Translate انتكوخ

الثلاثاء، 14 فبراير 2023

ج1.وح2. أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري

ج1. أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري

المجلد الأول
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد أيضاً فهذا تفسير موجز لكتاب الله تعالى القرآن الكريم وضعته مراعياً فيه حاجة المسلمين اليوم إلى فهم كلام الله تعالى الذي هو مصدر شريعتهم، وسبيل هدايتهم وهو عصمتهم من الأهواء وشفاؤهم من الأدواء، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِين} وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} . وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . ومراعياً فيه أيضاً رغبة المسلمين اليوم في دراسة كتاب الله وفهمه والعمل به، هي رغبة لم تكن لهم منذ قرون عدة حيث كان القرآن يقرأ على الأموات دون الأحياء ويُعتبر تفسيره خطيئة من الخطايا وذنباً من الذنوب، إذ ساد بين المسلمين القول: بأن تفسير القرآن: صوابه خطأ وخطأه كفر، فلذا القارئ يقرأ: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} . والناس حول ضريح الولي المدفون في ناحية المسجد يدعونه بأعلى

أصواتهم: يا سيدي يا سيدي كذا وكذا ولا يجرؤ أحد أن يقول: يا إخواننا لا تدعوا السيد فإن الله تعالى يقول: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ويقرأ القارئ {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} . ويسمعه من يسمعه، ولا يخطر على باله أن الآية تصرح بكفر من لم يحكم بما أنزل الله، وأن أكثر المسلمين مورطون في هذا الكفر حيث تركوا تحكيم الشريعة الإسلامية إلى تحكيم القوانين الملفقة من قوانين الشرق والغرب وهكذا كان يقرأ القرآن على أموات الأحياء وأحياء الأموات فلا يرى له أثر في الحياة.
هذا ونظراً لليقظة الإسلامية اليوم فقد تعين وضع تفسير سهل ميسر يجمع بين المعنى المراد من كلام الله، وبين اللفظ الغريب من فهم المسلم اليوم. نُبَين فيه العقيدة السلفية المنجية. والأحكام الفقهية الضرورية. مع تربية التقوى في النفوس، بتحبيب الفضائل وتبغيض الرذائل، والحث على أداء الفرائض واتقاء المحارم. مع التجمل بالأخلاق القرآنية والتحلي بالآداب الربانية. وقد هممت بالقيام بهذا المتعين عدة مرات في ظرف سنوات، وكثيراً ما يطلب مني مستمعوا دروسي في التفسير في المسجد النبوي أن لو وضعت تفسيراً للمسلمين سهل العبارة قريب الإشارة يساعد على فهم كلام الله تعالى، وكنت أعد أحياناً وأتهرب أحياناً أخرى، حتى ختمت التفسير ثلاث مرات وقاربت الرابعة، وأنا بين الخوف والرجاء وشاء الله تعالى أن أجلس في أواخر محرم عام 1406هـ، إلى فضيلة الدكتور عبد الله بن صالح العبيد رئيس الجامعة الإسلامية ويُلهم أن يقول لي: لو أنك وضعت تفسيراً على غرار الجلالين يحل محله في المعاهد ودور الحديث تلتزم فيه العقيدة السلفية التي خلا منها تفسير الجلالين فضّر كثيراً بقدر ما نفع، وصادف في النفس رغبتها فأجبته بأن سأفعل إن شاء الله تعالى. وبهذا الوعد تعينت واستعنت بالله تعالى وشرعت وفي أوائل رجب من العام نفسه تم تأليف المجلد الأول الحاوي لثلث القرآن الكريم وفي أول رمضان كان المجلد الأول قد طبع والحمد لله، وواصلت التأليف والله أسأل أن يتم في أقرب وقت، وأن يتقبله مني وهو منه وله، فينتفع به كل مسلم يقرأه بنية معرفة مراد الله تعالى

من كلامه ليعرف ربه تكسبه خشيته ومحبته ويعرف محابه تعالى ليتقرب بفعلها إليه, ويعرف مساخطه ليتجنبها خوفاً مما لديه.
هذا وإن مميزات هذا التفسير التي بها رجوت أن يكون تفسير كل مسلم ومسلمة لا يخلو منه بيت من بيوت المسلمين هي:
1- الوسطية بين الاختصار المخل، والتطويل الممل.
2- اتباع منهج السلف في العقائد والأسماء والصفات.
3- الالتزام بعدم الخروج عن المذاهب الأربعة في الأحكام الفقهية.
4- اخلاؤه من الإسرائيليات صحيحها وسقيمها. إلا ما لا بد منه لفهم الآية الكريمة وكان مما تجوز روايته لحديث.. "وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" .
5- إغفال الخلافات التفسيرية.
6- الالتزام بما رجحه ابن جرير الطبري في تفسيره عند اختلاف المفسرين في معنى الآية، وقد لا آخذ برأيه في بعض التوجيهات للآية.
7- إخلاء الكتاب من المسائل النحوية والبلاغية والشواهد العربية.
8- عدم التعرض للقراءات إلا نادراً جداً للضرورة حيث يتوقف معنى الآية على ذلك وبالنسبة للأحاديث فقد اقتصرت على الصحيح والحسن منها دون غيرهما، ولذا لم أعزها إلى مصادرها إلا نادراً.
9- خلو هذا التفسير من ذكر الأقوال وإن كثرت والالتزام بالمعنى الراجح والذي عليه جمهور المفسرين من السلف الصالح. حتى إن القارئ لا يفهم أن هناك معنىً غير الذي فهم من كلام ربه تعالى، وهذه ميزة جليلة وذلك لحاجة جميع المسلمين على فكر إسلامي موحد صائب سليم.
10- التزمت في هذا التفسير بالخطة التي مثلتها هذه المميزات رجاء أن يسهل على المسلمين تناول كتاب الله دراسة وتطبيقاً وعملاً لا هم لهم إلا مرضاة الله بفهم كلامه والعمل به، والحياة عليه عقيدة وعبادة وخلقاً وأدباً وقضاء وحكماً، فلذا أخليته من كل ما من شأنه أن يشتت الذهن، أو يصرف عن العمل إلى القول والجدل.

ولذا فقد جعلت الكتاب دروساً منظمة متسقة فقد أجعل الآية الواحدة درساً فأشرح كلماتها، ثم أبين معناها، ثم أذكر هدايتها المقصودة منها للاعتقاد والعمل.
وقد أجعل الآيتين درساً، والثلاث آيات والأربع والخمس ولا أزيد على الخمس إلا نادراً، وذلك طلبا لوحدة الموضوع وارتباط المعنى به.
وقد جعلت الآيات مشكولة على قراءة حفص وبخط المصحف وإني أطالب المسلم أن يقرأ أولاً الآيات حتى يحفظها، فإذا حفظها درس كلماتها حتى يفهمها، ثم يدرس معناها حتى يعيه، ثم يقرأ هدايتها للعمل بها. فيجمع بين حفظ كتاب الله تعالى وفهمه والعمل به، وبذلك يسود ويكمل ويسعد إن شاء الله تعالى. وقد جاء في الحديث1 "أن الله تعالى يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع آخرين" فمن قراه بحسن نية فحفظه وفهمه وعمل به وعلمه فقد يدعى في السماء عظيماً، وفي الحديث الصحيح: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". اللهم اجعلني وسائر المؤمنين ممن يفوزون بهذه الخيرية فيتعلمون كتابك ويعملون به ويعلمونه يا حيِّ يا قيوم.
وأخيراً أطالب كل مؤمن ومؤمنة يقرأ تفسيري هذا المسمى: بأيسر التفاسير لكلام الله العلي الكبير أن يستغفر لي ويترحم عليَّ هذا حقي عليه اللهم وفقه لأدائه واغفر لي وله وارحمني وإياه وسائر المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وكتبه الراجي عفو ربه ورضوانه
أبو بكر الجزائري
المدينة المنورة 17 رمضان 1406هـ.
__________
1 رواه مسلم.
[تنبيه]
مراجع هذا التفسير أربعة وهي: جامع البيان في تفسير القرآن لابن جرير الطبري، تفسير الجلالين المحلى والسيوطي، تفسير المراغي، تيسير الكريم الرحمن لعبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمهم الله أجمعين وجمعنا معهم في جنات النعيم.

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثالثة
الحمد لله ذي الفضل والإنعام، والصلاة والسلام على محمد خير الأنام، وآله الأماجد وصحبه الكرام، وبعد: فإنه نظراً إلى حاجة طلبة العلم إلى المزيد من المعرفة وكان "أيسر التفاسير"قد وُضِعَ وضعاً خاصاً، إذ الباعث عليه كان تقريب معاني كتاب الله تعالى إلى أفهام عامة المسلمين، وتجلية الأحكام الشرعية لهم ليعبدوا ربهم باعتقاد الحق، وبالعمل بما شرُع دون ما ابتُدع مُزكّين نفوسهم بذلك مكملين آدابهم مهذبين أخلاقهم بما أودع الله جل جلاله كتابه من مناهج التربية الروحية والأخلاقية والآداب النفسية، وهو ما صرحت به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقد سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: " كان خلقه القرآن". إذ لم يقل الله تعالى –فيما علمنا- في كتاب من كتبه {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} إلا في القرآن الكريم، ومرة أخرى أقول: إنه نظراً إلى حاجة طلبة العلم إلى المزيد من المعرفة وضعت هذه الحاشية التي هي أشبهُ بتعليق على "أيسر التفاسير" وأسميتها (نهر الخير) أودعت فيها مع مراعاة الاختصار بعض ما يرغب طالب العلم في معرفته والحصول عليه من شاهد لغة، أو بيان، أو أثر جميل، أو مستند حديث جليل، أو كشف عن وجه لآية ذات وجوه، أو الوقوف على سر من أسرار القرآن أو عجيبة من عجائب القرآن، التي لا تنقضي بمرور الزمان، ولا تنتهي بتعاقب الملوان. وأهم من ذلك تصويب رأي، أو تصحيح خطأ وقعا في التفسير، مع إزالة إبهام، أو إضافة بعض الأحكام.
والله تعالى أسأل أن يكون عملي فيه صالحاً، ولوجهه خالصاً، وأن ينفع بنهر الخير كما نفع بأيسر التفاسير إنه بر رحيم وعلى كل شيء قدير.
أبو بكر الجزائري

سورة الفاتحة
...
الجزء الأول
سورة الفاتحة
وهي مكية وآياتها1 سبع
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)}
شرح الكلمات:
التفسير2: لغة الشرح والبيان. واصطلاحاً: شرح كلام الله ليُفهم مُرادُه تعالى منه فيطاع في أمره ونهيه، ويؤخذ بهدايته وإرشاده. ويُعتبر بقصصه، ويتعظ بمواعظه.
السورة: السورة3 قطعة من كتاب الله تشتمل على ثلاث آيات فأكثر. وسور القرآن الكريم مائة وأربع عشرة سورة أطولها "البقرة"4 وأقصرها "الكوثر".
الفاتحة: فاتحة لكل شيء بدايته. وفاتحة القرآن الكريم الحمد لله رب العالمين
__________
1 الآية: في اللغة العلامة. ومنه قول الشاعر:
توهمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وإذا العام سابع
2 مصدر فسر تفسيراً أو فعله المجرد فسر كنصر فسرا إذا أبان الكلام وكشف معناه.
3 لفظ السورة مشتق إما من سور البلد لارتفاعها وعلو شأنها أو من سور الشراب وهي البقية إذ هي بقية من كتاب الله تعالى أي قطعة منه. وكونها مشتقة من الرفعة وعلو الشأن أولى، ويشهد لذلك قول الشاعر:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب
4 أطول آية في القرآن، آية الدّين في آخر البقرة، وأقصر آية فيه {مدهامتان} ، من سورة الرحمن.

ولذا سميت الفاتحة. ولها أسماء1 كثيرة منها أم القرآن. والسبع2 المثاني. وأم الكتاب3، والصلاة - .
مكية: المكي من السور: ما نزل بمكة، والمدني منه ما نزل بالمدينة. والسور المكية غالبها يدور على بيان العقيدة وتقريرها والاحتجاج بها وضرب المثل لبيانها وتثبيتها. وأعظم أركان العقيدة: توحيد الله تعالى في عبادته، وإثبات نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقرير مبدأ المعاد والدار الآخرة. والسور المدنية يكثر فيها التشريع وبيان الأحكام من حلال وحرام.
الآيات: جمع آية وهي لغةً: العلامة. وفي القرآن: جملة من كلام الله تعالى تحمل الهدي للناس بدلالتها على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه، وعلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته. وآيات القرآن الكريم ست آلاف ومائتا آية وزيادة4. وآيات الفاتحة سبع5 بدون البسملة.
الاستعاذة6
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
شرح الكلمات:
الاستعاذة: قول العبد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
أعوذ: أستجير وأتحصن
بالله: برب كل شيء والقادر على كل شيء والعليم بكل شيء وإله الأولين والآخرين.
__________
1 بلغ بها صاحب الاتقان، نَيفا وعشرين اسما، ولم يرد في السنة من ذلك سوى أربع: فاتحة الكتاب، وأم القرآن، والسبع المثاني، وأم الكتاب.
2 سميت بالسبع المثاني لأنها تثنى أي تكرر في كل ركعة من الصلاة.
3 سميت بأم الكتاب لاشتمالها على أصول ما جاء في القرآن من العقائد والعبادات والشرائع والقصص.
4 الزيادة تتراوح ما بين أربع آيات إلى أربعين آية على خلاف بين القراء.
5 وقيل البسملة هي الآية السابعة. وإليه ذهب الشافعي فأوجب قراءتها في الصلاة وعلى القول الراجح بأن البسملة آية، فالآية السابعة هي: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} ويكون {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} الآية السادسة.
6 العياذ بالله تعالى للاستجارة بالله من المكروه، واللياذ بالله تعالى يكون لطلب المحبوب، يشهد لهذا قول الشاعر:
يا من ألوذ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به ممن أحاذره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ... ولا يهيضون عظما أنت جابره
- لقول النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين ولعبدي ما سأل فإذا قال الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدي..." الحديث رواه النسائي وغيره.

الشيطان: إبليس لعنه الله
الرجيم: المرجوم المبعد المطرود من كل رحمة وخير.
معنى الاستعاذة : أستجير وأتحصن بالله ربي من الشيطان الرجيم أن يلبس علّي قراءتي. أو يضلني فأهلك وأشقى.
حكم الاستعاذة: يسن1 لكل من يريد قراءة شيء من القرآن سورة فأكثر أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم يقرأ. كما يستحب لمن غضب، أو خطر بباله خاطر سوء أن يستعيذ كذلك.
البسملة
{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم(1)}
البسملة : قول العبد: بسم الله الرحمن الرحيم
الاسم: لفظ جُعل علامة على مُسَمَّى يعرف به ويتميز عن غيره.
الله2: اسم علم على ذات الرب تبارك وتعالى يُعرف به.
الرَّحْمَنِ 3: اسم من أسماء الله تعالى مشتق من الرحمة دال على كثرتها فيه تعالى.
الرَّحِيمِ: اسم وصفة لله تعالى مشتق من الرحمة ومعناه ذو الرحمة بعباده المفيضة عليهم في الدنيا والآخرة.
معنى البسملة: ابتدئ4 قراءتي متبركاً باسم الله الرحمن الرحيم مستعيناً به عز وجل.
__________
1 لقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} من سورة النحل.
2 اسم لم يُسم به غير الله تعالى، وهل هو جامد أو مشتق من ألِهَ يأله إلهة، وألوهة إذا عبد، فالإله بمعنى المألوه أي: المعبود، فلفظ إله اسم جنس يطلق على كل معبود بباطل كسائر الألهة أو بحق كالله جل جلاله.
3 روى أن عيسى عليه السلام قال: الرحمن رحمان الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة وأعم منه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما" .
4 يقدر متعلق الجار والمجرور بحسب المقام، فالقارئ يقول: ابتدئ قراءتي، والكاتب يقول: أبتدئ كتابتي، والآكل يقول: أبتدئ أكلي وهكذا.

حكم البسملة:
مشروع للعبد مطلوب منه أن يُبسمل عند قراءة كل سورة من كتاب الله تعالى إلا عند قراءة سورة التوبة فإنه لاييسمل وإن كان في الصلاة المفروضة يبسمل سراً إن كانت الصلاة جهرية.
ويسن للعبد أن يقول باسم الله1. عند الأكل والشرب، ولبس الثوب، وعند دخول المسجد والخروج منه، وعند الركوب، وعند كل أمر2 ذي بال.
كما يجب عليه أن يقول بسم الله والله أكبر عند الذبح والنحر.
{الْحَمْدُ3 لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2)}
شرح الكلمات:
{الْحَمْدُ} : الوصف بالجميل، والثناء به على المحمود ذي الفضائل والفواضل، كالمدح4، والشكر5.
{لِلَّهِ}: اللام حرف جر ومعناها الاستحقاق أي: أن الله مستحق لجميع المحامد والله علم على ذات الرب تبارك وتعالى.
الرب: السيد المالك المصلح المعبود6 بحق جل جلاله.
{الْعَالَمِينَ}: جمع عالم وهو كل ما سوى الله تعالى،كعالم الملائكة، وعالم الجن، وعالم الإنس، وعالم الحيوان، وعالم النبات.
__________
1 لحديث: "سم الله وكل بيمينك" وهو في الصحيح.
2 لحديث: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر" والحديث وإن كان ضعيفاً فإن العمل به لما في معناه من أحاديث صحاح.
3 الحمد لله أعظم سورة في القرآن لحديث البخاري عن أبي سعيد بن المعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "لأعلمنك أعظم سورة في القرآن، وقوله له ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها" .
4 هناك فرق بين المدح والحمد، فالحمد يكون على الجميل الاختياري كما يحمد الله تعالى على لطفه ورحمته وإحسانه. وأما المدح فإنه يكون على الاختياري والاضطراري كما يمدح الإنسان على جمال وجهه وهو ليس فعله وعلى إحسانه الذي هو عمله الاختياري والثناء المدح وتكراره مرة بعد مرة.
5 الشكر: الثناء باللسان على المنعم بما أولى من النعم، فهو أخص ممن الحمد موردا إذ مورده النعمة فقط وأعمّ متعلقاً إذ متعلقه القلب واللسان والجوارح، لقول القائل:
أفادتك النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا
والحمد يعم المدح والشكر لحديث: "الحمد رأس الشكر".
6 مما شهد لاطلاق لفظ الرب على المعبود قول الشاعر:
أرب يبول الثعلبان برأسه ...
لقد هان من بالت عليه الثعالب

معنى الآية: يخبر تعالى أن جميع أنواع المحامد من صفات الجلال والكمال هي له وحده دون من سواه؛ إذ هو رب كل شيء وخالقه ومالكه.
وأن علينا1 أن نحمده ونثني عليه بذلك.
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيم(3)}
تقدم شرح هاتين الكلمتين في البسملة. وأنهما اسمان وصف بهما اسم الجلالة "الله" في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثناء على الله تعالى لاستحقاقه الحمد كله.
{مَالِكِ2 يَوْمِ الدِّينِ(4)}
شرح الكلمات:
{مَالِكِ}: المالك: صاحب الملك المتصرف كيف يشاء.
{ملك}: الملك ذو السلطان الآمر الناهي المعطي المانع بلا ممانع ولا منازع.
{يَوْمِ الدِّينِ}: يوم الجزاء3 وهو يوم القيامة حيث يجزي الله كل نفس ما كسبت.
معنى الآية: تمجيد لله تعالى بأنه المالك لكل ما في يوم القيامة حيث لا تملك نفس لنفس شيئاً والملك الذي لا مَلِكَ يوم القيامة سواه.
__________
1 لأن اللفظ خبر ومعناه الانشاء أي قولوا: الحمد لله.
2 قرأ حفص {مالك} باسم الفاعل، وقرأ نافع {ملك} بدون ألف وهما قراءتان سبعيتان، والله حقاً هو الملك المالك.
3 صح تفسير {يوم الدين} بيوم الحساب عن السلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كان الحساب غايته الجزاء صح إطلاق لفظ الجزاء على يوم الدين، إذ يقال: دانه يدينه بكذا دنيا ودينا، إذا حاسبه وجزاه، وفي الحديث: "الكيس من دان نفسه أي: حاسبها، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني" . رواه أحمد والترمذي وغيرهما وهو صحيح.

هداية الآيات:
في هذه الآيات الثلاث من الهداية ما يلي:
1- أن الله تعالى يحب1 الحمد، فلذا حمد تعالى نفسه وأمر عباده به.
2- أن المدح يكون لمقتضٍ. وإلا فهو باطل وزور، فالله تعالى لما حمد نفسه ذكر مقتضى الحمد وهو كونه رب العالمين والرحمن الرحيم ومالك يوم الدين.
{إِيَّاكَ2 نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)}
شرح الكلمات:
{إِيَّاكَ}: ضمير نصب يخاطب به الواحد.
{ نَعْبُدُ3}: نطيع مع غاية الذل لك والتعظيم والحب.
{ نَسْتَعِينُ } : نطلب عونك لنا على طاعتك4.
معنى الآية:
علَّمنا الله تعالى كيف نتوسل إليه في قبول دعائنا فقال: احمدوا الله واثنوا عليه ومجدوه، والتزموا له بأن تعبدوه وحده ولا تشركوا به وتستعينوه ولا تستعينوا بغيره.
هداية الآية:
من هداية هذه الآية ما يلي:
1- آداب الدعاء5 حيث يقدم السائل بين يدي دعائه حمد الله والثناء عليه وتمجيده. وزادت
__________
1 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من أحد أحب إليه الحمد من الله تعالى حتى إنه حمد نفسه". ولفظ البخاري. "لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شيء أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه" وقال صلى الله عليه وسلم: "ما أنعم الله على عبده بنعمة فقال: الحمد لله إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ" . رواه الببيهقي عن أنس بسند حسن.
2 العدول عن نعبدك ونستعينك إلى {إياك نعبد وإياك نستعين} لإفادة الاختصاص والحصر، وفي {إياك نعبد وإياك نستعين} نكتة بلاغية وهي: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب وهي من المحسنات البديعية.
3 {نعبد} مضارع عبده إذا أطاعه متذللاً له خوفاً منه وطمعاً فيما عنده فأحبه لذلك غاية الحب وعظمه غاية التعظيم وهكذا تكون عبادة المؤمن لربه تعالى.
4 وعلى كل ما يهم العبد من أمور دينه ودنياه.
5 روى أبو داود والترمذي، والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يدعو في صلاته فلم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عجل هذا، ثم دعاه فقال له أو لغيره: إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليدع بعد مما شاء" .

السنة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسأل حاجته فإنه يستجاب1 له.
2- أن لا يعبد غير ربه. وأن لا يستعينه إلا هو سبحانه وتعالى.
{اهْدِنَا2 الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(6)}
شرح الكلمات:
{اهْدِنَا}: أرشدنا وأدم هدايتنا.
{ الصِّرَاطَ}: الطريق الموصل إلى رضاك وجنتك وهو الإسلام لك.
{الْمُسْتَقِيمَ}: الذي لا ميل فيه عن الحق ولا زيغ عن الهدى.
معنى الآية:
بتعليم من الله تعالى يقول العبد في جملة إخوانه المؤمنين سائلاً ربه بعد أن توسل إليه بحمده والثناء عليه وتمجيده، ومعاهدته أن لا يعبد هو وإخوانه المؤمنون إلا هو، وأن لا يستعينوا إلا به. يسألونه أن يُديم هدايتهم3 للإسلام حتى لا ينقطعوا عنه.
من هداية الآية:
الترغيب في دعاء الله والتضرع إليه، وفي الحديث: "الدعاء4 هو العبادة" .
{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ(6)}
شرح الكلمات:
{الصِّرَاطَ}: تقدم بيانه.
{الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}: هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون5، وكل من أنعم الله
__________
1 روى أحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا: إذا نكثر، قال: الله أكثر."
2 فعل الهداية يتعدى بنفسه وبحرف الجر فمن الأول قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ، ومن الثاني، قوله تعالى: {مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} .
3 الهداية نوعان: هداية بيان وإرشاد، وهذه تطلب من ذوي العلم، فهم يبينون للسائل طرق الخير ويرشدونه إليها. هداية توفيق إلى اعتقاد الحق ولزمه في الاعتقاد والقول والعمل، وهذه لا تطلب إلا من الله تعالى، ومنها هذه الدعوة: اهدنا الصراط المستقيم، ويشهد للهداية الأولى، وهي هداية البيان قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . ويشهد للثانية قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} . فأثبت لنبيه هداية البيان ونفي عنه هداية التوفيق وهي الهداية القلبية الباطنة.
4 رواه أصحاب السنن، وصححه الترمذي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
5 ورد هذا البيان في قوله تعالى من سورة النساء {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} .

عليهم بالإيمان به تعالى ومعرفته، ومعرفة محابه، ومساخطه، والتوفيق لفعل المحاب وترك المكاره.
معنى الآية:
لما سأل المؤمن له ولإخوانه الهداية إلى الصراط المستقيم، وكان الصراط مجملاً بينه بقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، وهو المنهج القويم المفضي بالعبد إلى رضوان الله تعالى والجنة، وهو الإسلام القائم على الإيمان والعمل مع اجتناب الشرك1 والمعاصي.
هداية الآية:
من هداية الآية بما يلي:
1- الاعتراف بالنعمة.
2- طلب حسن القدوة.
{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ(7)}
شرح الكلمات:
{غَيْرِ}: لفظ يستثنى2 به كإلاّ.
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ: من غضب الله تعالى عليهم لكفرهم وافسادهم في الأرض؛ كاليهود.
الضَّالِّينَ : من أخطأوا طريق الحق فعبدوا3 الله بما لم يشرعه؛ كالنصارى.
__________
1 الشرك: عبادة غير الله مع الله تعالى، أو اعتقاد ربوبية أو ألهية كائن من كان مع الله تعالى ولو لم يعبده إشراك المخلوق في صفات الخالق الذاتية أو الفعلية.
2 لفظ غير مفرد مضاف دائماً لفظا أو معنى وإدخال أل عليه خطأ وأصله الوصف ويستنثى به.
3 الضلال : الانحراف والبعد عن الهدي المطلوب وهو في الشرع نوعان: ضلال في الاعتقاد، وضلال في العمل. فالضلال في الاعتقاد: هو كل اعتقاد مخالف كلاً أو بعضاً للمعتقد الإسلامي الذي بينه الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. والضلال في العمل: هو عبادة الله تعالى بغير ما شرع والتقرب إليه عز وجل بما لم يشرعه قربة، ولا ينجو من هذا الضلال إلا من تمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

معنى الآية:
لما سأل المؤمن ربَّه الصراط المستقيم، وبينه بأنه صراط من أنعم عليهم بنعمة الإيمان1 والعلم والعمل. ومبالغة في طلب الهداية إلى الحق، وخوفاً من الغواية استثنى كلاً من طريق المغضوب عليهم، والضالين.
هداية الآية:
من هداية الآية:
الترغيب في سلوك سبيل الصالحين، والترهيب من سلوك سبيل الغاوين.
__________
[تنبيه أول]: كلمة: آمين ليست من الفاتحة. ويستحب أن يقولها الإمام إذا قرأ الفاتحة يمد بها صوته ويقولها المأموم، والمنفرد كذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا أمن الإمام فأمنوا" . أي: قولوا آمين بمعنى: الله استجب دعاءنا، ويستحب الجهر بها؛ لحديث ابن ماجة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: :" {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} . قال آمين حتى يسمعها أهل الصف الأول فيرتج بها المسجد".
[تنبيه ثان]: قراءة الفاتحة واجبة في كل ركعة من الصلاة، أما المنفرد والإمام فلا خلاف في ذلك، وأما المأموم فإن الجمهور من الفقهاء على أنه يسن له قراءتها في السرية دون الجهرية لحديث: "من كان له إمام فقراءة 2 الإمام له قراءة" ، ويكون مخصصاً لعموم حديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" .
__________
1 لفظ النعمة اسم جنس تحته أربعة أنواع: الأولى:نعمة الإيمان بالله وبما أوجب الإيمان به. الثانية: نعمة معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته. والثالثة: نعمة معرفة محابه ومكارهه. والرابعة: نعمة التوفيق لفعل المحاب وترك المكاره.
2 رواه البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمَّن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنوبه" .

سورة البقرة
...
سورة البقرة1
مدنية وآياتها مائتان وست أو سبع وثمانون آية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{الم(1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ(2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ2 بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4) أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون(5)} َ
(1 ){الم}
شرح الكلمات :
{الم}: هذه من الحروف المقطعة تكتب الم. وتقرأ هكذا:
ألف لام ميم. والسور المفتتحة بالحروف المقطعة تسع وعشرون سورة أولها البقرة هذه، وآخرها القلم {ن} ومنها الأحادية مثل: {ص} ، و {ق} ، و {ن} ، ومنها الثنائية مثل: {طه} ،و {يس} ،و {حم} ، ومنها الثلاثية والرباعية والخماسية، ولم يثبت في تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء كونها من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه أقرب إلى الصواب، ولذا يقال
__________
1 ورد وصح في فضل سورة البقرة قوله صلى الله عليه وسلم: "اقرأوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة" أي: السحرة. وروى الترمذي، وصححه: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً وهم ذوو عدد، وقدَّم عليهم أحدثهم سناً لحفظه سورة البقرة، وقال له: "اذهب فأنت أميرهم" . وروى أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة" .
2 قرأ نافع يؤمنون بتخفيف الهمز ة جمعاً وإفراداً في كامل القرآن، وقرأها حفص مهموزة في كل القرآن.

فيها: ألمْ: الله أعلم1 بمراده ذلك.
وقد استخرج منها بعض أهل العلم فائدتين: الأولى: أنه لما كان المشركون يمنعون سماع2 القرآن مخافة أن يؤثر في نفوس السامعين كان النطق بهذه الحروف حم. طس. ق. كهيعص. وهو منطق غريب عنهم يستميلهم إلى سماع القرآن، فيسمعون فيتأثرون وينجذبون فيؤمنون ويسمعون وكفى بهذه الفائدة من فائدة. والثانية:لما أنكر المشركون كون القرآن كلام الله أوحاه إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كانت هذه الحروف بمثابة المتحدي لهم كأنها: أن هذا القرآن مؤلف من مثل هذه الحروف فألفوا أنتم مثله. ويشهد بهذه الفائدة ذكر لفظ القرآن بعدها غالباً نحو: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} ، {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ} ، كأنها تقول: إنه من مثل هذه الحروف تألف القرآن فألفوا أنتم نظيره فإن عجزوا فسلموا أنه كلام الله ووحيه وآمنوا به تفلحوا.
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (2)
شرح الكلمات:
{ذَلِكَ} : هذا، وإنما عُدل عن لفظ هذا إلى ذلك. لما تفيده الإشارة بلام البعد3 من علو المنزلة وارتفاع القدر والشأن.
{الْكِتَابُ4} : القرآن الكريم الذي يقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس.
{لا رَيْبَ5} : لاشك أنه وحي الله وكلامه أوحاه إلى رسوله.
__________
1 روى عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهما وعن عامر الشعبي وسفيان الثوري إنهم قالوا: الحروف المقطعة هي سر الله في القرآن ولله في كل كتاب من كتبه سر. فهي من المتشابهة الذي انفرد الله بعلمه فلا ينبغي أن نتكلم فيها ولكن نؤمن بها.
2 دليله قوله تعالى من سورة فصلت: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} .
3 اسم الإشارة هو: (ذا) وهو للقريب ويقال (ذاك) للمتوسط البعد (وذلك) للبعيد.
4 يطلق لفظ الكتاب على الفرض نحو: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام} . أي فرض، وعلى العقد بين العبد وسيده نحو: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} . وعلى القدر، نحو: {كِتَابَ اللَّهِ} ، أي قدره وقضاؤه، ويصح في إعراب الكتاب أن يكون بدلاً من اسم الإشارة، ويصح أن يكون خبراً له.
5 وريب الدهر: صروفه وخطوبه، وأصل الريب: قلق النفس لحديث الصحيح: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الشك ريب وإن الصدق طمأنينة" .

{فِيهِ هُدىً1}: دلالة على الطريق الموصل إلى السعادة والكمال في الدارين.
{لِلْمُتَّقِينَ2}: المتقين أي: عذاب الله بطاعته بفعل أوامره واجتناب نواهيه
معنى الآية:
يخبر تعالى أن ما أنزله على عبده ورسوله من قرآن يمثل كتاباً فخماً عظيماً لا يحتمل الشك، ولا يتطرق إليه احتمال، كونه غير وحي الله وكتابه بحال، وذلك لإعجازه، وما يحمله من هدى ونور لأهل الإيمان والتقوى يهتدون بهما إلى سبيل السلام والسعادة والكمال.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- تقوية الإيمان بالله تعالى وكتابه ورسوله، الحث على طلب الهداية من الكتاب الكريم.
2- بيان فضيلة التقوى وأهلها.
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون}َ.
{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}.
أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون}.
شرح الجمل:
{يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}: يصدقون تصديقا جازماً بكل ما هو غيب3 لا يدرك بالحواس كالرب تبارك وتعالى ذاتاً وصفاتٍ، والملائكة والبعث، والجنة ونعيمها والنار وعذابها.
{وَيُقِيمُونَ 4 الصَّلاةَ 5}: يُديمون أداء الصلوات الخمس في أوقاتها مع مراعاة شرائطها وأركانها وسننها ونوافلها الراتبة وغيرها.
__________
1 الهدي: مصدر هدى، يهدي. وهو مذكر، نحو: هذا هدى هدىً، وهو من أسماء النهار. وهو على وزن السُرى والبكى واللقى، من لقي الشيء، يلقاه لقياً.
2 المتقي: اسم فاعل من اتقى، الذي أصله وقى إذا حفظ. واتقى بزيادة تاء الافتعال لاتخاذه وقاية تقيه وابدلت واو وقي في اتقى تاء وزيدت فيها همزة وصل وتاء الافتعال فصارت اتقى، أي: طلب الوقاية والحفظ مما يخاف ويكره.
3 الغيب: مصدر غاب، يغيب، غيباً، إذا لم يظهر فلم يرى للعيان، ومعناه: محصل في الصدور. والإيمان. بالغيب مفتاح كل التقوى وكل خير.
4 إقام الصلاة جعلها قائمة أي: مؤداه لا تسقط ولا تهمل. نحو: {أَقِيمُوا الدِّينَ} أي: أظهروه بالعمل به والدعوى إليه، والصلاة عمود الدين فمن أقامها أقام الدين ومن أقعدها فلم يقمها فقد ترك الدين وأهمله.
5 الصلاة اسم جامد وزنها فعلة، ولذا يجمع على صوات بفتح الفاء والعين واللام بمعنى الدعاء، يقال: صلى إذا دعا وهي =

{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ 1 يُنْفِقُونَ} : من بعض ما آتاهم الله من مال ينفقون وذلك بإخراجهم لزكاة أموالهم وبإنفاقهم على أنفسهم وأزواجهم وأولادهم ووالديهم وتصدقهم على الفقراء والمساكين.
{يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}
: يصدقون بالوحي الذي أنزل إليك أيها الرسول وهو الكتاب والسنة.
{وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} : ويصدقون بما انزل الله تعالى من كتب على الرسل من قبلك؛ كالتوراة والإنجيل والزبور.
{وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ 2} : وبالحياة في الدار الآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب هم عالمون متيقنون لا يشكون في شيء من ذلك ولا يرتابون لكامل إيمانهم وعظم اتقائهم.
{أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} : الإشارة إلى أصحاب الصفات الخمس السابقة والإخبار عنهم بأنهم بما هداهم الله تعالى إليه من الإيمان وصالح الأعمال هم متمكنون3 من الاستقامة على منهج الله المفضي بهم إلى الفلاح.
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} : الإشارة إلى أصحاب الهداية4 الكاملة والإخبار عنهم بأنهم هم المفلحون5 الجديرون بالفوز الذي هو دخول الجنة بعد النجاة من النار.
في الشرع عبادة ذات ركوع وسجود وتكبير وتلاوة وتسبيح تفتح بالتكبير وتختم بالتسليم.
__________
= في الشرع عبادة ذات ركوع وسجود وتلاوة وتسبيح تفتتح بالتكبير وتختتم بالتسليم.
1 الرزق هو: كل ما أوجده الله تعالى في الدنيا للإنسان من صنوف الأموال وضروب المأكولات والمشروبات والملبوسات والمركوبات والمساكن، والمراد بالرزق في الآية: المال صامتاً كان أو ناطقاً.
2 اليقين: اسم فاعل من يقن الأمر وضح وثبت، والمراد به: العلم الحاصل عن نظر وتفكر موجب لعدم الشك واضطراب النفس.
3 دل على التمكن من الاستقامة حرف: (على) في قولهم: على هدى من ربهم فإن الاستعلاء، إذ الراكب على الفرس متمكن منها يصرفها كيف يشاء لعلوه عليها.
4 وهم المتقون أصحاب الصفات الخمس التي هي: الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، وإنفاق مما رزقهم الله، والإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل على من قبله، والإيمان بالآخرة.
5 الفلاح: مشتق من فلح الأرض إذا شقها، إذ الفلح الشق والقطع كما قال الشاعر:
إن الحديد بالحديد يفلح. أي يشق ويقطع. ومنه الفلاح، وهو الرجل يشق الأرض بالمحراث، وعليه فالمفلح: من شق طريقه بين صفوف أهل الموقف ودخل الجنة، ويطلق الفلاح على الفوز وهو السلامة من المرهوب، والظفر بالمرغوب، قال الشاعر:
لو كان حي مدرك الفلاح ...
أدركه ملاعب الرماح ...
أي فاز به.

معنى الآيات:
ذكر تعالى في هذه الآيات الثلاث صفات المتقين من الإيمان بالغيب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والإيمان بما أنزل الله من كتب والإيمان بالدار الآخرة وأخبر عنهم بأنهم لذلك هم على أتم هداية من ربهم، وأنهم هم الفائزون في الدنيا بالطهر والطمأنينة وفي الآخرة بدخول الجنة بعد النجاة من النار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
دعوة المؤمنين وترغيبهم في الاتصاف بصفات أهل الهداية والفلاح، ليسلكوا سلوكهم فيهتدوا ويفلحوا في دنياهم وأخراهم.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(7)}
شرح الكلمات:
{كَفَرُوا} : الكفر: لغة التغطية والجحود، وشرعاً: التكذيب1 بالله وبما جاءت به رسله عنه كلاً أو بعضاً.
{سَوَاءٌ 2} : بمعنى مُسْتَوٍ انذارهم وعدمه، إذ لا فائدة منه لحكم الله بعدم هدايتهم.
{أَأَنْذَرْتَهُمْ} : الإنذار التخويف بعاقبة الكفر والظلم والفساد.
__________
1وقد يطلق الكفر على جحود النعمة والإحسان، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "يكفرن العشير والإحسان" ، لما قال: "رأيت النار ورأيت أكثر أهلها النساء" . فقيل له: بم يا رسول الله؟. قال: يكفرن، قيل: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير –أي الزوج- ويكفر الإحسان .
2 سواء عليهم: هذا خبر إن الذين كفروا. وسواء: اسم مصدر، إذ فعله استوى، والمصدر الاستواء، واسم المصدر سواء، ولذا فهو بمعنى مستو، أي: استوى إنذارهم وعدمه في إنهم لا يؤمنون، وهذا من العام الخاص، إذ ما كل الكافرين لا يؤمنون وإنما من كتبت عليهم الشقوة إذلالاً؛ كأبي لهب وأبي جهل وعقبة والعاصي والنضر وغيرهم.

{ختم1 الله} : طبع، إذ الختم والطبع واحد وهو وضع الخاتم أو الطابع على الظرف حتى لا يعلم ما فيه، ولا يتوصل إليه فيبدل أو يغير.
الغشاوة : الغطاء يغشى به ما يراد منع وصول شيء إليه.
العذاب: الألم يزيل عذوبة الحياة ولذتها.مناسبة الآيتين لما قبلهما ومعناهما:
لما ذكر أهل الإيمان والتقوى والهداية والفلاح ذكر بعدهم أهل الكفر والضلال والخسران، فقال: [إن الذين كفروا] 2 إلخ. فأخبر بعدم استعدادهم للإيمان حتى استوى إنذارهم3 وعدمه وذلك لمضي سنة الله فيهم بالطبع على قلوبهم حتى لا تفقه، وعلى آذانهم4 حتى لا تسمع، ويجعل الغشاوة على أعينهم حتى لا تبصر، وذلك نتيجة مكابرتهم وعنادهم وإصرارهم على الكفر. وبذلك استوجبوا العذاب العظيم فحكم به عليهم. وهذا حكم الله تعالى في أهل العناد والمكابرة والإصرار في كل زمان ومكان.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- بيان سنة الله تعالى في أهل العناد والمكابرة والإصرار بأن يحرمهم الله تعالى الهداية، وذلك بتعطيل حواسهم حتى لا ينتفعوا بها فلا يؤمنوا ولا يهتدوا.
2- التحذير من الإصرار على الكفر والظلم والفساد الموجب للعذاب العظيم.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ(8)
__________
1 الختم: حقيقته السد على الإناء، والغلق على الكتاب بطين ونحوه، والخاتم: هو ما سد وأغلق به.
2 قطعت جملة: إن الذين كفروا ولم تعطف على السابق لكمال الانقطاع بينهما وهو التضاد، إذ الأولى في ذكر الهداية والمهتدين، وهذه في ذكر الكفر والكافرين.
3 قد يقال: ما دام قد علم الله تعالى أن بعضاً لا يؤمنون فلِمَ ينذرون، إذا إنذارهم مع العلم بأنه لا ينفعهم، تكليف بالمحال. والجواب: أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لكل أحد، وهو صلى الله عليه وسلم لم يعلم من كتب الله تعالى عليه الشقاء ممن كتب له السعادة، فلذا هو يدعو وينذر، ومن كان من أهل السعادة أجاب الدعوة، ومن لم يكن من أهلها رفضها ولم يجب.
4 تقديم السمع على البصر في عدة آيات من القرآن يفيد أن حاسة السمع أنفع من حاسة البصر، وهو كذلك والعقل أعظم.

يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ(10)}
شرح الكلمات:
{وَمِنَ النَّاسِ1} : من بعض الناس2.
{مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ3} : صدقنا بالله ربا وإلها لا إله غيره ولا رب سواه.
{وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ} : صدقنا بالبعث والجزاء يوم القيامة.
{ يُخَادِعُونَ4 الله} : بإظهارهم الإيمان وإخفائهم الكفر.
{وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ5} : إذ عاقبة خداعهم تعود عليهم لا على الله ولا على رسوله ولا على المؤمنين.
{وَمَا يَشْعُرُونَ} : لا يعلمون أن عاقبة خداعهم عائدة عليهم.
{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} : في قلوبهم شك ونفاق وألم الخوف من افتضاح أمرهم والضرب على أيديهم.
{فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} : شكاً ونفاقاً وألماً وخوفاً حسب سنة الله في أن السيئة لا تعقب إلا سيئة.
{عَذَابٌ أَلِيمٌ} : موجع شديد الوقع على النفس.مناسبة الآية لما قبلها وبيان معناها:
لما ذكر تعالى المؤمنين الكاملين في إيمانهم وذكر مقابلهم وهم الكافرون البالغون في الكفر
__________
1 لفظ الناس مشتق من الناس، ينوس إذا تحرك كذا قيل: وهل هو من النسيان، أو الإنس الكل محتمل لأن آدم نسي ولأنه حصل له الأنس بحواء.
2 ومن الناس: خبر، والمبتدأ من يقول، والسر في تقديم الخبر هنا: هو إخفاء المخبر عنه، لأنه ذو صفات ذميمة، وأفعال شنيعة نحو، قول: ما بال أقوام يقولون: كذا وكذا بما هو مؤذن بالتعجب من حالهم أيضاً.
3 أي اعتقدنا على علم إن الله لا إله إلا هو ولا رب سواه، إذ الإيمان: التصديق الجازم بوجود الله تعالى رباً وإلها موصوفاً بالكمال منزهاً عن كل نقصان، والتصديق بكل ما أمر الله تعالى بالإيمان به من الملائكة والكتب، والرسل والبعث والقدر.
4 وإن قيل: ما وجه مخادعتهم لله تعالى والمؤمنين بإظهارهم الإيمان والإسلام تمويهاً في نظرهم على الله، إذ لم يعرفوا جلاله وكماله، وعلى المؤمنين ظناً منهم إنهم لا يعلمون ما يخفون في نفوسهم من الكفر والعداء. وأما مخادعة الله لهم فهي علمه تعالى بما يبطنون من الكفر والشر وعدم فضيحتهم بذلك، فلم يكشف أسرارهم ولم يذكرهم في وحيه بأسمائهم، ومخادعة المؤمنين لهم هي: علمهم بنفاقهم وعدم مؤاخذتهم ونسبتهم إليه. هذا ولو قلنا: إن صيغة المفاعلة هنا ليست على بابها فهي بمعنى خدع يخدع، وذلك نحو: عاقبت اللص وعالجت المريض فلم نحتج إلى ما ذكرنا. والله أعلم.
5 قرأ نافع والجمهور: وما يخادعون، بألف بعد الخاء، وقرأ حفص: يخدعون، بسكون الخاء.

منتهاه ذكر المنافقين وهم: المؤمنون في الظاهر الكافرون في الباطن، وهم شر من الكافرين البالغين في الكفر أشده.
أخبر تعالى أن فريقاً من الناس وهم المنافقون1 يدَّعون الإيمان بألسنتهم ويضمرون الكفر في قلوبهم يخادعون2 الله والمؤمنين بهذا النفاق. ولما كانت عاقبة خداعهم عائدة عليهم. كانوا بذلك خادعين أنفسهم لا غيرهم ولكنهم لا يعلمون ذلك ولا يدرون به.
كما أخبر تعالى أن في قلوبهم مرضا وهو الشك والنفاق والخوف، وأنه زادهم مرضاً عقوبة لهم في الدنيا وتوعدهم بالعذاب الأليم في الآخرة بسبب كذبهم وكفرهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
التحذير من الكذب والنفاق والخداع، وأن عاقبة الخداع تعود على صاحبها كما أن السيئة لا يتولد عنها إلا سيئة مثلها.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ(12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ(13)}
شرح الكلمات:
الفساد في الأرض : الكفر وارتكاب المعاصي فيها.
الإصلاح في الأرض: يكون بالإيمان الصحيح والعمل الصالح، وترك الشرك والمعاصي.
{لا يشعرون} : لا يدرون ولا يعلمون.
{السفهاء} : جمع سفيه: خفيف العقل لا يحسن التصرف والتدبير.
__________
1 المنافق: كل من يظهر الإيمان ويبطن الكفر، والمذكرون كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، إنهم كانوا ثلاث مائة رجل، ومائة وسبعون امرأة، بعضهم من الأوس والخزرج وبعضهم من اليهود ورأس منافقي المشركين عبد الله بن أبي بن سلول، ولم يقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسلم من أسلم وهلك من هلك إلا ما كان من عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أوقد نار الفتنة بالتعاون مع المجوس.
2 الخدع: أصله الإخفاء والفساد، ومنه مخدع البيت الذي تخفى فيه الأشياء، والخادع والخادع بمعنى واحد: وهو أن يظهر بقوله أو فعله إنه يريد النفع وهو يريد الضر، وهو حرام إلا في الحرب فإنه جائز.

معنى الآيات:
يخبر تعالى عن المنافقين أنهم إذا1 قال لهم أحد المؤمنين لا تفسدوا2 في الأرض بالنفاق وموالاة اليهود والكافرين ردوا عليه قائلين: إنما نحن3 مصلحون في زعمهم، فأبطل الله تعالى هذا الزعم وقرر أنهم هم وحدهم المفسدون لا من عرضوا بهم من المؤمنين، إلا أنهم لا يعلمون ذلك لاستيلاء الكفر على قلوبهم. كما أخبر تعالى عنهم بأنهم إذا قال لهم أحد المؤمنين صدقوا في إيمانكم وآمنوا إيمان فلان وفلان مثل: عبد الله بن سلام. ردوا قائلين: أنؤمن4 إيمان السفهاء الذين لا رشد لهم ولا بصيرة5 فرد الله تعالى عليهم دعواهم وأثبت السفه لهم ونفاه عن المؤمنين الصادقين ووصفهم بالجهل وعدم العلم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- ذم الادعاء الكاذب وهو لا يكون غالباً إلا من صفات المنافقين.
2- الإصلاح في الأرض يكون بالعمل بطاعة الله ورسوله، والإفساد فيها يكون بمعصية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
العاملون بالفساد في الأرض يبررون دائماً إفسادهم بأنه إصلاح وليس بإفساد.
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ(14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ(16)}
__________
1 أصل الإفساد: جعل منفعة الشيء مضرة؛ كإفساد الطعام ونحو بما يلقى فيه.
2 إذا: هنا ليست شرطية بل لمطلق الظرفية.
3 قولهم: إنما نحن مصلحون: لا ذم فيه، وإنما جاءه الذم من كونهم مفسدين وادعوا إنه مصلحون.
4 الاستفهام هنا: إنكاري، أي: إذا دعوا إلى الإيمان أنكروا دعوة من دعاهم طاعنين في إيمان المؤمنين، إذ نسبوهم إلى السفه، وهو خفة العقل، وقلة إدراك الأمور مبادئ وعواقب.
5 أي: بقوله: ألا إنهم هم السفهاء، فبرأ المؤمنين من هذا العيب ووصم به المنافقين، وهم أهله حقاً، فإنه لا سفه أكبر من الكفر بالحق والإيمان بالباطل.

شرح الكلمات:
{لَقُوا 1} : اللقاء: والملاقاة: المواجهة وجهاً لوجه.
{آمَنُوا} : الإيمان الشرعي: التصديق بالله وبكل ما جاء به رسول الله عن الله، وأهله هم المؤمنون بحق.
{خَلَوْا} : الخلو بالشيء2: الانفراد به.
{شَيَاطِينِهِمْ3} : الشيطان كل بعيد عن الخير قريب من الشر يفسد ولا يصلح من إنسان أو جان، والمراد بهم هنا رؤساؤهم في الشر والفساد.
{مُسْتَهْزِئُونَ4} : الاستهزاء: الاستخفاف والاستسخار بالمرء.
الطغيان : مجاوزة الحد في الأمر والإسراف فيه.
العَمَه5: للقلب؛ كالعمى للبصر: عدم الرؤية وما ينتج عنه من الحيرة والضلال.
{اشْتَرَوُا6} : استبدلوا بالهدى الضلالة، أي: تركوا الإيمان وأخذوا الكفر.
{تِجَارَتُهُمْ} : التجارة: دفع رأس مال لشراء ما يربح إذا باعه، والمنافقون هنا دفعوا رأس مالهم وهو الإيمان لشراء الكفر آملين أن يربحوا عزاً وغنى في الدنيا فخسروا ولم يربحوا إذ ذُلوا وعُذبوا وافتقروا بكفرهم.
المهتدي : السالك سبيلاً قاصدة تصل به إلى ما يريده في أقرب وقت وبلا عناء، والضال خلاف المهتدي: وهو السالك سبيلاً غير قاصدة فلا تصل به إلى مراده حتى يهلك قبل الوصول.
__________
1 أصل لقوا: لقيوا نقلت الضمة إلى القاف، وحذفت الياء لالتقاء الساكنين، إذ فعله لقي كرضي.
2 عدي فعل خلوا ب إلى ولم يعد بالباء، إذ يقال خلا بكذا؛ لأن خلو هنا بمعنى ذهبوا وانصرفوا.
3 فسر بعضهم الشياطين بالكهان وبشياطين الجن، والصحيح إنهم رؤساؤهم في الكفر والشر والفساد من منافقي اليهود وغيرهم.
4 أي: مكذبون بما ندعي إليه ساخرون من أهله.
5 العمه: انطماس البصيرة والتحير في الرأي وفعله، عمه فهو عامه وأعمه.
6 الاشتراء: افتعال من شرى يشتري بمعنى: باع. إذ فعل شرى يكون بمعنى باع وبمعنى اشترى، فاشترى كابتاع كلاهما مطاوع فعله شرى أو باع، إذ كل من البائع والمشتري أخذ شيئاً وأعطى آخر.

معنى الآيات:
ما زالت الآيات تخبر عن المنافقين وتصف أحوالهم إذ أخبر تعالى عنهم في الآية الأولى (14) أنهم لنفاقهم وخبثهم إذا لقوا الذين آمنوا في مكان ما أخبروهم بأنهم مؤمنون بالله والرسول وما جاء به من الدين، وإذا انفردوا برؤسائهم في الفتنة والضلالة فلاموهم عما ادّعوه من الإيمان، قالوا لهم: إنا معكم على دينكم وما آمنا أبداً. وإنما أظهرنا الإيمان استهزاء وسخرية بمحمد وأصحابه.
كما أخبر في الآية الثانية (15) أنه تعالى يستهزئ بهم معاملة لهم بالمثل جزاء وفاقاً ويزيدهم1 حسب سنته في أن السيئة تلد سيئة في طغيانهم لتزداد حيرتهم واضطراب نفوسهم وضلال عقولهم. كما أخبر في الآية (16) أن أولئك البعداء في الضلال قد استبدلوا الإيمان بالكفر والإخلاص بالنفاق، فلذلك لا تربح تجارتهم2 ولا يهتدون إلى سبيل ربح أو نُجح محال.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التنديد بالمنافقين والتحذير من سلوكهم في ملاقاتهم هذا بوجه وهذا بوجه آخر وفي الحديث: "شراركم ذو الوجهين"3.
2- إن من الناس4 شياطين يدعون إلى الكفر والمعاصي5، ويأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف.
3- بيان نقم الله، وإنزالها بأعدائه عز وجل.
__________
1 تفسير لقوله تعالى:ويمدهم، إذ المد بالزيادة، يقال: مده بكذا، إذا زاده، وقيل: يستعمل أمد في الخير، نحو: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} ويستعمل مد في الشر، كما في هذه الآية: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
2 إسناد الربح إلى التجارة لكونها سبباً للربح، وإلا فالربح للتاجر لا للتجارة، وهذا الاستعمال في اللغة نحو قول الشاعر:
نهارك هائم وليلك نائم ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم
إذ أسند الهيام إلى النهار، والنوم إلى الليل.
3 روى البخاري ومسلم، والشاهد في قوله صلى الله عليه وسلم: "وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه.
4 شياطين الإنس كشياطين الجن، إذ كل من بعد في الشر وتوغل فيه وأصبح لا يروم الخير ولا يحبه فهو شطان يستعاذ بالله منه.
5 المعاصي: جمع معصية، وهو ترك ما أوجب الله ورسوله القيام أو فعل ما حرم الله ورسوله فعله، سواء في ذلك الاعتقاد، والقول، والعمل إذا الواجبات والمنهيات تكون في الاعتقاد والقول والعمل.

{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ(17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُون(18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ(19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(20)}
شرح الكلمات:
{مَثَلُهُمْ 1} : صفتهم2 وحالهم.
{اسْتَوْقَدَ} : أوقد ناراً.
{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} : لا يسمعون ولا ينطقون ولا يبصرون.
الصيب : المطر.
الظلمات : ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة المطر.
الرعد : الصوت القاصف يُسمع3 حال تراكم السحاب ونزول المطر.
البرق : ما يلمع من نور حال تراكم السحاب ونزول المطر.
{الصَّوَاعِقِ} : جمع صاعقة: نار هائلة تنزل أثناء قصف الرعد ولمعان البرق يصيب الله تعالى بها من يشاء.
__________
1 القول السائر: مثل: أحشفا وسوء كيله؟ والصيف ضيعت اللبن
ويعرف المثل بأنه قول شبه مضر به بمورده ومضر به في الحال المشبه ومورده هو الحال المشبه بها.
2 قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ} الآيات: تضمن مثلين: نارياً: وهو المثل الأول. ومائياً: هو المثل الثاني، والمثلان وقعان من السياق الأول موقع البيان والتقرير، والفذلكة، ولذا لم تعطف جملة مثلهم لكمال الاتصال بينها وبين الجمل السابقة.
3 ظاهرة الرعد والبرق يفسرها علماء الطبيعة؛ بأنه نتيجة اتحاد كهرباء السحاب الموجبة بالسالبة.

{حَذَرَ الْمَوْتِ} : توقيا للموت.
{مُحِيطٌ} : المحيط المكتنف للشيء من جميع جهاته.
{يَكَادُ} : يقرب.
{يَخْطَفُ} : يأخذه بسرعة.
{وَأَبْصَارِهِمْ} : جمع بصر وهو العين المبصرة.معنى الآيات:
مثل1 هؤلاء المنافقين فيما يظهرون من الإيمان مع ما هم مبطنون من الكفر كمثل2 من أوقد ناراً للاستضاءة بها فلما أضاءت لهم ما حولهم وانتفعوا بها أدنى انتفاع ذهب الله بنورهم3 وتركهم في ظلمات لا يبصرون. لأنهم بإيمانهم الظاهر صانوا دماءهم وأموالهم ونساءهم وذراريهم من القتل والسبي، وبما يضمرون من الكفر إذا ماتوا عليه يدخلون النار فيخسرون كل شيء حتى أنفسهم. هذا المثل تضمنته الآية الأولى(17)، وأما الآية الثاني(18) فهي إخبار عن أولئك4 المنافقين بأنهم قد فقدوا كل استعداد للاهتداء فلا آذانهم تسمع صوت الحق ولا ألسنتهم تنطق به، ولا أعينهم تبصر آثاره، وذلك لتوغلهم في الفساد. فلذا هم لا يرجعون عن الكفر إلى الإيمان بحال من الأحوال. وأما الآية الثالثة والرابعة(19)(20) فهما تتضمنان مثلاً آخر لهؤلاء المنافقين. وصورة المثل العجيبة والمنطقية على حالهم هي مطر5
__________
1 المثل: متحرك الوسط، الأصل فيه أنه النظير والمشابه وفيه لغات وهي: المثل بكسر الميم، والمثيل بفتح الميم وكسر المثلثة وإشباعها. ونظير المثل الشبه والبديل، ففي كل واحد ثلاث لغات ولانظير لها في اللغة، يقال: شبه وشبه وشبيه وبَدَل وبدْل وبديل.
2 قوله: {الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} . مفرد وقوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} . جمع، فهل الذي هنا بمعنى: الذين على حد قول القائل:
وإن الذي حانت دمائهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد
من الجائز أن يكون الذي بمعنى الذين لوروده في فصيح اللغة، وهو من باب الالتفات لا غير.
3 عدل عن لفظ. ذهب الله بنارهم. إلى قوله: نورهم. إشارة إلى أن الإسلام نور يهدي لا نار تحرق.
4 يرى ابن كثير أن هؤلاء المنافقين كانوا قد آمنوا ثم بعد إيمانهم كفروا في الباطن مظهرين الإيمان في الظاهر، ويرى ابن جرير خلاف ذلك، وهو: ما آمنوا ثم كفروا، وإنما آمنوا في الظاهر لا غير، واحتج عليه ابن كثير بقول الله تعالى في سورة المنافقين: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} الآيات.
5 هو الصيب في قوله: { أَوْ كَصَيِّبٍ} ، وأصل صيب: صيوب قلبت فيه الواو ياء وأدغمت في الياء، نظيره: سيد وميت؛ لأن الفعل ساد يسود، ومات يموت، فسيد أصلها يسود، وميت أصلها ميوت وقلبت الواو ياء وأدغمت واو في قوله: { أَوْ كَصَيِّبٍ} هي بمعنى الواو.

غزير في ظلمات مصحوب برعد قاصف وبرق خاطف، وهم في وسطه مذعورون خائفون يسدون آذانهم بأنامل أصابعهم حتى لا يسمعوا صوت الصواعق حذراً أن تنخلع قلوبهم فيموتوا، ولم يحذروا مفراً ولا مهرباً لأن الله تعالى محيط بهم هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن البرق لشدته وسرعته يكاد يخطف أبصارهم فيعمون، فإذا أضاء لهم البرق الطريق مشوا في ضوئه، وإذا انقطع ضوء البرق وقفوا حيارى خائفين، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . هذه حال أولئك المنافقين، والقرآن ينزل بذكر الكفر، وهو: ظلمات، وبذكر الوعيد، وهو: كالصواعق والرعد، وبالحجج والبينات، وهي: كالبرق في قوة الإضاءة، وهم خائفون أن ينزل القرآن بكشفهم وإزاحة الستار عنهم فيؤخذوا، فإذا نزل بآية لا تشير إليهم ولا تتعرض بهم مشوا في إيمانهم الظاهر. وإذا نزل بآية فيها التنديد بباطلهم وما هم عليه وقفوا حائرين لا يتقدمون ولا يتأخرون، ولو شاء الله أخذ أسماعهم وأبصارهم لفعل؛ لأنهم لذلك أهل وهو على كل شيء قدير1.
هداية الآيات
من هداية الآيات ما يلي:
1- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.
2- خيبة سعي أهل الباطل وسوء عاقبة أمرهم.
3- القرآن تحيا به القلوب كما تحيا الأرض بماء المطر.
4- شر الكفار المنافقون.
{يَا أَيُّهَا2 النَّاسُ اعْبُدُوا3 رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
__________
1 القدير، والقادر، والمقتدر، بمعنى: واحد، إلا أن القدير أبلغ لأنه من أمثلة المبالغة، وقدرة الله تتعلق بالممكنات القابلة بالوجود والعدم، فلا يقولن قائل: هل يقدر الله على خلق ذات كذاته سبحانه وتعالى؟.
2 ياء: حرف نداء للبعيد وينادى بها القريب تعظيماً له نحو: يا الله ، يا رب، وهو تعالى أقرب من حبل الوريد. أي: صلة للتوصل بها لنداء ما فيه أل نحو: أيها الناس. ها: حرف تنبيه أقحمت بين (أي) والمنادى.
3 أصل العبادة: الخضوع والتذلل، مشتق من قولهم: طريق معبد إذا كان موطوءا بالأقدام، وهي في الشرع طاعة الله ورسوله بالإيمان وفعل الأمر واجتناب النهي مع غاية الحب والتعظيم لهما والتذلل وحده.

وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ1 تَتَّقُونَ(21) الَّذِي جَعَلَ2 لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً3 وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(22)}
شرح الكلمات:
{النَّاسُ} : لفظ جمع لا مفرد له من لفظه، واحده إنسان.
{اعْبُدُوا} : أطيعوا بالإيمان والامتثال للأمر والنهي مع غاية الحب لله والتعظيم.
{رَبَّكُمُ} : خالقكم ومالك أمركم وإلهكم الحق.
{خَلَقَكُمْ} : أوجدكم من العدم بتقدير عظيم
{تَتَّقُونَ} : تتخذون وقاية تحفظكم من عذاب الله، وذلك بالإيمان والعمل الصالح بعد ترك الشرك والمعاصي.
{فِرَاشاً} : وطاء للجلوس عليها والنوم فوقها.
{بِنَاءً} : مبنية؛ كقبة فوقكم.
{الثَّمَرَاتِ} : جمع ثمرة4 وهو ما تخرجه الأرض من حبوب وخضر وتخرجه الأشجار من فواكه.
{رِزْقاً لَكُمْ} : قوتاً لكم تقتاتون به فتحفظ حياتكم إلى أجلها.
__________
1 لعل: هنا على بابها، وهو الترجي والتوقع ولكن بالنظر إلى الناس لا إلى الله تعالى، فالناس هم الذين يرجون حصول النجاة لهم؟ ويتوقعون بعبادتهم لربهم تعالى، وقد تكون لعل، بمعنى: كي، التعليلة أي: اعبدوا ربكم كي تدفعوا عذابه، ويشهد له قول الشاعر:
وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا ... نكف ووثقتم لنا كل موثق
إذ المعنى: كفوا. لنكف.
2 جعل هنا: بمعنى: صير؛ لأنه ناصب لمفعولين الأرض فراشاً، ويكون فعل جعل بمعنى: خلق، نحو: ما جعل الله من بحيرة.
3 وتجمع الثمرة على ثمر كشجر، وثمر كخشب.
4 أنداداً: جمع ند بكسر النون، بمعنى الكفء والمثيل، والمراد به هنا: الشريك لله في عبادته، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح وقد سأله ابن مسعود عن أعظم الذنب: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك" ، وقوله صلى الله عليه وسلم: للذي قال: ما شاء الله وشئت. "أجعلتني لله نداً، قل: ما شاء الله وحده" . رواه النسائي وغيره. والند بفتح النون عود يتطيب به، وند البعير إذا هرب وفر، وندت بفلان شهره وسمع به.

أنداداً : جمع ندّ: النظير والمثيل تعبدونه دون الله أو مع الله تضادون به الرب تبارك وتعالى.
المناسبة ومعنى الآيتين:
وجه المناسبة: أنه تعالى لما ذكر المؤمنين المفلحين والكافرين الخاسرين ذكر المنافقين وهم بين المؤمنين الصادقين والكافرين الخاسرين، ثم على طريقة الالتفات نادى الجميع بعنوان الناس ليكون نداء عاماً للبشرية جمعاء في كل مكان وزمان وأمرهم بعبادته ليقوا أنفسهم من الخسران. معرفاً لهم نفسه ليعرفوه بصفات الجلال والكمال فيكون ذلك أدعى لاستجابتهم له فيعبدونه عبادة تنجيهم من عذابه وتكسبهم رضاه وجنته، وختم نداءه لهم بتنبيههم عن اتخاذ شركاء له يعبدونهم معه مع علمهم1 أنهم لا يستحقون العبادة لعجزهم عن نفعهم أو ضرهم.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- وجوب عبادة الله تعالى، إذ هي2 علة الحياة كلها.
2- وجوب معرفة3 الله تعالى بأسمائه وصفاته.
3- تحريم الشرك صغيره وكبيره ظاهره وخفيه.
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا4 شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
__________
1 أثبت لهم العلم الخاص بهم، وهو علمهم بأن الله هو الخالق الرازق المحي المميت. إذا كانوا يعلمون ذلك ويعترفون به كما أنه لما عرفهم بنفسه في السياق إذ قال: { الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ... الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً} إلخ. فلما عرفوا نهاهم عن اتخاذهم أنداداً له يعبدونهم معه، والحال إنهم يعلمون أنه وحده المستحق للعبادة.
2 لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تعالى: "يا ابن آدم لقد خلقت كل شيء من أجلك وخلقتك من أجلي" ، أي لعبادته تعالى، وفي القرآن الكريم: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}.
3 إذ معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته يتوقف عليها خشيته ومحبته لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب عقلا وشرعاً.
4 أي ادعوهم لأمرين: الأول: ليعينوكم على الإتيان بالمطلوب. والثاني: ليحضروا إتيانكم ويشاهدوه فيشهدون لكم بذلك.

إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ(24)}
شرح الكلمات:
الريب : الشك مع اضطراب النفس وقلقها.
{عَبْدِنَا 1} : محمد صلى الله عليه وسلم.
{مِّنْ مِثْلِهِ} : مثل القرآن ومثل محمد في أميته.
{شُهَدَاءَكُمْ} : أنصاركم. وآلهتكم التي تدعون أنها تشهد لكم عند الله وتشفع.
{وَقُودُهَا} : ما تتقد به وتشتعل وهو: الكفار والأصنام المعبودة مع الله عز وجل.
{أُعِدَّتْ} : هيئت وأحضرت.
{لِلْكَافِرِينَ} : الجاحدين لحق الله تعالى في العبادة له وحده المكذبين برسوله وشرعه.
مناسبة الآية ومعناها:
لما قرر تعالى في الآية السابقة أصل الدين وهو: التوحيد الذي هو عبادة الله تعالى وحده قرر في هذه الآية أصل الدين الثاني وهو: نبوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك من طريق برهاني وهو: إن كنتم في شك من القرآن الذي أنزلناه على عبدنا رسولنا محمد فأتوا بسورة من مثل سوره أو من رجل أمي مثل عبدنا في أميته، فإن لم تأتوا لعجزكم فقوا أنفسكم من النار بالإيمان بالوحي الإلهي وعبادة الله تعالى بما شرع فيه.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- تقرير نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بإثبات نزول القرآن عليه.
2- تأكد عجز البشر عن الإتيان بسورة مثل سور القرآن الكريم لمرور ألف سنة وأربعمائة
__________
1 اسم العبد مأخوذ من التعبد والتذلل: لأن المملوك يذلله مالكه بالخدمة ويعبده بكثرة استخدامه. ولما كانت عبادة الله أشرف الخصال كان التسمية بها أشرف الأسماء، فلذا سمى الله تعالى رسوله محمداً عبداً كما في هذه الآية وآية الإسراء وأنشدوا لهذا قول الشاعر:
يا قوم قلبي عند زهراء ... يعرفه السامع والرائي
لا تدعني إلا بيا عبدها ...
لأنه أشرف أسمائي

وست سنين والتحدي قائم ولم يأتوا بسورة مثل سور القرآن، لقوله تعالى: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} .
3- النار تتقى بالإيمان والعمل الصالح، وفي الحديث الصحيح: "اتقوا النار ولو بشق تمرة" 1.
{وَبَشِّرِ2 الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(25)}
شرح الكلمات:
{وَبَشِّرِ 3} : التبشير: الإخبار السار، وذلك يكون بالمحبوب للنفس.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} : تجري الأنهار من خلال أشجارها وقصورها والأنهار هي: أنهار الماء وأنهار اللبن وأنهار الخمر وأنهار العسل4.
{وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} : أعطوا الثمار وقُدم لهم يشبه بعضه بعضاً في اللون مختلف في الطعم.
{مُطَهَّرَةٌ} : من دم الحيض5 والنفاس وسائر المعائب والنقائص.
{خَالِدُونَ} : باقون فيها لا يخرجون منها أبداً.
المناسبة والمعنى:
لما ذكر تعالى النار وأهلها ناسب أن يذكر الجنة وأهلها ليتم الترهيب والترغيب وهما أداة الهداية والإصلاح.
في هذه الآية الكريمة أمر الله تعالى رسوله أن يبشر المؤمنين المستقيمين بما رزقهم من جنات تجري من تحتها الأنهار6 لهم فيها أزواج مطهرات نقيات من كل أذى وقذر وهم فيها
__________
1 رواه البخاري.
2 هذا من باب ذكر الترغيب بعد الترهيب وعطفه عليه، فقد أنذر الكافرين وواعد المؤمنين ليكون ذلك مثبطاً عن الأعمال الفاسدة منشطاً على الأعمال الصالحة.
3 ويطلق لفظ التبشير على الخبر المحزن غير السار تهكماً بصاحبه نحو قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
4 المذكورة في آية سورة القتال.
5 وكذا البول والغائط.
6 أي من تحت أشجارها، وإن لم يجر للأشجار ذكر؛ لأن الجنات دالة عليها.

خالدون. كما أخبر عنهم بأنهم إذا قُدم لهم أنواع الثمار المختلفة قالوا هذا الذي رزقنا مثله في الدنيا. كما أخبر تعالى أنهم أوتوه متشابهاً في اللون غير متشابه في الطعم زيادة في حسنه وكماله. وعظيم الالتذاذ به.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- فضل الإيمان والعمل الصالح إذ بهما1 كان النعيم المذكور في الآية لأصحابهما.
2- تشويق المؤمنين إلى دار السلام2، وما فيها من نعيم مقيم ليزدادوا رغبة فيها وعملاً لها. بفعل الخيرات وترك المنكرات.
{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ(26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(27)}
شرح الكلمات:
{لا يستحيي3} : لا يمنعه الحياء4 من ضرب الأمثال، وإن صغرت؛ كالبعوضة، أو أصغر منها؛ كجناحها.
__________
1 بعد فضل الله تعالى ورحمته.
2 سميت دار السلام: لسلامتها من وجود المنغصات فيها، إذ لا مرض ولا هرم ولا ألم ولا تعب بها أبداً.
3 لا يستحيي: بياءين، ويتسحي: بياء واحدة، هما قراءتان سبعيتان، والآخيرة على لغة تميم، واسم الفاعل من الأولى مستحي، ومن الثانية، مستح.
4 الحياء: تغير وانكسار يعتري الإنسان عند الخوف مما يعاب به أو يذمه، والله يوصف بالحياء على الوجه اللائق به، فصفة الحياء عنده تعالى لا تشبه صفات المحدثين كسائر صفاته سبحانه وتعالى، والاستحياء والحياء بمعنى واحد، وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله حيي كريم يستحي أن يرفع العبد إليه العبد يديه فيردهما صفرا" ، فقد أثبت صفة الحياء لله عز وجل، وهو قطعاً حياء واستحياء لا يشبه حياء، واستحياء البشر بحال من الأحوال.

{أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً} : أن يجعل شيئاً مثلاً لآخر يكشف عن صفته وحاله في القبح أو الحسن.
{مَا بَعُوضَةً} : ما: نكرة بمعنى: شيء. أي شيء كان يجعله مثلاً، أو زائدة. وبعوضة المفعول الثاني. والبعوضة: واحدة البعوض، وهو صغار البق.
{الْحَقُّ} : الواجب الثبوت الذي يحيل العقل عدم وجوده.
{الْفَاسِقِينَ} : الفسق الخروج عن الطاعة، والفاسقون: هم التاركون لأمر الله تعالى بالإيمان والعمل الصالح، وبترك الشرك والمعاصي.
{يَنْقُضُونَ} : النقض: الحل بعد الإبرام.
{عَهْدَ اللَّهِ} : ما عهد به إلى الناس من الإيمان والطاعة له ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
{مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} : من بعد إبرامه وتوثيقه بالحلف أو الإشهاد عليه.
{وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} : من إدامة الإيمان والتوحيد والطاعة وصلة الأرحام.
{وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} : الإفساد في الأرض يكون بالكفر وارتكاب المعاصي.
{الْخَاسِرُونَ} : الكاملون في الخسران بحيث يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
سبب النزول والمعاني:
لما ضرب الله تعالى المثلين السابقين الناري والمائي1 قال المنافقون: الله أعلى وأجل أن يضرب هذا المثل. فأنزل الله تعالى رداً عليهم قوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي} الآية.
فأخبر تعالى أنه لا يمنعه الاستحياء أن يجعل مثلاً بعوضة2 فما دونها3 فضلاً عما هو أكبر4. وإن الناس حيال ما يضرب الله من أمثال، قسمان: مؤمنون: فيعلمون أنه الحق من ربهم. وكافرون: فينكرونها، ويقولون؛ كالمعترضين: ماذا أراد الله بهذا مثلاً!؟.
كما أخبر تعالى أن ما يضرب من مثل يهدي به كثيراً من الناس ويضل به كثيراً، وأنه لا يضل به إلا الفاسقين الذين وصفهم بقوله: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ
__________
1 أورده ابن جرير وارتضاه.
2 في قوله: ما بعوضة إعرابات كثيرة لا طائل تحتها فنصب بعوضة على إنها بدل من ما النكرة التي هي في محل نصب فعل يضرب بمعنى يجعل. ورفع بعوضة على إنها خبر، والمبتدأ هو: ما على إنها موصولة والتقدير: الذي هو بعوضة.
3 كالذرة.
4 كالفراشة والجرادة.

وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} . وحكم عليهم بالخسران التام يوم القيامة فقال: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين ما يلي:
1- أن الحياء لا ينبغي أن يمنع فعل المعروف وقوله والأمر به.
2- يستحسن ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.
3- إذا أنزل الله خبراً من هدى وغيره، يزداد به المؤمنون هدى وخيراً، ويزداد به الكافرون ضلالاً وشراً، وذلك لاستعداد الفريقين النفسي المختلف1.
4- التحذير من الفسق2 وما يستتبعه من نقض العهد، وقطع الخير، ومنع المعروف.
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(29)}
شرح الكلمات:
{كَيْفَ 3 تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} : الاستفهام هنا للتعجب مع التقريع والتوبيخ، لعدم وجود مقتض للكفر.
{وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} : هذا برهان على بطلان كفرهم، إذ كيف يكفر العبد ربه وهو الذي خلقه بعد أن لم يك شيئاً.
__________
1 إذا المؤمنين مستعدون للخير والكافرون مستعدون للشر.
2 الفسق: الخروج عن طاعة الله ورسوله، فإن كان الخروج على الطاعة في أصول الدين فصاحبه كافر، وإن كان في الفروع فلا يكفر صاحبه، ولا يقال: الفاسق إلا للذي أكثر من الفسق فأصبح الفسق لازماً له لا ينفك عنه لكثرته منه وتوغله فيه.
3 اسم استفهام مبني على الفتح يسأل به عن الحال ويضمن معنى التعجب كما هنا، إذ كيف يصح من العاقل أن ينكر خالقه وهو يعرف أنه مخلوق إذ كان عدماً فأوجده.

{ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} : إن إماتة الحي وإحياء الميت كلاهما دال على وجود الرب تعالى وقدرته.
{ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} : يريد بعد الحياة الثانية وهو البعث الآخر.
{خَلَقَ لَكُمْ 1 مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} : أي أوجد ما أوجده من خيرات الأرض كل ذلك لأجلكم كي تنتفعوا به في حياتكم.
{ثُمَّ اسْتَوَى 2 إِلَى السَّمَاءِ} : علا وارتفع قهراً لها فكونها سبع سماوات.
{فَسَوَّاهُنَّ} أتم خلقهن سبع سماوات تامات.
{وَهُوَ 3 بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} : إخبار بإحاطة علمه تعالى بكل شيء، وتدليل على قدرته وعلمه ووجوب عبادته.
معنى الآيتين:
ما زال الخطاب مع الكافرين الذين سبق وصفهم بأخس الصفات وأسوأ الأحوال، حيث قال لهم على طريقة الالتفات موبخاً مقرعاً: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} الآية.
وذكر من أدلة وجوده وكرمه. ما يصبح الكفر به من أقبح الأمور وصاحبه من أحط الخلائق وأسوأهم حالاً ومآلاً. فمن أدلة وجوده الإحياء بعد الموت والإماتة بعد الإحياء. ومن أدلة كرمه وقدرته أن خلق الناس في الأرض جميعاً لتوقف حياتهم عليه وخلق السموات السبع، وهو مع ذلك كله محيط بكل شيء سبحانه لا إله إلا هو ولا رب سواه.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- إنكار الكفر بالله تعالى.
2- إقامة البرهان على وجود الله وقدرته ورحمته.
__________
1 لحديث: " يا ابن آدم لقد خلقت كل شيء من أجلك وخلقتك من أجلي: أي: من أجل أن تذكرني وتشكرني" فعلة الحياة ذكر الله تعالى وشكره.
2 ذهب ابن كثير إلى أن استوى هنا مضمن معنى قصد لتعديته بإلى: إذ يقال استوى على كذا، إذا كان بمعنى العلو والارتفاع، واستوى إلى كذا، إذا قصده، ويكون المعنى: ثم قصد إلى السماء، أي السموات فخلقهن سبع سموات، ولفظ: السماء اسم جنس تحته أفراد لذا قال: فسواهن بالجمع.
3 قرئ في السبع بفتح الهاء: من فهو، وقرئ بإسكانها وهذا عام في كل لفظ، إذا تقدمه واو أو فاء عطف. أدخلت عليه اللام نحو: وهو كذا وهذا التسكين للتخفيف.

3- حلّية كل1 ما في الأرض من مطاعم ومشارب وملابس ومراكب إلا ما حرمه الدليل الخاص من الكتاب أو السنة لقوله: {خَلَقَ2 لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} .
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا3 أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ(30)}
شرح الكلمات:
{لِلْمَلائِكَةِ} : جمع ملاك ويخفف فيقال ملك، وهم خلق من عالم الغيب أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى خلقهم من نور4.
{الخليفة5} : من يخلف غيره، والمراد به هنا آدم عليه السلام.
{يُفْسِدُ فِيهَا} : الإفساد في الأرض يكون بالكفر وارتكاب المعاصي.
{وَيَسْفِكُ 6} : يسيل الدماء بالقتل والجرح.
{نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} : نقول سبحان الله وبحمده. والتسبيح: التنزيه عما لا يليق بالله تعالى.
{وَنُقَدِّسُ لَكَ} : فننزهك عما لا يليق بك. والتقديس: التطهير والبعد عما لا ينبغي. واللام في لك زائدة لتقوية المعنى إذ فعل قدس يتعدى بنفسه يقال قدّسَه.
__________
1 ذهب بعضهم إلى أن الأصل في الأشياء الحظر حتى يأتي دليل الإباحة؛ لأن المملوكات لا تحل إلا بإذن مالكها، فهذا مذهب ثان، حسن ذكره.
2 أي خلق لكم ما في الأرض جميعاً من أجل تتقوا به على طاعته لا على معصيته.
3 المفروض أن يقترن: (قالوا) بالفاء ولكن نظراً إلى أسلوب الحوار لم يقترن بها كما في قوله: {قَالُوا سُبْحَانَكَ} .
4 خلق الملائكة من النور، صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم.
5 استدل بهذه الآية على وجوب نصب خليفة للمسلمين يحكمهم بشريعة ربهم عز وجل.
6 السفك: الصب: يقال: سفك الدم إذا صبه، كما يقال: سفحه. والسفاك والسفاح بمعنى إلا أن السفاح قد يراد به كثير الكلام، وسفك الدمع كذلك، والدم المسفوح، المصبوب.

معنى الآية:
يأمر تعالى رسوله أن يذكر قوله للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة يخلفه في إجراء أحكامه في الأرض، وإن الملائكة تساءلت1 متخوفة من أن يكون هذا الخليفة ممن يسفك الدماء ويفسد في الأرض بالكفر والمعاصي قياساً على خلق من الجن حصل منهم ما تخوفوه. فأعلمهم ربهم أنه يعلم من الحكم والمصالح ما لا يعلمون.
والمراد من هذا التذكير: المزيد من ذكر الأدلة الدالة على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته الموجبة للإيمان به تعالى ولعبادته دون غيره.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- سؤال من لا يعلم غيره ممن يعلم.
2- عدم انتهار السائل وإجابته أو صرفه بلطف.
3- معرفة بدء الخلق.
4- شرف آدم وفضله.
{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ(33)}
__________
1 إذ هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، وليس هو من باب الاعتراض على الله أبداً.

شرح الكلمات:
{آدَمَ 1} : نبي الله أبو البشر عليه السلام.
{الأَسْمَاءَ} أسماء الأجناس كلها؛ كالماء والنبات والحيوان والإنسان.
{عَرَضَهُمْ} : عرض المسميات أمامهم، ولما كان بينهم العقلاء غلب جانبهم، وإلا لقال عرضها.
{أَنْبِئُونِي} : أخبروني.
{هَؤُلاءِ}: المعرضين عليهم من سائر المخلوقات.
{سُبْحَانَكَ2}: تنزيهاً لك وتقديساً.
{غَيْبَ السَّمَاوَاتِ} : ما غاب عن الأنظار في السموات والأرض.
{تُبْدُونَ} تظهرون من قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} الآية.
{تَكْتُمُونَ} : تبطنون وتخفون، يريد ما أضمره إبليس من مخالفة أمر الله تعالى وعدم طاعته.
{الْحَكِيمُ 3} : الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه، ولا يفعل ولا يترك إلا لحكمة.
معنى الآيات:
يخبر تعالى في معرض مظاهر قدرته وعلمه وحكمته الموجبة لعبادته دون سواه أنه علم آدم أسماء الموجودات4 كلها، ثم عرض الموجودات على الملائكة وقال أنبوئني بأسماء هؤلاء إن
__________
1 هل آدم مشتق من الآدمة التي هي حمرة تضرب إلى بياض، أو هو اسم جامد أعجمي؛ كآزر، وعابر، ذهب إلى كل وجه قوم.
2 سبحان: اسم مصدر فعله سبح مضعفاً. اختص بتنزيه الله تعالى فكان بذلك اسم تسبيح؛ كالعلم عليه.
3 الحكيم: ذو الحكمة، وهو الذي لا يصدر عنه قول ولا فعل خال من حكمة اقتضته. والحكيم مشتق من أحكم الشيء إذا أتقنه وخلصه من الخلل والفساد، ومنه حكمة الدابة: وهي حديدة تجعل في فمها تمنعها من اختلاف سيرها، ويقال: أحكم فلاناً: أي أمنعه من فعل كذا، ومنه قول الشاعر:
أبني حنيفة احكموا سفهائكم ... إني أخاف عليكم أن أغضبا
4 ليس في المسألة ما يدعو إلى الاستغراب أو الإنكار إذ كتاب المقادير في أسماء الموجودات كلها، وكذا سائر صفاتها وأحوالها، والعرض التلفازي اليوم يسهل على المرء إدراك كيفية عرض الله تعالى الموجودات أمام الملائكة. وذكر آدم لأسمائها كما علمها بتعليم الله تعالى له.

