلى لهم قدرة الله ورحمته ليؤمنوا ويطيعوا
فينجوا ويسعدوا.
بَصِيرٌ} سواء عنده السابح في الماء والسارح في الغبراء
والطائر في السماء والمستكن في الأحشاء.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تحذير المعرضين عن الله وإنذارهم بسوء العواقب إن استمروا على إعراضهم فإن الله
قادر على أن يخسف بهم الأرض أو يرسل عليهم حاصباً من السماء وليس هناك من يؤمنهم
ويجيرهم بحال من الأحوال. إلا إيمانهم وإسلامهم لله عز وجل.
2- في الهالكين الأولين عبر وعظات لمن له قلب حي وعقل يعقل به.
3- من آيات الله في الآفاق الدالة على قدرة الله وعلمه ورحمته الموجبة لعبادته
وحده طيران الطير في السماء وهو يبسط جناحيه ويقبضها ولا يسقط إذ المفروض أن يبقى
دائما يخفق بجناحيه يدفع نفسه فيطير بمساعدة الهواء أما إذا قبض أو بسط المفروض
أنه يسقط ولكن الرحمن عز وجل يمسكه فلا يسقط.
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ
إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ
إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي
مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي
ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا
الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ
وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ
وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
شرح الكلمات:
جند لكم :أي أعوان لكم.
من دون الرحمن :أي غيره تعالى يدفع عنكم عذابه.
إن الكافرون :أي ما الكافرون.
إلا في غرور :غرهم الشيطان بأن لا عذاب ينزل بهم.
إن أمسك رزقه :أي إن أمسك الرحمن رزقه؟ لا أحد غير الله يرسله.
بل لجوا في عتو ونفور :أي إنهم لم يتأثروا بذلك التبكيت بل تمادوا في التكبر
والتباعد عن الحق.
أفمن يمشي مكبا على وجهه :أي واقعا على وجهه.
أمن يمشي سويا : أي مستقيما.
والأفئدة :أي القلوب.
قليلا ما تشركون :أي شكركم قليل.
ذرأكم في الأرض :أي خلقكم في الأرض وإليه تحشرون لا إلى سواه.
متى هذا الوعد :أي الذي تعدوننا به وهو يوم القيامة.
قل إنما العلم عند الله :أي علم مجيئه عند الله لا غير.
فلما رأوه زلفة :أي لما رأوا العذاب قريباً منهم في عرصات القيامة.
سيئت وجوه الذين كفروا :أي تغيرت مسودة.
هذا الذي كنتم به توعدون :أي هذا العذاب الذي كنتم بإنذاره تكذبون وتطالبون به
تحديا منكم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في مطلب هداية قريش فقال تعالى مخاطباً لهم {أَمَّنْ هَذَا
الَّذِي1 هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ؟} أي من هذا
الذي هو جند لكم أيها المشركون بالله تعالى ينصركم من دون الرحمن إن أراد الرحمن
بكم سوءاً فيدفعه عنكم. وقوله تعالى {إِنِ الْكَافِرُونَ2 إِلَّا فِي غُرُورٍ} أي
ما الكافرون إلا في غرور أوقعهم الشيطان فيه زين لهم الشرك ووعدهم ومناهم
__________
1 أمن هي (أم) المنقطعة المقدرة ببل ومن الاستفهامية أدغمت في ميم أم فصارت أمن
والاستفهام للتبكيت والتأنيب والإضراب الانتقالي إذ تنقل من توبيخهم على عدم
التأمل فيما يشاهدونه من أحوال الطير المنبئة عن آثار قدرة الله ورحمته إلى
التبكيت بضعفهم وقلة الناصر لهم سوى الرحمن الذي يكفرون به.
2 الجملة معترضة مقررة لما قبلها والالتفات فيها من الخطاب إلى الغيبة لاقتضاء
حالهم الإعراض عنهم والإظهار في موضع الإضمار إذ قال إن الكافرون, ولم يقل إن هم
إلا في غرور لذمهم بالكفر وتعليل غرورهم به.
أنه لا حساب ولا عقاب، وأن آلهتهم تشفع لهم وقوله تعالى
{أَمَّنْ1 هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي
عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} أي من هذا الذي يطعمكم ويسقيكم ويأتي بأقواتكم إن أمسك الله
ربكم رزقه عنكم فلو قطع عليكم المطر ما أتاكم به أحد غير الله. وقوله تعالى {بَلْ
لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} أي أنهم لم يتأثروا بهذا التبكيت والتأنيب بل
تمادوا في الكبر والتباعد عن الحق. وقوله تعالى {أَفَمَنْ يَمْشِي 2مُكِبّاً عَلَى
وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ3 يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ؟} هذا مثل
ضربه الله تعالى للمشرك والموحد تبياناً لحالهما وتحقيقا لواقع مذهبهما فقال أفمن
يمشي مكباً أي واقعاً على وجهه هذا هو المشرك الذي سيكب على وجهه في جهنم أهدى أمن
يمشي سويا أي مستقيما على صراط مستقيم أي طريق مستقيم هذا هو الموحد فأيهما أهدى؟
والجواب قطعاً الذي يمشي سويا على صراط مستقيم إذاً النتيجة أن الموحد4 مهتد
والمشرك ضال. وقوله تعالى { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} أي خلقكم {وَجَعَلَ لَكُمُ
السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} أي القلوب أي وأنتم لا تكرون ذلك
فمالكم إذاً لا تشكرون المنعم عليكم بهذه النعم وذلك بالإيمان به وبرسوله وطاعته
وطاعة رسوله إنكم ما تشكرون إلا قليلا وهو اعترافكم بأن الله هو المنعم لا غير.
وقوله تعالى {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}
أي قل لهم يا رسولنا الله هو الذي ذرأكم في الأرض أي خلقكم لا أصنامكم التي لا
تخلق ذبابا وإليه تعالى وحده تحشرون يوم القيامة إذاً فكيف لا تؤمنون به وبرسوله
ولا تشكرونه ولا تخافونه وإليه تحشرون فيحاسبكم ويجزيكم بأعمالكم.
وقوله تعالى {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي
ويقول الكافرون لرسول الله والمؤمنين: متى هذا الوعد الذي تعدوننا به وهو يوم
القيامة أي متى يجيء؟ وهنا قال تعالى لرسوله إجابة لهم على سؤالهم: قل {إِنَّمَا
الْعِلْمُ 5عِنْدَ اللَّهِ} أي علم مجيء يوم القيامة عند الله، وليس هو من شأني
وإنما أنا نذير منه مبين لا غير. وقوله تعالى { فَلَمَّا رَأَوْهُ} أي عذاب يوم
القيامة {زُلْفَةً} أي6 قريبا منهم {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي
أساءها الله فتغيرت بالاسوداد والكآبة
__________
1 أمن هذا الذي: القول فيها كالقول في سابقها سواء.
2 مكبا اسم فاعل من اكب اللازم أما المعتدي فهو كبه يكبه وجواب الاستفهام الأول هو
جملة أهدى وحذف جواب الاستفهام الثاني لدلالة الأول عليه.
3 أهدى أي أكثر هداية واستقامة والسوي هو الشديد الاستواء وهو الاعتدال ولاستقامة.
4 جائز أن يراد بالمكب على وجهه أبو جهل، والسوي على صراط مستقيم أبو بكر رضي الله
عنه والمثل عام في كل مشرك وموحد أو كافر ومؤمن.
5 كقوله تعالى: قل إنما علمها عند ربي الآية من سورة الأعراف.
6 زلفة: اسم مصدر من أزلف إزلافاً إذا أقرب، والزلفى القربة والمنزلة. والفاء في
فلما رأوه زلفة هي الفصيحة إذ أعربت من جملتين وترتيب الشرطية عليها كأنه قيل وقد
أتاهم الموعود به فرأوه، فلما رأوه زلفة سيئت أي اسودت وجوه الذين كفروا لما فيها
من الخوف والحزن.
والحزن. وقيل لهم أو قالت لهم الملائكة هذا العذاب الذي
كنتم به تطالبون متحدين رسولنا والمؤمنين وتقولون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير حقيقة ثابتة وهي أن الكافر يعيش في غرور كامل ولذا يرفض دعوة الحق.
2- تقرير حقيقة ثابتة وهي انحراف الكافر وضلاله واستقامة المؤمن وهدايته.
3- وجوب الشكر لله تعالى على نعمة السمع والبصر والقلب وذلك بالإيمان والطاعة.
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ
يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا
بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ
مَعِينٍ (30)
شرح الكلمات:
قل أرأيتم :أي أخبروني.
ومن معي :أي من المؤمنين.
أو رحمنا :أي لم يهلكنا.
فمن يجير الكافرين :أي فمن يحفظ ويقي الكافرين العذاب.
قل هو الرحمن :أي قل هو الرحمن الذي أدعوكم إلى عبادته.
إن أصبح ماؤكم غوراً : أي غائراً لا تناله الدلاء ولا تراه العيون.
بماء معين :أي تراه العيون لجريانه على الأرض.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في مطلب هداية كفار قريش فقال تعالى لرسوله قل لهؤلاء
المشركين الذين
تمنوا موتك وقالوا نتربص به ريب1 المنون قل لهم
{أَرَأَيْتُمْ} أي أخبروني {إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ2} من
المؤمنين، {أَوْ رَحِمَنَا} فلم يهلكنا بعذاب {فَمَنْ يُجِيرُ3 الْكَافِرِينَ مِنْ
عَذَابٍ أَلِيمٍ؟} والجواب: لا أحد إذاً فماذا تنتفعون بهلاكنا. وقوله تعالى {قُلْ
هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} أي قل يا رسولنا لهؤلاء
المشركين قل هو الرحمن الذي يدعوكم إلى عبادته وحده وترك عبادة غيرة آمنا به وعليه
توكلنا أي اعتمدنا عليه وفوضنا أمرنا إليه فستعلمون في يوم ما من هو في ضلال ممن
هو على صراط مستقيم. وقوله {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً}
أي غائرا {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} أي قل لهؤلاء المشركين يا رسولنا
تذكيرا لهم أخبروني إن أصبح ماؤكم الذي تشربون منه "بئر زمزم" وغيرها4
غائرا لا تناله الدلاء ولا تراه العيون. فمن يأتيكم بماء معين غير الله تعالى؟
والجواب لا أحد5 إذاً فلم لا تؤمنون به وتوحدونه في عبادته وتتقربون إليه
بالعبادات التي شرع لعباده أن يعبدوه بها؟.6
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1-بيان ما كان عليه المشركون من عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنوا
موته.
2-وجوب التوكل على الله عز وجل بعد الإيمان.
3-مشروعية الحجاج لإحقاق الحق وإبطال الباطل.
__________
1 جاء هذا في سورة الطور. إذ قال تعالى عنهم أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون.
2فتح كلا من ياءي أهلكني ومن معي. نافع وحفص سواء.
3 الاستفهام للنفي.
4 وهي بئر ميمون كانوا يشربون منها كبئر زمزم.
5 معين أصلها معيون كمبيع أصلها مبيوع فنقلت ضمة الياء إلى العين قبلها فالتقى
ساكنان الياء والواو فحذفت الواو. ثم كسرت العين لتصبح الياء
6 روى استحباب قول القارئ: الله رب العالمين إذا قرأ فمن يأتيكم بماء معين وروي أن
جاهلاً ملحداً لما سمعها قال: تأتي بها الفؤوس والمعاول فذهب ماء عينيه وعمي.
والعياذ بالله تعالى من الجهل والكفر والجرأة على الله.
سورة القلم
...
سورة القلم
مكية وآياتها اثنتان وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ
(2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ
عَظِيمٍ (4)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ
الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ
أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
شرح الكلمات:
ن :هو أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا ن ويقرأ هكذا نون.
والقلم وما يسطرون :أي والقلم الذي كتب به الذكر "القدر" والذي يخطون
ويكتبون.
ما أنت بنعمة ربك :أي لست بما أنعم الله عليك من النبوة وما وهبك من الكمال.
بمجنون :أي بذي جنون كما يزعم المشركون.
غير ممنون : أي غير مقطوع بل هو دائم أبدا.
بأيكم المفتون :أي بأيكم الجنون.
معنى الآيات:
قوله تعالى (ن) هذا أحد الحروف1المقطعة نحو ق، ص، وحم الله أعلم بمراده به وقوله
تعالى {وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} أي2 والقلم الذي كتب أول ما خلق وقال له
اكتب فقال ما اكتب قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى بذلك وما يسطرون أي
وما تسطره وتكتبه الملائكة نقلا من اللوح المحفوظ، وما يكتبه الكرام الكاتبون من
أعمال العباد قسمي أي أقسم تعالى بشيئين الأول القلم، والثاني ما سطر به وكتب مما
خلق من كل شيء. والمقسم3 عليه قوله {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ4 رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}
تكذيب للمشركين الذين قالوا إن محمداً مجنون بسبب ما رأوا من الوحي والتأثير به
على من هداه الله للأيمان، وقوله تعالى {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ}
هذا داخل تحت القسم أي مقسم عليه وهو أن للنبي صلى الله عليه وسلم أجراً غير مقطوع
أبداً بسبب ما قدمه من أعمال صالحة أعظمها ما بينه من الهدى سنه من طرق الخير إذ
من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم الدين كما أن الجنة أجر كل عمل
صالح وللرسول فيها أجر غير مقطوع بل له أعلاها وأفضلها
__________
1 روى عن بعض السلف أن: نون هي الدواة، وكونه أحد الحروف المقطعة أولى لنظائره من
ص، وق ويس، وطس. وفي إدغام النون في واو القلم قراءتان سبعيتان الفك والإدغام.
2 جائز أن يكون ما موصولة. أي والذي يسطرونه وجائز أن تكون مصدريه أي ومسطورهم.
3 جواب القسم وهو ثلاثة أشياء الأول نفي الجنون عنه صلى الله عليه وسلم و الثاني
ثبوت الأجر له صلى الله عليه وسلم والثالث كونه على أعظم خلق حيث تحلى بكل أدب في
القرآن حتى قالت عائشة رضي الله عنها كان خلقه القرآن.
4 الباء بنعمة ربك سببية أي ما أنت بسبب ما أنعم الله عليك من الوحي مجنوناً
والباء في مجنون زائدة لتقوية النفي وتأكيده.
وقوله {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 1 هذا أيضا
داخل في حيز المقسم عليه وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم لعلى خلق أي أدب
عظيم حيث أدبه ربه فكيف لا يكون أكمل الخلق أدباً وسيرته وما خوطب به في القرآن من
مثل خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين. ومثل وشاورهم في الأمر ومثل ولو
كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك إلى غير ذلك من الآداب الرفيعة التي أدب الله
بها رسوله مما جعله أكمل الناس أدبا وخلقا وقد سئلت عائشة عن خلق النبي صلى الله
عليه وسلم فقالت كان خلقه القرآن وقال هو عن نفسه أدبني ربي فأحسن تأديبي وقال
إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. وقوله تعالى {فَسَتُبْصِرُ2 وَيُبْصِرُونَ
بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} أي دم على ما أنت عليه من الكمال يا رسولنا واصبر على
دعوتنا فستبصر بعد قليل من الزمن ويبصر قومك المتهمون لك بالجنون بأيكم3 المفتون
أي المجنون أنت –وحاشاك- أو هم. وقوله تعالى {إِنَّ4 رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ
ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} في هذا الخبر تعزية لرسول
الله صلى الله عليه وسلم وتسلية له ليصبر على دعوة الله وفيه تهديد ووعيد للمشركين
المكذبين فكون الله أعلم من كل أحد بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين معناه أنه
سيعذب حسب سنته الضال وسيرحم المهتدي.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1-تقرير مسألة أن لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه.
2-بيان فضل القلم الذي يكتب به الهدى و الخير.
3-تقرير عقيدة القضاء والقدر إذ كان ذلك بالقلم الذي أول ما خلق الله.
4-بيان كمال الرسول صلى الله عليه وسلم في أدبه و أخلاقه وجعله قدوة في ذلك.
__________
1 ورد في فضل الخلق أحاديث ." اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها
وخالق الناس بخلق حسن"، وحديث "ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم
القيامة من خلق حسن، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء". (صحيح).
2 قال ابن عباس فستعلم ويعلمون يوم القيامة حين يتميز الحق من الباطل وما في
التفسير وارد وحق ولعله المراد وما قاله ابن عباس حق ووارد.
3 بأيكم المفتون، أي اسم مبهم يتعرف بما يضاف هو إليه، وله مواقع كثيرة في الكلام
فقد يشرب معنى الموصول ومعنى الشرط ومعنى الاستفهام، ومعنى التنويه بكامل. فقوله
بأيكم المفتون معناه أي رجل أو أي فريق منكم المفتون فأي هنا في محل نصب معمول
فسينتصر وينتصرون أيكم المفتون إذ الياء زائدة كالباء في وامسحوا برؤوسكم.
4الجملة تعليلية لما ينبيء عنه ما قبله من اهتدائه صلى الله عليه وسلم وضلالهم أو
على جميع ما فصل من أول السورة ومع أنها تعليلية فإنها متضمنة التسلية للرسول صلى
الله عليه وسلم كما في التفسير.
فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ
فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ
بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ
زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ
آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ
(16)
شرح الكلمات:
ودوا لو تدهن :أي تمنوا وأحبوا لو تلين لهم بأن لا تذكر آلهتهم بسوء.
فيدهنون : فيلينون لك ولا يغلظون لك في القول.
كل حلاف مهين :أي كثير الحلف بالباطل حقير.
هماز مشاء بنميم : أي عياب مغتاب.
معتد أثيم :أي على الناس بأذيتهم في أنفسهم وأموالهم أثيم يرتكب الجرائم والآثام.
عتل بعد ذلك زنيم : أي غليظ جاف. زنيم دعي في قريش وليس منهم وهو الوليد بن
المغيرة.
قال أساطير الأولين : أي ما روته الأولون من قصص وحكايات وليس بوحي قرآني.
سنسمه على الخرطوم : أي سنجعل على أنفه علامة يعير بها ما عاش فخطم أنفه بالسيف
يوم بدر.
معنى الآيات:
قوله تعالى {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ}1 أي بناء على أنك أيها الرسول مهتد
وقومك ضالون فلا تطع
__________
1 التاء للتفريع فالجملة متفرعة عما سبقها من قوله تعالى إن ربك هو أعلم بمن ضل عن
سبيله. وعليه فلا تطع المكذبين الخ نهى صلى الله عليه و سلم عن طاعة المشركين في
أي شيء يريدونه منه مما هو رضاء بالشرك وسكوت عنه ممالأة لهم وسكوتاً عن باطلهم
مقابل ترك أذاهم له.
هؤلاء الضالين المكذبين بالله ولقائه وبك وبما جئت به من
الدين الحق وقوله {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ1 فَيُدْهِنُونَ} أي ومما يؤكد لك عدم
مشروعية طاعتهم فيما يطالبون ويقترحونه عليك أنهم ودوا أي تمنوا وأحبوا لو تلين
لهم فتمالئهم بسكوتك عن آلهتهم فيدهنون بالكف عن أذيتك بترك السب و الشتم. وقوله
تعالى {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} بعدما نهاه عن إطاعة الكافرين عامة
نهاه عن طاعة أفراد شريرين لا خير فيهم البتة كالوليد بن المغيرة فقال: {وَلا
تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ} كثير الحلف بالباطل {مَهِين2ٍ} أي حقير. {هَمَّازٍ} عياب
{مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} أي مغتاب نمام ينقل الحديث على وجه الإفساد {مَنَّاعٍ
لِلْخَيْرِ} أي يبخل بالمال أشد البخل {مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} أي ظالم للناس معتد على
أموالهم وأنفسهم {أَثِيمٍ} كثير الإثم لغشيانه المحرمات وقوله {عُتُلٍّ بَعْدَ
ذَلِكَ3 زَنِيمٍ} أي غليظ الطبع جاف لا أدب معه. {زَنِيمٍ} أي دعي في قريش وليس
منهم. وقوله تعالى {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ
آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أي لأجل أن كان ذا مال وبنين حمله
الشعور بالغنى على التكذيب بآيات الله فإذا تليت عليه وسمعها قال أساطير الأولين
رداً لها ووصفوها بأنها أسطورة أي أكذوبة مسطرة ومكتوبة من أساطير الأولين من
الأمم الماضية. قال تعالى {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} أي نجعل له سمة شر وقبح
يعرف بها مدى حياته تكون بمثابة من جدع أنفه أو وسم على أنفه فكل من رآه استقبح
منظره.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التنديد بأصحاب الصفات التالية كثرة الحلف بالكذب، المهانة، الهمزة النميمة،
الغيبة، البخل، الاعتداء، غشيان الذنوب، الغلظة والجفاء، الشهرة بالشر.
2-التحذير من كثرة المال والولد فإنها سبب الطغيان {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}.
3- التنديد بالمكذبين بآيات الله تعالى أو تفصيلا. والعياذ بالله تعالى.
__________
1 ودوا لو تدهن هذا بيان لما نهى عنه من طاعتهم، وفعل تدهن مشتق من الإدهان وهو
الملاينة والمصانعة وهو مأخوذ من دهن الشيء بالدهان ليلينه ويرق، والمداهنة محرمة
و المداراة جائزة والفرق بينهما أن المداهن يتنازل من شيء من دينه ليحفظ شيئا من
دنياه، والمداري عكسه يتنازل عن شيء من دنياه ليحفظ شيئاً من دينه.
2 المهين: الوضيع لإكثاره من القبيح، وتفسيره بالحقير صالح وكذا الفاجر العاجز.
3 العتل: الجافي الشديد، ومنه أخذ العتال الذي يجر الناس ويدفعهم بعنف ليدخلهم في
السجن ونحوه. ومنه قوله تعالى {خذوه فاعتلوه.}
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ
الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ
(18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ
كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لا
يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ
قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ
مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ
(28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا
طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلَى
رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ
لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
شرح الكلمات:
إنا بلوناهم : أي امتحنا كفار مكة بالمال والولد والجاه والسيادة فلم يشكروا نعم
الله عليهم بل كفروا بها بتكذيبهم رسولنا وإنكارهم توحيدنا فأصبناهم بالقحط والقتل
لعلهم يتوبون كما امتحنا أصحاب الجنة المذكورين في هذا السياق.
ليصرمنها 1 : أي ليجدنها أي يقطعون ثمارها صباحاً.
فطاف عليهم طائف من : أي نار فأحرقتها.
ربك وهم نائمون
فأصبحت كالصريم :أي كالليل الأسود الشديد الظلمة والسواد.
على حرثكم :أي غلة جنتكم وقيل فيها حرث لأنهم عملوا فيها.
وهم يتخافتون :أي يتشاورون بأصوات مخفوضة غير رفيعة حتى لا يسمع بهم.
__________
1 الصرم: الجد والقطع، والجز أيضاً بالزاي كلها بمعنى القطع والكسر.
وغدوا على حرد قادرين :أي وغدوا صباحا على قصد قادرين
على صرمها قبل أن يطلع عليهم المساكين.
إنا لضالون :أي مخطئوا الطريق أي ما هذا طريق جنتنا ولا هي هذه.
بل نحن محرومون :أي لما علموا أنها هي وقد احترقت قالوا بل نحن محرومون منها
لعزمنا على حرمان المساكين منها.
قال أوسطهم : خيرهم تقوى وأرجحهم عقلا.
لولا تسبحون : أي تسبحون الله وتستثنون عندما قلتم لنصرمنها مصبحين.
يتلاومون : أي يلوم بعضهم بعضا تندماً وتحسراً.
إنا إلى ربنا راغبون : أي طامعون.
كذلك العذاب :أي مثل هذا العذاب بالحرمان العذاب لمن خالف أمرنا وعصانا.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في مطلب هداية قريش قوم محمد صلى الله عليه وسلم فقال تعالى
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} يعني كفار قريش أي امتحناهم واختبرناهم بالآلاء والنعم
لعلهم يشكرون فلم يشكروا ثم بالبلاء والنقم أي بالقحط والجدب والقتل لعلهم يتوبون
كما بلونا أصحاب الجنة فتابوا ثم ذكر تعالى قصة أصحاب الجنة الذين ابتلاهم فتابوا
إليه ورجعوا إلى طاعته فقال {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ
الْجَنَّةِ1 إِذْ أَقْسَمُوا} –حلفوا- {لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ2} أي ليقطعن
ثمارها ويجدونه في الصباح الباكر قبل أن يعلم المساكين حتى لا يعطوهم شيئا. ولا
يستثنون أي لم يستثنوا في حلفهم لم يقولوا إلا أن يشاء الله. {فَطَافَ عَلَيْهَا
طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} يا رسولنا وهو نار أحرقتها {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} أي
الليل المظلم الأسود الشديد السواد. {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ} أي نادى بعضهم
بعضا وهم إخوة كثير في أول الصباح قائلين {اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ} إن كنتم فعلا
جادين في الصرام هذا الصباح. {فَانْطَلَقُوا } مسرعين {وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ}
يتشاورون في صوت خافت حتى لا
__________
1 قيل أن هذه الجنة "البستان" كانت على فراسخ من صنعاء اليمن وكانت بعد
رفع عيسى عليه السلام، كانت لرجل مؤمن يؤدي حق الله تعالى فلما مات صارت لأولاده
فعزموا على منع الناس ما كان والدهم يعطيه لمن يحضر الجداد من فقراء ومسامين
فعاقبهم الله فاحترقت وفي الآيات بيان بذلك.
2 في الآية أدب سام وهو أن من كان له من الزرع أو التمر ما يجد، ينبغي أن لا يجده
ليلا حتى لا يحرم الفقراء من الآكل منه وأن عليه أن بمنح من يحضر الجداد والقطع
شيئاً يسيراً من زرعه أو ثمره، وآية سورة النساء ظاهرة في هذا وهي قوله تعالى
(وإذا حضر القسمة أولوا القربى) إلى قوله (فارزقوهم منه) الآية.
يفطن لهم فقراء البلد ومساكينها وأجمعوا1 على {أَنْ لا
يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} كما كانوا يدخلونها ويأخذون منها
أيام حياة والدهم رحمه الله عليه قال تعالى {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ}
أي وانطلقوا صباحا على حرد أي2 قصد تام قادرين على أن لا يدخلنها اليوم عليهم
مسكين بل يجدونها ويحملونها إلى مخازنهم ولا يشعر بهم أحد من الفقراء والمساكين.
قال تعالى {فَلَمَّا رَأَوْهَا} محترقة سوداء مظلمة {قَالُوا} ما هذه جنتنا
{إِنَّا لَضَالُّونَ3} عنها بأن أخطئنا الطريق إليها، ولما علموا أنها هي ولكن
احترقت ليلا اضربوا عن قولهم الأول وقالوا {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي منها
لعزمنا على منع المساكين منها وقد كان والدنا يمنحهم منها ويعطيهم شكرا لله وأداء
لحقه. وهنا تكلم أوسطهم أي خيرهم تقوى وأرجحهم عقلا بما أخبر تعالى عنه في قوله
{قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ4 أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} أي ألم يسبق لي
أن قلت لكم لما قلتم لنصرمنها مصبحين ولم يستثنوا فقلت لكم هلا يستثنون وأطلق لفظ
التسبيح على الاستثناء لأن التسبيح تنزيه لله عن الشرك وسائر النقائص ومنها العجز
و الاستثناء تنزيه لله عن ذلك لأن الذي يقول أفعل ولم يستثن أعطى لنفسه قدرة كقدرة
الله الذي إذا قال أفعل فعل ولا يعجز فهو هنا أشرك نفسه في صفة من صفات الله تعالى
فلذا كان الاستثناء تسبيحا لله وتنزيها له عن المشارك في صفاته وأفعاله. فلما
ذكرهم أخوهم العاقل الرشيد قالوا {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}
فنابوا بهذا الاعتراف قال تعالى {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
يَتَلاوَمُونَ} أي يلوم بعضهم بعضا على خطأهم في عزمهم على حرمان المساكين وعلى
عدم الاستثناء في اليمين قالوا من جملة ما قالوا {قَالُوا يَا وَيْلَنَا} أي يا
هلاكنا احضر {إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} أي متجاوزين حدود الله التي حد لنا غفلة منا
وجهلا بأنفسنا وبما يعاقب به أمثالنا. وهنا بعد أن رجعوا على أنفسهم باللوم وإلى
الله بالتوبة رجوا ربهم ولم ييأسوا من رحمته فقالوا {عَسَى5 رَبُّنَا أَنْ
يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا6 رَاغِبُونَ} هكذا ابتلوا
بالنعمة ثم بسلبها فتابوا
__________
1 في الآية دليل على أن العزم الأكيد يؤاخذ عليه العبد لأن أصحاب الجنة عزموا على
أن يحرموا الفقراء فعاقبهم الله على عزمهم.
2 الحرد: يطلق على المنع وعلى القصد القوي وعلى السرعة والغضب أيضا وجملة وغدوا
إلخ حالية.
3 لا داعي إلى تفسير لضالون بالضلال الذي هو خروج عن طاعة الله تعالى بل المراد من
الضلال هو عدم اهتدائهم إلى جنتهم بأن ضلوا طريقها.
4 الاستفهام تقريري، ولولا للتحضيض.
5 قيل أنهم تعاقدوا وقالوا إن بدلنا الله خيراً منها لنصنعن كما يصنع أبونا فدعوا
الله وتضرعوا فأبدلهم الله ما هو خير منها، سئل قتادة عن أصحاب الجنة: أهم من أهل
الجنة أم من أهل النار؟ فقال للسائل لقد كلفتني تعباً!
6 قرأ نافع أن يبدلنا بتشديد الدال، وقرأ حفص بالتخفيف من أبدل يبدل الرباعي.
مهل كفار قريش وقد ابتلوا بالنعمة ثم سلبوها فهل يتوبون
كما تاب أصحاب الجنة؟ إنما سيقت هذه القصة تذكيراً وتعليما فهلا يتذكرون فيتوبوا؟
قال تعالى {كَذَلِكَ1 الْعَذَابُ} أي مثل هذا العذاب بالحرمان العذاب لمن خالف أمر
الله وعصاه {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} من عذاب الدنيا {لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ} فإن عذاب الدنيا وقته محدود وأجله معدود أما عذاب الآخرة فإنه أبدي
لا يحول ولا يزول.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الابتلاء يكون بالسراء والضراء أي بالخير والشر وأسعد الناس الشاكرون عند
السراء الصابرون على طاعة الله ورسوله عند الضراء.
2- مشروعية التذكير بأحوال المبتلين والمعافين ليتخذ من ذلك طريق إلى الشكر
والصبر.
3- صلاح الآباء ينفع أبناء المؤمنين فقد انتفع أصحاب الجنة بصلاح أبيهم الذي كان
يتصدق على المساكين من غلة بستانه وعلامة انتفاعهم توبتهم.
4- مشروعية الاستثناء في اليمين وأنه تسبيح لله تعالى, وأن تركه يوقع في الإثم
ولذا إذا حنث الحالف لم يستثن تلوثت نفسه بآثم كبير لا يمحى إلا بالكفارة الشرعية
التي حددها الشارع وهي إطعام أو كسوة عشرة مساكين أو عتق رقبة فإن لم يقدر على
واحدة من هذه الأنواع صام ثلاثة أيام ليمحي ذلك الذنب من نفسه.
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ
الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ
لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ
(38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ
لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ
لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ
(42)
__________
1 قيل إن هذا وعظ لأهل مكة بالرجوع إلى الله تعالى لما ابتلاهم بالجدب لدعاء النبي
صلى الله عليه وسلم عليهم أي كفعلنا نفعل بمن تعدى حدودنا في الدنيا.
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ
كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
شرح الكلمات:
إن للمتقين1 : أي الذين اتقوا ربهم فآمنوا به ووحدوه فاتقوا بذلك الشرك والمعاصي.
عند ربهم جنات النعيم :أي لهم جنات النعيم يوم القيامة عند ربهم عز وجل.
أفنجعل المسلمين كالمجرمين :أي أنحيف في الحكم ونجور فنجعل المسلمين والمجرمين
متساوين في العطاء والفضل والجواب لا، لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة.
أم لكم كتاب فيه تدرسون :أي تقرأون فعلمتم بواسطته ما تدعون.
إن لكم فيه لما تخيرون :أي فوجدتم في الكتاب الذي تقرأون أن لكم فيه ما تختارونه.
أم لكم أيمان علينا بالغة :أي ألكم عهود منا موثقة بالأيمان لا نخرج منها ولا
نتحلل إلى يوم القيامة.
إن لكم لما تحكمون : أي أعطيناكم عهودنا الواثقة أن لكم ما تحكمون به لأنفسكم كما
تشاءون.
سلهم بذلك أيهم زعيم :أي سلهم يا رسولنا عن زعيمهم الذي يكفل لهم مضمون الحكم الذي
يحكمون به لأنفسهم من أنهم يعطون في الآخرة أفضل مما يعطى المؤمنون.
أم لهم شركاء : أي أعندهم شركاء موافقون لهم في هذا الذي قالوا يكفلون لهم به ما
ادعوه وحكموا به لأنفسهم وهو أنهم يعطون أفضل مما يعطى المؤمنون يوم القيامة.
يوم يكشف عن ساق : أي يوم يعظم الهول ويشتد الكرب ويكشف الرب عن ساقه الكريم التي
لا يشبهها شيء عندما يأتي لفصل القضاء.
ترهقهم ذلة :أي تغشاهم ذلة يالها من ذلة.
وقد كانوا يدعون إلى السجود :أي وقد كانوا يدعون في الدنيا إلى الصلاة وهم سالمون
من أية علة ولا يصلون
وهم سالمون حتى لا يسجدوا تكبراً وتعظيماً.
__________
1 المتقون هم الذين اتقوا ربهم فآمنوا به وعبدوه وحده فأطاعوه وأطاعوا رسوله فلم
يشركوا ولم يفسقوا.
معنى الآيات:
قوله تعالى {إِنَّ 1لِلْمُتَّقِينَ2} الآيات نزلت رداً على المشركين الذين ادعوا
متبجحين أنهم إذا بعثوا يوم القيامة يعطون أفضل مما يعطى المؤمنون قياساً منهم على
حالهم في الدنيا حيث كانوا أغنياء والمؤمنون فقراء فقال تعالى {إِنَّ
لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أي جنات كلها نعيم لاشيء
فيها غيره. ثم قال في الرد منكرا على المشركين دعواهم مقرعا مؤنبا إياهم في سبعة
استفهامات إنكارية تقريعية أولها قوله تعالى {أَفَنَجْعَلُ3 الْمُسْلِمِينَ} الذين
أسلموا لله وجوههم وأطاعوه بكل جوارحهم {كَالْمُجْرِمِينَ} الذين أجرموا على
أنفسهم بارتكاب أكبر الكبائر كالشرك وسائر الموبقات أي نحيف ونجور في حكمنا فنجعل
المسلمين كالمجرمين في الفضل والعطاء يوم القيامة، فنسوي بينهما وثانيها قوله: ما
لكم؟ أي أي شيء حصل لكم حتى ادعيتم هذه الدعوى وثالثها كيف تحكمون أي كيف أصدرتم
هذا الحكم ما حجتكم فيه ودليلكم عليه؟ ورابعها قوله {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ
تَدْرُسُونَ} أي أعندكم كتاب جاءكم به رسول من عند الله تقرأون فيه هذا الحكم الذي
حكمتم به لأنفسكم بأنكم تعطون يوم القيامة أفضل مما يعطى المؤمنون إن لكم فيه لما
تخيرون أي ألكم في هذا الكتاب ما تختارون والجواب. لا. لا وخامسها قوله {أَمْ
لَكُمْ4 أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ
لَمَا تَحْكُمُونَ} أي أي الكم عهودنا موثقة بأيمان لا نتحلل منها إلى يوم القيامة
بأن لكم ما حكمتم به لأنفسكم من أنكم تعطون أفضل مما يعطى المؤمنون وسادسها {سَلْهُمْ
أَيُّهُمْ5 بِذَلِكَ زَعِيمٌ} أي سلهم يا رسولنا عن زعيمهم الذي يكفل لهم مضمون
الحكم الذي يحكمون به لأنفسهم من أنهم يعطون في الآخرة أفضل مما يعطى المؤمنون
سابعها قوله {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا
صَادِقِينَ} أي ألهم شركاء موافقون لهم في هذا الذي قالوه يكفلونه لهم فليأتوا بهم
إن كانوا صادقين في ذلك. بهذه الاستفهامات الإنكارية التقريعية السبعة نفى تعالى
عنهم كل ما يمكنهم أن يتشبثوا به في
__________
1 إن للمتقين استئناف بياني ناشيء عن سؤال إذا كان جزاء المجرمين ما ذكر فما جزاء
المتقين؟ فأجيب : إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم: واللام لام الاستحقاق، وإضافة
الجنات إلى النعيم إشارة إلى أنها خالصة النعيم ما فيها ليس في جنات الدنيا من
البعوض والحشرات أو ما يؤذي من شوك ونحوه.
2 قال ابن عباس رضي الله عنهما: قالت كفار مكة إنا نعطى في الآخرة خيراً مما تعطون
فنزلت: أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟
3 الهمزة للاستفهام الإنكاري أي إنكار التسوية بين المسلمين والمجرمين في الجزاء
مع التقريع والتوبيخ00 وكذا سائر الاستفهامات في هذه الآيات.
4 أم لكم للإضراب الانتقالي من دليل إلى آخر والاستفهام إنكاري كغيره مع ما يفيد
من التأنيب والتقريع.
5 الاستفهام هنا مستعمل للتهكم.
في تصحيح دعواهم الباطلة عقلا وشرعا. وقوله تعالى
{1يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} 2 أي اذكر لهم يا رسولنا مبينا واقع الأمر يوم
القيامة، ليخجلوا من تشدقهم بدعواهم الساقطة الباردة اذكر لهم يوم يعظهم الهول
ويشتد الكرب، ويأتي الرب لفصل القضاء ويكشف عن ساق فيخر كل مؤمن ومؤمنة ساجداً
ويحاول المنافقون والمنافقات السجود فلا يستطيعون إذ يكون ظهر أحدهم طبقاً واحداً
أي عظماً واحداً فلا يقدر على السجود وذلك علامة شقائه المترتب على نفاقه في
الدنيا. ويدعون إلى السجود أي امتحانا لهم ليعرف من كان يسجد إيمانا واحتسابا ممن
كان يسجد نفاقاً ورياء فلا يستطيعون لأن ظهر أحدهم يصبح عظماً واحداً خاشعة
أبصارهم لا تطرف من شدة الخوف ترهقهم ذلة أي تغشاهم ذلة عظيمة وقوله وقد كانوا
يدعون إلى السجود أي في الدنيا وهم سالمون معافون في أبدانهم ولا يسجدون تكبرا
وكفرا بالله ربهم و بشرعه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير أن المجرمين لا يساوون المؤمنين يوم القيامة إذ لا يستوي أصحاب النار
وأصحاب الجنة فمن زعم أنه يعطى ما يعطاه المؤمنون من جنات النعيم فهو مخطئ في
تصوره كاذب في قوله.
2-بيان عظم هول يوم القيامة وأن الرب تبارك وتعالى يأتي لفصل القضاء ويكشف عن ساق
فلا يبقى أحد إلا سجد وأن الكافر والمنافق لا يستطيع السجود عقوبة له وفضيحة إذ
كان في الدنيا يدعى إلى السجود لله فلا يسجد أي إلى الصلاة فلا يصلي تكبراً
وكفراً.
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا
يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ
أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ
يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ
نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا
__________
1 جائز أن يكون يوم يكشف متعلق بقوله فليأتوا بشركائهم ويكون من باب حسن التخلص من
الرد على المشركين إلى ذكر أهوال بوم القيامة.
2 لولا ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: إذ يقول أبو سعيد الخدري رضي
الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "يكشف ربنا عن ساقه
فبسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد
فيعود ظهره طبقاً واحداً". لقلنا في الآية أنها كناية عن أهوال يوم القيامة
ولكن مع صحة الحديث فالآية دالة على أهوال يوم القيامة ومثبتة صفة ذات الرب تبارك
وتعالى عن صفات المحدثين.
أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ
بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ
الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ
بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)
وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
شرح الكلمات:
ذرني ومن يكذب :أي دعني ومن يكذب أي لا يصدق.
بهذا الحديث :أي بالقرآن الكريم.
سنستدرجهم :أي نستنزلهم درجة درجة حتى نصل بهم إلى العذاب.
وأملي لهم :أي وأمهلهم.
إن كيدي متين :أي شديد قوي لا يطاق.
فهم من مغرم مثقلون : أي فهم مما يعطونكه مكلفون حملا ثقيلا.
أم عندهم الغيب :أي اللوح المحفوظ.
فهم يكتبون :أي ينقلون منه ما يدعونه ويقولونه.
ولاتكن كصاحب الحوت :أي يونس في الضجر والعجلة.
وهو مكظوم :أي مملوء غماً.
بالعراء :أي الأرض الفضاء.
وهو مذموم :لكن لما تاب نبذ وهو غير مذموم.
فاجتباه ربه :أي اصطفاه.
ليزلقونك بأبصارهم :أي ينظرون إليك نظرا شديدا يكاد أن يصرعك.
وما هو إلا ذكر :أي محمد صلى الله عليه وسلم.
للعالمين :أي الأنس والجن فليس بمجنون كما يقول المبطلون.
معنى الآيات:
بعد ذلك التقريع الشديد للمشركين المكذبين الذي لم يؤثر في نفوسهم أدنى تأثير قال
تعالى لرسوله {فَذَرْنِي1} أي بناء على ذلك فذرني ومن يكذب بهذا الحديث أي دعني
وإياهم، والمراد من
__________
1 الفاء للتفريع والترتيب فما بعدها متفرع عما قبلها مترتب عليه.
الحديث القرآن الكريم1 {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} أي نستنزلهم
درجة درجة {مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} حتى ننتهي بهم إلى عذابهم المترتب على
تكذيبهم وشركهم. وقوله تعالى {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي2 مَتِينٌ} أي
وأمهلهم فلا أعاجلهم بالعذاب فأوسع لهم في الرزق وأصحح لهم الجسم حتى يروا أن هذا
لكرامتهم عندنا وأنهم خير من المؤمنين ثم نأخذهم. وهذا من كيدي الشديد الذي لا
يطاق، وقوله تعالى {أَمْ3 تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ}
أي بل أتسألهم على تبليغ الدعوة أجراً مقابل التبليغ فهم من مغرم مثقلون أي فهم
يشعرون بحمل ثقيل من أجل ما يعطونك من الأجر فلذا هم لا يؤمنون بك ولا يتابعونك
على دعوتك. أم عندهم4 الغيب أي اللوح المحفوظ فهم يكتبون5 منه ما هم يقولون به
ويقرونه والجواب لا إذاً فأصبر يا رسولنا لحكم 6 ربك فيك وفيهم وامض في دعوتك ولا
يثني عزمك تكذيبهم ولا عنادهم ولا تكن كصاحب الحوت يونس بن متّى أي في الضجر وعدم
الصبر. إذ نادى وهو7 مكظوم أي مملوء غماً فقال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من
الظالمين وقوله لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم أي لولا أن
أدركته رحمة الله تعالى حيث ألهمه الله التوبة ووفقه لها لنبذ أي لطرح بالفضاء وهو
مذموم لكن لما تاب الله عليه طرح على ساحل البحر وهو غير مذموم بل محمود فاجتباه
ربه أي اصطفاه مرة ثانية بعد الأولى فجعله من الصالحين أي الكاملي الصلاح من
الأنبياء والمرسلين، ومعنى اجتباه مرة ثانية لأن الاجتباء الأول إذ كان رسولا في
أهل نينوي وغاضبوه فتركهم ضجراً منهم فعوقب وبعد العقاب والعتاب اجتباه مرة أخرى
وأرسله إلى أهل بلاده بعد ذلك الانقطاع قال تعالى من سورة اليقطين فنبذناه بالعراء
وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا
فمتعناهم إلى حين. وقوله تعالى {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} أي وإن يكاد الذين
كفروا ليصرعونك من شدة النظر إليك وكلهم غيظ وحنق عليك بأبصارهم {لَمَّا
__________
1 وجائز أن يكون المراد من الحديث الإخبار عن البعث والجزاء مما تضمنه قوله يوم
يكشف عن ساق الخ وجائز أن يكون القرآن كما في التفسير وقيل فيه حديث لما فيه من
الأخبار عن الله وعن الأمم والجنة والنار.
2 وأملي مضارع أملى إذا أمهل وأنظر وأخر مشتق من الملا مقصوراً وهو الحين والوقت
ومنه الملوان الليل والنهار فأملى بمعنى طول في الزمن.
3 أم بمعنى بل للإضراب الانتقالي من حجة إلى أخرى ومن دليل إلى آخر.