كنتم صادقين في دعوى أنكم أكرم المخلوقات وأعلمهم فعجزوا وأعلنوا اعترافهم بذلك، وقالوا: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا} ، ثم قال تعالى لأدم: أنبئهم بأسماء تلك المخلوقات المعروضة فأنبأهم بأسمائهم واحداً واحداً حتى القصعة، والقُصَيْعة.. وهنا ظهر شرف آدم عليهم، وعتب عليهم ربهم بقوله: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} .
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان قدرة الله تعالى حيث علم آدم أسماء المخلوقات كلها فعلمها.
2- شرف العلم وفضل العالم1 على الجاهل.
3- فضيلة الاعتراف2 بالعجز والقصور.
4- جواز العتاب على من ادعى دعوى هو غير متأهل لها.
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ3(34)}
شرح الكلمات:
{اسْجُدُوا} : السجود4: هو وضع الجبهة والأنف على الأرض، وقد يكون بانحناء الرأس دون وضعه على الأرض لكن مع تذلل وخضوع.
{إِبْلِيسَ} : قيل كان اسمه الحارث، ولما تكبر عن طاعة الله أبلسه الله أي: أيأسه من كل خير ومسخه شيطاناً.
{أَبَى} : امتنع ورفض السجود لآدم.
__________
1 يشهد لهذا حديث أبي داود إذ فيه: "وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضى لطالب العلم" .
2 دل على هذا قولهم: لا علم لنا إلا ما علمتنا، ولذا قال العلماء: الواجب على من سأل على ما لا يعلم أن يقول: الله أعلم، وروي عن علي رضي الله عنه، قال: "ما أبردها على الكبد"!! فقل له: وما ذاك؟ فقال: "أن يسأل الرجل عما لا يعلم فيقول: الله أعلم.
3 ذكر القرطبي في تفسيره: أن السجود الذي أمرت به الملائكة هو أن يسجدوا لله تعالى مستقبلين وجه آدم وعليه فهو كصلاتنا خلف المقام، الصلاة لله والاستقبال للمقام.
4 أجمع أهل الإسلام قاطبة أن السجود لا يكون إلا لله تعالى. وفي الحديث: "لا ينبغي أن يسجد لأحد إلا لله رب العالمين".

{وَاسْتَكْبَرَ} : تعاظم في نفسه فمنعه الاستكبار1 والحسد من الطاعة بالسجود لآدم.
{الْكَافِرِينَ} : جمع كافر. من كذب بالله تعالى أو كذب بشيء من آياته أو بواحد من رسله أو أنكر طاعته.
معنى الآية:
يذكر تعالى عباده بعلمه وحكمته وإفضاله عليهم بقوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ...} سجود تحية وإكرام فسجدوا إلا إبليس تعاظم في نفسه وامتنع عن السجود الذي هو طاعة الله، وتحية آدم. تكبراً وحسداً لآدم في شرفه فكان بامتناعه عن طاعة الله من الكافرين الفاسقين عن أمر الله. الأمر الذي استوجب ابلاسه2 وطرده.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- التذكير بإفضال الله الأمر الذي يوجب الشكر ويرغب فيه.
2- التحذير من الكبر والحسد حيث كانا سبب إبلاس الشيطان، وامتناع اليهود من قبول الإسلام.
3- تقرير عداوة إبليس، والتنبيه إلى أنه عدو تجب عداوته أبداً.
4- التنبيه إلى أن من المعاصي ما يكون3 كفراً أو يقود إلى الكفر.
{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ4 أَنْتَ وَزَوْجُكَ5 الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً
__________
1 الاستكبار: طلب الكبر في النفس وتصوره فيها، وفي صحيح مسلم: "أن الله لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر.
2 الإبلاس: الإيأس من كل خير، وإبلاس إبليس كان عقوبة له على كفره وكبره وحسده، وكان قبل إبلاسه يقال له: عزازيل، وبالعربية: الحارث.
3 كترك الصلاة وقتل المؤمن لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من ترك الصلاة فقد كفر" ، وقوله: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" . وقوله: "لا ترتدوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" . والكفر كفران: كفر مخرج من الملة، وكفر نعمة لا يخرج منها، ولكن صاحبه إن لم يتب منه وتقبل توبته يدخل النار به.
4 قال: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} بعد طرد إبليس منها، والمراد من السكن الإسكان، وهو الإقامة الطويلة لا السكون النفسي، وهدوء البال، وإن كان لازماً للإقامة الطيبة، ولفظ السكن مشعر بعدم الإقامة الدائمة، لأن من سكن دار لابد وأن يرحل منها يوماً من الأيام.
5 لفظ الزوج يطلق على كل من الرجل وامرأته، لأن كل واحد منهما صير الثاني زوجاً له، ويقال للمرأة زوجة بالتاء كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا فلان هذه زوجتي فلانة" . وذلك أمناً من اللبس، وغلط الفرزدق في قوله:
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساعي إلى أسد الشرى يستبلها
ولا معنى لتغليطه وقد صح الحديث بلفظ زوجة.

حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ(35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا1 فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ2 عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(37)}
شرح الكلمات:
{رَغَداً} : العيش الهني الواسع يقال له: الرغد.
{الشَّجَرَةَ} : شجرة من أشجار الجنة وجائز أن تكون كرماً أو نبيذاً أو غيرهما وما دام الله تعالى لم يعين نوعها فلا ينبغي السؤال عنها.
{الظَّالِمِينَ} : لأنفسهما بارتكاب ما نهى الله تعالى عنه.
{فَأَزَلَّهُمَا} : أوقعهما في الزلل، وهو مخالفتهما لنهي الله تعالى لهما عن الأكل من الشجرة.
{مُسْتَقَرٌّ} : المستقر: مكان الاستقرار والإقامة.
{إِلَى حِينٍ} : الحين: الوقت مطلقاً قد يقصر أو يطول والمراد به نهاية الحياة.
{فَتَلَقَّى 3 آدَمُ} : أخذ آدم ما ألقى الله تعالى إليه من كلمات التوبة.
{كَلِمَاتٍ} : هي قوله تعالى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
{فَتَابَ عَلَيْهِ} : وفقه للتوبة فتاب4 وقبل توبته، لأنه تعالى تواب رحيم.
__________
1 عن، هنا: هي كما في قوله تعالى: {إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ} بمعنى بسببها، أي أوقعهما في الزلل بسبب الأكل من الشجرة التي زينها لهما فضمير عنها عائد إلى الشجرة.
2 جملة: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ} تصح أن تكون حالاً من ضمير {اهْبِطُوا} ويصح أن تكون مستأنفة استئنافاً ابتدائياً.
3 لفظ: "فتلقى" مشعر بالإكرام، والمسرة، كقوله تعالى: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} .
4 يتساءل البعض: هل آدم ارتكب بأكله من الشجرة كبيرة، وهل يجوز في حق الأنبياء ارتكاب الكبائر؟؟
والجواب: أن آدم ما نبئ إلا بعد أن هبط إلى الأرض، إذ هي دار التكليف. أما وهو في السماء فما كان قد نبئ بعد وأكله من الشجرة لم يترتب عليه عقاب أكثر من الخروج من الجنة؛ لأنها ليست دار إقامة لمن يخالف فيها أمر الله تعالى، أما الأنبياء فلا يجوز في حقهم ارتكاب الكبائر ولا الصغائر لعصمة الله تعالى لهم؛ لأنهم محل أسوة لغيرهم.

معنى الآيات:
في الأية الأولى(35) يخبر تعالى عن إكرامه لآدم وزوجه حواء حيث أباح لهما جنته يسكنانها ويأكلان من نعيمها ما شاءا إلا شجرة واحدة فقد نهاهما عن قربها1 والأكل من ثمرها حتى لا يكونا من الظالمين.
وفي الآية الثانية(36) أخبر تعالى أن الشيطان أوقع آدم وزوجه في الخطيئة حيث زين لهما الأكل من الشجرة فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما فلم يصبحا أهلاً للبقاء في الجنة فأهبطا إلى الأرض مع عدوهما إبليس ليعيشوا بها بعضهم لبعض عدو إلى نهاية الحياة.
وفي الآية الثالثة(37) يخبر تعالى أن آدم تلقى كلمات التوبة من ربه تعالى وهو: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فقالاها توبة فتاب الله عليهما وهو التواب الرحيم.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- كرامة آدم وذريته على ربهم تعالى.
2- شؤم المعصية وآثارها في تحويل النعمة إلى نقمة.
3- عداوة الشيطان للإنسان ووجوب معرفة ذلك لاتقاء وسوسوته.
4- وجوب التوبة2 من الذنب وهي الاستغفار بعد الاعتراف بالذنب وتركه والندم على فعله.
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(39)}
__________
1 إذا كان الفعل قرب يقرب بالفتح فمعناه التلبس بالفعل، وإذا كان قرب بضم الراء فمعناه الدنو من الشيء. هكذا يرى بعضهم.
2 التوبة: هي الرجوع من المخالفة إلى المتابعة، أي من المعصية إلى الطاعة، هذا حدها لغة. إما شرعاً: فهي كما نص في الفائدة الرابعة من هذا التفسير.

شرح الكلمات:
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً} : انزلوا من الجنة1 إلى الأرض لتعيشوا فيها متعادين2.
{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ 3 مِنِّي هُدىً} : إن يجيئكم من ربكم هدى: شرع ضمنه كتاب وبينه رسول.
{فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} : أخذ4 بشرعي فلم يخالفه ولم يحد عنه.
{فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} : جواب شرط فمن اتبع هداي، ومعناه إتباع الهدى يفضي بالعبد إلى أن لا يخاف ولا يحزن لا في الدنيا ولا في الآخرة.
{كَفَرُوا وَكَذَّبُوا} : كفروا: جحدوا شرع الله، وكذبوا رسوله.
{أَصْحَابُ النَّارِ} : أهلها الذين لا يفارقونها بحث لا يخرجون منها.
معنى الآيتين:
يخبر تعالى أنه أمر آدم وحواء5 وإبليس بالهبوط إلى الأرض بعد أن وسوس الشيطان لهما فأكلا من الشجرة، وأعلمهم أنه إن أتاهم منه هدى فاتبعوه ولم يحيدوا عنه يأمنوا ويسعدوا فلن يخافوا ولن يحزنوا، وتوعد من كفر به وكذب رسوله فلم يؤمن ولم يعمل صالحاً بالخلود6 في النار.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- المعصية تسبب الشقاء والحرمان.
__________
1 ذهب المعتزلة –أذهب الله ريحهم- إلى أن الجنة التي هبطا منها آدم وحواء كانت بستاناً في الأرض في مرتفع منها، وهو قول باطل لا يسمع له ولا يلتفت إليه، إذ كل سياق القرآن دال على إنها الجنة دار النعيم لأولياء الله في الآخرة.
2 أي: إبليس وذريته، وآدم وذريته، وكان هذا قبل أن يوجد لكل منهما ذرية، ثم أوجدت كما أخبر تعالى، وكانت العداوة على أشدها.
3 فإما: أصلها فإن ما، فإن شرطية وأدخلت عليها ما الزائدة لتقوية الكلام وأدغمت فيها نون إن فصارت إما.
4 هذا عام في كل أجيال بني آدم فمن جاءه هدى الله بواسطة نبي وكتاب الله فأخذ به واتبعه نجا مما يصيب غيره من الخوف والحزن في الدنيا والآخرة معاً.
5 حواء: لم تذكر باسمها في القرآن وإنما ذكرت بعنوان الزوج، ولكن ذكرت في السنة الصحيحة، إنها خلقت من ضلع آدم عليه السلام، والسر في عدم ذكرها باسمها: إن المروءة تأبى على صاحبها ذكر المرأة باسمها فلذا تذكر النساء تابعات لخطاب الرجال.
6 روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أقوام أصابتهم النار بخطاياهم فأصابتهم إماتة حتى إذا صاروا فحماً أذنت الشفاعة"، ومعناه يخرجون من النار بالشفاعة لهم.

2- العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يسبب الأمن والإسعاد والإعراض عنهما يسبب الخوف والحزن والشقاء والحرمان.
3- الكفر والتكذيب جزاء صاحبهما الخلود في النار.
{يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُون(40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُون(41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ(43)}
شرح الكلمات:
بنو1 إسرائيل : إسرائيل: هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام وبنوه هم: اليهود؛ لأنهم يعودون في أصولهم إلى أولاد يعقوب الأثنى عشر2
النعمة : النعمة هنا اسم جنس بمعنى النعم، ونعم الله تعالى على بني إسرائيل كثيرة3 ستمر أفرادها في الآيات القرآنية الآتية.
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} : الوفاء بالعهد: إتمامه، وعهد الله عليهم أن يبينوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا به.
{أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} : أتم لكم عهدكم بإدخالكم الجنة بعد إكرامكم في الدنيا وعزكم فيها.
{وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} : اخشوني ولا تخشوا غيري.
{وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ} : القرآن الكريم.
{وَلا تَشْتَرُوا 4 بِآيَاتِي} : لا تعتاضوا على بيان الحق في أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
__________
1 هم يوسف عليه السلام وأخوته يهوذا، وبنيامين، وغيرهما.
2 بنو: حمع ابن ، وقيل عن الولد: الابن من البناء، لأنه مسند إليه موضوع عليه. واسرا: عبد وئيل: الله وقرئ: إسرائين. وهي لغة مشهورة.
3 منها: إنجائهم من فرعون، وتحررهم من سلطانه، ومنهم إهلاك عدوهم، وإنزال المن والسلوى عليهم.
4 الاشتراء هنا: بمعنى الاستبدال، ولذا جاز دخول الباء على غير المشتري به، وهو الثمن، إذ الأصل أن تدخل الباء على المشترى به. فتقول، اشتريت الثوب بدرهم.

{ثَمَناً قَلِيلاً}: متاع الحياة الدنيا.
{وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} : واتقوني وحدي في كتمانكم الحق وجحدكم نبوة نبيي محمد صلى الله عليه وسلم أن أنزل بكم نقمتي.
{وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} : أي لا تخلطوا الحق بالباطل حتى يعلم فيعمل به، وذلك قولهم: محمد نبي ولكن مبعوث إلى العرب لا إلى بني إسرائيل.
{وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} : الركوع الشرعي: انحناء الظهر في امتداد واعتدال مع وضع الكفين على الركبتين والمراد به هنا:الخضوع1 لله والإسلام له عز وجل.
مناسبة الآيات ومعناها:
لما كان السياق في الآيات السابقة في شأن آدم وتكريمه، وسجود الملائكة له وامتناع إبليس لكبره وحسده، وكان هذا معلوماً لليهود؛ لأنهم أهل كتاب، ناسب أن يخاطب الله تعالى بني إسرائيل مذكراً إياهم بما يجب عليهم من الإيمان والإستقامة. فناداهم بعنوان بنوتهم لإسرائيل عليه السلام، فأمرهم ونهاهم، أمرهم بذكر نعمته عليهم ليشكروه تعالى بطاعته فيؤمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الهدى وأمرهم بالوفاء بما أخذ عليهم من عهد لينجز لهم ما وعدهم، وأمرهم أن يرهبوه2 ولا يرهبوا غيره من خلقه وأمرهم أن يؤمنوا بالقرآن الكريم، وأن لا يكونوا أول من يكفر3 به. ونهاهم عن الاعتياض عن بيان الحق في أمر الإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ثمناً قليلاً من متاع الحياة الدنيا وأمرهم بتقواه في ذلك وحذرهم أن هم كتموا الحق أن ينزل بهم عذابه. ونهاهم عن خلط الحق بالباطل دفعاً للحق وبعداً عنه حتى لا يؤمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأمرهم بإقام4 الصلاة وإيتاء الزكاة والإذعان لله تعالى بقبول الإسلام والدخول فيه كسائر المسلمين.
__________
1 وجائز أن يراد به الصلاة مع المصلين وهم: الرسول وأصحابه. إذ الخطاب ليهود المدينة بصورة خاصة، ولا منافاة بين ما شرحت به الآية، وبين ما ذكر هنا تعليقاً، إذ الإسلام لله يستلزم الصلاة وفي الآية دليل تأكيد صلاة الجماعة.
2 الرهب، والرهبة، الخوف، ويجوز في الرهب إسكان الهاء وفتحها.
3 هذه الجملة تأكيد لجملة : وأمنوا بما أنزلت.. أي: أمنوا بما أنزلت أي، من القرآن بمعنى لا تكونوا أولمن يكفر به منكم يا بني إسرائيل، إذ العرب سبق أن كفروا بالقرآن قبلهم فأول كافر به، أي منهم وهو اليهود.
4 أمرهم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة بعد الإيمان قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة.." . الحديث. ومعنى الخطاب أنه أمرهم بالدخول في الإسلام والخروج من اليهودية الباطلة.

هداية الايات:
من هداية الآيات:
1- وجوب ذكر النعم لشكر الله تعالى عليها.
2- وجوب الوفاء بالعهد لا سيما ما عاهد عليه العبد ربه تعالى.
3- وجوب بيان الحق وحُرمة كتمانه.
4- حرمة خلط1 الحق بالباطل تضليلاً للناس وصرفهم عنه كقول اليهود: محمد نبي ولكن للعرب خاصة حتى لا يؤمن به يهود.
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ(44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ(45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(46)}
شرح الكلمات:
البر : البر: لفظ جامع لكل خير. والمراد هنا: الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والدخول في الإسلام مقابل الذكر، وهو هنا الترك.
النسيان : مقابل الذكر، وهو هنا الترك.
تلاوة الكتاب : قراءته، والكتاب هنا: التوراة التي بأيدي اليهود.
العقل : قوة باطنية يميز بها المرء بين النافع والضار، والصالح والفاسد.
الاستعانة : طلب العون للقدرة على القول والعمل.
الصبر2 : حبس النفس على ما تكره.
الخشوع : حضور القلب وسكون الجوارح، والمراد هنا: الخضوع لله والطاعة لأمره ونهيه.
__________
1 مأخوذ من قوله: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} إذ اللبس الخلط بين المتشابهات في الصفات، يقال في الأمر لبسه: أي اشتباه، فلبس الحق بالباطل ترويج الباطل في صورة الحق ليقبل ويضل به الناس.
2 مواطن الصبر ثلاثة: صبر على الطاعة فلا تفارق، وصبر عن المعصية فلا ترتكب، وصبر على المصائب فلا يجزع منها ولا يتسخط، ولكن يصبر، ويسترجع أي: يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.

{يَظُنُّونَ} : يوقنون1.
{مُلاقُو رَبِّهِمْ} : بالموت، راجعون إليه يوم القيامة.
معنى الآيتين:
ينعي الحق تبارك وتعالى في الآية الأولى(44) على علماء بني إسرائيل أمرهم بعض العرب بالإيمان بالإسلام ونبيه، ويتركون أنفسهم فلا يأمرونها بذلك والحال أنهم يقرأون التوراة، وفيها بعث النبي محمد والأمر بالإيمان به واتباعه ويقرعهم موبخاً لهم بقوله: أفلا تعقلون، إذ العاقل يسبق إلى الخير ثم يدعو إليه.
وفي الآيتين الثانية والثالثة(45-46) يرشد الله تعالى بني إسرائيل إلى الاستعانة بالصبر والصلاة حتى يقدروا على مواجهة الحقيقة والتصريح بها، وهي الإيمان بمحمد والدخول في دينه، ثم يعلمهم أن هذه المواجهة صعبة شاقة2 على النفس لا يقدر عليها إلا المخبتون لربهم الموقنون بلقاء الله، والرجوع إليه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- قبح3 سلوك من يأمر غيره بالخير ولا يفعله.
2- السيئة قبيحة وكونها من4 عالم أشد قبحاً.
3- مشروعية الاستعانة على صعاب الأمور وشاقها بالصبر والصلاة، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذ حزبه أمر فزع5 إلى الصلاة.
__________
1 يطلق الظن ويراد به اليقين، لا الظن المقابل للشك، أفاد ابن جرير في تفسيره: وأورد أن الظن من أسماء الاضطاد فيطلق على الشك واليقين، فإطلاق الصدفة على الضياء والظلمة معاً.
2 الجمهور على تفسير الضمير في: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَة} بالصلاة وخالفتهم في ذلك لوجود من قال: إنها ما أمروا به ونهوا عنه، وهو أعم من الصلاة.
3 ورد الوعيد الشديد فيمن يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويرتكبه من ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مررت ليلة أسرى بي على أناس تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار، قلت من هؤلاء يا جبريل قال: هؤلاء خطباء أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم" . رواه أحمد. ومثله كثير في السنن والصححاح، إلا أن أهل العلم ممن السلف قالوا: لا يمنع العالم من أن يؤمر بالمعروف، وإن كان لا يأتيه ومن أن ينهي عن منكر وإن كان يأتيه، وهو حق، إذ لا يسلم من الذنب إلا المعصوم.
4 لأن من يعلم ليس كمن لا يعلم.
5 رواه أحمد وأبو داود.

4- فضلية الخشوع لله والتطامن له، وذكر الموت، والرجوع إلى الله تعالى للحساب والجزاء.
{يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(47) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ(48)}
شرح الكلمات:
{يَا بَنِي إِسْرائيلَ} : تقدم شرح هذه الجملة.
{فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ1} : آتاهم من النعم الدينية والدنيوية ما لم يؤت غيرهم من الناس وذلك على عهد موسى عليه السلام وفي آزمنة صلاحهم واستقامتهم.
{وَاتَّقُوا يَوْماً} : المراد باليوم: يوم القيامة بدليل ما وصف به. واتقاؤه: هو اتقاء ما يقع فيه من الأهوال والعذاب. وذلك الإيمان والعمل2 الصالح.
{لا تَجْزِي نَفْسٌ} : لا تغني نفس عن نفس أخرى أي غنى. ما دامت كافرة3.
{وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ4} : هذه النفس الكافرة إذ هي التي لا تنفعها شفاعة الشافعين.
{وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} : على فرض أنها تقدمت بعدل، وهو الفداء فإنه لا يؤخذ منها.
{وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} : يدفع العذاب عنهم.
معنى الآيتين:
ينادي الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل مطالباً إياهم بذكر نعمه عليهم ليشكروها بالإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وقبول ما جاء به من الدين الحق، وهو الإسلام، محذراً إياهم من عذاب يوم القيامة، آمراً لهم باتقائه بالإيمان وصالح الأعمال. لأنه يوم عظيم لا تقبل فيه شفاعة.
__________
1 المراد بالعالمين: عالمو زمانهم.
2 وترك الشرك، والمعاصي.
3 لأن أهل الإيمان والتوحيد وإن دخلوا النار يخرجون منها بشفاعة شافع أو بإيمانهم. بخلاف من مات كافراً أو مشركاً.
4 الشفاعة: ضم جاه إلى جاه ليحصل النفع للمشفوع له. والشفعة: ضم ملك إلى ملك، والشفع: الزوج مقابل الوتر، ولا تقبل شفاعة أحد يوم القيامة إلا بشرطين اثنين. الأول: أن يكون الشافع قد أذن الله تعالى له. في الشفاعة. والثاني: أن يكون المشفوع له ممن رضي الله قوله وعمله وهو المؤمن الموحد.

لكافرٍ، ولا يؤخذ منه عدل أي فداء، ولا ينصره بدفع العذاب عنه أحد.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- وجوب ذكر النعم لتشكر1 بحمد الله وطاعته.
2- وجوب اتقاء عذاب يوم القيامة بالإيمان والعمل الصالح بعد ترك الشرك والمعاصي
3- تقرير أن الشفاعة لا تكون لنفس كافرة. وأن الفداء يوم القيامة لا يقبل2 أبداً.
{وَإِذْ3 نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ(50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ(51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(53)}
شرح الكلمات:
النجاة : الخلاص من الهلكة؛ كالخلاص من الغرق، والخلاص من العذاب.
{آلِ فِرْعَوْنَ} : اتباع4 فرعون. وفرعون5 ملك مصر على عهد موسى عليه السلام.
{يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} : يبغونكم سوء العذاب وهو أشده وأفظعه ويذيقونكم إياه.
__________
1 شكر الله على نعمة يكون بالاعتراف بالنعمة وحمداً لله تعالى عليها، وصرفها فيما فيه رضاه سبحانه وتعالى.
2 لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} .
3 إذ ظرفية ويقدر لها العامل وهو: اذكروا إن نجيناكم. اذكروا إذ فرقنا بكم البحر..إلخ.
4 ممن هم على دين الباطل، من الأقباط المصريين وسواء كانوا أقارب له، أم أباعد ويشهد له حديث: "آل محمد كل تقي".
5 قيل أن فرعون مصر اسمه الوليد بن مصعب بن الريان.

وَيَسْتَحْيُونَ1 نِسَاءَكُمْ : يتركون ذبح البنات ليكبرن للخدمة، ويذبحون الأولاد خوفاً منهم إذا كبروا.
بلاء2 عظيم : ابتلاء وامتحان شديد لا يطاق.
{فَرَقْنَا3 بِكُمُ الْبَحْرَ4} : صيرناه فرقتين، وما بينهما يبس لا ماء فيه لتسلكوه فتنجوا، والبحر هو: بحر القلزم (الأحمر).
{اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} : عجل من ذهب صاغه لهم السامري ودعاهم إلى عبادته فعبده أكثرهم، وذلك في غيبة موسى عنهم.
الشكر : إظهار النعمة بالاعتراف بها وحمد الله تعالى عليها وصرفها في مرضاته.
{الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ5} : الكتاب: التوراة، والفرقان: المعجزات التي فرق الله تعالى بها بين الحق والباطل.
{تَهْتَدُونَ} : إلى معرفة الحق في كل شئونكم من أمور الدين والدنيا.
معنى الآيات:
تضمنت هذه الآيات الخمس أربع نعم عظمى أنعم الله تعالى بها على بني إسرائيل، وهي التي أمرهم بذكرها ليشكروه عليها بالإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ودينه الإسلام.
فالنعمة الأولى: انجاؤهم من فرعون وآله بتخليصهم من حكمهم الظالم وما كانوا يصبونه عليهم من ألوان العذاب. من ذلك: ذبح الذكور من أولادهم وترك البنات لاستخدامهن في المنازل كرقيقات.
__________
1 وقيل يكشفون عن حياء المرأة: أي: فرجها لينظروا هل هي حبلى أو لا؟ ليتمكنوا من قتل الذكور وإبقاء الإناث.
2 البلاء يكون بالخير والشر، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} الآية. وهو هنا كذلك فقد ابتلى بنو إسرائيل بالشر من قتل واستبعاد وبالخير من إنجائهم وإهلاك أعدائهم.
3 الفرق: الفصل بين الأشياء؛ كالفصل بين الحق والباطل، والفصل بين المجتمعين من كل شيء، والباء في فرقنا بكم البحر: للملابسة.
4 البحر: الماء المالح، والبلدة أيضاً، ومن الخيل الواسع الجري، فقد قال صلى الله عليه وسلم في فرس أبي طلحة: "وإن وجدناه لبحراً" . يعني واسع الجري.
5 الفرقان: لفظ عام يطلق على كل ما يفرق به بين الحق والباطل؛ كالمعجزات والآيات والعلوم الصحيحة.

والثانية : فلق البحر لهم وإغراق عدوهم بعد نجاتهم وهم ينظرون1.
والثالثة : عفوه تعالى عن أكبر زلة زلوها وجريمة اقترفوها، وهي اتخاذهم عجلا2 صناعياً إلهاً وعبادتهم له. فعفا تعالى عنهم ولم يؤاخذهم بالعذاب لعلة أن يشكروه تعالى بعبادته وحده دون سواه.
والرابعة : ما أكرم به نبيهم موسى عليه السلام من التوراة التي فيها الهدى والنور والمعجزات التي أبطلت باطل فرعون، وأحقت دعوة الحق التي جاء بها موسى عليه السلام.
هذه النعم هي محتوى الآيات الخمس، ومعرفتها معرفة لمعاني الآيات في الجملة اللهم إلا جملة {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} في الآية الأولى فإنها: إخبار بأن الذي حصل لبني إسرائيل من عذاب على أيدي فرعون وملئه إنما كان امتحاناً من الله واختباراً عظيماً لهم. كما أن الآية الثالثة فيها ذكر مواعدة الله تعالى لموسى بعد نجاة3 بني إسرائيل أربعين ليلة، وهي: القعدة وعشر الحجة ليعطيه التوراة يحكم4 بها بني إسرائيل فحدث في غيابه أن جمع السامري حُلي نساء بني إسرائيل وصنع منه عجلاً ودعاهم إلى عبادته فعبدوه فاستوجبوا العذاب إلا أن الله منّ عليهم بالعفو ليشكروه.
هداية الآيات:
من هداية هذه الآيات:
1- ذكر النعم يحمل5 على شكرها، والشكر هو الغاية من ذكر النعمة.
2- أن الله تعالى يبتلي عباده لحكم عالية فلا يجوز الاعتراض على الله تعالى فيما يبتلي به عباده.
3- الشرك ظلم6، لأنه وضع العبادة في غير موضعها.
__________
1 جملة: {َوَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} في الآيات حالية، وإن قيل الذين تم لهم هذا الإنعام هم من كانوا مع موسى عليه السلام، فكيف يخاطب به يهود اليوم. فالجواب: أن النعم على السلف نعم على الخلف.
2 القوم الذين مروا بهم فوجدوهم عاكفين على أصنام لهم هم قوم من الكنعانيين، وهم الفينيقيون سكان سواحل بلاد الشام إذ كانوا يعبدون عجلاً مقدساً لهم.
3 كان يوم نجاة بني إسرائيل يوم عاشوراء المحرم، لما في البخاري وغيره من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة مهاجراً وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم عن ذلك فقالوا: يوم صالح أنجى الله تعالى فيه بني إسرائيل. فصامه. رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه وقال: "نحن أحق بموسى منهم" أو كما قال.
4 ومما يؤسف ويحزن أن المسلمين لما ابتلاهم الله باستعمار النصارى لهم كانوا كلما استقل شعب أو إقليم طلب قانون الكافرين فحكم به المسلمين، وبنو إسرائيل لما استقلوا على يد موسى ذهب يأتيهم بقانون الرب ليحكمهم به.
5 ولذا كان مبدأ الشكر: الاعتراف بالنعمة أولاً، وهو ذكرها بالقلب، واللسان.
6 قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .

4- إرسال الرسل وإنزال الكتب الحكمة فيهما هداية الناس إلى معرفة ربهم وطريقة التقرب إليه ليعبدوه فيكملوا ويسعدوا في الحياتين.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ1 يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم(54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ(55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(57)}
شرح الكلمات:
ظلم النفس2 : تدسيتها بسيئة الجريمة.
{بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} : بجعلكم العجل الذي صاغه السامري من حلي نسائكم إلهاً عبدتموه.
البارئ : الخالق عز وجل.
{فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ 3} : أمرهم أن يقتل من لم يعبد العجل من4 عبدَه منهم وجعل ذلك توبتهم ففعلوا فتاب عليهم بقبول توبتهم.
{نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً 5} : نراه عياناً.
__________
1 لفظ القوم يراد به الرجال دون النساء كما في قوله تعالى: { لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ... وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} كقول زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
وقد يطلق على الرجال والنساء نحو قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} الآية.
2 أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ومرتكب الذنب بدل أن يزكي نفسه بعمل صالح دساها بعمل سيء فكان بذلك واضعاً شيئاً في غير موضعه، إذ المطلوب من العبد تزكية نفسه لتتأهل للكمال والإسعاد، لا تدسيتها لتخيب وتخسر.
3 قتل بعضهم بعضا: كان عقوبة لمن عبدوا العجل، ولمن لم يعبدوه؛ لأنهم ما غيروا المنكر وقد رأوه.
4 قال بعضهم: قتل النفس هنا تذليلها بالطاعات وكفها عن الشهوات وليس بصحيح.
5 أصل الجهر: الظهور ومنه: قرأ جهراً أي أي أظهر القراءة، وجهر مصدر جهر، وقرأ بفتح الهاء وإسكانها نحو زهرة، وزهرة ومعناه: علانية أو عياناً.

{الصَّاعِقَةُ} : نار محرقة التي تكون مع السحب والأمطار والرعود.
{بَعَثْنَاكُمْ} : أحييناكم1 بعد موتكم.
{الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} : المن: مادة لزجة حلوة كالعسل2، والسلوى: طائر يقال له السماني.
الطيبات : الحلال.
المناسبة ومعنى الآيات:
لما ذكر الله تعالى اليهود بما أنعم على أسلافهم مطالباً إياهم بشكرها فيؤمنوا برسوله. ذكرهم هنا ببعض ذنوب أسلافهم ليتعظوا فيؤمنوا، فذكرهم بحادثة اتخاذهم العجل إلهاً وعبادتهم له. وذلك بعد نجاتهم من آل فرعون وذهاب موسى لمناجاة الله تعالى، وتركه هارون خليفة له فيهم، فصنع السامري لهم عجلاً من ذهب وقال لهم هذا إلهكم وإله موسى فاعبدوه، فأطاعوه أكثرهم وعبدوا العجل، فكانوا مرتدين بذلك فجعل الله توبتهم من ردتهم أن يقتل من لم يعبد العجل من عبدَه فقتلوا منهم سبعين ألفاً، فكان ذلك توبتهم فتاب الله عليهم إنه هو التواب الرحيم، كما ذكرهم بحادثة أخرى وهي: إنه لما عبدوا العجل وكانت ردة اختار موسى بأمر الله تعالى منهم سبعين رجلاً من خيارهم ممن لم يتورطوا في جريمة عبادة العجل، وذهب بهم إلى جبل الطور ليعتذروا إلى ربهم سبحانه وتعالى من عبادة إخوانهم العجل فلما وصلوا قالوا لموسى اطلب لنا ربك أن يسمعنا كلامه، فأسمعهم قوله: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ} لا إله إلا أنا أخرجتكم من أرض مصر بيدٍ شديدة فاعبدوني ولا تعبدوا غيري. ولما أعلمهم موسى بأن الله تعالى جعل توبتهم وقتلهم أنفسهم، قالوا: لن نؤمن لك، أي لن نتابعك على قولك فيما ذكرت من توبتنا بقتل بعضنا بعضا حتى نرى الله جهرة، وكان هذا منهم ذنباً عظيماً لتكذيبهم رسولهم فغضب الله عليهم فأنزل عليهم صاعقة فأهلكتهم فماتوا واحداً واحداً وهم ينظرون ثم أحياهم تعالى بعد يوم وليلة، وذلك ليشكروه بعبادته وحده دون سواه كما ذكرهم بنعمة أخرى، وهي إكرامه لهم وإنعامه عليهم بتظليل الغمام عليهم، وإنزال المن
__________
1 إحيائهم بعد موتهم دليل على البعث الآخر، إذ كان موتهم بإخراج أرواحهم ولم يكن مجرد همود كما قيل.
2 وفي الحديث الذي رواه مسلم: الكمأه من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل وماؤها شفاء للعين.

والسلوى1 أيام حادثة التيه في صحراء سيناء وفي قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} إشارة إلى أن محنة التيه كانت عقوبة لهم على تركهم الجهاد وجرأتهم على نبيهم إذ قالوا له: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} . وما ظلمهم2 في محنة التيه، ولكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- عبادة المؤمن غير الله وهو يعلم أنها عبادة لغير الله تعالى تعتبر ردة منه3، وشركاً.
2- مشروعية قتال المرتدين، وفي الحديث: "من بدل دينه فاقتلوه"، ولكن بعد استتابته.
3- علة الحياة كلها شكر الله تعالى4 بعبادته وحده.
4- الحلال، من المطاعم والمشارب وغيرها، ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله عز وجل.
{وَإِذْ5 قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ(58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً
__________
1 السلوى: اسم جنس جمعي واحده: سلواه، وقيل: لا واحد له، وهو طائر بري لذيذ اللحم سهل الصيد، تسوقه لهم ريح الجنوب كل مساء، ويسمى أيضا: السماني كالحباري.
2 وفي قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} تقديم المفعول وهو أنفسهم على الفاعل وهو الضمير في يظلمون لإفادة القصر، وهو قصر ظلمهم على أنفسهم حيث لم يتجاوز إلى غيرهم لا موسى ولا ربه تعالى.
3 بدليل أمر الله بني إسرائيل بأن يقتل من لم يعبد العجل من عبده لأنه في حكم المرتد، والمرتد يقتل لحديث الصحيح: "من بدل دينه فاقتلوه" .
4 دل عليه قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ} أي أحييناكم بعد موتكم لعلكم تشكرون، وأصرح قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} والعبادة هي الشكر.
5 ذهب الشيخ محمد طاهر ابن عاشور، صاحب تفسير "التحرير والتنوير" إلى أن القائل لبني إسرائيل: {ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ..} الآية. هو موسى عليه السلام وأن هذا الأمر كان في بداية أمرهم لما خرجوا من مصر، وأن الذين ظلموا منهم هم: عشرة رجال من اثنا عشر بعث بهم موسى عليه السلام جواسيس يكتشفون أمر العدو ويقدرون قوته قبل إعلان الحرب عليهم، فرجعوا وهم يهولون من شأن العدو وقوته، وينشرون الفزع والرعب في بني إسرائيل ما عدا اثنين منهم، وهما: يوشع ابن نون قريب موسى، وطالب بن بقتة، الذين ذكرا في سورة المائدة: {قَالَ رَجُلانِ..} الآية، وخالف في هذا جمهور المفسرين، وادعى الغلط لهم، وما حمله على ذلك سوى أن السياق ما زال مع موسى وقومه مع أن الله تعالى لم يذكر موسى بل قال: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} والرسول صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري قال: قيل لبني إسرائيل ولم يقل قال موسى لبني إسرائيل، ونص الحديث: "قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً قولوا حطة يغفر لكم خطاياكم فبدلوا وقالوا: حطة حبة في شعرة" . والأمر لهم حقيقة. هو الله تعالى على لسان يوشع، إذ هو الذي قاد الحملة ونصره الله، ودخل بيت المقدس، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم شاهدة.

غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(59)}
شرح الكلمات:
{الْقَرْيَةَ 1} : مدينة القدس.
{رَغَداً} : عيشاً واسعاً هنيئاً.
{سُجَّداً} : ركعاً2 متطامنين لله، خاضعين شكراً لله على نجاتهم من التيه.
{حِطَّةٌ} : حطة3: فعلة مثل ردة، وحدة من ردت وحددت، أمرهم أن يقولوا حطة بمعنى أحطط عنا خطايانا ورفع (حطة) 4 على إنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: دخولنا الباب سجداً حطة لذنوبنا
{نَغْفِرْ} : نمحو ونستر.
{خَطَايَاكُمْ} : الخطايا: جمعة خطيئة5: الذنب يقترفه العبد.
{فَبَدَّلَ} غيروا6 القول الذي قيل لهم قولوه وهو حطة فقالوا: حبة في شعره7.
{رِجْزاً 8} : وباء الطاعون.
{يَفْسُقُونَ} : يخرجون عن طاعة الله ورسوله إليهم، وهو يوشع عليه السلام.
معنى الآيتين:
تضمنت الآية الأولى (58) تذكير اليهود بحادثة عظيمة حدثت لأسلافهم تجلت فيها
__________
1 سميت المدينة قرية: من التقري الذي هو التجمع مأخوذ من قريت الماء في الحوض، إذ جمعته، ومنه قرى الضيف، وهو ما يجمع له من طعام وشراب، وفراش.
2 لأن السجود الذي هو وضع الجبهة على الأرض متعذر المشي معه، فلذا فسر السجود بانحناء الركوع في تطامن وخضوع.
3 يوجد باب حطة اليوم في المسجد الأقصى.
4 وقرأ حطة بالنصب على تقدير أحطط عنا ذنوبنا حطة.
5 المفروض أن تجمع خطيئة على خطائئي، نحو حميلة وحمائل، ولكنهم استثقلوا الجمع بين همزتين فقلبوا الهمزة الأولى ياء والثانية ألفاً فصارت خطايا.
6 من هذا أخذ حرمة تبديل لفظ تعبدنا الله به بلفظ أخر ولو أتى معناه مثل: الله أكبر في افتتاح الصلاة، والسلام عليكم في الخروج منها. وما لم يتعبدن الله بلفظ يجوز للعالم تبديله وذلك كرواية الحديث بالمعنى للعالم دون الجاهل وعليه جمهور الأمة.
7 و (في شعرة) كنوا بهذا عن كون فتحهم البلاد، ودخولهم إياها من المحال كالذي يحاول ربط حبة في شعرة.
8 والرجس: بالسين عذاب فيه نتن وعفونة وقذر.

نعمة الله على بني إسرائيل وهي: حال تستوجب الشكر، وذلك إنهم لما انتهت مدة التيه وكان قد مات كل من: موسى وهارون، وخلفهم في بني إسرائيل فتى موسى يوشع بن نون، وغزا بهم العمالقة وفتح الله تعالى عليهم بلاد القدس أمرهم الله تعالى أمر إكرام وإنعام فقال ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا. واشكروا لي هذه الأنعام بأن تدخلوا باب المدينة راكعين متطامنين قائلين. دخولنا الباب سجداً حطة لذنوبنا التي اقترفناها بنقولنا عن الجهاد على عهد موسى وهارون. نثبكم بمغفرة ذنوبكم ونزيد المحسنين منكم ثواباً كما تضمنت الآية الثانية(59) حادثة أخرى تجلت فيها حقيقة سوء طباع اليهود وكثرة رعوناتهم وذلك بتغييرهم الفعل الذي أمروا به والقول الذي قيل لهم فدخلوا الباب زاحفين على أستاههم قائلين: حبة في شعيرة!! ومن ثم انتقم الله منهم فانزل على الظالمين منهم طاعوناً أفنى منهم خلقاً كثيراً جزاء فسقهم عن أمر الله عز وجل. وكان فيما ذكر عظة لليهود لو كانوا يتعظون.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- تذكير الأبناء بأيام1 الآباء للعظة والاعتبار.
2- ترك الجهاد إذا وجب يسبب2 للأمة الذل والخسران.
3- التحذير عن عاقبة الظلم والفسق والتمرد على أوامر الشارع.
4- حرمة3 تأويل النصوص الشرعية للخروج بها عن مراد الشارع منها.
5- فضيلة الإحسان4 في القول والعمل.
__________
1 المراد بالأيام: ما وقع فيها من خير وغيره، ثمرة كسبهم ونتاج أعمالهم بالطاعة لله تعالى، أو المعصية لله عز وجل.
2 يشهد له حديث أبي داود وأحمد إذ فيه وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء لا يرفعه حتى يراجعوا دينهم.
3 كتأويل الروافض، لفظ: بقرة بعائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وكتأويل بعض المعاصرين إن ربا البنوك ليس هو ربا الجاهلية الحرام.
4 المحسن: من صح عقد توحيده، وأحسن سياسة نفسه، وأقبل على أداء فرضه، وكفى المسلمين شره. هكذا عرفه بعضهم، وأقرب من هذا، المحسن: من راقب الله تعالى في نياته، ومعتقداته، وأقواله، وأفعاله فأحسن في ذلك كله ولم يسيء فيه وبذل المعروف للناس، ولم يسيء إليهم، وحسب الإحسان فضيلة أن الله يحب المحسنين، ومن أحبه الله أسعده وما أشقاه.

{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ(60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(61)}
شرح الكلمات:
اسْتَسْقَى : طلب لهم من الله تعالى السقيا أي: الماء للشرب وغيره.
بِعَصَاكَ الْحَجَرَ : عصا موسى التي كانت معه منذ خرج من بلاد مدين. وهل هي من شجر الجنة هبط بها آدم، كذا قيل والله أعلم. والحجر هو حجر مربع الشكل من نوع الكذان رخو كالمدر. وهل هو الذي فر بثوب موسى في حادثة1 معروفة، كذا قيل، أو هو حجر من سائر الأحجار2؟ الله أعلم.
__________
1 هذه الحادثة كما هي في الصحيح: أن موسى عليه السلام اتهمه قوم: بالأدرة: (انتفاخ في إحدى الخصيتين). فأراد الله تعالى أن يبرئه منها، فدخل موسى البحر يغتسل، ووضع ثوبه على حجر ففر الحجر بالثوب فلحقه موسى فمر به بني إسرائيل حتى أن علموا أن تهمته باطلة.
2 كون ال في الحجر لبيان الجنس وأن أي: حجر يضربه موسى يتفجر منه الماء أظهر في المعجزة وأدل على قدرة الله تعالى.