4 إضراب آخر كالأول وفي الكلام حذف تقديره أم عندهم علم الغيب كقوله تعالى
{أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} من سورة النجم.
5 الفاء للتفريع.
6 المراد بحكم الرب تعالى عنا أمره وهو ما حمله رسوله من حمل الرسالة وتبليغها
والاضطلاع بأعباء الرسالة.
7 المكظوم المحبوس المسدود عليه يقال كظم الباب إذا أغلقه وكظم النهر إذا سده ومنه
كظم الغيظ وهو حبسه في النفس وعدم إظهاره بقول أو فعل.
سَمِعُوا الذِّكْرَ} أي القرآن نقرأه عليهم. ويقولون إنه
لمجنون حسداً لك، وصرفاً للناس عنك، وما هو1 أي محمد صلى الله عليه وسلم إلا ذكر
للعالمين أي يذكر به الله تعالى الإنس والجن فليس هو بمجنون كما يقول المكذبون
المفتونون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- رد الأمور إلى الله إّذا استعصى حلها فالله كفيل بذلك.
2-لا يصح أخذ أجرة على تبليغ الدعوة.
3- وجوب الصبر على الدعوة مهما كانت الصعاب فلا تترك لأذىً يصيب الداعي.
4- بيان حال المشركين مع الرسول صلى الله عليه وسلم وما كانوا يضمرونه له من البغض
والحسد وما يرمونه به من الاتهامات الباطلة كالمجنون والسحر والكذب.
__________
1 جائز أن يكون الضمير وما هو عائد إلى القرآن وما القرآن إلا ذكر للعالمين الإنس
والجن أي ليس هو بكلام مجنون، وجائز أن يكون الضمير عائد إلى الرسول صلى الله عليه
وسلم الذي قالوا فيه إنه مجنون ويكون الذكر بمعنى التذكير بالله والجزاء إذ هذا من
فعله صلى الله عليه وسلم.
سورة الحاقة
...
سورة الحاقة
مكية وآياتها اثنتان وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا
بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)
سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى
الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ
تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ
وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ
أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي
الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ
(12)
شرح الكلمات:
الحاقة1 : أي الساعة الواجبة الوقوع وهي القيامة.
بالقارعة :أم بالقيامة لأنها تقرع القلوب بالخوف والهول.
فأهلكوا بالطاغية : أي بطغيانهم وعتوهم عن أمر ربهم فأخذتهم صيحة طاغية أيضاً.
بريح صرصر عاتية : أي ذات صوت لشدة عصوفها عاتية على خزانها في الهبوب.
حسوماً :أي متتابعات الهبوب فلا فاصل كتتابع الكي القاطع للداء.
كأنهم أعجاز نخل خاوية : أي أصول نخل ساقطة فارغة ليس في جوفها شيء.
والمؤتفكات بالخاطئة :أي أهلها وهي قرى لوط بالفعلات ذات الخطأ.
أخذة رابية :أي زائدة في الشدة على غيرها.
لما طغا الماء : أي علا فوق كل شيء من الجبال وغيرها.
حملناكم في الجارية :أي السفينة التي صنعها نوح ونجا بها هو ومن معه من المؤمنين.
وتعيها أذن واعية :أي وتحفظها أذن واعية أي حافظة لما تسمع.
معنى الآيات:
قوله تعالى {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} 2 أي أي شيء هي3؟ وما أدراك4 ما الحاقة
أي أي شيء أعلمك بها، والمراد بها القيامة لأنها حاقة المجيء لا محالة. وقوله
تعالى {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ5 بِالْقَارِعَةِ } أي كذبت ثمود قوم صالح وعاد قوم
هود بالقارعة أي بالقيامة. فهم ككفار قريش مكذبون بالبعث والجزاء. فأما ثمود
فأهلكوا بالطاغية أي بطغيانهم وعتوهم عن أمر ربهم
__________
1 هي أسم للسورة روى أحمد أن عمر رضي الله عنه قال خرجت يوما بمكة أتعرض لرسول
الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد الحرام فوقفت
خلفه فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن فقلت هذا والله شاعر (أي في
خاطري) فقرأ { وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون} قلت: في خاطري كاهن, فقرأ {ولا
بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين} إلى آخر السورة فوقع في قلبي كل
موقع. وسماها بعضهم (السلسلة) وبعضهم ( الداعية).
2 الحاقة أسم فاعل من حق الشيء فهو حاق إذا ثبت وقوعه، والظاهر أنها لموصوف محذوف
أي الساعة الحاقة أو الواقعة الحاقة، وما في التفسير واضح وأولى.
3 ما اسم استفهام مستعمل في التهويل والتعظيم والمعنى الحاقة أمر عظيم لا يدرك
كنهه والحاقة مبتدأ وما مبتدأ ثان والحاقة خبر المبتدأ الثاني والجملة من المبتدأ
الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول وجملة وما أدراك ما الحاقة معترضة بين جملة الحاقة
وكذبت ثمود.
4 روي عن ابن عباس وسفيان بن عيينة. كل ما ورد في القرآن بلفظ وما أدراك بصيغة
الماضي فقد أدراه أي أعلمه به، وكل ما ورد بصيغة المضارع وما يدريك فقد طوي عنه
ولم يعلمه به فالأول (وما أدراك ماهية نار حامية) (وما أدراك ما ليلة القدر ليلة
القدر خير من ألف شهر ) والثاني (وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا)....
5 كذبت ثمود كلام مستأنف بين فيه من كذبوا بالحاقة وهي الفارقة وسميت بالقارعة من
قولهم (قوارع الدهر) أي أهواله وشدائده فهي تقرع القلوب.
فأخذتهم صيحة طاغية1، وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر أي ذات
صوت شديد عاتية أي عتت على خزانها في الهبوب. سخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية
أيام 2حسوماً أي متتابعات بلا انقطاع حسما لوجودهم كما يحسم الدواء بالكي الحاسم
للداء المتتابع. وقوله تعالى فترى أيها الرسول القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل
خاوية أي فترى القوم في تلك الليالي والأيام صرعى ساقطين على الأرض كأنهم أصول نخل
ساقطة فارغة ليس في أجوافها شيء فهل ترى لهم من باقية أي من نسلهم لا شيء إذ هلكوا
كلهم أجمعون، وقوله تعالى {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ} كقوم نوح وعاد
وثمود والمؤتفكات3 بالخاطئة أي بالأفعال الخاطئة وهي الشرك والمعاصي وبينها بقوله
تعالى بقوله {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} أي
زائدة في الشدة على غيرها وقوله تعالى {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} أي ماء
الطوفان الذي أهلك الله به قوم نوح حملناكم في الجارية أي حملنا آباءكم في الجارية
التي هي سفينة نوح عليه السلام وقوله لنجعلها لكم4 تذكرة أي لنجعل السفينة تذكرة
لكم عظة وعبرة وتعيها أي وتحفظ هذه العظة أذن حافظة لا تنسى ما هو حق وخير من
المعاني.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- بيان أن كلا من عاد وثمود كانوا يكذبون بالبعث وبيان ما أهلكهم الله به.
3-بيان أن معصية الرسول موجبة للعذاب الدنيوي و الأخروي.
4-التذكير بحادثة الطوفان وما فيها من عظة وعبرة.
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ
وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ
الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ
__________
1 هي أشبه بصيحة النفخ في الصور وثمود هم قوم صالح ومنازلهم بالحجر بين الشام
والحجاز وتعرف اليوم بمدائن صالح على أميال من مدينة العلا اليوم. وأما عاد
فمنازلهم كانت بالأحقاف وهي رمال بين عمان وحضرموت باليمن وأهلكوا بريح صرصر.
2 قيل بدأ من صباح يوم الأربعاء لثمان بقين من شوال وكانت في آخر الشتاء.
3 أي المتقلبات من ائتفك الشيء إّذ قلب قراهم الخمسة منع وصعر وعمر ودوما وسدوم
وهي القرية العظمى قلبها الملك فجعل عاليها سافلها.
4 وجائز أن يكون الضمير في ليجعلها عائد إلى العملية عملية إنجاء المؤمنين وإهلاك
الكافرين تذكرة و موعظة.
(16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ
رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا
تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)
شرح الكلمات:
نفخة واحدة : أي النفخة الأولى.
حملت الأرض والجبال :أي رفعت من أماكنها.
فدكتا دكة واحدة :أي ضرب بعضها ببعض فاندكت وصارت كثيبا مهيلا.
وقعت الواقعة : أي قامت القيامة.
فهي يومئذ واهية : أي مسترخية ضعيفة القوة.
على أرجائها : أي على أطرافها وحافاتها.
ثمانية : أي من الملائكة وهم حملة العرش الأربعة وزيد عليهم أربعة.
لا تخفى منكم خافية : أي لا تخفى منكم سريرة من السرائر التي تخفونها.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن القيامة تقريرا لعقيدة البعث و الجزاء التي هي الدافع
إلى فعل الخير وترك الشر في الدنيا فقال تعالى {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ1} أي
نفخ اسرافيل في الصور الذي هو البوق أو القرن النفخة الأولى وهو المراد بقوله
{نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}، وقوله تعالى {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا
دَكَّةً وَاحِدَةً} أي ضرب بعضها ببعض فاندكت فصارت هباء منبثا، {فَيَوْمَئِذٍ
وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} أي قامت القيامة {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ} أي انفطرت
وتمزقت {فهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَة} ضعيفة مسترخية .{وَالْمَلَكُ2عَلَى
أَرْجَائِهَا} أي على أطرافها وحافاتها، {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ
يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} أي ثمانية3 من الملائكة أربعة هم حملة العرش دائما وزيد
عليهم أربعة فصاروا ثمانية قال تعالى {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ4 لا تَخْفَى
مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} أي سريرة مما كنتم تسرون.
__________
1 الفاء تفريعية لتفريع ما بعدها من تفصيل أحوال الدار الآخرة على ما تقدم من ذكر
الحاقة أي القيامة والمكذبين بها وما نالهم من عذاب في الدنيا.
2 الملك اسم جنس المراد به أعداد هائلة من الملائكة.
3 قيل هم ثمانية صفوف، وقيل ثمانية أعشار أي نحو ثمانين من عدد الملائكة. وما في
التفسير هو الراجح الصحيح .
4 أصل العرض إمرار الشيء على من يريد التأمل فيه كعرض السلعة على المشتري
وكاستعراض الجيوش اليوم والمراد بالعرض الحساب والجزاء.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2-بيان كيفية الانقلاب الكوني لنهاية الحياة الأولى وبداية الحياة الثانية.
3-تقرير العرض على الله عز وجل للحساب ثم الجزاء.
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا
كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي
عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ
(24)
شرح الكلمات:
هاؤم :أي خذوا
إني ظننت :أي علمت.
راضية :أي يرضى بها صاحبها.
قطوفها دانية :أي ما يقتطف ويجنى من الثمار.
بما أسلفتم :أي بما قدمتم .
في الأيام الخالية : أي الماضية.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء ببيان ما يجري في يوم القيامة
فقال تعالى 1{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ 2هَاؤُمُ
اقْرَأوا كِتَابِيَهْ3} أي إنه بعد مجيء الرب تبارك وتعالى لفصل
__________
1 الفاء لتفصيل ما أجمل فيما تقدمها من الكلام، وفي الكلام إيجاز بالحذف تقديره
فيؤتى كل آخذ كتاب أعماله فأما من أوتي كتابه .... الخ والباء للمصاحبة في يمينه
وفي إعطاء الكتاب باليمين كرامة وتبشير لصاحبه كقول الشاعر:
إذا ما راية رفعت لمجد
تلقاها عرابة باليمين
2 هاؤم هذا اللفظ وركب من ها ممدود أو مقصور مبني على الفتح ومعناه تعالوا أو خذوا
كما في الرباء ها وهاء أي خذ. يقال ها يا رجل اقرأ وللإثنين هاؤما يا رجلان وهاؤم
يا رجال. وللمرأة هاء بكسر الهمزة وهاؤما للاثنتين وهاؤمن لجمع الإناث والأصل هاكم
فأبدلت الهمزة من الكاف.
3 قيل نزلت هذه الآية فأما من أوتي كتابه بيمينه الخ.... في أبي سلمة بن عبد الأسد
المخزومي والآية التالية لها وأما من أوتي كتابه بشماله نزلت في أخيه الأسود بن
عبد الأسد المخزومي، والمعنى عام في كل سعيد وشقي.
القضاء تعطى الكتب فمن آخذ كتابه بيمينه، ومن آخذ كتابه
بشماله فأما من أوتي كتابه الذي ضم حسناته بيمينه فيقول في فرح عظيم هاؤم أي خذوا
كتابي فاقرأوه إنه مشرق كله ما فيه سواد السيئات، ويعلل لسلامة كتابه1 من السيئات
فيقول إني ظننت أي علمت أني ملاقٍ حسابيه لا محالة فلذا لم أقارف السيئات وإن قدر
على شيء فقارفته جهلا فأني تبت منه فورا فانمحى أثره من نفسي فلم يكتب علي قال تعالى
مخبراً عن آثار نجاحه في سلامة كتابه من السيئات فهو في عيشة راضية. أي يرضاها
لهناءتها وسعة خيراتها في جنة عالية قطوفها2 أي جناحها وما يقتطف منها دانية أي
قريبة التناول ينالها بيده وهو متكئ على أريكته ويقال لهم كلوا واشربوا من طعام
الجنة وشرابها هنيئاً ويذكر لهم سبب فوزهم فيقول {بِمَا أَسْلَفْتُمْ} أي قدمتم
لأنفسكم {فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} أي أيام الدنيا الماضية إذ كانوا مؤمنين
صوامين قوامين بالمعروف آمرن وعن المنكر ناهين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء أي الإيمان باليوم الآخر.
2- آثار الإيمان بالبعث والجزاء ظاهرة في سلامة كتاب المؤمن من السيئات. وقد علل
لذلك بقوله إني ظننت أني ملاق حسابي فلذا لم أعص ربي.
3-إثبات حقيقة هي قول العامة الدنيا مزرعة الآخرة أي من عمل في الدنيا نال ثمار
عمله في الآخرة خيراً أو شراً.
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ
كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ
الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ
(29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي
سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لا
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)
__________
1 كتابيه الهاء فيه وفي الأتي بعده هي هاء السكت عند الوقف إلا أنها أبقيت في
الوصل والوقف مراعاة للسجع ولعلها تحكي صوت صاحبها يوم القيامة زيادة في التقرير
والتوكيد حتى لهجة أحدهم محفوظة لم تتغير.
2 القطوف جمع قطف بكسر القاف وسكون الكاف.
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلا
طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
شرح الكلمات:
يا ليتني لم أوت كتابية : أي يتمنى أنه لم يعط كتابه لما رأى فيه من السيئات.
كانت القاضية : أي الموتة في الدنيا كانت القاطعة لحياتي حتى لا أبعث.
هلك عني سلطانية : أي قوتي وحجتي.
خذوه : أي أيها الزبانية خذوا هذا الكافر.
فغلوه :أي اجعلوا يديه إلى عنقه في الغل.
ثم الجحيم صلوه :أي ثم في النار المحرقة أدخلوه وبالغوا في تصليته كالشاة المصلية.
حميم :أي من قريب ينفعه أو صديق.
إلا من غسلين :أي صديد أهل النار الخارج من بطونهم لأكلهم شجر الغسلين.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر ما يجري من أحداث وقد
تقدم ذكر الذي أوتي كتابه1بيمينه وما له من كرامة عند ربه وفي هذه الآيات ذكر الذي
أوتي كتابه بشماله وما له من مهانة وعذاب جزاء كفره فقال تعالى {وَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتَابَهُ}2 أي في عرصات القيامة فيقول بعد النظر فيه وما يلوح له فيه من
السيئات { يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} يتمنى لو أنه لم يعط كتابه ولم
يدر3 ما حسابه وأن الموتة التي ماتها في الدنيا يتمنى لو كانت القاطعة لحياته حتى
لا يبعث، ثم يواصل تحسره وتحزنه قائلا {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} أي مالي
والهاء في ماليه وفي كتابيه وحسابيه وفي ماليه وسلطانيه يقال لها هاء السكت يوقف
عليها بالسكون قراءة كافة القراء وقوله {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} أي ذهبت عني
حججي4 فلم أجد ما أحتج به لنفسي قال تعالى للزبانية
__________
1 تقدم أنه أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي وزوجته هي أم المؤمنين تزوجها رسول
الله صلى الله عليه وسلم بعد موت زوجها أبي سلمة وإن الشقي هو الأسود بن عبد الأسد
أخو أبي سلمة.
2 أي بشماله ووراء ظهره وهو كتاب سيئاته من الشرك والمعاصي كبيرها وصغيرها.
3 هذا من عظم ما يشاهد من شدة الحساب وشناعته هذا داخل في حيز متمناتيه، كما هو
إشارة إلى أنه كان في الدنيا لا يؤمن بالحساب ولم يدر ما يجري فيه ولذا اصابته
الحيرة هنا وألم به الكرب.
4 عن أبن عباس رضي الله عنهما.
{خُذُوهُ1 فَغُلُّوهُ} أي شدوا يديه في عنقه بالغل
{ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ2} أي أدخلوه فيها وصلوه بحرها المرة بعد المرة كما
يصلى الكبش المشوى المصلي، {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ} طويلة {ذَرْعُهَا سَبْعُونَ
ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} ولم يعرف مدى طول هذه الذراع إلا انه إذا كان الكافر ما
بين كتفيه كما بين مكة وقديد قرابة مائة وخمسين ميلا فإن السلسلة في ذرعها السبعين
ذراعا لابد وأن تكون مناسبة لهذا الجسم {فَاسْلُكُوهُ} أي ادخلوه فيهل فتدخل من
فمه وتخرج من دبره كسلك الخرزة في الخيط وذكر تعالى علة هذا الحكم عليه فقال
{إِنَّهُ كَانَ} أي في الدنيا {لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ
عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ3} فانحصرت جريمته في شيئين الكفر بالله ومنع الحقوق
الواجب في المال ثم أخبر تعالى عن حال هذا الكافر الشقي في جهنم فقال {فَلَيْسَ
لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا} أي في جهنم {حَمِيمٌ4} أي صديق أو قريب ينتفع به فيدفع
عنه العذاب أو يخففه {وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ5} أي وليس له طعام يأكله
إلا من طعام الغسلين الذي هو صديد أهل النار فإنهم عندما يأكلون شجر الغسلين يكون
كالمسهل في بطونهم فيخرج كل ما في بطونهم وذلك هو الغسلين الذي يأكلونه ذلك
الغسلين الذي لا يأكله إلا الخاطئون أي الذين ارتكبوا خطيئة الكفر والعياذ بالله
تعالى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحداثها.
2-المال الذي باع المفلسون فيه الأمة والملة لا يغني يوم القيامة عن صاحبه شيئا.
3-التنديد بالكفر بالله وأهله.
4-عظم جريمة منع الحقوق المالية من الزكاة وغيرها.
__________
1 خذوه مقول قول ذكر في التفسير وغلوه أمر من غله يغله إذا وضع الغل وهو القيد
الذي يجعل في عنق الجاني.
2 صلى النار يصلاها إذا أصابه حرها أو استدفأ بها، ويعدى بالتضعييف فيقال صلاه
النار وبالهمز أيضاً أصلاه يصليه ناراً.
3 الطعام بمعنى الإطعام وضع موضعه كوضع العطاء موضع الإعطاء كما في قول الشاعر:
أكفراً بعد رد الموت عنى
وبعد عطائك المائه الرتاعا
الرتاع الإبل ترتع
4الحميم هنا الغريب الذي يرق له ويدفع عنه المكروه ،وهو مأخوذ من الماء الجار كأنه
الصديق الذي يرق ويحترق قلبه له.
5 الغسلين فعلين مأخوذ من الغسل كأنه ينغسل في أبدانهم وهو صديد أهل النار السائل
من جروحهم وخروجهم قال الضحاك :الغسلين شجر وهو شر الطعام وأبشعه وهو من أطعمة أهل
النار مثل الضريع والزقوم وبناء على ما ذكر أن الغسلين مجموع شجر اسمه الغسلين وما
تجمع من صديد أهل النار من دم وعرق ونحوه فصدق عليه لفظ الغسلين وهذا من إعجاز
القرآن البلاغي.
فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لا
تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ
شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا
تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ
عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ
لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ
(47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ
مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
شرح الكلمات:
بما تبصرون وما لا تبصرون :أي بكل مخلوق في الأرض وفي السماء.
انه لقول رسول كريم :أي القرآن قاله تبليغا رسول كريم هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وما هو بقول كاهن :أي ليس القرآن بقول كاهن إذ ليس فيه من سجع الكهان شيء.
لأخذنا منه باليمين :أي بالقوة أو لأخذنا بيمينه لنقتله.
ثم لقطعنا منه الوتين :أي نياط القلب الذي إذا انقطع مات الإنسان.
حاجزين :أي مانعين وهو خبر ما النافية العاملة عمل ليس وجمع لأن احد يدل على الجمع
نحو لا نفرق بين أحد من رسله وبين لا تقع إلا بين اثنين فأكثر.
وإنه لحسرة على الكافرين :أي التكذيب بالقرآن حسرة يوم القيامة على المكذبين به.
وإنه لحق اليقين :أي الثابت يقينا أو اليقين الحق.
فسبح باسم ربك العظيم1 :أي نزه ربك العظيم الذي كل شيء أمام عظمته صغير حقير أي قل
سبحان ربي العظيم.
__________
1 الباء للمصاحبة والزيادة لتقوية الكلام والتقدير سبح اسم ربك والتقدير نزه اسم
ربك في أن يسمى به غيره إذ سمى المشركون العزى بدل العزيز واللات بدل الله وجائز
أن يكون اسم مقحماً والتقدير فسبح ربك أي نزهه عن الشريك والشبيه وعن كل نقص وهو
العظيم الذي ليس شيء أعظم منه .
معنى الآيات:
قوله تعالى فلا أقسم1 بما تبصرون وما لا تبصرون أي فلا2 الأمر كما ترون وتقولون
أيها المكذبون أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون من المخلوقات في الأرض وفي السماوات
إنه أي القرآن لقول رسول كريم على ربه تعالى وهو محمد صلى الله عليه وسلم أي إنه
تبليغه وقوله إليكم وما هو بقول شاعر. كما تقولون كذباً قليلا ما تؤمنون3 أي أن
إيمانكم قليل ضيق الدائرة فلو كان واسعاً لاتسع للإيمان بالقرآن إنه كلام الله
ووحيه وليس هو من جنس الشعر لمخالفته له نظماً ومعنىً. وما هو بقول كاهن قليلا ما
تذكرون أي وليس القرآن بقول كاهن قليلا ما تذكرون أي تذكركم قليل جدا فلو تذكرتم
كثيرا لعلمتم أن القرآن ليس بكلام الكهان لملازمته للصدق والحق والهدى ولبعد قائله
عن الإثم و الكذب بخلاف قول الكهان فإن سداه ولحمته الكذب وقائله هو الإثم كله
فأين القرآن من قول الكهان؟ وأين محمد الرسول من الكهان إخوان الشيطان إنه تنزيل
من رب العالمين أيها المكذبون الضالون. وأمر آخر وهو أن الرسول محمد صلى الله عليه
وسلم ولو تقول4 علينا بعض الأقاويل ونسبها إلينا لأخذنا منه باليمين أي لبطشنا به
وأخذنا بيمينه ثم لقطعتا منه الوتين فيهلك إذ الوتين هو عرق القلب إذا قطع مات
الإنسان وإذا فعلنا به هذا فمن منكم يحجزنا عنه؟ وهو معنى قوله تعالى {فَمَا
مِنْكُمْ5 مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} وقوله تعالى {وَإِنَّهُ} أي القرآن
{لَتَذْكِرَةٌ6} أي موعظة عظيمة للمتقين7 الذين يخافون عقاب الله ويخشون نقمه
وعذابه وإنا لنعلم أن 8منكم أيها الناس مكذبين ليس بخاف عنا أمرهم وسنجزيهم وصفهم
وإنه لحسرة9 على الكافرين أي يوم القيامة عندما يرون المؤمنين به يؤخذ بهم ذات
اليمين إلى دار السلام والمكذبين به يؤخذ بهم ذات الشمال إلى دار
__________
1 الفاء للتفريع لإثبات أن القرآن منزل من عند الله تعالى ونفي ما ادعاه المشركون.
2 هذا بناء على أن لا رد لكلام سابق وليست زائدة وكونها زائدة لتأكيد الكلام أولى
من كونها نافية، إذ وجدت في فاتحة سورتي القيامة والبلد وليس قبلهما ما ينفي كأنه
يقول لا أقسم لأن الأمر لا يحتاج إلى قسم كالمتحرج من الإقسام.
3 جائز أن يكون لفظ قليلا في الموضعين مراداً به انتفاء ذلك كلية لأنه وقع بقلة،
وقليلاً صفة لموصوف محذوف أي إيماناً قليلاً، وتذكراً قليلاً، وما مزيدة لتوكيد
الكلام كما في قول الشاعر:
قليلاً به ما يحمدنك وارث
إذا نال مما كنت تجمع مغنماً
4 التقول نسبة قول إلى من لم يقله، والأقاويل جمع أقوال الذي هو جمع قول.
5 من مزيدة لتأكيد النفي وللتنصيص على العموم وفي الآية دليل أن من يدعي أنه يوحى
إليه لا يلبث طويلاً حتى يأخذه الله تعالى.
6 التذكرة اسم مصدر بمعنى التذكير وهو التنبيه إلى مغفول عنه.
7 خص المتقون لأنهم هم المنتفعون به لاستعدادهم بقوة إيمانهم وصحة علمهم وكمال
رغبتهم في الطاعة.
8 في الكلام إيجاز والتقدير إنا بعثنا إليكم الرسول بهذا القرآن ونحن نعلم أنه
سيكون منكم مكذبون.
9 جائز أن يكون الضمير عائداً على التكذيب إذ به كانت حسرة الكافرين يوم القيامة
وجائز أن يكون عائداً على القرآن لأنهم لم يؤمنوا به ويعملوا بما دعا إليه من
الإيمان وصالح الأعمال.
البوار. وإنه لحق اليقين1 أي اليقين الحق. بعد هذا
التقرير في إثبات الوحي والنبوة أمر تعالى رسوله الذي كذب برسالته المكذبون أمره
أن يستعين على الصبر بذكر الله تعالى فقال له {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الْعَظِيمِ} أي قل سبحان ربي العظيم منزها اسمه عن تحريفه وتسمية المحدثات به
معظما ربك غاية التعظيم إذ هو العلي العظيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1-لله تعالى أن يحلف بما يشاء من مخلوقاته لحكم عالية وليس للعبد أن يحلف بغير
الرب تعالى.
2-تقرير الوحي وإثبات النبوة المحمدية.
3-وصف الرسول بالكرم وبكرامته على الرب تعالى.
4-عجز الرسول صلى الله عليه وسلم عن الكذب على الله تعالى وعدم قدرته على ذلك لو
أراده ولكن الذي لا يكذب على الناس لا يكذب على الله كما قال هرقل ما كان ليدع
الكذب على الناس ويكذب على الله رداً على أبي سفيان لما قال له لم نجرب عليه كذبا
قط..
5-مشروعية التسبيح بقول سبحان ربي العظيم إن صح أنه لما نزلت قال النبي صلى الله
عليه وسلم لأصحابه اجعلوها في ركوعكم فكانت سنة مؤكدة سبحان ربي العظيم ثلاثا في
الركوع أو أكثر.
__________
1 أي القرآن الكريم بلا خلاف.
سورة المعارج
...
سورة المعارج
مكية وآياتها أربع و أربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)
مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ
فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً
جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَرَاهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ
تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ
(8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْأَلُ
حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ
عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ
الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ
وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
شرح الكلمات:
سأل سائل : أي دعا داع بعذاب واقع.
ليس له دافع من الله :أي فهو واقع لا محالة.
ذي المعارج : أي ذي العلو والدرجات ومصاعد الملائكة وهي السموات.
تعرج الملائكة والروح إليه :أي تصعد الملائكة وجبريل إلى الله تعالى.
في يوم كان مقداره خمسين :أي تصعد الملائكة وجبريل من منتهى أمره من أسفل الأرض
ألف سنة السابعة إلى منتهى أمره من فوق السموات السبع في يوم مقداره خمسون ألف
سنة بالنسبة لصعود غير الملائكة من الخلق.
إنهم يرونه بعيداً: أي العذاب الذي يطالبون به لتكذيبهم وكفرهم بالبعث.
يوم تكون السماء كالمهل :أي كذائب النحاس.
وتكون الجبال كالعهن: أي كالصوف المصبوغ ألوانا في الخفة والطيران بالريح.
ولا يسأل حميم حميما :أي قريب قريبه لانشغال كل بحاله.
يبصرونهم :أي يبصر الأحماء بعضهم بعضا ويتعافون ولا يتكلمون.
وصاحبته :أي زوجته.
وفصيلته التي تؤويه :أي عشيرته التي تضمه إليها نسباً وتحميه من الأذى عند الشدة.
إنها لظى نزاعة للشوى1 :أي إن جهنم هي لظى نزاعة للشوى جمع شواة جلدة الرأس.
أدبر وتولى :أي عن طاعة الله ورسوله وتولى عن الإيمان فأنكره وتجاهله.
__________
1 قرأ نافع والجمهور برفع نزاعة وقرأ حفص بنصها.
وجمع فأوعى:أي جمع المال وجعله في وعاء ومنع حق الله
تعالى فيه فلم ينفق منه في سبيل الله.
معنى الآيات:
قوله تعالى {سَأَلَ1 سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} هذه الآيات نزلت رداً على دعاء
النضر بن الحارث ومن وافقه اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من
السماء أو إئتنا بعذاب أليم فأخبر تعالى عنه بقوله {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ2
وَاقِعٍ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ} أي إنه واقع لا محالة
إذ ليس له دافع من الله {ذِي الْمَعَارِجِ} أي صاحب العلو والدرجات ومصاعد
الملائكة وهي السموات وقوله تعالى {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}
أي 3تصعد الملائكة وجبريا إليه تعالى {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ
أَلْفَ سَنَةٍ} أي يصعدون من منتهى أمره من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمره من
فوق السموات السبع في يوم مقداره خمسون ألف سنة بالنسبة لصعود غير الملائكة من
الخلق {فَاصْبِرْ4 صَبْراً جَمِيلاً5} وقوله تعالى {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً
وَنَرَاهُ قَرِيباً} يعني أن المشركين المكذبين يرون العذاب بعيدا لتكذيبهم بالبعث
الأخر. ونحن نراه قريبا ويبين تعالى وقت مجيئه فقال {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ
كَالْمُهْلِ} أي تذوب فتصير كذائب النحاس {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} أي
الصوف المصبوغ خفة وطيرانا بالريح وهذا هو الانقلاب الكوني حيث فني كل شيء ثم يعيد
الله الخلق فإذا الناس في عرصات القيامة واقفون حفاة عراة {لا يَسْأَلُ حَمِيمٌ
حَمِيماً} لانشغال كل بنفسه كما قال تعالى {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ
شَأْنٌ يُغْنِيهِ} عن السؤال عن غيره أو عن سؤال غيره وقوله تعالى
{يُبَصَّرُونَهُمْ} أي عدم سؤال بعضهم بعضا ليس ناتجا عن عدم معرفتهم لبعضهم بعضا6
لا بل يبصرهم ربهم بهم فيعرف كل قريب قريبه ولكن اشتغاله بنفسه يحول دون سؤال
غيره، ويشرح هذا المعنى قوله تعالى يود المجرم أي ذو الإجرام على نفسه بالشرك
والمعاصي لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه أي أولاده الذكور ففضلا عن الإناث وصاحبته
أي زوجته وأخيه وفصيلته التي تؤويه بأن تضمه إلى نسبها والفصيلة العشيرة انفصلت
__________
1 قرأ نافع سال بدون همزة تخفيفا وقرأ حفص سأل بالهمزة على الأصل.
2 وإن كانت الباء في بعذاب بمعنى عم فيكون السائل سأل عن العذاب لمن يقع أو متى
يقع كقوله تعالى { فاسأل به خبيراً} أي عنه خبيراً وكقول الشاعر:
فإن تسألوني بالنساء فإنني
بصير بأدواء النساء طبيب
ومن بلاغة القرآن تعدية سأل بالباء ليكون صالحاً للاستفهام والدعاء والاستعجال.
3 هذا العروج كائن يوم القيامة وهو اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة.
4 الفاء للتفريع إذ سبق أن السائل بالعذاب كان مستهزئاً مستخفاً فلذا أمر الله
رسوله بالصبر الجميل على ما يقوله المشركون.
5 الجملة تعليلية لكل من جملة سأل سائل بعذاب وللأمر بالصبر.
6 قرأ نافع يومئذ بفتح يومئذ وقرأ الجمهور بكسرها بإضافة عذاب إليها.
من القبيلة ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه لنتصور عذابا
يود المجرم من خوفه منه أن يفتدي بكل شيء في الأرض كيف يكون؟ ومن هنا يرى القريب
قريبه ولا يسأله عن حاله لانشغال نفسه عن نفس غيره. وقوله تعالى {كَلَّا1} أي لا
قرابة يومئذ تنفع ولا فداء يقبل {إِنَّهَا} أي جهنم {لَظَى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى}
أي لجلدة الرأس ولكل عضو غير قاتل للإنسان إذا نزع منه. تدعو أي جهنم المسماة لظى
تدعو تنادي إلي إلي يا من أدبر عن طاعة الله ورسوله وتركها ظهره فلم يلتفت إليها
وتولى عن الإيمان فلم يطلبه تكميلا له ليصبح إيمانا يحمله على الطاعات وجمع
الأموال فأوعاها في أوعية2 ولم يؤد منها الحقوق الواجبة فيها من زكاة وغيرها إذ في
المال حق غير الزكاة. ومن دعته جهنم دفع إليها دفعاً كما قال تعالى {يَوْمَ
يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} نعوذ بالله من جهنم وموجباتها من الشرك
والمعاصي.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمة سؤال العذاب فإن عذاب الله لا يطاق ولكن تسأل الرحمة والعافية.
2-وجوب الصبر على الطاعة وعلى البلاء فلا تسخط ولا تجزع.
3-تقرير عقيدة البعث والجزاء.
4-عظم هول الموقف يوم القيامة وصعوبة الحال.
5- التنديد بالمعرضين عن طاعة الله ورسوله الجامعين للأموال المشتغلين بها حتى
سلبتهم الإيمان والعياذ بالله فأصبحوا يشكون في الله وآياته ولقائه.
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20)
وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ
هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ
مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ
الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ
عَذَابَ
__________
1 كلا حرف ردع وإبطال لكلام سابق.
2 ومنه الحديث "لا توعى فيوعى عليك" أي لا تمسكي عن الإنفاق فيمسك عليك.
رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ
(32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى
صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
شرح الكلمات:
إن الإنسان خلق هلوعا :أي إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا أي كثير الجزع
سريعه وكثير المنع حريصا عليه.
على صلاتهم دائمون :أي لا يقطعونها أبداً ما داموا أحياء يعقلون.
حق معلوم :أي نصيب معين عينه الشارع وهو الزكاة.
للسائل والمحروم: أي الطالب الصدقة والذي لا يطلبها حياء وتعففا.
يصدقون بيوم الدين: أي يؤمنون بيوم القيامة للبعث والجزاء.
مشفقون: أي خائفون متوقعون العذاب عند المعصية.
لفروجهم حافظون: أي صائنون لها عن النظر إليها وعن الفاحشة.
أو ما ملكت أيمانهم: أي من السريات من الجواري التي يملكونها.
فأولئك هم العادون: أي المعتدون الظالمون المتجاوزون الحلال إلى الحرام.
لأماناتهم: أي ما ائتمنوا عليه من أمور الدين والدنيا.
راعون : أي حافظون غير مفرطين.
قائمون: أي يقيمون شهاداتهم لا يكتمونها ولا يحرفونها.
يحافظون: أي يؤدونها في أوقاتها في جماعات مع كامل الشروط والأركان والواجبات
والسنن.
معنى الآيات:
قوله تعالى إن الإنسان أي هذا الآدمي المنتصب القامة الضاحك الذي سمي بالإنسان
لأنسه
بنفسه ورؤية محاسنها ولنسيانه واجب شكر ربه هذا الإنسان
خلق هلوعاً قابلا لوصف الهلع فيه عند بلوغه سن التمييز والهلع مرض نفسي عرضه الذي
يعرف به جزعه الشديد متى مسه الشر، ومنعه القوي للخير متى مسه وظفر به. فقد فسر
تعالى الهلع بقوله، {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ
مَنُوعاً}. ثم ذكر تعالى ما يعالج به هذا المرض باستثنائه من جنس الإنسان من
يتصفون بالصفات الآتية وهي عبارة عن عبادات شرعية بعضها فعل وبعضها ترك من شأنها
القضاء على هذا المرض الخطير المسمى بالهلع والذي لا يعالج إلا بما وصف تعالى في
قوله:
1) إدامة الصلاة بالمواظبة عليها ليل نهار إذ قال تعالى {إِلَّا الْمُصَلِّينَ1
الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ2} وبشرط أن تؤدى إيمانا واحتسابا
وأداءً صحيحا بمراعاة شروطها وأركانها وسننها.
2) الاعتراف بما أوجب الله في المال من حق وإعطاء ذلك الحق بطيب نفس لمن سأل ولمن
لم يسأل ممن هم أهل الزكاة والصدقات لقوله {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ
مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}.
3) التصديق الكامل بيوم القيامة وهو البعث والجزاء لقوله تعالى {وَالَّذِينَ
يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ}.
4) الاشفاق والخوف من عذاب الله عند عروض خاطر المعصية بترك واجب أو فعل محرم
لقوله تعالى {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} أي دائما
وأبداً لأن عذاب ربهم غير مأمون الوقوع.
5) حفظ الفرج بستره عن أعين الناس ما عدا الزوج وصيانته من فاحشة الزنا واللواط
وجلد عميرة أي الاستمناء باليد والمعروف اليوم بالعادة السرية لقوله تعالى
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} من السراري {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
مَلُومِينَ} في إتيانهم أزواجهم وجواريهم اللائي ملكوهن بالجهاد أو الشراء الشرعي
وقوله تعالى {فَمَنِ ابْتَغَى} أي طلب ما وراء الزوجة والسرية {فَأُولَئِكَ هُمُ
الْعَادُونَ} أي الظالمون الذين تجاوزا الحلال إلى الحرام فكانوا بذلك معتدين
ظالمين.
6) حفظ الأمانات و العهود ومن أبرز الأمانات وأقوى العهود ما التزم به العبد من
عبادة الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله والوفاء بذلك حتى الموت زيادة على أمانات
الناس والعهود لهم الكل واجب الحفظ والرعاية لقوله {وَالَّذِينَ هُمْ
لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} أي حافظون.
__________
1 الاستثناء منقطع أي لكن المصلين الذين وصفهم كيت وكيت وهي ثمان صفات وهي صفات
المؤمنين الصادقين.
2 الدوام على الشيء عدم تركه وذلك في كل عمل بحسب ما يعتبر دواماً فيه.
7) إقامة الشهادة بالاعتدال فيها بحيث يؤديها ولا يكتمها
ويؤديها قائمة لا اعوجاج فيها لقوله تعالى {وَالَّذِينَ هُمْ1 بِشَهَادَاتِهِمْ
قَائِمُونَ}.2
8) المحافظة على الصلوات الخمس مستوفاة الشروط والأركان من الخشوع إلى الطمأنينة
في الركوع و السجود و الاعتدال في القيام لقوله تعالى {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى
صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} بعد أدائها وعدم قطعها بحال من الأحوال.
فهذه الوصفة الربانية متى استعملها الإنسان المؤمن تحت إشراف عالم رباني إن وجده
وإلا فتطبيقها بدون إشراف ينفع بأذن الله متى اجتهد المؤمن في حسن تطبيقها برىء من
ذلك المرض الخطير وأصبح أهلا إكرام الله تعالى في الدار الآخرة قال تعالى في ختام
هذه الوصفة {أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ3} أي أولئك المطبقون لهذه الوصفة
الناجحون فيها {فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} في جوار ربهم اللهم اجعلنا منهم يا غفور
يا رحيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بين شر صفات الإنسان وأنها الهلع.
2-بيان الدواء لهذا الداء داء الهلع الذي لا فلاح معه ولا نجاح.
3-انحصار العلاج في ثماني صفات أو ثماني مركبات دوائية.
4- وجوب العمل بما اشتملت عليه الوصفة من واجبات.
5-حرمة ما اشتملت عليه الوصفة من محرمات.
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ
الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ
نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ
بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ
نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ
__________
1 قرأ نافع شهادتهم بالإفراد وقرأ حفص شهاداتهم بالجمع وقراءة الإفراد بمعنى الجمع
لأن شهادة اسم جنس تدل على متعدد.
2 القيام بالشهادة: الاهتمام بها وحفظها إلى أن تؤدى.
3 والإكرام: التعظيم وحسن اللقاء أي هم مع جزائهم بالجنات يكرمون بحسن اللقاء
والثناء. في جنات خبر أولئك ومكرمون خبر ثان.
وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا
وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ
يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا
يُوعَدُونَ (44)
شرح الكلمات:
قبلك مهطعين؟ :أي نحوك مديمي النظر إليك.
عزين :أي جماعات حلقا حلقا يقولون في استهزاء بالمؤمنين لئن دخل هؤلاء الجنة
لندخلها قبلهم.
إنا خلقناهم مما يعلمون : أي من مني قذر وإنما يستوجب دخول الجنة بالطاعات المزكية
للنفوس.
على أن نبدلهم خيرا منهم : أي إنا لقادرون على أن نهلكهم ونأتي بأناسٍ خير منهم.
وما نحن بمسبوقين : أي بعاجزين عن إيجاد ما ذكرنا من إهلاك القوم والإتيان بخير
منهم.
يوم يخرجون من الأجداث :أي من القبور مسرعين إلى المحشر.
سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون : أي كأنهم في إسراعهم إلى المحشر إلى نصب أي شيء
منصوب كراية أو علم يسرعون.
ترهقهم ذلة : أي تغشاهم ذلة.
ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون :أي يوعدون بالعذاب فيه وهو يوم القيامة.
معنى الآيات:
قوله تعالى فما للذين1 كفروا قبلك مهطعين يخبر تعالى مقبحا سلوك المشركين إزاء
رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول ما للذين كفروا من كفار مكة قبلك أي جهتك حيث كنت
في المسجد الحرام مهطعين أو مسرعين مديمي النظر إليك عن اليمين وعن الشمال عزين أي
عن يمينك وعن شمالك عزين جمع عزة أي جماعة فهم حلق حلق يستمعون إلى قراءتك بحثا عن
كلمة يمكنهم أن يشنعوا بها عليك ويجعلونها مطعنا في دعوتك أي سخرية يسخرون بها وبك
ويقولون استهزاء بالمؤمنين لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلنها قبلهم فرد تعالى عليهم
منكرا طمعهم الفارغ بقوله {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ2
__________
1 الاستفهام إنكاري تعجبي من تجمع المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستهزئين
بما يسمعون من وعد المؤمنين بالجنة ووعيد المشركين بالنار، ومعنى الآية أي شيء ثبت
للذين كفروا في حال إهطاعهم إليك.
2 هذه الجملة بدل اشتمال من جملة فما للذين كفروا.
مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} أي بستان إكرام
وتنعم كلا لن يتم هذا لهم ولن يكون وهم أنجاس الأرواح بالشرك والمعاصي، ولفت النظر
إلى أصل الخلقة وهي المني القذر والقذر لا يدخل دار السلام فمن أراد الجنة فليزك
نفسه وليطهرها بالإيمان والعمل الصالح مبعداً لها عما يدسيها من الشرك والمعاصي
وهو ما تضمنه قوله تعالى {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ1 مِمَّا يَعْلَمُونَ} وقوله عز وجل
{فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} أي فلا الأمر كما يتصورون من
أنهم لا يبعثون بعد موتهم أقسم برب المشارق الثلاثمائة والستين مشرقا ومغربا حيث
الشمس تطلع كل يوم في مطلع وتغرب في آخر لا تعود إليه إلا بعد سنة في مثل ذلك اليوم
فأقسم تعالى بنفسه، والمقسم عليه قوله {إِنَّا لَقَادِرُونَ} أي على أن نهلكهم
ونأتي بخير منهم {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي عاجزين عن ذلك فكيف إذاً لا
نعيدهم أحياء بعد موتهم يوم القيامة {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى
يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} أي أمر تعالى رسوله أن يتركهم وما يخوضون
فيه من اللهو واللعب والباطل في القول والعمل، وهو تهديد خفي لهم {حَتَّى
يُلاقُوا} على ما هم عليه من أدران الشرك وأوضار المعاصي يوهم الذي يوعدون بالعذاب
فيه وهو يوم القيامة وشرح حال اليوم فقال يوم يخرجون من الأجداث أي القبور جمع جدث
سراعاً أي مسرعين كأنهم إلى نصب2 أي شيء منصوب من راية أو علم أو تذكار يوفضون أي
يحشرون مسرعين حال كون أبصارهم خاشعة أي ذليلة من الفزع والخوف ترهقهم ذلة أي
تغشاهم ذلة عجيبة عظيمة. وقوله تعالى {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}
أي هذا هو اليوم الذي كانوا يوعدون بالعذاب فيه وهو يوم القيامة الذي أنكروه
وكذبوا به هاهو ذا قد حصل فليتجرعوا غصص الندم وألوان العذاب.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان الحال التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة بين ظهراني قريش
وما كان يلاقي من أذاهم.
2- بيان أن الجنة تدخل بالطهارة الروحية من قذر الشرك والمعاصي وإلا فأصل الناس
واحد المني القذر باستثناء آدم وحواء وعيسى فآدم أصله الطين وحواء خلقت من ضلع
آدم، وعيسى كان بنفخ روح القدس في كم درع مريم فكان بكلمة الله تعالى ومن عدا
الثلاثة فمن ماء مهين ونطفة قذرة.
__________
1 في قوله تعالى {إنا خلقناهم مما يعلمون} ازدراء بهم وتهكم من حالهم إذ يجادلون
ويعاندون وهم مخلوقون من نطفة مذرة.
2 النصب بفتح النون وسكون الصاد: الصنم قرأ نافع نصب بفتح وسكون وقرأ حفص نصب بضم
كل من النون والصاد والمعنى واحد وهو الصنم قال الشاعر:
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه
لعافية والله ربك فاعبدا
3- الاستدلال بالنشأة الأولى على إمكان الثانية.
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
5- بيان أن حياة أهل الكفر مهما تراءى لهم ولغيرهم أنها حياة مدنية سعيدة لم تعد
كونها باطلا ولهوا ولعباً.
سورة نوح
مكية وآياتها ثمان وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ
مُبِينٌ (2)
أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا
جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
شرح الكلمات:
إنا أرسلنا نوحا إلى قومه :أي أهل الأرض كافة والدليل إغراقهم أجمعين.
أن أنذر قومك : أي بإنذار قومك.
إني لكم نذير مبين : أي بين النذارة ظاهرها.
أن اعبدوا الله :أي وحده بفعل محابه وترك مكارهه ولا تشركوا به شيئا.
واتقوه :فلا تعصوه بترك عبادته ولا بالشرك به.
وأطيعون : فيما آمركم به وأنهاكم عنه لأني مبلغ عن الله ربي وربكم.
يغفر لكم من ذنوبكم :أي ذنوبكم التي هي الشرك والمعاصي فمن زائدة لتقوية الكلام أو
هي تبعيضية لأن ما كان حقا لآدمي كمال وعرض لا يغفر إلا بالتوبة.
ويؤخركم إلى أجل مسمى :أي إلى نهاية آجالكم المسماة لكم في كتاب المقادير فلا يعجل
لكم بالعذاب.
إن أجل الله :أي بعذابكم.
لايؤخر :إن لم تؤمنوا.
لو كنتم تعلمون :أي لآمنتم.
معنى الآيات:
قوله تعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} 1 يخبر تعالى لافتاً نظر
منكري رسالة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش وكفار مكة أن محمداً رسول
الله ليس بأول رسول حتى تنكر رسالته، كما أن السورة بجملتها فيها تسلية لرسول الله
صلى الله عليه وسلم مما يلاقي من مشركي قومه إذ نوح عليه السلام قد لاقى ما هو أشد
وأطول مدة والآيات ناطقة بذلك وقوله تعالى {أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} أي أرسلناه
بإنذار قومه من قبل أن يأتيهم عذاب أليم2 هو عذاب الدنيا بالاستئصال وعذاب الآخرة
بالاستمرار والدوام. وقوله تعالى {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ
مُبِينٌ} أي امتثل نوح أمر ربه وقال لقومه يا قوم إني لكم نذير مبين أي مخوف من
عواقب كفركم بالله وشرككم به. {أَنِ اعْبُدُوا3 اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ}
اعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا واتقوه فلا تعصوه بترك عبادته ولا بالشرك به،
وأطيعون فيما آمركم به وأنهاكم عنه لأني مبلغ عن الله ربي وربكم ولا آمركم إلا بما
يكملكم ويسعدكم ولا أنهاكم إلا عما يضركم ولا يسركم فإن تجيبوا لما دعوتكم إليه
يغفر لكم4 من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى أي إلى نهاية آجالكم فلا يعاجلكم
بالعقوبة {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ} أي بعذابكم إذا جاء لا يؤخر {لَوْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ5} أي لو علمتم ذلك لأنبتم إلى ربكم فتبتم إليه واستغفرتموه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية إذ الذي أرسل نوحاً يرسل محمداً صلى الله عليه وسلم ومن
شاء إلى من شاء.
2- تقرير التوحيد إذ نوح أرسل إلى قوم مشركين لإبطال الشرك وتحقيق التوحيد.
3-تقرير معتقد القضاء والقدر لقوله {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} أي في
كتاب المقادير.
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ
دُعَائي إِلَّا فِرَاراً (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ
جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ
__________
1 نوح هو ابن لامك بن متوشلخ بن أختون وهو إدريس بن برد بن مهلايل بن أنوش ابن
قينان بن شيت بن آدم عليه السلام.
2 جائز أن يكون العذاب في الدنيا وان يكون عذاب النار يوم القيامة.
3 أن مفسرة كالتي في قوله أن أنذر قومك.
4 جائز أن يكون من زائدة لتقوية الكلام وأن تكون تبعيضية إذ بعض الذنوب لا تغفر
إلا بالتحلل من أصحابها وهي حقوق الآدميين.
5 روى أنهم كانوا يضربونه حتى يغشى عليه فيقول: رب أغفر لقومي فأنهم لا يعلمون.
فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا
وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً (8) ثُمَّ
إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً (9) فَقُلْتُ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ
عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ
لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً (12) مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ
لِلَّهِ وَقَاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ
خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ
نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
نَبَاتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً (18) وَاللَّهُ
جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً
(20)
شرح الكلمات:
ليلا ونهارا :أي دائما باستمرار.
إلا فرارا : أي مني ومن الحق الذي ادعوهم إليه وهو عبادة الله وحده.
جعلوا أصابعهم في آذانهم :أي حتى لا يسمعوا ما أقول لهم.
واستغشوا ثيابهم :أي تغطوا بها حتى لا ينظروا إلى ولا يروني.
وأصروا :على باطلهم وما هم عليه من الشرك.
يرسل السماء عليكم مدرارا : أي ينزل عليكم المطر متتابعا كلما دعت الحاجة إليه.
ويجعل لكم جنات :أي بساتين.
مالكم لا ترجون لله وقارا :أي لا تخافون لله عظمته وكبرياءه وهو القاهر فوق عباده.
وقد خلقكم أطوارا : أي حالا بعد حال فطورا نطفة وطورا علقة وطورا مضغة.
وجعل الشمس سراجا :أي مضيئة.
أنبتكم من الأرض نباتا :أي أنشأكم من تراب الأرض.
ثم يعيدكم فيها :أي تقبرون فيها.
ويخرجكم إخراجا :أي يوم القيامة.
سبلا فجاجا : أي طرقا واسعة.
معنى الآيات:
هذه الآيات تضمنت لوحة مشرقة يهتدي بضوئها الهداة الدعاة إلى الله عز وجل إذ هي
تمثل عرض حال قدمه نوح لربه عز وجل هو خلاصة دعوة دامت قرابة تسعمائة وخمسين سنة
ولنصغ إلى نوح عليه السلام وهو يشكوا إلى ربه ويعرض عليه ما قام به من دعوة إليه
فقال {رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي} وهم أهل الأرض كلهم يومئذ {لَيْلاً
وَنَهَاراً} أي بالليل وبالنهار إذ بعض الناس لا يمكنه الاتصال بهم إلا ليلا
{فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي}1 إياهم إلى الإيمان بك وعبادتك وحدك {إِلَّا
فِرَاراً} مني2 ومما أدعوهم إليه وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم بأن يستغفروك ويتوبوا
إليك لتغفر لهم {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} حتى لا يسمعوا ما أقول
لهم، {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} أي تطغوا بها حتى لايروني ولا ينظروا إلى وجهي
كراهة لي وبغضا في {وَأَصَرُّوا} على الشرك والكفر إصراراً متزايدا عنادا
{وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارا} عجيبا3.
{ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ} إلى توحيدك في عبادتك وإلى ترك الشرك فيها {جِهَاراً}
أي مجاهرا بذلك {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً}
بحسب الجماعات والظروف أطرق كل باب بحثا عن استجابتهم للدعوة وقبولهم للهدى فقلت
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ4 كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ5
عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} أي ينزل عليكم المطر متتابعا فلا يكون قحط ولا محل
{وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} كما هي رغبتكم {وَيَجْعَلْ لَكُمْ
جَنَّاتٍ} بساتين ذات نخيل وأعناب {وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً6} تجري في تلك
البساتين تسقيها. ثم التفت إليهم وقال لهم منكرا عليهم استهتارهم وعدم خوفهم {مَا
لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} أي ما دهاكم أي شيء جعلكم لا ترجون لله وقارا
لا تخافون عظمته وقدرته وكبرياءه {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} ولفت نظرهم إلى
مظاهر قدرة الله تعالى فقال لهم {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ
__________
1 قرأ نافع دعائي بفتح العين واسكنها حفص.
2 أي إلا تباعدا عن الإيمان وإعراضاً عنه.
3 إذ قالوا له: أنؤمن لك واتبعك الأرذلون والحامل لهم على هذا القول الكبر الذي
تجاوزوا الحد فيه.
4 إنه كان غفاراً هذا منه عليه السلام ترغيب لهم في التوبة قال الفضيل بن عياض قول
العبد أستغفر الله معناه أقلني.
5 يرسل السماء المراد المطر لا السماء هذا كقول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم
رعيناه وإن كانوا غضابا
6يروى عن الحسن البصري أن رجلاً شكا إليه الجدوبة فقال له استغفر الله، وشكا آخر
إليه الفقر فقال له استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بستانه فقال له استغفر الله
وقال له آخر ادع الله أن يرزقني ولداً فقال له استغفر الله، فقيل له في ذلك، فقال:
ما قلت من عندي شيئا إن الله يقول في سورة نوح {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ
إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ
لَكُمْ أَنْهَاراً}.
خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} سماء فوق
سماء مطابقة لها {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ1 نُوراً} ينير ما فوقه من السموات
وما تحته من الأرض {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} وهاجا مضيئا يضيء بوجهه السموات
وبقفاه الأرض كالقمر {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً} إذ أصلكم
من تراب والنطف أيضا من الغذاء المكون من التراب ثم خلقتكم تشبه النبات وهي على
نظامه في الحياة والنماء. {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} أي الأرض بعد الموت فتدفنون
فيها {وَيُخْرِجُكُمْ منها} أيضا {إِخْرَاجاً} يوم القيامة للحساب والجزاء {وَاللَّهُ
جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً} أي مفروشة مبسوطة صالحة للعيش فيها والحياة
عليها، {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} أي طرقا واسعة وهكذا تجول بهم نوح
عليه السلام في معارض آيات الله الكونية وكلها داله على وجود الله تعالى وقدرته
وعلمه وحكمته ورحمته وهي موجبة للعبادة له عقلا ونفيها عما سواه كانت هذه مشكلة
نوح وعرض حاله على ربه وهو أعلم به وفي هذا درس عظيم للدعاة الهداة المهديين جعلنا
الله منهم آمين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- رسم الطريق الصحيح للدعوة القائم على الصبر وتلوين الأسلوب.
2- بيان كره المشركين للتوحيد والموحدين أنهم لبغضهم لنوح ودعوة التوحيد سدوا
آذانهم حتى لا يسمعوا وغطوا وجوههم حتى لا يروه واستكبروا حتى لا يروا له فضلا.
3- استعمال الحكمة في الدعوة فإن نوحاً لما رأى أن قومه يحبون الدنيا أرشدهم إلى
الاستغفار ليحصل لهم المال والولد.
4-استنبط بعض الصالحين2 من هذه الآية أن من كانت له رغبة في المال أو ولد فليكثر
من الاستغفار الليل والنهار ولا يمل يعطه الله تعالى مراده من المال والولد.
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ
وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقَالُوا لا
تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ
وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ
إِلَّا ضَلالاً (24)
__________
1 أي في السماء الدنيا، إذ يقال أتاني بنو تميم وأتيت بني تميم والمراد بعضهم.
2 تقدم انه الحسن البصري رحمه الله تعالى.
شرح الكلمات:
عصوني :أي لم يطيعوني فيما دعوتهم إليه وأمرتهم به من عبادتك وحدك وترك الشرك
بك.
واتبعوا :أي السفلة منهم والفقراء.
من لم يزد ماله وولده :أي الرؤساء المنعم عليهم.
إلا خسارا :أي طغيانا وكفرا.
مكرا كبارا :أي عظيما جدا بأن كذبوا نوحا وآذوه أذى شديدا.
وقالوا :أي الرؤساء قالوا للسفلة منهم.
لا تذرن آلهتكم :أي لا تتركن آلهتكم.
ولا تذرن :أي ولا تتركن كذلك ودا ولا سواعا ولا يغوث ولا يعوق ونسرا.
وقد اضلوا :أي بالأصنام كثيرا من الناس أمروا بعبادتها.
معنى الآيات:
بعد ذلك العرض الكريم الذي تقدم به رسول الله نوح عليه السلام إلى ربه ليعذره
ويكرمه تقدم بشكوى مشفوعة بالدعاء بالهلاك على الظالمين {قَالَ نُوحٌ رَبِّ
إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ1 لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا
خَسَاراً} أي طغيانا وكفرا. {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً2} أي عظيما جدا حيث
كانوا يعرضون بنوح وقد يضربونه وهو صابر محتسب وقالوا لبعضهم البعض متواصين
بالباطل {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} وسموا منها رؤساءها وهم خمسة ود 3وسواع ويغوث
ويعوق ونسر وقد أضلوا كثيرا أي من عباد الله حيث ورثوا هذه الأصنام فيهم فتبعهم
الناس على ذلك فضلوا ثم دعا عليهم قائلا {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا
ضَلالاً} قال هذا بعد أن أيس من إيمانهم وعدم هدايتهم لطول ما مكث4 بينهم يدعوهم
وهم لا يزدادون إلا كفرا وضلالا.5
__________
1 يعني كبراءهم وأغنياءهم وأهل الترف فيهم اللذين لم يزدهم كفرهم وأموالهم
وأولادهم إلا ضلالا.
2 كباراً: نحو قراء وعجاب وطوال وعمال.
3 روى البخاري عن ابن عباس: ود و سواع و يغوث و يعوق و نسر أسماء رجال صالحين من
قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا
يجلسون أنصاباًَ وسموها بأسمائهم فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت.
4 قال ابن عباس: رجا نوح الأبناء بعد الآباء فيأتي بهم الولد بعد الولد حتى بلغوا
سبع قرون ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم وعاش بعد الطوفان ستين عاماً حتى كثر الناس
وفشوا.
5 من عجيب ما يدعوا إليه الشيطان أن يعوق ونسرا عبدا في القرن الرابع عشر في قرية
ليوه حيث كانوا يستسقون بهما، وأن يغوث ويعوق وود وسواع ونسر كانت موزعة بين
القبائل العربية وفي يعوق يقول الشاعر:
يريش الله في الدنيا ويبري
ولا يبري يعوق ولا يريش
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية الشكوى إلى الله تعالى ولكن بدون صخب ولا نصب.
2- بيان أن السفلة والفقراء يتبعون الرؤساء والأغنياء وأصحاب الحظ.
3-بيان أن المكر من شأن الكافرين والظالمين.
4-بيان أن المشركين لضلالهم يطلقون لفظ الآلهة على من يعبدونهم من الأصنام
والأوثان.
5- مشروعية الدعاء على الظالمين عند اليأس من هدايتهم.
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى
الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا
عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً (28)
شرح الكلمات:
مما خطيئاتهم أغرقوا :أي بسبب خطيئاتهم أغرقوا بالطوفان.
فأدخلوا نارا :أي بعد موتهم أدخلت أرواحهم النار.
ديارا :أي من يدور يذهب ويجيء أي لم يبق أحد.
إن تذرهم :أي أحياء لم تهلكهم.
إلا تبارا :أي هلاكا و خسارا.
معنى الآيات:
قوله تعالى {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا}1 يخبر تعالى عن نهاية قوم نوح بعد
أن دعا عليهم نوح لما علم بالوحي الإلهي أنهم لا يؤمنون فقال تعالى مما خطيئاتهم
أي ومن خطيئاتهم أي بسبب خطيئاتهم التي هي الشرك والظلم والتكذيب والأذى لنوح عليه
السلام أغرقوا بالطوفان فلم يبق منهم أحد {فَأُدْخِلُوا نَاراً} أي بمجرد ما يغرق
الشخص وتخرج روحه يدخل النار في البرزخ. وقوله تعالى {فَلَمْ2
__________
1 مما خطيئتهم (ما) زائدة والأصل من خطيئتهم ومن تعليلية وما الزائدة لتوكيد معنى
التعليل.
2 الفاء تفريعية.
يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً} وهو كذلك
فمن ينصر من يريد هلاكه وخزيه وعذابه. ثم ذكر تعالى دعوة نوح التي كان الطوفان بها
والهلاك وهي قوله {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ
الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} أي لا تترك ولا تبق على الأرض اليابسة كلها يومئذ من
الكافرين بخلاف المؤمنين {دَيَّاراً} 1 أي إنساناً يدور أي يذهب ويجيء أي لا تبق
من الكافرين أحداً ثم علل لطلبه الهلاك للكافرين فقال {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ2
يُضِلُّوا عِبَادَكَ} عن صراطك الموصل إلى رضاك وذلك هو عبادتك وحدك وطاعتك وطاعة
رسولك {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّارا3} أي إلا من يفجر عن دينك ويكفر بك
وبرسولك قال نوح هذا لطول التجارب التي عاشها مع قومه إذ عاشرهم قرابة عشرة قرون
ثم دعا الله تعالى له ولوالديه ولمن دخل مسجده ومصلاه من المؤمنين والمؤمنات، وأن
لا يزيد الظالمين إلا خسارا وهلاكاً فقال {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ4
وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا
تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً} 5.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- هلاك قوم نوح كان بخطاياهم فالخطايا إذاً موجبة للهلاك.
2- تقرير عذاب القبر فقوم نوح ما إن اغرقوا حتى ادخلوا نارا.
3- مشروعية الدعاء على الظلمة الكافرين والمجرمين.
4- مشروعية الدعاء للمؤمنين والمؤمنات.
5- يستحب البدء غي الدعاء بنفس الداعي ثم يعطف من يدعوا لهم.
__________
1 ديار: اسم مخصوص بالوقوع في النفي يعم كل إنسان وهو مشتق من اسم الدار.
2 إنك أن تذرهم: الجملة تعليلية.
3 يريد عند بلوغ الولد سن التكليف لا أنه يفجر ويكفر بمجرد ما يولد وصيغة فعال
للمبالغة في الموصوف بالكفر.
4 اسم أبيه لمك واسم أمه شمخى بنت آنوس.
5 التبار: الهلاك والخسران.
سورة الجن
...
سورة الجن
مكية وآياتها ثمان وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ أُوحِيَ1 إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا
سَمِعْنَا قُرْآناً
__________
1 قرأ نافع بكسر إن في كل ما ورد في سورة الجن ما عدا أنه استمع نفر من الجن وأن
المساجد لله ففتح أن وفتحها حفص إلا بعد القول وفإن له نار جهنم.
عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ
وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا
اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى
اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ
عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ
بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا
ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7)
شرح الكلمات:
أنه استمع :أي إلى قراءتي.
نفر من الجن :أي عدد من الجن ما بين الثلاثة والعشرة.
قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا :أي لبعضهم بعضاً قرآنا عجبا أي يتعجب منه لفصاحته
وغزارة معانيه.
يهدي إلى الرشد :أي الصواب في المعتقد والقول والعمل.
وأنه تعالى جد ربنا :أي تنزه جلال ربنا وعظمته عما نسب إليه.
ما اتخذ صاحبة ولا ولدا :أي لم صاحبة ولم يكن له ولد.
سفيهنا :أي جاهلنا.
شططا :أي غلوا في الكذب بوصفه الله تعالى بالصاحبة والولد.
على الله كذبا :حتى تبين لنا أنهم يكذبون على الله بنسبة الزوجة والولد إليه.
يعوذون :أي يستعيذون.
فزادوهم رهقا :أي إثما وطغيانا.
أن لن يبعث الله أحدا :أي لن يبعث رسولا إلى خلقه.
معنى الآيات:
قوله تعالى {قُلْ أُوحِيَ1 إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ 2مِنَ الْجِنِّ} يأمر
تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول معلنا
__________
1 أصل أوحي ووحي فقلبت الواو همزة كما قلبت في وإذا الرسل أقتت والأصل وقتت، وهو
جائز في كل واو مضمومة نحو ورخ وأرخ.
2 يرى ابن إسحق أن هذا اللقاء بالجن كان عند عودة النبي صلى الله عليه وسلم من
الطائف، ولا مانع من حصول الخبرين مرة عند عودته من الطائف وتكون هذه الأولى،
والثانية هي المذكورة في التفسير.
للناس مؤمنهم وكافرهم أنه قد أوحى الله تعالى إليه نبأ
مفاده أن نفرا من الجن ما بين الثلاثة إلى العشرة قد استمعوا إلى قراءته القرآن
وذلك ببطن نخلة والرسول يصلي بأصحابه صلاة الفجر وكان الرسول صلى الله عليه وسلم
عامدا مع أصحابه إلى سوق عكاظ. وكان يومئذ قد حيل بين الشياطين وخبر السماء حيث
أرسلت عليهم الشهب فراجع الشياطين بعضهم بعضا فانتهوا إلى أن شيئا حدث لا محالة
فانطلقوا يضربون في مشارق الأرض ومغاربها يتعرفون إلى هذا الحدث الجلل الذي منعت
الشياطين بسببه من السماء فتوجه نفر منهم إلى تهامة فوجدوا الرسول صلى الله عليه
وسلم يصلي الصبح بأصحابه فاستمعوا إلى قراءته في1صلاته فرجعوا إلى قومهم من الجن
فقالوا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا
بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} فأنزل الله تعالى هذه السورة "سورة
الجن" مفتتحة بقوله {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ2 نَفَرٌ مِنَ
الْجِنِّ} أي أعلن للناس يا رسولنا أن الله قد أوحى إليك خبرا مفاده أن نفرا من
الجن قد استمعوا إلى قراءتك فرجعوا إلى قومهم وقالوا لهم {إِنَّا سَمِعْنَا
قُرْآناً عَجَباً} أي يتعجب من فصاحته وغزارة معانيه. يهدي إلى الرشد3 والصواب في
العقيدة والقول والعمل {فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} وفي
هذا تعريض بسخف البشر الذين عاش الرسول بينهم احدى عشرة سنة يقرأ عليهم القرآن
بمكة وهو مكذبون به كارهون له مصرون على الشرك والجن بمجرد أن سمعوه آمنوا به وحملوا
رسالته إلى قومهم وهاهم يدعون بدعاية الإسلام ويقولون {فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ
نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ4 رَبِّنَا} أي وآمنا بأنه
تعالى أمر ربنا وسلطانه ما اتخذ صاحبة ولا ولدا وحاشاه وإنما نسب إليه ذلك
المفترون. {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً} هذا من قول
الجن واصلوا حديثهم قائلين وأنه كان يقول جاهلونا على الله شططا أي غلوا في الكذب
بوصفهم الله تعالى بالصاحبة والولد تقليدا للمشركين واليهود والنصارى {وَأَنَّا
ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} أي
وقالوا لقومهم وإنا كنا نظن أن الإنس والجن لا يكذبون على الله ولا يقولون عليه
إلا الصدق وقد علمنا الآن أنهم يكذبون على الله ويقولون عليه ما لم يقله وينسبون
إليه ما هو منه براء. وقالوا {وَأَنَّهُ كَانَ 5رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ
__________
1 ما ذكر في التفسير من شأن استماع الجن قراءة الرسول وما أوحى الله تعالى به إلى
رسوله في شأن هذه الحادثة هو في مسلم والترمذي.
2 جملة استمع خبر إن والاسم هو الضمير الشأن والجملة في محل نائب فاعل لأوحي.
3 الرشد بضم الراء وإسكان الشين والرشد بفتح الراء والشين معاً هما الخير والصواب
والهدى.
4 الجد بفتح الجيم: العظمة والجلال ومنه قول أنس كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل
عمران جد في عيوننا: أي عظم وجل وأنه تعالى: قرأ نافع بكسر الهمزة عطفاً على قولهم
إنا سمعنا قرآنا وقرأ حفص بفتح الهمزة على تقدير آمنا بأنه تعالى جد ربنا.
5 يجوز فتح أنه وكسرها فمن فتحها جعلها من كلام الجن راداً لها إلى قوله أنه استمع
ومن كسرها جعلها مبتدأ في قول الله تعالى.
يَعُوذُونَ 1بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ
رَهَقاً} يخبرون بخبر عجيب وهو أنه كان رجال من الناس من العرب وغيرهم إذا نزلوا منزلا
مخوفا في واد أو شعب يستعيذون برجال من الجن كأن يقول الرجل أعوذ بسيد هذا الوادي
من سفهاء قومه فزاد الإنس الجن بهذا اللجأ إليهم والاحتماء بهم رهقا2 أي إثما
وطغيانا. إذ ما كانوا يطمعون أن الإنس تعظمهم هذا التعظيم حتى تستجير بهم. وأنهم
ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا أي وقالوا مخبرين قومهم وأنهم أي الإنس ظنوا
كما ظننتم أنتم أيها الجن أن لن يبعث الله أحدا رسولا ينذر الناس عذاب الله
ويعلمهم ما يكملهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية وأن محمدا رسول للثقلين الإنس والجن معاً.
2- بيان علو شأن القرآن وكماله حيث شهدت الجن له بأنه عجب فوق مستوى كلام الخلق.
3- تقرير التوحيد والتنديد بالشرك.
4- تقرير أن الإنس كالجن قد يكذبون على الله وما كان لهم ذلك.
5- حرمة الاستعانة بالجن والاستعاذة بهم لأن ذلك كالعبادة لهم.
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً
وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ
يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً (9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ
أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10)
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً
(11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ
نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ
يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13)
__________
1 قال مقاتل أول من تعوذ بالجن قوم من اليمن من بني حنيفة ثم فشا في العرب فلما
جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم.
2 الرهق الخطيئة والإثم وغشيان المحارم، و باستعاذة الإنس بالجن يحصل الإثم
والخطيئة.
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ
فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ
فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15)
شرح الكلمات:
وأنا لمسنا السماء :أي طلبنا خبرها كما جرت بذلك عادتنا.
حرساً شديداً : أي حراسا وحفظة من الملائكة يحفظونها بشدة وقوة.
وشهبا :أي نجوما يرمى بها الشياطين أو يؤخذ منها شهاب فيرمى به.
مقاعد للسمع :أي من أجل أن نسمع ما يحدث وما يكون في الكون.
شهابا رصداً :أي أرصد وأعد لرمي الشياطين وإبعادهم عن السمع.
رشدا :أي خيراً وصلاحاً.
كنا طرائق قددا :أي مذاهب مختلفة إذا الطرائق جمع طريقة، والقدر جمع قدة وهي
الضروب والأجناس المختلفة.
ولن نعجزه هربا :أي لا نفوته هاربين في الأرض أو في السماء.
لما سمعنا الهدى :أي القرآن الداعي إلى الهدى المخالف للضلال.
بخسا ولا رهقا :أي نقصا من حسناته ولا إثما يحال عليه ويحاسب به.
ومنا القاسطون :أي الجائرون عن قصد السبيل وهو الإسلام.
تحروا رشدا :أي تعمدوا الرشد فطلبوه بعناية فحصلوا عليه.
فكانوا لجهنم حطبا :أي وقوداً تتقد بهم يوم القيامة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ما قالته الجن بعد سماعها القرآن الكريم. وهو ما أخبر
تعالى به عنهم في قوله {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} أي طلبناها كعادتنا
{فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} أي1 ملائكة أقوياء يحرسونها
وشهبا نارية يرمى بها كل مسترق للسمع منا. وقالوا : {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ
مِنْهَا} أي من السماء {مَقَاعِدَ} أي أماكن معينة لهم {لِلسَّمْعِ2} أي لأجل
الاستماع من ملائكة
__________
1 الشهب جمع شهاب ككتاب وكتب وهو ما يؤخذ من الكواكب النارية فيرمى به الجن.
والحرس جمع حارس ولم يقل شديدين نحو قولنا السلف الصالح بدل الصالحين. وجمع الحرس
أحراس كسلف وأسلاف.
2 الذين كانوا يسترقون السمع هم مردة الجن وشياطينهم. ومما ينبغي أن يعلم هنا أن
الجن هم أولاد الجان المخلوق من مارج من نار وأن الشياطين هم أولاد إبليس وأن من
فسق عن أمر الله تعالى وتمرد على شرعه فخبث واشتد خبثه يصبح شيطاناً ويلحق
بالشياطين الذين لا خير فيهم البتة.
السماء. {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً
رَصَداً} أي أرصد له خاصة فيرمى به فيحرقه أو يخبله، وقالوا { وَأَنَّا لا نَدْرِي
أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً}
أقول عجبا لهؤلاء المؤمنين من الجن كيف تأدبوا معه الله فلم ينسبوا إليه الشر
ونسبوا إليه الخير فقالوا {أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} ولو أساءوا
الأدب مثلنا لقالوا أشر أراده الله بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا أي خيرا
وصلاحا قالوا هذا لما وجدوا السماء قد ملئت حرسا شديدا وشهبا وهو تفكير سديد ناتج
عن وعي وإدراك سليم. وهذا التغير في السماء الذي وجدوه سببه أن الله تعالى لما نبأ
رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم وأخذ يوحي إليه حمى السماء حتى لا يسترق الشياطين
السمع ويشوشوا على الناس فيصرفوهم عن الإيمان والدخول في الإسلام وهو الرشد الذي
أراد الله لعباده وقالوا {وَإِنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ} أي المؤمنون المستقيمون
على الإيمان والطاعة {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} ضعف إيمان وقلة طاعة، {كُنَّا
طَرَائِقَ قِدَداً} أي مذاهب1 وأهواء مختلفة. {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ
نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ} أي إن أراد بنا سوءا ومكروها ولن نعجزه هربا إن
طلبنا ما في الأرض أو في السماء. {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا
بِهِ} أي بالقرآن الذي هو هدى الله يهدي به من يشاء من عباده {فَمَنْ يُؤْمِنْ
بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً} أي نقصا من حسناته يوم القيامة {وَلا رَهَقاً} أي
إثما يضاف إلى سيئآته ويعاقب به وهو لم يرتكبه في الدنيا. وقالوا {وَأَنَّا مِنَّا
الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} أي الجائرون عن قصد السبيل وهو الإسلام.
فمن أسلم أي انقاد لله تعالى بطاعته وخلص من الشرك به فهؤلاء تحروا الرشد2 وفازوا
به، {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} توقد بهم وتستعر
عليهم وعلى الكافرين الجائرين أمثالهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجود تجانس بين الجن والملائكة لقرب مادتي الخلق من بعضها إذ الملائكة خلقوا من
مادة النور، والجن من مادة النار، ولذا يرونهم ويسمعون كلامهم ويفهمونه.
2- من الجن أدباء صالحون مؤمنون مسلمون أصحاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- ذم الطرق والأهواء والاختلافات.
4- الإشادة بالعدل وتحري الحق والخير.
__________
1 كان منهم اليهودي والنصراني والمجوسي، ولما جاء الإسلام أصبح منهم المسلم وأصبح
من المسلمين قدرية ومرجئة وخوارج ورافضة وشيعة لأنهم تابعون للناس في معتقداتهم
وأقوالهم وأعمالهم.
2 تحروا رشدا أي قصدوا طريق الحق وتوخوه، ومنه تحرى القبلة للصلاة. أي طلبها
بعناية وقصد للحصول عليها.
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ
لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ
ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ
فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ
يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي
وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا
رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ
دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ
يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا
أَبَداً 23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ
نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24)
شرح الكلمات:
على الطريقة :أي الإسلام.
ماء غدقا : أي مالا كثيرا وخيرات كبيرة.
لنفتنهم فيه : أي نختبرهم أيشكرون أم يكفرون.
عن ذكر ربه :أي القرآن وشرائعه وأحكامه.
عذابا صعدا :أي شاقا.
فلا تدعوا :أي فيها مع الله أحدا.
عبد لله يدعوه :أي محمد صلى الله عليه وسلم يدعوا الله ببطن نخلة.
عليه لبدا :أي في ركوب بعضهم بعضا تزاحما لأجل أن يسمعوا قراءته.
ضرا ولا رشدا :أي غيا ولا خيرا.
ملتحدا :أي ملتجأ ألجأ إليه فأحفظ نفسي.
إلا بلاغا :أي لا أملك إلا البلاغ إليكم.
وأقل عددا :أي أعوانا المسلمون أم الكافرون.
معنى الآيات:
قوله تعالى {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} أي وأوحى إلي أن لو
استقام هؤلاء المشركون من كفار قريش استقاموا على الإيمان والتوحيد والطاعة لله
ولرسوله –وهم يشكون القحط- {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً1} فتكثر أموالهم
وتتسع أرزاقهم، {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي لنخبرهم في ذلك الخير الكثير أيشكرون أم
يكفرون؟ ثم إن شكروا زادهم، وإن كفروا سلبهم وعذبهم. وقوله تعالى {وَمَنْ يُعْرِضْ
عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ} أي القرآن وما يدعوا إليه من الإيمان وصالح الأعمال ولم يتخل
عن الشرك وسوء الأفعال {يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً2} أي ندخله في عذاب شاق في
الدنيا بالذل والمهانة والفقر والرذيلة والنذالة. وفي الآخرة في جهنم حيث السموم
والحميم، والضريع والزقوم. وقوله {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ3 لِلَّهِ فَلا تَدْعُو
مَعَ اللَّهِ أَحَداً} أي ومما أوحي إلي أن المساجد لله فإذا دخلتموها للعبادة فلا
تدعوا فيها مع الله أحدا إذ كيف البيت له وأنت فيه وتدعوا معه غيره زيادة على أن
الشرك محرم وصاحبه في النار فإنه من غير الأدب أن يكون المرء في بيت كريم ويدعو
معه غيره من فقراء الخلق أو أغنيائهم وقوله {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ
اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} أي وأوحي إلي أنه لما قام
عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم يدعوا ربه في الصلاة ببطن نخلة كاد الجن
أن يكونوا عليه لبدا أي4 كالشيء المتلبد بعضه فوق بعض. وقوله {قُلْ إِنَّمَا
أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} هذا إجابة لقريش عندما قالوا له صلى الله
عليه وسلم لقد جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا فنحن نجيرك أي
نحفظك فأمر أن يقول لهم إنما أدعوا ربي أي أعبده إلهاًَ واحداً ولا أشرك به أحدا.
وأن يقول أيضا إني لا أملك لكم يا معشر قريش الكافرين ضرا ولا رشدا أي ضلالا ولا
هداية إنما ذلك لله وحده يضل من يشاء ويهدي من يشاء وأمر أن يقول لهم أيضا إني لن
يجيرني من الله أحد أن أنا عصيته وأطعتكم، ولن أجد من دونه أي من غيره ملتحدا5 أي
ملتجأ التجأ إليه. وقوله إلا بلاغاً من الله ورسالاته أي لا أملك لكم ضراً ولا
رشداً إلا بلاغا من الله
__________
1 غدقاً أي واسعاً كبيراً، يقال غدقت العين تغدق فهي غدقة إذا كثر ماؤها. وهذا
الوعد الإلهي المشروط هو عام في الناس أجمعين وفي كل زمان ومكان وهو كقوله. ولو أن
أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولما استقام السلف
الصالح حصل لهم هذا الموعود كاملا.
2 روى عن ابن عباس أن العذاب الصعد جبل في جهنم يكلفون صعوده وكلما وضعوا أيديهم
عليه ذابت. وهو ضرب من أنواع العذاب في دار الشقاء.
3 جائز أن يكون المراد بالمساجد أعضاء السجود السبعة لحديث إذا سجد العبد سجد معه
سبعة آراب أي أعضاء ويقوى هذا الجواز قول عطاء: مساجدك أعضاؤك التي أمرت أن تسجد
عليها فلا تذللها لغير خالقها. وما في التفسير أولى بالآية.
4 اللبد جمع لبدة بكسر اللام وسكون الباء كقربة وقرب وهي ما تلبد بعضه على بعض
ومنه لبدة الأسد وهي الشعر المتراكم في رقبته.
5 شاهده قول الشاعر :
يالهف نفسي ولهفي غير مجدية
عني وما من قضاء الله ملتحد
ورسالته فإني أبلغكم عنه ما أمرني به وأرشدكم إلى ما
أرسلني به من الهدى والخير والفوز وقوله {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} أي يخبر تعالى موعداً أن
من يعصي الله بالشرك به وبرسوله بتكذيبه وعدم اتباعه فيما جاء به فإن له جزاء شركه
وعصيانه نار جهنم خالدين فيها أبدا. وقوله {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ
فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} أي فإن استمروا على
شركهم وتكذيبهم حتى إذا رأوا ما يوعدون من عذاب يوم القيامة فسيعلمون عندئذ من
أضعف ناصراً أي من ناصره ضعيف أو قوي، ومن أقل عدداً من أعوانه المؤمنون محمد
وأصحابه أم هم المشركون المكذبون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الاستقامة على منهج الله تعالى القائم على الإيمان والطاعة لله ورسوله يفضي
بسالكه إلى الخير الكثير والسعادة الكاملة في الدنيا والآخرة.
2- المال فتنة وقل من ينجح فيها قال عمر رضي الله عنه أينما يكون الماء يكون المال
وأينما يكون المال تكون الفتنة.
3- حرمة دعاء غير الله في المساجد وفي غيرها إلا أنها في المساجد أشد قبحا.
4- الخير والغير والهدى والضلال لا يملكها إلا الله فليطلب ذلك منه لا من غيره.
5- معصية الله والرسول موجبة لعذاب الدنيا والآخرة.
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً
(25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ
ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ
بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)
شرح الكلمات:
قل إن أدري :أي قل ما أدري.
ما توعدون :أي من العذاب.
أمدا : أي غاية وأجلا لا يعلمه إلا هو.
فلا يظهر :أي لا يطلع.
من ارتضى من رسول :أي فإنه يطلعه.
رصدا :أي ملائكة يحفظونه حتى يبلغه مع الوحي الذي يبلغه لكافة الناس.
ليعلم :أي الله علم ظهور أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم.
أحصى كل شيء عددا :أي أحصى عدد كل شيء.
معنى الآيات:
قوله تعالى {قُلْ إِنْ أَدْرِي} أمر تعالى رسوله أن يقول للمشركين المطالبين
بالعذاب استخفافا وعناداً أو تكذيباً أمره أن يقول لهم ما أدري أقريب ما وعدكم
ربكم به من العذاب بحيث يحل بكم عاجلا أم يجعل له ربي1 أمدا أي غاية وأجلا بعيدا
يعلمه هو ولا يعلمه غيره. عالم الغيب2 إذ هو عالم الغيب3 وحده فلا يظهر على غيبه
أي لا يطلع على غيبه أحدا من عباده إلا من ارتضى من رسول أي رضيه أن يبلغ عنه فإنه
يطلعه مع الاحتياط الكافي حتى لا يتسرب الخبر الغيب إلى الناس {فَإِنَّهُ
يَسْلُكُ4 مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} الرسول المرتضى ومن خلفه رصداً من الملائكة ثم
يطلعه ضمن الوحي الذي يوحي إليه. وذلك ليعلم الرسول5 صلى الله عليه وسلم أن الرسل
قبله قد بلغت رسالات ربها لما أحاطها تعالى به من العناية حتى انه إذا جاءه الوحي
كان معه أربعة ملائكة يحمونه من الشياطين حتى لا يسمعوا خبر السماء فيبلغوه
أولياءهم من الإنس، فتكون فتنة في الناس وقوله {وَأَحَاطَ}
__________
1 قرأ نافع ربي بفتح الياء، وقرأ حفص ربي بإسكان الباء ممدودة.
2 عالم نعت لربي. والغيب: ما غاب عن العبادة، ومعنى عالم الغيب أي العليم بكل ما
هو غائب عن أعين الناس كالملائكة والجن وما سيحدث من أحداث في الكون.
3 قالت العلماء لما تمدح الله تعالى بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه كان فيه دليل
على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل فأودعهم ما شاء من
غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوئتهم وليس المنجم
ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول يطلعه
على ما يشاء من غيبه بل هو كافر بالله مفتر عليه لحدسه وتخمينه وكذبه.
4 فإنه يسلك الخ يعني ملائكة يحفظونه من أن يقرب منه شيطان في صورة الملك فيحفظ
الوحي من استراق الشيطان والإلقاء إلى الكهنة.
5 معنى الآية: ليعلم أي محمد صلى الله عليه وسلم أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة
كما أبلغ هو الرسالة. وفي الكلام حذف تقديره أخبرناه بحفظنا الوحي ليعلم أن الرسل
قبله كانوا على مثل حالته من التبليغ.
أي الله جل جلاله {بِمَا لَدَيْهِمْ} أي بما لدى
الملائكة والرسل علما {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} 1 أي وأحصى عدد كل شيء فلا
يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1-استئثار الله تعالى بعلم الغيب فلا يعلم الغيب إلا الله.
2-قد يطلع الله تعالى من ارتضى أن يطلعه من الرسل على غيب خاص ويتم ذلك بعد حماية
كاملة من الشياطين كيلا ينقلوه إلى أوليائهم فيفتنوا به الناس.
3- بيان إحاطة علم الله بكل شيء و احصائه تعالى لكل شيء عدّا.
__________
1 عدداً منصوب على الحال أو على المصدر أي أحصى وعد كل شيء عددا.
سورة المزمل
أولها مكي وآخرها مدني1وآياتها عشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ
انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً
(4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ
هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً
طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)
شرح الكلمات:
يا أيها المزمل :أي المتلفف بثيابه أي النبي صلى الله عليه وسلم.
قم الليل :أي صل.
إلا قليلا :أي نصف الليل.
نصفه أو انقص منه قليلا : أي انقص من النصف إلى الثلث.
أو زد عليه :أي إلى الثلثين فأنت مخير في أيها تفعل تقبل.
__________
1 آخرها هو قوله {إن ربك يعلم أنك تقوم} إلى آخر آية منه.
ورتل القرآن ترتيلا : أي ترسل في قراءته وبينه تبييناً.
إنا سنلقي عليك قولا :أي قرآنا.
ثقيلا :أي محمله ثقيلا العمل به لما يحوي من التكاليف.
إن ناشئة الليل :أي ساعة الليل من صلاة العشاء فما فوق كل ساعة تسمى ناشئة.
هي أشد وطئا :أي هي أقوى موافقة السمع للقلب على تفهم القرآن فيها.
وأقوم قيلا :أي أبين قولا وأصوب قراءة من قراءة النهار لسكون الأصوات.
واذكر اسم ربك :أي دم على ذكره ليلا ونهارا على أي وجه من تسبيح وتهليل وتحميد.
وتبتل إليه تبتيلا :أي انقطع إليه في العبادة وفي طلب الحاجة وفي كل ما يهمك.
لا إله إلا هو :أي لا معبود بحق سواه ولا تنبغي العبادة لغيره.
فاتخذه وكيلا :أي فوض جميع أمورك إليه فإنه يكفيك.
معنى الآيات:
قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}1 نادى الرب تبارك وتعالى نبيه محمداً صلى
الله عليه وسلم مذكرا إياه بتلك الساعة السعيدة التي فاجأه فيها الوحي لأول مرة
فرجع بها ترجف بوادره فانتهى إلى خديجة وهو يقول زملوني دثروني فالمزمل2 هو
المتزمل أي المتلفف في ثيابه ليقول له قم الليل3 إلا قليلا أي صل في الليل {نِصْفَهُ
أَوِ 4انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً} إلى الثلث {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} أي على النصف إلى
الثلثين وامتثل الرسول أمر ربه فقام مع أصحابه حتى تورمت أقدامهم. ثم خفف الله
تعالى عنهم ونزل آخر هذه السورة بالرخصة في ترك القيام الواجب وبقى الندب
والاستحباب وقوله تعالى {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}5 يرشده ربه إلى أحسن
التلاوة وهي الترسل وعدم السرعة حتى يبين الكلمات تبييناً ويترقى القلب في
معانيها. وقوله {إِنَّا 6سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} يخبره ربه تعالى
بأنه سيلقي عليه قوى ثقيلا هو
__________
1 في هذا النداء بهذه الصفة معنى التلطف والتحبب كقوله صلى الله عليه وسلم لعلي قم
أبا تراب ولعبد الرحمن بن صخر أبا هريرة، ولحذيفة بن اليمان يوم الخندق قم يا
نومان.