{فَانْفَجَرَتْ} : الانفجار: الانفلاق فانفجرت: انفلقت من العصا العيون.
{مَشْرَبَهُمْ} : موضع شربهم.
{رِزْقِ اللَّهِ} : ما رزق الله به العباد من سائر الأغذية.
{وَلا تَعْثَوْا} : العَثَيّ والعِثِيّ: أكبر الفساد وفعله عثي كرضي، يعثي كيرضي، وعثا يعثو، كعدا يعدو.
{مُفْسِدِينَ} : الإفساد: العمل بغير طاعة الله ورسوله في كل مجالات الحياة.
البقل : وجمعه البقول: سائر أنواع الخضر؛ كالجزر والخردل والبطاطس، ونحوها.
القثاء : الخيار والقتة، ونحوهما.
الفوم : الفوم: الحنطة، وقيل: الثوم لذكر البصل1 بعده.
{أَتَسْتَبْدِلُونَ} : الإستبدال: ترك شيء وأخذ آخر بدلاً عنه.
{أَدْنَى} : أقل صلاحاً وخيرية ومنافع؛ كاستبدال المن والسلوى بالفوم والبقل.
{مِصْراً} : مدينة من2 المدن، قيل لهم هذا وهم في التيه؛ كالتعجيز لهم والتحدي لأنهم نكلوا عن قتال الجبارين فأصيبوا بالتيه وحرموا خيرات مدينة القدس وفلسطين.
{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} : أحاطت بهم ولازمتهم الذلة وهي الصغار والاحتقار.
{وَالْمَسْكَنَةُ} : والمسكنة: وهي الفقر والمهانة.
{وَبَاءُوا بِغَضَبٍ} : رجعوا من طول عملهم وكثرة كسبهم بغضب الله وسخطه عليهم وبئس ما رجعوا به.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} : ذلك إشارة إلى ما أصابهم3. من الذلة والمسكنة والغضب وبأنهم أي بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء وعصيانهم، فالباء سببية.
الاعتداء : مجاوزة الحق إلى الباطل، والمعروف إلى المنكر والعدل إلى الظلم.
__________
1 لأن إبدال التاء فاء شائع.
2 هذا بناءاً على صرف مصر إذ هو منون منصوب، ولو أريد به مصر التي خرجوا منها لقرئ مصر ممنوعاً من الصرف للعلمية والتأنيث.
3 هذا عام في اليهود المعاصرين للدعوة الإسلامية، ومن قبلهم، ومن يأتي بعدهم، لأن التعليل كان بكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء، والكل موافق راب بهذه الجرائم، وعصيانهم واعتدائهم ملازم لهم ما فارقهم إلى اليوم.

معنى الآيتين:
يُذكر الله تعالى اليهود المعاصرين لنزول القرآن بالمدينة النبوية بأياديه في أسلافهم وأيامه عز وجل فيهم وفي الآية الأولى رقم(60) ذكرهم بأنهم لما عطشوا في التيه، استسقى1 موسى ربه فسقاهم بأمر خارق للعادة، ليكون لهم ذلك آية ليلزموا الإيمان والطاعة وهو أن يضرب موسى عليه السلام بعصاه الحجر2 فيتفجر الماء منه من اثنا عشر موضعاً كل موضع يمثل عيناً يشرب منها سبط3 من أسباطهم الإثنى عشر حتى لا يتزاحموا فيتضرروا، أكرمهم الله بهذه النعمة، ونهاهم عن الفساد في الأرض بارتكاب المعاصي.
وفي الآية الثانية(61) ذكرهم بسوء أخلاق كانت في سلفهم، منها: عدم الصبر، والتعنت، وسوء التدبير، والجهالة بالخير، والرعونة، وغيرها. وهذا ظاهر في قولهم يا موسى بدل يا نبي الله أو رسول الله لن نصبر على طعام واحد. وقولهم: إدع لنا ربك بدل ادع الله تعالى لنا، أو ادع لنا ربنا عز وجل. وفي مللهم اللحم والعسل وطلبهم الفوم والبصل بدلاً عنهما وفي قول موسى عليه السلام: تستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير4 ما يقرر ذلك كما ذكرهم بالعاقبة المرة التي كانت لهم نتيجة كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء، واعتدائهم وعصيانهم، وهي: أن ضرب5 الله تعالى عليهم الذلة والمسكنة وغضب عليهم.
كل هذا وغيره مما ذكَّر الله تعالى اليهود به في كتابه من أجل أن يذكروا فيتعظوا ويشكروا، فيؤمنوا بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ويدخلوا في دينه، فيكملوا ويسعدوا بعد أن ينجوا مما حاق بهم من الذلة والمسكنة والغضب في الدنيا، ومن عذاب النار يوم القيامة.
هداية الآتيتين:
من هداية الآيتين:
1- استحسان الوعظ والتذكير بنعم الله تعالى ونقمه في الناس.
__________
1 في الآية مشروعية الاستسقاء وهو سنة مؤكدة في الإسلام، فقد استسقى النبي صلى الله عليه وسلم وسقى الله الأمة بدعائه غير مرة.
2 انفجار الماء من الحجر معجزة عظيمة، وانفجار الماء من بين أصابع النبي محمد صلى الله عليه وسلم معجزة أعظم، لأن انفجار الماء من الأحجار معهود معروف ولكن من أصابع هي لحم ودم غير معهود قط.
3 السبط: في بني إسرائيل كالقبيلة عند العرب.
4 في قوله: {أَتَسْتَبْدِلُونَ} إلخ. إنكار عليهم وتوبيخ لهم.
5 إحاطة الزل والمسكنة بهم ذكر في آية آل عمران مقيداً بما لم يكن لهم حبل من الله: وهو الدخول في الإسلام، وحبل من الناس: وهو حماية دولة قوية لهم؛ كبريطانيا أولاً، وأمريكا ثانياً.

2- مطالبة ذي النعمة بشكرها1، وذلك بطاعة الله تعالى بفعل أوامره. وترك نواهيه.
3- ذم الأخلاق السيئة والتنديد بأهلها للعظة والاعتبار.
4- التنديد بكبائر الذنوب؛ كالكفر، وقتل النفس بغير الحق لا سيما قتل الأنبياء أو خلفائهم وهم العلماء الآمرون بالعدل في الآمة.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)}
شرح الكلمات:
{الَّذِينَ آمَنُوا 2} : هم المسلمون آمنوا بالله ووحده وآمنوا برسوله واتبعوه.
{وَالَّذِينَ هَادُوا} : هم اليهود سموا3 يهوداً لقولهم: إنا هدنا إليك، أي: تبنا ورجعنا.
{وَالنَّصَارَى} : الصليبيون سموا نصارى: إما لأنهم يتناصرون أو لنزول مريم بولدها عيسى قرية الناصرة، والواحد: نصران4 أو نصراني وهو الشائع على الألسنة.
{وَالصَّابِئِينَ} : أمة كانت بالموصل يقولون لا إله إلا الله. ويقرأون الزبور. ليسوا يهودا ولا نصارى، واحدهم صابئ5، ولذا كانت قريش تقول لمن قال لا إله إلا الله: صابئ، أي مائل عن دين آبائه إلى دين جديد وحّدَ فيه الله تعالى.
__________
1 كما قيل: من لم يشكر النعم تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها.
2 يرى بعض المفسرين أن المراد (بالذين آمنوا): المنافقون، والصحيح ما ذكرناه وهم المسلمون، وسموا بالمؤمنين لصحة إيمانهم، والفائدة من ذكره هي: ليعلم اليهود وغيرهم أن النسب والانتساب إلى الدين لا يؤهل للسعادة في الدار الآخرة، وإنما يؤهل الإيمان الصحيح والعمل الصالح، إذ بهما تزكوا النفس وتطهر فتتأهل لجوار الله تعالى في الملكوت الأعلى.
3 أو نسبة إلى يهوداً وهو أكبر أولاد يعقوب عليه السلام.
4 نصرن على وزن سكران، والجمع: نصارى؛ كسكارى.
5 قرئ بالتخفيف: الصابين، وهي قراءة وارش عن نافع.

مناسبة الآية ومعناها:
لما كانت الآية في سياق دعوة اليهود إلى الإسلام ناسب أن يعلموا أن النسب لا قيمة لها وإنما العبرة بالإيمان الصحيح والعمل الصالح المزكي للروح البشرية والمطهر لها، فلذا المسلمون واليهود والنصارى والصابئون1 وغيرهم؛ كالمجوس وسائر أهل الأديان من آمن منهم بالله واليوم الآخر حق الإيمان وعمل صالحاً مما شرع الله تعالى من عبادات فلا خوف عليهم بعد توبتهم، ولا حزن ينتابهم عند موتهم من أجل ما تركوا من الدنيا، إذ الآخرة خير وأبقى.
والإيمان الصحيح لا يتم لأحد إلا بالإيمان بالنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم والعمل الصالح لا يكون إلا بما جاء به النبي الخاتم في كتابه وما أوحى إليه، إذ بشريعته نسخ الله سائر الشرائع قبله وبالنسخ بطل مفعولها فهي لا تزكي النفس ولا تطهرها. والسعادة الآخروية متوقفة على زكاة النفس2 وطهارتها.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- العبرة بالحقائق لا بالألفاظ، فالمنافق إذا قال هو مؤمن أو مسلم، ولم يؤمن بقلبه ولم يسلم بجوارحه لا تغني النسبة عنه شيئاً، واليهودي والنصراني والصابئ، وكل ذي دين نسبته إلى دين قد نسخ وبطل العمل بما فيه فأصبح لا يزكي النفس، هذه النسبة لا تنفعه، وإنما الذي ينفع الإيمان الصحيح والعمل الصالح.
2- أهل الإيمان الصحيح والإستقامة على شرع الله الحق مبشرون بنفي الخوف عنهم والحزن وإذا انتفى الخوف حصل الأمن، وإذا انتفى الحزن حصل السرور والفرح وتلك السعادة.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ3 وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ
__________
1 عامة أهل العلم على أن الصابئة ليسوا أهل كتاب فلا تنكح نسائهم ولا تؤكل ذبائحهم؛ لأنهم وثنيون ولا كتاب لهم على الصحيح.
2 لقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} .
3 مأخوذ من وثق الشيء بالحبل إذا شده به تقوية له.

بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا1 مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ2 اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ(64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا3 قِرَدَةً خَاسِئِينَ(65) فَجَعَلْنَاهَا4 نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ(66)}
شرح الكلمات:
الميثاق : العهد المؤكد باليمين.
{الطُّورَ} : جبل. أو هو الجبل الذي ناجى الله تعالى عليه موسى عليه السلام
{بِقُوَّةٍ} : بجد وحزم وعزم.
{تَوَلَّيْتُمْ} : رجعتم عما التزمتم القيام به من العمل بما في التوراة.
{اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} : تجاوزوا الحد فيه حيث حرم عليهم الصيد فيه فصادوا.
{قِرَدَةً} : القردة: جمع قرد، حيوان معروف مسخ الله تعالى المعتدين في السبت على نحوه
__________
1 أي اذكروا ما تضمنه الكتاب الذي هو التوراة، اذكروا حفظاً لشرائعه وأحكامه وعملاً به، واذكروا وعد الله تعالى فيه ووعيده رجاء أن تحصل لكم التقوى فتنجوا من الخسران.
2 من فضل الله تعالى عليهم إنه لم يعاجلهم بالعقوبة جزاء توليهم عن الطاعة، وإعراضهم عنها بعد أخذ الميثاق عليهم، ومن رحمته أنه في أرسل فيهم الرسل فلم تنقطع سلسلتهم إلى عيسى ابن مريم عليه السلام.
3 الأمر هنا: كوني لا شرعي إذ لا طاقة لهم على التحول إلى قردة، وإنما تحولوا بأمره الإيرادي الكوني الذي لا يتخلف فيه مراده عز وجل.
4 الضمير في قوله: {فَجَعَلْنَاهَا} يعود إلى العقوبة التي هي مسخهم قردة.

{خَاسِئِينَ} : مبعدين عن الخير ذليلين مهانين.
{نَكَالاً} : عقوبة شديدة تمنع من رآها أو علمها من فعل ما كانت سبباً فيه
{لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} : لما بين يدي العقوبة من الناس، ولمن يأتي بعدهم.
{وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ1} : يتعظون2 بها فلا يقدمون على معاصي الله عز وجل.
معنى الآيات:
يذكر الحق عز وجل اليهود بما كان لأسلافهم من أحداث لعلهم يعتبرون فيذكرهم بحادثة امتناعهم من تحمل العمل بالتوراة، وإصرارهم على ذلك حتى رفع الله تعالى فوقهم جبلاً فأصبح كالظلة فوق رؤسهم، حينئذ أذعنوا غير أنهم تراجعوا بعد ذلك ولم يفوا بما التزموا به فاستوجبوا الخسران لولا رحمة الله بهم.
كما يذكرهم بجريمة كانت لبعض أسلافهم وهي أنه تعالى حرم عليهم الصيد يوم السبت فاحتالت طائفة منهم على الشرع واصطادوا فنكل الله تعالى بهم فمسخهم3 قردة، وجعلهم عظة وعبرة للمعتبرين4.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق.
2- يجب أخذ أحكام الشرع بحزم، وذكرها وعدم نسيانها أو تناسيها.
3- لا تتم التقوى لعبد إلا إذا أخذ أحكام الشرع بحزم وعزم.
4- حرمة5 الاحتيال لإباحة المحرم وسوء عاقبة المحتالين المعتدين.
__________
1 يمتنعون من فعل الذنب الذي كان سبباً في العقوبة.
2 خص المتقين بالموعظة؛ لأنهم أحياء القلوب وذووا بصائر نيرة، فيشاهدون آثار المعاصي في أصحابها فيتقونها ويبتعدون عنها.
3 جرت سنة الله فيمن يسمخهم إنهم لا يعيشون ثلاثاً حتى يهلكوا ولم يبقى منهم أحد، كذا صح عن ابن عباس رضي الله عنه.
4 هم أهل البصائر من أهل الإيمان والتقوى، إذ هم أرباب العقول، والعاقل من اعتبر بغيره.
5 روى أحمد بسند جيد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل" .

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ1(67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ(68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ(69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ(70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ(71)}
شرح الكلمات:
البقرة : واحدة البقر، والذكر ثور، والأنثى بقرة.
الذبح: قطع الودجين والمارن.
الهزؤ : السخرية واللعب.
الجاهل2 : الذي يقول أو يفعل ما لا ينبغي قوله أو فعله.
__________
1 استعاذ موسى بالله أن يكون من الجاهلين، إذ الهزوء والسخرية، من أفعال أهل الجهل فكان قول موسى هذا وصماً لهم بالجهل وفساد العقل. وسوء الأخلاق.
2 الجاهل الذي جهل الأمر فقال أو عمل فيه بدون علم فأفسد وأساء.

الفارض1 : المسنة. والبكر الصغيرة التي لم تلد بعد. والعوان: النصف وسط بين المسنة والصغيرة.
فاقع : يقال: أصفر فاقع شديدة الصفرة؛ كأحمر قاني، وأبيض ناصع2
الذلول : الريضة التي زالت صعوبتها فأصبحت سهلة منقادة.
{تُثِيرُ الأَرْضَ} : تقلبها بالمحراث فيثور غبارها بمعنى: أنها لم تستعمل في الحرث ولا في سقاية الزرع أي لم يُسن عليها، وذلك لصغرها.
{مسلَّمة} : سليمة من العيوب؛ كالعور والعرج3.
{لا شِيَةَ فِيهَا} : الشية: العلامة أي لا توجد فيها لون غير لونها4 من سواد أو بياض.
معنى الآيات:
واذكر يا رسولنا لهؤلاء اليهود عيباً آخر من عيوب أسلافهم الذين يعتزون بهم وهو سوء سلوكهم مع أنبيائهم فيكون توبيخاً لهم لعلهم يرجعون عن غيهم فيؤمنوا بك وبما جئت به من الهدى ودين الحق. اذكر لهم قصة الرجل الذي قتله ابن أخيه استعجالاً لإرثه ثم ألقاه تعمية في حي غير الحي الذي هو منه، ولما اختلفوا في القاتل، قالوا نذهب إلى موسى يدعو لنا ربه ليبين لنا من هو القاتل فجاءوه، فقال لهم: إن الله تعالى يأمركم أن تذبحوا بقرة من أجل أن يضربوا القتيل بجزء منها فينطق مبيناً من قتله فلما قال لهم ذلك، قالوا: أتتخذنا هزواً، فوصفوا نبي الله بالسخرية واللعب، وهذا ذنب قبيح وما زالوا يسألونه عن البقرة ويتشددون، حتى شدد الله تعالى عليهم الأمر الذي كادوا معه لا يذبحون مع أنهم لو تناولوا بقرة من عرض الشارع وذبحوها لكفتهم5. ولكن شددوا فشدد الله عليهم فعثروا على البقرة المطلوبة بعد جهد جهيد وغالى فيها صاحبها فباعها منهم بملء جلدها ذهباً.
__________
1 الفارض: المسنة التي فرضت سنها فقطعته، لأن الفرض لغة القطع.
2 هذه الألفاظ يؤتي بها لتأكيد الوصف، فيقال: أخضر مدهام، وأورق خطباني "الخطباني، نبت".
3 استدل الجمهور بهذه الصفات المذكورة للبقرة على جواز بيع السلم في الحيوان، كما استدلوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح: "لا تنعت المرأة المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها" ، وخالف أبو حنيفة بعدم صحة السلم في الحيوان.
4 لأن الشية مأخوذة من وشي الثوب إذا نسج على لونين، ولذا قيل النمام واش؛ لأنه لون الكلام بألوان من كذبه وباطله.
5 نقل ابن كثير عن ابن جرير الرواية التالية: إنما أمروا بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا، شدد الله عليهم، وأيم الله لو أنهم لم يتثنوا لما بينت لهم آخر الدهر.

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان ما كان عليه قوم موسى من بني إسرائيل من العجرفة وسوء الأخلاق، ليتجنب مثلها المسلمون.
2- حرمة الاعتراض على الشارع ووجوب تسليم أمره أو نهيه ولو لم تعرف فائدة الأمر والنهي وعلتها.
3- الندب إلى الأخذ بالمتيسر وكراهة1 التشدد في الأمور.
4- بيان فائدة الاستثناء بقول: إن شاء الله، إذ لو لم يقل اليهود: إن شاء2 الله لمهتدون ما كانوا ليهتدوا إلى معرفة البقرة المطلوبة.
5- ينبغي تحاشي الكلمات التي قد يفهم منها انتقاص الأنبياء مثل قولهم: الآن جئت بالحق، إذ مفهومه أنه ما جاءهم بالحق إلا في هذه المرة من عدة مرات سبقت!!.
{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ(72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي3 اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ4 أَشَدُّ قَسْوَةً5 وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنّ
__________
1 وشاهده من السنة قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: "يسروا ولا تعسروا، بشروا ولا تنفروا" ، وقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين". رواه الترمذي.
2 يشهد لصحة هذا أن نبي الله سليمان لما لم يتثن لم تلد له امرأة من المائة إلا واحدة، وجاءت به نصف ولد، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو استثنى لكان دركاً لحاجته "، كما في البخاري.
3 لما كانت عقيدة البعث والجزاء ذات تأثير كبير في إصلاح الإنسان خلقاً وسلوكاً ذكرها تعالى في أثناء سياق القصة مع أن اليهود مؤمنون بالبعث الآخر.
4 أو: بمعنى الواو وليست لشك، وقد تكون بمعنى بل، وشاهد الأول: قول الشاعر:
أتى الخلافة أو كانت له قدراً
بمعنى وكانت وشاهد الثاني: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}. الآية: أي: بل يزيدون لاستحالة الشك على الله تعالى.
5 القسوة في عرف اللغة: اليبس والصلابة، ووصفت قلوب اليهود بذلك؛ لأنها خالية من اللطف والرحمة.

مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(74)}
شرح الكلمات:
{نَفْساً} : نفس الرجل الذي قتله وارثه استعجالاً للإرث.
{فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} : تدافعتم أمر قتلها كل قبيل يقول قتلها القبيل الآخر.
{مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} : من أمر القاتل ستراً عليه دفعاً للعقوبة والفضيحة.
{بِبَعْضِهَا} : ببعض أجزاء البقرة كلسانها أو رجلها مثلاً.
معنى الآيات:
يقول تعالى لليهود موبخاً لهم اذكروا إذ قتل أحد أسلافكم قريبه ليرثه، فاختصم في شأن القتل كل جماعة تنفي أن يكون القاتل منها، والحال أن الله تعالى مظهر ما تكتمونه لا محالة إحقاقاً للحق وفضيحة للقاتلين، فأمركم أن تضربوا القتيل ببعض أجزاء البقرة، فيحيا ويخبر عن قاتله ففعلتم وأحيا الله القتيل وأخبر بقاتله1 فقتل به، فأراكم الله تعالى بهذه القصة آية من آياته الدالة على حلمه وعلمه وقدرته، وكان المفروض أن تعقلوا عن الله آياته فتكملوا في إيمانكم وأخلاقكم وطاعتكم، ولكن بدل هذا قست قلوبكم وتحجرت وأصبحت أشد قساوة من الحجارة فهي لا ترق ولا تلين ولا تخشع على عكس الحجارة، إذ منها ما تتفجر منه العيون، ومنها ما يلين فيهبط من خشية الله؛ كما اندك جبل الطور لما تجلى له الرب تعالى، وكما أضطرب أحد تحت قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ثم توعدكم الرب تعالى بأنه ليس بغافل عما تعملون من الذنوب والآثام، وسيجزيكم به جزاء عادلاً إن لم تتوبوا إليه وتنيبوا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- صدق نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وتقريرها أمام اليهود، إذ يخبرهم بأمور جرت لأسلافهم لم
__________
1 في هذه الآية شاهد لمالك في أن الجريح إذا أخبر عن جرحه. ومات آن إخباره يعد لوثاً وتجري في الحادث القسامة، وخالفه الجمهور وقالوا: إخبار القتيل لا يكفي في وجود اللوث المقتضي للقسامة، ولرأي مالك شاهد من السنة، وهي الجارية التي رض رأسها كما في البخاري.

يكن يعلمها، غيرهم وذلك إقامة الحجة عليهم.
2- الكشف عن نفسيات اليهود وإنهم يتوارثون الرعونات والمكر والخداع.
3- اليهود من أقسى البشر قلوباً إلى اليوم، إذ كل عام يرمون البشرية بقاصمة الظهر وهم ضاحكون.
4- من علامات الشقاء: قساوة القلوب، وفي الحديث: "من لا يرحم لا يرحم" 1.
{أَفَتَطْمَعُونَ2 أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ3 وَهُمْ يَعْلَمُونَ(75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ(76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ(77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ(78)}
شرح الكلمات:
{أَفَتَطْمَعُونَ} : الهمزة للإنكار الاستبعادي، والطمع: تعلق النفس بالشيء رغبة فيه.
{يُؤْمِنُوا لَكُمْ} : يتابعونكم على دينكم (الإسلام).
{كَلامَ اللَّهِ4} : في كتبه؛ كالتوراة والإنجيل والقرآن.
{يُحَرِّفُونَهُ 5} : التحريف: الميل بالكلام على وجه لا يدل على معناه كما قالوا في نعت
__________
1 متفق عليه.
2 الطمع والرجاء، وهو ترقب شيء محبوب وضدها اليأس.
3 أي: فهموه فهماً جلياً واضحاً ومع هذا يجافونه على بصيرة.
4 ويدخل في الجملة: الذين سمعوا كلام الله مع موسى عليه السلام في جبل الطور وهم السبعون الذين اختارهم موسى وخرج بهم إلى الطور طلباً لتوبتهم.
5 التحريف: مصدر حرف الشيء إذا مال به إلى الحرف الذي هو الطرف والبعد عن وسط الجادة.

الرسول صلى الله عليه وسلم في التوراة: أكحل العينين ربعة، جعد الشعر، حسن الوجه، قالوا: طويل أزرق العينين، سبط الشعر.
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا}: إذا لقي منافقوا اليهود المؤمنين قالوا: آمنا بنبيكم ودينكم.
{أَتُحَدِّثُونَهُمْ} : الهمزة: للإستفهام الانكاري، وتحديثهم إخبار المؤمنين بنعوت النبي في التوراة.
{بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} : إذا خلا منافقوا اليهود برؤسائهم أنكروا عليهم إخبارهم المؤمنين بنعوت النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة، وهو مما فتح1 الله به عليهم ولم يعلمه غيرهم.
{لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ} : يقولون لهم لا تخبروا المؤمنين بما خصكم الله به من العلم حتى لا يحتجوا عليكم به، فيغلبوكم وتقوم الحجة عليكم فيعذبكم الله2.
{أُمِّيُّونَ} : الأمي: المنسوب إلى أمة كأنه ما زال في حجر أمه لم يفارقه، فلذا هو لم يتعلم الكتابة والقراءة3.
{أَمَانِيَّ} : الأماني: جمع أمنية وهي إما ما يتمناه المرء في نفسه من شيء يريد الحصول عليه، وإما القراءة من تمنى الكتاب إذا قرأه4.
معنى الآيات:
ينكر تعالى على المؤمنين طمعهم في إيمان اليهود لهم بنبيهم ودينهم، ويذكر وجه استبعاده بما عرف به اليهود سلفاً وخلفاً من الغش والاحتيال بتحريف الكلام وتبديله، تعمية وتضليلاً حتى لا يُهتدى إلى وجه الحق فيه، ومن كان هذا حاله يبعد جداً تخلصه من النفاق والكذب وكتمان الحق {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} وهم كاذبون وإذا خلا بعضهم ببعض أنكروا
__________
1 من الجائز أن يكون معنى بما فتح الله به عليهم، أي: قضى وحكم من إنزال المصائب بهم والكوارث باسلافهم وهي كثيرة؛ لأن فتح تكون بمعنى حكم ومنه قوله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَق} أي: أحكم.
2 هذا الكلام جارٍ على عقيدة اليهود في تشبيههم الرب تعالى بحكام البشر في رواج الحيل عليه، وإمكان مغالطته وإنه تعالى يوجد الشيء ثم يندم ويأسف كما هو صريح في التوراة فلذا أنكروا على بعضهم إخبار المؤمنين بصدق النبوة المحمدية مخافة أن يحتجوا عليهم يوم القيامة بذلك.
3 وجائز أن يكون منسوباً إلى الأمة فيكون بمعنى العامي المنسوب إلى العامة.
4 وشاهده قول الشاعر في عثمان رضي الله عنه:
تمنى كتاب الله أول ليلة ... وآخره لاقى حمام المقادر
أي: قرأ القرآن في أول الليل الذي قتل فيه رضي الله عنه.

على أنفسهم ما فاه به بعضهم للمسلمين من صدق نبوة الرسول وصحة دينه، متعللين بأن مثل هذا الاعتراف يؤدي إلى احتجاج المسلمين به عليهم وغلبهم في الحجة، وسبحان الله كيف فسد ذوق القوم وساء فهمهم حتى ظنوا أن ما يخفونه يمكن إخفاؤه على الله، قال تعالى في التنديد بهذا الموقف الشائن: {أَوَ لا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} ؟.
ومن جهل بعضهم بما في التوراة وعدم العلم بما فيها من الحق والهدى والنور ما دل عليه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ} إلا مجرد قراءة فقط، أما إدراك المعاني الموجبة لمعرفة الحق والإيمان به واتباعه فليس لهم فيها نصيب، وما يقولونه ويتفوهون به لم يَعْدُ الحرص والظن الكاذب.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- أن أبعد الناس عن قبول الحق والإذعان له اليهود.
2- قبح إنكار الحق بعد معرفته.
3- قبح الجهل بالله وبصفاته العلا وأسمائه الحسنى.
4- ما كل من يقرأ الكتاب يفهم معانيه فضلاً عن معرفة حكمه وأسراره وواقع أكثر المسلمين اليوم شاهد على هذا فإن حفظة القرآن منهم من لا يعرفون معانيه فضلاً عن غير الحافظين له.
{فَوَيْلٌ1 لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ2 ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ(79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ
__________
1 في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ} إلخ. بيان سبب عذابهم وهو كذبهم على الله بكتابة شيء، ونسبته إلى الله تعالى كما هو أكلهم الحرام الذي كسبوه بالكتابة الباطلة.
2 قوله: بأيديهم. هو نحو نظرته بعيني، وقلته بلساني، تأكيد لا غير.

أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(81)}
شرح الكلمات:
ويل : الويل1: كلمة تقال لمن وقع في هلكة أو عذاب.
{الْكِتَابَ} : ما يكتبه علماء اليهود من أباطيل وينسبونه إلى الله تعالى ليتوصلوا به إلى أغراض دنية من متاع الدنيا القليل.
{مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} : ينسبون ما كتبوه بأيديهم إلى التوراة بوصفها2 كتاب الله ووحيه إلى موسى عليه السلام.
{يَكْسِبُونَ} : الكسب يكون في الخير، وهو هنا في الشر فيكون من باب التهكم بهم.
{أَيَّاماً مَعْدُودَةً} : أربعين3 يوماً وهذا من كذبهم وتضليلهم للعوام منهم ليصرفوهم عن الإسلام.
{أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً} : الهمزة للإستفهام الانكاري، والعهد: الوعد المؤكد.
{سَيِّئَةً} : هذه سيئة الكفر والكذب على الله تعالى.
{وَأَحَاطَتْ 4 بِهِ} : الإحاطة بالشيء: الالتفاف به والدوران عليه.
__________
1 الويل: مصدر أمات، العرب فعله، ومؤنثه: الويلة، والجمع: الويلات، وإعرابه: إن أفرد ولم يضف الرفع بالابتداء وخبره المجرور بحرف الجر، وإن أضيف إلى ضمير نصب نحو: ويلك لا تفعل كذا، وإن أضيف إلى ظاهر رفع الابتداء، نحو: ويل أمه. مسعر حرب الحديث.
2 من المعلوم إن التوراة قد أخذت من اليهود في حملة بختنصر، وفي حملة القائد الروماني، ولذا ضاع أكثرها وزيد فيها ونقص بحيث ما أصبحت صالحة لهداية البشرية، ومن هنا أصبح علماؤهم يكتبون الكلمات وينسبونها إلى التوراة التي هي كتاب الله في الأصل، ويزعمون أن ما كتبوه هو من كتاب الله.
3 ذكر ابن كثير في سبب نزول قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً} أن عكرمة قال: "خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن ندخل النار إلا أربعين ليلة، وسيخلفنا فيها آخرون، يعنون محمداً وأصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رؤسهم: "بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفنكم فيها أحد" فأنزل الله عز وجل: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ...} الآية.
4 بين هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: في رواية أحمد، فقال: "إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل" .

{خَطِيئَتُهُ} : الخطيئة: واحدة الخطايا وهي الذنوب عامة.
الخلود : البقاء الدائم الذي لا تحول معه ولا ارتحال.
معنى الآيات:
يتوعد الرب تبارك وتعالى بالعذاب الأليم أولئك المضللين من اليهود الذين يحرفون كلام الله، ويكتبون أموراً من الباطل وينسبونها إلى الله تعالى ليتوصلوا بها إلى أغراض دنيوية سافلة.
وينكر عليهم تبجحهم الفارغ بأنهم لا يعذبون بالنار مهما كانت ذنوبهم ما داموا على ملة اليهود إلا أربعين يوماً ثم يخرجون، وجائز أن يتم هذا لو كان هناك عهد من الله تعالى قطعه لهم به ولكن أين العهد؟ إنما هو الإدعاء الكاذب فقط ثم يقرر العليم الحكيم سبحانه وتعالى حكمه في مصير الإنسان بدخول النار أو الجنة ذلك الحكم القائم على العدل والرحمة البعيد عن التأثير بالأنساب والأحساب، فيقول: {بلى}، ليس الأمر كما تدعون، وإنما هي الخطايا والحسنات فمن كسب سيئة وأحاطت1به خطيئته2 فخبثت نفسه ولوثتها فهذا لا يلائم خبث نفسه إلا النار، ومن آمن وعمل صالحاً فزكى بالإيمان والعمل الصالح نفسه وطهرها فإنه لا يلائم طهارة روحه وزكاة نفسه إلا الجنة دار النعيم. أما الحسب والنسب والادعاءات الكاذبة فلا تأثير لها البتة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التحذير الشديد من الفتاوى الباطلة التي تحرم ما أحل الله أو تحلل ما حرم ليتوصل بها صاحبها إلى غرض دنيوي كمال، أو حظوة لدى ذي سلطان.
2- إبطال الانتفاع بالنسب والانتساب، وتقرير أن سعادة الإنسان؛ كشقائه مردهما في السعادة إلى الإيمان والعمل الصالح. وفي الشقاوة إلى الشرك والمعاصي.
3- التنبيه على خطر الذنوب صغيرها وكبيرها، وإلى العمل على تكفيرها بالتوبة والعمل الصالح قبل أن تحوط بالنفس فتحجبها عن التوبة. والعياذ بالله.
__________
1 دل على هذا على أن المعلق على شرطين لا يتم بأقلهما، وهو في قوله صلى الله عليه وسلم للذي قال له: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. قال: "قل آمنت بالله ثم استقم" حديث حسن ذكره النووي في الأربعين.
2 قرأ نافع: خطيئاته، بالجمع. وقرأ حفص: خطيئته بالإفراد.

{وَالَّذِينَ1 آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ2 إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْن3 ِ إِحْسَاناً وَذِي4 الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً5 مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ(83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ(84) ثُمَّ أَنْتُمْ6 هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ
__________
1 قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا...} إلخ. بعد ذكر النار وأهلها من باب ذكر الترغيب بعد الترهيب كما في سنة القرآن الكريم.
2 قوله: {لا تَعْبُدُونَ..} إلخ. تفسير لمضمون الميثاق. والجملة خبرية لفظاً، إنشائية معنى، إذ هي في معنى اعبدوا الله وحده، وأحسنوا بالوالدين. وقولوا للناس حسناً. إلخ.
3 الوالدان: الأم، والأب. يقال: للأم، والد، ووالدة. فلذا ثنى على الوالدين، أو هو من باب التغليب؛ كالعمرين في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
4 ذي: بمعنى صاحب.
5 فيه إنصاف واحتراز حيث استثنى من لم يتل عما التزم به من بنود العهد، وإن كان قليلاً.
6 أعرب: (أنتم) خبر مقدم، وهؤلاء مبتدأ مؤخر، وتقتلون: حال. وأعرب أيضاً: (أنتم) مبتدأ، وهؤلاء منادى، والخبر، تقتلون: أي: ثم أنتم يا هؤلاء تقتلون. وفيه معنى التعجب من حالهم والإنكار عليهم.

وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا1 الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُون(86)}
شرح الكلمات:
الميثاق : العهد2 المؤكد باليمين.
حسناً : حسن القول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمخاطبة باللين، والكلم الطيب الخالي من البذاءة والفحش.
توليتم : رجعتم عما التزمتم به مصممين على أن لا تتوبوا.
سفك الدماء3 : إراقتها وصبها بالقتل والجراحات.
تظاهرون : قرئ تظّاهرون، وتظاهرون بتاء واحدة ومعناه تتعاونون.
بالإثم والعدوان : الإثم: الضار الموجب للعقوبة، والعدوان الظلم.
أسارى : جمع أسير: من أخذ في الحرب.
الخزي : الذل والمهانة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تذكير اليهود4 بما كان لأسلافهم من خير وغيره والمراد هدايتهم لو كانوا يهتدون، فقد ذكرهم في الآية(83) بما أخذ الله تعالى عليهم في التوراة من عهود ومواثيق على أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا في عبادته سواه. وأن يحسنوا للوالدين ولذي
__________
1 أي: باعوا آخرتهم بدنياهم فخسروا خسراناً عظيماً بحقارة الدنيا، وعظم الآخرة، والاشتراء في الآية بمعنى: الاستبدال، استبدلوا الآخرة فلم يعملوا لها بالدنيا حيث قصروا أعمالهم على تحصيلها.
2 هذا الميثاق تضمنه الوصايا العشر المنزلة على موسى عليه السلام، أو على الأقل بعضه والبعض الآخر تضمنه ما أخذ عليهم عند رفع الطور عليهم لما رفضوا الالتزام بما في التوراة.
3 قوله تعالى في الآية: {تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} ، وقوله: { تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} ليس معناه أن أحدهم يقتل نفسه ويسفك: أي يسيل دمه، وإنما لا يسفك بعضكم دم بعض، ولا يقتل بعضكم بعضاً؛ لأنكم أمة واحدة.
4 هم يهود المدينة، وهم ثلاث طوائف: بنو قينقاع، وبنو النضير، وقريظة.

القربى واليتامى والمساكين وأن يقولوا للناس الحسن من القول ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وندد بصنيعهم حيث نقض هذا العهد والميثاق أكثرهم ولم يفوا به وفي الآية الثانية(84) ذكرهم بميثاق خاص أخذه عليهم في التوراة أيضاً وهو الإسرائيلي لا يقتل الإسرائيلي ولا يخرجه من داره بغياً وعدواناً عليه، وإذا وقع في الأسر وجب فكاكه بكل وسيلة ولا يجوز تركه أسيراً بحال، أخذ عليهم بهذا ميثاقاً غليظاً وأقروا به وشهدوا عليه وفي الآية الثالثة(85) وبخهم على عدم وفائهم بما التزموا به حيث صار اليهودي يقتل1 اليهودي ويخرجه من داره بغياً وعدواناً عليه. وفي نفس الوقت إن أتاهم يهودي أسيراً2 فَدوه بالغالي والرخيص، فندد الله تعالى بصنيعهم هذا الذي هو إهمال واجب وقيام بآخر تبعاً لأهوائهم فكانوا كمن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، ومن هنا توعدهم بخزي الدنيا وعذاب الآخرة. وفي الآية الرابعة(86) أخبر أنهم بصنيعهم ذلك اشتروا الحياة الدنيا بالأخرة فكان جزاؤهم عذاب الآخرة حيث لا يخفف عنهم ولا ينصرون فيه بدفعه عنهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية تذكير الناس ووعظهم بما يكون سبباً لهدايتهم.
2- وجوب عبادة الله وتوحيده فيها.
3- وجوب الإحسان إلى الوالدين ولذوي القربى واليتامى3 والمساكين.
4- وجوب معاملة الناس بحسن4 الأدب.
__________
1 حصل لهم هذا بالمدينة النبوية وذلك أن سكان المدينة كانوا يتألفون من قبيلتين: الأوس، والخزرج، وقبائل اليهود الثلاث، وكانت تندلع الحروب بينهم لأتفه الأسباب، وكانوا بنو قينقاع وبنو النضير حلفاً للخزرج، وبنو قريظة حلفاً للأوس، فإذا اندلعت الحرب بين الأوس والخزرج قاتل اليهود مع حلفاؤهم، وبذلك يقتل اليهودي أخاه ويسفك دمه وإذا انتهت الحرب فادوا أسراهم طاعة لله تعالى إذا أوجب ذلك عليهم.
2 الأسر: مأخوذ من الإسار وهو: القد الذي يشد به المحمل فيسمى أخيذ الحرب: أسيراً، لأنه يشد وثاقه، وجمع: أسرى، وأسارى؛ كسكرى، وسكارى، ثم سمي كل أخيه في الحرب: أسيراً.
3 روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كافل التيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة" وأشار الراوي بالسبابة والوسطى. أي: من أصابعه كما روي أيضاً عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله" .
4 بأن يكون اللفظ طيباً والوجه منبسطًا.

5- تعرض أمة الإسلام لخزي الدنيا وعذاب الآخرة بتطبيقها بعض أحكام الشريعة وإهمالها البعض الآخر.
6- كفر من يتخير أحكام الشرع فيعمل ما يوافق مصالحه وهواه، ويعمل ما لا يوافق.
7- كفر من لا يقيم دين الله إعراضاً عنه ودعم مبالاة به.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى1 ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا2 جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى3 أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ(87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ(88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ(89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ(90)}
__________
1 عيسى: معرب يسوع، أو يشوع؛ لأن عيسى أخف منهما.
2 قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ} . إلخ. إيحاء باللوم والعتاب بل هو تقريع وتوبيخ لليهود على تمردهم على رسلهم بتكذيب البعض وقتل البعض اتباعاً لأهوائهم وأغراضهم الدنية.
3 تهوى: مضارع هوى بكسر الواو، إذا أحب، ومنه حديث البخاري: والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك أي حبك والقائلة عائشة رضي الله عنه. ويجمع الهوى على أهواء.

شرح الكلمات:
{مُوسَى} : موسى بن عمران نبي مرسل إلى بني إسرائيل.
{الْكِتَابَ} : التوراة.
{وَقَفَّيْنَا} : أرسلناهم يقْفُو بعضهم بعضاً أي واحداً بعد واحد.
{بِالرُّسُلِ} : جمع رسول: ذكر من بني آدم أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه.
{الْبَيِّنَاتِ} : المعجزات وآيات الله في الإنجيل.
{بِرُوحِ1 الْقُدُسِ} : جبريل عليه السلام.
{غُلْفٌ} : عليها غلاف يمنعها من الفهم لما تدعونا إليه، أو هي أوعية للعلم فلا نحتاج معها إلى أن نتعلم عنك.
{كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} : القرآن الكريم.
{يَسْتَفْتِحُونَ 2} : يطلبون الفتح أي النصر.
{بِئْسَمَا} : بئس كلمة ذم، ضدها نِعمَ فإنها للمدح.
{بغياً3} : حسداً وظلماً.
{فَبَاءُوا بِغَضَبٍ 4} : رجعوا والغضب ضد الرضا، ومن غضب الله عليه أبعده ومن رضي الله عنه قربه وأدناه.
{مُهِينٌ} : عذاب فيه إهانة وصغار وذل للمعذب به.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر إنعام الله تعالى على بني إسرائيل، وذكر معايبهم وبيان مثالبهم، لعل ذكر الإنعام يحملهم على الشكر فيؤمنوا، وذكر المعايب يحملهم على الإصلاح والتوبة فيتوبوا ويصلحوا، ففي الآية (87) يذكر تعالى منته بإعطاء موسى التوراة وإرسال
__________
1 الروح: جوهر نوراني لطيف لا يدرك بالحواس فيطلق على نفس الإنسان دون أنفس الحيوانات، ويطلق على جبريل عليه السلام وعلى ملك عظيم من الملائكة، والقدس مصدر أو اسم مصدر بمعنى: النزاهة، والطهارة، والمقدس: معناه المطهر المنزه عما لا يليق به.
2 وذلك بإيمانهم واتباعهم للنبي المنتظر. ألا إنهم لما جاءهم كفروا به، وهذه طبيعتهم كما قيل: شنشنه أعرفها من أخزم.
3 مفعول لأجله علة لكفرهم.
4 هل تعدد الغضب لتعدد كفرهم بما أمروا بالإيمان به، إذ كفروا بعيسى فباؤا بغضب وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم فباؤا بغضب آخر، أو هو شدة الحال عليهم لكثرة كفرهم وفسقهم؟.