2 المزمل اسم فاعل والمدثر كذلك من تزمل وتدثر والأصل المتزمل والمتدثر.
3 كان هذا القيام قبل فرض الصلوات الخمس واستمر بعد فرضها واجباً على النبي صلى
الله عليه وسلم دون أمته.
4 الجمهور يقرأ أو انقص بضم الواو للتخلص من التقاء الساكنين، وبعضهم بكسرها أو
انقص.
5 جائز أن يكون الترتيل المأمور به في الصلاة وقيام الليل وفي غيره ذلك من تلاوة
القرآن الكريم والترتيل مأخوذ من قولهم ثغر مرتل وهو المفلج الأسنان أي المفرق
بينهما فالترتيل هو تفرقة الحروف وعدم جمعها بحيث يخرج كل حرف من مخرجه يفسره قول
عائشة رضي الله عنها. في وصف الترتيل لو أراد السامع أن يعد الحروف لعدها لا
كسردكم هذا.
6 هذه الجملة مستأنفة معترضة بين قوله قم الليل وبين قوله إن ناشئة الليل لما كلفه
بقيام الليل وكان شاقاً أعلمه بأنه هيأه لما هو أشق من قيام الليل وهو حمل الرسالة
وإبلاغها.
القرآن فإنه ثقيل مهيب ذو تكاليف العمل بها ثقيل إنها
فرائض وواجبات أعلمه ليوطن نفسه على العمل ويهيئها لحمل الشريعة علما وعملا ودعوة.
وقوله {إِنَّ نَاشِئَةَ 1اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} يخبر
تعالى معلما أن ساعات الليل من بعد صلاة العشاء إلى آخر الليل القيام فيها يجعل
السمع يواطيء القلب على فهم معاني القرآن الذي يقرأه المصلي، وقوله وأقوم قيلا أي
أبين قولا ولأصوب قراءة من قراءة الصلاة في النهار. وقوله {إِنَّ لَكَ فِي2
النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً} يخبر تعالى رسوله بأن له في النهار أعمالاً تشغله عن
قراءة القرآن فلذا أرشده إلى قيام الليل وترتيل القرآن لتفرغه من عمل النهار وقوله
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} أي داوم على ذكره ليلا ونهارا على أي وجه كان الذكر من
تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل. وقوله {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ} أي إلى الله
{تَبْتِيلاً} أي انقطع إليه في العبادة إخلاصا له وفي طلب حوائجك، وفي كل ما يهمك
من أمر دينك ودنياك وقوله {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} أي هو تعالى رب المشرق
والمغرب أي مالك المشرقين والمغربين {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} فلا تنبغي العبادة
إلا له ولا تصح الألوهية إلا له أيضاً وقوله {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} أي من كل ما
يهمك فإنه يكفيك وهو على كل شيء قدير.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1-الندب إلى قيام الليل وأنه دأب الصالحين وطريق المتقربين.
2-الندب إلى ترتيل القرآن وترك العجلة في تلاوته.
3-صلاة الليل أفضل من صلاة النهار لتواطىء السمع والقلب فيها على فهم القرآن.
4-الندب إلى ذكر الله تعالى بأي وجه من صلاة وتسبيح وطلب علم ودعاء وغير ذلك.
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي
وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ
لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً
(13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ
__________
1 الجملة تعليلية للأمر بقيام الليل وترتيل القرآن كأنه قال له قم الليل لأن
ناشئته التي تنشئها بعد النوم هي أشد مواطأة أي موافقة بين السمع والقلب لتفهم
القرآن وأبين للقرآن عند النطق به.
2 إن لك في النهار الجملة التعليلية لاختيار الليل للقيام دون النهار لأن في
النهار أعمالاً أخرى يقوم بها المرء وجائز أن يراد أن في النهار متسع للصلاة
وتلاوة القرآن.
وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) إِنَّا
أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى
فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً
وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ
شِيباً (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ
هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)
شرح الكلمات:
واصبر على ما يقولون :أي على ما يقوله لك كفار مكة من أذى كقولهم شاعر وساحر
وكاذب.
واهجرهم هجرا جميلا : أي اتركهم تركا جميلا أي لا عتاب معه.
وذرني :أي اتركني.
والمكذبين :أي صناديد قريش فإني أكفكهم.
أولي النعمة :أي أهل التنعم والترف.
ومهلهم قليلا :أي انتظرهم قليلا من الزمن حتى يهلكوا ببدر.
إن لدينا انكالا :أي قيودا وهي جمع نكل وهو القيد من الحديد.
وطعاما ذا غصة :أي يغص في الحلق هو الزقزم و الضريع.
يوم ترجف الأرض :أي تتزلزل.
كثيباً مهيلا :أي رملا مجتمعا مهيلا أي سائلا بعد اجتماعه.
فأخذناه أخذا وبيلا :أي ثقيلا شديدا غليظا.
فكيف تتقون يوما :أي عذاب يوم يجعل الولدان لشدة هوله شيبا.
السماء منفطر به :أي ذات انفطار وانشقاق أي بسبب هول ذلك اليوم.
كان وعده مفعولا :أي وعده تعالى بمجيء ذلك اليوم كان مفعولا أي كائنا لا محالة.
إن هذه تذكرة :أي إن هذه الآيات المخوفة تذكرة أي عظة للناس.
اتخذ إلى ربه سبيلا :أي طريقا بالإيمان والطاعة إلى النجاة من النار ودخول الجنة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تربية الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته بأنواع التربية
الربانية الخاصة فقال تعالى لرسوله {وَاصْبِرْ1 عَلَى مَا يَقُولُونَ} أي كفار
قريش من كلام يؤذونك به كقولهم هو ساحر وشاعر وكاهن ومجنون وما إلى ذلك، وقوله
{وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} يرشد تعالى رسوله إلى هجران كفار قريش وعدم
التعرض لهم والهجر الجميل2 هو الذي لا عتاب معه وقوله {وَذَرْنِي
وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} أي اتركني والمكذبين من صناديد3 قريش أولي
النعمة أي النعم والترف {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} أي أنظرهم ولا تستعجل فإني
كافيكهم، ولم يمض إلا يسير حتى هلكوا في بدر على أيدي المؤمنين. وقوله تعالى
{إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَاماً} أي عندنا للمكذبين بك في
الآخرة أنكالا قيودا من حديد وجحيما أي نارا مستعرة محرقة وعذابا أليما أي موجعا
وطعاما هو الزقوم و الضريع ذا غصة أي يغص في حلق آكله، وعذابا أليما أي موجعاً
وذلك يحصل لأهله وينالهم يوم ترجف الأرض والجبال، أي تتحرك وتضرب وكانت الجبال كثيبا
أي من الرمل مهيلا سائلا بعد اجتماعه. وقوله تعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَا
إِلَيْكُمْ} أي يا أهل مكة وكل من ورائها من سائر الناس والجن {رَسُولاً شَاهِداً
عَلَيْكُمْ} بما تعملون في الدنيا لتجزوا بها في الآخرة وقوله 4{كَمَا أَرْسَلْنَا
إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً } أي موسى بن عمران عليه السلام {فَعَصَى فِرْعَوْنُ
الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} أي غليظا شديدا. وقوله تعالى مخاطبا
الكافرين المكذبين { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ يَوْماً} أي عذاب يوم {يجْعَلُ
الْوِلْدَانَ شِيباً} وذلك لهوله وللكرب الذي يقع وحسبه أن السماء منفطر5 به أي
منشقة بسبب أهواله. وذلك يوم يقول الرب تعالى لآدم يا آدم ابعث بعث النار أي خذ من
كل ألف من أهل الموقف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار ولم ينج من كل ألف إلا واحد
هنا يشتد البلاء ويعظم الكرب.وقوله {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} أي وعده تعالى
بمجيء هذا اليوم كان مفعولا أي كائنا لا محالة وقوله {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} أي
إن هذه الآيات المشتملة على ذكر القيامة وأهوالها تذكرة وعظة وعبرة {فَمَنْ شَاءَ
اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} فليتخذ وهي الإيمان والعمل الصالح بعد التخلي عن
الشرك والمعاصي.
__________
1 لما أمره بالانقطاع إليه بالعبادة أمره بالصبر على ما يقوله خصومه من كفار قريش
من طعن فيه وفي أتباعه وفيما جاء به أيضاً من الهدى والنور.
2 الهجر الجميل هو الذي يكتفى فيه بحقيقة الهجران وهي المقاطعة لا غير فليس هناك
أذى معها والصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه والجهر الجميل الذي لا عتاب معه والصفح
الجميل هو الذي لا مؤاخذة معه.
3 قال مقاتل نزلت في المطعمين يوم بدر وهم عشرة. قالت عائشة رضي الله عنها لما
نزلت هذه الآية لم يكن (يسير) حتى وقعت وقعة بدر.
4 الكلام مستأنف ابتدائي والمناسبة هي التخلص من الأمر بالصبر إلى ذكر وعيد القوم
وذكر فرعون بالذات لأنه أهلكه غروره وتكبره كما هي حالة أكابر مجرمي مكة، فسوف يحل
بهم ما حل بفرعون من الهلاك.
5 لم يقل منفطرة بالهاء لأن السماء يذكر ويؤنث أو هو كقولهم امرأة مرضع أي ذات
إرضاع، والسماء ذات انفطار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب الصبر على الطاعة وعن المعصية.
2- الهجر الجميل هو الذي لا عتاب فيه.
3- تقرير النبوة المحمدية.
4- تقرير البعث والجزاء.
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ
وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ
فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ
مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ
وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً
وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ
خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (20)
شرح الكلمات:
أنك تقوم :أي للتهجد.
أدنى :أي أقل .
وطائفة : أي وطائفة معك من أصحابك تقوم كذلك.
والله يقدر الليل والنهار :أي يحصيها ويعلم ما يمضي من ساعات كل منهما وما يبقى.
علم أن لن تحصوه : أي الليل فلا تطيقون قيامه كله لأنه يشق عليكم.
فتاب عليكم :أي رجع بكم إلى التخفيف في قيام الليل إذ هو الأصل.
فا قرأوا ما تيسر :أي صلوا من الليل ما سهل عليكم ولو ركعتين.
وأقيموا الصلاة :أي المفروضة.
وآتوا الزكاة :أي المفروضة.
وأقرضوا الله قرضاً حسنا :أي تصدقوا بفضول أموالكم طيبة
بها نفوسكم فذلك القرض الحسن.
وما تقدموا لأنفسكم من خير :أي من نوافل العبادة من الصلاة وصدقة وصيام وحج
وغيرها.
معنى الآيات:
يخبر تعالى رسوله بأنه يعلم ما يقومه من الليل هو وطائفة من أصحابه وأنهم يقومون
أحياناً أدنى من ثلثي الليل أي أقل ويقومون أحيانا النصف والثلث، كما في أول
السورة هذا معنى قوله تعالى {إِنَّ1 رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى
مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ
مَعَكَ} وقوله {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي يحصي ساعاتهما فيعلم
ما مضى من الليل وما بقي من ساعاته، وقوله {عَلِمَ أَنْ لَنْ2 تُحْصُوهُ} أي لن
تطيقوا ضبط ساعاته فيشق عليكم قيام أكثره تحريا منكم لما هو المطلوب. {فَتَابَ
عَلَيْكُمْ} لذلك وبهذا نسخ قيام الليل الواجب وبقى المستحب يؤدى ولو بركعتين في
أي جزء من الليل وكونهما بعد صلاة العشاء أفضل وقوله تعالى {فاقرأوا3 ما تيسر من
القرآن} أي صلوا من الليل ما تيسر أطلق لفظ القرآن وهو يريد الصلاة لأن القرآن هو
الجزء المقصود من صلاة الليل،، وقوله {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى
وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فذكر فيه تعالى ثلاثة أعذار لهم وهي المرض،
والضرب في الأرض4 للتجارة والجهاد في سبيل الله وكلها يشق معها قيام الليل فرحمة
بالمؤمنين نسخ الله تعالى هذا الحكم الشاق بقوله {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ
مِنَه5}، كرره تأكيدا لنسخ قيام الليل الذي كان واجبا وأصبح بهذه الآية مندوبا.
وقوله وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة أي المفروضتين. وقوله وأقرضوا الله قرضا حسنا
أي أنفقوا في سبيل الله الذي هو الجهاد فإن الحسنة فيه بسبعمائة وما تقدموا
لأنفسكم من نوافل الصلاة والصدقات والحج وسائر العبادات تجدوه عند الله يوم
القيامة هو خيراً وأعظم أجرا. وقوله واستغفروا الله من كل ما يفرط منكم من تقصير
في جنب الله تعالى إن الله غفور رحيم يغفر لمن تاب ويرحمه فلا يؤاخذه بذنب قد تاب
منه.
__________
1 هذا هو النصف الأخير من سورة المزمل الذي نزل بالمدينة أما النصف الأول فقد نزل
بمكة افتتاح الكلام بهذه الجملة إن ربك يعلم .... الخ مشعر بالثناء عليه لوفائه
بحق القيام الذي أمر به في أول السورة.
2 هذه الجملة هي المقصودة من الكلام السابق لها إذ كان تمهيداً لها.
3 أطلق القرآن وأراد الصلاة كقوله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فأطلق الصلاة
وأراد القراءة وهنا أطلق القراءة وأراد الصلاة تجوزاً.
4 قال طاووس: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله.
5 من هذه الآية أخذ مالك وأحمد والشافعي أن أقل ما يجزء في الصلاة قراءة الفاتحة
كاملة، ولا تصح صلاة بدونها للأحاديث الواردة في ذلك وهذا بالنسبة الأمام
والمنفرد. وهذا عند القدرة على قراءته وحفظها فإن عجز سبح وركع أي قال سبحان الله
والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقومونه من الليل تهجدا.
2- نسخ واجب قيام الليل وبقاء استحبابه وندبه1.
3- وجوب إقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
4- الترغيب في التطوع من سائر العبادات.
5- وجوب الاستغفار عند الذنب وندبه واستحبابه في سائر الأوقات لما يحصل من
التقصير.
__________
1 ورد في فضل قيام الليل أحاديث صحاح كثيرة منها قول عبد الله بن عمرو قال لي رسول
الله صلى الله عليه وسلم "يا عبد الله لا تكن كفلان كان يقوم الليل فترك قيام
الليل" وحديث عبد الله بن عمر وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل".
سورة المدثر
...
سورة المدثر
مكية وآياتها ست وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا1 الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ
(6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ
يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
شرح الكلمات:
يا أيها المدثر : أي يا أيها المدثر أي المتلفف في ثيابه وهو النبي صلى الله عليه
وسلم.
قم فأنذر : أي خوف أهل مكة النار إن لم يؤمنوا ويوحدوا.
وربك فكبر: أي عظم ربك من إشراك المشركين.
وثيابك فطهر : أي طهر ثيابك من النجاسات.
والرجز فاهجر: أي أدم هجرانك للأوثان.
__________
1 في هذا النداء ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله، وعبر عنه
بصفته، ولم يقل يا محمد أو يا فلان ليستشعر اللين والعطف من ربه.
ولا تمنن تستكثر : أي لا تمنن على ربك ما تقوم به من
أعمال لأجله طاعة له.
فإذا نقر في الناقور : أي نفخ في الصور النفخة الثانية.
معنى الآيات:
قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ1} أي المتلفف في ثيابه والمراد به النبي
صلى الله عليه وسلم روى الزهري2 قال فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فترة فحزن حزناً فجعل يعدو شواهق رؤوس الجبال ليتردى منها فكلما أوفى بذروة جبل
تبدى له جبريل عليه السلام فيقول إنك نبي الله فيسكن جأشه وتسكن نفسه، فكان النبي
صلى الله عليه وسلم يحدث عن ذلك فقال بينما أنا أمشي يوما إذ رأيت الملك الذي كان
يأتيني بحراء على كرسي بين السماء والأرض فجثثت منه رعبا فرجعت إلى خديجة فقلت
زملوني فزملناه أي فدثرناه فأنزل الله يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك
فطهر قال الزهري فأول شيء أنزل عليه أقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق
اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم. وعليه فهذا النداء
الإلهي كان بعد فترة الوحي الأولى ناداه ملقبا له بهذا اللقب الجميل تكريما وتلطفا
معه ليقوم بأعباء الدعوة وما أشد ثقلها، ومن يقدر عليها إنها أعباء ثقيلة اللهم
لقد أعنت عليها رسولك فأعني على قدر ما أقوم به منها، وإن كان ما أقوم به منها لا
يساوي جمرة من لظى ولا قطرة من ماء السماء. يا أيها المدثر في ثيابه يا محمد
رسولنا قم فأنذر لم يبق لك مجال للنوم والراحة فأنذر قومك في مكة وكل الثقلين من
وراء مكة أنذرهم عذاب النار المترتب على الكفر والشرك بالواحد القهار وربك فكبر أي
وربك فعظمه تعظيماً يليق بجلاله وكماله فإنه الأكبر الذي لا أكبر منه والعظيم الذي
لا أعظم منه فأعلن عن ذلك بلسانك قائلا الله أكبر وبحالك فلا تذل إلا له ولا ترغب
إلا فيه وكبره بأعمالك فلا تأت منها إلا ما أذن لك فيه أو أمرك به {وَثِيَابَكَ
فَطَهِّرْ} أي طهر ثيابك من النجاسات مخالفاً بذلك ما عليه قومك؛ إذ يجرون ثيابهم
ولا يتنزهون من أبوالهم {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} أي والأصنام التي يعبدها قومك
فاهجرها فلا تقربها ودم على هجرانها على دعوتك أجرا، ولا تمنن عطاء أعطيته لغيرك
تستكثر به ما عندك إن ذاك مناف لأجمل الأخلاق وكريم السجايا وسامي الآداب. واربك
وحده سواه فاصبر على كل ما تلقاه في سبيل إبلاغ رسالتك ونشر دعوتك دعوة الخير
والكمال هذا الذي أدب به الله رسول الله في فاتحة دعوته. ثم نزل بعد فإذا نقر في
الناقور والناقور البوق الذي ينفخ فيه اسرافيل والنقر يحدث صوتا
__________
1 هذا يسمى بهدية الثواب وهي جائزة للأئمة محرمة عليه صلى الله عليه وسلم بهذه
الآية. ولا تمنن تستكثر.
2 روى أحمد عن ابن عباس في قوله تعالى {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى
جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ، فقال: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما تأمرنا
يا رسول الله؟ قال قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا.
والصوت هو صوت البوق والمراد به النفخة الثانية نفخة
البعث والجزاء فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير صعب شديد لا يحتمل ولا
يطاق على الكافرين غير يسير1 فذكر به من تدعوهم فإن التذكير به نافع إن شاء الله،
ولذا كان من أعظم أركان العقيدة التي إن تمكنت من النفس تهيأ صاحبها لحمل كل ثقيل
ولإنفاق كل غال ورخيص ولفراق الأهل والدار الإيمان بالله واليوم الآخر إذ هما محور
العقيدة وعليهما مدار الإصلاح و الهداية.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الجد طابع المسلم، فلا كسل ولا خمول ولا لهو ولا لعب ومن فارق هذه فليتهم نفسه
في إسلامه.
2- وجوب تعظيم أسمائه وصفاته وتعظيم كلامه وكتابه, وتعظيم شعائره تعظيم ما عظم.
3- وجوب الطهارة للمؤمن بدناً وثوبا ومسجداً. أكلاً وشرباً وفراشاً ونفساً وروحا.
4- حرمة العجب فلا يعجب المؤمن بعمله ولا يزكي به نفسه ولو صام الدهر, وأنفق
الصخرة وجاهد الدهر.
5- وجب الصبر على الطاعات فعلا وعلى المعاصي تركاً وعلى البلاء تسليما ورضا.
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً (12)
وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ
أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً
(17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ
كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ
وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا
إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ
(27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ
عَشَرَ (30)
__________
1 في الآية دليل على أن حال المؤمنين في عرصات يوم القيامة غير حال الكافرين في
الشدة والبلاء.
شرح الكلمات:
ذرني ومن خلقت وحيدا :أي اتركني ومن خلقته وحيداً منفرداً بلا مال ولا ولد فأنا
أكفيكه.
وبنين شهودا : أي يشهدون المحافل وتسمع شهاداتهم وأغلب الوقت حاضرون ولا يغيبون.
ومهدت له تمهيدا : أي بسطت له في العيش والعمر والولد والجاه حتى كان يلقب بريحانة
قريش.
عنيدا :أي معانداً وهو الوليد بن المغيرة المخزومي.
سأرهقه صعودا : أي سأكلفه يوم القيامة صعود جبل من نار كلما صعد فيه هوى في النار
أبداً.
إنه فكر وقدر : أي فيما يقول في القرآن الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم
وقدر في نفسه ذلك.
ثم نظر ثم عبس وبسر: أي تروًى في ذلك ثم عبس أي قبض ما بين عينيه ثم بسر أي كلح
وجهه.
ثم أدبر واستكبر: أي عن الإيمان واستكبر عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
سحر يؤثر : أي ينقل من السحرة كمسيلمة وغيره.
سأصليه سقر : سأدخله جهنم وسقر اسم لها يدخله فيها لإحراقه بنارها.
لا تبقي ولا تذر : أي لا تترك شيئا من اللحم ولا العصب إلا أهلكته ثم يعود كما كان
لإدامة العذاب.
لواحة للبشر : أي محرقة مسودة لظاهر جلد الإنسان وهو بشرته والجمع بشر.
عليها تسعة عشر : أي ملكاً وهم خزنتها.
معنى الآيات:
لقد تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبء الدعوة وأمر بالصبر وشرع صلى الله عليه
وسلم في إنذار قومه المعركة كأحر وأشد ما تكون إذ أعلم قومه وهم من هم أنه لا إله
إلا الله وأنه هو رسول الله فتصدى له طاغية من أعظم الطغاة ساد الوادي مالاً
وولداً وجاهاً عريضا حتى لقب بريحانة قريش هذا هو الوليد بن المغيرة صاحب عشرة
رجال من صلبه وآلاف الدنانير من الذهب فلما أرهب رسول الله وأخافه قال له ربه
تبارك وتعالى {ذَرْنِي} أي دعني والذي خلقته {وَحِيداً1} فريداً بلا مال ولا ولد،
__________
1 عن ابن عباس: كان الوليد يقول أنا الوحيد بن الوحيد ليس لي في العرب نظير ولا
لأبي المغيرة نظير.
{وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً} واسعا تمده به
الزراعة والتجارة فصلا بعد فصل ويوما بعد يوم، {وَبَنِينَ شُهُوداً} لا يغيبون كما
يغيب الذين يطلبون العيش كما أنهم لمكانتهم يستشهدون فيشهدون فهم شهود على غيرهم.
ويشهدون المحافل وغيرها . {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً1} أي بسطت له في العيش
والعمر والولد والجاه العريض في ديار قومه، {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} أي أن
أزيده من المذكور في الآيات {كُلّاً} أي لن أزيده بعد اليوم، وعلل تعالى لمنعه
الزيادة بقوله: {إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا} "القرآنيه" {عَنِيداً} أي 2
معانداً يحاول إبطالها بعد رفضه لها. {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} أي سأكلفه عذابا
شاقا لا قبل له به وذلك جبل3 من نار في جهنم يكلف صعوده كلما صعد سقط وذلك أبداً.
وعلل أيضا لهذا العذاب الذي أعده له وأوعده به فقال تعالى {إِنَّهُ فَكَّرَ} أي
فيما يقول في القرآن لما طلبت منه قريش أن يقول فيه ما يراه من صلاح أو فساد.
{وَقَدَّرَ} في نفسه {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} أي لعن كيف قدر ذلك التقدير الذي
هو قوله {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ
الْبَشَرِ}. {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} فلعنه الله لعنتين تلازمانه واحدة في
الدنيا والأخرى في الآخرة وقوله تعالى عنه {ثُمَّ نَظَرَ} أي تروى {ثُمَّ عَبَسَ}
أي قطب فقبض مابين عينيه {وَبَسَرَ} أي كلح وجهه فاسود. فقال اللعين نتيجة تفكير
وتقدير ونظر {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} أي ما هذا القرآن إلا سحر ينقل عن
السحرة في اليمن ونجد والحجاز {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} أي ما هذا
الذي يتلوه محمد صلى الله عليه وسلم إلا قول البشر قال4 تعالى موعداً إياه على
قولته الكافرة الفاجرة {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} أي سأدخله نار سقر يصطلي بنارها، ثم
عظم تعالى من شأن سقر فقال 5{وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} أي أي شيء يدريك ما هي
وما شأنها فإنها عظيمة {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} أي لا تبقي لحما ولا تذر عصبا بل
تأتي على الكل لواحة6 للبشر أي تحرق الجلود وتسودها. والبشر جمع بشرة الجلدة ومن
ذلك سمي الآدميون بشرا لأن بشرتهم مكشوفة ليست مستورة بوبر ولا صوف ولا سعر ولا
ريش. وقوله تعالى {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} أي على سقر ملائكة يقال لهم الخزنة
عدتهم تسعة عشر ملكاً لقد كان لنزول هذه الآية سبب معروف وهو أن قريش اتهمت الوليد
بأنه صبا مال إلى دين محمد فسمع ذلك منهم فأنكر وحلف لهم فطلبوا إليه إن كان صادقا
أن
__________
1 قال القرطبي: التمهيد عند العرب التوطئة والتهيئة: ومنه مهد الصبي.
2 يقال عند يعند كضرب يضرب أي خالف ورد الحق وهو يعرفه فهو عنيد وعاند.
3 رواه الترمذي. وقال فيه غريب.
4 قال السدي يعنون أنه من قول سيار عبد لبني الحضرمي كان يجالس النبي صلى الله
عليه وسلم فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك.
5 ما استفهامية أي أي شيء يدريك وما سقر ما استفهامية مبتدأ وسقر خبره.
6 البشر جمع بشرة ومعنى لواحة مغيرة للون البشر بالسواد يقال لاحه الحر أو البرد
أو المرض إذا غيره قال الشاعر:
تقول ما لاحك يا مسافر
يابنة عمي لا حنى الهواجر
يقول في القرآن كلمة يصرف بها العرب عن محمد وما يقوله
ويدعو إليه فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ويقرأ في صلاته فاستمع
إليه ففكر وقدر كما أخبر تعالى عنه في هذه الآيات وقال قولته الفاجرة الكافرة. إن
هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر بعد أن وصف القرآن وصفا دقيقا بقوله و
والله إن لقوله لحلاوة وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه أي عليه
فقالوا والله لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه فقال دعوني حتى أفكر ففكر وقال ما
تقدم فنزلت هذه الآيات { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} إلى قوله {تِسْعَةَ
عَشَرَ}.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- المال والبنون والجاه من عوامل الطغيان إلا أن يسلم الله عبده من فتنتها.
2- من أكفر الناس من يعاند في آيات الله يريد صرف الناس عنها وإبطال هدايتها.
3- بيان ما ظفر به طاغية قريش الوليد بن المغيرة من لعنة وعذاب شديد.
4- تقرير الوحي وإثبات النبوة المحمدية.
5- تقرير البعث والجزاء.
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا
عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً
كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ
جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا
وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34)
إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ
مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
شرح الكلمات:
أصحاب النار : أي خزنتها مالك وثمانية عشر معه.
إلا ملائكة : أي لم نجعلهم بشراً ولا جناً حتى لا يرحموهم بحكم
الجنس.
وما جعلنا عدتهم :أي كونهم تسعة عشر.
إلا فتنة للذين كفروا : أي ليستخفوا بهم كما قال أبو الأشدين الجمحي فيزدادوا
ضلالا.
ليستيقن الذين أوتوا الكتاب : أي ليحصل اليقين لأهل التوراة والإنجيل بموافقة
القرآن لكتابيهما التوراة والإنجيل.
ولا يرتاب :أي ولا يشك أهل الكتاب والمؤمنون في حقيقة ذلك.
وليقول الذين في قلوبهم مرض : أي مرض النفاق.
ماذا أراد الله بهذا مثلا : أي أي شيء أراد الله بهذا العدد الغريب استنكاراً
منهم.
كذلك : أي مثل إضلال منكر هذا العدد وهدى مصدقه يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء.
وما هي إلا ذكرى للبشر : أي وما النار إلا ذكرى للبشر يتذكرون بها.
إذ أدبر : أي ولى ومضى.
إذا اسفر : أي أضاء وظهر.
إنها لأحدى الكبر: أي جهنم لإحدى البلايا العظام.
نذيرا للبشر: أي عذاب جهنم نذير لبني آدم.
لمن شاء منكم : أي أيها الناس.
أن يتقدم : أي بالطاعة.
أو يتاخر: أي بالمعصية.
معنى الآيات:
قوله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا
جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} هذه الآية نزلت رداً
على أبي الأشدين كلدة الجمحي الذي قال لما سمع قول الله تعالى {وَمَا أَدْرَاكَ
مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ
عَشَرَ} قال لقريش ساخراً مستهزئاً أنا أكفيكم سبعة عشر واكفوني انتم اثنين، ومرة
قال أنا أمشي بين أيديكم على الصراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعه بمنكبي الأيسر
في النار ونمضي فندخل الجنة. فأنزل الله تعالى قوله {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ
النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً} أي لم نجعلهم بشراً ولا جناً حتى لا يرحموا أهل النار
بخلاف لو
كانوا بشرا قد يرحمون بني جنسهم ولو كانوا جنا فكذلك،
ولذا جعلهم من الملائكة فلا تتناسب بينهم وبين الإنس والجن والمراد بأصحاب النار
خزنتها وهم مالك وثمانية عشر هؤلاء رؤساء في جهنم أما من عداهم فلا تتسع لهم
العبارة ولا حتى الرقم الحسابي وكيف وقد قال تعالى {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ
رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}، وقوله {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ1} أي كونهم تسعة عشر
{إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ2 كَفَرُوا} ليزدادوا ضلالا وكفرا وقد تم هذا فإن أبا
جهل كأبي الأشدين قد فتنا بهذا العدد وازدادا ضلالا وكفرا بما قالا، وقوله تعالى
{لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أي أخبرنا عن عددهم وأنه تسعة عشر
ليستيقن3 الذين أوتوا الكتاب4 لموافقة القرآن لما عندهم في كتابهم. ويزداد الذين
أمنوا إيمانا فوق إيمانهم عندما يرون أن التوراة موافقة للقرآن الكريم كشاهد له،
وقوله {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} أي حتى لا
يقعوا في ريب وشك في يوم من الأيام لما اكتسبوا من المناعة بتضافر الكتابين على
حقيقة واحدة. وقوله {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} أي وما جعلنا عدتهم تسعة
عشر إلا ليقول الذين في قلوبهم مرض وهو النفاق والشك والكافرون الكفر الظاهر من
قريش وغيرهم ماذا أراد الله بهذا مثلا أي أي شيء أراده الله بهذا الخبر الغريب
غرابة الأمثال قالوا هذا استنكارا وتكذيبا. فهذه جملة علل ذكرها تعالى لإخباره عن
زبانية جهنم ثم قال وقوله الحق { كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي
مَنْ يَشَاءُ} أي مثل إضلال منكر هدا العدد وهدى مصدقه يضل الله من يشاء إضلاله
ويهدي من يشاء هدايته. وقوله تعالى {وَمَا يَعْلَمُ 5جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}
هذا جواب أبي جهل القائل أما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر استخفافا وتكذيبا فأخبر
تعالى أن له جنوداً لا يعلم عددها ولا قوتها إلا هو وقد ورد أن لأحدهم مثل قوة
الثقلين يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل فيرمي بهم في النار ويرمي الجبل عليهم،
ولا عجب وأربعة ملائكة يحملون العرش الذي هو أكبر ممن السموات والأرضين فسبحان
الخلاق العليم سبحان الله العزيز الرحيم سبحان الله ذي الجبروت والملكوت. وقوله
تعالى وما هي6 أي جهنم إلا ذكرى للبشر أي تذكرة يذكرون بها عظمة الله
__________
1 تقدير الكلام: ما جعلنا ذكر عدتهم لعلةٍ وغرض إلا لغرض فتنة الذين كفروا.
2 روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن فتنة بمعنى ضلالة للذين كفروا يريد أبا جهل
وذويه، وقيل إلا عذاباً كقوله تعالى { يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ
ُوقُوا فِتْنَتَكُمْ}.
3 قوله ليستيقن الذين أوتوا الكتاب. علة ثانية لفعل وما جعلنا والاستيقان قوة
اليقين والمراد من الاستيقان قوة اليقين.
4 أوتوا الكتاب هم اليهود. فقد روى الترمذي بسنده إلى جابر بن عبد الله قال قال
ناس من اليهود لأناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يعلم نبيكم عدد
خزنة جهنم؟ قالوا لا ندري حتى نسأل.
5 هذه الجملة كلمة جامعة لإبطال التخرصات التي يتخرصها المبطلون الضالون وإضافة
الرب إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إضافة تشريف وفيها الإيماء بنصره صلى الله
عليه وسلم بتلك الجنود التي هم جنود ربه عز وجل.
6 جائز أن يكون الضمير (وما هي) عائد إلى عدة الملائكة التسعة عشر وجائز أن يكون
عائداً إلى الآيات القرآنية أو إلى سقر أو إلى جنود ربك وهذا من الإعجاز القرآني
وأن الكلمة الواحدة تدل على ما لا يدل عليه عشرات الكلمات.
ويخافون بها عقابه. وقوله {كَلَّا1 وَالْقَمَرِ
وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} أي كلا أي ليس القول كما
يقول من زعم من المشركين أنه يكفي أصحابه المشركين خزنة جهنم حتى يجهضهم عنها.
والقمر والليل إذا أدبر ولى ذاهبا والصبح إذا أسفر أي أضاء وأقبل {إِنَّهَا
لَإِحْدَى الْكُبَرِ} أي أقسم تعالى بالقمر والليل إذا أدبر والصبح إذا أسفر على أن
جهنم2 لإحدى الكبر أي البلايا العظام {نَذِيراً لِلْبَشَرِ} أي بني آدم، وقال
نذيرا ولم يقل نذيرة وهي جهنم لأنها بمعنى العذاب أي عذابها نذير للبشر. وقوله
{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ} في طاعة الله ورسوله حتى يبلغ الدرجات
العلا، ومن شاء {أَو يَتَأَخَّرَ} في معصية الله ورسوله حتى ينزل الدركات السفلى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان الحكمة من جعل عدد الزبانية تسعة عشر والإخبار عنهم بذلك.
2- موافقة التوراة والإنجيل للقرآن من شأنها أن تزيد إيمان المؤمنين من الفريقين.
3- في النار من الزبانية ما لا يعلم عددهم إلا الله تعالى خالقهم.
4- جهنم نذير للبشر أي عذابها نذير للبشر لمن شاء أن يتقدم بالطاعة أو يتأخر
بالمعصية.
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي
جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ
(42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ
الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ
بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ
شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ
يُرِيدُ
__________
1 حرف ردع وإبطال والغالب أنها تقع بعد كلام من متكلم واحد ومتكلم وسامع فتفيد
الردع عما تضمنه الكلام السابق ذهب ابن جرير إلى أنها هنا للردع وإبطال ما زعمه
المشركون من القدرة على الزبانية كما في التفسير. وعليه فالوقف عليه مستحسن ومنهم
من جعلها افتتاح كلام نحو ألا وعليه فالوقف لا يحسن عليها بل على القمر.
2 القول بأنها سقر أقرب من جهنم لتقدم ذكر سقر بلفظها والأمر واسع.
كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً
مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ
تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
شرح الكلمات:
كل نفس : أي مأمورة منهية.
رهينة : أي مرهونة مأخوذة بعملها في جهنم.
إلا أصحاب اليمين: أي المؤمنين فهم ناجون من النار وهم في جنات النعيم يتساءلون عن
المجرمين.
ولم نك نطعم المسكين: أي بخلا بما أتاهم الله.
وكنا نخوض : أي في الباطل وفيما يكره الله تعالى مع الخائضين.
نكذب بيوم الدين :بيوم المجازاة والثواب ولا نصدق بثواب ولا عقاب.
حتى أتانا اليقين : أي الموت.
عن التذكرة معرضين : أي الموعظة منصرفين لا يسمعونها ولا يقبلون عليها.
حمر مستنفرة : أي كأنهم حمر وحشية مستنفرة.
فرت من قسورة: أي هربت من أسد أشد الهرب.
بل يريد كل أمرىء منهم : أي ليس هناك قصور في الأدلة والحجج التي قدمت لهم بل يريد
كل واحد منهم.
أن يؤتى صحفا منشرة : أي يصبح وعند رأسه كتاب من الله رب العالمين إلى فلان آمن
بنبينا محمد واتبعه.
إنه تذكرة : أي عظة وعبرة.
فمن شاء ذكره : أي قرأه واتعظ به.
هو أهل التقوى : أي هو أهل لأن يتقي لعظمة سلطانه وأليم عقابه.
وأهل المغفرة: أي وأهل لأن يغفر للتائبين من عباده والموحدين.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى {كُلُّ نَفْسٍ} أي
يوم القيامة {رَهِينَةٌ} بمعنى مرهونة محبوسة أي كل نفس مأمورة منهية بمعنى مكلفة
بخلاف نفوس غير المكلفين من أطفال ومجانين وقوله {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ}
فإنهم قد فك رهنهم وهم في جنات النعيم يتساءلون فيما بينهم عن أصحاب الجحيم وكيف
حالهم ثم يتصلون بهم وهم في جنات النعيم والمجرمون في سواء الجحيم، ويتم الاتصال
برؤية الشخص وسماع كلامه وفي الصناعات الحديثة اليوم ما جعل هذا أمراً معقولا
فيقولون لهم { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} أي أدخلكم في سقر فأجابوهم قائلين
{قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا
نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا
الْيَقِينُ} فذكروا لهم أعظم الجرائم وهي ترك الصلاة ومنع الزكاة والتخوض مع أهل
الباطل في كل شر وفساد والتكذيب بيوم القيامة وأنه لا حساب ولا جزاء أي لا ثواب
ولا عقاب وأنهم مع هذه الجرائم الموجبة للسلوك في سقر لم يتوبوا منها حتى أتاهم
اليقين الذي هو الموت فإن من مات دخل الدار الآخرة من عتبتها وهي القبر فلذا قالوا
حتى أتانا اليقين أي الموت. وقد يقال ألم يكن هناك شفعاء من الملائكة و الأنبياء
والعلماء والشهداء يشفعون؟ والجواب هو في قوله تعالى {فَمَا تَنْفَعُهُمْ
شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} أي لم تكن لهم شفاعة لأنهم ملاحدة مجرمون. وقوله تعالى
{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} أي فما لهؤلاء المشركين المكذبين
بالبعث والجزاء عن التذكرة التي يذكرون بها في آيات هذه السورة وغيرها معرضين إنه
أمر عجيب أي شيء يجعلهم يعرضون عنها هاربين منها فارين {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ} وحشية
{مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} أي فرت هاربة أشد الهرب من أسد من أسود
الصحراء الطاغية إن فرارهم من هذه الدعوة وإعراضهم عنها ليس عن قصور في أدلتها
وضعف في حجتها بل يريد كل واحد منهم أن يؤتى كتاباً من الله يأمره فيه بالإيمان و
اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وهذا هو العناد والمكابرة وصاحبهما غير مستعد
للإيمان بحال من الأحوال. وهذه الآية كقوله تعالى: {حَتَّى1 تُنَزِّلَ عَلَيْنَا
كِتَاباً نَقْرَأُهُ} هذا معنى قوله تعالى {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ
أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً}. وقوله تعالى {كَلَّا بَلْ لا يَخَافُونَ
الْآخِرَةَ} أي ليس الأمر كما يقولون ويدعون بل إن علة إعراضهم الحقيقية هي عدم
خوفهم من عذاب الله يوم القيامة. وقوله تعالى {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} أي ألا
إن هذا القرآن تذكرة فمن شاء ذكره أي قرأه فاتعظ به فآمن بالله
__________
1 الآية من سورة الإسراء وهي (أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا
كتاباً نقرأه) إذ روي أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا يا محمد لن نؤمن بك حتى
تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه من رب العالمين إلى فلان بن فلان ونؤمر
فيه بأتباعك.
واتقاه فإنه ينجو ويسعد في جوار مولاه ومن لم يشأ ذلك
فحسبه سقر وما أدراك ما سقر. وقوله تعالى {وَمَا يَذْكُرُونَ1 إِلَّا أَنْ يَشَاءَ
اللَّهُ} أي ما يذكر من يذكر إلا بمشيئة الله فلا بد من الافتقار إلى الله وطلب
توفيقه في ذلك إذ لا استقلال لأحد عن الله ولا غنى بأحد عن الله بل الكل مفتقر
إليه ومشيئته تابعة لمشيئته وقوله {هُوَ2 أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ
الْمَغْفِرَةِ} لقد3 صح أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية فقال قال ربكم
أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله فمن اتقاني فلم يجعل معي إلهاً فأنا أهل أن أغفر
له.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فكاك كل نفس مرهونة بكسبها هو الإيمان والتقوى.
2- بيان أكبر الجرائم وهي ترك الصلاة ومنع الزكاة والخوض في الباطل وعدم التصديق
بالحساب والجزاء.
3- لا شفاعة يوم القيامة لمن مات وهو يشرك بالله شيئا.
4- مرد الانحراف في الإنسان إلى ضعف إيمانه بالبعث والجزاء.
5- الله جل جلاله هو ذو الأهلية الحقة لأمرين عظيمين التقوى فلا يتقى على الحقيقة
إلا هو والمغفرة فلا يغفر الذنوب إلا هو اللهم اغفر ذنوبنا فإنه لا يغفر الذنوب
إلا أنت.
__________
1 قرأ نافع وما تذكرون بالتاء على الالتفاف, وقرأ حفص وما يذكرون بالياء على
الغيبة.
2 تعريف جزيء الجملة مفيد للقصر أي الله وحده المتأهل للتقوى والمغفرة لا سواه.
3 الحديث رواه الترمذي وقال فيه حسن غريب ونصه: قال الله تعالى "أنا أهل أن
أتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له".
سورة القيامة
...
سورة القيامة
مكية وآياتها أربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ
(2) أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ
عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ
يُرِيدُ الْأِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ
أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ
الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْأِنْسَانُ
يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ
وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى
مَعَاذِيرَهُ (15)
شرح الكلمات:
لا :أي ليس الأمر كما يدعي المشركون من أنه لا بعث ولا جزاء.
أقسم بيوم القيامة :أي الذي كذب به المكذبون.
ولا أقسم بالنفس اللوامة :أي لتبعثن ولتحاسبن ولتعاقبن أيها المكذبون الضالون.
اللوامة :أي التي إن أحسنت لامت عن عدم الزيادة وإن أساءت لامت عن عدم التقصير.
أيحسب الإنسان :أي الكافر الملحد.
أن لن نجمع عظامه :أي ألا نجمع عظامه لنحييه للبعث والجزاء.
بلى قادرين : أي بلى نجمعهما حال كوننا قادرين مع جمعها على تسوية بنانه.
على أن نسوي بنانه :أي نجعل أصابعه كخف البعير أو حافر الفرس فلا يقدر على العمل
الذي يقدر عليه الآن مع تفرقة أصابعه. كما نحن قادرون على جمع تلك العظام الدقيقة
عظام البنان وردها كما كانت كما نحن قادرون على تسوية تلك الخطوط الدقيقة في
الأصابع والتي تختلف بين إنسان وإنسان اختلاف الوجوه والأصوات واللهجات.
بل يريد الإنسان :أي بإنكاره البعث والجزاء.
ليفجر أمامه :أي ليواصل فجوره زمانه كله ولذلك أنكر البعث.
يسأل أيان يوم القيامة :أي يسأل سؤال استنكار واستهزاء واستخفاف.
فإذا برق البصر :أي دهش وتحير لما رأى ما كان به يكذب.
وخسف القمر :أي أظلم بذهاب ضوئه.
وجمع الشمس والقمر :أي ذهب ضوءهما وذلك في بداية
الانقلاب الكوني الذي تنتهي فيه هذه الحياة.
أين المفر :أي إلى أين الفرار.
كلا : ردع له عن طلب الفرار.
لا وزر :أي لا ملجأ يتحصن به.
بل الإنسان على نفسه بصيرة :أي هو شاهد على نفسه حيث تنطق جوارحه بعمله.
ولو ألقى معاذيره :أي فلابد من جزائه ولو ألقى معاذيره.
معنى الآيات:
قوله تعالى {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}1 أي ما الأمر كما تقولون أيها
المنكرون للبعث والجزاء أقسم بيوم القيامة الذي تنكرون وبالنفس اللوامة التي
ستحاسب وتجزي لا محالة لتبعثن2 ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير. وقوله
تعالى {أَيَحْسَبُ الْإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} أي بعد موته وفنائه
وتفرق أجزائه في الأرض، والمراد من الإنسان هنا الكافر الملحد قطعاً {بَلَى
قَادِرِينَ عَلَى3 أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} أي بلى نجمعها حال كوننا قادرين على
ذلك وعلى ما هو أعظم وهو تسوية بنانه أي أصابعه بأن نجعلها كخف البعير أو حوافر
الحمير، فيصبح يتناول الطعام بفمه كالكلب والبغل والحمار. وقوله {بَلْ4 يُرِيدُ
الْأِنْسَانُ لِيَفْجُرَ5 أَمَامَهُ} أي ما يجهل الإنسان قدرة خالقه على إعادة
خلقه ولكنه يريد أن يواصل فجوره مستقبله كله فلا يتوب من ذنوبه ولا يؤوب من معاصيه
لأن شهواته مستحكمة فيه، وقوله تعالى {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ؟}
يخبر تعالى عن المنكر للبعث من أحل مواصلة الفجور من زنا وشرب خمور بأنه يقول أيان
يوم القيامة استبعادا واستنكارا
__________
1 في (لا) هنا توجيهان الأول ما آثره ابن جرير وهو ما اخترناه في التفسير, وأنها
نافية لدعوى سابقة إبطالا لها والكلام بعدها مستأنف. والثاني أنها أي (لا) حرف نفي
أدخل على (أقسم) لقصد المبالغة في تحقيق حرمة المقسم به بحيث يوهم السامع أن
المتكلم يهم أن يقسم ثم يترك القسم مخافة الحنث بالمقسم به فيقول لا أقسم به ولا
أقسم بأعز منه عندي، والمراد تأكيد القسم ووجه ثالث وهي أنها مزيدة لتقوية الكلام.
2 لتبعثن هو جواب القسم.
3 بلى حرف إبطال للنفي أي بل نجمعها أي العظام المتفرقة حال كوننا قادرين على ذلك
وعلى ما هو أعظم وهو تسوية بنانه.
4 بل هنا للإضراب الانتقالي من تقريره حقيقة إلى أخرى أعجب وأغرب وهي الكشف عن سر
إنكار الملاحدة للبعث وهو مواصلتهم الفجور عن كل خلق ودين ومروءة وأدب لانهزامهم
لشهواتهم البهيمية.
5 اللام في ليفجر هي اللام التي يكثر وقوعها بعد مادتي الأمر والإرادة نحو وأمرت
لأعدل بينكم ويريد الله ليبين لكم، وقول كثير:
أريد لأنسى حبها فكأنهما
تمثل لي ليلي بكل مكان
وينصب الفعل بعدها بأن مضمرة وهل للتعليل أو زائدة خلاف.
وتسويفا للتوبة فبين تعالى له وقت مجيئه بقوله {فَإِذَا
بَرِقَ الْبَصَرُ1} أي عند الموت بأن تحير واندهش {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} أي أظلم
وذهب ضوءه، {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} أي ذهب ضوءهما وذلك في بداية
الانقلاب الكوني الذي تنتهي فيه هذه الحياة {يَقُولُ الْأِنْسَانُ} الكافر
{يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ؟} أي إلى أين الفرار يا ترى؟ قال تعالى {كَلَّا} أي
لا فرار اليوم من قبضة الجبار أيها الإنسان الكافر {لا وَزَرَ} أي لا حصن ولا
ملتجأ وإنما {إِلَى رَبِّكَ} اليوم {الْمُسْتَقَرُّ} أي الانتهاء والاستقرار إما
إلى جنة وإما لإلى نار وقوله تعالى {يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا
قَدَّمَ وَأَخَّرَ} أي يوم تقوم الساعة يخبر الإنسان من قبل ربه تعالى بما قدم من
أعماله في حياته الخير والشر سواء وبما أخر بعد موته من سنة حسنة سنها أو سيئة
كذلك وقوله تعالى {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى
مَعَاذِيرَهُ} أي عندما يتقدم الإنسان للاستنطاق فيخبر بما قدم وأخر هناك يحاول أن
يتنصل من بعض ذنوبه فتنطق جوارحه ويختم على لسانه فيتخذ من جوارحه شهود عليه فتلك
البصيرة2ولو ألقى معاذيره3 واعتذر ولا يقبل منه ذلك لكونه شاهدا على نفسه بجوارحه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- بيان إفضال الله على العبد في خلقه وتركيب أعضائه.
3- معجزة قرآنية أثبتها العلم الصناعي الحديث وهي عدم تسوية خطوط الأصابع.
4- فكما خالف تعالى بين الإنسان والإنسان وبين صوت وصوت فرق بين خطوط الأصابع فلذا
استعملت في الإمضاءات وقبلت في الشهادات.
5- تقرير مبدأ أن المؤمن يثاب على ما أخر من سنة حسنة يعمل بها بعده كما يأثم بترك
السنة السيئة يعمل بها كذلك بعده.
__________
1 قرأ نافع برق البصر بفتح الراء ومعناه لمع من شدة شخوصه فهو لا يطرف وقرأ برق
بكسر الراء ومعناه دهش وتحير. وهذا عند موت الإنسان.
2 البصيرة جائز أن يراد بها الملكان بقرينة. ولو ألقى معاذيره أي لو أرخى ستوره إذ
الستر بلغة اليمن المعذار وجائز أن يكون المراد بها الإنسان نفسه أي حجة على نفسه
وما في التفسير أولى بمعناها.
3 المعاذير أسم جمع معذرة وليس جمعاً، لأن معذرة حقه أن يجمع على معاذر كمقبرة
ومقابر، والمراد من معاذر الإنسان: ما يعتذر به كقولهم :ما جاءنا بشير ولا نذير
وقولهم { رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً } وقولهم {هؤلاء أضلونا } وقولهم { والله
ربنا ما كنا مشركين}.
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ
عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
(18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ
(20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى
رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ
يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
شرح الكلمات:
لا تحرك به لسانك :أي لا تحرك بالقرآن لسانك قبل فراغ جبريل منه.
لتعجل به :أي مخافة أن يتفلت منك.
إن علينا جمعه :أي في صدرك.
وقرآنه :أي قراءتك له بحيث نجريه على لسانك.
فإذا قرأناه :أي قرأه جبريل عليك.
فاتبع قرآنه :أي استمع قراءته.
ثم إن علينا بيانه :أي لك بتفهيمك ما يشكل عليك من معانيه.
كلا :أي ليس الأمر كما تزعمون أنه لا بعث ولا جزاء.
تحبون العاجلة :أي الدنيا فيعملون لها.
وتذرون الآخرة :أم ويتركون الآخرة فلا يعملون لها.
ناضرة :أي حسنة مضيئة.
إلى ربها ناظرة :أي إلى الله تعالى ربها ناظرة بحيث لا تحجب عنه تعالى.
باسرة :أي كالحة مسودة عابسة.
تظن : أي توقن.
أن يفعل بها فاقرة :أي داهية عظيمة تكسر فقار الظهر.
معنى الآيات:
لما ندد تعالى بالمعرضين عن القرآن المكذبين به وبالبعث والجزاء ذكر في هذه الآيات
المقبلين على القرآن المسارعين إلى تلقيه فكانت المناسبة بين هذه الآيات وسابقتها
المقابلة بالتضاد.
فقال تعالى مؤدباً رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم {لا
تُحَرِّكْ بِهِ1} أي بالقرآن {لِسَانَكَ} قبل فراغ جبريل من قراءته عليك. إذ كان
صلى الله عليه وسلم حريصا على القرآن يخاف أن يتفلت منه شيء فأكرمه ربه بالتخفيف
عليه وطمأنه أن لا يفقد منه شيئا فقال له {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ
بِهِ} مخافة أن يتفلت منك {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} أي في صدرك {وَقُرْآنَهُ}
على لسانك حيث نسهل ذلك ونجريه على لسانك، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} أي قرأه جبريل
عليك {فَاسْتَمِعْ} له ثم اقرأه كما قرأه واعمل بشرائعه وأحكامه. وقوله تعالى
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ2} أي إنا نبين لك ما يشكل عليك من معانيه حتى
تعمل بكل ما طلب منك أن تعمل به. وقوله تعالى {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ
الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} عاد السياق الكريم إلى تقرير عقيدة البعث
والجزاء والتي عليها وعلى الإيمان بالله مدار الإصلاح والتهذيب فقال {كَلَّا3} أي
ليس كما تدعون من عدم إمكان البعث والجزاء لأنكم تعلمون أن القادر على إيجادكم
اليوم وإعدامكم غداً قادر على إيجادكم مرة أخرى، ولكن الذي جعلكم تكذبون بالبعث
والجزاء هو حبكم للحياة العاجلة أي الدنيا وما فيها من لذات وشهوات، وترككم للآخرة
أي للحياة الآخرة لأنها تكلفكم الصلاة والصيام والجهاد، والتخلي عن كثير من اللذات
والشهوات. بعد أن كشف عن نفسيات المكذبين توبيخا لهم وتقريعاً عرض على أنظارهم
منظراً حيا وصورة ناطقة لما يتجاهلونه من شأن الآخرة فقال {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} أي
يوم إذ تقوم القيامة {نَاضِرَةٌ} أي حسنة4مضيئة مشرقة لأن أرواح أصحابها كانت في
الدنيا مشرقة بنور الإيمان وصالح الأعمال {إِلَى رَبِّهَا5 نَاظِرَةٌ} سعيدة بلقاء
ربها مكرمة بالنظر إليه وهي في جواره {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} أي كالحة
مسودة عابسة وذلك لأن أرواح أصحابها كانت في الدنيا تعيش على ظلمة الكفر وعفن
الذنوب ودخان المعاصي فانطبعت النفس على الوجه فهي باسرة حالكة عابسة {تَظُنُّ} أي
توقن أي الوجوه والمراد أصحابها {أَنْ يُفْعَلَ6 بِهَا فَاقِرَةٌ} أي داهية عظيمة
تكسر فقار
__________
1 روى الترمذي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا نزل عليه القرآن يحرك به لسانه يريد أن يحفظه فأنزل الله تعالى {ولا تحرك به
لسانك لتعجل به} فكان يحرك شفتيه، وحرك سفيان شفتيه. قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
2 أي تفسير ما فيه من الحدود والحلال والحرام وكيفيات العبادات وجائز أن يبين له
الوعد والوعيد بتحقيقهما.
3 كلا حرف ردع إبطال وفي التفسير بيان ما أبطل بها.
4 وشاهد هذا الحديث: "نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما
سمعها" .
5 نفى المعتزلة والخوارج وعامة الفرق الضالة نفوا رؤية الله تعالى في الدار الآخرة
وردوا بذلك الكتاب والسنة فهذه الآية صريحة في جواز النظر إلى وجه الله تعالى وآية
المطففين. {إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} فغيرهم من أهل الإيمان وصالح الأعمال غير
محجوبين, ومن السنة حديث البخاري وغيره " إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون
هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس
وقبل غروبها فافعلوا" (متفق عليه) وأحاديث أخرى ويكفي إجماع أهل السنة
والجماعة.
6 الفقرة بكسر الفاء وتفتح والجمع فقر وفقار وفقر وفقرات وفقرات خرزات الظهر.
الظهر منها وهي القاؤه {فِي سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا
سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}
فاذكروا هذا يابشر!!
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ
الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ
الْمَسَاقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32)
ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ
أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36)
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ
فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39)
أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
شرح الكلمات:
إذا بلغت :أي النفس.
التراقي :جمع ترقوة أي عظام الحلق.
وقيل من راق :أي وقال من حوله من عواده أو ممرضيه هل هناك من يرقيه ليشفى؟ .
وظن أنه الفراق : أي أيقن أنه للدنيا لبلوغ الروح الحلقوم.
والتفت الساق بالساق :أي التقت إحدى ساقيه بالأخرى أو التفت شدة فراق الدنيا بشدة
إقبال الآخرة وما فيها من أهوال.
إلى ربك يومئذ المساق :أي إذا بلغت الروح الحلقوم تساق إلى ربها وخالقها لتلقى
جزاءها.
فلا صدق ولا صلى :أي الإنسان الذي يحسب أن لن يجمع الله عظامه ما صدق ولا صلى.
ولكن كذب :أي بالقرآن.
وتولى :أي عن الإيمان.
يتمطى :أي يتبختر في مشيته إعجابا بنفسه.
أولى لك :أي وليك المكروه أيها المعجب بنفسه المكذب بلقاء ربه.
فأولى :أي فهو أولى بك.
ثم أولى لك فأولى :أي وليك المكروه مرة ثانية فأولى فهو أولى بك أيضا.
أن يترك سدى :أي مهملا لا يكلف في الدنيا ولا يحاسب ويجزى في الآخرة.
تمنى :أي تصب في الرحم.
فخلق فسوى :أي خلق الله منها الإنسان فسواه بتعديل أعضائه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقوله تعالى {كَلَّا} أي ليس
الأمر كما تحسب أيها الإنسان أن الله لا يجمع عظامك ولا يحييك ولا يجزيك انظر إليك
وأنت على فراش الموت إلى أين يكون مساقك إذا بلغت روحك التراقي1 من عظام حلقك وقال
عوادك وممرضوك هل من راق يريقك أو طبيب يداويك وأيقنت أنه الفراق لدنياك وأهلك
وذويك، والتفت ساقك اليمنى باليسرى2 وشدة فراقك الدنيا بشدة إقبالك على الآخرة هنا
انظر إلى أين يذهب بك أما جسمك فإلى مقره في الأرض تواريك، وأما روحك فإلى ربك
ليحكم فيك. وقد كذبت بآياته وكفرت بآلائه. فلا صدقت ولا صليت، ولكن كذبت وتوليت
كان هذا نصيبك من دينك، وأما دنياك، فقد كنت تتمطى استكبارا وتتبختر إعجابا. إذاً
{أَوْلَى3 لَكَ فَأَوْلَى} أي وليك الهلاك في الدنيا {ثُمَّ أَوْلَى لَكَ
فَأَوْلَى} أي وليك العذاب في الآخرة وعودة إلى تقريعك وتوبيخك يا من كفرت ربك
وتنكرت لأصلك اسمع ما يقال لك أحسبت أنك تترك سدى، تعيش سبهللا، لا تؤمر ولا تنهى،
لا يؤخذ منك ولا تعطي كلا ألم تك قبل كفرك وجحودك نطفة قطرة ماء من منيّ تمنى قل بلى
أو أولى لك فأولى، ثم كنت علقة فخلقك الله جل جلاله منها فسوىّ خلقك بتعديل أعضائك
فجعل من نوعك الذكر والأنثى. قل لي بربك هل تنكر ذلك فإن قلت لا. قلنا أليس الله
بقادر على أن يحي الموتى؟ سبحانك اللهم بلى.4
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية الرقية إذا كانت بالقرآن أو الكلم الطيب.
2- التنويه بشأن الزكاة والصلاة فرائض ونوافل.
__________
1 التراقي جمع ترقوة وهي العظام المكتفة لنقرة النحر موضع الحشرجة قال دريد بن
الصمة
ورب عظيمة دافعت عنهم
وقد بلغت نفوسهم التراقي
2 أي التفت شدة فراقك الدنيا بشدة إقبالك على الآخرة هذا أحد وجهين في تفسير الآية
وفي التفسير كلا الوجهين إلا أن في هذا خفاء فأوضحته هنا.
3 ما هناك حاجة إلى أن يقال هذا في أبي جهل إذ هو خطاب لكل إنسان كافر مشرك ضال
وسواء كان قد مضى أهو حاضر اليوم أو يأتي غدا إذ لفظ الإنسان في قوله تعالى أيحسب
الإنسان لفظ عام).
4 لقد أستمالني الأسلوب الأدبي فأخذت أخاطب الإنسان الهالك مقرعاً موبخاً بما
تضمنته الآيات فهم مدلولها للاتعاظ والاهتداء بهديها، فإن لم يك هذا مرضياً فاعف
عني واغفر لي. آمين.
3- تحريم العجب والكبرياء والتبختر في المشي.
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
5- الإنسان لم يخلق عبثا والكون كله كذلك.
6- مشروعية قول سبحانك اللهم بلى لمن قرأ هذه الآية أو سمعها إماماً كان أو
مأموماً وهي {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}
سورة الإنسان
...
سورة الإنسان
مدنية وآياتها إحدى وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً
مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ
نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ
إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ
سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ
كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ
يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ
شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً
وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ
مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً
عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ
وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً
وَحَرِيراً (12)
شرح الكلمات:
هل أتى :أي قد أتى.
على الإنسان :أي آدم عليه السلام.
حين من الدهر :أي أربعون سنة.
لم يكن شيئا مذكورا :أي لا نباهة ولا رفعة له لأنه طين لازب وحمأ مسنون وذلك قبل
أن ينفخ الله تعالى فيه الروح.
أمشاج : أي أخلاط من ماء المرأة وماء الرجل.
نبتليه : أي نختبر بالتكاليف بالأمر والنهي عند تأهله لذلك بالبلوغ والعقل.
إنا هديناه السبيل :أي بينا له طريق الهدى ببعثة الرسل وإنزال الكتب.
إنا أعتدنا :أي هيأنا.
سلاسل :أي يسحبون بها في نار جهنم.
وأغلالا :أي في أعناقهم.
وسعيرا :أي ناراً مسعرة مهيجة.
إن الأبرار :أي المطيعين لله ورسوله الصادقين في إيمانهم وأقوالهم وأحوالهم.
مزاجها :أي ما تمزج به وتخلط.
يفجرونها : أي يجرونها ويسيلونها حيث شاءوا.
شره مستطيرا :أي ممتدا طويلا فاشيا منتشرا.
عبوسا :أي تكلح الوجوه من طوله وشدته.
نضرة وسرورا :أي حسنا ووضاءة في وجوههم وفرحاً في قلوبهم.
معنى الآيات:
قوله تعالى {هَلْ أَتَى1 عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ
شَيْئاً مَذْكُوراً} يخبر تعالى عن آدم أبي البشر عليه السلام أنه أتى عليه حين من
الدهر قد يكون أربعين سنة وهو صورة من طين لا روح فيها، فلم يكن في ذلك الوقت له
نباهة أو رفعة فيذكر. هذا الإنسان الأول آدم أخبر تعالى عن بدء أمره. وقوله
{إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} يخبر تعالى عن الإنسان
الذي هو ابن آدم أنه خلقه من نطفة وهي2ما ينطف ويقطر من ماء الرجل وماء المرأة،
ومعنى أمشاج3
__________
1 الاستفهام تقريري بمعنى أتى على الإنسان كذا. وجائز أن يكون المراد من الإنسان
غير آدم وكونه آدم هو المراد من الآية أولى.
2 يقال مشج الشيء يمشجه أي خلطه فهو ممشوج و مشيج مثل مخلوط وخليط وهل أمشاج جمع
مشج على وزن سبب وأسباب أو هو مفرد خلاف.
3 من نطفة أي من ماء يقطر وهو المني وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة كقول عبد الله
بن رواحة:
مالي أراك تكرهين الجنة
هل أنت إلا نطفة في شنة
أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة فهذا مبدأ خلق الإنسان
ابن آدم. وقوله {نَبْتَلِيهِ1} أي نختبره بالتكاليف بالأمر والنهي وذلك عند تأهله
لذلك بالبلوغ والعقل ولذلك جعله سميعا بصيرا إذ بوجود السمع والبصر معاً أو
بأحدهما يتم التكليف فإن انعدما فلا تكليف لعدم القدرة عليه. وقوله تعالى {إِنَّا
هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} أي بينا له طريق الهدى ببعثة الرسل وإنزال الكتب واستبان
له بذلك أيضا طريق الغي والردى إذ هما النجدان إن عرف أحدهما عرف الثاني وهو في
ذلك إما2 أن يسلك سبيل الهدى فيكون شكورا، وإما أن يسلك سبيل الغي والردى فيكون
كفورا، والشكور المؤمن الصادق في إيمانه المطيع لربه، والكفور المكذب بآيات الله
ولقائه. وقوله تعالى {إِنَّا3 أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ} الآيات شروع في بيان ما
أعد لكل من سالكي سبيل الرشد وسالكي سبيل الغي فقال بادئا بما أعد لسالكي سبيل
الغي موجزا في بيان ما أعد لهم من عذاب بخلاف ما أعد لسالكي سبيل الرشد فإنه نعيم
تفصيله محبوب والإطناب في بيانه مرغوب فقال {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ
سَلاسِلا وَأَغْلالاً} يسحبون بها في النار، وأغلالا تغل بها أيديهم في أعناقهم
وسعيرا متأججا وجحيما مستعرا. هذا موجز ما أعد لسالكي سبيل الغي أما سالكي سبيل
الرشد فقد بينه بقوله {إِنَّ الْأَبْرَارَ4} أي المؤمنين المطيعين في صدق لله
والرسول {يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} ملأى شرابا مزاجها كافورا ومزجت بالكافور
لبرودته وبياض لونه وطيب رائحته عينا يشرب بها5 عباد الله لعذوبة مائها وصفائه
أصبحت كأنها أداة يشرب بها ولذا قال يشرب بها ولم يقل يشرب منها وقوله يفجرونها
تفجيرا أي يجرونها ويسيلونها حيث شاءوا من غرفهم وقصورهم ومجالس سعادتهم. وقوله
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} قطع الحديث عن نعيمهم ليذكر بعض فضائلهم ترغيبا في فعلهم
ونعيمهم، ثم يعود إلى عرض النعيم فقال {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}6 أي كانوا في دار
الدنيا يوفون بالنذر وهو ما يلتزمونه من طاعات لربهم كالصلاة والصيام والحج
والصدقات تقرباً
__________
1 الجملة حالية من الإنسان.
2 إما حرف تفصيل وهو بسيط عند الجمهور وقال سيبويه هو مركب حرف إن الشرطية وما
النافية، ولما تجردت إن من الشرطية وما من النفي أصبحت إما حرف تفصيل بسيط في
الواقع وليس مركبا.
3 الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنها واقعة موقع جواب للسؤال عن حال كل من
الشاكر والكفور فكان الكلام بياناً لحال كل منهما.
4 الأبرار جمع بر وبار، وهو المكثر من فعل البر الذي هو الخير ولذا كان البر من
أسماء الله تعالى، قال تعالى: إنا كنا ندعوه من قبل إنه هو البر الرحيم ويجمع البر
على بررة.
5 جائز أن تكون الباء في بها بمعنى من التبعيضية وجائز أن يكون يشرب مضمناً معنى
يروى أي يروى بها عباد الله ومن شواهد هذه الباء قول الشاعر:
شربت بماء البحر ثم تدفقت
متى لجج خضر لهن نئيح
متى بمعنى في والنئيح مر سريع مع صوت والشاهد قي بماء البحر.
6 النذر هو ما يوجبه المكلف على نفسه في الطاعة بحيث لو لم يوجبه لم يلزمه.
إلى ربهم وتزلفا إليه ليحرزوا رضاه عنهم وتلك غاية مناهم.
وقوله يخافون يوما كان شره مستطيرا1 أي وكانوا في حياتهم يخافون يوم الحساب يوم
العقاب يوما كان شره منتشرا ومع ذلك يطعمون الطعام على حبه أي مع حبهم وشهوتهم له
ورغبتهم فيه، يطعمونه مسكينا فقيرا مسكنه الفقر وأذلته الحاجة، ويتيما لا عائل له
ولا مال عنده، وأسيرا سجينا بعيد الدار نائي المزار لا يعرف له أصل ولا فصل
يطعمونهم ولسان حالهم أو قالهم يقول إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء
تجازوننا به في يوم ما من الأيام ولا شكورا ينالنا منكم. إنا نخاف من ربنا يوما
عبوسا أي كالح الوجه مسوداً ثقيلا طويلا لا يطاق. واستجاب الله لهم وحقق بفضله
مناهم فوقاهم الله شر ذلك اليوم العبوس القمطرير، ولقاهم نضرة في وجوههم وسرورا في
قلوبهم و جزاهم بما صبروا على فعل الصالحات وعن ترك المحرمات جنًة وحريرا، وما
سيذكر بعد في الآيات التاليات.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان نشأة الإنسان الأب والإنسان الأبن وما تدل عليه من إفضال الله وإكرامه
لعباده.
2- حاستا السمع والبصر وجودهما معاً أو وجود إحداهما ضروري للتكليف مع ضميمة
العقل.
3- بيان أن الإنسان أمامه طريقان فيسلك أيهما شاء وكل طريق ينتهي به إلى غاية
فطريق الرشد يوصل إلى الجنة دار النعيم، وطريق الغي يوصل إلى دار الشقاء الجحيم.
4- وجوب الوفاء بالنذر فمن نذر شيئا لله وجب أن يفي بنذره إلا أن ينذر معصية فلا
يجوز له الوفاء2 بنذره فيها فمن قال لله على أن أصوم يوم أو شهر كذا وجب عليه أن
يصوم ومن قال لله علي أن لا أصل رحمي، أو أن لا أصلي ركعة مثلا فلا يجوز له الوفاء
بنذره وليصل رحمه وليصل صلاته ولا كفارة عليه.
5- الترغيب في إطعام الطعام للمحتاجين إليه من فقير ويتيم وأسير.
__________
1 يقال استطار الحريق إذا انتشر قال حسان
وهان على سراة بني لؤي
حريق بالبويرة مستطير
قال قتادة استطار والله شر ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض.
2 ما يروى عن فاطمة وعلي رضي الله عنهما في مرض الحسنين وما نذرا لله في شأنهما
حديث موضوع باطل رده أهل العلم جملة وتفصيلا.
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ
فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا
وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ
فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ
قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا
زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ
عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً
مَنْثُوراً (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً
(20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ
مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً (21) إِنَّ هَذَا كَانَ
لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)
شرح الكلمات:
على الأرائك :أي على الأسرة بالحجلة واحد الأرائك أريكة.
ولا زمهريرا : أي ولا برد شديدا ولا قمرا إذ هي تضاء من نفسها.
ودانية : أي قريبة منهم ظلال أشجار الجنة.
وذللت قطوفها تذليلا :أي بحيث ينالها المؤمن قائما وقاعدا ومضطجعا.
وأكواب :أي أقداح بلا عرا.
من فضة :أي يرى باطنها من ظاهرها.
قدروها تقديرا :أي على قدر الشاربين بلا زيادة ولا نقص.
ويسقون فيها كأسا1 :أي خمرا.
كان مزاجها زنجبيلا :أي ما تمزج وتخلط به زنجبيلا .
مخلدون :أي بصفة الولدان لا يشيبون.
لؤلؤا منثورا :أي من سلكه أو من صدفه لحسنهم وجمالهم وانتشارهم في الخدمة.
__________
1 في عرف الأولين إطلاق الكأس على الخمر فلا يقال كأس ما لم يكن بها خمر فلذا
يطلقون لفظ الكأس على الخمر والآية شاهد ذلك.
وإذا رأيت ثم :أي في الجنة رأيت نعيما لا يوصف وملكا
واسعا لا يقدر.
ثياب سندس :أي حرير.
وإستبرق :أي ما غلظ من الديباج.
وحلوا : أي تحليهم الملائكة بها.
شرابا طهورا :أي فائقا على النوعين السابقين ولذا أسند سقيه إلى الله عز وجل.
إن هذا :أي النعيم.
مشكورا :أي مرضيا مقبولا.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر ما أعد الله تعالى للأبرار من عباده المؤمنين المتقين
فقال تعالى 1 {مُتَّكِئِينَ} في الجنة {عَلَى الْأَرَائِكِ2} التي هي الأسرة
بالحجال {لا يَرَوْنَ فِيهَا} أي في الجنة {شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} إن كان
المراد بالشمس الكوكب المعروف فالزمهرير القمر، فلا الشمس في الجنة ولا قمر وإن
كان المراد بالشمس الحر فالزمهرير البرد وليس في الجنة حر ولا برد وكلا المعنيين
مراد وواقع فلا شمس في الجنة ولا قمر لعدم الحاجة إليهما ولا حر ولا برد كذلك.
{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا} أي قريبة منهم أشجارها فهي تظللهم ويجدون فيها
لذة التظليل وراحته ومتعته وإن لم يكن هناك شمس تستلزم الظل .{وَذُلِّلَتْ
قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} أي ما يقطف من ثمار أشجارها مذلل لهم بحيث يناله القائم
والقاعد والمضطجع فلا شوك ولا بعد فيه سهل التناول لأن الدار دار نعيم و سعادة
وراحة وروح وريحان {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ} أي يطوف عليهم
الخدم الوصفاء بآنية من فضة ومن ذهب {وَأَكْوَابٍ} أي أقداح لا عرى لها كانت بفضل
الله وإكرامه {قَوَارِيرَا قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ} يرى باطنها من ظاهرها
لصفائها مادتها فضة وصفاؤها صفاء الزجاج ولذا سميت قارورة وجمعت على قوارير.
{قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} أي قدرها الخدم الطائفون عليهم بحيث لا تزيد فتفيض3 ولا
تنقص فلا يجمل منظرها. وقوله {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً} أي خمرا {كَانَ
مِزَاجُهَا} أي ما تمزج به {زَنْجَبِيلاً}
من عين في الجنة {تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً4}. وقوله
__________
1 متكئين منصوب على الحال وصاحب الحال الضمير في و جزاهم.
2 الأريكة السرير بالحجلة والحجلة كله تنصب على السرير لتقي الحر والشمس ولا يقال
في السرير أريكة ما لم يكن بالحجال كما لا يقال للسجل سجلاً ما لم تكن الدلو ملأى
ولا الذنوب ذنوباً ما لم يكن ملأى، ولا يقال للكأس كأس ما لم تكن ملأى بالخمر ولا
يقال مهدي للطبق ما لم تكن عليه الهدية.
3 التقدير لكل من أحجامها والمشروب الذي بها.
4 يقال شراب سلس وسلسال وسلسل وسلسبيل ما كان في غاية السلاسة.
تعالى {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} أي
ويطوف على أولئك الأبرار في الجنة ولدان غلمان مخلدون لا يهرمون ولا يموتون حالهم
دائما حال الغلمان لا تتغير {إِذَا رَأَيْتَهُمْ} ونظرت إليهم {حَسِبْتَهُمْ} في
جمالهم وانتشارهم في الخدمة هنا وهناك {لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً}. ويقول تعالى لرسوله
محمد صلى الله عليه وسلم {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} أي هناك في الجنة {رَأَيْتَ
نَعِيماً} لا يوصف {وَمُلْكاً كَبِيراً} لا يقادر قدره {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ
سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} يخبر تعالى أن عاليهم أي فوقهم ثياب سندس أي حرير
خضر واستبرق وهو ما غلظ من الديباج. وثياب من استبرق بعضها بطائن وبعضها ظهائر
البطائن ما يكون تحت الظهائر وقوله تعالى {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} أي
وحلاهم ربهم وهم في دار كرامته أساور من فضة ومن ذهب أيضا إذ يحذف1 المقابل لدلالة
المذكور عليه نحو سرابيل تقيكم الحر أي وأخرى تقيكم البرد وقوله {وَسَقَاهُمْ
رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً}2 هذا غير ما ذكر فيما تقدم هذا إكرام خاص وهو أن
الله تعالى هو الذي يسقيهم وأن هذا الشراب بالغ مبلغا عظيما في الطهارة لوصفه بالطهور.
ويقال لهم تكريما لهم وتشويقا لغيرهم من أهل الدنيا الذين يسمعون هذا الخطاب
التكريمي إن هذا النعيم من جنات وعيون وأرائك وغلمان وطعام وشراب ولباس وما إلى
ذلك {كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} على إيمانكم وتقواكم {وَكَانَ سَعْيُكُمْ} أي عملكم في
الدنيا {مَشْكُوراً} أي مرضيا مقبولا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر صور الجزاء الأخروي.
2- حرمة استعمال أواني الذهب والفضة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "هي
لهم في الدنيا ولنا في الآخرة".
3- حرمة الخمر لحديث "من شرب الخمر في الدنيا لا يشربها في الآخرة إن مات
مستحلا لها"
4- مشروعية اتخاذ خدم صالحين يخدمون المرء ويحسن إليهم.
5- حرمة لبس الحرير على الرجال وإباحته للنساء، وكالحرير الذهب أيضا.
__________
1 ومن سورة فاطر يحلون فيها من أساور من ذهب، وفي سورة الحج يحلون فيها من أساور
من ذهب ولؤلؤا. قيل حلي الرجل الفضة وحلي النساء الذهب، وقيل تارة يلبسون الفضة
وتارة يلبسون الذهب ومن الجائز أن يجمع لهم بين الفضة والذهب ليكون لأحدهم سواران
من فضة وسواران من ذهب.
2 قال علي رضي الله عنه في قوله تعالى {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} قال: إذا توجه
أهل الجنة إلى الجنة مروا بشجرة يخرج من تحت ساقها عينان فيشربون من إحداهما لتجري
عليهم بنضرة النعيم فلا تتغير أبشارهم ولا تشعث أشعارهم أبدا ثم يشربون من الأخرى
فيخرج ما في بطونهم من الأذى ثم تستقبلهم خزنة الجنة فيقولون سلام عليكم طبتم
فادخلوها خالدين.
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ
تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ
كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ
فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ
الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ
وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَمَا
تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
(30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ
عَذَاباً أَلِيماً (31)
شرح الكلمات:
نزلنا عليك القرآن تنزيلا :أي شيئا فشيئا ولم ننزله جملة واحدة لحكمة بالغة.
فاصبر لحكم ربك :أي عليك بحمل رسالتك وإبلاغها إلى الناس.
ولا تطع منهم آثما أو كفورا :الآثم هنا عتبة بن ربيعة والكفور الوليد بن المغيرة.
واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا :أي صل الصبح والظهر والعصر.
ومن الليل فاسجد له :أي صل صلاة المغرب والعشاء .
وسبحه ليلا طويلا : أي تهجد بالليل نافلة لك.
يحبون العاجلة :أي الدنيا.
ويذرون وراءهم يوما ثقيلا :أي يوم القيامة.
وشددنا أسرهم :أي قوينا أعضاءهم ومفاصلهم.
وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا :أي جعلنا أمثالهم في الخلقة بدلا منهم بعد أن
نهلكهم.
إن هذه تذكرة : أي عظة للناس.
اتخذ إلى ربه سبيلا :أي طريقا إلى مرضاته وجواره بالإيمان والعمل الصالح وترك
الشرك والمعاصي.
في رحمته :أي الجنة.
أعد لهم عذابا أليما : أي في النار والأليم ذو الألم الموجع.
معنى الآيات:
لقد عرض المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضا مفاده أن يترك دعوة الله
تعالى إلى عبادته وتوحيده و يعبد ربه وحده ويترك المشركين فيما هم فيه وله مقابل
ذلك مال أو أزواج أو رئاسة وما إلى ذلك فأبى الله تعالى له ذلك وأنزل قوله {إِنَّا
نَحْنُ1 نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً فَاصْبِرْ2 لِحُكْمِ رَبِّكَ}
على تحمل رسالتك وتبليغها إلى الناس {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ} أي من مشركي قريش
{آثِماً} كأبي جهل وعتبة بن ربيعة {ولا كَفُوراً} كالوليد بن المغيرة أي لا تطعهما
فيما طلبا إليك وعرضا عليك، وواصل دعوتك واستعن بالصلاة والتسبيح والذكر والدعاء،
وفي قوله تعالى {بُكْرَةً وَأَصِيلاً}3 إشارة إلى صلاة الصبح والظهر والعصر، وفي
قوله {وَمِنَ4 اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} إشارة إلى صلاة المغرب والعشاء، وقوله
{وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} صريح في انه التهجد إذ الصلاة نعم العون للعبد
ولذا كان صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة وقوله تعالى {إِنَّ هَؤُلاءِ
يُحِبُّونَ5 الْعَاجِلَةَ} أي الدنيا يعني بهم كفار قريش يحبون الدنيا وسميت
بالعاجلة لأنها ذاهبة مسرعة، {وَيَذَرُونَ 6وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} هو يوم
القيامة قلم يؤمنوا ولم يعملوا بما يسعدهم فيه ويذكرهم تعالى بأنه خالقهم وقادر
على تبديلهم بغيرهم فيقول {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ} أي أوجدناهم من العدم
{وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ7} أي قوينا ظهورهم وأعضاءهم ومفاصلهم {وَإِذَا شِئْنَا
بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} أي جعلنا أمثالهم في
__________
1 إنا نحن نزلنا: أي ما افتريته ولا جئت به من عندك ولا من تلقاء نفسك كما يقول
المشركون.
2 الفاء هي الفصيحة إذ هي واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا كان الأمر ما علمت وهي
ردهم دعوتك ومطالبتهم بتركها والتخلي عنها مقابل عارض من الدنيا فاصبر لحكم ربك
فيهم ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً واستعن بالصبر والصلاة.
3 الأصيل جمعه الأصائل والأصل كقولك سفائن وسفن قال الشاعر:
ولا بأس منها إذا دنا الأصل
وقال آخر :
لعمري لأنت البيت أكرم أهله
وأقعد في أفيائه بالأصائل
4 من الليل: من للتبعيض أي من بعض الليل لا كله.
5 الجملة تحمل التوبيخ والتقريع لأهل مكة لحنهم العاجلة وتركهم الآخرة.
6 جائز أن يكون وراءهم بمعنى بين أيديهم ولما لم يعملوا له كانوا كالتاركين له
وراءهم غير ملتفتين إليه.
7 الأسر: الخلق يقال شديد الأسر أي الخلق والمراد بالخلق الأوصال والمفاصل وفقار
الظهر ومن ذلك الشرج فإنه إذا خرج البول أو الغائط تقبض الموضع ولولا هذا التماسك
لبقي البول سائلا والعذرة متناثرة.
الخلقة بدلا عنهم وأهلكناهم ولو شاء تعالى ذلك لكان
ولكنه لم يشأ مع أنه في كل قرن يبدل جيلا بجيل هذا يميته وهذا يحييه وهو على كل
شيء قدير. وفي خاتمة هذه السورة المشتملة على أنواع من الهدايات الكثيرة يقول
تعالى {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} أي هذه السورة موعظة {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ
إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} طريقا إلى رضاه أولا ثم مجاورته في الملكوت الأعلى ثانيا،
ولما أعطى تعالى المشيئة قيدها بأن يشاء الله ذلك المطلوب أولا، ومن هنا وجب
الافتقار إلى الله تعالى بدعائه والضراعة إليه وهو قوله {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا
أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} إن الله كان عليما بخلقه وبما يصلحهم أو يفسدهم حكيما في
تدبيره لأوليائه خاصة ولباقي البشرية عامة فله الحمد وله المنة. وقوله {يُدْخِلُ
مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِين1َ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}
إنه بهذا يدعوا كافة البشرية إلى الافتقار إليه ليغنيهم وإلى عبادته ليزكيهم وإلى
جواره فيطهرهم ويرفعهم هؤلاء هم أولياؤه من أهل الإيمان والتقوى {وَالظَّالِمِينَ}
أي المشركين {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أي أهانهم لكفرهم به وشركهم في
عبادته فأعد لهم عذابا مؤلما موجعا نعوذ بالله من عذابه وشديد عقابه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات :
1- حرمة طاعة ذوي الإثم وأهل الكفر في حال الاختيار.
2- على المؤمن أن يستعين بالصلاة والذكر والدعاء فإنها نعم العون.
3- استحباب نافلة الليل.
4- مشيئة الله عز وجل قبل فوق كل مشيئة.
5- القرآن تذكرة للمؤمنين.
__________
1 والظالمين مفعول لفعل محذوف تقديره ويعذب الظالمين وجملة أعد لهم عذاباً أليماً
تفسير للفعل المحذوف.
سورة المرسلات
...
سورة المرسلات
مكية وآياتها خمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً
(3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ
نُذْراً (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)
وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ
( 9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا
الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ
(15)
شرح الكلمات:
والمرسلات عرفا :المرسلات الرياح الطيبة والعرف المتتابعة.
فالعاصفات عصفا :فالرياح الشديدة الهبوب المضرة لشدتها.
والناشرات نشرا :الرياح تنشر المطر وتفرقه في السماء نشرا.
فالملقيات ذكرا :أي فالملائكة تلقى بالوحي على الأنبياء للتذكير به.
عذرا أو نذرا :أي للأعذار بالنسبة إلى أقوام أو إنذار بالنسبة إلى آخرين .
إنما توعدون لواقع :أي إنما توعدون أيها الناس لكائن لا محالة.
فإذا النجوم طمست :أي محي نورها وذهبت.
وإذا السماء فرجت :أي انشقت وتصدعت.
وإذا الجبال سيرت :أي نسفت فإذا هي هباء منبث مفرق هنا وهناك.
وإذا الرسل أقتت :أي جمعت لوقت حدد لها لتحضر فيه.
ليوم الفصل :أي اليوم الذي يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق.
معنى الآيات:
قوله تعالى { وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً}1 هذا بداية قسم لله تعالى أقسم فيه بعدة
أشياء من مخلوقاته ولله أن يقسم بما شاء، والحكمة من الإقسام أن تسكن النفوس للخبر
وتطمئن إلى صدق المخبر فيه وبذلك يحصل الغرض من إلقاء الخبر على السامعين والمقسم
به هنا المرسلات وهي الرياح المتتابعة الطيبة العذبة والعاصفات2 منها وهي الشديدة
الهبوب التي قد تعصف بالأشجار وتقتلعها وبالمباني وتهدمها والناشرات نشرا وهي
الرياح المعتدلة التي تنشر السحاب وتفرقة أو تسوقه
__________
1 روى البخاري عن ابن عباس قال قرأت سورة والمرسلات عرفاً فسمعتني أم الفضل (امرأة
العباس) فبكت وقالت: بني أذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب.
2 العصف: قوة هبوب الريح، والنشر: ضد الطي واستعمل في الإظهار والايضاح. والعصف
حالة المضرة والنشر حالة النفع جائز أن يراد بالمرسلات والعاصفات والناشرات
الملائكة وكونها الرياح أظهر في التفسير وهو اختيار ابن جرير.
للإمطار وإنزال المطر و الفارقات فرقا وهي آيات القرآن
الكريم تفرق بين الحق والباطل والملقيات ذكرا عذرا1 أونذرا وهي الملائكة تلقى
بالوحي على من اصطفى الله تعالى من عباده للاعذار و الانذار أي تعذر أناسا وتنذر
آخرين هذا هو القسم والمقسم هو الله والمقسم عليه هو قوله جل ذكره إن ما توعدون
أيها الناس من خير أو شر لواقع أي كائن لا محالة وعليه فأصلحوا أعمالكم بعد تصحيح
نياتكم فإن الجزاء واقع لا يتخلف أبدا ولا يتغير ولا يتبدل ومتى يقع هذا الموعود
الكائن لا محالة والجواب يقع في يوم الفصل إذاً فما هو يوم الفصل والجواب يوم يحضر
الله الشهود من الملائكة والرسل ويفصل بين الناس ومتى يكون يوم الفصل والجواب إذا
النجوم طمست أي ذهب نورها ومحي وإذا السماء فرجت أي انشقت وتصدعت وإذا الجبال
نسفت2 أي فتت وإذا الرسل اقتت أي حدد لها وقت معين تحضر فيه وهو يوم الفصل وما
أدراك3 ما يوم الفصل تفخيم لشانه وإعلام بهوله وقوله تعالى {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ} أي
يوم يقع الفصل العذاب الهائل الكبير {للْمُكَذِّبِينَ} بالله وبآيته ولقائه
ورسوله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء .
2- لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه وليس للعبد أن يقسم بغير خالقه عز وجل.
3- علامات القيامة وظاهرة الانقلاب الكوني العام وهي انطماس ضوء النجوم وانفراج
السماء ونسف الجبال.
4- الوعيد الشديد بالويل الذي هو واد في4جهنم تستغيث جهنم من حره للمكذبين بما يجب
التصديق به من أركان الإيمان الستة، والوعد والوعيد الإلهيين.
__________
1 قرأ نافع عذراً بإسكان الذال وبضمها في نذراً وسكن الذال فيهما معاً حفص والنذر
اسم مصدر بمعنى الإنذار وكذا عذراً وهما مفعولان لأجله أي لأجل الإعذار والإنذار
أي الإعذار للمحقين والإنذار للمبطلين أو البشرى للمؤمنين والنذارة للكافرين.