الرسل بعده بعضهم على أثر بعض، وبإعطاء عيسى البينات وتأييده بروح القدس جبريل عليه السلام ومع هذا فإنهم لم يستقيموا بل كانوا يقتلون الأنبياء ويكذبونهم، فوبخهم الله تعالى على ذلك بقوله: { أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ1 رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} . وفي الآية الثانية(88) يذكر تعالى تبجحهم بالعلم واستغناءهم به، ويبطل دعواهم وثبت علة ذلك وهي: أن الله لعنهم بكفرهم، فلذا هم لا يؤمنون، وفي الآية الثالثة(89) يذكر تعالى كفرهم بالقرآن ونبيه بعد أن كانوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم يقولون للعرب إن نبياً قد أظل زمانه وسوف نؤمن به ونقاتلكم معه وننتصر2 عليكم، فما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله3 عليهم؛ لأنهم كافرون. وفي الآية الرابعة(89) يقبح الله تعالى سلوكهم حيث باعوا أنفسهم رخيصة، باعوها بالكفر فلم يؤمنوا بالقرآن ونبيه حسدا4 أن يكون في العرب نبي يوحى إليه، ورسول يطاع ويتبع، فرجعوا من طول رحلتهم في الضلال بغضب عظيم سببه كفرهم بعيسى، وبغضب عظيم سببه كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ومع الغضب العذاب المهين في الدنيا والآخرة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- واجب النعمة الشكر، وواجب الذنب التوبة.
2- قبح رد الحق لعدم موافقته لهوى النفس
3- فظاعة جريمة القتل والتكذيب بالحق.
4- سوء عاقبة التبجح بالعلم وإدعاء عدم الحاجة إلى المزيد منه.
5- ذم الحسد وأنه أخو البغي وعاقبتهما الحرمان والخراب.
6- شر ما يخاف منه سوء الخاتمة والعياذ بالله.
__________
1 الجمهور من النحاة: على أن همزة الاستفهام في: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ} ونحوها مقدمة من تأخير إذ موقعها بعد الفاء العاطفة، ولما كان حرف الاستفهام وخاصة الهمزة له الصدارة، قدمت الهمزة على الفاء العاطفة فقال: {أَفَكُلَّمَا} وخلاف الجمهور يرى أن الهمزة داخلة على محذوف يقدر بحسب المقام.
2 هذا معنى قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه} .
3 لم يقل الله تعالى: فلعنة الله عليهم، وإنما قال: {فلعنة الله على الكافرين} إشارة إلى سبب اللعنة، وهو الكفر لا الجنس، أو العرق، وليعم كل كافر أيضاً.
4 سمي الحسد: بغياً وظلماً؛ لأن البغي والظلم بمعنى، والظلم وضع الشيء في غير موضعه، والحاسد متمني زوال النعمة عن المحسود وهو في هذا الحال ظالم متعد؛ لأنه لا يناله من زوالها نفع ولا من بقاءها ضرر.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ1 وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً2 لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ3 أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ(92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ4 بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا5 قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(93)}
شرح الكلمات:
{بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} : من القرآن.
{بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} : التوراة.
{وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً} : القرآن الكريم مقرر لأصول الأديان الإلهية؛ كالتوحيد والنبوات والبعث والجزاء في الدار الآخرة.
البينات : المعجزات.
__________
1 أي: بما سواه وهو القرآن الكريم دل عليه السياق.
2 جملة: {وَهُوَ الْحَقُّ} حالية، : {مُصَدِّقاً} حال مؤكدة، ويصح أن تكون حال مؤسسة.
3 الإتيان بالمضارع في: {تَقْتُلُونَ} مع أن القتل قد مضى لقصد استحضار الحالة الفظيعة كما في إشارة إلى استعدادهم لفعل تلك الفعلة الشنيعة وهي قتل الأنبياء والعلماء.
4 فإن قيل لقد سبق مثل هذا القصص، فما الفائدة من إعادته هنا؟ الجواب: إنه ذكر فيه ما لم يذكر هناك، وهو قوله: {وَاسْمَعُوا...}. إلخ.
5 قوله: {وَاسْمَعُوا...} ليس المراد بالسماع بالحاسة، وإنما المراد الطاعة والامتثال؛ كقول المرء: فلان لا يسمع كلامي، فإن معناه لا يمتثل أمري ولا يطيعني كما أن قوله: {وَعَصَيْنَا} ليس معناه بلفظ عصينا وإنما معناه إنهم لم يمتثلوا الأمر الصادر إليهم.

{اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} : يريد إلهاً عبدتموه في غيبة موسى عليه السلام.
{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} : أي حب العجل الذي عبدوه بدعوة السامري لهم بذلك.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بني إسرائيل وتقريعهم على سوء أفعالهم، ففي الآية الأولى(91) يخبر تعالى أن اليهود إذا دعوا إلى الإيمان بالقرآن يدّعون أنهم في غير حاجة إلى إيمان جديد بحجة أنهم مؤمنون من قبل بما أنزل الله تعالى في التوراة وبهذا يكفرون بغير التوراة وهو القرآن، مع أن القرآن حق، والدليل أنه مصدق لما معهم من حق في التوراة، ثم أمر الله رسوله أن يبطل دعواهم موبخاً إياهم بقوله: { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إذ قتل الأنبياء يتنافى مع الإيمان تمام المنافاة.
وفي الآية الثالثة(93) يذكر تعالى اليهود بما أخذه على أسلافهم من عهد وميثاق بالعمل بما جاء في التوراة عندما رفع الطور فوق رؤوسهم تهديداً لهم غير أنهم لم يفوا بما عاهدوا عليه، كأنهم قالوا سمعنا وعصينا، فعبدوا العجل وأشربوا حبه في قلوبهم بسبب كفرهم ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقبح ما ادعوه من أن إيمانهم هو الذي أمرهم بقتل الأنبياء وعبادة العجل، والتمرد والعصيان.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية توبيخ أهل الجرائم على جرائمهم إذا أظهروها.
2- جرأة اليهود على قتل الأنبياء والمصلحين من الناس.
3- وجوب أخذ أمور الشرع بالحزم والعزم والقوة.
4- الإيمان بالحق لا يأمر صاحبه إلا بالمعروف، والإيمان بالباطل المزيف يأمر صاحبه بالمنكر.
{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ1 الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ
__________
1 هذه الآية تحمل الرد على مزاعم أخرى لليهود وهي دعواهم إنهم أولياء الله وإن الجنة لهم دون غيرهم، ولذا فهم في غير حاجة إلى دين جديد كالإسلام الذي جاء محمد صلى الله عليه وسلم فأمر الله رسوله أن يباهلهم فطلب منهم أن يتمنوا الموت وسألوه فنكلوا ولم يباهلوا وظهر بذلك كذبهم وتمت فضيحتهم.

دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ(95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ(96) قُلْ مَنْ كَانَ1 عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(97) مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ2 وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ(98)}
شرح الكلمات:
{الدَّارُ الآخِرَةُ} : المراد منها نعيمها وما أعد الله تعالى فيها لأوليائه.
{خَالِصَةً} : خاصة لا يدخلها أحد سواكم.
{فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} : تمنوه في نفوسكم واطلبوه بألسنتكم، فإن من كانت له الدار الآخرة لا خير له في بقائه في الدنيا.
{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} : أي في دعوى أن نعيم الآخرة خاص بكم لا يشارككم فيه غيركم.
{حَيَاةٍ} : التنكير فيها لتعم كل حياة ولو كانت ذميمة.
{يَوَدُّ} : يحب.
__________
1 روى الترمذي في سبب نزول: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ...} إلخ. أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه ليس نبي من الأنبياء إلا يأتيه ملك من الملائكة من عند ربه بالرسالة وبالوحي، فمن صاحبك حتى نتابعك؟ قال جبريل: "قالوا: ذلك الذي ينزل بالحرب وبالقتال ذلك عدونا لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالقطر والرحمة تابعناك، فأنزل الله الآية إلى قوله: {لِلْكَافِرِينَ} .
2 ذكر جبريل وميكائيل بعد ذكرهم في عموم الملائكة دليل على شرفهما وعلو مقامهما.

{الَّذِينَ أَشْرَكُوا} : هم غير أهل الكتاب من سائر الكفار.
{بِمُزَحْزِحِهِ} : بمبعده من العذاب.
{أَنْ يُعَمَّرَ} : تعميره ألف سنة.
جبريل : روح القدس الموكل بالوحي يتنزل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} : نزل جبريل القرآن على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} : القرآن مصدق لما في الكتب السابقة من نعت الرسول صلى الله عليه وسلم والبشارة به ومن التوحيد ووجوب الإسلام لله تعالى.
ميكال1 : ميكال وميكائيل: ملك من أعاظم الملائكة، وقيل: معناه عبيد الله.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الرد على اليهود وإبطال حججهم الواهية، ففي الآية الأولى(94) أمر الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم مباهلاً إياهم: إن كانت الدار الآخرة خالصة لكم لا يدخل الجنة معكم أحد فتمنوا الموت لتدخلوا الجنة وتستريحوا من عناء الدنيا ومكابدة العيش فيها، فإن لم تتمنوا ظهر كذبكم وثبت كفركم وأنكم أصحاب النار، وفعلاً ما تمنوا الموت ولو تمنوه لماتوا عن آخرهم.
وفي الآية الثانية(95) أخبر تعالى أن اليهود لن يتمنوا الموت أبداً، وذلك بسبب ما قدموه من الذنوب والخطايا العظام الموجبة لهم عذاب النار بأنهم مجرمون ظلمة والله عليم بالظالمين، وسيجزيهم بظلمهم إنه حكيم عليم.
وفي الآية الثالثة(96) يخبر الله تعالى أن اليهود أحرص الناس على الحياة حتى من المشركين الذين يود الواحد منهم أن يعيش ألف سنة، فكيف يتمنون الموت إذاً وهم على هذا الحال من الحرص على الحياة، وذلك لعلمهم بسوء مصيرهم إن هم ماتوا. كما يخبر تعالى أن الكافر لا ينجيه من العذاب طول العمر ولو عاش أكثر من ألف سنة، ثم هدد الله تعالى اليهود وتوعدهم بقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} من الشر والفساد وسيجزيهم به.
__________
1 في جبريل وميكائيل لغات عدة، أشهرها: جبريل وجبرائيل وجبرين –بالنون- وميكائيل، وميكال، ميكائيل. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: عبد الله، وميكائيل، عبيد الله.

وفي الآية الرابعة (97) يأمر تعالى رسوله أن يرد على اليهود قولهم: لو كان الملك الذي يأتيك بالوحي ميكائيل لأمنا بك، ولكن لما كان جبريل، فجبريل عدونا؛ لأنه ينزل بالعذاب، بقوله: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} فليمت غيظاً وحنقاً، فإن جبريل هو الذي ينزل بالقرآن بإذن ربه على قلب رسوله مصدقاً –القرآن- لما سبقه من الكتب وهدى يهتدى به وبشرى يبشر به المؤمنون الصالحون.
وفي الآية الخامسة (98) يخبر تعالى أن من يعاديه عز وجل ويعادي أولياءه1 من الملائكة والرسل وبخاصة جبريل فإنه كافر، والله عدو له ولسائر الكافرين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- صحة الإسلام، وبطلان اليهودية، وذلك لفشل اليهود في المباهلة بتمني الموت.
2- المؤمن الصالح يفضل الموت على الحياة لما يرجوه من الراحة والسعادة بعد الموت.
3- صدق القرآن فيما أخبر به عن اليهود من حرصهم على الحياة ولو كانت رخيصة ذميمة، إذ هذا أمر مشاهد منهم إلى اليوم.
4- عداوة الله تعالى للكافرين. ولذا وجب على المؤمن معاداة أهل الكفر لمعاداتهم لله، ومعاداة الله تعالى لهم.
{وَلَقَدْ2 أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ3(99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ
__________
1 في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد أذنته بالحرب".
2 ذكر الطبري أن قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ...} إلى قوله: {الْفَاسِقُون} نزل رداً على ابن صوريا اليهودي، حيث قال للرسول صلى الله عليه وسلم: ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك من آية بينة فنتبعك بها.
3 كابن صوريا، وأضرابه ممن تعمدوا الخروج عن منهج الحق وهم يعلمون.

لا يُؤْمِنُونَ(100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ1 فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ(101)}
شرح الكلمات:
{آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} : هي آيات القرآن الكريم الواضحة فيما تدل عليه من معان.
{يَكْفُرُ بِهَا} : يجحد بكونها كتاب الله ووحيه إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
{الْفَاسِقُونَ} : الخارجون عما يجب أن يكونوا عليه من الإيمان بالله والإسلام له ظاهراً وباطناً.
{أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا}: الهمزة للإستفهام الإنكاري، والواو عاطفة على تقديره أكفروا بالقرآن ونبيه، وكلما عاهدوا إلخ...
العهد : الوعد الملزم.
{نَبَذَه} : طرحه وألقاه غير آبه به ولا ملتفت إليه.
{رَسُولٌ} : التنكير للتعظيم، والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم، ومن قبله عيسى عليه السلام
{لِمَا مَعَهُمْ} : من نعت الرسول صلى الله عليه وسلم وتقرير نبوته، وسائر أصول الدين في التوراة.
{كِتَابَ اللَّهِ} : التوراة2 لدلالتها على نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصحة دينه الإسلام.
{وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} : أي أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه لمنافاته لما هم معروفون عليه من الكفر بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ كأنهم لا يعلمون مع أنهم يعلمون حق العلم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعموم رسالته والرد على اليهود وإظهار
__________
1 النبذ: الطرح والإلقاء، ولذا سمي اللقيط منبوذاً، وسمي النبيذ: نبيذاً؛ لأنه طرح التمر والزبيب في الماء وعليه قول الشاعر:
نظرت إلى عنوانه فنبذته ... كنبذك نعلاً من نعالك
يكون القرآن الكريم، فقد نبذوه أيضاً بعد علمهم؛ بأنه الحق مصدقاً لما معهم.

ما هم عليه من الفسق والظلم في الآية الأولى(99) يرد تعالى على قول ابن صوريا اليهودي للرسول صلى الله عليه وسلم ما جئتنا بشيء، بقوله:{ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ} ؛ كالأعور بن صوريا اليهودي. وفي الآية الثانية(100) ينكر الحق سبحانه وتعالى على اليهود كفرهم ونبذهم للعهود والمواثيق وليسجل عليهم عدم إيمان أكثرهم بقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} . وفي الآية الثالثة(101) ينعي البارئ عز وجل على علماء اليهود نبذهم للتوراة لما رأوا فيها من تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإثباتها فقال: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ1 فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ2 كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ}
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الفسق العام ينتج الكفر، إن العبد إذا فسق3 وواصل الفسق عن أوامر الله ورسوله سيؤدي به ذلك إلى أن ينكر ما حرم الله وما أوجب فيكفر لذلك والعياذ بالله.
2- اليهود لا يلتزمون بوعد ولا يفون بعهد، فيجب أن لا يوثق في عهودهم أبداً.
3- التوراة أحد كتب الله عز وجل المنزلة أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران عليه السلام.
4- قبح جريمة من تنكر للحق بعد معرفته، ويصبح وكأنه جاهل به.
{وَاتَّبَعُوا4 مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ
__________
1 قال السدي في تفسير هذه الآية: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم، عارضوه بالتوراة فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف، وسحر هاروت وماروت فلم توافق القرآن. فهذا معنى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ...} .
2 الظهور: جمع ظهر ويجمع على ظهران يقال لمن أعرض عن شيء: رماه وراء ظهره.
3 الفسق: مشتق من فسقت الرطبة، إذا خرجت من قشرتها، وبه سميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها على أهل الدار.
4 اشتهر بين علماء السلف أن ما تتلوه الشياطين على عهد ملك سليمان كان سببه: أن مردة من الشياطين كتبوا كتاباً ضمنوه الكثير من ضروب السحر والشعوذة والأباطيل ونسبوه إلى كاتب سليمان، وهو: أصف ودفنوه تحت كرسي سليمان حين ابتلي بنزع ملكه، ولما مات سليمان أخرج الكتاب شياطين الجن بالتعاون مع شياطين الإنس، وأعلنوا في الناس أن سليمان كان ساحراً، وما غلب الجن والإنس إلا بالسحر، فصدقهم أناس وكذب آخرون، ولما بعث محمد صلى الله عليه وسلم وكفر به اليهود وتنكروا للتوراة لاتفاقها مع القرآن أنزل الله تعالى قوله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} فبرأ سليمان وكفر اليهود.

سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ1 وَمَا أُنْزِلَ2 عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)}
شرح الكلمات:
{مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} : الذي تتبعه وتقول به الشياطين من كلمات السحر.
{عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} : على عهد سليمان ووقت حكمه.
{الشَّيَاطِينَ} : جمع شيطان وهو من خبث وتمرد ولم يبق فيه قابلية للخير.
__________
1 قيل: السحر مشتق من قولهم: سحرت الصبي، إذا خدعته أو عللته بشيء ومنه قول الشاعر:
أرانا موضعين لأمر غيب ... ونسحر بالطعام والشراب
يريد أن الناس مسرعون إلى الموت وهم مخدعون بالطعام وبالشراب.
2 لم يكن إنزالاً بمعنى الوحي الإلهي ولكن إلهاماً لهما فبرع فيه وتفوق على غيرهما.

{السِّحْرَ 1} : هو كل ما لطف مأخذه وخفي سببه مما له تأثير على أعين الناس أو نفوسهم أو أبدانهم.
{هَارُوتَ وَمَارُوتَ} : ملكان وجدا للفتنة.
{فَلا تَكْفُرْ} : لا تتعلم منا السحر لتضر به فتكفر بذلك.
{بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} : بين الرجل وامرأته.
{اشْتَرَاهُ} : اشترى السحر بتعلمه والعمل به.
الخلاق: النصيب2 والحظ.
{مَا شَرَوْا} : ما باعوا به أنفسهم.
{لَمَثُوبَةٌ} : ثواب وجزاء.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في بيان ما عليه اليهود من الشر والفساد، ففي الآية الأولى (102) يخبر تعالى: أن اليهود لما نبذوا التوراة لتقريرها بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتأكيدها لصحة دينه اتبعوا الأباطيل والترهات التي جمعها شياطين الإنس والجن في صورة رُقى وعزائم وكانوا يحدثون بها، ويدّعون أنها من عهد سليمان بن داود عليهما السلام، وأنها هي التي كان سليمان يحكم بها الإنس والجن، ولازم هذا أن سليمان لم يكن رسولاً ولا نبياً وإنما كان ساحراً كافراً، فلذا نفى الله تعالى عنه ذلك بقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} وأثبته للشياطين فقال: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} . كما يعلمونهم ما ألهمه الملكان هاروت وماروت3 ببابل العراق من ضروب السحر وفنونه، وهنا أخبرنا تعالى عن ملكي الفتنة أنهما يقولان لمن جاءهما يريد تعلم السحر: إنما نحن فتنة فلا تكفر بتعلمك السحر وهذا القول منهما يفهم منه
__________
1 حصر بعضهم أصول السحر في ثلاثة هي: 1- زجر النفوس بمقدمات توهيمية وإرهابية بما اعتاده الساحر من التأثير النفساني في نفس المسحور الضعيف روحاً المستعد لقبول التأثير ويشهد لهذا قوله تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} . 2- استخدام مؤثرات من خصائص الأجسام من حيوان ومعادن؛ كالرئبق وسائر العقاقير المؤثرة ويشهد لهذا قوله تعالى: { إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} 3- الشعوذة باستخدام خفايا الحركة والسرعة حين يخيل أن الجماد يتحرك. ويشهد لهذا قوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} الآية.
2 الحظ والنصيب من الخير خاصة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما يلبس هذا من لاخلاق له" .
3 الملكان وهما: هاروت وماروت ذكرا قصتهما علماء السلف ورواها مثل: أحمد وعبد الرزاق وابن أبي حاتم وابن جرير، وخلق كثير ولم يصح فيها حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكنها مروية عن ابن عمر، وابن عباس وعلي رضي الله عنهم، ولعلهم مروية عن كعب الأحبار، وفي الآيات عبارة وإشارة ولا مانعاً شرعاً ولا عقلاً من هذه القصة، ومفادها أن الملائكة أنكروا على بني آدم =

بوضوح أن أقوال الساحر وأعماله التي يؤثر بها على الناس منها ما هو كفر في حكم الله وشرعه قطعاً.
كما أخبر تعالى في هذه الآية أن ما يتعلمه الناس من الملكين إنما يتعلمونه ليفرقوا بين الرجل وامرأته، وأن ما يحدث به من ضرر هو حاصل بإذن الله تعالى حسب سنته في الأسباب والمسببات، ولو شاء الله أن يوجد مانعاً يمنع من حصول الأمر بالضرر لفعل وهو على كل شيء قدير. فبهذا متعلموا السحر بسائر أنواعه إنما هم يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم. وفي آخر الآية يقرر تعالى علم اليهود بكفر الساحر ومتعلم السحر ومتعاطيه حيث أخبر تعالى أنهم لا نصيب لهم في الآخرة من النعيم المقيم فيها. فلذا هم كفار قطعاً.
وأخيراً يقبح تعالى ما باع به اليهود أنفسهم، ويسجل عليهم الجهل بنفي العلم إذ قال تعالى: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .
وفي الآية الثانية(103) يفتح تعالى على اليهود باب التوبة فيعرض عليهم الإيمان والتقوى فيقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- الإعراض عن الكتاب والسنة لتحريمهما الشر والفساد والظلم يفتح أمام المعرضين أبواب الباطل من ا لقوانين الوضعية، والبدع الدينية، والضلالات العقلية، قال تعالى: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ [سبيل السعادة والكمال] وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}.
2- كفر1 الساحر وحرمة تعلم السحر، وحرمة استعماله.
__________
= ما يرتكبون من الذنوب والمعاصي ويعجبون من ذلك، فأمرهم تعالى أن يختاروا ملكين منهم ويركب فيهم غرائز بني آدم ويكلفهم وينزلهم إلى الأرض يعبدون الله كبنى آدم ثم ينظرون هل يعصون الله أو لا يعصونه، فلما نزل إلى الأرض ارتكب كبائر الذنوب، فخير بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختار عذاب الدنيا فجعلا في بابل يعلمان الناس السحر فإذا آتاهما من يريد ذلك نصحاً له بأن تعلم السحر كفر، فإذا أصر وجهاه إلى شيطان فأتاه فعلمه كيفية السحر وما يصل إليها إلا بعد أن يكفر أفظع أنواع الكفر.
1 اختلف هل للسحر حقيقة أو هو مجرد خداع لا أصل له. أهل السنة والجماعة: أن له حقيقة وهو أنواع عديدة، وحكمه أن من تعاطاه إذا أضر به فأفسد عقلاً أو عضواً أو قتل فإنه يقتل بذلك وإلا فإنه يعذر حتى يتوب منه، ويشهد لمذهب الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم سحره لبيد بن الأعصم، وأنزل الله تعالى سورة الفلق فرقاه بها جبريل فشفي، وقال: "إن الله شفاني". والحديث في البخاري وغيره.

3- الله تعالى خالق الخير والضير، ولا ضرر ولا نفع إلا بإذنه1 فيجب الرجوع إليه في جلب النفع، ودفع الضر بدعائه والضراعة إليه.
4- العلم المهم؛ كالظن الذي لا يقين معه لا يغير من نفسية صاحبه شيئاً فلا يحمله على فعل خير ولا على ترك شر بخلاف الرسوخ في العلم فإن صاحبه يكون لديه من صادق الرغبة وعظيم الرهبة ما يدفعه إلى الإيمان والتقوى ويجنبه الشرك والمعاصي. وهذا ظاهر في نفي الله تعالى العلم عن اليهود في هاتين الآيتين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ(104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(105)}
شرح الكلمات:
{رَاعِنَا} : أمهلنا وانظرنا حتى نعي ما تقول.
{انْظُرْنَا} : أمهلنا حتى نفهم ما تقول ونحفظ.
{وَلِلْكَافِرِينَ} : الجاحدين المكذبين لله ورسوله المستهزئين بهما أو بأحدهما.
{أَلِيمٌ} : كثير الألم شديد الإيجاع.
{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ} : اليهود والنصارى والوثنين من العرب وغيرهم.
{مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} : من الوحي الإلهي المشتمل على التشريع المتضمن لكل أنواع الهداية وطرق الإسعاد والإكمال في الدارين.
__________
1 ذكر القرطبي: أن ابن بطال قال: في كتاب وهب بن منبه أن يأخذ المسحور سبع ورقات من سدر أخضر فيدقها بين حجرين ثم يخلطلها بالماء ويقرأ عليها آية الكرسي ثم يحثو منها ثلاث حثيات ويغتسل به فإنه يذهب عن كل ما ألم إن شاء الله تعالى.

{الْفَضْلِ} : ما كان من الخير غير محتاج إليه صاحبه. والله عز وجل هو صاحب الفضل إذ كل ما يمن به ويعطيه عباده من الخير هو في غنى عنه ولا حاجة به إليه أبداً.
معنى الآيتين:
أما الآية الأولى(104) فقد أمر الله تعالى المؤمنين أن يراعوا1 الأدب في مخاطبة نبيهم صلى الله عليه وسلم تجنباً للكلمات المشبوهة؛ ككلمة: راعنا، إذ قد تكون من الرعونة، ولما تدل عليه صيغة المفاعلة؛ إذ كأنهم يقولون: راعنا نُراعك، وهذا لا يليق أن يخاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأرشدهم تعالى إلى كلمة سليمة من كل شبهة تنافي الأدب وهي انظرنا2، وأمرهم أن يسمعوا لنبيهم إذا خاطبهم حتى لا يضطروا إلى مراجعته، إذ الاستهزاء بالرسول والسخرية منه ومخاطبته بما يفهم الاستخفاف بحقه وعلو شأنه وعظيم منزلته كفر بواح.
وفي الآية الثانية(105) أخبر تعالى عباده المؤمنين بأن الكافرين من أهل الكتاب ومن غيرهم من المشركين الوثنيين لا يحبون أن يُنزل عليكم من خير من ربكم وسواء كان قرآناً يحمل أسمى الآداب وأعظم الشرائع وأهدى سبل السعادة والكمال، أو كان غير ذلك من سائر أنواع الخيرات، وذلك حسداً منهم للمؤمنين كما أخبرهم أنه تعالى يختص برحمته من يشاء من عباده فحسد الكافرين لكم لا يمنع فضل الله عليكم ورحمته بكم متى أرادكم بذلك.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- وجوب التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مخاطبته بعدم استعمال أي لفظة قد تفهم غير الإجلال والإكبار له صلى الله عليه وسلم.
2- وجوب السماع لرسول الله بامتثال أمره واجتناب نهيه، وعند مخاطبته لمن أكرمهم الله تعالى بمعايشته والوجود معه.
__________
1 سبب نزول هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ...} إلخ. أن اليهود استغلوا كلمة: راعنا، وصاروا يقولونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم ينوون بها سب رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجود كلمة في العبرية مثلها ومعناه: السب والشتم؛ كالرعونة. فأنزل الله هذه الآية، أرشد فيها المسلمين إلى ترك كلمة: راعنا، وإبدالها: بانظرنا، فانقطع الطريق عن اليهود لعنهم الله.
2 معنى انظرنا: هو معنى راعنا، ولكن لما استعملها اليهود وصاروا ينوون بها سب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها عندهم من الرعونة لذلك أرشد الله المسلمين إلى كلمة: انظر.

التحذير1 من الكافرين كتابيين أو مشركين؛ لأنهم أعداء حسدة للمؤمنين فلا يحل الركون إليهم والإطمئنان إلى أقوالهم وأفعالهم، إذ الريبة لا تفارقهم.
{مَا نَنْسَخْ2 مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ3 دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(107) أَمْ تُرِيدُونَ4 أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ(108)}
شرح الكلمات:
{نَنْسَخْ} : نبدل أو نزيل.
{مِنْ آيَةٍ} : من آيات القرآن: جملة كلمات تحمل معنى صحيحاً؛ كالتحريم أو التحليل، أو الإباحة.
{نُنْسِهَا} : نمسحها من قلب النبي صلى الله عليه وسلم.
{أَلَمْ تَعْلَمْ} : الاستفهام للتقرير.
{وَلِيٍّ} : حافظ يحفظكم بتولي أموركم.
__________
1 في هذه الآية إرشاد المسلمين إلى عدم مشابهة الكافرين في القول والعمل وحتى في الزي واللباس، ويشهد لهذه رواية أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم" .
2 معرفة الناسخ والمنسوخ ضرورية للعالم. روى أن علياً رضي الله عنه أرسل إلى رجل كان يخوف الناس في المسجد فجاءه فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ فقال: لا، قال: فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه. وعن ابن عباس مثله، وقال له: هلكت وأهلكت.
3 من: ابتداء الغاية والثانية وهي: {مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} صلة.
4 أم، هنا: هي المنقطعة بمعنى: بل الإضرابية.

{نَصِيرٍ} : ناصر يدفع عنكم المكروه.
{أَمْ تُرِيدُونَ} : بل أتريدون، إذ (أم) هنا للإضراب الانتقالي فهي بمعنى: بل، والهمزة، وما سئله موسى هو، قول بني إسرائيل له: (أرنا الله جهرة).
{سَوَاءَ السَّبِيلِ} : وسط الطريق الآمن من الخروج عن الطريق.معنى الآيات:
يخبر تعالى راداً على الطاعنين في تشريعه الحكيم الذين قالوا: إن محمداً يأمر أصحابه1 اليوم بأمر وينهى عنه غداً، أنه تعالى ما ينسخ من آية تحمل حكماً شاقاً على المسلمين إلى حكم أخف؛ كنسخ الثبوت لعشرة في قتال الكافرين إلى الثبوت إلى اثنين. أو حكماً خفيفاً إلى شاق زيادة في الأجر؛ كنسخ يوم عاشوراء بصيام رمضان، أو حكماً خفيفاً إلى حكم خفيف مثله؛ كنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، أو حكماً غير حكم آخر؛ كنسخ صدقة من أراد أن يناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الحكم رفع ولم يشرع حكم آخر بدلاً عنه، أو نسخ الآية بإزالتها من التلاوة، ويبقى حكمها؛ كآية الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله، فقد نسخ اللفظ من التلاوة وبقي الحكم. أو ينسخ الآية وحكمها. وهذا معنى قوله: {أَوْ نُنْسِهَا} ، وهي قراءة نافع، فقد ثبت أن قرآناً نزل وقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه ثم نسخه الله تعالى لفظاً، ومعنى فمحاه من القلوب بالمرة فلم يقدر على قراءته أحد. وهذا مظهر من مظاهر القدرة الإلهية الدال عليه قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وهو أيضاً مظهر من مظاهر التصرف الحكيم الدال عليه قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فهو تعال يتصرف فينسخ ويبقي ويأتي بخير مما نسخ أو بمثله بحسب حاجة الأمة ومتطلبات حياتها الروحية والمادية. فسبحانه من إله قدير حكيم: ينسي ما يشاء وينسخ ما يريد.
أما قوله تعالى في آية (108): {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلوا رَسُولَكُمْ2} ، فهو توبيخ لمن طالب
__________
1 في الكلام إشارة إلى سبب نزول هذه الآيات، والمراد بالذين قالوا أن محمداً..إلخ : هم اليهود، واليهود ينفون وجود النسخ في الشرائع وهم مخطئون في ذلك خطأ كبيراً، إذ قد أباح الله تعالى أن لآدم أن ينكح بناته بنيه فترة من الزمن، ثم نسخ ذلك، وأباح لنوح أكل سائر الحيوان بعد نزوله من السفينة، ثم نسخ ذلك. كما أوحى الله إلى إبراهيم أن يذبح ولده، ثم نسخ ذلك إذ فداه بذبح عظيم قبل الذبح، وهذا نسخ للأمر قبل فعله.
2 قوله تعالى: {كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ..} . معنى سؤال بني إسرائيل موسى بأن يريهم الله جهرة، أي: مواجهة بعد أن سمعوا كلامه، كما سألوه غير هذا تعنتاً وجهلاً بمقام الرسول موسى عليه السلام، ولذا حذر الله المؤمنين من مثل هذه المواقف القبيحة.

الرسول صلى الله عليه وسلم بأمور ليس في مكنته، وإعلام من يجري على أسلوب التعنت وسوء الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم قد يصاب بزيغ القلب فيكفر، دلّ على هذا قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} .
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- ثبوت النسخ في القرآن الكريم، كما هو ثابت في السنة، وهما أصل التشريع ولا نسخ في قياس ولا إجماع.
2- رأفة الله تعالى بالمؤمنين في نسخ الأحكام وتبديلها بما هو نافع لهم في دنياهم وآخرتهم.
3- وجوب التسليم لله والرضا بأحكامه، وعدم الاعتراض عليه تعالى.
4- ذم التنطع في الدين وطرح الأسئلة المحرجة1 والتحذير منم ذلك.
{وَدَّ كَثِيرٌ2 مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً3 مِنْ4 عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا5 وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ
__________
1 روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هلك المتنطعون" وفسر بالمتعين في السؤال عن عويص المسائل التي يندر وقوعها.
2 مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما ظاهرة، وهي أنه لما حذر تعالى المؤمنين من مسلك اليهود مع أنبياءهم في الأسئلة المحرجة المتعنتة، أعلمهم أن أعدائهم من اليهود يودون لهم الكفر بعد إيمانهم حسداً لهم وعلى رأس هؤلاء كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وأبو ياسر وغيرهم، كما أن ابن أبي، وجماعة من سكان المدينة كانوا يعملون جاهدين على صرف من آمن عن إيمانه، ولما لم يحن الوقت للقتال، أمرهم تعالى بالصفح والعفو والإعداد حتى يأتي الأمر بالقتال.
3 الحسد ثلاثة أنواع: وهي: تمني زوال نعمة عمن هي به، وتمني زوالها ولو لم تحصل لمتمنيها، وهذا شر وأقبح من الأول، وهما محرمان لها لما فيهما من تسفيه المنعم عز وجل، إذ الحاسد معترض على قسمة الله وعطاؤه عباده ما شاء. وتمني حصول نعمة كالتي حصلت لغيره، وهذا مباح وليس حراماً ويشهد له الحديث الصحيح: "لا حسد إلا في اثنتين" الحديث ويسمى غبضا.
4 جملة: {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} تأكيد لمضمون التي قبلها. ومنه قوله تعالى: {َ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ}، {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} .
5 فاعفوا: أصلها: فاعفووا، حذفت الضمة للثقل، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين، فصارت: فاعفوا.

مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(110)}.
شرح الكلمات:
{وَدَّ} : أحب.
{أَهْلِ الْكِتَابِ} : اليهود والنصارى.
{حَسَداً} : الحسد تمني زوال النعمة على من هي به.
{تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} : عرفوا أن محمداً رسول الله وأن دينه هو الدين الحق.
{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} : لا تؤاخذهم ولا تلوموهم، إذ العفو ترك العقاب، والصفح الإعراض عن الذنب.
{حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} : أي الإذن بقتالهم والمراد بهم يهود المدينة، وهم: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة.
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} : إقامة الصلاة: أداؤها في أقواتها مستوفاة الشروط والأركان والسنن.
{وَآتُوا الزَّكَاةَ} : أعطوا زكاة أموالكم وافعلوا كل ما من شأنه يزكي أنفسكم من الطاعات.
معنى الآيات:
في الآية الأولى(109) يخبر تعالى المؤمنين بنفسية كثير من أهل الكتاب وهي الرغبة الملحة في أن يتخلى المسلمون عن دينهم الحق ليصبحوا كافرين، ومنشأ هذه الرغبة الحسد الناجم عن نفسية لا ترغب أن ترى المسلمين يعيشون في نور الإيمان بدل ظلمات الكفر، وبعد أن أعلم عباده المؤمنين بما يضمر لهم أعداؤهم، أمرهم بالعفو1 والصفح؛ لأن الوقت لم يحن بعد لقتالهم فإذا حان الوقت قاتلوهم وشفوا منهم صدورهم.
وفي الآية الثانية(110) أمر الله تعالى المؤمنين بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وفعل2 الخيرات
__________
1 هذا العفو والصفح نسخ بالإذن بقتال اليهود وإجلائهم، وبقي العفو عن المسلم والصفح عنه إذا أساء إلى أخيه المسلم لجهالة به، فإنه محمود، قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ، وقال رسوله: "من غفر غفر له" .
2 فعل الخيرات هنا مستفاد من قوله تعالى في الآية: {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّه} .

تهذيباً لأخلاقهم وتزكية لنفوسهم وواعدهم بحسن العاقبة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ1 بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
هداية الآيتين:
من هداية الآيات:
1- اليهود والنصارى يعلمون أن الإسلام حق وأن المسلمين على حق فحملهم ذلك على حسدهم ثم عداوتهم، والعمل على تكفيرهم... وهذه النفسية ما زالت طابع أهل الكتاب إزاء المسلمين إلى اليوم.
2- في الظرف الذي لم يكن مواتياً للجهاد على المسلمين أن يشتغلوا فيه بالإعداد للجهاد، وذلك بتهذيب الأخلاق والأرواح وتزكية النفوس بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وفعل الخيرات إبقاء على طاقاتهم الروحية والبدنية إلى حين يؤذن لهم بالجهاد.
3- تقوية الشعور2 بمراقبة الله تعالى ليحسن العبد نيته وعمله.
{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا3 بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين(111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُون(113)}
__________
1 مثل هذه الجملة المذيل بها الكلام تكون للترغيب كما هنا، وتكون للترهيب، أي: تصلح للوعد والوعيد.
2 هذا مستفاد من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
3 في الآية دليل على بطلان التقليد، وهو قبول قول الغير بلا دليل، وفي الآية أن من ادعى شيئاً نفياً أو إثباتاً يطالب بالدليل بطلت دعواه.

شرح الكلمات:
{الْجَنَّةَ} : دار النعيم وتسمى دار السلام وهي فوق السماء السابعة.
{هُوداً 1} : يهوداً.
{نَصَارَى} : صليبيين مسيحيين.
{أَمَانِيُّهُمْ 2} : جمع أمنية ما يتمناه المرء بدون ما يعمل للفوز به، فيكون غروراً.
البرهان : الحجة الواضحة.
{بَلَى} : حرف إجابة يأتي بعد نفي مقرون باستفهام3 غالباً نحو قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} ؟ بلى، أي: هو أحكم الحاكمين، ولما ادعى اليهود والنصارى أن الجنة لا يدخلها إلا من كان يهودياً أو نصرانياً قال تعالى: (بلى) أي ليس الأمر كما تزعمون فلا يدخل الجنة يهودي ولا نصراني ولكن يدخلها من أسلم وجهه لله وهو محسن أي: عبد آمن فصدق وعمل صالحاً فأحسن.
ليست على شيء : أي: من الدين الحق.
{يَتْلُونَ الْكِتَابَ} : أي: التوراة والإنجيل.
الذين من قبلهم : هذا اللفظ صادق على مشركي العرب، وعلى غيرهم من أمم جاهلة سبقت.
سبب نزول الآيتين ومعناهما:
لما جاء وفد نصارى نجران إلى المدينة التقى باليهود في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، ولعدائهم السابق تماروا فادعت اليهود أن الجنة لا يدخلها إلا من كان يهودياً، وادعت النصارى أن الجنة لا يدخلها إلا من كان نصرانياً فرد الله تعالى عليهم وأبطل دعواهم حيث طالبهم بالبرهان عليها فلم يقدروا وأثبت تعالى دخول الجنة لمن زكى نفسه بالإيمان الصحيح والعمل الصالح.
__________
1 هود: جمع هائد، أي: متبع اليهودية، ومثله: عوذ، جمع عائد، وهي: الحديثة النتاج من الظباء، والإبل، والخيل.
2 ما تمناه اليهود وأشير إليه هنا بقوله: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} هو أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم وأن يردوهم كفاراً، وأن يدخلون الجنة وحدهم دون غيرهم.
3 ومن غير الغالب قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ، بلى} فقد أجيب بها ولم يتقدمها نفي مقرون باستفهام، ومنه هذه الآية: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ} .

فقال: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} يريد قلبه وجوارحه1 فآمن ووحد وعمل صالحاً فأحسن فهذا الذي يدخل الجنة وهي أجره على إيمانه وصالح أعماله، فلا هو يخاف ولا يحزن.
هذا معنى الآيتين الأولى(111) والثانية(112) والثالثة(113) فقد سجلت كفر كل من اليهود والنصارى، بشهادتهم على بعضهم بعضاً فقد كفر اليهود والنصارى بقولهم: إنهم ليسوا على شيء من الدين الحق الذي يعتد به ويؤبه له، وكفّر النصارى اليهود بقولهم: ليست اليهود على شيء مع أنهم يقرأون التوراة والإنجيل، فلذا كان تكفيرهم لبعضهم لبعض حقاً وصدقاً. ثم أخبر تعالى أن ما وقع فيه اليهود والنصارى وهم أهل كتاب من الكفر والضلال قد وقع فيه أمم قبلهم دون علم منهم وذلك لجهلهم، وأخبر تعالى أنه سيحكم بينهم يوم القيامة ويجزيهم بكفرهم وضلالهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- إبطال تأثير النسب2 في السعادة والشقاء، وتقرير أن السعادة بدخول الجنة مردها إلى تزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح، وإن الشقاوة بدخول النار مردها إلى الشرك، وارتكاب الذنوب فلا نسبة إلى يهودية أو نصرانية أو غيرهما تُغني عن صاحبها، وإنما المغني بعد فضل الله ورحمته الإيمان والعمل الصالح بعد التخلي عن الشرك والمعاصي.
2- كفر اليهود والنصارى وهو شر كفر؛ لأنه كان على علم.
3- الإسلام الصحيح القائم على أسسه الثلاثة الإيمان والإسلام والإحسان هو سبيل3 النجاة من النار والفوز بالجنة.
__________
1 أي: ذاته، إذ طاعة الله تعالى تكون بها قلباً وجوارح، ومن إطلاق الوجه على الذات، قول الشنفري:
إذا قطع رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثم سائري
قوله وفي الرأس أكثري: فيه تفصيل الرأس الذي هو بمعنى الوجه على سائر الجسد لأفضليته، فكذلك إطلاق الوجه في الآية و إرادة الذات، لأن الوجه أشرف الذات.
2 ويشهد لهذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: "ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" الحديث.
3 هذا مستفاد من قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} الآية.