2 نسف الجبال دكها وتصييرها تراباً مفرقاً وتسييرها كالهباء في الهواء.
3 ما أدراك: استفهام، وكذا ما يوم الفصل والمراد من الاستفهام الأول الاستبعاد
والإنكار ومن الثاني التهويل من شأن يوم الفصل الذي هو يوم القيامة حيث تم الفصل
فيه بين الخلائق ويتم بأن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير.
4 قيل أن هذا الوادي هو مستنقع صديد أهل الشرك والكفر ليعلم أهل العقول أنه لا شيء
أقذر منه قذارة ولا أنتن منه نتناً ولا أشد مرارة ولا أشد سواداً منه وصفه رسول
الله صلى الله عليه وسلم بأنه أعظم وادٍ في جهنم.
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ
الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ
فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ
الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ
الْأَرْضَ كِفَاتاً (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا
رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
شرح الكلمات:
ألم نهلك الأولين :أي كقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم إلى البعثة النبوية وذلك
بتكذيبهم.
ثم نتبعهم الآخرين :أي إن أصروا على التكذيب ككفار مكة.
كذلك نفعل بالمجرمين :أي مثل ذلك الهلاك نهلك المجرمين.
ويل يومئذ للمكذبين :أي إذا جاء وقت الهلاك ويل فيه للمكذبين.
من ماء مهين :أي المني والمهين الضعيف.
في قرار مكين :أي حريز وهو الرحم.
إلى قدر معلوم :أي إلى وقت الولادة.
فقدرنا :أي خلقه.
فنعم القادرون :أي نحن على الخلق والتقدير.
كفاتا :أي تكفت الناس أي تضمهم أحياء فوق ظهرها وأمواتا في بطنها.
رواسي شامخات :أي جبال عاليات.
فراتا :أي عذبا.
معنى الآيات:
قوله تعالى {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ
كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} إنه لما أقسم تعالى على وقوع ما أوعد به
المكذبين من عذاب يوم القيامة وذكر وقت مجيئه وعلامات ذلك وذكر أن
الرسل أقتت ليوم الفصل وهو اليوم الذي يفصل فيه تعالى
بين الخلائق فيقتص من الظالم للمظلوم، ويجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته وتوعد
المكذبين بذلك فقال ويل يومئذ للمكذبين دلل هنا على قدرته على إهلاك المكذبين بما
سبق له أن فعله بالمكذبين فقال في استفهام تقريري لا ينكر {أَلَمْ نُهْلِكِ
الْأَوَّلِينَ} من الأمم السابقة كعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط إلى زمن البعثة
النبوية {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} فقد أهلك أكابر مجرمي قريش في بدر وقوله
{كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ1} وهو وعيد صريح وحقا والله لقد أهلك
المجرمين ولم ينج من الهلاك مجرم وويل2 يومئذ للمكذبين وقوله تعالى {أَلَمْ
نَخْلُقْكُمْ3 مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ إِلَى قَدَرٍ
مَعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ}. هذا استدلال آخر على قدرة الله
وعلمه اللذين لا يتم البعث والجزاء إلا عليهما قدرة لا يعجزها شيء وعلم لا يخفى
معه شيء فقال مستفهما استفهاما تقريريا { أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ}
أي ضعيف هو المني {فَجَعَلْنَاهُ4} أي الماء {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} أي حريز حصين
وهو الرحم {إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ} وهو زمن الولادة {فَقَدَرْنَا5} أي خلق الجنين
على أحسن صورة أدق تركيب المسافات بين الأعضاء كما بين العينين كما بين اليدين
والرجلين كما بين الأذنين كلها مقدرة تقديرا عجيبا لا تزيد ولا تنقص {فَنِعْمَ
الْقَادِرُونَ} على الخلق والتقدير معا والجواب بلى ولم إذاً تكفرون وتكذبون؟
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} وقوله {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً
أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ
وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً؟} هذا استدلال آخر على قدرة الله على البعث
والجزاء والاستفهام فيه للتقرير أيضا {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً6 } أي
مكان كفاية مأخوذ من كفت الشيء إذا ضمه إلى بعضه بعضا والأرض ضامة للناس كافية لهم
كافتة الأحياء7 على ظهرها يسكنون ويأكلون ويشربون والأموات في بطنه لا تضيق بهم
أبدا كما لم تضق بالأحياء {وَجَعَلْنَا فِيهَا} أي في الأرض {رَوَاسِيَ
شَامِخَاتٍ} أي جبال عاليات
__________
1 لفظ الإجرام أصبح كالعلم على أهل الشرك والكفر إذ هم الذين أجرموا على أنفسهم
بأعظم الذنوب وأشدها إفساداً للروح وهو الشرك والكفر وما بعد الكفر ذنب كما يقال.
2 هذا التكرار والتقرير والتأكيد وسيتكرر في عدة آيات في هذه السورة ومعناه قد سبق
مع أول ذكره.
3 الاستفهام للتقرير وهو لا يخلو من معنى التوبيخ والتقريع للمشركين المكذبين
بالبعث والجزاء.
4 فجعلنا: الفاء للتفريع والتفصيل لكيفية الخلق.
5 قرأ نافع فقدرنا بتشديد الدال وقرأها حفص بالتخفيف فالتخفيف بمعنى قدرنا تقديرا
أي فعلناه على تقدير معين، وقدرنا بالتخفيف أي جعلنا على مقدار مناسب ولذا معنى
القراءتين واحد وشاهده من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم في الهلال إذا غم عليكم
فاقدروا له أي قدًروا له المسير والمنازل ومن الشائع قولهم قدر على فلان الموت
وقدًر عليه الموت بالتشديد والتخفيف.
6 قال القرطبي كفاتاً أي ضامة تضم الأحياء على ظهرها والأموات في بطنها وهذا يدل
على وجوب مواراة الميت ودفنه، ودفن شعره وسائر ما يزيله عنه. وهو قوله صلى الله
عليه وسلم قصوا أظافركم وادفنوا قلاماتكم.
7 الكفات اسم للشيء الذي يكفت فيه أي يجمع ويضم فيه فهو اسم من كفت إذا جمع
فالكفات اسم لما يكفت الوعاء اسم لما يعي والضمام اسم لما يضم.
{وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً} أي عذبا وهو ماء
السماء ناقعا في الأرض وجاريا في الأودية والأنهار والجواب بلى، بلى إذاً مالكم
أيها المشركون كيف تكذبون؟ {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي ويل لهم إذ
حان وقت هلاكهم أي {يَوْمُ الْفَصْلِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ؟}
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- الاستدلال على البعث والجزاء بالقدرة والعلم إذ هما أساس البعث والجزاء.
3- بيان إنعام الله تعالى على عباده في خلقهم ورزقهم وتدبير حياتهم أحياء وأمواتا.
4- بيان أن الناس أكثرهم لا يشكرون.
5- الوعيد الشديد للمكذبين الكافرين.
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ
ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا
تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ
لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا
يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ
فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
شرح الكلمات:
انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون :أي من العذاب.
ظل ذي ثلاث شعب :أي دخان جهنم إذا ارتفع انقسم إلى ثلاث شعب لعظمته.
لا ظليل :أي كنين ساتر يكن ويستر.
ولا يغني من اللهب :أي ولا يرد شيئا من الحر.
إنها :أي النار.
بشرر كالقصر :أي الشررة الواحدة كالقصر في عظمته وارتفاعه.
كأنه جمالة صفر :أي الشرر المتطاير من النار الشررة كالقصر في عظمها وارتفاعها
وكالجمل في هيئتها ولونها والجمل الأصفر الأسود الذي
يميل إلى صفرة.
هذا يوم لا ينطقون :أي فيه بشيء.
ولا يؤذن لهم :أي في العذر.
جمعناكم والأولين :أي من المكذبين قبلكم.
فإن كان لكم كيد فكيدون : أي حيلة في دفع العذاب فاحتالوا لدفع العذاب عنكم.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء التي كان عليها مدار الحياة
كلها قوله تعالى {انْطَلِقُوا1} هذا يقال للمكذبين يوم القيامة وهم في عرصاتها
يقال لهم تقريعاً وتبكيتاً انطلقوا إلى2 ما كنتم به تكذبون وهو عذاب الآخرة ويتهكم
بهم ويسخرون منهم فيقولون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب وهو دخان النار إذا ارتفع
يتشعب إلى ثلاث شعب وذلك لعظمته لا ظليل أي ليس هو ظلا حقيقيا كظل لشجرة والجدار
فيكن ويستر ولا يغني3 من اللهب فيدفع الحر وقال تعالى في وصفها {إِنَّهَا} أي
النار {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} الشررة الواحدة كالقصر في كبره وارتفاعه
كأنه أي الشرر جمالة صفراء4 أي الشرر كالجمل الأصفر وهو الأسود المائل إلى الصفرة.
ثم قال تعالى {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} يتوعد المكذبين به وبآياته
ولقائه ورسوله صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} أي
هذا يوم القامة يوم لا ينطقون أي فيه بشيء {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ} أي في الاعتذار
فهم يعتذرون لا اعتذار ولا إذن به. ولطول يوم القيامة وتجدد الأحداث فيه يخبر
القرآن مرة باعتذارهم وكلامهم في موطن، وينفيه في آخر، إذ هو ذاك الواقع في مواطن
يتكلمون بل ويحلفون كاذبين وفي مواطن يغلب عليهم الخوف والحزن فلا يتكلمون بشيء
وفي مواطن يطلب منهم أن يتكلموا فيتكلموا وفي أخرى لا، {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ} وعيد لكل المكذبين بهذا وبغيره وقوله تعالى {هَذَا يَوْمُ5
الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ6 وَالْأَوَّلِينَ} أي يقال لهم يوم القيامة وهم
__________
1 هذا الخطاب للمكذبين في يوم الفصل وهو مقول قول محذوف دل عليه صيغة الخطاب ولذا
قلت في التفسير هذا يقال للمكذبين.
2 وأعيد لفظ انطلقوا على طريقة التكرير قصد التوبيخ والإهانة.
3 الاغناء جعل الغير غنياً أي غير محتاج في ذلك الغرض وعدي الفعل بمن هنا على معنى
البدلية أو لتضمينه معنى يبعد.
4 قرأ نافع جمالات جمع جمالة بكسر الجيم وقرأ حفص جمالة بالإفراد والجملة اسم جمع
لطائفة من الجمال أي الشررة الواحدة في عظمها كأنها جمالة صفر، والصفرة لون الشرر
والصفر جمع أصفر كحمر جمع أحمر.
5 تكرير لتوبيخهم، والإشارة في هذا إلى المشهد الذي يشاهدونه في يوم فصل القضاء
الذي كانوا ينكرونه ويكذبون به.
6 هذا كقوله تعالى (قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم)
والمخاطبون في قوله جمعناكم المشركون المكذبون بيوم الفصل.
في عرصاتها هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون جمعناكم
فيه أيها المكذبون من هذه الأمة والمكذبين الأولين من قبلها، فإن كان لكم كيد أي
حيلة على خلاصكم مما أنتم فيه فكيدون أي احتالوا عليً وخلصوا أنفسكم يقال لهم تبكيتا
لهم وخزيا وهو عذاب روحي أشد ألماً من العذاب الجسماني {وَيْلٌ 1 يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ} أي ويل يوم إذ يجيء يوم الفصل للمكذبين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التهكم والسخرية والتبكيت من ألم أنواع العذاب الروحي يوم القيامة.
2- عرصات القيامة واسعة والمقام فيها طويل والبلاء فيها شديد.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر بعض ما يتم فيه.
4- التكذيب هو رأس الكفر، وبموجبه يكون العذاب.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ
(42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا
كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
شرح الكلمات:
إن المتقين :أي الذين اتقوا ربهم فآمنوا به وأطاعوه بفعل ما يحب وترك ما يكره.
في ظلال :أي في ظلال الأشجار الوارفة.
وعيون :أي من ماء ولبن وخمر وعسل.
مما يشتهون :لا مما يجدون كما هي الحال في الدنيا.
إنا كذلك نجزي المحسنين :أي كما جزينا المتقين نجزي المحسنين.
كلوا وتمتعوا :أي في هذه الحياة الدنيا.
__________
1 تكرير للوعيد والتهديد وهو متصل بما قبله اتصال نظائره فيما سبق وفيما يلحق.
وإذا قيل لهم اركعوا :أي صلوا لا يصلون.
بعده يؤمنون :أي بعد القرآن إذ الكتب غيره ليست معجزة والقرآن هو المعجز بألفاظه
ومعانيه فمن لم يؤمن بالقرآن ما آمن بغيره بحال من الأحوال.
معنى الآيات:
من باب الترغيب والترهيب وهو أسلوب أمتاز به القرآن الكريم ذكر تعالى ما للمتقين
من نعيم مقيم بعد ذكر ما للمكذبين الضالين من عذاب الجحيم فقال تعالى {إِنَّ
الْمُتَّقِينَ} وهم الذين اجتنبوا الشرك والمعاصي {فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} في ظلال
أشجار الجنة وعيونها من ماء ولبن وخمر وعسل وفواكه كثيرة منوعة مما يشتهون1 على
خلاف الدنيا إذ الناس يأكلون مما يجدون فلوا اشتهوا شيئا ولم يجدوه ما أكلوه وأما
دار النعيم فإن المرء ما اشتهى شيئا إلا وجده وأكله وهذا هو السر في التعبير في
غير موضع بكلمة مما يشتهون. ومن إتمام النعيم أن يقال لهم تطييبا لخواطرهم كلوا
واشربوا2 هنيئا أي متهنئين بما كنتم تعملون من الصالحات وتتركون من السيئات. وقوله
تعالى إنا كذلك3 نجزي المحسنين أي كهذا الجزاء الذي جزينا به المتقين نجزي به
المحسنين. ويل يومئذ للمكذبين أي بهذا الوعد الكريم. قوله تعالى {كُلُوا
وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ}. هذا قول الله تعالى لمشركي قريش
وكفارها يهددهم الرب تبارك وتعالى ناعيا عليهم إجرامهم حتى يحين وقتهم وقد حان حيث
أعلمهم أنهم لا يتمتعون إلا قليلا وقد أهلكوا في بدر. وقوله {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ} هو توعد بالعذاب الأليم لمن يكذب بوعيد الله هذا ووعده ذاك.
وقوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا4} أي صلوا {لا يَرْكَعُونَ} أي لا
يصلون ولا يخشعون ولا يتواضعون فيقبلون الحق ويؤمنون به، ويل يومئذ للمكذبين
بشرائع الله وهداه التاركين للصلاة وقوله تعالى {فَبِأَيِّ 5حَدِيثٍ بَعْدَهُ
يُؤْمِنُونَ} أي فبأي كتاب يؤمن هؤلاء المكذبون إذا لم يؤمنوا بالقرآن وذلك لما
فيه من الخير والهدى ولما يدعوا إليه من السعادة والكمال كما أنه معجز بألفاظه
ومعانيه بخلاف الكتب غيره فمن لم يؤمن به لا يرجى له أن يؤمن بغيره بحال من
الأحوال.
__________
1 أي يتمنون إذ أكلهم للذة الأكل لا للحفاظ على الجسم كما هي الحال في الدنيا يأكل
الآدمي للبقاء على حياته إذ لو ترك الغذاء هلك.
2 هذا مقول قول محذوف أي يقال لهم كلوا واشربوا.
3 إن المحسنين هم المتقون، وإنما ذكر صفة الإحسان لأن التقوى التي هي فعل وترك
متوقفة على الإحسان الذي هو مراقبة الله تعالى المنتجة إحسان النيات والأعمال
الصالحات.
4 يذكر أن مالكاً رحمه الله تعالى: دخل المسجد بعد صلاة العصر وهو ممن لا يرى
الركوع بعد العصر فجلس ولم يركع، فقال له صبي يا شيخ قم فاركع فقام فركع فقيل له
في ذلك قال خشيت أن أكون من الذين (إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون).
5 الفاء هي الفصيحة أي إن لم تؤمنوا بهذا القرآن فبأي حديث بعده تؤمنون والاستفهام
إنكاري تعجبي.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر ما أعد الله تعالى لأوليائه المؤمنين المتقين
المحسنين.
2- بيان نعيم أهل التقوى والإحسان وفضلهما أي فضل التقوى والإحسان.
3- صدق القرآن في أخباره إذ وعيد الله لأكابر مجرمي مكة نفذ بعد أقل من خمس سنوات.
4- من دخل مسجدا وأهله يصلون فليدخل معهم في صلاتهم وإن كان قد صلى حتى لا يكون
غيره راكعا لله وهو غير راكع وقد جاء في الصحيح هذا المعنى.
سورة النبأ
...
سورة النبأ
مكية وآياتها أربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ
مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً (7)
وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً (9) وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ لِبَاساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً (11) وَبَنَيْنَا
فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً (13)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً
وَنَبَاتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً (16)
شرح الكلمات:
عم1 :أي عن أي شيء؟
يتساءلون :أي يسأل بعض قريش بعضا.
عن النبأ العظيم :أي ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد والنبوة والبعث
الآخر.
الذي هم فيه مختلفون :أي ما بين مصدق ومكذب.
سيعلمون :عاقبة تكذيبهم عند نزع أرواحهم وعند خروجهم من قبورهم.
أوتادا :أي تثبت بها الأرض كما تثبت الخيمة بالأوتاد.
سباتا :أي راحة لأبدانكم.
__________
1 عم أصلها عن ما فأدغمت النون في الميم فصارت عما وحذفت الألف تخفيفاً فصارت عم
فعن حرف جر وما حرف استفهام، وقدم الاستفهام لما له من حق الصدارة وأصل التركيب
يتساءلون عن أي شيء؟
لباسا :أي ساتراً بظلامه وسواده.
وجعلنا النهار معاشا :أي وقتا للمعاش كسبا وأكلا.
شدادا :أي قوية محكمة الواحدة شديدة والجمع شداد.
سراجا وهاجا :أي ضوء الشمس وهاجا وقاداً.
المعصرات :أي السحابات التي حان لها أن تمطر كالجارية المعصر التي دنا وقت حيضها.
ثجاجا :أي صبابا.
وجنات ألفافا :أي بساتين ملتفة.
معنى الآيات:
قوله تعالى {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} أي عن أي شيء يتساءل رجال قريش فيسأل بعضهم
بعضا إنهم يتساءلون عن1 النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون إنه ما جاء به محمد صلى
الله عليه وسلم من التوحيد والنبوة والبعث الآخر. قال تعالى ردعا لهم وتخويفا كلا
سيعلمون2 عند نزع أرواحهم عاقبة تكذيبهم لرسولنا وإنكارهم لتوحيدنا ولقائنا، ثم
كلا سيعلمون3 يوم يبعثون من قبورهم ويحشرون إلى نار جهنم حين لا ينفعهم علم ولا
يجديهم إيمان. وقوله تعالى {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} الآيات فذكر
تعالى من مظاهر القدرة والعلم والرحمة والحكمة ما يوجب الإيمان به وبتوحيده ورسوله
ولقائه لو كان القوم يعقلون فقال {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ4 مِهَاداً} أي فراشا
و وطاء للحياة عليها؟ وهل يتم هذا بدون علم وقدرة والجبال أوتادا تثبت الأرض بها
فيأمنون على حياتهم من الميدان وسقوط كل بناء وخلقناكم أزواجا الخلق مظهر من مظاهر
القدرة والعلم وكونهم أزواجا مظهر5 من مظاهر الحكمة والرحمة وجعلنا نومكم سباتا أي
راحة لأبدانكم. وجعلنا الليل لباسا ساترا بظلامه. وجعلنا النهار معاشا للعيش كسبا
وتمتعا به . وبنينا فوقكم سبعا شدادا وهي السموات
__________
1 عن النبأ العظيم متعلق بمحذوف تقديره يتساءلون عن النبأ العظيم وهو الخبر الكبير
وهو البعث بعد الموت إذ العرب فيه ما بين مصدق ومكذب، ويدل عليه السياق.
2 كلا حرف ردع ومعمول سيعلمون محذوف تقديره"سيعلمون" بما فيه تكذيبهم
بالبعث والنبوة والتوحيد.
3 كلا هنا بمعنى حقاً سيعلمون صحة ما هم به مكذبوه وله منكرون.
4 هذا الاستئناف المبدوء باستفهام تقريري جاء لعرض مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته
ورحمته وهي موجبات إيمان به وبلقائه ونبوة رسوله وعبادته وحده دون سواه.
5 الزوج: هو مكرر الواحد وشاع إطلاق الزوج على كل من الذكر والأنثى فالرجل زوج
لأنثاه والمرأة زوج لزوجها.
السبع الشديدة القوية البناء لا تفنى ولا تزول إلى أن
يأذن هو سبحانه وتعالى بزوالها، وجعلنا سراجا وهاجا هو الشمس المشرقة المضيئة.
وأنزلنا من المعصرات أي السحابات التي حان لها أن تمطر تشبيهاً لها بالجارية
المعصر التي قاربت الحيض ماء ثجاجا صبابا وابلا، وذلك لنخرج به حبا ونباتا وجنات
ألفافا الحب كالبر والذرة لطعامكم، والنبات كالكلأ والعشب لحيواناتكم، وجنات أي
بساتين ملتفة الأشجار غنًاء بالثمار المختلف الألوان، والطعوم كل هذه المذكورات
مفتقرة إلى قدرة لا يعجزها شيء وعلم أحاط بكل شيء وحكمة لا يخلو منها شيء ورحمة
تعم كل شيء والله وحده ذو القدرة والعلم والحكمة والرحمة فكيف ينكر توحيده ويكذب
رسوله، ويستبعد بعثه للناس يوم القيامة لحسابهم ومجازاتهم على أعمالهم في هذه
الدار وهي مختلفة منها الصالح ومنها الفاسد هل من الحكمة في شيء أن يظلم الظالمون
ويفسد المفسدون، ويعدل العادلون ويصلح المصلحون ويموتون سواء ولا يكون هناك حياة
أخرى يجزي فيها المسيء بإساءته والمحسن بإحسانه اللهم لا لا إنه لابد من حياة أخرى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مظاهر القدرة والعلم والحكمة والرحمة الإلهية في كل الآيات من قوله ألم نجعل
الأرض مهادا إلى قوله وجنات ألفافا.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء والنبوة والتوحيد وهي التي اختلف الناس فيها ما بين
مثبت وناف، ومصدق ومكذب.
3- سيحصل العلم الكامل بهذه المختلف فيها بين التاس عند نزع الروح ساعة الموت،
ولكن لا فائدة من العلم ساعتها إذ قضي الأمر وانتهى الخلاف.
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً
(19)وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ
مِرْصَاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً (23) لا
يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً (24) إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25)
جَزَاءً وِفَاقاً (26) إِنَّهُمْ كَانُوا
لا يَرْجُونَ حِسَاباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا
كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ
نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً (30)
شرح الكلمات:
إن يوم الفصل :أي الفصل بين الخلائق ليجزي كل امرىء بما كسب.
كان ميقاتا :أي ذا وقت محدد معين لدى الله عز وجل فلا يتقدم ولا يتأخر.
يوم ينفخ في الصور : أي يوم ينفخ اسرافيل في الصور.
فتأتون أفواجا :أي تأتون أيها الناس جماعات جماعات إلى ساحة فصل القضاء.
وفتحت السماء :أي لنزول الملائكة.
وسيرت الجبال :أي ذهب بها من أماكنها.
فكانت سرابا :أي مثل السراب فيتراءى ماء وهو ليس بماء فكذلك الجبال.
إن جهنم كانت مرصادا :أي راصدة لهم مرصدة للظالمين مرجعا يرجعون إليها.
لابثين فيها أحقابا :أي دهورا لا نهاية لها.
لا يذوقون فيها بردا :أي نوما ولا شرابا مما يشرب تلذذا به إذ شرابهم الحميم.
وغساقا :أي ما يسيل من صديد أهل النار، جوزوا به عقوبة لهم.
جزاء وفاقا :إذ لا ذنب أعظم من الكفر، ولا عذاب أعظم من النار.
كذابا :أي تكذيبا.
فلن نزيدكم إلا عذابا :أي فوق عذابكم الذي أنتم فيه.
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى آيات قدرته على البعث والجزاء الذي أنكره المشركون واختلفوا فيه
ذكر في هذه الآيات عرضا وافيا للبعث الآخر وما يجري فيه، وبدا بذكر الأحداث
للانقلاب الكوني، ثم ذكر جزاء الطاغين تفصيلا فقال عز وجل {إِنَّ يَوْمَ
الْفَصْلِ} أي بين الخلائق كان ميقاتا1 لما أعد الله للمكذبين بلقائه الكافرين
بتوحيده المنكرين لرسالة نبيه فيه، يجزيهم الجزاء الأوفى، ثم ذكر تعالى أحداثا
تسبقه فقال {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} أي يوم ينفخ إسرافيل نفخة البعث وهي
الثانية فتأتون أيها الناس أفواجا أي جماعات . {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ} أي انشقت
{فَكَانَتْ أَبْوَاباً} لنزول الملائكة منها {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ
سَرَاباً} هباء منبثا كالسراب في نظر الرائي. وقوله تعالى
__________
1 قال القرطبي: أي وقتاً مجمعاً للأولين والآخرين لما وعد الله من الجزاء وسمي
بيوم الفصل لأن الله تعالى يفصل فيه بين الخلائق.
{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً1} أي إنه بعد
الحساب يأتي الجزاء وهاهي ذي قد أرصدت واعدت فهي مرصاد، مرصاد لمن؟ للطاغين
المتجاوزين الحد الذي حدد لهم وهو أن يؤمنوا بربهم ويعبدوه وحده ويتقربوا إليه
بفعل محابه وترك مكارهه فتجاوزوا ذلك إلى الكفر بربهم والإشراك به وتكذيب رسوله
وفعل مكارهه وترك محابه هؤلاء هم الطاغون الذي أرصدت لهم جهنم فكانت لهم مرصادا
ومرجعا ومآبا {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً2} أي دهورا، {لا يَذُوقُونَ فِيهَا
بَرْداً3} أي نوما لأن النوم يسمى البرد في لغة بعض العرب، {وَلا شَرَاباً} ذا لذة
{ إِلَّا حَمِيماً} وهو الماء الحار {وَغَسَّاقاً} وهو ما يسيل من صديد أهل النار
{جَزَاءً وِفَاقاً} أي موافقا لذنوبهم لأنه لا أعظم من الكفر ذنبا ولا من النار
عذابا ثم ذكر تعالى مقتضى هذا العذاب فقال {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ
حِسَاباً} أي ما كانوا يؤمنون بالحساب ولا بالجزاء ولا يخافون من ذلك {وَكَذَّبُوا
بِآياتِنَا كِذَّاباً} أي بآياته وحججه تكذيبا زائدا. وقوله تعالى {وَكُلَّ شَيْءٍ
أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} إذ كانت الملائكة تكتب أعمالهم وتحصيها عليهم فهم يتلقون
جزاءهم العادل ويقال لهم توبيخا وتبكيتا وهم في أشد العذاب وأمرّه {فَذُوقُوا
4فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} فيعظم عندهم الكرب ويستحكم من نفوسهم اليأس.
وهذا جزاء من تنكر لعقله فكفر بربه وآمن بالشيطان وعبد الهوى. والعياذ بالله
تعالى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التنديد بالطغيان وبيان جزاء الظالمين.
2- التنديد بالتكذيب بالبعث والمكذبين به.
3- أعمال العباد مؤمنهم وكافرهم كلها محصاة عليها ويجزون بها.
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر آثارها.
5- أبدية العذاب في الدار الآخرة وعدم إمكان نهايته.
__________
1 قال الحسن: إن على النار رصداً لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليه فمن جاء بجواز
جاز ومن لم يجيء بجواز حبس والمرصاد: المكان للرصد أي الرقابة.
2 قال القرطبي: أي ماكثين في النار ما دامت الأحقاب وهي لا تنقطع كلما مضى حقب جاء
حقب والحقب بضمتين والأحقاب الدهور والحقبة بالكسرة السنة والجمع حقب قال الشاعر:
كنا كندماني جذيمة حقباً
من الدهر حتى قيل لنا يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالك
لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
والحقب بالضم والسكون ثمانون سنة.
3 من شواهد البرد بمعنى النوم قول العرب منع البرد البرد. أي منع البرد النوم ومنه
قول الشاعر:
ولو شئت حرمت النساء سواكم
وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا بردا
4 قال أبو برزة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أشد آية في القرآن؟ فقال: قوله
تعالى: {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا}.
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً (31) حَدَائِقَ
وَأَعْنَاباً (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً (33) وَكَأْساً دِهَاقاً (34) لا
يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً
حِسَاباً (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا
يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً
لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً (38)
ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً (39)
إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا
قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً (40)
شرح الكلمات:
إن للمتقين :أي الذين اتقوا الشرك والمعاصي خوفا من ربهم وعذابه.
مفازا :أي مكان فوز ونجاة وهو الجنة.
حدائق وأعنابا :أي بساتين وأعنابا.
وكواعب :أي شابات تكعبت ثديهن الواحدة كاعب والجمع كواعب.
أترابا :أي في سن واحدة وأتراب جمع واحدة ترب.
وكأسا دهاقا :أي خمرا كأسها ملأى بها.
لا يسمعون فيها :أي في الجنة لغوا أي باطلا ولا كذبا من القول.
عطاء حسابا :أي عطاء كثيرا كافيا يقال أعطاني فأحسبني.
يوم يقوم الروح :ملك عظيم يقوم وحده صفا والملائكة صفا وحدهم.
مآبا :أي مرجعا سليما وذلك بالإيمان والتقوى إذ بهما تكون النجاة.
ما قدمت يداه :أي ما أسلفه في الدنيا من خير وشر.
يا ليتني كنت ترابا :أي حتى لا أعذب وذلك يوم يقول الله تعالى للبهائم كوني ترابا
وذلك بعد الاقتصاص لها من بعضها بعضا.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء المستلزمة لعقيدة التوحيد
والنبوة بعد أن
ذكر تعالى حال الطغاة الفجار وبين مصيرهم غاية البيان
ثًنى بذكر المتقين الأبرار وبين مصيرهم وأنه جنات تجري من تحتها الأنهار فقال
وقوله الحق وخبره الصدق {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ1 مَفَازاً} أي مكان فوز ونجاح
وبيًنه بقوله حدائق2 أي بساتين وأعنابا وكواعب جمع كاعب الفتاة ينكعب ثديها أي
يستدير ويرتفع كالكعب وذلك عند بلوغها وقوله في وصفهن {أَتْرَاباً} جمع ترب أي في
سن واحدة دون الثلاثين سنة {وَكَأْساً 3 دِهَاقاً} أي كأس خمر ملأى {لا
يَسْمَعُونَ} أي في الجنة {لَغْواً وَلا كِذَّاباً} لا قولا باطلا ولا كذبا. وقوله
تعالى {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً} أي جزاهم ربهم بذلك فجعله عطاء
كافيا4 ووصف الجبار نفسه تعليما وتذكيرا فأبدل من قوله من ربك: قوله {رَبِّ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أي مالكها والمتصرف فيهما
{الرَّحْمَنِ} رحمان الدنيا والآخرة ورحيمها {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} ملك عظيم لا يقادر قدره وحده صفا {وَالْمَلائِكَةُ
صَفّاً} هنا لا يملك أحد من الخلق {مِنَ الرَّحْمَنِ خِطَاباً} وقوله {لا
يَتَكَلَّمُونَ} بين يديه {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ5 الرَّحْمَنُ وَقَالَ} قولا
{صَوَاباً} وفي الصحيح أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم هو أول من يكلم الله عز
وجل في الموقف حيث يأتي تحت العرش فيخر ساجدا فلا يزال ساجدا يحمد الله تعالى
بمحامد يلهمها ساعتئذ فيقول له الرب تعالى ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع وقوله
تعالى {ذَلِكَ6 الْيَوْمُ الْحَقُّ} الذي لا مرية فيه ولا شك وهو يوم الفصل وبناء
عليه فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا أي مرجعا إليه بالإيمان والطاعة. وقوله تعالى
{إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} أي خوفناكم عذابا قريبا جدا يبتدىء
بالموت ولا ينتهي أبدا، وذلك {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}
من خير أو شر أي يرى جزاء عمله عيانا إن كان عمله خيراً جزي بمثله وإن كان شرا جزي
بمثله. {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} إنه لما يرى البهائم
بعد القصاص لها صارت ترابا يتمنى الكافر وهو في عذابه أن لو كان ترابا مثل البهائم
ولولا العذاب وشدته ودوامه لما تمنى أن يكون ترابا أبدا.
__________
1 المتقون هم الذين اتقوا الله فلم يشركوا به ولم يعصوه فحافظوا بذلك على زكاة
نفوسهم فاستوجبوا لذلك الجنات واستحقوها فللام للمتقين هي لام الاستحقاق.
2 حدائق بدل بعض من كل والحدائق جمع حديقة، البستان: المحاط بجدار.
3 دهاقا بمعنى ملأى وهذا من باب إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول فالدهاق كالدهق
مصدر وأريد به المدهوق أي المملوء.
4 كافيا: تفسير كلمة حسابا إذ من أعطي ما يكفيه يقول حسبي.
5 الإذن اسم للكلام الذي يفيد إباحة فعل أو قول للمأذون، وهو مشتق من أذن له إذا
استمع إليه. نحو: (وأذنت لربها وحقت)
6 هذه الجملة كالفذلكة لما تقدم من وعيد ووعيد وإنذار وتبشير سيق مساق التنويه
بيوم الفصل الذي هو اليوم الحق الثابت قطعا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان كرامة المتقين وفضل التقوى.
2- وصف جميل لنعيم الجنة.
3- ذم الكذب واللغو وأهلهما.
4- بيان شدة الموقف وصعوبة المقام فيه.
5- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
6- الترغيب في العمل الصالح واجتناب العمل السيء الفاسد.
سورة النازعات
...
سورة النازعات
مكية وآياتها ست وأربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطَات نَشْطاً (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً
(3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً (5) يوْمَ تَرْجُفُ
الرَّاجِفَةُ (6 ) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)
أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ( 9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ
(10) أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ
خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ
بِالسَّاهِرَةِ (14)
شرح الكلمات:
والنازعات غرقا : أي الملائكة تنزع أرواح الفجار والكفار عند الموت بشدة.
والناشطات نشطا : أي الملائكة تنشط أرواح المؤمنين الصالحين نشطا أي تسلها برفق.
والسابحات سبحا: أي الملائكة تسبح من السماء بأمر الله أي تنزل به إلى الأرض.
فالسابقات سبقا : أي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة.
فالمدبرات أمرا : أي الملائكة تدبر أمر الدنيا أي تنزل بتدبيره من لدن الله المدبر
الحكيم.
يوم ترجف الراجفة : أي النفخة الأولى نفخة الفناء التي
يتزلزل كل شيء معها.
تتبعها الرادفة : أي النفخة الثانية.
واجفة : أي خائفة قلقة.
أئنا لمردودون في الحافرة : أي أنرد بعد الموت إلى الحياة إذ1 الحافرة اسم لأول
الأمر
تلك إذا كرة خاسرة: أي رجعة إلى الحياة خاسرة.
فإنما هي زجرة واحدة: أي نفخة واحدة.
فإذا هم بالساهرة : أي بوجه الأرض أحياء سميت ساهرة لأن من عليها بها يسهر ولا
ينام.
معنى الآيات:
قوله تعالى {والنازعات2 غرقا } الآيات هذا قسم عظيم أقسم تعالى به على أنه لابد من
البعث والجزاء حيث كان المشركون ينكرون ذلك حتى لا يقفوا عند حد في سلوكهم
فيواصلوا كفرهم وفسادهم جريا وراء شهواتهم كل أيامهم وطيلة حياتهم كما قال تعالى
بل يريد الإنسان ليفجر أمامه فأقسم تعالى بخمسة أشياء وهي النازعات والناشطات
والسابحات والسابقات والمدبرات، ورجح أنهم أصناف من الملائكة وجائز أن يكون غير3
ذلك ولا حرج إذ العبرة بكونه تعالى قد أقسم ببعض مخلوقاته على أن البعث حق ثابت
وواقع لا محالة، وتقدير جواب القسم بلتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم إذ هو معهود في
كثير من الأقسام في القرآن كقوله تعالى من سورة التغابن {زعم الذين كفروا أن لن
يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير} وسيتم ذلك
البعث والجزاء يوم ترجف الراجفة4 التي هي النفخة الأولى التي ترجف فيها العوالم
كلها ويفنى فيها كل شيء، ثم تتبعها الرادفة وهي النفخة الثانية وهي نفخة البعث من
القبور أحياء وأن بين النفختين
__________
1 يقال: رجع فلان أي حفرته أي في طريقه التي جاء فيها فحفرها برجليه وهو يمشي قال
الشاعر:
أحافرة على صلع وشيب
معاذ الله من سفه وعار
أي أرجع إلى حالة الشباب بعد الصلع والشيب، والشاهد في إنكاره الرجوع إلى حياته
الأولى.
2 النازعات جمع نازعة وهي الجماعة من الملائكة والنزع هو إخراج الروح من الجسد
مشبه بنزع الدلو من البئر. ولذا يقول فلان في حالة النزع للمحتضر وغرقاً اسم مصدر
عدل عن المصدر الذي هو إغراقاً لمناسبة سبحا ونشطا وسبقا في الآيات ومعناه الإغراق
في نزع الروح من أقصى الجسد.
3 إذ يرى بعضهم أنها النجوم ويرى بعضهم أنها جماعات الخيل الغازية, والرماة أو
الفرسان إلا أن الراجح أنها الملائكة, فالنازعات الملائكة تنزع أرواح الكافرين و
النشاطات تنشط أرواح المؤمنين نشطا ًتأخذها بسرعة كما ينشط العقال من يد البعير
والسابحات تسبح بأرواح المؤمنين ترفعها إلى الملكوت الأعلى, فالسابقات الملائكة
تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء, فالمدبرات, الملائكة تقوم بتدبير ما أسند الله
إليها كقبض الأرواح, وإنزال الأمطار وإرسال الرياح, ونفخ الأرواح إلى غير ذلك.
4 إطلاق الراجفة والرادفة على الصيحة إطلاق سائغ وهو إطلاق على مسببة الراجفة وهي
الصيحة و الرادفة التي جاءت بعدها وهي الصيحة الثانية.
أربعين سنة كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الحديث الصحيح وقوله تعالى {قلوب يومئذ واجفة} أي خائفة قلقة {أبصارها خاشعة} أي
أبصار أصحاب تلك القلوب خاشعة أي ذليلة خائفة. وقوله تعالى {يقولون} أي منكر
والبعث { أئنا لمردودون في الحافرة } أي أنرد بعد الموت إلى الحياة من جديد كما
كنا أول مرة، { أإذا كنا عظاما نخرة} أي بالية مفتتة وقولهم هذا إستبعاد منهم
للبعث وإنكار له، و {قالوا تلك إذاً كرة خاسرة} يعنون أنهم إذا عادوا إلى الحياة
مرة أخرى فإن هذه العودة تكون خاسرة وهي بالنسبة إليهم كذلك إذ سيخسرون فيها كل
شيء حتى أنفسهم كما قال تعالى { قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم
القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين.} وقوله تعالى {فإنما هي زجرة واحدة } أي صيحة
واحدة وهي نفخة إسرافيل الثانية نفخة البعث { فَإِذَا هُمْ} أولئك المكذبون وغيرهم
من سائر الخلق {بالساهرة } أي وجه الأرض وقيل فيها الساهرة لأن من عليها يومئذ لا
ينامون بل يسهرون أبدا فرد تعالى بهذا على منكري البعث الآخر وقرره عزوجل بما لا
مزيد عليه إعذارا وإنذارا ولا يهلك على الله إلا هالك.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1-بيان أن الله تعالى يقسم بما يشاء من مخلوقاته بخلاف العبد لا يجوز له أن يقسم
بغير ربه تعالى.
2-بيان أنروح المؤمن تنزع عند الموت نزعًا سريعا لا يجد من الألم ما يجده الكافر.
3-تقرير عقيدة البعث و الجزاء بالإقسام عليها وذكر كيفية وقوعها.
هلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ
طُوىً (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) وَأَهْدِيَكَ إِلَى
رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى
(21) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ
اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ
يَخْشَى (26)
شرح الكلمات:
موسى :أي موسى بن عمران عليه السلام .
بالواد المقدس طوى :أي بالواد الطاهر المبارك المسمى بطوى.
اذهب إلى فرعون :أي بأن أذهب إلى فرعون.
إنه طغى :أي تجاوز حده كعبد إلى ادعاء الربوبية و الألوهية.
إلى أن تزكى :أي تسلم فتطهر من رجس الشرك و الكفر بالإسلام لله تعالى.
و أهديك إلى ربك :أي أرشدك إلى معرفة ربك الحق فتخشاه وتطيعه فتنجو من عذابه.
فأراه الآية الكبرى :أي العصا و اليد إذ هي من أكبر الآيات الدالة على صدق موسى.
ثم أدبر يسعى :أي بعد ما كذب وعصى رجع يجمع جموعه ويحشر جنوده لحرب موسى وقال
كلمة الكفر أنا ربكم فلا طاعة إلا لي.
فأخذه الله نكال الآخرة والأولى :أي عذبه تعالى عذاب الآخرة وهو قوله أنا ربكم
الأعلى وعذاب الأولى وهي قوله ما علمت لكم من إله غيري.
معنى الآيات:
قوله تعالى {هل أتاك حديث موسى} الآيات.. المقصود من هذه الآيات تسلية الرسول صلى
الله عليه وسلم وهو يعاني من تكذيب قومه له ولما جاء به من التوحيد والشرع فقص
تعالى عليه طرفا من قصة موسى مع فرعون تخفيفا عليه، وتهديداً لقومه بعقوبة تنزل
بهم كعقوبة فرعون الذي كان أشد منهم بطشاً وقد أهلكه الله فأغرقه وجنده.. فقال
تعالى {هَلْ أَتَاك } 1 يا رسولنا {حَدِيثُ مُوسَى} بن عمران، {إِذْ2 نَادَاهُ
رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} أي بالواد المطهر المبارك المسمى طوى
ناداه فأعلمه أولاً أنه لا إله إلا هو وأمره بعبادته، ثم أمره بأن يذهب إلى فرعون
الوليد بن الريان ملك القبط بمصر فقال له اذهب إلى فرعون إنه طغى أي عتا وتكبر
وظلم فأفحش في الظلم والفساد. وعلمه ما يقول له إذا انتهى إليه فقل {فَقُلْ هَلْ
لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى}3 أي إلى أن تسلم فتزكو روحك وتطهر بالإسلام وأهديك 4
إلى ربك فتخشى أي وأرشدك إلى ربك وأعرفك به فتخشى أي عقابه فتترك الظلم والطغيان
قال تعالى فأراه الآية الكبرى والتي هي اليد والعصا، فكذب فرعون موسى في دعوته
وعصى ربه
__________
1 هل الاستفهام هنا صوري المراد به تشويق السامع إلى الخبر ولذا استعمل فيه هل
التي هي بمعنى قد للتحقيق أي قد أتاك حديث موسى العجيب فاستمع.
2 إذ اسم زمان بدل اشتمال من حديث موسى.
3 قرأ نافع تزكى بتشديد الزاي وقرأ حفص بتخفيفها فمن شددها أدغم فيها إحدى تائي
تتزكى ومن خفف حذف إحدى التائين لأن أصل الفعل تتزكى بتائين.
4 الهداية: الدلالة على الطريق الموصل إلى المطلوب إذا سلكه المرء وصل إلى مرغوبه.
فلم يستجب له ولم يطعه فيما أمره به ودعاه إليه من الإيمان
برسالة موسى وإرسال بني إسرائيل معه بعد الإسلام لله ظاهرا وباطنا. ثم أدبر فرعون
أي عن دعوة الحق رافضا لها يسعى في الباطل والشر {فَحَشَرَ} رجاله وجنده {
فَنَادَى} أي ناداهم ليعدهم إلى حرب موسى {فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}
يعني أنه لا رب فوقه، {فَأَخَذَهُ اللَّه} أي عذبه {نَكَالَ} أي1 عذاب {الْآخِرَة}
أي الكلمة وهي قوله: "أنا ربكم الأعلى" ونكال الأولى وهي قوله ( ما علمت
لكم من إله غيري) وبين الكلمتين الخبيثتين أربعون سنة فالأولى قالها في بداية
الدعوة حيث ادعى أنه بحث واستقصى في البحث واجتهد وأنه بعد كل ذلك الاجتهاد لم
يعلم أن للناس من قومه من إله سواه. وقوله تعالى إن في ذلك {لَعِبْرَةً لِمَنْ2
يَخْشَى} أي فيما قص تعالى من خبر موسى وفرعون { لَعِبْرَةً } أي عظة لمن يخشى
الله وعذاب الدار الآخرة فيؤمن ويتقي أي فيزداد إيماناً وتقوى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تسلية الداعي إلى الله تعالى وحمله على الصبر في دعوته حتى ينتهي بها على
غايتها.
2- إثبات مناجاة موسى لربه تعالى وأنه كلمه ربه كفاحاً بلا واسطة.
3- تقرير أن لا تزكية للنفس البشرية إلا بالإسلام أي بالعمل بشرائعه.
4- لا تحصل الخشية من الله للعبد إلا بعد معرفة الله تعالى إنما يخشى الله من
عباده العلماء.
5- وجود المعجزات لا يستلزم الإيمان فقد رأى فرعون أعظم الآيات كالعصا واليد وما
آمن.
6- التنديد والوعيد الشديد لمن يدعي الربوبية والألوهية فيأمر الناس بعبادته.
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا
فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ
بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)
وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
__________
1 النكل القيد قال تعالى (إن لدينا أنكالا) جمع نكل ويطلق النكال على العذاب
والهروب منه وأخذ منه فعل نكل تنكيلا أي عذبه تعذيبا فنكال الأولى أي عذاب الأولى
ونكال الآخرة عذاب الآخرة كما هو مبين في التفسير.
2 لمن يخشى: أي يخشى الله تعالى وهو المؤمن التقي إذ مثله النفسي هو الذي يجد
العظة والعبرة فيما يعرض عليه من أحداث فاصلة أما الكافر فأنى له أن يسمع حتى
يبصر؟
شرح الكلمات:
أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها؟ :أي أشد خلقا.
رفع سمكها :أي غلظها وارتفاعها.
فسواها :أي جعلها مستوية سطحا واحدا ما فيها نتوء ولا انخفاض.
وأغطش ليلها :أي أظلمه جعله مظلما.
وأخرج ضحاها :أي ضوءها ونهارها.
والأرض بعد ذلك دحاها :أي بعد أن خلق الأرض خلق السماء ثم دحا الأرض أي بسطها
وأخرج منها ماءها ومرعاها.
والجبال أرساها :أي أثبتها على سطح الأرض لتثبت ولا تميد.
متاعا لكم ولإنعامكم : أي أخرج من الأرض ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم
ولأنعامكم وهي المواشي من الحيوان.
معنى الآيات:
قوله تعالى {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ1 خَلْقاً} الآيات.. سيقت هذه الآيات الكريمة
لتقرير عقيدة البعث والجزاء بإيراد أكبر دليل عقلي لا يرده العاقل أبدا وهو أن
السماء في خلقها وما خلق الله فيها، أشد خلقا وأقوى وأعظم من خلق الإنسان بعد موته
فالبشرية كلها لا ساوي حجمها حجم كوكب واحد من كواكب السماء ولا سلسلة واحدة من
سلاسل الجبال في الأرض فضلا عن السماء والأرض. إذاً فالذي قدر على خلق السماء وما
فيها والأرض وما فيها قادر قطعا من باب أولى قادر على خلق الإنسان مرة أخرى وقد
خلقه أولا فإعادة خلقه بإحيائه بعد موته أيسر وأسهل وأمكن من خلقه أولا على غير
مثال سبق، ولا صورة تقدمت، ولكن أكثر الناس لا يعلمون لأنهم لا يفكرون وهذا عرض
الآيات قوله تعالى { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقا ً} أيها المنكرون للبعث المكذبون
به { أَمِ السَّمَاءُ }2 والجواب الذي لاشك فيه هو أن السماء أشد خلقاً من منهم
وبيان ذلك فيما يلي:
1- بناها فهي سقف للأرض مرفوعة فوقها مسوَّاة فلا انفطار فيها ولا ارتفاع لبعض
وانخفاضا لبعض آخر بل هي كالزجاجة في سمتها واعتدالها في خلقها.
__________
1 الاستفهام تقريري أي إلجاؤهم إلى الإقرار والاعتراف بأن خلق السماء أعظم من
خلقهم إذاً كيف ينكرون البعث والحياة الثانية.
2 المراد بالسماء السماء الدنيا المشاهدة للناس، وإن كان لفظ السماء يطلق إطلاق
أسماء الأجناس الدالة على أكثر من واحد والبناء للسماء وهو خلقها في صورة بناء
رفيع.
2- رفع سمكها1 فإن غلظها مقدر بمسيرة خمسمائة عام.
3- أغطش ليلها فجعله مظلما.
4- وأخرج ضحاها فجعل نهارها مضيئا. هذه هي السماء. والأرض بعد ذلك أي بعد2 أن
خلقها أولا وقبل السماء عاد إليها فدحاها بأن بسطها للأنام وأخرج منها ماءها ففجر
فيها عيونها وأخرج منها مرعى وهو ما يرعى من سائر الحبوب والثمار والنبات والأشجار
منفعة للإنسان ولحيوانه المفتقر إليه في ركوبه3 وطعامه وشرابه وما ذكر تعالى من
مظاهر القدرة والعلم والحكمة والرحمة في الأرض لا يقل عما ذكر في السماء إن لم يكن
أعظم فكيف إذاً ينكر الإنسان على ربه أن يعيده حيا بعد إماتته له ليحاسبه وليجزيه
إنه بدل أن ينكر يجب عليه أن يشكر، ولكن الإنسان ظلوم كفار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- بيان إفضال الله تعالى على الإنسان وإنعامه عليه.
3- مشروعية الاستدلال بالكبير على الصغير وبالكثير على القليل وهو مما يعلم بداهة
وبالضرورة إلا أن الغفلة أكبر صارف وأقوى حايل فلا بد من إزالتها أولا.
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنسان مَا
سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36)
َأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ
هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ
الْهَوَى
__________
1 السمك بفتح السين وتسكين الميم الرفع في الفضاء ,وهو مصدر سمك إذا رفع السمك
محرك السين والميم الحوت المعروف واحده سمكة كبقرة.
2 اختلف في أيها خلق الله تعالى أولا الأرض أم السماء وراجح أنها الأرض أولا لقوله
(أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض ... إلى قوله ثم استوى إلى السماء) الآية من سورة
فصلت. وطريق الجمع كما في التفسير خلق الأرض أولا ثم السماوات ثم عاد إلى الأرض
فدحاها بمعنى أخرج منها ماءها ومرعاها أي أعدها إعداداً خاصاً لحياة الإنسان
والحيوان المراد من قوله دحاها إذ الدحو البسط والتسوية والترتيب.
3 إذ هو المراد من قوله تعالى في الآية (ولأنعامكم ) التي هي الإبل البقر والغنم
فالإبل يركب ظهرها ويشرب لبنها ويؤكل لحمها.
(40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)
يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ
ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ
يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً
أَوْ ضُحَاهَا(46)
شرح الكلمات:
الطامة الكبرى :أي النفخة الثانية وأصل الطامة الداهية التي تعلو على كل داهية.
ما سعى :أي ما عمل في الدنيا من خير وشر .
فأما من طغى :أي كفر وظلم.
وآثر الحياة الدنيا :أي باتباع الشهوات.
فإن الجحيم هي المأوى :أي النار مأواه.
مقام ربه :أي قيامه بين يديه ليسأله عما قدم وأخر.
ونهى النفس عن الهوى :أي المردى المهلك باتباع الشهوات.
فإن الجنة هي المأوى :أي مأواه الذي يأوي إليه بعد الحساب.
عن الساعة :أي القيامة للحساب والجزاء.
أيان مرساها :أي متى وقوعها وقيامها.
فيم أنت من ذكراها :أي في أي شيء من ذكراها أي ليس عندك علمها حتى تذكرها.
إلى ربك منتهاها :أي منتهى علمها إلى الله وحده فلا يعلمها سواه.
لم يلبثوا :أي في قبورهم.
إلا عشية أو ضحاها :أي عشية يوم أو ضحى تلك العشية.
معنى الآيات:
بعد أن بين تعالى مظاهر قدرته في حياة الناس وما خلق لهم فيها تدليلا على البعث
والجزاء وذكر في هذه الآيات مظاهر قدرته في معادهم تدليلا على قدرته على بعثهم بعد
موتهم ومحاسبتهم ومجازاتهم فقال عز من قائل {فَإِذَا جَاءَتِ1 الطَّامَّةُ
الْكُبْرَى} أي القيامة وسميت بالطامة الكبرى لأنها تطم على2 كل شيء ولا يعظمها
سيء ولا ريح عاد ولا صيحة ثمود ولا رجفة يوم الظلة. {يَوْمَ
__________
1 فالفاء للتفريع عما تقدم إن تقدم مظاهر قدرته في الكون والحياة تدليلاً على
قدرته على البعث والجزاء ففرع عنه بيان أحوال البعث وما يجري فيه تقريراً له ووقوفاً
بالمنكرين له على مصيرهم فيه مبالغة في طلب هدايتهم وإقامة الحجة عليهم.
2 أصل الطامة الحادثة التي تطم أي تلو وتغلب أمثالها من الأحداث الجسام والمراد
بها هنا القيامة، قال سفيان الطامة هي الساعة التي يسلم فيها أهل النار للزبانية
قال الشاعر:
إن بعض الحب يعمي ويصم
وكذاك البعض أدهى وأطم
يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى} من خير أو شر لأنه
أيقن أنه محاسب ومجزي بعمله. { وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ} أي أبرزها فظهرت لمن يراها
لا يخفيها شيء. والناس بعد ذلك مؤمن وكافر والطريقان طريق جنة وطريق نار.
{فَأَمَّا مَنْ طَغَى} أي عتا عن أمر ربه فعصاه ولم يطعه بأداء فرائضه واجتناب
نواهيه. {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} على الآخرة فعمل للدنيا وصرف كل جهده
وطاقته لها، ولم يعمل للآخرة فما صام ولا صلى ولا تصدق ولا زكى { فَإِنَّ
الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} أي مأواه ومستقره ومثواه شرابه الحميم وطعامه الزقوم
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} وهو الوقوف بين يديه لمساءلته ومجازاته
فأدى الفرائض واجتنب النواهي، {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} أي نفسه عن هواها
فلم يجبها في هوى يبغضه الله ولم يطعها في شيء حرمه الله فإن الجنة دار السلام
والأبرار والمتقين الأخيار هي مأواه ولنعم المأوى هي حيث العيون الجارية والسرر
المرفوعة والأكواب الموضوعة والنمارق المصفوفة والزرابي المبثوثة والكواعب العرب
الأتراب ولقاء الأحباب1. وقوله تعالى {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ
مُرْسَاهَا} أي يسألك يا رسولنا المنكرون للبعث عن الساعة أي قيامها ومتى رسوها
وثبوتها وهي كالسفينة سائرة ليل نهار متى ترسو؟ { فِيمَ }2 أي في أي شيء أنت من
ذكراها أي ليس عندك علمها فتذكرها لهم إلى ربك وحده علم وقت مجيئها وساعة رسوها
لتنقل الناس من دنياهم إلى آخرتهم، وبذلك تنتهي رحلتهم ويستقر قرارهم. وينتهي
ليلهم ونهارهم. وقوله تعالى {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} أي ليس
إليك يا رسولنا علمها ولا منتهى أمرها إنما أنت مهمتك غير ما يطلب إنها إنذار من
يخشى الساعة ويخاف حلولها لإيمانه بها وبما يكون فيها من نعيم وجحيم أما من لا
يؤمن بها فهو لا يخافها وسؤاله عنها سؤال استهزاء، فلا تحفل بهم ولا تهتم لهم
فإنهم يوم يرونها كأن لم يلبثوا في دنياهم هذه وقبورهم { إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ
ضُحَاهَا} أي عشية يوم أو ضحى تلك العشية لما يستقبلون من أهوال الموقف وفظائع
العذاب.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء ب1كر أحوالها وصفاتها.
2- الناس يوم القيامة مؤمن تقي في الجنة، وكافر وفاجر في النار.
3- بيان استئثار الله تعالى بعلم الغيب والساعة.
4- بيان أي الشدائد ينسى بعضها بعضا فإن عذاب القبر يهون أمام عذاب النار.
__________
1 كل ما ذكر من قولنا العيون إلى لقاء الأحباب هو من القرآن. يروى أن بلالاً وهو
في سياقة الموت يغمى عليه فإذا أفاق ووجد امرأته تبكي: يقول لها لا تبكي: غدا ألقى
الأحبة محمدا وصحبه.
2 اسم استفهام أريد به الإنكار مشوبا بالتعجب من إلحاح المشركين على الرسول صلى الله
عليه وسلم أن يعين لهم وقتها.
سورة عبس
...
سورة عبس
مكية وآياتها اثنتان وأربعون آية
يسم الله الرحمن الرحيم
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ
يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى
(5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا
مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى(8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)كَلاَّ
إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13)
مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
شرح الكلمات:
عبس :أي أن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى كلح وجهه وتغير.
وتولى :أي أعرض.
أن جاءه الأعمى :أي لأجل أن جاء عبد الله بن أم مكتوم فقطعه عما هو مشغول به من
دعوة بعض أشراف قريش للإسلام.
لعله يزكى :أم يتطهر من الذنوب.
أو يذكر :أي يتعظ.
فتنفعه الذكرى :أي الموعظة.
أما من استغنى :عن الإيمان والعلم والدين بالمال والجاه.
فأنت له تصدى :أي يتقبل عليه وتتصدى له.
وما عليك ألا يزكى :أي ليس عليك بأس في عدم تزكيته نفسه بالإسلام.
يسعى :أي في طلب الخير من العلم والهدى.
فأنت عنه تلهى :أي تشاغل.
كلا :أي لا تعد لمثل ذلك.
إنها تذكرة :أي الآيات عظة للخلق.
مكرمة :أي عند الله.
مرفوعة :أي في السماء.
مطهرة :أي منزهة عن مس الشياطين.
بأيد سفرة :كتبة ينسخونها من اللوح المحفوظ.
كرام بررة :مطيعين لله وهم الملائكة.
معنى الآيات:
قوله تعالى {عَبَسَ وَتَوَلَّى1 أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} هذا عتاب لطيف يعاتب به
الله سبحانه وتعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم فالذي عبث بمعنى قطب وجهه
وأعرض هو رسول الله صلى الله عليه وسلم والأعمى الذي لأجله عبس رسول الله وأعرض
عنه هو عبد الله بن أم مكتوم الأعمى أحد المهاجرين ابن خال خديجة بنت خويلد أم
المؤمنين. وسبب هذا العتاب الكريم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في مكة يوما
ومعه صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب وأمية بن
خلف يدعوهم إلى الإسلام مجتهدا معهم يرغبهم ويرهبهم طمعا في إسلامهم فجاء عبد الله
بن أم مكتوم ينادي يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله وكرر ذلك مرارا
فانزعج لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه
لحديثه مع القوم فعبس وتولى عنه لا يجيبه، وما إن عاد النبي صلى الله عليه وسلم
إلى منزله حتى نزلت هذه الآيات { عَبَسَ وَتَوَلَّى}2 أي قطب وأعرض { أَنْ
جَاءَهُ3 الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ } أي وما يعلمك أنه { يَزَّكَّى4 } بما يطلب
من القرآن والسنة أي يريد زكاة نفسه وتطهير روحه بما يتعلمه منك، أو يذكر فتنفعه
الذكرى. أي وما يعلمك لعله بندائه لك وطلبه منك أن يتذكر بما يسمع منك فيتعظ به
وتنفعه الذكرى منك. وقوله تعالى { أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} أي عن الإيمان و
الإسلام وما عندك من العلم بالله والمعرفة استغنى بماله وشرفه في قومه { فَأَنْتَ
لَهُ تَصَدَّى5} أي تتعرض له مقبلا عليه { وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى} أي
وأي شيء يلحقك من الأذى إن لم يتزك ذاك المستغنى عنك بشرفه و ماله.وكرر تعالى
العتاب بالكلمات العذاب6 { وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ
__________
1 عبس:أي النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى عبس قطب مابين عينيه كراهية لما نابه
وحصل له مما أزعجه.
2 انظر مضمون هذه الآية في قوله تعال ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي..
الآية وأخرى (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) الآية. الأولى من
سورة الأنعام والثانية من الكهف.
3 أن جاءه الأعمى: مجرور بحرف جر محذوف وهو اللام أي لأن جاءه وهذا الحذف مطرد
وأصل التركيب لأجل مجيء الأعمى له.
4 يزكى أصلها يتزكى أي يطلب التزكية لنفسه فأدغمت التاء في الزاي فصارت يزكى.
5 قرأ نافع تصدى بتشديد الصاد والدال معا، وقرأ حفص بتخفيف الصاد، فمن شدد أدغم
إحدى التائين في الصاد ومن خفف حذف.
6 العذاب: جمع عذبه بمعنى الحلوة الطيبة إذ كل حلو طيب هو عذب .
يَخْشَى} جاءك مسرعا يجري وراءك يناديك بأحب الأسماء
إليك يا رسول الله والحال انه يخشى الله تعالى ويخاف عقابه فلذا هو يطلب ما يزكي
به نفسه ليقيها العقاب والعذاب { فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى1} أي تتشاغل بغيره
{كَلاَّ} أي لا تفعل مثل هذا مرة أخرى. وقوله تعالى { إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} أي هذه
الآيات وما تحمل من عتاب حبيب إلى حبيب موعظة {فَمَنْ شَاءَ} من عباد الله
{ذَكَرَهُ} أي ذكر الوحي والتنزيل {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ
مُطَهَّرَةٍ} مكرمة عند الله تعالى مرفوعة في السماء مطهرة منزهة عن مس الشياطين
لها { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} أي مطيعين لله صادقين هم الملائكة
كتبة ينسخونها من اللوح المحفوظ وما أقرب هذا الوصف من مؤمن كريم النفس طاهر الروح
يحفظ كتاب الله ويعمل به بيده مصحف يقرأه ويرتل كلام الله فيه وقد جاء في الصحيح2
أن هذا العبد الذي وصفت مع السفرة الكرام البررة. اللهم اجعلني منهم برحمتك يا
أرحم الراحمين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان مقام النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أشرف مقام وأسماه دل على ذلك أسلوب
عتاب الله تعالى له حيث خاطبه في أسلوب شخص غائب حتى لا يواجهه بالخطاب فيؤلمه
فتلطف معه، ثم أقبل عليه بعد أن أزال الوحشة يخاطبه وما يدريك.
2- إثبات ما جاء في الخبر أدبني ربي فأحسن تأديبي فقد دلت الآيات عليه.
3- بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأديب ربه له مستوى لم يبلغه سواه، فقد كان
إذا جاءه ابن أم مكتوم يوسع له في المجلس ويجلسه إلى جنبه ويقول له مرحبا بالذي
عاتبني ربي3 من اجله وولاه على المدينة مرات، وكان مؤذناً له في رمضان.
4-استحالة كتمان الرسول صلى الله عليه وسلم لشيء من الوحي فقد قالت أم المؤمنين
عائشة رضي الله عنها لو كان للرسول أن يكتم شيئا من وحي الله لكتم عتاب الله تعالى
له في عبس وتولى.
__________
1 تلهى: أصلها تتلهى حذفت إحدى التائين تخفيفاً, وتلهى تطلب التلهي أو حصل له وهو
الانشغال بشيء وترك الآخر.
2 في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال:" مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي
يقرأه وهو يتعاهده وهو عليه شاق شديد فله أجران".
3 قال الثوري فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم يبسط له
رداءه ويقول مرحباً بمن عاتبني فيه ربي ويقول: هل من حاجة؟ واستخلفه بالمدينة
مرتين في غزوتين غزاهما قال أنس فرأيته يوم القادسية راكباً وعليه درع وراية
سوداء.
قُتِلَ الْإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ
شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ
يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ
(22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإنْسَانُ إِلَى
طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ
شَقّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28)
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدَائِقَ غُلْباً (30) وَفَاكِهَةً وَأَبّاً (31)
مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
شرح الكلمات:
قتل الإنسان : لعن الإنسان الكافر.
ما1أكفره : أي ما حمله على الكفر؟.
من أي شيء خلقه : من نطفة خلقه.
فقدره: أي من نطفة إلى علقة إلى مضغة فبشر سوي.
ثم السبيل يسره : أي سبيل الخروج من بطن أمه.
إذا شاء أنشره : أي إذا شاء إحياءه أحياه.
كلا: حقا أو ليس الأمر كما يدعي الإنسان أدى ما عليه من الحقوق.
لما يقضي ما أمره : أي ما كلفه به من الطاعات و الواجبات في نفسه وماله.
إلى طعامه : أي كيف قدر ودبر له.
حبا وعنبا : أي الحب الحنطة والشعير والعنب هو المعروف.
وقضبا : أي القت والرطب وسمي قضبا لأنه يقضب أي يقطع مرة بعد مرة.
و حدائق غلبا : أي كثيرة الأشجار والواحدة غلباء كحمراء كثيفة الشجر.
و فاكهة وأبا : أي ما يتفكه به من سائر الفواكه والأب التبن وما ترعاه البهائم.
متاعا لكم ولأنعامكم : أي ما تقدم ذكره منفعة لكم ولأنعامكم التي هي الإبل والبقر
والغنم.
__________
1 جائز أن تكون ما تعجبية إذ من عادة العرب إذا تعجبوا من شيء قالوا فيه قاتله
الله ما أحسنه أو ما أقبحه أو ما أجرأه مثلا.أي أعجبوا لخلقه من نطفة مع كفره
بربه.
معنى الآيات:
بعدما عاتب الرب سبحانه وتعالى رسوله على انشغاله بأولئك الكفرة المشركين وأعراضه
عن ابن أم مكتوم الأعمى فكان أولئك المشركون هم السبب في إعراض الرسول صلى الله
عليه وسلم عن ابن أم مكتوم وفي عتاب الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم
فاستجوبوا لذلك لعنة الله تعالى عليهم لكفرهم وكبريائهم جرد الله تعالى شخصا منهم
غير معلوم والمراد كل كافر متكبر مثلهم فقال {قُتِلَ الْإِنْسَانُ} أي الكافر {مَا
أَكْفَرَهُ} أي ما حمله على الكفر والكبر. فلينظر {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}
ربه الذي يكفر به؟ إنه خلقه من نطفة قذرة {خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} أي أطوارا نطفة
فعلقة فمضغة. أمن كان هذا حاله يليق به أن يكفر ويتكبر ويستغني عن الله؟ فلينظر
إلى مبدئه ومنتهاه وما بينهما مبدأه نطفة مذرة وأخره جيفة قذرة. وهو بينهما حامل
عذرة. كيف يكفر وكيف يتكبر؟ وقوله تعالى {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} فلولا أن
الله تعالى يسر له الخروج من بطن أمه والله ما خرج. {ثُمَّ أَمَاتَهُ} بدون
استشارته ولا أخذ رأيه { فَأَقْبَرَهُ1} هيأ له من يقبره وإلا لأنتن وتعفن وأكلته
الكلاب، {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ2} {كَلاَّ3}. أما يصحو هذا المغرور أما
يفيق هذا المخدوع. {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} فما له لا يقضي ما أمره ربه من
الإيمان به وطاعته {َلْيَنْظُرِ الْإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ4} الذي حياته متوقفة
عليه كيف يتم له بتقدير الله تعالى وتدبيره لعله يذكر فيشكر {أَنَّا صَبَبْنَا
الْمَاءَ صَبّاً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّا
فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً} كالبر والشعير والذرة وسائر الحبوب المقتاتة وعنبا
يأكله رطبا ويابسا {وَقَضْباً} وهو القت الرطب يقضب أي يقطع مرة بعد مرة وهو علف
البهائم، {وَزَيْتُوناً} يأكله حبا ويدهن به زيتا { وَنَخْلاً} يأكله ثمرة بسرا
ورطبا وتمرا {وَحَدَائِقَ غُلْباً} أي بساتين ملتفة الأشجار كثيرتها الواحدة
غلباء5 {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} الفاكهة لكم والأب علف لدوابكم {مَتَاعاً لَكُمْ
وَلِأَنْعَامِكُمْ} أي هذه المذكورات بعضها متاعا لكم أي منافع تتمتعون بها وبعضها
لأنعامكم وهو القضب والأب منفعة لها تعيش عليها فبأي وجه تكفر ربك يا أيها الإنسان
الكافر؟.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته وهي مقتضية للإيمان به وبآياته ورسوله
ولقائه.
__________
1 يقال قبره إذا دفنه وأقبره إذا هيأ له من يقبره.
2 أنشره ونشره بمعنى واحد أي أحياه بعد موته وسيشاء ذلك فينشره يوم القيامة للحساب
والجزاء.
3 لأهل العلم في حقيقة (كلا) هذا كلام طويل واختلاف كبير والراجح أنها كما هي
الغالب فيها أنها للردع أي ردع له على كفره واستمرار غفلته وإعراضه وجهله وعدم
علمه, وجملة لم يقض بيانية أي بيات علة كفره وعناده وهي أنه لم يقض ما أمر به من
النظر والتأمل ولو فعل ذلك لعرف واهتدى , ومن هنا أمره أن ينظر إلى طعامه .
4 هناك لطيفة تستشف من هذه الآية وهي أن طعام الإنسان كالمثل للدنيا في مبدئها ومنتهاها
فإن طعامه وإن ملحه وفلفله فإنه يصير إلى عذرة منتنة.
5 يقال للأسد الأغلب لأنه مصمت العنق لا يلتفت إلا جمعاً.
2- الاستدلال بالصنعة على الصانع. وأن أثر الشيء يدل
عليه، ولذا يتعجب من كفر الكافر بربه وهو خلقه ورزقه وكلأ حياته وحفظ وجوده إلى
أجله.
3- بيان أن الإنسان لا يزال مقصراً في شكر ربه ولو صام الدهر كله وصلى في كل لحظة
من لحظاته .
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ
يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ
مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا
قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
شرح الكلمات:
فإذا جاءت الصاخة : أي النفخة الثانية.
وصاحبته : أي زوجته.
شأن يغنيه : أي حال تشغله عن شأن غيره.
مسفرة: أي مضيئة.
عليها غبرة : أي غبار.
ترهقها قترة : أي ظلمة من سواد ومعنى ترهقها تغشاها
الكفرة الفجرة : أي الجامعون بين الكفر والفجور.
معنى الآيات:
بعدما يبين تعالى بداية أمر الإنسان في حياته ومعاشه فيها ذكر تعالى معاده ومآله
فيها فقال عز من قائل {فَإِذَا جَاءَتِ1 الصَّاخَّةُ} وهي القيامة ولعل تسميتها
بهذا الاسم الصاخة نظرا إلى نفخة الصور التي تصخ الأذن أي تصمها بمعنى تصيبها
بالصمم لشدتها. وهي النفخة الثانية وقوله تعالى {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ
أَخِيهِ2 وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ} أي زوجته {وَبَنِيهِ} وهؤلاء أقرب
الناس إليه
__________
1 الفاء للتفريع هذا الكلام متفرع على ما قبله كما في التفسير أنه بعد أن ذكر
الإنسان بمبدأ خلقه ومنتهى حياته في الدنيا فرع على ذلك بيان حياته الآخرة ومصيره
فيها.
2 قال بعضهم أول من يفر يفر قابيل من أخيه هابيل، وقال الحسن أول من يفر يوم
القيامة إبراهيم يفر من أبيه ونوح من ابنه ولوط من امرأته.
ومع هذا يفر عنهم أي يهرب خشية أن يطالبوه بحق لهم عليه
فيؤخذ به.وقوله تعالى {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْ1هُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْن} أي حال وأمر
{ٌ يُغْنِيهِ} عن السؤال عن غيره ولو كان أقرب قريب إليه.هنا ورد أن أم المؤمنين
عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلة يا نبي الله كيف
يحشر الرجال؟ قال حفاة عراة,ثم انتظرت ساعة فقالت يانبي الله كيف يحشر النساء؟ قال
كذلك حفاة عراة قالت واسوأتاه من يوم القيامة:قال وعن ذلك تسألين إنه قد نزلت علي
آية لا يضرك كان عليك ثياب أم لا قالت أي آية هي يانبي الله قال {لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}. وقوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
مُسْفِرَ2ةٌ} أي مضيئة مشرقة {ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} وهي وجوه المؤمنين
والمؤمنات أهل التقوى وجوههم حسنة مشرقة بالأنوار مستبشرون بالقدوم على ربهم
والنزول بجواره الكريم .{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} أي تقوم القيامة ويحشر الناس لفصل
القضاء {عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} أي غبار {تَرْهَقُهَا} أي تغشاها {قَتَرَةٌ}. أي ظلمة
وسواد {أولئك } أي الذين عليهم الغبرة وتغشاهم القترة { هم الْكَفَرَةُ} في الدنيا
{ الْفَجَرَةُ} فيها الذين عاشوا على الكفر والفجور وماتوا على ذلك والفجور هو
الخروج عن طاعة الله تعالى بترك الواجبات وغشيان المحرمات كالربا والزنا وسفك
الدماء.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1-بيان شدة الهول يوم القيامة يدل على فرار المرء من أقربائه.
2-خطر التبعات على العبد يوم القيامة وهي الحقوق التي يطالب بها العبد يوم
القيامة.
3-شدة الهول والفزع تنسي المرء يوم القيامة أن ينظر إلى عورة أحد من أهل الموقف.
4-ثمرة الإيمان والتقوى تظهر في الموقف نورا على الوجه وإشراقا له وإضاءة وثمرة
الكفر والفجور تظهر ظلمة وسوادا على الوجه وغبارا.
5-تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرض صورة من صورها.
__________
1 روى الترمذي وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما :أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
يحشرون حفاة عراة غرلا فقالت امرأة أينظر بعضنا بعضا؟ قال يافلانة لكل امرء منهم
يومئذ شأن يغنيه. غرلاً: جمع أغرل وهو من لم تؤخذ غلفة ذكره بالختان.
2 مسفرة من طول قيام الليل والضرب في سبيل الله يقال أسفر الصبح إذا أضاء وأسفرت
المرآة إذا كشفت عن وجهها.
سورة التكوير
...
سورة التكوير
بسم الله الرحمن الرحيم
مكية وآياتها تسع وعشرون آية
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا
الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ
حُشِرَتْ (ا5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6 )وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)
وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا
الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ
سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ
(14)
شرح الكلمات:
إذا :أي ظرف لما ذكر بعد من المواضع الأثنى عشر,وجوابها علمت نفس
ما أحضرت.
كورت :أي لفت وذهب بنورها.
انكدرت :أي انقضت وتساقطت على الأرض.
سيرت :ذهب بها على وجه الأرض فصارت هباء منبثا.
وإذا العشار :أي النوق الحوامل.
عطلت :أي تركت بلا راع أو بلا حلب لما دهاهم من الأمر.
الوحوش حشرت :أي جمعت وماتت.
وإذا البحار سجرت :أي أوقدت فصارت نارا.
وإذا النفوس زوجت : أي قرنت بأجسادها ثم بقرنائها وأمثالها في الخير والشر.
وإذا الموءودة :أي البنت تدفن حية خوف العار أو الحاجة.
سئلت :أي تبكيتا لقاتلها.
بأي ذنب قتلت :أي بأي ذنب.
وإذا الصحف نشرت :أي صحف الأعمال فتحت وبسطت.
وإذا السماء كشطت :أي نزعت من أماكنها كما ينزع الجلد عن
الشاة.
وإذا الجحيم سعرت :أي نار أججت.
وإذا الجنة أزلفت :أي قربت لأهلها ليدخلوها.
علمت نفس ما أحضرت :أي كل نفس وقت هذه المذكورات ما أحضرت من خير وشر.
معنى الآيات:
قوله تعالى {إذا الشمس كورت} إلى قوله {علمت نفس ما أحضرت} إشتمل على إثنى عشر
حدثا جلالا, ستة أحداث منها في الدنيا وستة في الآخرة وكلها معتبرة شرطا لجواب
واحد وهو قوله تعالى علمت نفس ما أحضرت أي من خير وشر لتجزى به والسياق كله في
تقرير عقيدة البعث والجزاء التي انكرها العرب المشركون وبالغوا في إنكارها مبالغة
شديدة وكونها عليها مدار إصلاح الفرد والجماعة وأنه بدونها لا يتم إصلاح ولا تهذيب
ولا تطهير عني القرآن بها عناية فائقة ويدل لذلك أن فواتح السور والصافات
والذاريات والطور والمرسلات والنازعات والتكوير والانفطار والانشقاق والبروج
والفجر كل هذه بما فيها من إقسامات عظيمة هي لتقرير عقيدة البعث والجزاء. وهذه
الأحداث الستة التي تقع في الدنيا وهي مباديء الآخرة:
1- تكوير1 الشمس بلفها وذهاب ضوئها.
2- إنكدار2 النجوم بانقضائها وسقوطها على الأرض.
3- تسيير الجبال بذهابها عن وجه الأرض واستحالتها إلى هباء يتطاير.
4- تعطيل العشار
3 وهي النوق الحوامل فلا تحلب ولا تركب ولا ترعى لما أصاب أهلها من الهول والفزع
وكانت أفضل أموالهم وأحبها إلى نفوسهم.
5- حشر الوحوش وموتها وهي دواب البر قاطبة.
6- تسجير4 البحار باشتعالها نارا.
وهذه الأحداث الستة التي تقع في الآخرة:
__________
1 قال أبو عبيدة: كورت مثل تكوير العمامة فتلف وقال الربيع كورت ورمي بها.
2 انكدرت تهافتت وتناثرت، وقال أبو عبيدة انصبت كما ينصب العقاب إذا انكسر قال
العجاج يصف صقراً:
أبصر خربان فضاء فانكدر
تقضي الباز إذا البازي كسر
3العشار واحدها عشراء وهي التي مضى على حملها عشرة أشهر ثم لا يزال اسمها كذلك حتى
تضع.
4أو جائز أن يكون تسجير البحار فيضانها بتجاوز مياها معدل سطوحها,وجائز أن تشتعل
فيها النار فتحترق,وظاهرة وجود البترول تحت سطحها تدل على أنها تحترق وتسجر كما
يسجر التنور.
1- تزويج النفوس وهو قرنها بأجسادها بعد خلق الأجساد
لها,وبعد ذلك بأمثالها في الخير والشر.
2- سؤال الموءودة عن1ذنبها التي قتلت به.
3- نشر صحف الأعمال وفتحها وبسطها.
4- كشط السماء2 أي نزعها من أماكنها نزع الجلد عن الشاة عند سلخها.
5- تسعير النار أي تأجيجها وتقويتها.
6- إزلاف الجنة وتقريبها لأهلها أهل الإيمان والتقوى.
وجوب هذه الأحداث التي وقعت شرطا لحرف(إذا)هو قوله تعالى علمت نفس3 ما أحضرت من
حسنات فتصير بها إلى الجنة, أو سيئات فتصير بها إلى النار.الهم إنا نسألك الجنة
وما قرب إليها من قول وعمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
هداية الآيات :
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- بيان مفصل عن مبادىء القيامة, وخواتيمها وفي حديث الترمذي الحسن الذي قال فيه
رسول الله صلى الله عليه وسلم من سره أن ينظر إلي يوم القيامة فليقرأ إذا الشمس
كورت وإذا السماء انشقت.
3- الترغيب في الإيمان والعمل الصالح إذ بهما المصير إلى الجنة.
4- الترهيب من الشرك والمعاصي إذ بهما المصير إلى النار.
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا
عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ
(19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)
)وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ
__________
1 الوأد: دفن الطفلة وهي حية، وكان العرب في الجاهلية يئدون البنات خشية العار،
ويقتلون أولادهم خشية الفقر أو لنذرهم إياهم للآلهة.
2 الكشط إزالة الإهاب "الجلد" عن الحيوان الميت.
3 روي أن عمر رضي الله عنه قرأ هذه السورة فلما بلغ قوله تعالى (علمت نفس ما
أحضرت) قال لهذا أجريت القصة.
(23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا
هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا
ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا
تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
شرح الكلمات:
الخنس :أي التي تخنس بالنهار أي تختفي وتظهر بالليل.
الجوار الكنس :أي التي تجري أحيانا وتكنس في مكانسها أحيانا أخرى والمكانس محل
إيوائها كمكانس بقر الوحش وهي الدرارى الخمسة عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل
.
إذا عسعس :أي أقبل وأدبر لأن عسعس من أسماء الأضداد.
تنفس :أي امتد حتى يصير نهاراً بيناً.
إنه :أي القرآن.
لقول رسول كريم :أي جبريل كريم على الله تعالى وأضيف إليه القرآن لنزوله به.
ذي قوة :أي شديد القوى.
عند ذي العرش مكين :أي عند الله تعالى ذّي مكانة.
مطاع ثم أمين :أي مطاع في السماء تطيعه الملائكة أمين على الوحي.
وما صاحبكم بمجنون :أي محمد صلى الله عليه وسلم أي ليس به جنون.
ولقد رآه بالأفق المبين :أي ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته
التي خلق عليها بالأفق الأعلى البين من ناحية المشرق.
وما هو على الغيب :أي وما محمد صلى الله عليه وسلم على الغيب وهو ما غاب من الوحي
وخبر السماء.
بضنين :أي ببخيل وفي قراءة بالظاء أي بمتهم فينقص منه ولا يعطيه كله.
وما هو بقول شيطان رجيم :أي وليس القرآن بقول شيطان مسترق للسمع.
فأين تذهبون :أي فأي طريق تسلكون في إنكاركم القرآن وإعراضكم عنه.
ما هو إلا ذكر للعالمين :أي ما القرآن إلا موعظة للجن والإنس.
أن يستقيم :أي يتحرى الحق ويعتقده ويعمل بمقتضاه.
وما تشاءون إلا أن يشاء الله :أي ومن شاء الاستقامة منكم فإنه لم يشأها إلا بعد أن
شاءها الله قبله إذ لو لم
يشأها الله ما أشاءها عبده
معنى الآيات:
لما قرر تعالى عقيدة البعث والجزاء بوصف كامل لأحداثها وكان الوصف من طريق الوحي
فافتقر الموضوع إلى صحة الوحي والإيمان به فإذا صح الوحي وآمن به العبد آمن بصحة
البعث والجزاء. ومن هنا أقسم تعالى بأعظم قسم على أن القرآن نزل به جبريل على محمد
صلى الله عليه وسلم وما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله ووحيه وليس هو
بمجنون يقول ما لا يدري و يهذر بما لا يعني ولا هو بقول شيطان رجيم ممن يسترقون
السمع ويلقونه إلى إخوانهم من الكهان بل هو كلام الله صدقا وحقاً وما يخبر به كما
يخبر صدق وحق فقال تعالى {فَلا} أي ليس1 الأمر كما تدعون بأن ما يقوله رسولنا هو
من جنس ما تقوله الكهنة. ولا مما يقوله الشعراء، ولا هو بكلام مجانين. ولا هو سحر
الساحرين أقسم بالخنس الجوار الكنس أي بكل ما يكنس ويجري ويكنس من الظباء وبقر
الوحش والكواكب والدراري الخمسة عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل. والمراد من
الخنوس الاختفاء والكنوس إيواءها إلى مكانسها مواضع2 إيوائها . وقوله {وَاللَّيْلِ
إِذَا عَسْعَسَْ} أي أقسم بالليل إذا أقبل أو أدبر إذ لفظ عسعس بمعنى أقبل وأدبر
فهو لفظ مشترك بين الإقبال والإدبار {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} أي امتد ضوءه
فصار نهاراً بيناً أقسم بكل هذه المذكورات على أن القرآن الذي يصف لكم البعث
والجزاء حق الوصف هو قول رسول كريم أي جبريل الكريم على ربه ذي قوة لا يقادر قدرها
فلا يقدر إنس ولا جن على انتزاع ما عنده من الوحي ولا على زيادة فيه أو نقص منه.
عند ذي العرش سبحانه وتعالى مكين أي ذي مكانة محترمة مطاع في السماوات أمين على
الوحي هذا أولاً وثانياً والله وما صاحبكم محمد صلى الله عليه وسلم {بِمَجْنُونٍ}
كما تقولون {وَلَقَدْ رَآه} أي رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل بالأفق المبين
رآه على صورته التي خلقه الله عليها وله ستمائة جناح رآه بالأفق ناحية الشرق وقد
سد الأفق كله، والأفق بين والنهار طالع. {وَمَا هُوَ} أي محمد صلى الله عليه وسلم
{عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ}3 أي بمظنون فيه التهمة بأن يزيد فيه أو ينقص منه أو
يبدل فيه أو يغير كما هو ليس ببخيل فيظن فيه أنه يكتم منه شيئاً أو يخفيه بخلاً به
أو ينقص منه شحاً به وبخلاً. {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ }ممن يسترقون
السمع ويلقونه إلى أوليائهم من الإنس فيخلطون فيه ويكذبون. وقوله تعالى:
__________
1 فلا أقسم الفاء للتفريع أي لتفريع الكلام اللاحق على السابق وجائز أن تكون لا
مزيدة لتقوية القسم، وكونها نافية رداً على باطل المشركين أولا كما في التفسير.
2 الخنس جمع خانسة وهي التي تخنس. أي تختفي، والكنس جمع كانسة: كنس الظبي إذا دخل
كناسه بكسر الكاف وهو البيت الذي يتخذه للمبيت، وقيل الكنوس أن تأوي إلى مكانسها
وهي المواضع التي تأوي إليها الوحوش والظباء. قال الأعشى:
فلما أتينا الحي أتلع أنسٌ
كما أتلعت تحت المكانس ربرب
3 قريء في السبع بظنين ومعناه بمتهم من ظننت كذا وقريء بضنين بالضاد بمعنى بخيل
ولذا شرحت الآية مراعياً فيها القراءتين وكلا المعنيين صحيح فلا هو صلى الله عليه
وسلم بمتهم على الوحي ولا ببخيل به ولا بغيره.
{فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} ينكر عليهم مسلكهم الشائن في
تكذيب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم واتهامه بالسحر، والقرآن بالشعر والكهانة
والأساطير. وقوله إن هو إلا ذكر للعالمين أي ما القرآن إلا ذكر للعالمين من الإنس
والجن يذكرون به خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم وماله عليهم من حق العبادة وواجب
الشكر ويتعظون به فيخافون ربهم فلا يعصونه بترك فرائضه عليهم ولا بارتكاب ما حرمه
عليهم وقوله تعالى لمن شاء منكم أن يستقين على منهاج الحق فيتحرى الحق أولا ويؤمن
به ويعمل بمقتضاه ثانيا. ولما سمع أبو جهل هذه الآية {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ
يَسْتَقِيمَ} قال الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم. أنزل تعالى قوله
{ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} فاكبت
اللعين فاعلم أن من شاء الاستقامة من العالمين لم يشأها إلا بعد أن شاءها الله تعالى
ولو لم يشأها الله تعالى والله ما شاءها العبد أبدا إذ مشيئة الله سابقة لمشيئة
العبد. وفي كل ما يشاؤه الإنسان فإن مشيئة الله سابقة لمشيئته لأن الإنسان عبد
والله رب والرب لا مشيئة تسبق مشيئته.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية الإقسام بالله تعالى وأسمائه وصفاته.
2- تقرير الوحي وإثبات النبوة المحمدية.
3- بيان صفات جبريل الكمالية الأمانة، القوة، علو المكانة، الطاعة، الكرم.
4- براءة الرسول مما اتهمه به المشركون.
5- بيان أن مشيئة الله سابقة لمشيئة العبد. فلا يقع في ملك الله تعالى إلا ما
يريد.
سورة الانفطار
...
سورة الانفطار
مكية وآياتها تسع عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا
الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا
قَدَّمَتْ
وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ
بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ
صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ
عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً
كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
شرح الكلمات:
إذا السماء انفطرت :أي انشقت.
وإذا الكواكب انتثرت :أي تساقطت.
وإذا البحار فجرت :أي اختلطت ببعضها وأصبحت بحراً واحداً الملح والعذب سواء.
وإذا القبور بعثرت :قلب ترابها وبعث موتاها.
علمت نفس ما قدمت :أي من الأعمال وما لأخرت منها فلم تعمله وذلك عند قراءتها كتاب
أعمالها.
ما غرك بربك :أي شيء خدعك وجرأك على عصيانه.
الذي خلقك :أي بعد أن لم تكن.
فسواك :أي جعلك مستوى الخلقة سالم الأعضاء.
فعدلك :أي جعلك معتدل الخلق متناسب الأعضاء ليست يد أطول أو رجل أطول من الأخرى.
كلا بل تكذبون بالدين :ليس الكرم هو الذي غره وإنما جرأه على المعاصي تكذيبه
بالدين الذي هو الجزاء بعد البعث حياً من قبره.
وإن عليكم لحافظين كراما :أي وإن عليكم لملائكة كراما على الله تعالى حافظين
لأعمالكم.