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(115)}
شرح الكلمات:
{وَمَنْ أَظْلَمُ} : الاستفهام للإنكار والنفي، والظلم وضع الشيء في غير محله مطلقاً.
{وَسَعَى1 فِي خَرَابِهَا} : عمل في هدمها وتخريبها حقيقة أو يمنع الصلاة فيها وصرف الناس عن التعبد فيها إذ هذا من خرابها أيضاً.
الخزي : الذل والهوان2.
{فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} : هناك الله تعالى إذ الله عز وجل محيط بخلقه فحيثما اتجه العبد شرقاً أو غرباً شمالاً أو جنوباً وجد الله تعالى، إذ الكائنات كلها بين يديه وكيف لا يكون ذلك وقد أخبر عن نفسه أن الأرض قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه، فليس هناك جهة تخلو من علم الله تعالى وإحاطته بها وقدرته عليها. ويقرر هذا قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ، إنه واسع الذات والعلم والفضل والجود والكرم عليم بكل شيء لأنه محيط بكل شيء.
شرح الآيتين:
ففي الآية الأولى(114) ينفي تعالى أن يكون هناك من هو أكثر ظلماً ممن منع مساجد3 الله تعالى أن يعبد الله تعالى فيها، لأن العبادة هي علة الحياة فمن منعها كان كمن أفسد
__________
1 أصل السعي: المشي، ومنه السعي بين الصفا والمروة، وهو المشي بينهما ثم أطلق على التسبب مطلقاً يقال: سعى فلان في مصلحتك وسعى فلان في الإفساد بين فلان وفلان.
2 وقد نال صناديد قريش حيث أزلهم وأخزاهم يوم الفتح على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم.
3 المساجد: جمع مسجد بكسر الجيم على غير قياس إذ فعل بالفتح، يفعل بالضم، الاسم منه كالمصدر مفعل بالفتح، ونظير المسجد المطلع والمشرق والمسكن والمرفق. والمسجد بالفتح: جبهة المرء وأعضاء سجوده السبعة.

الحياة كلها وعطلها، وفي نفس الوقت ينكر تعالى هذا الظلم على فاعليه وسواء كانوا قريشاً بصدهم النبي وأصحابه عن المسجد الحرام، أو فلطيوس ملك الروم الذي خرّب المسجد الأقصى1، أو غيرهم ممن فعلوا هذا الفعل أو من سيفعلونه مستقبلاً، ولذا ضمن تعالى قوله: {مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ} ، أمر المسلمين بجهاد الكافرين وقتالهم حتى يسلموا أو تكسر شوكتهم فيذلوا ويهونوا.
وفي الآية الثانية(115) يخبر تعالى راداً على اليهود الذين انتقدوا أمر تحويل القبلة من بين المقدس إلى الكعبة، مؤذناً بجواز صلاة من جهل القبلة أو خفيت عليه إلى أي جهة كانت، فأخبر تعالى أن له المشرق والمغرب2 خلفاً وملكاً وتصرفاً، يوجه عباده إلى الوجهة التي يشاؤها شرقاً أو غرباً، جنوباً أو شمالاً، فلا اعتراض ولا إنكار وأن الله تعالى محيط بالكائنات، فحيثما توجه العبد في صلاته فهو متوجه إلى الله تعالى، إلا أنه تعالى أمر بالتوجه في الصلاة إلى الكعبة بمن عرف جهتها لا يجوز له أن يتجه إلا إليها.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- عظم جريمة من يتعرض للمساجد بأي أذى3 أو إفساد.
2- وجوب حماية المساجد من دخول الكافرين إلا أن يدخلوها بإذن المسلمين وهم أذلاء صاغرون.
3- صحة صلاة4 النافلة على المركوب في السفر إلى القبلة وإلى غيرها.
4- وجوب استقبال القبلة إلا عند العجز5 فيسقط هذا الواجب.
5- العلم بإحاطة الله تعالى بالعوالم كلها قدرة وعلماً فلا يخفى عليه من أمر العوالم شيء ولا يعجزه آخر.
__________
1 وقد خرب بيت المقدس أيضاً بختنصر اليهودي البابلي قبل النصارى.
2 بناء على كروية الأرض، فإن الأرض كلها مشرق ومغرب، إذ كل مكان تشرق فيه هو مكان تغرب فيه.
3 من عظم ذنب من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه أخذ المالكية أن المرأة الصرورة التي لم تحج الفرض لا تمنع من الحج وإن لم يكن معها محرم، وعدو منعها من أداء الفريضة من الصد عن المسجد عن الحرام.
4 إذ صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي النافلة على راحتله حيثما اتجهت به القبلة وإلى غيرها.
5 للعجز صور منها: أن يكون مريضاً لا يقدر على التحول، ومنها: أن يكون خائفاً، ومنها: أن يكون مقاتلاً أو هارباً، ومنها: أن يكون جاهلاً بها فطلبها ولم يعرف فصلى حيث ترجح القبلة وإن لم يصبها.

{وَقَالُوا1 اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ(116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(117) وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا2 يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ(119)}
شرح الكلمات:
سبحانه : تنزه وتقدس عن كل نقص ومنه أن يكون له ولد.
قانتون : خاضعون مطيعون تجري عليهم أقداره وتنفذ فيهم أحكامه.
بديع السموات : مبدعها أي موجدها على غير مثال سابق.
قضى أمراً : حكم بإيجاده.
أو تأتيه آية : كآيات موسى وعيسى في العصا وإحياء الموتى.
ولا تسأل : قرئ بالتاء للمجهول، ولا نافية والفعل مرفوع، وقرئ بالبناء للمعلوم ولا ناهية والفعل مجزوم.
الجحيم : دركة من دركات النار وهي أشدها عذاباً.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر أباطيل الكافرين من أهل الكتاب والمشركين والرد عليها بما يظهر زيفها ويبطلها نهائياً ففي الآيتين الأولى(116) والثانية(117) يذكر تعالى قول
__________
1 الضمير المرفوع في {قالوا} عائد إلى الفرق الثلاث، وهم: أهل الكتاب، ومشركوا العرب.
2 لولا: بمعنى لعل التحضيضية.

أهل الكتاب والمشركين في أن الله اتخذ ولداً، إذ قالت اليهود: العزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقال بعض مشركي العرب: الملائكة بنات الله، ذكر تعالى قولهم اتخذ الله ولداً ثم نزه1 نفسه عن هذا القول الباطل والفرية2 الممقوتة، وذكر الأدلة العقلية على بطلان الدعوى.
فأولاً: مِلْكيةُ الله تعالى لما في السموات والأرض، وخضوع3 كل من فيهما لحكمه وتصريفه وتدبيره يتنافى عقلاً مع اتخاذ ولد منهم.
ثانياً: قدرة الله تعالى المتجلية في إبداعه السموات والأرض وفي قوله للشيء كن فيكون يتنافى معها احتياجه إلى الولد4، وهو مالك كل شيء ورب كل شيء، وفي الآية الثالثة(118) يرد تعالى على قولة المشركين الجاهلين: {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} حيث اقترحوا ذلك ليؤمنوا ويوحدوا، فأخبر تعالى أن مثل هذا الطلب طلبه من قبلهم فتشابهت قلوبهم في الظلمة والانتكاس، فقد قال اليهود لموسى أرنا الله جهرة، أما رؤية الله وتكليمه إياهم فغير ممكن في هذه الحياة حياة الامتحان والتكليف، لذا لم يجب إليه أحداً من قبلهم ولا من بعدهم، وأما الآيات فما أنزل الله تعالى وبينه في كتابه من الآيات الدالة على الإيمان بالله ووجوب عبادته وتوحيده فيها، وعلى صدق نبيه في رسالته ووجوب الإيمان به واتباعه كاف ومغن عن أية آية مادية يريدونها، ولكن القوم لكفرهم وعنادهم لم يروا في آيات القرآن ما يهديهم وذلك لعدم إيقانهم، والآيات يراها وينتفع بها الموقنون لا الشاكون المكذبون.
وفي الآية الرابعة(119) يخفف تعالى على نبيه همَّ مطالبة المشركين بالآيات بأنه غير مكلف بهداية أحد ولا ملزم بإيمان آخر، ولا هو مسئول5 يوم القيامة عمن يدخل النار من الناس، إذ مهمته محصورة في التبشير6 والإنذار تبشير من آمن وعمل صالحاً بالفوز بالجنة
__________
1 وذلك بقوله: {سبحانه} مصدر معناه: التبرئة والتنزيه والمحاشاة.
2 أحرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك. فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمي إياي فقوله لي: ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً" .
3 الخضوع هنا تفسير القنوت، والقنوت يكون بمعنى الطاعة في ذلة وانكسار وخشوع، كما هو في هذا السياق ويكون بمعنى السكوت كما في الصلاة، كقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أي: لا تتكلموا في صلاتكم، ويكون بمعنى الدعاء في الصلاة.
4 من الأدلة العقلية على إبطال فرية اتخاذ الله تعالى الولد: أن الولدية تقضي التجانس، والله تعالى ليس كمثله شيء، وهو لا يجانسه شيء، ثم الولد يتنافى مع الرق والملك والله له ملك السموات والأرض، فكيف يكون الرقيق ولداً؟!.
5 قرأ نافع وحده {ولا تَسأل} بفتح التاء وسكون اللام في قوله: {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا ليت شعري ما فعل أبواي" فأنزل الله تعالى هذه الآية.
6 البشير كالنذير فعلهما بشر، وأنذر. واسم الفاعل: مبشر ومنذر، ونقل إلى بشير ونذير للمبالغة في الفعل.

والنجاة من النار، وإنذار من كفر وعمل سوءاً بدخول النار والعذاب الدائم فيها.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمة نسبة أي شيء إلى الله تعالى بدون دليل من الوحي الإلهي، إذ أنكر تعالى نسبة الولد إليه أنكره على أهل الكتاب والمشركين معاً.
2- تشابه قلوب أهل الباطل في كل زمان ومكان لاستجابتهم للشيطان وطاعتهم له.
3- لا ينتفع بالآيات إلا أهل اليقين لصحة عقولهم وسلامة قلوبهم.
4- على المؤمن أن يدعو إلى الله تعالى، وليس عليه أن يهدي، إذ الهداية بيد الله، وأما الدعوة فهي في قدرة الإنسان، وهو مكلف بها.
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ1 قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ2 مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(121)}
شرح الكلمات:
ملتهم : دينهم الذي هم عليه من يهودية ونصرانية.
قل إن الهدى هدى الله : الهدى: ما أنزل به كتابه وبعث به رسوله وهو الإسلام، لا ما ابتدعه اليهود والنصارى من بدعة اليهودية والنصرانية.
__________
1 ملتهم: بمعنى مللهم، إذ لكل كافر ملة، ومن هنا ذهب الجمهور إلى أن الكفر ملة واحدة، وذهب أحمد في رواية له ومالك إلى أن الكفر ملل، ولذا فلا يرث اليهودي النصراني، ولا النصراني اليهودي، ولا المجوسي. إذ لكل ملة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتوارث أهل ملتين" ويبقى معنى الكفر ملة واحدة، أي: إنه ليس فيه فاضل، ومفضول.
2 روي أن أحمد استدل على كفر من قال بخلق القرآن بهذه الآية: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} وهو القرآن. فمن قال بخلق القرآن، قال بخلق علم الله تعالى. وهو كفر صريح.

من ولي ولا نصير : الولي من يتولاك ويكفيك أمرك، والنصير من ينصرك ويدفع عنك الأذي.
يتلونه حق1 تلاوته : لا يحرفون كلمه عن مواضعه ولا يكتمون الحق الذي جاء فيه من نعت الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وغيره.
أولئك هم الخاسرون : المشار إليهم كفار أهل الكتاب والخسران خسران الدنيا والآخرة.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في أهل الكتاب يكشف عوارهم ويدعوهم إلى الهدى لو كانوا يهتدون، ففي الآية الأولى(120) يخبر تعالى رسوله وأمته تابعة له أن اليهود والنصارى لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم الباطلة، وهي اليهودية أو النصرانية، وفي هذا نهي عن اتباعهم ثم أمره أن يخبرهم أن الهدى هدى2 الله الذي هو الإسلام وليس اليهودية ولا النصرانية، إذ هما بدعتان من وضع أرباب الأهواء والأطماع المادية.
ثم يحذر الله رسوله وأمته من اتباع اليهود والنصارى بعد الذي جاءهم والنعمة التي أتمها عليهم وهي الإسلام فيقول: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِير} .
وفي الآية الثانية(112) يخبر تعالى أن الذين آتاهم الله الكتاب التوراة والإنجيل فكانوا يتلونه حق تلاوته فلا يحرفون ولا يكتمون هؤلاء يؤمنون بالكتاب حق الإيمان، أما الذين يحرفون كلام الله ويكتمون ما جاء فيه من نعوت النبي صلى الله عليه وسلم فهؤلاء لا يؤمنون به وهم الخاسرون دون غيرهم، ومن آمن3 من أهل الكتاب بكتابه وتلاه حق تلاوته سوف يؤمن بالنبي الأمي ويدخل في دينه قطعاً.
هداية الآيات:
من هداية الآيتين:
1- لا يحصل المسلم على رضا اليهود والنصارى إلا بالكفر بالإسلام واتباع دينهم الباطل
__________
1 هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتابعوهم بإحسان كان أحدهم إذا مر بآية رحمة سألها الله تعال،ى وإذ تعالى مر بآية عذاب تعوذ بالله من العذاب.
2 أن ما يهدي إليه الرب تعالى عباده المؤمنين بمعنى ما يوفقهم إليه من الإسلام ظاهراً وباطناً، فيعملون بطاعته وطاعة رسوله في المنشط والمكره، ذلك هو هدى الله المبعد عن الضلال والموصل إلى دار السلام.
3 كعبد الله بن سلام، ومن آمن على عهد رسول الله من أحبار أهل الكتاب.

وهذا ما لا يكون للمسلم أبداً، فلذا طلب رضا اليهود والنصارى محرم لا يحل أبداً.
2- لا دين1 حق إلا الإسلام فلا ينبغي أن يُلتفت إلى غيره بالمرة.
3- من يوالي اليهود والنصارى باتباعهم على باطلهم يفقد ولاية الله تعالى ويحرم نصرته.
4- طريق الهداية في تلاوة كتاب الله حق تلاوته بأن يجوده قراءة ويتدبره هداية ويؤمن بحكمه ومتشابهه، ويحلل حلاله ويحرم حرامه، ويقيم حدوده كما يقيم حروفه.
{يَا بَنِي2 إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ3 مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ(123)}
شرح الكلمات:
إسرائيل : لقب يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام.
وبنو إسرائيل: هم اليهود.
العالمين : البشر الذين كانوا في زمانهم مطلقاً.
لا تجزي : لا تقضي ولا تغني.
العدل : الفداء.
شفاعة : وساطة أحد.
__________
1 يشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: "والذي نفسي بيده ما يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار".
2 هذا النداء الثالث الذي نادى الله تعالى به بني إسرائيل يأمرهم بذكر نعمه ليشكروها بالإيمان برسوله، والدخول في دين الإسلام، لكن حالهم كما قال القائل:
لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي
3 يلاحظ تقديم الشفاعة في النداء الثاني على أخذ العدل وتأخير الشفاعة في هذا النداء وتقديم العدل وما هو إلا تفنن في الأسلوب إذهاباً للسآمة. وهذا شأن الكلام البليغ.

معنى الآيتين:
يعظ الرحمن عز وجل اليهود فيناديهم1 بأشرف ألقابهم ويأمرهم نعمه تعالى عليهم وهي كثيرة، ويأمرهم أن يذكروا تفضيله تعالى لهم على عالمي زمانهم، والمراد من ذكر النعم شكرها، فهو تعالى في الحقيقة يأمرهم بشكر نعمه، وذلك بالإيمان به وبرسوله والدخول في دينه الحق (الإسلام).
كما يأمرهم باتقاء عذاب يوم القيامة حيث لا تغني نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها فداء ولا تنفعها شفاعة، وهذه هي نفس الكافر المشرك، حيث لا شفاعة تنال الكافر أو المشرك، ولا يوجد لهم ناصر ينصرهم فيدفع عنهم العذاب، إذ اتقاء عذاب يوم القيامة يكون بالإيمان بالله ورسوله والعمل الصالح، بعد التخلي عن الكفر والمعاصي.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- وجوب ذكر نعم الله على العبد ليجد بذلك دافعاً نفسياً لشكوها، إذ غاية الذكر هي الشكر.
2- وجوب اتقاء عذاب يوم القيامة بالإيمان وصالح الأعمال بعد التخلي عن الشرك والعصيان.
3- استحالة الفداء يوم القيامة، وتعذر وجود شافع يشفع لمن مات على الشرك لا بإخراجه من النار، ولا بتخفيف العذاب عنه.
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ2 رَبُّهُ3 بِكَلِمَات4ٍ
__________
1 بهذا النداء ختم الحجاج مع اليهود في هذه السورة، فلم يجري لهم ذكر بعد فكان من براعة المقطع. ذكر هذا صاحب التحرير والتنوير، وليس صحيحاً، بل الصحيح: أن ختم الحجاج مع اليهود انتهى عند قوله تعالى: {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} الآية 149.
2 أبرهم بالسريانية والعبرية أيضاً معناه: أب رحيم، ولرحمته جعلها الله تعالى كافلاً للأطفال المؤمنين في الجنة إلى يوم القيامة إن صح الحديث بذلك.
3 ذكر الربوبية هنا تشريف لإبراهيم عليه السلام وإيذان بأن ابتلاؤه كان تربية له وإعداداً له لأمر خطير.
4 الكلمات: جمع كلمة، وهي اللفظ المفرد، وتطلق على الكلام أيضاً، والمراد بها هنا كلمات تحمل الأوامر التكليفية، ومن أبرزها ما يلي: كسر الأصنام، والهجرة، وذبح إسماعيل، وبناء البيت العتيق، والختان، والصلاة، والزكاة، وخصال الفطرة، والصدق، والصبر، وبالجملة: فقد نهض إبراهيم بكل ما عاهد إليه ربه بالقيام به من الشرائع، فلذا أكرمه بالإمامة وشرفه بها.

فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ(124)}
شرح الكلمات:
ابتلى : اختبره بتكليفه بأمور شاقة عليه.
بكلمات : متضمنة أوامر ونواهي.
أتمهن : قام بهن وأداهن على أكمل الوجوه وأتمها.
إماماً : قدوة صالحة يقتدى به في الخير والكمال.
الظالمين : الكافرين والمشركين والفاسقين المعتدين على الناس.
معنى الآية الكريمة:
بعد ذلك الحجاج الطويل الذي عاشه رسول الله مع طائفتي أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكذا المشركين في الآيات السابقة لهذه الآية، أمر تعالى رسوله أن يذكر ابتلاءه تعالى لنبيه وخليله إبراهيم عليه السلام بما كلفه من أوامر ونواهي، فقام بها خير قيام فأنعم عليه بأكبر إنعام، وهو أنه جعله إماماً للناس، ومن أبرز تلك التكاليف وقوفه في وجه الوثنيين، وتحطيم أوثانهم، والهجرة من ديارهم والهم بذبح ولده إسماعيل قرباناً لله، وبناء البيت، وحجة الدعوة إليه مما استحق به الإمامة للناس كافة، وفي هذا تبكيت للفرق الثلاثة: العرب المشركين، واليهود، والنصارى. إذ كلهم يدعي انتماءه لإبراهيم والعيش على ملته فها هو ذا إبراهيم موحد وهم مشركون، عادل وهم ظالمون، مُتبع للوحي الإلهي وهم به كافرون ولصاحبه مكذبون، وفي الآية بيان رغبة إبراهيم في أن تكون الإمامة في ذريته وهي رغبة صالحة فجعلها الله تعالى في ذريته1 2 كما رغب واستثنى تعالى الظالمين فإنهم لا يستحقونها فهي لا تكون إلا في أهل الخير والعدل و الرحمة لا تكون في الجبابرة القساة ولا الظالمين العتاة.
__________
1 الذرية: مأخوذ من ذرأ الله الخلق درأً، أي: خلقهم والجمع: ذراري.
2 قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب} الآية من سورة العنكبوت.

هداية الآية:
من هداية الآية:
1- الإمامة لا تنال إلا بصحة اليقين1 والصبر على سلوك سبيل المهتدين.
2- مشروعية ولاية العهد، بشرط أن لا يعهد إلا إلى من كان على غاية من الإيمان والعلم والعمل والعدل والصبر.
3- القيام بالتكاليف الشرعية قولاً وعملاً2 يؤهل لأن يكون صاحبه قدوة صالحة للناس.
{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً3 لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ(125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(126)}
شرح الكلمات:
البيت : الكعبة التي هي البيت الحرام بمكة المكرمة.
مثابة : مرجعاً يثوب إليه العمار والحجاج.
أمناً : مكاناً آمناً يأمن فيه كل من دخله
مقام إبراهيم : الحجر الذي كان قد قام عليه إبراهيم أيام كان يبني البيت وذلك أنه لما ارتفع البناء احتاج إبراهيم إلى حجر عال يرقى عليه ليواصل بناء الجدران، فجيء بهذا الحجر فقام عليه فسمي مقام إبراهيم.
__________
1 شاهد هذا في كتاب الله تعالى إذ قال عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} السجدة. فلذا قيل: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
2 هذا مستفاد من قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} .
3 مثابة: أصله: ثاب مصدر ثاب يثوب مثاباً، وزيدت فيه التاء للمبالغة كما زيدت في علامة ونسابة، ويشهد لهذا قول الشاعر:
جعل البيت مثابة لهم ...
ليس منه الدهر يقضون الوطر

مصلى : مكاناً يصلى فيه أو عنده أو إليه.
عهدنا : وصينا وأمرنا.
تطهير البيت : تنزيه عن الأقذار الحسية؛ كالدماء والأبوال. ومعنوية؛ كالشرك والبدع والمفاسد.
اضطره : ألجأه مكرهاً إلى العذاب.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في تذكير المشركين وأهل الكتاب معاً بأبي الأنبياء وإمام الموحدين إبراهيم عليه السلام، ومآثره الطيبة الحميدة، ومواقفه الإيمانية العظيمة ليتجلى بذلك بطلان دعوى كل من أهل الكتاب والمشركين في انتسابهم إلى إبراهيم كذباً وزوراً، إذ هو موحد وهم مشركون، وهو مؤمن وهم كافرون، فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: اذكر لهم كيف جعلنا البيت مثابة للناس1 يثوبون إليه في كل زمان حجاجاً وعماراً، وأمناً دائماً من دخله، أمن على نفسه وماله وعرض. وقلنا لمن حجوا البيت أو اعتمروا اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، فكان من سنة من طاف بالبيت أن يصلي خلف المقام ركعتين، كما أوصينا2 من قبل إبراهيم وولده إسماعيل بتطهير البيت من كل رجز معنوياً؛ كالأصنام وعبادة غير الله تعالى، أو حسياً؛ كالأقذار والأوساخ من دم أو بول حتى يتمكن الطائفون والعاكفون3 والمصلون من آداء هذه العبادات بلا أي أذى يلحقهم أو يضايقهم.
هذه ما تضمنته الآية الأولى(125)، أما الآية الثانية(126) فقد تضمنت أمر الله تعالى لرسوله أن يذكر دعوة إبراهيم ربه بأن يجعل بلداً آمنا4 من دخله يأمن فيه5 على نفسه وماله وعرضه، وأن يرزق أهله وسكانه المؤمنين من الثمرات وأن الله قد استجاب لإبراهيم دعوته إلا إن الكافرين لا يحرمون الرزق في الدنيا ولكن يحرمون الجنة في الدار الآخرة حيث
__________
1 فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام حج البيت وإن هوداً حجه من قبل، وكذا سائر الأنبياء والمرسلين.
2 الآية وعهدنا: إلا إن الوعد المؤكد وقوعه يصير عهداً، فإن عدي بإلى صار وصية، فلذا فسرنا: العهد، هنا بالوصية.
3 العكوف: ملازمة المسجد للصلاة والعبادة، والعاكفون الملازمون للمسجد الحرام من ساكن مكة وغريب.
4 الجمهور على أن الحدود تقام على أصحابها في الحرم، وخالف أبو حنيفة في هذا، وقول الجمهور أصح وعليه العمل. فقد روى البخاري أن عمر بن سعيد قال: "إن الحرم لا يعيذ عاصياً، ولا فاراً بدم، ولا فاراً بخربة".
5 هل كانت مكة حراماً قبل دعوة إبراهيم أو بعد دعوته خلاف، ويشهد لقولها ما كانت حراماً قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها.." الحديث في مسلم.

يلجئهم تعالى مضطراً لهم إلى عذاب النار الغليظ وبئس هذا المصير الذي يصيرون إليه –وهو النار- من مصير.
هداية الآيات:
من هداية الآيتين:
1- منة الله تعالى بجعل البيت مثابة للناس وأمناً توجب حمد الله على كل مؤمن.
2- سنة صلاة ركعتين خلف المقام لمن1 طاف البيت.
3- وجوب حماية البيت والمسجد الحرام من أي ضرر يلحق من يوجد فيه من طائف وعاكف وقائم وراكع وساجد.
4- بركة دعوة إبراهيم لأهل مكة، واستجابة الله تعالى له دعوته فلله الحمد والمنة.
5- الكافر لا يحرم الرزق لكفره2 بل له الحق في الحياة إلا أن يحارب فيقتل أو يسلم.
6- مصير من مات كافراً إلى النار، لا محالة، والموت في الحرم لا يغني عن الكافر شيئاً.
{وَإِذْ يَرْفَعُ3 إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ4 رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ5 لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
__________
1 روى البخاري عن عمر رضي الله عنه إنه قال: "وافقت ربي في ثلاث: قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} الآية.
2 هذا مستفاد من قول الله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً..} إلخ، إذ إبراهيم عليه السلام سأل الرزق للمؤمنين لاغير نظراً إلى أن الله تعالى رد طلبه في سؤاله الإمامة لكافة ذريته، إذ قال: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} فمن هنا استثنى إبراهيم غير المؤمنين فأعلمه الله أن الغذاء حق الحي مؤمناً كان أو كافراً.
3 الإتيان بالمضارع هنا مع أن السياق في أمور مضت من أجل استحضار الحالة كأنها مشاهدة وذلك إبرازاً لمواقف إمام الموحدين إبراهيم المشرفة ترغيباً في الاقتداء به.
4 إسماعيل: هو الولد البكر لإبراهيم، وأمه: هاجر الجارية المصرية، ومعنى إسماعيل: سمع الله.
5 هذا كسؤال المسلم في صلاته: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أي: أدم هدايتنا واحفظ سيرنا عليه حتى نفوز برضاك والجنة، فكذلك سؤال إبراهيم: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} ، أي: أدم لنا إسلامنا واحفظها علينا حتى لا نتركه؛ لأنه علة وجودنا وغاية أملنا في الحياة.

وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(129)}
شرح الكلمات:
وإذ : ظرف لما مضى من الزمان ويعلق بمحذوف تقديره: أذكر وقت كذا وكذا.
القواعد : جمع قاعدة ما يبنى عليه الجدار من أساس ونحوه.
البيت : الكعبة حماها الله وطهرها.
إنك أنت السميع العليم : هذه الجملة وسيلة توسل بها إبراهيم وولده لقبول دعائهم.
مسلمين : منقادين لك خاضعين لأمرك ونهيك، راضين بحكمك، عابدين لك.
أرنا مناسكنا : علمنا كيف نحج بيتك، تمسكاً وتعبداً لك.
تب علينا : وفقنا للتوبة إذا زللنا وأقبلها منا.
وابعث فيهم رسولاً : هذا الدعاء استجابه الله تعالى، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو ما طلباه.
الكتاب : القرآن.
الحكمة : السنة وأسرار الشرع والإصابة في الأمور كلها.
يزكيهم : يطهر أرواحهم ويكمل عقولهم، ويهذب أخلاقهم بما يعلمهم من الكتاب والحكمة، وما بينه لهم من ضروب الطاعات.
العزيز الحكيم : العزيز الغالب الذي لا يغلب. الحكيم في صنعه وتدبيره بوضع كل شيء في موضعه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر مآثر إبراهيم عليه السلام المنبئة عن مكانته السامية في كمال الإيمان والطاعة، وعظيم الرغبة في الخير والرحمة، فقد تضمنت الآيات الثلاث ذكر إبراهيم وإسماعيل وهما يبنيان البيت برفع قواعده وهما يدعوان الله تعالى بأن يتقبل1 منهما عملهما متوسلين إليه بأسمائه وصفاته: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
__________
1 هذه من كمال الحال إذ هو في حال البناء، والتعب، والعرق، ويسأل أن يتقبل منه عمله. هذا شأن الكمال من الرجال. قال تعالى عنهم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} الآية.

كما يسألانه عز وجل أن يجعلها مسلمين له، وأن يجعل من ذريتهما أمة مسلمة1 له مؤمنة به موحدة له ومنقادة لأمره ونهيه مطيعة، وأن يعلمهما مناسك2 حج بيته العتيق ليحجاه على علم، ويتوب عليهما، كما سألاه عز وجل أن يبعث في ذريتهم رسولاً منهم يتلو عليهم آيات الله ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم الإيمان وصالح الأعمال، وجميل الخلال وطيب الخصال.
وقد استجاب الله تعالى دعاؤهما فبعث في ذريتهما من أولاد إسماعيل إمام المسلمين وقائد الغر المحجلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قرر هذا صلى الله عليه وسلم بقوله: "أنا دعوة3 أبي إبراهيم وبشارة عيسى..." عليهم جميعاً السلام.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضل الإسهام بالنفس في بناء المساجد4.
2- المؤمن البصير في دينه يفعل الخير وهو خائف ألا يقبل منه فيسأل الله تعالى ويتوسل إليه بأسمائه وصفاته أن يتقبله منه.
3- مشروعية سؤال الله للنفس وللذرية الثبات على الإسلام حتى الموت عليه.
4- وجوب تعلم مناسك الحج والعمرة على من أراد أن يحج أو يعتمر.
5- وجوب طلب تزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح، وتهذيب الأخلاق بالعلم والحكمة.
6- مشروعية التوسل إلى الله تعالى في قبول الدعاء، وذلك بأسمائه تعالى وصفاته لا بحق فلان وجاه فلان، كما هو شأن المبتدعة والضلال. ففي هذه الآيات الثلاث توسل إبراهيم وإسماعيل بالجمل التالية:
1- {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
__________
1 هي أمة الإسلام التي أنشأها بعون الله تعالى محمد الذي بعثه الله رسولاً في ذرية إسماعيل للعالمين.
2 النسك في اللغة: الغسل بالماء، يقال: نسك ثوبه إذا غسله، وهو في الشرع: اسم للعبادة، لأن العبادة تطهر النفس وتزكيها، يقال: رجل ناسك ومتنسك إذا لازم العبادة يغسل بها نفسه لتطهر وتزكو فيفلح بذلك ويفوز. ومناسك الحج: هي العبادات المشروعة فيه من إحرام وطواف وذبح الهدي وغير ذلك.
3 رواه أحمد بلفظ: "إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمجندل في طينته وسأنبئكم بأول ذك. دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت وكذلك أمهات النبيين يرين" .
4 وفي الحديث الصحيح: "من بنى لله مسجداً بنى الله له قصراً في الجنة" .

2- {إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .
3- {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
{وَمَنْ يَرْغَبُ1 عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ2 فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ(130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(131) وَوَصَّى3 بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(132) أَمْ4 كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(134)}
شرح الكلمات :
ومن يرغب عن ملة إبراهيم : الرغبة عن الشيء عدم حبه وترك طلبه، وملة إبراهيم هي عبادة الله وحده بما شرع لعباده.
__________
1 الاستفهام للنفي والإنكار، وملة إبراهيم هي عبادة الله وحده لا شريك له بما شرع الله تعالى لعباده من أنواع العبادات في كتابه وعلى لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
2 الاصطفاء: مأخوذ من الصفوة، وهو تخير الأصفى: أي الأكثر صفاء، واصطفى: قلبت فيه التاء طاء لتناسبها مع الصاد في الإطباق، إذ الأصل: اصطفى، أي: طلب الصفوة.
3 وصى وأوصى، بمعنى: عهد إليه بكذا، والموصى به هنا هو كلمة: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وذلك بعبادته وحده بما شرع بعد خلع الأنداد. وذي: هي ملة إبراهيم.
4 أم: بمعنى: بل. والهمزة هي التي للاستفهام الإنكاري وتقدير الكلام: بل أكنتم شهداء حين حضر يعقوب الموت فوصى بنيه. يوبخهم على كذبهم وينكر عليهم.

إلا من سفه1 نفسه : لا يرغب عن ملة إبراهيم التي هي دين الإسلام إلا عبد جهل قدر نفسه فأزلها وأهانها بترك سبيل عزها وكمالها وإسعادها، وهي: الإسلام.
اصطفيناه : اخترناه لرسالتنا والبلاغ عنا، ومن ثم رفعنا شأنه وأعلينا مقامه.
أسلم : أنقد لأمرنا ونهينا، فاعبدنا وحدنا ولا تلتفت إلى غيرنا.
اصطفى لكم الدين : اختار لكم الدين الإسلامي ورضيه لكم، فلا تموتن2 إلا وأنتم مسلمون.
يعقوب : هو إسرائيل ابن إسحق بن إبراهيم، وبنوه هم: يوسف وأخوته.
أمة خلت : جماعة أمرها واحد. خلت: مضت إلى الدار الآخرة.
لها ما كسبت : أجر ما كسبته من الخير.
ولكم ما كسبتم : من خير3 أو غيره.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى في الآيات السابقة مواقف إبراهيم السليمة الصحيحة عقيدة وإخلاصاً وعملاً صالحاً وصدقاً ووفاءاً فوضح بذلك ما كان عليه إبراهيم من الدين الصحيح، قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} تلك الملة الحنيفية الواضحة السهلة. اللهم لا أحد يرغب عنها إلا عبد جهل قدر نفسه، ولم يعرف لها حقها في الطهارة والصفاء والإكمال والإسعاد، وضمن هذا الخبر ذكر تعالى إنعامه على إبراهيم وما تفضل به عليه من الاصطفاء في الدنيا والإسعاد في الآخرة في جملة الصالحين.
وفي الآية الثانية (131) يذكر تعالى إن ذاك إلا اصطفاء تم لإبراهيم عند استجابته لأمر ربه بالإسلام، حيث أسلم ولم يتردد. وفي الآية الثالثة (132) يذكر تعالى إقامة الحجة على
__________
1 سفه نفسه: استخف بقدرها جهلاً به. ولذا نصب نفسه لتضمن سفه معنى جهل.
2 في قوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} إيجاز بليغ، إذ معناه: الزموا الإسلام ودموا عليه ولا تفارقوه حتى تموتوا. وجملة: {وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} في محل نصب على الحال، والمعنى: مطيعون خاضعون.
3 فيه معنى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ومعنى {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلا عَلَيْهَا}.

المشركين وأهل الكتاب معاً، إذ ملة الإسلام القائمة على التوحيد وصى بها إبراهيم بنيه، كما وصى بها يعقوب بنيه وقال لهم: لا تموتن إلا على الإسلام، فأين الوثنية العربية واليهودية والنصرانية من ملة إبراهيم، إلا فليثب العقلاء إلى رشدهم.
وفي الآية الرابعة(133) يوبخ تعالى اليهود القائلين كذباً وزوراً للنبي صلى الله عليه وسلم: ألست تعلم أن يعقوب وصى بنيه باليهودية، فقال تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ} أي: كنتم حاضرين لما حضر يعقوب الموت فقال لبنيه مستفهماً إياهم: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} ؟ فأجابوه بلسان واحد: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ1 وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً2 وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.
فإن قالوا كنا حاضرين فقد كذبوا وبهتوا ولعنوا، وإن قالوا لم نحضر بطلت دعواهم أن يعقوب وصى بنيه باليهودية، وثبت أنه وصاهم بالإسلام لا باليهودية.
وفي الآية الأخيرة(134) ينهى تعالى جدل اليهود الفارغ فيقول لهم: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} –يعني إبراهيم وأولاده- لها ما كسبت من الإيمان وصالح الأعمال، ولكم أنتم معشر يهود ما اكتسبتم من الكفر والمعاصي وسوف لا تسألون يوم القيامة عن أعمال غيركم وإنما تسألون عن أعمالكم وتجزون بها، فاتركوا الجدل وأقبلوا على ما ينفعكم في أخرتكم وهو الإيمان الصحيح والعمل الصالح، ولا يتم لكم هذا إلا بالإسلام، فاسلموا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- لا يرغب عن الإسلام بتركه أو طلب غيره من الأديان إلا سفيه لا يعرف قدر نفسه.
2- الإسلام دين البشرية3 جمعاء، وما عداه فهي أديان مبتدعة باطلة.
3- استحباب الوصية للمريض يوصي فيها بنيه وسائر أفراد أسرته بالإسلام حتى الموت عليه.
4- كذب اليهود وبهتانهم وصدق من قال: اليهود قوم بهت.
__________
1 فيه إطلاق لفظ الأب على العم؛ لأن إسماعيل عم ليعقوب وليس بأب له، وفيه إطلاق الأب على الجد أيضاً، ومن هنا ذهب من ذهب إلى أن الجد كالأب يحجب الأخوة عن الإرث؛ لأن الأب يحجب الأخوة حجب إسقاط.
2 أن نوحده بالألوهية، أي: العبادة ولا نشرك به في عبادته سواه.
3 الإسلام هو ملة سائر الأنبياء، وأن تنوعت أنواع التكليف عندهم، واختلفت مناهج العمل بينهم، إذ الإسلام هو انقياد لله وخضوع، ولذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد" .

5- يحسن بالمرء ترك الاعتزاز بشرف وصلاح1 الماضين2، والإقبال على نفسه بتزكيتها وتطهيرها.
6- سنة الله في الخلق أن المرء يجزى بعمله، ولا يسأل عن عمل غيره.
7- يطلق لفظ الأب على العم تغليباً و تعظيماً.
{وَقَالُوا3 كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا4 وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ5 بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ(138)}
شرح الكلمات:
تهتدوا : تصيبوا طريق الحق.
__________
1 وفي الحديث الصحيح: "من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه"، وفي هذا المعنى قال الشاعر الحكيم:
لا تقل أصلي وفصلي يا فتى
إنما أصل الفتى ما قد حصل2 ذكر ابن كثير عن ابن إسحاق ابن عبد الله بن صوريا الأعور اليهودي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد، وقال النصارى مثل ذلك. فأنزل الله عز وجل: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} الآية.
3 روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: آمنا بالله وما أنزل علينا، وما أنزل إليكم.." .
4 الأسباط: أولاد يعقوب عليهم السلام وهم: اثنا عشر ولداً: يوسف وبنيامين وبوذا ولكل واحد منهم أمة من الناس. الواحد: سبط والجمع: أسباط، والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيبلة، وفي ولد إسماعيل عليه السلام، وسموا الأسباط من السبط، وهو: التتابع لأنهم متتابعون.
5 أي: لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كصنيع اليهود والنصارى.

ملة إبراهيم : دين إبراهيم الذي كان عليه.
حنيفاً1 : مستقيماً على دين الله موحداً فيه لا يشرك بالله شيئاً.
ما أوتي موسى : التوراة.
وما أوتي عيسى : الإنجيل.
في شقاق : خلاف وفراق وعداء لك وحرب عليك.
صبغة الله : دينه الذي طهرنا به ظاهراً وباطناً فظهرت آثاره علينا كما يظهر أثر الصبغ على الثوب المصبوغ.
معنى الآيات:
ما زال السياق في حجاج أهل الكتاب ودعوتهم إلى الإسلام فقد قال اليهود للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. كونوا يهوداً تهتدوا إلى الحق، وقالت النصارى من وفد نجران، كذلك كونوا نصارى تهتدوا. فحكى الله تعالى قولهم، وعلم رسوله أن يقول لهم لا تتبع يهودية ولا نصرانية بل تتبع دين إبراهيم الحنيف المفضي بصاحبه إلى السعادة والكمال.
وفي الآية الثانية(136) أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين أن يعلنوا في وضوح عن عقيدتهم الحقة، وهي الإيمان بالله وما أنزل من القرآن، وما أنزل على الأنبياء كافة، وما أوتي موسى وعيسى من التوراة والإنجيل خاصة، مع عدم التفرقة بين رسول ورسول والإسلام الظاهر والباطن لله رب العالمين.
وفي الآية الثالثة(137) يقول تعالى لرسوله والمؤمنين إن آمن اليهود والنصارى إيماناً صحيحاً كإيمانكم2 فقد اهتدوا، وإن أبوا فتولوا وأعرضوا فأمرهم لا يعدو شقاقاً وحرباً لله ورسوله، والله تعالى سيكفيكهم بما شاء وهو السميع لأقوالهم الباطلة العليم بأعمالهم الفاسدة، وقد أنجز3 تعالى وعده لرسوله فأخرج اليهود من المدينة بل ومن الحجاز مع ما
__________
1 أصل الحنف: الميل ومنه قولهم: رجل أحنف أي: مائل القدمين إلى بعضهما بعضاً، قالت أم الأحنف: والله لولا الحنف برجله ما كان في فتيانكم من مثله. ولما مال إبراهيم عن أديان الشرك إلى دين التوحيد قيل فيه: حنيف، وصار بمعنى مستقيم، إذ هو على منهج الحق، وغيره على الباطل.
2 الآية: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ..} ، وكان ابن عباس يقرأها: "فإن آمنوا بالذي أمنتم به" وهو تفسير لا قراءة، وعليه فمثل: زائدة نظيرها، ليس كمثله شيء، أي ليس كهو شيء.
3 نعم: أنجز الله تعالى وعده لرسوله فكفاه اليهود الذين وطنوا العزم على قتله صلى الله عليه وسلم، فحاولوا وخابوا ولم يقدروا إذ كفاه الله تعالى إياهم.

جللهم به من الخزي والعار.
وفي الآية الرابعة(138 يقول تعالى لرسوله رداً على اليهود والنصارى قولوا لهم: نتبع1 صبغة الله بها وفطرته عليها وهي الإسلام، ونحن له تعالى عابدون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- لا هداية إلا في الإسلام ولا سعادة ولا كمال إلا بالإسلام.
2- الكفر برسول، كفر بكل الرسل فقد كفر اليهود بعيسى، وكفر النصاري بمحمد صلى الله عليه وسلم فأصبحوا بذلك كافرين، وآمن المسلمون بكل الرسل فأصبحوا بذلك مؤمنين.
3- لا يزال اليهود والنصارى في عداء للإسلام وحرب على المسلمين، والمسلمون يكفيهم الله تعالى شرهم إذا هم استقاموا على الإسلام عقيدة وعبادة وخلقاً وأدباً وحكماً.
4- الواجب على من دخل الإسلام أن يغتسل غسلاً كغسل الجنابة إذ هذا من صبغة2 الله تعالى، لا المعمودية النصرانية التي هي غمس المولود يوم السابع من ولادته في ماء يقال له المعمودي وإدعاء أنه طهر بذلك ولا يحتاج إلى الختان.
{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ(139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
__________
1 الصبغ: الشيء يصبغ به، فالصبح بدون تاء كالقشر، فزيدت فيه التاء، فقيل: صبغة؛ كقشرة، وهي في الآية منصوبة "صبغة" إما إنها بدل من ملة المنصوبة بتقدير: نتبع ملة، وإما إنها على المفعولية المطلقة، أي: صبغنا صبغة الله، نحو: وعد الله حقا، وفي هذا رد على اليهود والنصارى، إذ اليهود نشأت فيهم الصبغة، إذ كان الكاهن يغتسل كل عام ليكفر خطايا بني إسرائيل في يوم عيد معلوم لهم، والنصارى ما زالوا يعمدون أطفالهم يوم السابع، فيغمسونهم في الماء. هذه صبغة اليهود والنصارى، أما صبغة المسلمين، فهي اتباع ملة إبراهيم عليه السلام، وشتان ما بينهما.
2 تعميد النصارى لأطفالهم، وهو صبغهم بالماء؛ كالثوب يصبغ باللون من الألوان، فهم يرون أن الولد لما يصبغ بالماء أصبح نصرانياً لا يفارقه. أي هذا الإثم الذي هو النصراني.

وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ1 أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً2 عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُون(141)}
شرح الكلمات:
أتحاجوننا3 في الله : أتجادلوننا في دينه والإيمان به وبرسوله، والاستفهام للإنكار.
له مخلصون4 : مخلصون العبادة له، لا نشرك غيره فيها، وأنتم مشركون.
شهادة عنده من الله : المراد بهذه الشهادة ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم عند ظهوره.
الغافل : من لا يتفطن للأمور لعدم مبالاته بها.معنى الآيات:
يأمر تعالى رسوله أن ينكر على أهل الكتاب جدالهم في الله تعالى إذ ادعوا أنهم أولى بالله من الرسول والمؤمنين، وقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه، فعلّم الله رسوله كيف يرد عليهم منكراً عليهم دعواهم الباطلة. كما أفحمهم وقطع حجتهم في دعواهم أن إبراهيم والأنبياء بعده كانوا هوداً أو نصارى5، إذ قال له: قل لهم: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ؟} فإن قالوا نحن أعلم، كفروا، وإن قالوا الله أعلم انقطعوا؛ لأن الله تعالى أخبر أنهم ما كانوا أبداً يهوداً ولا نصارى، ولكن كانوا مسلمين، ثم هددهم تعالى بجريمتهم الكبرى وهي كتمانهم الحق وجحودهم
__________
1 الاستفهام.
2 قال ابن كثير، عن الحسن البصري: إن أهل الكتاب كانوا يقراءون في كتاب الله الذي آتاهم: إن الدين الإسلام وإن محمداً رسول الله وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا براء من اليهودية والنصرانية فشهدوا لله بذلك وأقروا على أنفسهم لله، فكتموا شهادة الله عندهم من ذلك.
3 والاستفهام أيضاً للتعجب من حالهم وللتوبيخ لهم على سوء سلوكهم، ومعنى في الله، أي: في دينه وولايته ونسخ شرائعه السابقة بالإسلام وكفر من لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ودينه الذي هو الإسلام.
4 الإخلاص: تخليص العبادة من الالتفات إلى غير الله تعالى. وعرفه الجنيد فقال: الإخلاص سر بين العبد وبين الله تعالى لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده، ولا هو فيميله.

نعوت الرسول والأمر بالإيمان به عند ظهوره فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
ثم أعاد لهم ما أدبهم به في الآيات السابقة مبالغة في تأديبهم وإصلاحهم لو كانوا أهلاً لذلك، فأعلمهم أن التمسح بأعتاب الماضين والتشبث بالنسب الفارغة إلى الأولين غير مجد لهم ولا نافع، فليقبلوا على إنقاذ أنفسهم من الجهل والكفر بالإيمان والإسلام والإحسان، أما من مضوا فهم أمة قد أفضوا إلى ما كسبوا وسيجزون به، وأنتم لكم ما كسبتم وستجزون به، ولا تجزون بعمل غيركم ولا تسألون عنه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضيلة الإخلاص وهو عدم الالتفات إلى غير الله تعالى عند القيام بالعبادات.
2- كل امرئ يجزى بعمله، وغير مسئول عن عمل غيره، إلا إذا كان سبباً فيه.
3- اليهودية والنصرانية1 بدعة ابتدعها اليهود والنصارى.
4- تفاوت الظلم بحسب الآثار المترتبة عليه.
5- حرمة2 كتمان الشهادة لا سيما شهادة من الله تعالى.
6- عدم الاتكال على حسب الآباء والأجداد ووجوب الإقبال على النفس لتزكيتها وتطهيرها بالإيمان الصحيح والعمل الصالح.
__________
1 قال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} آل عمران.
2 إذ قال تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} البقرة.

الجزء الثاني
{سَيَقُولُ1 السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ2 مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ3 الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ(143)}
شرح الكلمات:
السفهاء : جمع سفيه، وهو من به ضعف عقلي لتقليده وإعراضه عن النظر نجم عنه فساد خُلق وسوء سلوك.
ما ولاهم : ما صرفهم عن استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة بمكة.
القبلة : الجهة التي يستقبلها المرء وتكون قبالته في صلاته.
أمة وسطاً: وسط كل شيء خياره، والمراد منه أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأمم وأعدلها.
ينقلب على عقبيه : يرجع إلى الكفر بعد الإيمان.
لكبيرة : شاقة على النفس صعبة لا تطاق إلا بجهاد كبير، وهي التحويلة من قبلة مألوفة إلى قبلة حديثة.
__________
1 هذا إخبار بما سيقوله السفهاء من المنافقين واليهود والمشركين قبل أن يقوله، وفائدته، أولاً: تقرير النبوة المحمدية، إذ هذا إخبار بالغيب فكان كما أخبر، وثانياً: توطين نفس الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به حتى لا يضرهم عند سماعه من السفهاء، لأن مفاجأة المكروه أليمة شديدة، فإن ذهبت المفاجأة هان الأمر، وخف الألم، وهذا من باب "قبل الرمي يراش السهم". ومناسبة الآيات لما قبلها استمرار الحجاج إلى أنه كان في الأصول وأصبح في الفروع.
2 {من الناس} في محل نصب على الحال، وال فيه للجنس ليدخل في اللفظ كل سفيه.
3 هي بيت المقدس، ومن جملة ما قالوه سفهاً واستهزاء التبس عليه أمره وتحير: قد اشتاق محمد إلى مولده.

إيمانكم : صلاتكم التي صليتموها إلى بيت المقدس قبل التحول إلى الكعبة.
رؤوف رحيم : يدفع الضرر عنكم ويفيض الإحسان عليكم.
معنى الآيتين:
يخبر الله تعالى بأمر يعلمه قبل وقوعه، وحكمة الإخبار به قبل وقوعه تخفيف أثره على نفوس المؤمنين، إذ يفقد نقدهم المرير عنصر المفاجأة فيه فلا تضطرب له نفوس المؤمنين.
فقال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ} ؟ وحصل هذا لما حول الله تعالى رسوله والمؤمنين من استقبال بيت المقدس1 في الصلاة إلى الكعبة تحقيقاً لرغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ولعلة الاختبار2 التي تضمنتها الآية التالية فأخبر تعالى بما سيقوله السفهاء من اليهود والمنافقين والمشركين وعلَّم المؤمنين كيف يردون على السفهاء، فقال: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فلا اعتراض عليه يوجه عباده حيث يشاء، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وفي الآية الثانية(143) يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} خياراً عدولاً3 أي: كما هديناكم إلى أفضل قبلة وهي الكعبة قبلة إبراهيم عليه السلام جعلناكم خير أمة وأعدلها فأهلناكم بذلك للشهادة على الأمم يوم القيامة إذا أنكروا أن رسلهم قد بلغتهم رسالات ربهم، وأنتم لذلك لا تشهد عليكم الأمم ولكن يشهد عليكم رسولكم، وفي هذا من التكريم والإنعام ما الله به4 عليم. ثم ذكر تعالى العلة في تحويل القبلة فقال: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُول} فثبت على إيمانه وطاعته وانقياده لله ولرسوله ممن يؤثر فيه نقد السفهاء فتضطرب نفسه ويجازي السفهاء فيهلك بالردة معهم. ثم أخبر تعالى أن هذه التحويلة من بيت المقدس إلى الكعبة شاقة على النفس إلا على الذين هداهم الله
__________
1 إذ صلى المؤمنون قرابة سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس من قبل تحويل الله تعالى القبلة بهذه الآيات التي نزلت في شانها. وروى مالك أن تحويل القبلة كان قبل غزوة بدر بشهرين.
2 الاختبار في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} .
3 في هذه الآية دليل على صحة الإجماع ووجوب الحكم به لعدالة الأمة بشهادة ربها، فإذا أجمعت على أمر وجب الحكم به، وفي أي عصر من العصور إلى قيام الساعة.
4 ومن هذا التكريم أنهم إذا شهدوا على أحدهم بالخير وجبت له الجنة لحديث الصحيح: "مرت جنازة فأثنى عليها خير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجبت وجبت وجبت" الحديث فسأل فقال: "من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض".

إلى معرفته ومعرفة محابه ومكارهه فهم لذلك لا يجدون أي صعوبة في الانتقال من طاعة إلى طاعة ومن قبلة إلى قبلة، ما دام ربهم قد أحب ذلك وأمر به.
وأخيراً طمأنهم تعالى على أجور صلاتهم التي صلوها إلى بيت1 المقدس وهي صلاة قرابة سبعة عشر شهراً لا يُضيعها لهم بل يجزيهم بها كاملة سواء من مات منهم وهو يصلي إلى بيت المقدس أو من حي حتى صلى إلى الكعبة، وهذا مظهر من مظاهر رأفته تعالى بعباده ورحمته.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- جواز النسخ في الإسلام فهذا نسخ إلى بدل من الصلاة إلى بيت المقدس إلى الصلاة إلى الكعبة في مكة المكرمة.
2- الأراجيف وافتعال الأزمات وتهويل الأمور شأن الكفار إزاء المسلمين طوال الحياة، فعلى المؤمنين أن يثبتوا ولا يتزعزوا حتى يظهر الباطل وينكشف والزيف وتنتهي الفتنة.
3- أفضلية أمة الإسلام على سائر الأمم لكونها أمة الوسط والوسطية شعارها.
4- جواز امتحان المؤمن وجريانه عليه.
5- صحة صلاة من صلى إلى غير القبلة وهو لا يعلم ذلك وله أجرها وليس عليه إعادتها ولو صلى شهوراً إلى غير القبلة ما دام قد اجتهد في معرفة القبلة ثم صلى إلى حيث أداه اجتهاده.
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ2 وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ3 شَطْرَ الْمَسْجِدِ
__________
1 ورد في الحديث عن البراء قال: مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس، فقال الناس: ما حالهم في ذلك، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه.
2 روى البخارى في سبب نزول هذه الآية أن البراء قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهراً نحو بيت المقدس ثم علم الله هوى نبيه، أي: حبه، فنزلت: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآية.
3 تحويل وجهك: أي: تحويل وجهك ونظرك بعينك إلى السماء تطلعاً إلى نزول الوحي بذلك، لاسيما وقد نزلت الآيات الأولى: {سيقول} الآية، إذ هي موحية بذلك.

الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ1 شَطْرَهُ2 وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ(144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ3 وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ(145) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ(147)}
شرح الكلمات:
تقلب وجهك في السماء : تردده بالنظر إليها مرة بعد أخرى انتظاراً لنزول الوحي.
فلنولينك قبلة ترضاها : فلنحولنك إلى القبلة التي تحبها وهي الكعبة.
فول وجهك شطر المسجد : حول وجهك جهة المسجد الحرام بمكة.
الحرام : بمعنى: المحرم لا يسفك فيه دم ولا يقتل فيه أحد.
الشطر : هنا الجهة واستقبال الجهة يحصل به استقبال بعض البيت في المسجد الحرام، لأن الشطر لغة: النصف أو الجزء مطلقاً.
أنه الحق من ربهم : أي تحول القبلة جاء منصوصاً عليه في الكتب السابقة.
__________
1 اختلف في أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون إلى الكعبة، فقيل: الظهر، وقيل: العصر، ولم يرجح أحد القولين، وقيل: كانت صلاة الظهر في مسجد بني سلمة، المعروف بمسجد القبلتين حتى صلوا بعض الصلاة إلى بيت المقدس وبعضها إلى الكعبة، فسمي لذلك مسجد القبلتين.
2 اختلف في: هل الغائب عن البيت الحرام يصلى إلى عين الكعبة أو إلى جهتها. الصواب أنه يصلي إلى جهة الكعبة ناوياً استقبال البيت، لأن استقبال عين الكعبة معتذر على غير الموجود في المسجد الحرام، أما في المسجد الحرام فلا تصح صلاته إن لم يستقبل عين الكعبة.

آية : حجة وبرهان.
يعرفونه : الضمير عائد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: يعلمون أنه نبي الله ورسوله لما في كتبهم من صفاته الواضحة القطعية.
من الممترين : الشاكين والامتراء: الشك وعدم التصديق.
معنى الآيات:
يعلم الله تعالى رسوله أنه كان يراه وهو يقلب وجهه في السماء انتظاراً لوحي يؤمر فيه باستقبال الكعبة بدل بيت المقدس لرغبته في مخالفة اليهود لقبلة أبيه إبراهيم، إذ هي أول قبلة وأفضلها فبناء على ذلك {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ1الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ، وبهذا المر الإلهي تحولت القبلة، وروي أنه كان يصلي الظهر في مسجد بني سلمة المعروف الآن بمسجد القبلتين فصلى الرسول والمؤمنون وراءه ركعتين إلى بيت المقدس، وركعتين إلى الكعبة، وكيلا تكون القبلة خاصة بمن كان بالمدينة، قال تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} أي: في نواحي البلاد وأقطار الأرض {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} أي شطر المسجد الحرام، كما أخبر تعالى في هذه الآية أن علماء أهل الكتاب يعرفون أن تحول القبلة حق وأنه بأمر الله تعالى وما أحدثوه من التشويش والتشويه إزاء تحول القبلة، فقد علمه وسيجزيهم به إذ لم يكن تعالى بغاف عما يعملونه.
وفي الآية الثانية(145) يخبر تعالى بحقيقة ثابتة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أتى2 اليهود والنصارى بكل آية تدل على صدقه أو حقيقة القبلة إلى الكعبة ما كانوا ليتابعوه على ذلك وصلوا إلى قبلته، كما إن النصارى لم يكونوا ليصلوا إلى بيت المقدس قبلة اليهود، ولا اليهود ليصلوا إلى مطلع الشمس قبلة النصارى، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لم يكونوا أبداً ليتابعوا أهل الكتاب على قبلتهم بعد أن هداهم الله إلى أفضل قبلة وأحبها إليهم.
وأخيراً يحذر الله رسوله أن يتبع أهواء اليهود فيوافقهم على بدعهم وضلالاتهم بعد الذي أعطاه من العلم وهداه إليه من الحق، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يفعل، ولو فعل لكان من الظالمين.
__________
1 الشطر: لغة: النصف ومنه الحديث: "الطهور شطر الإيمان" ، والشاطر من الناس : من أخذ في نحو غير الاستواء، وهو الذي أعيا أهله خبثاً، وهو من بعُد عن طاعة الله ورسوله أيضاً.
2 قلت في التفسير: لو أتى اليهود إلخ: لأن لئن في الآية بمعنى لو، لأنها أجيبت بجواب لو، وهو المضي والوقوع، إذ قال تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} ، فقوله: {مَا تَبِعُوا} جواب لئن، والمفروض فيها أن يجاب بالمضارع.

وفي الآية الثالثة(146) يخبر تعالى أن علماء أهل الكتاب يعرفون أن الرسول حق وأن ما حاء به هو الحق معرفة تامة كمعرفتهم لأبنائهم، ولكن فريقاً كبيراً يكتمون الحق وهم يعلمون إنه الحق، وفي الآية الرابعة(147) يخبر تعالى رسوله بأن ما هو عليه من الدين الحق هو الحق الوارد إليه من ربه فلا ينبغي أن يكون من الشاكين1 بحال من الأحوال.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب استقبال القبلة في الصلاة وفي أي مكان كان المصلي عليه أن يتجه2 إلى جهة مكة.
2- كفر كثير من أهل الكتاب كان على علم إيثاراً للدنيا على الآخرة.
3- حرمة موافقة المسلمين أهل الكتاب على بدعة من بدعهم الدينية مهما كانت.
4- علماء أهل الكتاب المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم يعرفون أنه النبي المبشر به وأنه النبي الخاتم وأعرضوا عن الإيمان به وعن متابعته إيثاراً للدنيا على الآخرة.
{وَلِكُلٍّ3 وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ4 الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا
__________
1 هذا تفسير قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} يقال: امترى. فلان في كذا إذا اعتراه اليقين مرة والشك مرة أخرى فلدافع أحدهما بالآخر، ومنه الإمتراء، لأن كل واحد يشك في قول صاحبه، والإمتراء: الشك.
2 روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي" .
3 الوجهة: من المواجهة وهي الجهة والوجه كلها بمعنى واحد، ومفعول موليها محذوف أي وجهة، أو يكون موليها بمعنى متوليها وحينئذ فلا حذف ولا تقدير.
4 اختلف في الجهة التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستقبلها في مكة قبل الهجرة، والراجح أنه كان يجعل الكعبة أمامه وهو متجه إلى الشام، بمعنى أنه يصلي بين الركنين اليمانيين، ولما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس حتى حول إلى الكعبة، وهل كان استقباله بيت المقدس باجتهاد منه أو بوحي، الظاهر أنه باجتهاد منه صلى الله عليه وسلم.

اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ1 شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(150) كَمَا أَرْسَلْنَا2 فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ(151) فَاذْكُرُونِي3 أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ(152)}
شرح الكلمات:
ولكلٍ وجهة هو موليها : التنوين في (كل) دال على محذوف، هو لكل أهل ملة؛ كالإسلام، واليهودية، والنصرانية قبلة يولون وجوههم لها في صلاتهم.
الخيرات : البر والطاعة لله ورسوله.
الحجة : الدليل القوي الذي يظهر صاحبه على من يخاصمه.
نعمتي : نعم الله كثيرة وأعظمها نعمة الإسلام وإتمامها بمواصلة التشريع والعمل به إلى نهاية الكمال، وكان ذلك في حجة الوداع بعرفات حيث نزلت آية: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} .
__________
1 قال ابن كثير والقرطبي: قبلة: استدل مالك بقول الله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده كما هو مذهب الجمهور، أبي حنيفة والشافعي وأحمد والذي أراه يحقق المطلوب من الآية هو أن ينظر المصلي أولاً أمامه امتثالاً لأمر الله تعالى، ثم بعد ذلك ينظر إلى موضع سجوده.
2 الكاف: في محل نصب على النعت لمصدر محذوف تقديره ولأتم نعمتي عليكم إتماماً مثل ما أرسلنا وهو التشبيه نعمة استقلالكم في القبلة باستقلالكم في الرسالة.
3 أصل الذكر يكون بالقلب، ولما كان القلب باطناً جعل اللفظ باللسان دليلاً عليه، فأصبح الذكر يطلق على ذكر اللسان وإن كان المطلوب هما معاً أي ذكر القلب واللسان، والجملة أمر وجواب: فاذكروني أمر، وأذكركم جواب وجزاء، وذكر الله للعبد أعظم، وقد ورد في فضل الذكر الكثير من الأحاديث منها: حديث ابن ماجة ونصه: "أن رجلاً قال يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأنبئني منها بشيء أتشبث به. قال: لا يزال لسانك رطباً بذكر الله".

رسولاً : هو محمد صلى الله عليه وسلم والتنكير فيه للتعظيم.
يزكيكم : يطهركم من الذنوب والأخلاق السيئة والملكات الرديئة.
الحكمة : السنة وهي كل قول صالح لا ينتهي صلاحه ونفعه بمرور الزمن.
الشكر : إظهار النعمة1 بصرفها فيما من أجله وهبها الله تعالى لعباده.
والكفر : جحد النعمة وإخفائها وصرفها في غير ما يحبه الله تعالى.
معنى الآيات:
بعد تقرير تلك الحقيقة التي تضمنتها آية: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ... إلخ. وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أتى أهل الكتاب بكل آية تدل على صدقه في أمر القبلة ما اتبعوا قبلته، وما هو بتابع قبلتهم، وما بعضهم بتابع قبلة بعض، فلا اليهود يستقبلون مطلع الشمس، ولا النصارى يستقبلون بيت المقدس. أخبر تعالى أن لكل أمة قبلة مولية وجهها إليها في صلاتها، فاتركوا أيها المسلمون أهل تلك الملل الضالة وسابقوا في الخيرات ونافسوا في الصالحات شكراً لربكم على نعمة هدايته لكم لقبلة أبيكم إبراهيم فإنه تعالى جامعكم ليوم القيامة وسائلكم ومجازيكم بأعمالكم إنه على كل شيء قدير، هذا ثم أمر الله رسوله أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام حيثما كان في الحضر كان أو في السفر وأعلمه أن تحوله إلى الكعبة حق ثابت من ربه تعالى فلا يتردد فيه.
هذا ما تضمنته الآيتان(148-149) وأما الآية(150) فإنه تعالى أمر رسوله والمؤمنين بأن يولوا وجههم شطر المسجد2 الحرام حيثما كانوا وأينما وجدوا ويثبتوا على ذلك حتى لا يكون لأعدائهم من اليهود والمشركين حجة، إذ يقول اليهود: ينكرون ديننا ويستقبلون قبلتنا، ويقول المشركون: يدعون إنهم على ملة إبراهيم ويخالفون قبلته. هذا بالنسبة للمعتدلين منهم، أما الظالمون والمكابرون فإنه لا سبيل إلى إقناعهم إذ قالوا بالفعل: ما تحول إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين آبائه ويوشك أن يرجع إليه، فمثل هؤلاء ولا يبالي بهم ولا يلتفت إليهم كما قال تعالى: {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ3 وَاخْشَوْنِي} . فاثبتوا على قبلتكم الحق
__________
1 ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أن الله تعالى إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يرى أثرها عليه" .
2 قد ورد في الآيات الأمر بتولية الرسول والمؤمنين وجوههم شطر المسجد الحرام، وهو تكرار تطلبه المقام فكان من مقتضيات الحال التي يوجبها الكلام البليغ الرفيع، ومن مقتضيات الحال إسكات السفهاء وقطع الطريق عليهم ورفع معنويات المؤمنين حيت تأثر بعضهم بما أثاره اليهود والمنافقون والمشركون حول تحويل القبلة.
3 الخشية: مرادفة للخوف، والخوف هو فزع في القلب تخف له الأعضاء، ولخفة الأعضاء به سمي خوفاً.

لأتم نعمتي عليم بهدايتكم إلى أحسن الشرائع وأقومها، ولأهيئكم لكل خير وكمال مثل ما أنعمت عليكم بإرسال رسولي، يزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه من أمور الدين والدنيا معاً، وفي الآية الأخيرة(152) أمر تعالى المؤمنين بذكره وشكره، ونهاهم عن نسيانه وكفره، فقال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ}1 لما في ذكره بأسمائه وصفاته ووعده ووعيده من موجبات محبته ورضاه ولما في شكره بإقامة الصلاة وأداء سائر العبادات من مقتضيات رحمته وفضله، ولما في نسيانه وكفرانه من التعرض لغضبه وشديد عقابه وأليم عذابه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الإعراض عن جدل المعاندين، والإقبال على الطاعات تنافساً فيها وتسابقاً إليها إذ هو أنفع وأجدى من الجدل والخصومات مع من لا يرجى رجوعه إلى الحق.
2- وجوب استقبال القبلة في الصلاة وسواء كان في السفر أو في الحضر إلا أن المسافر يجوز أن يصلي النافلة حيث توجهت دابته أو طيارته أو سيارته إلى القبلة وإلى غيرها.
3- حرمة خشية الناس2 ووجوب خشية الله تعالى.
4- وجوب شكر الله تعالى على نعمه الظاهرة والباطنة.
5- وجوب3 تعلم العلم الضروري ليتمكن العبد من عبادة الله عبادة تزكي نفسه.
6- وجوب4 ذكر الله بالتهليل والتكبير والتسبيح ووجوب شكره بطاعته.
7- حرمة نسيان ذكر الله، وكفران نعمه بترك شكرها.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(153)}
__________
1 ورد في الصحيح أن الله تعالى يقول: " من ذكرني في نفسي ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه" والمراد من الملأ: الخير، الملائكة، وورد : "أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه". وقال معاذ بن جبل: "ما عمل ابن آدم عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر عز وجل".
2 في هذا إبطال للتقية التي جعلها الروافض من أصول دينهم.
3 شاهده من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" وهو حديث صحيح الإسناد.
4 شاهده من القرآنك {يا أيها الذين أمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا} الأحزاب

{وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ(154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ1 مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ2 الصَّابِرِينَ(155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ(157)}
شرح الكلمات:
الاستعانة : طلب المعونة والقدرة على القول أو العمل.
الصبر : حمل النفس على المكروه وتوطينها على احتمال المكاره.
الشعور : الإحساس بالشيء المفضي إلى العلم به.
الابتلاء : الاختبار والامتحان لإظهار ما عليه الممتحن من قوة أو ضعف.
الأموال : جمع مال وقد يكون ناطقاً وهو المواشي، ويكون صامتاً وهو النقدان وغيرها.
المصيبة : ما يصيب العبد من ضرر في نفسه أو أهله أو ماله.
الصلوات : جمع صلاة وهي من الله تعالى هنا المغفرة لعطف الرحمة عليها.
ورحمة : الرحمة: الإنعام وهو جلب ما يسر، ودفع ما يضر، وأعظم ذلك دخول الجنة بعد النجاة من النار.
المهتدون : إلى طريق السعادة والكمال بإيمانهم وابتلاء الله تعالى لهم وصبرهم على ذلك.
معنى الآيات:
نادى الرب تعالى عباده المؤمنين وهم أهل ملة الإسلام المسلمون ليرشدهم إلى
__________
1 لفظ شيء يدل على تهويل الفاجعة الدال عليها الخوف والجوع وما بعدهما كما يدل أيضاً على أن ما يبتليهم به من ذلك هو هين فلا يقاس بما يصيب به أهل عداوته من أهل الشرك والكفر والفسق إذا أخذهم بذنوبهم.
2 أسند التبشير إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه متأهل له بالرسالة فغيره لا يملكه، وقد لا يصدق فيه، كما أن اللفظ دال على سمو مقامه صلى الله عليه وسلم.

ما يكون عوناً لهم على الثبات على قبلتهم التي اختارها لهم، وعلى ذكر ربهم وشكره وعدم نسيانه وكفره فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا} أي على ما طلب منكم من الثبات والذكر والشكر، وترك النسيان والكفر بالصبر الذي هو توطين النفس وحملها على أمر الله تعالى به وبإقام الصلاة، وأعلمهم أنه مع الصابرين يمدهم بالعون والقوة، فإذا صبروا نالهم عون الله تعالى وتقويته وهذا ما تضمنته الآية الأولى(153). أما الآية الثانية(154) فقد تضمنت نهيه تعالى لهم أن يقولوا معتقدين أن من قتل في سبيل الله إذ هو حي في البرزخ وليس بميت، بل هو حي يرزق في الجنة كما قال صلى الله عليه وسلم: "أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش". (رواه مسلم). فلذا لا يقال لمن قتل في سبيل الله: مات1 ولكن استشهد وهو شهيد وحي عند ربه حياة لا نحسها ولا نشعر بها بمفارقتها للحياة في هذه الدار. وأما الآية الثالثة(155) فإنه يقسم2 تعالى لعباده المؤمنين على أنه يبتليهم بشيء من الخوف3 بواسطة أعداءه وأعدائهم وهم الكفار عندما يشنون الحروب عليهم وبالجوع لحصار العدو ولغيره من الأسباب، وبنقص الأموال الماشية للحرب والقحط، وبالأنفس؛ كموت الرجال، وبفساد الثمار بالجوائح، كل ذلك لإظهار من يصبر على إيمانه وطاعة ربه بامتثال أمره واجتناب نهيه، ومن لا يصبر فيحرم ولاية الله وأجره، ثم أمره رسوله بأن يبشر الصابرين، وبين في الآية الرابعة(156) حال الصابرين وهي أنهم إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله، فله أن يصيبنا بما شاء لأن ملكه وعبيده، وإن إليه راجعون بالموت، فلا جزع إذاً ولكن تسليم لحكمه4 ورضاً بقضاءه وقدره، وفي الآية الخامسة(157) أخبر تعالى مبشراً أولئك الصابرين بمغفرة ذنوبهم وبرحمة من ربهم، وإنهم المهتدون إلى سعادتهم وكمالهم، فقال: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} .
__________
1 لا يقال لمن قتل في سبيل الله مات، بمعنى انقطعت عنه الحياة والشهيد لم يمت وإنما انتقل من حياة ناقصة إلى حياة كاملة دائمة، كما أن لفظ الموت مفزع للإنسان فإذا دارت المعركة وسقط الشهداء، وقيل: مات فلان وفلان يؤثر ذلك في نفس من سمع كلمة: الموت، ولذا لا يقال: مات، ولكن: استشهد.
2 دل على القسم: اللام في قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} إذ هي موطئة للقسم كأنما قال: وعزتي وجلالي لنبلونكم .. إلخ.
3 من فسر الخوف بالخوف من الله، والجوع: بالصيام، ونقص من الأموال: بالزكاة لم يخطأ، ولكن ما فسرت به الآية هو الصواب الحق الذي عليه أئمة التفسير.
4 روى أحمد والترمذي عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين بن علي رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعاً إلا جدد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب" .

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضيلة الصبر والأمر به والاستعانة بالصبر والصلاة على المصائب والتكاليف في الحديث كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
2- فضل الشهداء على غيرهم بحياتهم عند ربهم حياة أكمل من حياة غيرهم في الجنة.
3- قد يبتلى المؤمن بالمصائب في النفس والأهل والمال فيصبر فترتفع درجته ويعلو مقامه عند ربه.
4- فضيلة الاسترجاع عند المصيبة وهو قول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} وفي الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها" (رواه مسلم).
{إِنَّ الصَّفَا1 وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ(158)}
شرح الكلمات:
الصفا والمروة2 : جبل مقابل البيت في الجهة الشرقية الجنوبية، والمروة: جبل آخر مقابل الصفا من الجهة الشمالية والمسافة بينهما قرابة (760)ذراعاً.
شعائر الله : أعلام دينية جمع شعيرة، وهي العلامة على عبادة الله تعالى، فالسعي بين الصفا والمروة شعيرة لأنه دال على طاعة الله تعالى.
الحج3 : زيارة بيت الله تعالى لأداء عبادات معينة تسمى نسكاً.
__________
1 أخرج البخاري عن عاصم ابن سليمان قال: سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة فقال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} .
2 الصفا: لغة: جمع صفاه، وتجمع على: صفي وأصفاء، مثل: أرجاء: الحجارة الملساء الصلبة البيضاء. والمروة: واحدة المرور وهي الحجارة الصغار التي فيها لين.
3 الحج: لغة: القصد، والعمرة: الزيارة، وشاهد الحج القصد قول الشاعر:
فاشهد من عوف حلولاً كثيرة ... يحجون سب الزبرقان المعصفرة
الحلول: الجماعة الكثيرة، ويحجون بمعنى: يقصدون.

العمرة : زيارة بيت الله تعالى للطواف به والسعي بين الصفا والمروة والتحلل بحلق شعر الرأس أو تقصيره.
الجناح : الإثم وما يترتب على المخالفة بترك الواجب أو بفعل المنهي عنه.
يطوف : يسعى بينهما ذاهباً جائياً.
خيراً : الخير: اسم لكل ما يجلب المسرة، ويدفع المضرة، والمراد به هنا العمل الصالح.
معنى الآية الكريمة:
يخبر الله تعالى مقرراً فريضة1 السعي بين الصفا والمروة، ودافعاً ما توهمه بعض المؤمنين من وجود إثم في السعي بينهما نظراً إلى أنه كان في الجاهلية على الصفا صنم يقال له: إساف، وآخر على المروة يقال له: نائلة، يتمسح بهما من يسعى بين الصفا والمروة، فقال تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} يعني السعي بينهما من شعائر الله: أي عبادة من عبادته إذ تعبد بالسعي بينهما نبينه إبراهيم وولده إسماعيل والمسلمون من ذريتهما. فمن حج البيت لأداء فريضة الحج أو اعتمر لأداء واجب العمرة فليسعى بينهما أداءً لركن الحج والعمرة ولا إثم عليه في كون المشركين كانوا يسعون بينهما لأجل الصنمين: إساف ونائلة.
ثم أخبر تعالى واعداً عباده المؤمنين أن من يتطوع منهم بفعل خير من الخيرات يجزه به ويثبه عليه، لأنه تعالى يشكر لعباده المؤمنين أعمالهم الصالحة ويثيبهم عليها لعلمه بتلك الأعمال ونيات أصحابها، هذا معنى قوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} .
هداية الآية الكريمة:
من هداية هذه الآية:
1- وجوب السعي بين الصفا2 والمروة لكل من طاف بالبيت حاجاً أو معتمراً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" 3. (رواه الدارقطني، ولم يعل) وسعى
__________
1 السعي: ركن الحج عند مالك، وأحمد والشافعي ولم يره ركناً أبو حنيفة، وما ذهب إليه الجمهور هو الذي يؤخذ به لحديث: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" ، وكتب بمعنى: فرض لغة، وشرعاً.
2 من ترك السعي وسافر، يعود إليه محرماً فيطوف بالبيت ويسعى بحكم أنه فرض وركن، ومن قال بوجوبه دون ركنيته يجزئه ذبح شاة.
3 وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من باب الصفا بعد أن طاف بالبيت وهو يقول: "إن الصفا والمرة من شعائر الله" ثم قال: "أبدأ بما بدأ الله به " فدل هذا على وجوب البدء في السعي بالصفا قبل المروة، ودل فعلة صلى الله علية وسلم على أن السعى سبعة اشواط لاينقص ولايزيد.

صلى الله عليه وسلم في عمرته كلها وفي حجه كذلك.
2- لا حرج في الصلاة في كنيسة حولت مسجداً، ولا يضر كونها كانت معبداً للكفار.
3- الترغيب في فعل الخيرات من غير الواجبات، وذلك من سائر النوافل؛ كالطواف والصلاة والصيام والصدقات والرباط والجهاد.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ(159) إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا1 وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(161) خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ(162)}
شرح الكلمات:
يكتمون2 : يخفون ويغطون حتى لا يظهر الشيء المكتوم ولا يعرف فيؤخذ به.
البينات : جمع بينة وهي ما يثبت به شيء المراد إثباته، والمراد به هنا ما يثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من نعوت وصفات جاءت في كتاب أهل الكتاب.
الهدى : ما يدل على المطلب الصحيح ويساعد على الوصول إليه والمراد به هنا ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدين الصحيح المفضي بالأخذ به إلى الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة.
__________
1 تابوا: أي رجعوا إلى الإيمان والدخول في الإسلام، وأصلحوا: أي ما أفسدوه من عقائد الناس، وأخلاقهم وأرواحهم، وبينوا: أي ما كتموهم من العمل الواجب بيانه والمحرم كتمانه.
2 الكتمان يكون بإلغاء الحفظ المقرر، وإلغاء التدريس والتعليم للواجب بيانه وتعليمه والدعوة إليه.

في الكتاب : التوراة والإنجيل.
اللعنة : الطرد والبعد من كل خير ورحمة.
اللاعنون : من يصدر عنهم اللعن؛ كالملائكة والمؤمنين.
أصلحوا : ما أفسدوه من عقائد الناس وأمور دينهم بإظهار ما كتموه والإيمان بما كذبوا به وأنكروه.
ولا هم ينظرون : أي بأن يمهلوا ليعتذروا، كقوله تعالى: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} .
معنى الآيات:
عاد الساق بعد الإجابة عن تحرج بعض المسلمين من السعي بين الصفا والمروة عاد إلى التنديد بجرائم علماء أهل الكتاب، ودعوتهم إلى التوبة بإظهار الحق والإيمان به فأخبره تعالى أن الذين يكتمون ما أنزله1 من البينات والهدى في التوراة والإنجيل من صفات الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والأمر بالإيمان به وبما جاء به من الدين، هؤلاء البعداء يلعنهم الله تعالى وتلعنهم الملائكة والمؤمنون2. هذا ما تضمنته الآية الأولى(159) وفي الآية الثانية(160) استثنى تعالى من المبعدين من رحمته من تاب من أولئك الكاتمين للحق بعد ما عرفوه فينوا وأصلحوا فهؤلاء يتوب عليهم ويرحمهم وهو التواب الرحيم.
وفي الآية الثالثة(161) والرابعة(162) أخبر تعالى أن الذين كفروا من أهل الكتاب وغيرهم بنبيه ودينه ولم يتوبوا فماتوا على كفرهم أن عليهم3 لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
ولذا فهم مطردون مبعدون من الرحمة الإلهية وهي الجنة خالدون في جهنم لا يخفف عنهم عذابها، ولا يمهلون فيعتذرون.
__________
1 الآية عامة في كل من كتم علماً واجب البيان ويعم العلم المنصوص والمستنبط وما لم يكن واجب البيان فلا يدخل صاحبه في هذا الوعيد، إذ من العلم ما لا يجوز بيانه لحديث: "حدث الناس بما يفهمون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله" وحديث الصحيح: "أفلا أخبر الناس؟ قال: لا إذا فيتكلوا".
2 أخرج ابن ماجة بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في اللاعنون: "دواب الأرض" ، ولذا فاللفظ عام يشمل كل من يتأتى منه اللعن، ويدخل الملائكة والمؤمنون دخولاً أولياً.
3 هل يجوز لعن المؤمن العاصي المعين؟ لا يجوز لعن المؤمن العاصي المعين وذلك للحديث الصحيح: "لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم" ، إذ لعنوا مؤمناً حال إقامة الحد عليه؛ حد شرب الخمر.

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمة كتمان العلم وفي الحديث الصحيح: "من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار" . وقال أبو هريرة رضي الله عنه في ظروف معينة: "لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم حديثاً" وتلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} إلخ...
2- يشترط لتوبة من أفسد في ظلمه وجهله إصلاح ما أفسد ببيان ما حرف أو بدل وغيره، وإظهار ما كتم، وأداء ما أخذه بغير الحق.
3- من كفر ومات على كفره من سائر الناس يلقى في جهنم بعد موته خالداً في العذاب مخلداً لا يخفف عنه ولا ينظر فيعتذر، ولا يفتر عنه العذاب فيستريح.
4- جواز لعن1 المجاهرين بالمعاصي؛ كشراب الخمر، والمرابين2، والمتشبهين من الرجال بالنساء ومن النساء بالرجال.
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ(163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(164)}
شرح الكلمات:
الإله : المعبود بحق3 أو باطل، والله سبحانه وتعالى هو الإله الحق المعبود بحق.
__________
1 فإن قيل: ما كل الناس يلعنونهم. فالجواب: إما أن يكون من باب تغليب الأكثر على الأقل، وإما أن يكون يوم القيامة لقوله تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} .
2 لكن لا على سبيل التعيين، وإنما على العموم؛ كلعن الله آكل الربا مثلاً.
3 لم يرد في القرآن لفظ الإله إلا الله سبحانه وتعالى، وأما إله بالتنكير فكثير.

وإلهكم إله واحد : في ذاته وصفاته، وفي ربوبيته فلا خالق ولا رازق ولا مدبر للكون والحياة إلا هو وفي ألوهيته أي في عبادته فلا معبود بحق سواه.
اختلاف الليل والنهار : بوجود أحدهما وغياب الثاني لمنافع العباد بحيث لا يكون النهار دائماً ولا الليل دائماً.
وبث فيها من كل دابة : وفرق في الأرض ونشر فيها من سائر أنواع الدواب.
تصريف الرياح : باختلاف مهابها مرة صبا، ومرة دبور، ومرة شمالية، ومرة غربية، أو مرة ملقحة، ومرة عقيم.
معنى الآيتين:
لما أوجب الله على العلماء بيان العلم والهدى وحرم كتمانهما أخبر أنه الإله الواحد الرحمن الرحيم، وأن هذا أول ما على العلماء أن يبينوه للناس وهو توحيده تعالى في ربوبيته وعبادته، وأسمائه وصفاته، ولما سمع بعض المشركين تقرير هذه الحقيقة: وإلهكك إله واحد، قالوا: هل من دليل –يريدون على أنه لا إله إلا الله1- فانزل الله تعالى هذه الآية: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} إلى قوله: {يَعْقِلُونَ} مشتملة على ست آيات كونية كل آية برهان ساطع ودليل قاطع على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته، وهي كلها موجبة لعبادته وحده دون من سواه.
الأولى: خلق السموات2 الأرض وهو خلق عظيم لا يتأتى إلا للقادر الذي لا يعجزه شيء.
الثانية: اختلاف الليل والنهار بتعاقبهما وطول هذا وقصر ذاك.
الثالثة: جريان3 الفلك –السفن- في البحر على ضخامتها وكبرها وهي تحمل مئات الأطنان من الأرزاق وما ينتفع به الناس في حياتهم.
الرابعة: إنزاله تعالى المطر من السماء لحياة الأرض بالنباتات والزروع بعد جدبها وموتها.
__________
1 جملة لا إله إلا الله أولها كفر وآخرها إيمان، لأن أولها نفي لكل إله، وآخرها إثبات الألوهية لله سبحانه وتعالى وحده دون سواه.
2 جمع لفظ: السموات؛ لأنها أجسام متباينة، وأفرد لفظ الأرض؛ لأنها نوع واحد من تراب طبقة فوق أخرى.
3 في الآية دليل على جواز ركوب البحر للجهاد والحج والتجارة إلا في حالة غلبت الهلاك الطارئ، فإنه لا يجوز، وحديث أم حرام في الموطأ وغيره دليل على الجواز للنساء كالرجال.