كاتبين :أي لها أي لأعمالكم خيرها وشرها حسنها وقبيحها.
معنى الآيات:
قوله تعالى {إِذَا1 السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ}2 أي انشقت {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ
انْتَثَرَتْ} أي انفضت وتساقطت {وَإِذَا
__________
1إذا ظرف للمستقبل متضمن معنى الشرط.وجوابه علمت نفس ما قدمت وأخرت.
2 صيغة الماضي في انفطرت وانتثرت,وفجرت وبعثرت للدلالة على تحقق الوقع نحو {أَتَى
أَمْرُ اللَّهِ }
الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} أي أختلط ماؤها بعضه ببعض ملحها
بعذبها لانكسار ذلك الحاجز الذي كان يفصلهما عن بعضهما لزلزلة الأرض إيذاناً بخراب
العالم، {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} 1 قلبت وأخرج ما فيها من الأموات، إذا
حصلت هذه الأحداث الأربعة ثلاثة منها في الدنيا وهي انفطار السماء وانتثار الكواكب
وتفجر البحار وهذه تتم بالنفخة الأولى والرابع هو بعثرة القبور يتم في الآخرة بعد
النفخة الثانية، وعندها تعلم نفس ما قدمت وما أخرت وهذا جواب إذا في أول الآيات.
ومعنى {عَلِمَتْ2 نَفْسٌ} أي كل نفس مكلفة ما قدمت من أعمال حسنة وسيئة، وما أخرت
من أعمال لحقتها بعدها وذلك ما سنته سنن الهدى أو سنن الضلال، لحديث من سن سنة
حسنة فله أجرها وأجرمن عمل بها ولا من أجورهم شيء، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها
ووزر من عملها لا ينقص من أوزارهم شيء، وهذا العلم يحصل للنفس أولاً مجملا وذلك
عند ابيضاض الوجوه واسودادها، ويحصل لها مفصلا عندما تقرأ كتاب أعمالها. وقوله
تعالى {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ3 بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} يخاطب تعالى
الإنسان الكافر والفاجر ليسأله موبخا إياه مقرعا مؤنبا
بقوله ما غرك أي أي شيء خدعك وجرأك على الكفر بربك الكريم وعصيانه بالفسق عن أمره
والخروج عن طاعته. وهو القادر على مؤاخذتك والضرب على يديك ساعة ما كفرت به أو
عصيته أليس هو الذي خلقك فسوى خلقك وعدل4 أعضاءك وناسب بين أجزائك في أي صورة ما
شاء ركبك إن شاء بيضك أو سودك طولك أو قصرك جعلك ذكراً أو أنثى إنساناً أو حيوانا
قرداً أو خنزيراً هل هناك من يصرفه عما أراد لك والجواب لا أحد إذاً كيف يسوغ لك
الكفر به وعصيانه والخروج عن طاعته وبعد هذا التوبيخ والتأنيب قال تعالى {كَلَّا}
أي ما غرك كرم5 الله ولا حلمه {بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} أي بالبعث والجزاء
في الدار الآخرة هو الذي جرأكم على الكفر والظلم والإجرام وما علمتم والله إن
عليكم لحافظين يحفظون عليكم أعمالكم ويحصونها لكم ويكتبونها في صحائفكم. يعلمون ما
__________
1 بعثرت: انقلب باطنها ظاهرها إذ البعثرة الانقلاب يقال بثر المتاع إذا قلب بعضه
على بعض.
2 ليس بلازم أنها بمجرد ما يحصل الذي جعلت إذا شرطاً له يتم العلم للنفس، وإنما
إذا قامت القيامة بحصول الانقلاب الكوني وحشر الناس لفصل القضاء ثم يحصل للنفس.
فتعلم ما قدمت وما أخرت.
3 الإنسان هنا للجنس وقيل المراد به أبو الأسد بن كلدة الجمحي والاستفهام للإنكار
عليه كفره والتعجب من حاله ونداؤه (يا أيها الإنسان) مشعر بالاهتمام.
4 (فعدلك) قرأ نافع فعدلك بتشديد الدال. وقرأ حفص بتخفيفها.
5 روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ (إذا السماء انفطرت) قال غره جهله قيل
للفضيل بن عياض لو أقامك الله يوم القيامة بين يديه فقال (ما غرك بربك الكريم)
ماذا كنت تقول؟ قال: كنت أقول غرني ستورك المرخاة لأن الكريم هو الستار نظمه ابن
السماك فقال:
ياكاتم الذنب أما تستحي
والله في الخلوة ثانيكما
غرك من ربك امهاله
وستره طول مساويكا
تفعلون في السر والعلن وسوف تفاجأون يوم تعلم نفس ما
قدمت وأخرت بصحائف أعمالكم وقد حوت كل أعمالكم لم تغادر صغيرة ولا كبيرة ويتم
الجزاء بموجبها.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1-بيان أحداث تسبق يوم البعث وذلك في نفخة الفناء وأما النفخة الثانية وهي نفخة
البعث حيث تجمع الخلائق ويجري الحساب فتعطى الصحف وتوزن الأعمال وينصب الصراط، ثم
إلى جنة أو إلى نار.
2- التحذير من السنة السيئة يتركها المرء بعده فإن أوزارها تكتب عليه وهو في قبره.
3- التحذير من الغرور والانخداع بعامل الشيطان من الإنس والجن.
4- التحذير من التكذيب بالبعث والجزاء فإنه أكبر عامل من عوامل الشر والفساد في
الدنيا وأكبر موجب للعذاب يوم القيامة.
5-تقرير عقيدة كتابة الأعمال حسنها وسيئها والحساب بمقتضاها يوم القيامة بواسطة
ملكين كريمين على كل إنسان مكلف لحديث الصحيح يتعاقبون فيكم الملائكة بالليل
وملائكة بالنهار الحديث.
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)
يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا
أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18)
يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
شرح الكلمات :
إن الأبرار :أي المؤمنين المتقين الصادقين.
وإن الفجار :أي الكافرين والخارجين عن طاعة الله ورسوله.
يصلونها يوم الدين :أي يدخلونها ويقاسون حرها يوم الجزاء وهو يوم القيامة.
وما هم عنها بغائبين :أي بمخرجين.
لا تملك نفس لنفس شيئا :أي من المنفعة وإن قلت.
والأمر يومئذ لله :أي لا لغيره، ولا تنفع الشفاعة عنده
إلا بإذنه.
معنى الآيات:
تقدم أن العرض على الله حق وأن المجازاة تكون بحسب الأعمال التي عملها المرء،
وأنها محفوظة محصاة عليه بواسطة ملائكة كرام. وأن الناس يومئذ كما هم اليوم مؤمن
بار وكافر فاجر. بين تعالى جزاء الكل مقروناً بعلة الحكم فقال عز و جل {إِنَّ
الْأَبْرَارَ لَفِي1 نَعِيمٍ} أي في الجنة دار السلام وذلك لبرورهم وهو طاعتهم لله
في صدق كامل {إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} أي نار ذات جحيم وذلك لفجورهم وهو
كفرهم وخروجهم عن طاعة ربهم. وقوله {يَصْلَوْنَهَا}2 أي يدخلونها ويقاسون حرها
{يَوْمَ الدِّينِ} أي يوم الجزاء الذي كفروا به فأدى بهم إلى الفجور وارتكاب عظائم
الذنوب. وقوله {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ}3 أي إذا دخلوها لا يخرجون منها.
وقوله {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} أي وما يعلمك يا رسولنا ما يوم الدين
إنه يوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين هكذا يخبر تعالى عن عظم شأن هذا اليوم.
ويؤكد ذلك فيقول {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} ويكشف عن بعض جوانب
الخطورة بقوله { يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ
يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} من المنفعة حيث يكون الأمر كله فيه لله وحده ولا تنفع فيه
الشفاعة إلا بإذنه وما للظالمين فيه من شفيع ولا حميم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان حكم الله في أهل الموقف إذ هم ما بين بار صادق فهو في نعيم وفاجر كافر فهو
في جحيم.
2- بيان عظم شأن يوم الدين وأنه يوم عظيم.
3- بيان أن الناس في يوم الدين لا تنفعهم شفاعة ولا خلة إذ لا يشفع أحد إلا بإذن
الله والكافرون هم الظالمون، وما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع.
__________
1 الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً، إذ تقدم من الكلام ما يجعل المرء يتشوق إلى
معرفة مصير الناس يوم القيامة والأبرار جمع بر وهو التقي المطيع الصادق والنعيم
اسم لما ينعم به.
2 يصلونها قال القرطبي يصيبهم حرها ولهيبها وهذا قطعاً بعد دخولها.
3 كونهم لا يغيبون عنها دال على أن الفجار هم المشركون والكافرون إذ المؤمنون لا
يخلدون في النار.
سورة المطففين
...
سورة المطففين
مدنية الأوائل مكية الأواخر وآياتها ست وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ
يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) ألا
يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ
يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
شرح الكلمات:
ويل : كلمة عذاب، وواد في جهنم.
للمطففين : المنقصين في كيل أو وزن الباخسين فيهما.
إذا اكتالوا على الناس : أي من الناس.
يستوفون : الكيل.
وإذا كالوهم : أي كالوا لهم.
أو وزنوهم : أوزنوا لهم.
يخسرون : أي ينقصون الكيل أو الوزن.
ألا : استفهام توبيخي انكاري.
يظن : أي يتيقن.
ليوم عظيم : أي يوم القيامة لما فيه من أهوال وعظائم الأمور.
يوم يقوم الناس : أي من قبورهم.
لرب العالمين : أي يقومون خاشعين ذليلين ينظرون حكم الله فيهم.
معنى الآيات:
قوله تعالى {ويل للمطففين1 } هذه الآيات الأولى من سورة المطففين قال أحد الأنصار
رضي الله عنه كنا أسوأ الناس كيلا2، حتى إنه ليكون لأحدنا مكيالان مكيال يشتري به
وآخر يبيع به، وما إن
__________
1 روى النسائي عن ابن عباس قال لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من
أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى: (ويل للمطففين) فأحسنوا الكيل بعد ذلك، قال
الفراء: فهم من أوفى الناس كيلا إلى يومهم هذا.
2 أيام نزول هذه السورة كان أهل المدينة يكيلون وأهل مكة يزنون ثم شاع الكيل
والوزن في كلا البلدين معاً.
نزلت فينا ويل للمطففين حتى أصبحنا أحسن كيلا ووزنا.
وصدق هذا الصاحب الجليل فوالله لقد نزلت المدينة مهاجرا عام ثلاثة وسبعين
وثلاثمائة وألف فوجدتهم على ما كانوا عليه ولقد كنت أشفق عليهم إذا كالوا لي أو
وزنوا لي. فقوله تعالى {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}1 يتوعد سبحانه وتعالى بواد في
جهنم بسيل صديد أهل النار الذين يبخسون الناس الكيل والميزان أي ينقصوهم ويبينهم
تعالى بقوله {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} أي اشتروا
منهم يأخذون كيلهم وافياً وكذا إذا وزنوا وإذا وزنوا وإذا كالوهم أي كالوا لهم2 أو
وزنوا لهم يخسرون أي ينقصون. قال تعالى وبخاً لهم منكراً {ألا يَظُنُّ أُولَئِكَ}
المطففون3 {أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} من قبورهم { لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} هو يوم الدين
والجزاء والحساب {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} خاشعين ذليلين
ينتظرون حكمه فيهم، ويطول بهم الموقف المائة سنة وأكثر وإن أحدهم ليلجمه العرق
إلجاماً ومنهم من يصل العرق إلى نصف أذنيه والروايات في هذا كثيرة وصحيحة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمة4 التطفيف في الكيل والوزن وهو أن يأخذ زائداً ولو قل أو ينقص عامداً شيئاً
ولو قل.
2- التذكير بالبعث والجزاء وتقريرهما.
3- عظم يوم القامة يوم يقوم الناس لرب العالمين ليحكم بينهم ويجزي كلا بعمله خيرا
أو شرا.
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ
(8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ
يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)
__________
1 يروي بعضهم أن التطفيف في الكيل والوزن والوضوء والصلاة وأسوأ الناس سرقة من
يسرق في صلاته وروي عن سالم بن أبي الجعد: قال الصلاة بمكيال فمن أوفى أُوفي له،
ومن طفف فقد علمتم ما قال الله عز و جل.
2 شاهده قول الشاعر:
ولقد جنيتك اكمؤا وعساقلا
ونهيتك عن بنات الأوبر
والشاهد في قوله جنيتك أي جنيت لك.
3 المطفف مأخوذ من الطفيف وهو القليل، والمطفف هو المقل حق صاحبه بنقصان عن الحق
في كيل أو وزن والتطفيف هو النقص من حق المقدار في الموزون والمكيال، وهو مصدر طفف
إذا بلغ الطفاف، والطفاف ما قصر عن ملء الإناء من شراب أو طعام، ويطلق الطف على ما
تجاوز عرض المكيال فهي زيادة طفيفة أو نقصان طفيف وهما محل النهي وفاء أو نقصان.
4 روى مالك والباز عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "خمس بخمس:ما
نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشى
فيهم الفقر، وما ظهرت الفاحشة فيهم إلا ظهر فيهم الطاعون، وما طففوا الكيل إلا
منعوا النبات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلا حبس الله عنهم المطر".
وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ
(12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
شرح الكلمات:
كلا :أي حقا وأن الأمر ليس كما يظن المطففون.
لفي سجين :سجين علم على كتاب ديوان الشر دون فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة وهو
أيضا موضع في أسفل الأرض السابعة فيه سجين الذي هو ديوان الكتب و به أرواح
الأشقياء عامة.
كتاب مرقوم :أي مسطور بين الكتابة فيه أعمالهم.
يوم الدين :أي يوم القيامة الذي هو يوم الحساب والجزاء.
كل معتد :أي ظالم مضيع حقوق ربه تعالى وحقوق غيره.
أثيم :منغمس في الآثام مكثر منها.
أساطير الأولين :أي ما سطره الأولون من القصص والأخبار التي لا تصح.
معنى الآيات:
ما زال السياق في التحذير من الظلم والفسق عن أوامر الرب تبارك وتعالى وقوله تعالى
{كَلَّا1} أي ليس الأمر كما يظن المطففون والباخسون للحقوق أنه لا دقة في الحساب
والجزاء أو أن مثل هذا لا يكتب ولا يحاسب عليه ولا يجزى به حقاً {إِنَّ كِتَابَ
الْفُجَّارِ} أي الظلمة الفاجرين عن الشرع وحدوده {لَفِي سِجِّينٍ} موضع في أسفل
الخلق به أرواح الكافرين والظالمين وكتب أعمالهم، وقوله {وَمَا أَدْرَاكَ مَا
سِجِّينٌ2} أي وما أعلمك يا رسولنا ما سجين تفخيم لشأنه. وقوله {كِتَابٌ3
مَرْقُومٌ} بيان لكتاب الفجار أي أنه مكتوب مسطور أي بين الكتابة, {وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي العذاب الأليم بوادي الويل يوم القيامة للمكذبين
بالله وآياته ولقائه المكذبين بيوم الجزاء والحساب وقوله تعالى: {وَمَا يُكَذِّبُ
بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ4} يريد ومل يكذب بقيوم الجزاء والحساب إلا كل
معتد ظالم متجاوز للحد أثيم مرتكب للذنوب والآثام بفسقه عن أوامر ربه وخروجه عن
طاعة الله بغشيانه
__________
1 كلا كلمة ردع وزجر لأولئك الذين يطففون ألا فالينزجوا ويتركوا التطفيف والبخس في
الكيل والوزن.
2 الاستفهام للتهويل من شأن سجين.
3 كتاب خبر محذوف المبتدأ والتقدير هو أي كتاب الفجار كتاب مرقوم.
4 الأثيم مبالغة في الإثم أي كثير الإثم والإثم كل اعتقاد أو قول أو عمل ضار قبيح
أو فاسد.
المحارم وقوله {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ
أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَْْْ} هذا بيان لذلك المعتدي الأثيم وهو أنه إذا قرئت عليه
آيات الله تذكيراً له وتعليماً ردها بقوله أساطير الأوليين أي هذه حكايات وأخبار
الأولين مسطرة مكتوبة وأنكر كتاب الله وكذب به.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان كتاب الفجار وأنه في سجين وسجين ديوان تدون فيه سائر كتب الفجار من أهل
النار وموضع أسفل الأرض السابعة مستودع لكتب أعمال الفجار من كفار وفساق ولأرواحهم
إلى يوم القيامة ولفظ سجين مشتق من السجن الذي هو الحبس.
2- الوعيد الشديد للمكذبين بالله وبآياته ولقائه.
كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)كَلَّا
إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ
لَصَالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ
تُكَذِّبُونَ (17) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
شرح الكلمات:
ران على قلوبهم :أي غطى قلوبهم وحجبها عن قبول الحق.
ما كانوا يكسبون :أي من الذنوب والآثام.
لمحجوبون :أي يحال بينهم وبين رؤية الرب إلى يوم القيامة.
لصالوا الجحيم :أي لداخلوها ومحرقون معذبون بها.
هذا الذي كنتم به تكذبون :أي يقال لهم توبيخا وخزيا لهم وهم في العذاب هذا الذي
كنتم به تكذبون.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في التنديد بالاعتداء والمعتدين والإثم والآثمين فقال تعالى
{كَلَّا بَلْ رَانَ1 عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي ما الأمر كما
يدعون من أن القرآن أساطير الأولين وإنما ران على قلوبهم أي غشاها وغطاها أثر
الذنوب والجرائم فحجبها عن معرفة
__________
1 الران والرين مصدران لران يرين ريناً ورانا كالعيب والعاب والذيم والذام.
الحق1 وقبوله, وقوله {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} أي ردعاً لهم وزجراً عن أقوالهم الباطلة وأعمالهم
الفاسدة إنهم عن ربهم لمحجوبون فلا يرونه ولا يرون كرامته {ثُمَّ إِنَّهُمْ
لَصَالُوا الْجَحِيمِ} أي لداخلوها ومصطلون بحرها معذبون بأنواع العذاب فيها ثم
يقال لهم توبيخاً وخزياً وتأنيباً {هَذَا} أي العذاب الذي كنتم به في الدنيا
تكذبون حتى واصلتم كفركم وإجرامكم فحل بكم هذا الذي أنتم فيه الآن فذوقوا فلن
تزدادوا إلا عذاباً.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التحذير من مواصلة الذنوب وعدم التوبة منها حيث يؤدي ذلك بالعبد إلى أن يحرم
التوبة ففي حديث أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب صقل منها فإن عاد عادت حتى تعظم في
قلبه فذلك الران الذي قال الله كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون
2- تقرير رؤية الله تعالى في الآخرة بدليل قوله إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون أي
الأشقياء إذاً فالسعداء غير محجوبون فهم يرون ربهم ويشهد له قوله تعالى وجوه يومئذ
ناضرة إلى ربها ناظرة.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا
عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ
الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ
فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25)
خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)
وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيم (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
__________
1 روى الترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
"إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزعها واستغفر
الله وتاب صقل قلبه، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه. وهو الران الذي ذكر الله
تعالى في كتابه (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون).
شرح الكلمات:
كتاب الأبرار : أي كتاب أعمالهم والأبرار هم المطيعون لله ولرسوله الصادقون.
لفي عليين :أي في موضع يسمى عليين في أعلى الجنة.
كتاب مرقوم : أي كتاب مرقوم بأمان من الله إياه من النار يوم القيامة والفوز
بالجنة.
يشهده المقربون :أي يحضره المقربون من أهل كل سماء ويحفظونه لأنه يحمل أماناً
لصاحبه من النار وفوزه بالجنة.
إن الأبرار لفي نعيم :أي إن الذين بروا ربهم بطاعته بأداء الفرائض واجتناب النواهي
لفي نعيم الجنة.
على الأرائك :أي على الأسرة ذات الحجال.
ينظرون :أي ما آتاهم ربهم من صنوف النعيم.
تعرف في وجوههم نضرة النعيم :أي حسنه وبريقه وتلألؤه.
من رحيق : أي من خمر صرف خالصة لا غش فيها ولا دنس.
مختوم :أي مختوم على إنهائها لا يفك ختمه إلا هم.
ختامه مسك :أي آخر شربها يفوح برائحة المسك.
وفي ذلك :أي لا في غيره.
فليتنافس المتنافسون :أي فليطلب بالطاعة والاستقامة الطالبون للنعيم المقيم.
ومزاجه من تسنيم :أي ومزاج شرابهم من عين تجري من عال تسمى التسنيم.
عينا يشرب بها المقربون :عينا هي التسنيم يشرب منها المقربون صرفا وتمزج لأصحاب
اليمين.
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى كتاب الفجار وما ختم له به ذكر كتاب الأبرار وما ختم له به فقال
{كَلَّا} أي حقا {إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ} وهو جمع برأ أو بار وهو المؤمن الذي
بر ربه بطاعته في أداء فرائضه واجتناب نواهيه وكان صادقاً في ذلك كتاب أعمال هؤلاء
الأبرار في عليين {وَمَا أَدْرَاكَ} يا رسولنا1 {مَا عِلِّيُّونَ} أنه موضع في
أعلى2 الجنان. وقوله {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} يريد كتاب الأبرار الموضوع في عليين كتاب
مرقوم بأمان من الله لصاحبه من النار والفوز بالجنة {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُون}
أي مقربو كل سماء يحضرونه ويحفظون له ويشهدون
__________
1 الاستفهام للتفخيم والتعظيم بشأن عليين إذ هو في أعلى مرتبة وأسمى منزلة.
2 قال البراء بن عازب رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليون في
السماء السابعة تحت العرش.
بما فيه من الأمان لصاحبه من النار والفوز بالجنة. وقوله
تعالى {إِنَّ الْأَبْرَارَ} 1 وأصحاب الكتب المودعة في عليين لفي نعيم يريد يوم
القيامة والنعيم هو نعيم الجنة وهذا لون منه على الأرائك أي الأسرة ذات الحجال
{يَنْظُرُونَ} إنهم جالسون على الأرائك ينظرون2 باستحسان وإعجاب ملكهم الكبير الذي
ملكهم الله تعالى وقد يمتد مسافة ألفي سنة وينتهي إليه بصرهم {تَعْرِفُ فِي
وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} أي حسنه وبريقه وتلألؤه وقوله {يُسْقَوْنَ مِنْ
رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} أي من خمر هي الرحيق صافية لا دنس فيها ولا غش مختوم على
أوانيها لا يفكها إلا هم. ختامه مسك آخر هذا الشراب3 يفوح برائحة المسك الأذفر فهي
طيبة الرائحة للغاية. وقوله تعالى {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ4
الْمُتَنَافِسُونَ} أي وفي مثل هذا النعيم لا في غيره من حطام الدنيا وشرابها
وملكها الزائل يجب أن يتنافس المتنافسون أي في طلبه بالإيمان وصالح الأعمال بعد
البعد كل البعد عن الشرك وسيئي الأقوال وقبيح الأفعال. وقوله تعالى {وَمِزَاجُهُ
مِنْ تَسْنِيمٍ, عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} أي إن ذلك الرحيق يمزج
لأصحاب اليمين بماء عين تسمى التسنيم ويشربه المقربون صرفاً أي خالصاً بدون مزج من
عين التسنيم وقوله {يَشْرَبُ بِهَا} الباء بمعنى من أو ضمن يشرب معنى يتلذذ أي
يلتذ بها وقد سبق في سورة الإنسان وقلت إنها لطيب شرابها تكاد تكون آلة للشرب
فتكون الباء للآلة على بابها نحو شربت بالكأس.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الثناء على الأبرار وبيان ما أعد الله تعالى لهم وهم المؤمنون المتقون الصادقون
في ذلك.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر ما يجري فيها.
3- الترغيب في العمل الصالح للحصول على نعيم الجنة لقوله تعالى {وَفِي ذَلِكَ
فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}.
__________
1 الأبرار جمع بر هم أهل الطاعة والصدق فيها.
2 وقيل ينظرون إلى أعدائهم في النار وهم على أرائكهم ولا عجب لما ظهر اليوم من آلة
التلفاز.
3 الرحيق هي الخمر العتيقة البيضاء الصافية من الغش, النيرة قال حسان:
يسقون من ورد البريص عليهم
بردى يصفق بالرحيق السلسل
والبريص نهر بدمشق وبردى نهر آخر بها ويصفه يخرج والرحيق الخمر البيضاء.
4 يقال نفست عليه الشيء أنفسه نفاسة أي ضننت به ولم يحب أن يصير إليه وذلك لحسن
وجودته وتعلق النفس به.
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ
آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا
انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ
قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ
(33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى
الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ
(36)
شرح الكلمات:
إن الذين أجرموا :أي على أنفسهم بالشرك والمعاصي كأبي جهل وأمية بن خلف وعتبة بن
أبي
معيط.
من الذين آمنوا : أي كبلال وياسر وعمار وصهيب وخبيب.
يتغامزون :أي يشيرون إلى المؤمنين بالجفن والحاجب استهزاء بهم.
فكهين :أي إذا رجعوا إلى ديارهم وأهليهم يرجعون نشاوى فرحين معجبين بحالهم.
وإذا رأوهم :أي وإذا رأى أولئك الفكهون رأوا المؤمنين.
قالوا إن هؤلاء لضالون :إن هؤلاء يعنون المؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
لضالون بترك دينهم واتخاذهم لدين محمد صلى الله عليه وسلم الجديد.
وما أرسلوا عليهم حافظين :أي ولم يكلفهم الله تعالى بحفظ أعمالهم ورعاية أحوالهم.
وإنما هم متطفلون.
فاليوم :أي يوم القيامة.
من الكفار يضحكون :أي من أجل ما هم فيه من العذاب حيث يرونهم وهم على أرائكهم.
هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون :أي هل جوزي الكفار بما كانوا يفعلون من الكفر
والشر والفساد؟ والجواب نعم نعم نعم.
معنى الآيات:
بعدما بين تعالى حال الأبرار في دار الأبرار وذكر ما شاء الله أن يذكر من نعيمهم
ترغيبا وتعليماً بعد أن ذكر في الآيات قبلها حال المجرمين وما أعد لهم من عذاب في
دار العذاب. ذكر تعالى هنا في خاتمة السورة ما أوجب للمجرمين وهو النار, وما أوجب
للمؤمنين وهو الجنة فذكر طرفا من سلوك المجرمين وآخر من سلوك المؤمنين فقال عز من
قائل {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا1} أي على أنفسهم أي أفسدوها بالشرك والشر
والفساد كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاصي وغيرهم كانوا من الذين آمنوا كبلال
وعمار وصهيب وخبيب وأضرابهم من فقراء المؤمنين {يَضْحَكُونَ} 2 استهزاء بهم
وسخرية. {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ} في شوارع مكة وحول المسجد الحرام
{يَتَغَامَزُونَ} يشيرون إليهم بالجفن والحاجب على عادة المتكبرين {وَإِذَا
انْقَلَبُوا} أي رجعوا {إِلَى أَهْلِهِمُ} في ديارهم {انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} 3
ناعمين معجبين بحالهم فرحين بما عندهم {وَإِذَا رَأَوْهُمْ} أي وإذا رأى أولئك
المجرمون المؤمنين أشاروا إليهم وقالوا {إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} بتركهم دينهم
واعتناق دين محمد الجديد في نظرهم. قال تعالى {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ4
حَافِظِينَ} أي على أعمالهم وأحوالهم حتى يقولوا ما قالوا وإنما هم متطفلون يدعون
ما ليس لهم كقبح سلوكهم وسوء فهومهم, قال تعالى {فَالْيَوْمَ} 5 يوم القيامة {الَّذِينَ
آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} أي من الكفار {عَلَى الْأَرَائِكِ} أي
الأسرة ذات الحجال {يَنْظُرُونَ} إلى الكفار وهم في النار ويضحكون منهم وهم يعذبون
ولا عجب في كيفية رؤيتهم لهم وهم في النار أسفل سافلين والمؤمنون في أعلى عليين إذ
البث التلفزيوني اليوم قطع العجب وأبطله وقوله تعالى {هَلْ ثُوِّبَ6 الْكُفَّارُ}
أي هل جوزي الكفار على أفعالهم الإجرامية؟ والجواب معلوم مما تقدم إذ وصفت حالهم
وبين عذابهم والعياذ بالله من عذابه وأليم عقابه.
__________
1 الإجرام مصدر أجرم إذا ارتكب الجرم وهو الإثم العظيم وأعظمه الشرك والكفر.
2 معنى يضحكون منهم أنهم يضحكون من حالهم وهي حال خاصة كالفقر والضعف أو ترك دينهم
إلى دين آخر قال الحارث بن عبد يغوث:
وتضحك مني شيخة عبشمية
كأن لم تر قبلي أسيراً يمانياً
3 قرأ نافع والجمهور فاكهين بصيغة اسم الفاعل, وقرأ حفص بدون ألف على أنه جمع فكه
صفة مشبهة, والمعنى واحد كفارح وفرح.
4 الجملة متضمنة معنى التهكم بأولئك الضاحكين الساخرين من فقراء المؤمنين.
5 تقديم الظرف اليوم للاهتمام به لأنه يوم الجزاء وفيه تشفى صدور المؤمنين من
الأعداء.
6 الجملة فذلكة ما تقدم من اعتداء المشركين على المؤمنين وما ترتب عليه من الجزاء
يوم القيامة والاستفهام بهل تقريري وتعجب من عدم إفلاتهم منه بعد دهور, وثوب بمعنى
أعطى الثواب يقال أثابه وثوبه إذا أعطاه ثوابه وهو جزاء عمله وفي التفسير الثواب
تهكم واضح بالمشركين نحو بشرهم بعذاب أليم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التنديد بالإجرام والمجرمين.
2- بيان ما كان عليه المشركون في مكة إبان الدعوة وما لقيه المؤمنون منهم.
3- بيان أن المؤمنين سيرون المشركين في الجحيم ويضحكون منهم وهم في نعيمهم
والمشركون في جحيمهم.
4- بيان إكرام الله لأوليائه, وإهانته تعالى لأعدائه.
سورة الانشقاق
...
سورة الانشقاق
مكية وآياتها خمس وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا
الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ
لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ
كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7)
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً
(9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو
ثُبُوراً (11) وَيَصْلَى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً
(13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُور (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ
بَصِيراً (15)
شرح الكلمات:
إذا السماء انشقت :أي بالغمام وهو سحاب أبيض رقيق وذلك لنزول الملائكة.
وأذنت لربها :أي سمعت وأطاعت.
وحقت : أي وحق لها أن تسمع أمر ربها وتطيعه.
وإذا الأرض مدت :أي زيد في سعتها كما يمد الأديم أي الجلد إذ لم يبق عليها بناء
ولا جبل.
وألقت ما فيها وتخلت : أي ألقت ما فيها من الموتى ألقتهم
أحياء إلى ظهرها وتخلت عنه أي عما كان في
بطنها.
إنك كادح : أي عامل كاسب للخير أو الشر.
إلى ريك كدحا : أي إلى أن تلقى ربك وأنت تعمل وتكسب فليكن عملك مما يرضي عنك ربك.
فملاقيه : أي ملاق ربك بعد موتك وبعملك خيره وشره.
كتابه : أي كتاب عمله وذلك بعد البعث.
وينقلب إلى أهله مسرورا : أي بعد الحساب اليسير يرجع إلى أهله في الجنة من الحور
العين فرحا.
وراء ظهره : أي يأخذ بشماله من وراء ظهره إهانة له.
يدعو ثبورا : أي ينادي هلاكه قائلا واثبوراه واثبوراه أي هلاكه.
ويصلى سعيرا : أي ويحرق بالنار حريقا وينضج انضاجة بعد أخرى على قراءة يصلى
بالتضعيف. إنه ظن أن لن يحور : أي إنه كان في الدنيا يظن أنه لا يرجع إلى الحياة
بعد الموت فلذا لم يعمل خيرا قط
ولم يتورع عن ترك الشر قط لعدم إيمانه بالبعث.
معنى الآيات:
قوله تعالى {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} يخبر تعالى أنه إذا انشقت السماء أي
تصدعت وتفطرت وذابت فصارت كالدهان {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي وسمعت1
لأمر ربها واستجابت فكانت كما أمرها الله أن تكون منشقة منفطرة حتى تكون كالمهل,
{وَإِذَا الْأَرْضُ2 مُدَّتْ} من الأديم واتسعت رقعتها حيث زال منها الجبال
والآكام والمباني والعمارات وأصبحت قاعا صفصفا {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} أي ما في
بطنها من الأموات {وَتَخَلَّتْ} عنه أي عما كان في بطنها
{وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} في ذلك كله أي سمعت وأجابت {وَحُقَّتْ} أي وحق لها أن
تسمع وتجيب وتطيع
__________
1 شاهد قوله صلى الله عليه وسلم "ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي يتغنى
بالقرآن" أي ما استمع لشيء الخ.. وقال الشاعر:
صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به
وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
أذنوا بمعنى سمعوا.
2 إذا ظرف خافض لشرطه منوصب بجوابه.
وجواب إذا الأولى والثانية واحد وهو {عَلِمَتْ نَفْسٌ
مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ1} أو ما أحضرت كما تقدم نظيره في التكوير والانفطار.وقوله
تعالى {يَا أَيُّهَا الْإنْسَانُ} أي يا ابن آدم {إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ2
كَدْحاً} أي أنك عامل تعمل يوميا ليل ونهار إلى أن تموت وتلقى ربك إنك لا تبرح
تعمل لا محالة وتكسب بجوارحك الخير والشر إلى الموت حيث تنتقل إلى الدار الآخرة
وتلقى ربك وتلاقيه هذا يشهد له قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح3 "
كلكم يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها" إذا فمن الخير لك أيها الإنسان
المكلف أن تعمل خيراً تلاقي به ربك فيرضى عنك به ويكرمك إنك حقا ملاق ربك بعملك
فأنصح لك أن يكون عملك صالحا وانظر إلى الصورة التالية { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ
كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} لأنه حوى الخير و لا شر فيه {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً
يَسِيراً4} ينظر في كتابه ويقرر هل فعلت كذا فيعترف ويتجاوز عنه وينقلب إلى أهله
في الجنة وهم الحور العين والنساء المؤمنات والذرية الصالحة يجمعهم الله ببعضهم
كرامة لهم وهو قوله تعالى {وَالَّذِينَ5 آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ
بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} {وأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ}
أي كتاب أعماله {وَرَاءَ ظَهْرِهِ} حيث تغل اليمنى مع عنقه وتخرج الشمال وراء ظهره
ويعطى كتابه وراء ظهره {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً} أي ينادي هلاكه قائلا واثبوراه
واثبوراه أي يا هلاكه احضر فهذا أوان حضورك { وَيَصْلَى6 سَعِيراً} أي ويدخل نار
مستعرة شديدة الالتهاب ويصلى أيضا فيها تصلية أي ينضج فيها لحمه المرة بعد المرة
وأبدا. والعياذ بالله وعلة ذلك وسببه هو { إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ} في الدنيا
{مَسْرُوراً} لا يخاف الله ولا يرجوا الدار الآخرة يعمل ما يشاء ويترك ما يشاء
{إنه ظن أن لن7 يحور } أي أنه لا يرجع حيا بعد موته ولا يحاسب ولا يجزى هذه علة
هلاكه وشقائه فاحذروها
__________
1 اضطرب المفسرون والنحاة في جواب إذا فمنهم من قال إنه يا أيها الإنسان، ومنهم من
قال أذنت لربها. على أن الواو زائدة، ومنهم من قال إنه فأما من أوتي كتابه، وغاب
عنهم أن جواز حذف الشرط كجواز حذف القسم. لا سيما وقد تقدم جواب الشرط كهذا في
التكوير والانفطار إذاً فما كان هناك جواباً يكون هنا جواباً.
2 الكدح الكسب والعمل قال ابن المقل:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما
أموت وأخرى أبتغي العيش اكدح
والإنسان هنا الجنس فهو عام في كل إنسان من بني آدم.
3 في صحيح مسلم حديث طويل أوله: ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب
الله.. الخ.
4 حساباً يسيراً أي مناقشة فيه كما في حديث عائشة إذ قالت قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم "من حوسب يوم القيامة عذب قالت يا رسول الله أليس قد قال الله فأما
من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيرا؟ فقال ليس ذلك الحساب إنما ذلك
العرض. من نوقش الحساب يوم القيامة عذب رواه البخاري وغيره.
5 الآية من سورة الطور.
6 قرأ نافع ويصلى بتشديد اللام وسعيراً منصوب على نزع الخافض أي بسعير، وقرأ حفص
بتخفيف اللم والبناء للفاعل مضارع صلى كرضى يصلى كيرضى إذا مسته النار.
7 يحور بمعنى يرجع شاهده قول الشاعر:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه
يحور رماداً بعد إذ هو ساطع
أيها الناس اليوم فآمنوا بربكم ولقائه واعملوا عملا
ينجيكم من عذابه. وقوله تعالى {بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً} أي
ليحورن وليبعثن وليحاسبن وليس كما يظن انه لا يبعث ولا يحاسب ولا يجزى بل لا بد من
ذلك كله إن ربه تعالى كان به وبعمله بصيرا لا يخفى عليه من أمره شيء ونتيجة لذلك
تم له هذا الحساب والعقاب بِأَمَرِّ العذاب وأَشَدِّه دخول النار وتصلية جحيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء ببيان مقدماته في انقلاب الكون.
2- بيان حتمية لقاء الإنسان ربه.
3- كل إنسان مكلف بالعقل والبلوغ فهو عامل وكاسب لا محالة إلى أن يموت ويلقى ربه.
4- أهل الإيمان والتقوى يحاسبون حساباً يسيراً وهو مجرد عرض لا غير ويفوزون أما من
نوقش الحساب فقد هلك وعذب لأنه لا يملك حجة ولا عذرا.
5- التنعم في الدنيا والانكباب على شهواتها وملاذها مع ترك الطاعات والصالحات ثمرة
عدم الإيمان أو اليقين بالبعث والجزاء
فَلا1 أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا
اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23)
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
شرح الكلمات:
بالشفق:أي بالحمرة في الأفق يعد غروب الشمس.
وما وسق :أي دخل عليه من الدواب وغيرها.
إذا اتسق :اجتمع وتم نوره وذلك في الليالي البيض.
__________
1 جائز أن يكون (لا) صلة فأقسم بالشفق وكونها نافية لكلام سابق كما في التفسير هو
اختيار ن جرير.
طبقا عن طبق: أي حالا بعد حال الموت، ثم الحياة، ثم ما
بعدها من أحوال القيامة.
فما لهم لا يؤمنون : أي أي مانع لهم من الإيمان بالله ورسوله ولقاء ربهم والحجج
كثيرة تتلى عليهم.
وإذ قرئ عليهم القرآن : أي تلي عليهم وسمعوه.
لا يسجدون : أي لا يخضعون فيؤمنوا ويسلموا.
بما يوعون : أي يجمعون في صحفهم من الكفر والتكذيب.
لهم أجر غير ممنون : أي غير مقطوع.
معنى الآيات:
قوله تعالى {فَلا أُقْسِمُ} أي فليس الأمر كما تدعون من أنه لا بعث ولا جزاء أقسم
بالشفق وهي حمرة1 الأفق بعد غروب الشمس والليل وما وسق أي وما جمع من كل ذي روح من
سابح في الماء وطائر في السماء وسارح في الغبراء والقمر إذا اتسق أي اجتمع وتم
نوره وذلك في الليالي البيض. وجواب القسم قوله تعالى {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ
طَبَقٍ} أي حالاً بعد2 حال الموت ثم الحياة، ثم العرض، ثم الحساب، ثم الجزاء فهي
أحوال وأحوال فليس الأمر كما تتصورون من أنه موت ولا غير. وقوله تعالى3 {فَمَا
لَهُمْ لا يُؤْمِنُون وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} أي ما
للناس يؤمنون أي شيء منعهم من الإيمان بالله ورسوله والدار الآخرة مع كثرة الآيات
وقوة الحجج وسطوع البراهين. وما لهم أيضا إذا تلي عليهم القرآن وسمعوه لا يخضعون
ولا يخشعون ولا يخرون ساجدين مع ما يحمل من أنواع الحجج والبراهين وقوله تعالى ل
الذين كفروا أي بدل أن يؤمنوا ويسلموا يكذبون4 {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
يُوعُونَ} في قلوبهم من الكفر والتكذيب وفي نفوسهم من الحسد والكبر والغل والبغض
وبناء على ذلك فبشرهم5 يا رسولنا أي أخبرهم بما يسوءهم بعذاب أليم عاجلاً وآجلاً
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا6} أي منهم آمنوا بالله ورسوله وآيات الله ولقائه وعملوا
الصالحات فأدوا الفرائض واجتنبوا
__________
1 أكثر أهل العلم على أن الشفق الحمرة بعد غروب الشمس قال الفراء سمعت بعض العرب
يقول لثوب عليه مصبوغ كأنه الشفق وكان أحمر. وقال الشاعر:وأحمر اللون كمحمر الشفق.
2 من شواهد هذه الحقيقة قول الشاعر:
كذلك المرء إن ينسأ له أجل
يركب على طبق من بعده طبق
3 الاستفهام للإنكار عليهم والتعجب من حالهم في ترك الإيمان.
4 يكذبون صيغة المضارع تدل على استمرار تكذيبهم والصلة هي الكفر. فلو آمنوا ما
كذبوا ولكفرهم يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم قيما جاء به وأخبر عنه.
5 فبشرهم الفاء للتفريع والترتيب والبشارة هنا للتهكم بهم.
6 الاستثناء منقطع بمعنى لكن الذين آمنوا, الخ.
المحارم {لَهُمْ أَجْرٌ} أي ثواب عند الله إلى يوم
يلقونه {غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي غير منقوص ولا مقطوع في الجنة دار السلام. اللهم
اجعلنا من أهلها برحمتك يا أرحم الراحمين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن الإنسان مقبل على أحوال وأهوال حالا بعد حال وهولا بعد هولا إلى أن
ينتهي إلى جنة أو نار.
2- بيان أن عدم إيمان الإنسان بربه يستدعي العجب إذ لا مانع للعبد من الإيمان
بخالقه وهو يعلم انه مخلوق وقد تعرف إليه فأنول كتبه وبعث رسله وأقام الأدلة على
ذلك.
3- مشروعية السجود عند تلاوة هذه الآية وهي وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون.
4- علم الله تعالى بما يعي الإنسان في قلبه وما يحمل في نفسه فذكره للعبد بأن
يراقب ربه فلا يعي في قلبه إلا الإيمان ولا يحمل في نفسه إلا الخير فلا غل ولا حسد
ولا شك ولا عداء ولا بغضاء.
سورة البروج
...
سورة البروج
مكية وآياتها اثنتان وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ
وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)
إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ
شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ
عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
شرح الكلمات:
ذات البروج : أي منازل الشمس والقمر الاثني عشر برجا.
واليوم الموعود : أي يوم القيامة إذ وعد الله تعالى عباده أن يجمعهم فيه لفصل
القضاء.
وشاهد : أي يوم الجمعة.
ومشهود : أي يوم عرفة.
قتل أصحاب الأخدود : أي لعن أصحاب الأخدود.
الأخدود : أي الحفر تحفر في الأرض وهو مفرد وجمعه أخاديد.
إذ هم عليها قعود: أي على حافتها وشفيرها.
وما نقموا منهم : أي ما عابوا أي شيء سوى إيمانهم بالله تعالى.
معنى الآيات:
قوله تعالى {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ1} هذا قسم من أعظم الأقسام إذ أقسم
تعالى فيه بالسماء ذات البروج وهي منازل الشمس والقمر الأثنا عشر برجا،2 وباليوم
الموعود هو يوم القيامة إذ وعد الرب تعالى عباده أن يجمعهم فيه ليحكم بينهم فيما
كانوا فيه يختلفون وبالشاهد3 وهو يوم الجمعة وبالمشهود وهو يوم عرفة وجواب القسم
أو المقسم عليه محذوف قد يكون تقديره لتبعثن ثم لتنبؤن لأن السورة مكة والسور
المكية تعالج العقيدة بأنواعها الثلاثة والتوحيد والنبوة والبعث والجزاء, وجائز أن
يكون الجواب قتل بتقدير اللام وقد نحو لقد قتل أي لعن أصحاب الأخدود وهي حفر حفرها
الكفار وأججوا فيها ناراً وأتوا بالمؤمنين المخالفين لدينهم وعرضوا عليهم الكفر أو
الإلقاء في النار فاختاروا الإلقاء في النار مع بقاء إيمانهم حتى إن امرأة كانت
ترضع صبياً فأحجمت عن إلقاء نفسها مع طفلها في النار فأنطق الله الصبي فقال لها:
أما