الخامسة: تصريف الرياح1 حارة وباردة ملقحة وغير ملقحة، شرقية وغربية وشمالية وجنوبية بحسب حاجة الناس وما تطلبه حياتهم.
السادسة: السحاب2 المسخر بين السماء والأرض تكوينه وسوقه من بلد إلى آخر ليمطر هنا ولا يمطر هناك حسب إرادة العزيز الحكيم.
ففي هذه الآيات الست أكبر برهان وأقوى دليل على وجود الله تعالى وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته، وهو لذلك رب العالمين وإله الأولين والآخرين ولا رب غيره، ولا إله سواه.
إلا أن الذي يجد هذه الأدلة ويراها ماثلة في الآيات المذكورة هو العاقل، أما من لا عقل له؛ لأنه عطل عقله فلم يستعمله في التفكير والفهم والإدراك، واستعمل بدل العقل الهوى فإنه أعمى لا يبصر شيئاَ وأصم لا يسمع شيئاً، وأحمق لا يعقل شيئاً، والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- لا إله إلا الله فلا تصح العبادة لغير الله تعالى، لأنه لا إله حق3 إلا هو.
2- الآيات الكونية في السموات والأرض تثبت وجود الله تعالى رباً وإلهاً موصوفاً بكل كمال منزهاً عن كل نقصان.
3- الآيات التنزيلية القرآنية4 تثبت وجود الله رباً وإليهاً وتثبت النبوة المحمدية وتقرر رسالته صلى الله عليه وسلم.
4- الانتفاع بالآيات مطلقاً –آيات الكتاب أو آيات الكون- خاص بمن يستعملون عقولهم دون أوهوائهم.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ
__________
1 نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سب الريح، فقد روى ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا الريح فإنها من روح الله، تأتي بالرحمة والعذاب، ولكن سلوا الله من خيرها وتعوذوا بالله من شرها" .
2 سمي السحاب: سحاباً لأنه يسحب من موضع إلى آخر، أي من بلد إلى بلد آخر.
3 في بعض تلبية الرسول صلى الله عليه وسلم: "لبيك إله الحق لبيك".
4 الآيات الكونية: هي المنسوبة إلى الكون الذي هو الخلق الذي كونه الله تعالى فكان وذلك السموات والأرض وما فيهما وما بينهما من سائر المخلوقات والآيات التنزيلية هي المنسوبة إلى القرآن المنزل من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم.

وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ(165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ(166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ(167)}
شرح الكلمات:
أنداداً : جمع ند، وهو المثل والنظير، والمراد بالأنداد هنا: الشركاء يعبدونها بحبها والتقرب إليها بأنواع العبادات؛ كالدعاء والنذر لها والحلف بها.
التبرؤ : التنصل من الشيء والتباعد عنه لكرهه.
الذين اتبعوا : المعبودون والرؤساء المضلون.
الذين اتبعوا : المشركون والمقلدون لرؤسائهم في الضلال.
الأسباب : جمع سبب وهي لغة الحبل ثم استعمل في كل ما يربط بين شيئين وفي كل ما يتوصل به إلى مقصد وغرض خاص.
كرة : رجعة وعودة إلى الحياة الدنيا.
الحسرات: جمع حسرة وهي الندم الشديد الذي يكاد يحسر صاحبه فيقعد به عن الحركة والعمل.
معنى الآيات:
لما تقرر في الآيتين السابقتين بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة أن إله الناس أي ربهم ومعبودهم واحد وهو الله جل جلاله وعظم سلطانه أخبر تعالى أنه مع هذا البيان والوضوح

يوجد ناس يتخذون من دون1 الله آلهة أصناماً ورؤساء يحبونهم2 كحبهم3 لله تعالى، أي يسوون4 بين حبهم وحب الله تعالى، والمؤمنون أشد منهم حباً لله تعالى، كما أخبر تعالى أنه لو يرى المشركون عند معاينتهم العذاب يوم القيامة لرأوا أمراً فظيعاً يعجز الوصف عنه، ولعلموا أن القوة لله وأن الله شديد العذاب إذ تبرأ المتبعون وهم الرؤساء الظلمة دعاة الشرك والضلالة من متبوعيهم الجهلة المقلدين وعاينوا5 العذاب أمامهم وتقطعت لك الروابط التي كانت تربط بينهم، وتمنى التابعون العودة إلى الحياة الدنيا لينتقموا من رؤسائهم في الضلالة فيتبرءوا منهم في الدنيا كما تبرءوا منهم في الآخرة، وكما أراهم الله تعالى العذاب فعاينوه، يريهم أعمالهم القبيحة من الشرك والمعاصي فتعظم حسرتهم ويشتد كربهم ويدخلون بها النار فلا يخرجونهم منها أبداً.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب حب6 الله وحب كل ما يُحب الله عز وجل بحبه تعالى.
2- من الشرك الحب7 مع الله تعالى، ومن التوحيد الحب بحب الله عز وجل.
3- يوم القيامة تنحل جميع الروابط من صداقة ونسب ولم تبق إلا رابطة الإيمان والأخوة فيه.
4- تبرؤ8 رؤساء الشرك والضلال ودعاة الشر والفساد ممن أطاعوهم في الدنيا واتبعوهم على الظلم والشر والفساد، وليس بنافعهم ذلك شيئاً.
{يَا أَيُّهَا9 النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا
__________
1 دون: تكون بمعنى غير وسوى، ولا يطرد، إذ أصلها إنها ظرف مكان، نحو: جلست دونك، وتكون بمعنى: الرديء، تقول: هذا التمر: دون.
2 فالآية الكريمة تعني: المشركين عبدة الأوثان ورؤساء أهل الكتاب، لقوله: يحبونهم، وهي عامة في كل من يحب غير الله تعالى من مخلوقاته وحب الله تعالى، إذ الحب إما أن يكون لله وإلا فهو شرك في حب الله تعالى.
3 وذلك لأنهم كانوا يدعون الله في الشدة، ويعظمون حرمات الحرم، والأشهر الحرم، فلذا هم يحبون الله تعالى ولكن يحبون آلهتهم ورؤسائهم أكثر من حب الله تعالى لجهلهم به سبحانه وتعالى.
4 لحديث ابن مسعود في الصحيح: "قلت أي الذنب أعظم يا رسول الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك" .
5 معاينة العذاب تكون عند الموت وعند العرض والمسائلة يوم القيامة.
6 الحديث الصحيح: "أحب الله لما يغذوكم من النعم، وأحبوني بحب الله".
7 الحب: حبان: حب عبادة، وهذا لا يكون إلا لله تعالى. وحب غريزة؛ كحب الطعام والشراب، وسائر الملاذ، فهذا يجب القصد فيه وعدم الإفراط فقط، وخير الحب ما كان لأجل الله تعالى.
8 وشواهد هذا في غير آية من القرآن كقوله تعالى: { تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} .
9 قيل: هذه الآية نزلت في ثقيف، وخزاعة، وبني مدلح، إذ حرموا من الأنعام ماحرموا، وعلى كل فهي عامة في كل من حرم غير ما حرم الله تعالى.

خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ1 وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ(170)}
شرح الكلمات:
الحلال : ما انحلت عقدة الحظر عنه وهو ما أذن الله تعالى فيه.
الطيب : ما كان طاهراً غير نجس، ولا مستقذر تعافه النفوس.
خطوات الشيطان : الخطوات: جمع خطوة وهي المسافة بين قدمي الماشي، والمراد بها هنا: مسالك الشيطان، وطرقه المفضية بالعبد إلى تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم.
عدو مبين : عداوته بينة وكيف وهو الذي أخرج أبوينا آدم وحواء من الجنة وأكثر الشرور والمفاسد في الدنيا إنما هي بوسواسه وإغوائه.
السوء2 : كل ما يسوء النفس ويصيبها بالحزن والغم ويدخل فيها سائر الذنوب.
الفحشاء3 : كل خصلة قبيحة؛ كالزنا، واللواط، والبخل، وسائر المعاصي ذات القبح الشديد.
ألفينا : وجدنا.
معنى الآيات:
بعد ذلك العرض لأحوال أهل الشرك والمعاصي والنهاية المرة التي انتهوا إليها، وهي الخلود في عذاب النار نادى الرب ذو الرحمة الواسعة البشرية4 جمعاء {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي
__________
1 لفظ الفحشاء: لم يطلق في القرآن إلا على فاحشة واللواط، اللهم إلا في آية واحدة: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} ، فإن الفحشاء هنا بمعنى: البخل، بمنع الزكاة.
2 قيل: السوء ما لا حد فيه من الذنوب، والفحشاء ما فيه حد.
3 أصل الفحشاء: قبح المنظر وعليه قول الشاعر: وجيد كجيد الريم ليس بفاحش. ثم توسع فيه فأصبح يطلق على ما قبح من المعاني.
4 أنه وإن كان سبب نزول الآية خاصاً فإن معناها عام، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

الأَرْض} ، وهوِ عطاؤه وإفضاله، حلالاً طيباً1 حيث أذن لهم فيه، وأما ما لم يأذن لهم فيه فإنه لا خير لهم في أكله لما فيه من الأذي لأبدانهم وأرواحهم معاً، ثم نهاهم عن اتباع آثار عدوه وعدوهم فإنهم إن اتبعوا خطواته قادهم إلى حيث شقاؤهم وهلاكهم، وأعلمهم وهو ربهم أن الشيطان لا يأمرهم إلا بما يضر أبدانهم وأرواحهم والسوء وهو كل ما يسوء النفس والفحشاء وهي أقبح الأفعال وأردى الأخلاق وأفظع من ذلك أن يأمرهم بأن يكذبوا على الله فيقولوا عليه ما لا يعلمون فيحرمون ويحللون ويشرعون باسم الله، والله في ذلك بريء ، وهذه قاصمة الظهر والعياذ بالله تعالى، حتى إذا أعرضوا عن إرشاد ربهم واتبعوا خطوات الشيطان عدوهم ففعلوا السوء وارتكبوا الفواحش وحللوا وشرعوا ما لم يأذن به الله ربهم، وقال لهم رسول الله اتبعوا ما أنزل الله قالوا لا، بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، يا سبحان الله يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم ولو كان باطلاً، أيقلدون2 آباءهم ولو كان آباءهم لا يعقلون شيئاً من أمور الشرع والدين، ولا يهتدون إلى ما فيه الصلاح والخير.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب طلب الحلال والاقتصار على العيش منه ولو كان ضيقاً قليلاً.
2- الحلال ما أحل الله، والحرام ما حرمه الله تعالى فلا يستقل العقل بشيء من ذلك.
3- حرمة اتباع مسالك الشيطان وهي كل معتقد أو قول أو عمل نهى الله تعالى عنه.
4- وجوب الابتعاد عن كل سوء وفحش لأنهما مما يأمر بهما الشيطان.
5- حرمة تقليد من لا علم له ولا بصيرة في الدين.
6- جواز اتباع أهل العلم والأخذ بأقوالهم وآرائهم المستقاة من الوحي الإلهي الكتاب والسنة.
__________
1 يصح إعراب: {حَلالاً طَيِّباً} على إنهما حالان من {مِمَّا فِي الأَرْضِ} ويصح أيكون طيباً: صفة لحلال، كما يصح أن يكون حلالاً مفعول لكلوا.
2 استدل بهذه الآية على حرمة التقليد في العقائد مطلقاً، أما في الفروع فهو أهون، والتقليد هو قبول الحكم بلا دليل ولا حجة.

{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ(171)}
شرح الكلمات:
مثل : المثل: الصفة والحال.
ينعق : يصيح: والاسم النعيق1 وهو الصياح ورفع الصوت.
الدعاء : طلب القريب؛ كدعاء المؤمن ربه: يارب. يارب.
النداء2 : طلب البعيد؛ كأذان الصلاة.
الصم : جمع أصم فاقد حاسة السمع فهو لا يسمع.
البكم : جمع أبكم فاقد حاسة النطق فهو لا ينطق.
لا يعقلون : لا يدركون معنى الكلام ولا يميزون بين الأشياء لتعطل آلة الإدراك عندهم، وهي العقل.
معنى الآية الكريمة:
لما نددت الآية قبل هذه(170) بالتقليد والمقلدين الذي يعطلون حواسهم ومداركهم ويفعلون ما يقول لهم رؤساؤهم ويطيقون ما يأمرونهم به مسلمين به لا يعرفون لم فعلوا ولم تركوا جاءت هذه الآية بصورة عجيبة ومثل غريب للذين يعطلون قواهم العقلية ويكتفون بالتبعية في كل شيء حتى أصبحوا؛ كالشياه من الغنم يسوقها راعيها، حيث شاء فإذا نعق بها داعياً لها أجابته ولو كان دعاؤه إياها لذبحها، وكذا إذا ناداها بأن كانت بعيدة أجابته وهي لا تدري لم نوديت، إذ هي لا تسمع ولا تفهم إلا مجرد الصوت الذي ألفته بالتقليد3 الطويل والاتباع بدون دليل.
__________
1 النعيق: دعاء الراعي، وتصويته للغنم، وعليه قول الشاعر:
فانعق بضأنك يا جرير فإنما ... منتك نفسك في الخلاء ضلالاً
2 وفي الحديث: "أن بلالاً أندى صوتا" .
3 وهناك معنى آخر للآية قاله الطبري: وهو أن المراد مثل الكافرين في دعاؤهم آلهتهم؛ كمثل الذي ينعق بشيء بعيد فهو لا يسمع من أجل البعد فليس للناعق من ذلك إلا النداء الذي يتعبه وينصبه وما فسرناه به أصح وأمثل.

فقال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} في جمودهم وتقليد آبائهم في الشرك والضلال كمثل غنم1 ينعق بها راعيها فهو إذا صاح فيها داعياً لها أو منادياً لها سمعت الصوت وأجابت ولكن لا تدري لماذا دعيت ولا لماذا نوديت لفقدها العق. وهذا المثل صالح لكل من يدعو أهل الكفر والضلال إلى الإيمان والهداية فهو مع من يدعوهم من الكفرة والمقلدين والضلال الجامدين كمثل الذي نعق إلخ....
هداية الآية:
من هداية الآية الكريمة:
1- تسلية الدعاة إلى الله تعالى عندما يواجهون المقلدة من أهل الشرك والضلال.
2- حرمة التقليد لأهل الأهواء والبدع.
3- وجوب طلب العلم والمعرفة حتى لا يفعل المؤمن ولا يترك إلا على علم بما فعل وبما ترك.
4- لا يتابع إلا أهل العلم والبصيرة في الدين؛ لأن اتباع الجهال يعتبر تقليداً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا2 مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ3 وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(173)}
__________
1 يقال: نعق الغراب، ونغق بالغين، ونعق، نعق إذا صوت من غير أن يمد عنقه ويحركها، ونغق بمعناه، فإذا مد عنقه وحركها ثم صاح، قيل فيه نعب.
2 أخرج مسلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يا آيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ..} الآية. ثم ذكر الرجل يطيل الرجل، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يارب يارب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟! ".
3 الميت والميتة بتسكين الياء: هو مات قطعاً وانتهت حياته، والميت، والميتة بتشديد الياء: وهو ما لم يمت بعد ولكنه آيل أمره إلى الموت، هكذا يرى أرباب اللغة واستشهدوا بقول الله تعالى لرسوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} الآية، وهذا دليل إطلاق ميت بالتشديد على من لم يمت بعد كما استشدوا بقول الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت ...
إنما الميت ميت الأحياء

شرح الكلمات:
الطيبات : جمع طيب وهو الحلال.
واشكروا لله : اعترفوا بنعم الله عليكم واحمدوه عليها واصرفوها في مرضاته
إن كنتم إياه تعبدون : إن كنتم مطيعين لله منقادين لأمره ونهيه.
حرم : حظر ومنع.
الميتة : ما مات من الحيوان حتف أنفه بدون تذكية.
الدم : المسفوح السائل، لا المختلط باللحم.
الخنزير : حيوان خبيث معروف بأكل العذرة ولا يغار على أنثاه.
وما أهل به لغير الله : الإهلال: رفع الصوت باسم من تذبح له من الآلهة.
اضطر : ألجئ وأكره بحكم الضرر الذي لحقه من الجوع أو الضرب.
غير باغ ولا عاد : الباغي الظالم الطالب لما لا يحل له والعادي المعتدي المجاوز لما له إلى ما ليس له.
الإثم : أثر المعصية على النفس بالظلمة والتدسية.
معنى الآيتين الكريمتين:
بعد أن بينت الآية السابقة(171) حال الكفرة المقلدة لآبائهم في الشرك وتحريم ما أحل الله من الأنعام حيث سيبوا للآلهة السوائب، وحموا لها الحامات، وبحروا لها البحائر، نادى الجبار عز وجل عباده المؤمنين: يا أيها الذين آمنوا بالله رباً وإلهاً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله ربكم ما أنعم به عليكم من حلال اللحوم، ولا تحرموها كما حرمها مقلدة المشركين، فإنه تعالى لم يحرم عليكم1 إلا أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغيره تعالى. ومع هذا من ألجأته الضرورة فخاف على نفسه الهلاك فأكل فلا إثم عليه على شرط أن لا يكون في سفره باغياً على المسلمين ولا عادياً بقطع الطريق عليهم وذلك؛ لأن الله غفور لأوليائه التائبين إليه رحيم بهم لا يتركهم في ضيق ولا حرج.
__________
1 لما أباح تعالى لعباده المؤمنين الحلال الطيب وهو كثير لم يعدده لكثرته، وعدد الحرام لقلته، فذكر الميتة والدم إلخ.. كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عما يلبس المحرم فعدل عن بيان المباح لكثرته وذكره المحرم لقلته، فقال: "لا يبلس القميص ولا السراويل..." إلخ. وهذا من الإيجاز البليغ.

هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- الندب إلى أكل الطيبات من رزق الله تعالى في غير إسراف.
2- وجوب شكر الله تعالى بالاعتراف بالنعمة له وحمده عليها وعدم صرفها في معاصيه.
3- حرمة أكل الميتة1، والدم المسفوح، ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله تعالى.
4- جواز الأكل من المذكورات عند الضرورة2 وهي خوف الهلاك مع مراعاة الاستثناء في الآية وهو {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} .
5- أذن النبي صلى الله عليه وسلم في أكل السمك3 والجراد وهما من الميتة، وحرم أكل كل ذي ناب4 من السباع وذي مخلب من الطيور.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ(175) ذَلِكَ5 بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ(176)}
__________
1 هذه أصول المحرمات الأربعة، وأما المختنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب فهي متفرعة عن تلك الأصول وهي مذكورة في أول المائدة.
2 من وجد طعام لا تقطع فيه يد يأكله ولا يأكل من الميتة بإذن النبي صلى الله عليه وسلم للمحتاج أن يأكل من الثمر المعلق، فقال: "من أصاب منه من ذي حاجة بغية غير متخذ خبنة فلا شيء عليه" ، وقوله من: أي من الثمر المعلق، إذ سئل عنه فقال.. إلخ.
3 للحديث الصحيح: "أحل لنا ميتتان: الحوت والجراد، ودمان: الكبد والطحال" .
4 لحديث صحيح: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور" .
5 إشارة إلى الحكم عليهم بأنهم من الخلود في النار، كما هو صالح أن يكون إشارة إلى ما تقدم من الوعيد، والمعنى متقارب.

شرح الكلمات:
يكتمون : يجحدون ويخفون.
ما أنزل الله من الكتاب : الكتاب: التوراة وما أنزل الله فيه صفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والأمر بالإيمان به.
لا يكلمهم الله1 : لسخطه عليهم ولعنه لهم.
ولا يزكيهم : لا يطهرهم من ذنوبهم لعدم رضاه عليهم.
الضلالة : العماية المانعة من الهداية إلى المطلوب.
الشقاق : التنازع والعداء حتى يكون صاحبه في شق، ومنازعة في آخر.
بعيد : يصعب إنهاؤه والوفاق بعده.
معنى الآيات:
هذه الآيات الثلاث نزلت قطعاً في أحبار2 أهل الكتاب تندد بصنيعهم وتريهم جزاء كتمانهم الحق وبيعهم العلم الذي أخذ عليهم أن يبينوه بعرض خسيس3 من الدنيا يجحدون أمر النبي صلى الله عليه وسلم ودينه إرضاء للعوام حتى لا يقطعوا هداياهم ومساعدتهم المالية، وحتى يبقى لهم السلطان الروحي عليهم، فهذا معنى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} ، وأخبر تعالى أن ما يأكلونه من رشوة في بطونهم إنما هو النار إذ هو مسببها ومع النار غضب الجبار فلا يكلمهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.
كما أخبر تعالى عنهم في الآية(175) أنهم وهم البعداء اشتروا الضلالة بالهدى أي الكفر بالإيمان، والعذاب بالمغفرة أي النار بالجنة، فما أجرأ هؤلاء على معاصي الله، وعلى التقحم في النار، فلذا قال تعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ4 عَلَى النَّارِ} . وكل هذا الذي تم مما توعد الله به هؤلاء
__________
1 لا يكلمهم كلام تشريف وتكريم كما يكلم أولياؤه الصالحين. أما ما كان من كلام وتحقير نحو: {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} ، فلا يدخل في هذا النفي. والله أعلم.
2 روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن هذه الآية نزلت في أحبار اليهود، كانوا يصيبون من سفلتهم هدايا، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم، فلما بعث من غيرهم، غيروا صفته وقالوا: هذا نعت النبي الذي يخرج آخر الزمان حتى لا يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم.
3 هو الرشوة التي يأخذها القاضي والمفتي والعياذ بالله.
4 هذا تعجب للمؤمنين من حالهم.

الكفرة؛ لأن الله نزل الكتاب بالحق مبيناً فيه سبيل الهداية وما يحقق لسالكيه من النعيم المقيم ومبيناً سبيل الغواية وما يفضي بسالكيه إلى غضب الله وأليم عذابه.
وفي الآية الآخيرة(176) أخبر تعالى أن الذين اختلفوا في الكتاب التوراة والإنجيل وهم اليهود والنصارى1 لفي عداء واختلاف بينهم بعيد، وصدق الله فما زال اليهود والنصارى مختلفين متعادين إلى اليوم، ثمرة اختلافهم في الحق الذي أنزله الله وأمرهم بالأخذ به فتركوه وأخذوا بالباطل فأثمر لهم الشقاق البعيد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمة كتمان الحق2، لا سيما إذا كان للحصول على منافع دنيوية مالاً أو رياسة.
2- تحذير علماء الإسلام من سلوك مسالك علماء أهل الكتاب بكتمانهم الحق وإفتاء3 الناس بالباطل للحصول على منافع مادية معينة.
3- التحذير من الاختلاف في القرآن الكريم لما يفضي إليه من العداء والشقاق البعيد بين المسلمين.
{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا
__________
1 ويدخل في هذا مشركو العرب فقد اختلفوا في القرآن فقالوا: شعر، وقالوا: سحر، وقالوا: أساطير.
2 يدخل في كتمان الشهادة التي حرمها الله تعالى بقوله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} .
3 يشهد له حديث: "من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار" .

وَالصَّابِرِينَ1 فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ(177)}
شرح الكلمات:
البر : اسمُ جامع لكل خير وطاعة لله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
ولكن البر من آمن بالله : البر: الحق برُ من آمن بالله واليوم الآخر إلى آخر الصفات.
وأتى المال على حبه : أعطى المال2 حيث تعين اعطاؤه مع شدة حبه3 له فآثر ما يحب الله على ما يحب.
ذوي القربى : أصحاب القرابات، الأقرب فالأقرب.
اليتامى : جمع يتيم وهو من مات والده وهو لم يبلغ الحنث.
ابن السبيل: المسافر البعيد الدار المنقطع عن أهله وماله.
السائلين : جمع سائل: الفقير المحتاج الذي أذن له في السؤال لدفع غائلة الحاجة عن نفسه.
في الرقاب : الرقاب: جمع رقبة والإنفاق منها معناه في عتقها.
الباساء والضراء : البأساء: شدة البؤس من الفقر، والضراء: شدة الضر أو المرض.
وحين البأس : عند القتال واشتداده في سبيل الله تعالى.
أولئك الذين صدقوا4 : أي في دعواهم الإيمان والبر والبرور.
معنى الآية الكريمة:
في الآيات الثلاث السابقة لهذه الآية ندد الله تبارك وتعالى بأحبار أهل الكتاب وذكر ما توعدهم به من غضبه وأليم عقابه يوم القيامة كما تضمن ذلك تخويف علماء الإسلام من أن
__________
1 نصب: {والصابرين } على المدح إذ هو معطوف على: {والموفون} وهو مرفوع، ونظيره قوله تعالى :{ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} والنصب على المدح شائع في كلام العرب، وهو إشارة وتنبيه على فضيلة الصبر وميزته، وقرئ: {والصابرون} بالرفع على الأصل.
2 فيه دليل على أن في المال حقاً غير الزكاة وشاهده قوله صلى الله عليه وسلم: "إن في المال حقاً سوى الزكاة" رواه ابن ماجة والترمذي.
3 ويصح أن يكون على حب الله لا على شيء آخر، أي أعطى المال من أعطاهم لأجل حب الله عز وجل.
4 ورد في فضل الصدق قوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدى إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الجنة يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ". في الصحيح.

يكتموا العلم على الناس طلباً لحظوظ الدنيا الفانية، وفي هذه الآية رد الله تعالى على أهل الكتاب أيضاً تبجحهم بالقبلة وادعاءهم الإيمان والكمال فيه لمجرد أنهم يصلون إلى قبلتهم بين المقدس بالمغرب أو طلوع الشمس بالمشرق، إذ الأولى قبلة اليهود، والثانية قبلة النصارى، فقال تعالى: {لَيْسَ1 الْبِرَّ} كل البر {أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} ، وفي هذا تنبيه عظيم للمسلم الذي يقصر إسلامه على الصلاة ولا يبالي بعدها ما ترك من واجبات وما ارتكب من منهيات، بين تعالى لهم البار الحق في دعوى الإيمان والإسلام والإحسان فقال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} 2 أي: ذا البر أو البار حق هو {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} وذكر أركان الإيمان إلا السادس منها "القضاء والقدر"، {الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} وهما من أعظم أركان الإسلام، وأنفق المال في سبيل الله مع حبه له وضنه به ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فهو ينفق ماله على من لا يرجو منه جزاء ولا مدحاً ولا ثناء؛ كالمساكين وأبناء السبيل والسائلين من ذوي الخصاصة والمسغبة، وفي تحرير الأرقاء وفكاك الأسر وأقام الصلاة أدامها وعلى الوجه الأكمل في أدائها وأتى الزكاة المستحقين لها، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة من أعظم قواعد الإسلام، وذكر من صفاتهم الوفاء بالعهود والصبر في أصعب الظروف وأشد الأحوال، فقال تعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} وهذا هو مبدأ الإحسان وهو مراقبة الله تعالى والنظر إليه وهو يزاول عبادته، ومن هنا قرر تعالى أن هؤلاء هم الصادقون في دعوى الإيمان والإسلام، وهم المتقون بحق غضب الله وأليم عذابه، جعلنا الله منهم، فقال تعالى مشيراً لهم بلام البعد وكاف الخطاب ليعد مكانتهم وارتفاع درجاتهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} 3.
هداية الآية الكريمة:
من هداية الآية الكريمة:
1- الاكتفاء ببعض أمور الدين دون القيام ببعض لا يعتبر صاحبه4 مؤمناً ولا ناجياً.
__________
1 قرأ حفص: {البر} بالنصب على إنه خبر ليس مقدماً والاسم أن وما دخلت عليه، والتقدير: تولية وجوهكم، وقرأ غيره: {البر} مرفوعاً على أنه اسم والخبر أن وما دخلت عليه.
2 وقيل هو على حذف مضاف، أي: ولكن البر بر من آمن على حد {واسأل القرية} أي: أهل القرية، وما أولناه به أقرب وأيسر.
3 هذه الآية: {ليَسَ اَلْبِر} ...إلخ. آية عظيمة تضمنت قواعد الشرع وأمهات الأحكام لم تضمن آية غيرها ما تضمنته هي، إذ تضمنت أركان الإيمان وقاعدتي الإسلام؛ الصلاة والزكاة، والجهاد والصبر، والوفاء، والتقوى والإنفاق العام والخاص.
4 شاهدوه من القرآن في قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ..} الآية.

2- أركان1 الإيمان هي المذكورة في هذه الآية، والمراد بالكتاب2 في الآية الكتب.
3- بيان وجوه الانفاق المرجو ثوابه يوم القيامة وهو ذوي القربى إلخ....
4- بيان عظم شأن الصلا والزكاة.
5- وجوب الوفاء بالعهود.
6- وجوب الصبر وخاصة عند القتال.
7- التقوى هي ملاك الأمر، والغاية التي ما بعدها للعاملين غاية.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ(178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(179)}
شرح الكلمات:
كتب3 عليكم القصاص4
: كتب: فرض، والقصاص: إذا لم يرض ولي الدم بالدية ولم يعف.
في القتلى
: الفاء سببية، أي بسبب القتل، والقتلى: جمع قتيل وهو الذي أزهقت روحه فمات بأي آلة.
__________
1 أركان الإيمان: ستة: جاءت في حديث جبريل الذي رواه مسلم وهي: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر تؤمن والقدر خيره وشره"، ولم يذكر القدر في الآية؛ لأن الكتاب دال عليه.
2 إن أل: التي في الكتاب للجنس، والجنس تحته أفراد كالإنسان، أفراده كثيرون، والكتب المطلوب الإيمان بها هي: كل ما أنزل من كناب وأعظمها: القرآن، والتوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم عليه السلام.
3 قيل: كتب هنا: هو إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء ولا منافاة بين ما شرع وفرض علينا في القرآن والسنة، وما كتب في كتاب المقادير إذا الكل سبق به علم الله وأراده فكان كما أراد.
4 القصاص: مأخوذ من قص الأثر إذا تتبعه، ومنهم: قاص؛ لأنه يتتبع الأخبار والآثار والقاتل؛ كأنه سلك طريقاً فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك.

الحر : الحر خلاف العبد1 والعبد، هو: الرقيق المملوك.
فمن عفي له من أخيه شيء : فمن تنازل له ولي الدم عن القود إلى الدية أو العفو.
فاتباع بمعروف : فالواجب أن تكون مطالبة الدية بالمعروف بالرفق واللين.
وأداء إليه بإحسان : وأن يكون أداء الدية بإحسان خالياً من المماطلة والنقص.
ذلك تخفيف من ربكم : أي ذلك الحكم العادل الرحيم وهو جواز أخذ الدية بدلاً من القصاص تخفيف عنكم من ربكم إذ كان في شرع من قبلكم القصاص فقط أو الدية فقط، وأنتم مخبرون بين العفو والدية والقصاص.
فمن اعتدى بعد ذلك : يريد من أخذ الدية ثم قتل فإنه يتعين قتله2 لا غير.
القصاص : المساواة في القتل والجراحات وفي آلة القتل أيضاً.
حياة : إبقاء شامل عميم، إذ من يريد أن يقتل، يذكر أنه سيقتل فيترك القتل فيحيا، ويحيا من أراد قتله، ويحيا بحياتهما خلق كثير وعدد كبير.
أولي الألباب : أصحاب العقول الراجحة، واحد الألباب: لبٌ: وهو في الإنسان العقل.
لعلكم تتقون : ليعدكم بهذا التشريع الحكيم لاتقاء ما يضر ولا يسر في الدنيا والآخرة.
معنى الآية الكريمة:
هذه الآية نزلت في حين من العرب كان أحد الحيين يرى أنه أشرف من الآخر، فلذا يقتل الحر بالعبد، والرجل بالمرأة تطاولاً وكبرياء، فحدث بين الحيين قتل وهم في الإسلام، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية تبطل ذحل3 الجاهلية وتقرر مبدأ العدل
__________
1 ذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يقتل بالعبد مخالفاً للجمهور لعموم آية المائدة: {النَفْس بِالنَفسْ} .
2 اختلف فيمن قتل بعد أخذ الدية، فقال مالك والشافعي، وكثير من العلماء هو كمن قتل ابتداء إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه وعذابه في الآخرة، وقال آخرون عذابه أن يقتل ولا يمكن الحاكم الولي من العفو. وقال عمر بن عبد العزيز: أمره إلى الإمام.
3 ذحل الجاهلية: ثأر الجاهلية وعاداتها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أعتى الناس على الله يوم القيامة ثلاثة، رجل قتل غير فاتلة، ورجل قتل في الحرم، ورجل أخذ بذحول الجاهلية" .

والمساواة1 في الإسلام فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى2 بِالأُنْثَى} ، فلا يقتل بالرجل رجلان، ولا بالمرأة رجل ولا امرأتان ولا بالعبد حر ولا عبدان.
فمن تنازل له أخوه3 وهو ولي الدم عن القصاص إلى الدية أو العفو مطلقاً فليتبع ذلك ولا يقل: لا أقبل إلا القصاص، بل عليه أن يقبل ما عفا عنه أخوه له من قصاص أو دية أو عفو،وليطلب ولي الدم الدية بالرفق والأدب، وليؤد القاتل الدية بإحسان بحيث لا يماطل ولا ينقص منه شيئاً.
ثم ذكر تعالى منته على المسلمين حيث وسع عليهم في هذه المسألة فجعل ولي الدم مخيراً بين ثلاثة: العفو، أو الدية، أو القود "القصاص" في حين أن اليهود كان مفروضاً عليهم القصاص فقط، والنصارى الدية فقط، وأخبر تعالى بحكم أخير في هذه القصة، وهو أن من أخذ الدية وعفا عن القتل ثم تراجع وقتل فقال: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . واختلف في هذا العذاب الأليم هل هو عذاب الدنيا، أو هو عذاب الآخرة، ومن هنا قال مالك والشافعي: حكم هذا المعتدي كحكم القاتل ابتداء إن عفي عنه قبل، وإن طولب بالقود أو الدية أعطى، وقال آخرون: ترد منه الدية ويترك لأمر الله، وقال عمر بن العزيز –رحمه الله-: يرد أمره إلى الإمام يحكم فيه يحقق المصلحة العامة. ثم أخبر تعالى: أن في القصاص الذي شرع لنا، وكتبه علينا مع التخفيف حياة عظيمة لما فيه من الكف عن إزهاق الأرواح وسفك الدماء، فقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
1- حكم القصاص في الإسلام وهو المساواة والمماثلة فيقتل4 الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة
__________
1 الجمهور على أن الجماعة تقتل بالواحد، وذلك إذا باشروا القتل فقتلوا لقول عمر رضي الله عنه في قتل غلام قتله سبعة فقتلهم، وقال: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم ولم يخالفه أحد فكان إجماعاً.
2 ذهب بعض إلى أن الرجل لا يقتل بالمرأة وحالفهم الجمهور لآية المائددة: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية.
3 أخوة: أي في الإسلام إذ لا يقتل المسلم بالذمي، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مسلم بكافر" ، وهو مذهب الجمهور، وذلك لعدم تكافؤا الدمين".
4 اختلف في هل يقتل الرجل بولده فذهب الجمهور إلى عدم قتله به، وذهب مالك إلى أنه إذا أضجعه يقتل به، فإذا رماه بحجر أو بعصا أو بأي سبب فيه شبهة إنه لم يرد قتله فلا يقتل به لحديث: " إدرأوا الحدود بالشبهات" .

والمرأة بالرجل والرجل بالمرأة، ويقتل القاتل بما قتل به مماثلة لحديث: "المرء مقتول بما قتل به" .
ولما كان العبد مقوماً بالمال فإنه لا يقتل به الحر، بل يدفع إلى سيده مال. وبهذا حكم الصحابة والتابعون وعليه الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، وخالف أبو حنيفة فرأى القود فيقتل الحر بالعبد أخذاً بظاهر هذه الآية.
2- محاسن الشرع الإسلامي وما فيه من اليسر والرحمة حيث أجاز العفو1 والدية بدل القصاص.
3- بلاغة القرآن الكريم، إذ كان حكماء العرب في الجاهلية يقولون: القتل أنفى للقتل، فقال القرآن: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} . فلم يذكر لفظ القتل بالمرة فنفاه لفظاً وواقعاً.
{كُتِبَ2 عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ3 إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ(180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(182)}
شرح الكلمات:
كتب : فرض وأثبت.
خيراً : مالاً نقداً، أو عرضاً، أو عقاراً.
الوصية : الوصية ما يوصى به من مال وغيره.
__________
1 اختلف في أخذ الدية من قاتل العمد فقال الجمهور: ولي الدم يخير بين أخذ الدية والقصاص، ولا خيار للقاتل، فلو قال: اقتصوا مني ليس له ذلك بل هو لولي الدم لأنه مخير بين ثلاثة.
2 هذه الآية: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} إلخ. تسمى آية الوصية وذكر الفعل والوصية مؤنثة لأحد أمرين: الأول: الفصل بين الفعل والفاعل، والثاني: ما لا فرج له يذكر ويؤنث.
3 المراد من الموت هنا: أسبابه، إذا العرب إذا أحضر السبب كنت به عن المسبب، قال جرير في مهاجاته الفرزدق:
أنا الموت الذي حدثت عنه ... فليس لهارب مني نجاة
فكنى بنفسه عن الموت، إذ هو سبب مجيئه في نظره وزعمه.

المعروف : ما تعارف عليه الناس كثيراً أو قليلاً بحيث لا يزيد على الثلث.
التبديل : التغيير للشيء بآخر.
جنفاً أو إثماً : الجنف: الميل عن الحق خطأ، والإثم: تعمد الخروج عن الحق والعدل.
معنى الآيات:
بمناسبة ذكر آية القصاص وفيها أن القاتل عرضة للقتل، والمفروض فيه أن يوصي في ماله قبل قتله، ذكر تعالى آية الوصية هنا فقال تعالى: كتب عليكم أيها المسلمون إذا حضر أحدكم الموت إن ترك مالاً الوصية1، أي: الإيصاء للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين، ثم نسخ الله تعالى هذا الحكم بآية المواريث2، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلا وصية لوارث" 3، ونسخ الوجوب وبقي الاستحباب ولكن لغير الوالدين والأقربين الوارثين إلا أن يجيز ذلك الورثة وأن تكون الوصية ثلثاً فأقل، فإن زادت وأجازها الورثة جازت لحديث ابن عباس عند الدارقطني لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة، ودليل استحباب الوصية حديث سعد في الصحيح حيث أذن له الرسول في الوصية بالثلث، وقد تكون الوصية واجبة على المسلم وذلك إن ترك ديوناً لازمة، وحقوقاً واجبة في ذمته فيجب أن يوصي بقضائها واقتضائها بعد موته لحديث ابن عمر في الصحيح: " ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" ، هذا ما تضمنته الآية الأولى(180)، وأما الآية الثانية4 (181) فيقول تعالى لعباده المؤمنين فمن بدل إيصاء مؤمن أوصى به بأن زاد فيه أو نقص أو غيره أو بدل نوعاً بآخر فلا إثم على الموصي ولكن الإثم على من بدل وغير، وختم هذا الحكم بقوله: أن الله سميع عليم، تهديداً ووعيداً لمن يقدم على تغيير الوصايا لغرض فاسد وهوى سيء، وفي الآية الأخيرة(182) أخر تعالى أن من خاف5 من موص جنفاً أو ميلاً عن الحق والعدل بأن جار في وصيته بدون تعمد الجور ولكن خطأ أو خاف إيماً على الموصى حيث جار
__________
1 {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} : هذا شرط وجوبه الوصية إلا أن الشائع أن جواب الشرط يكون مقروناً بالفاء وسقطت هنا جوازاً كما في قول الشاعر:
من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشر بالشر عند الله مثلان
أي: فالله يشكره.
2 آية المواريث في النساء وهي: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ...} إلى آخر الآيات إلى {حَلِيمٌ}.
3 نص الحديث: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" . رواه أصحاب السنن وغيرهم، وهو صحيح الإسناد.
4 هي قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ} إلخ.. والخطاب لسائر المسلمين، والإجماع على أن الموصي أن يغير في وصيته ويرجع فيما شاء منها إلا ما كان من تدبير العبد فإنه لا يرجع فيه.
5 الخوف هنا: بمعنى الظن والتوقع، وقرئ: {موصٍ} ، من وصى المضاعف، أما {موصٍ} فهو من أوصى فهو موصٍ.

وتعدى على علم في وصيته فأصلح1 بينهم، أي: بين الموصي والموصى لهم فلا إثم عليه في إصلاح الخطأ وتصويب الخطأ والغلط، وختم هذا الحكم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وعداً بالمغفرة والرحمة لمن أخطأ غير عامد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- نسخ الوصية للوارثين مطلقاً بإجازة2 الورثة.
2- استحباب3 الوصية بالمال لمن ترك مالاً كثيراً يوصي به في وجوه البر والخير.
3- تأكد الوصية حضر4 الموت أو لم يحضر لمن له أو عليه حقوق خشية أن يموت فتضيع الحقوق فيأثم بإضاعتها.
4- حرمة تبديل الوصية وتغييرها إلى غير5 الصالح.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183) أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(184)}
شرح الكلمات:
كتب
: فرض وأثبت.
__________
1 من أوصى بما لا يجوز الانتفاع به أو تناوله واستعماله كمن أوصى أو بناء قبة على ميت أو إحياء بدعة مولد ونحوه فإنه يجوز تبديله بما هو جائر ولا يصح إمضاؤه.
2 الحديث الصحيح: "فلا وصية لوارث".
3 لحديث سعد في الصحيح.
4 لحديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيح.
5 يجوز تبديل الوصية إذا كان فيها جور أو محرم لقوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} .

الصيام : لغة الإمساك، والمراد به هنا: الامتناع عن الأكل والشرب وغشيان النساء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس1.
أياماً معدودات : تسعة وعشرون أو ثلاثون يوماً بحسب شهر رمضان.
فعدة من أيام أخر : فعل من أفطر لعذر المرض أو السفر فعليه صيام أيام أخر بعدد الأيام التي أفطر فيها.
يطيقونه : أي: يتحملونه بمشقة لكبر سن أو مرض لا يرجأ برؤه.
فدية طعام مسكين : فالواجب على من أفطر لعذر مما ذكر أن يطعم على كل يوم مسكيناً، ولا قضاء عليه.
فمن تطوع خيراً : أي: زاد على المُدّين2 أو أطعم أكثر من مسكين فهو خير له.
وأن تصوموا خيراً : الصيام على من يطيقه ولو بمشقة خير من الإفطار مع الطعام.
معنى الآيتين:
لما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصبحت دار إسلام أخذ التشريع ينزل ويتوالى، ففي الآيات السابقة كان حكم القصاص والوصية ومراقبة الله في ذلك، وكان من أعظم ما يكون في المؤمن من ملكة التقوى الصيام، فأنزل الله تعالى فرض الصيام في السنة الثانية للهجرة، فناداهم بعنوان الإيمان: يا أيها الذين آمنوا. وأعلمهم أنه كتب عليهم الصيام كما كتبه على الذين من قبلهم من الأمم السابقة، فقال: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ...} علل ذلك بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي: ليعدكم به للتقوى التي هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، لما في الصيام من مراقبة الله تعالى، وقوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} ذكره ليهون به عليهم كلفة الصوم ومشقته، إذ لم يجعله شهوراً ولا أعواماً. وزاد في التخفيف أن أذن للمريض والمسافر أن يفطر ويقضي بعد الصحة أو العودة من السفر فقال لهم: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى3 سَفَرٍ4 فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} كما أن غير المريض والمسافر إذا
__________
1 أي بنية امتثال أمر الله تعالى به، أو بنية التقرب إليه عز وجل.
2 هل الواجب مد أو مدان خلاف، فمن الفقهاء من يرى مدين، ومنهم من يرى مداً واحداً، والمد: الحفنة بحفنة الرجل المعتدل بين القصر والطول.
3 أي في حالة سفر فلذا لا ينبغي لمن عزم على السفر أن يفطر حتى يغادر بلده المقيم به شأن الصيام كشأن الصلاة فلا يقصر حتى يغادر مباني البلد.
4 أي فالواجب صيام عدة من أيام أخر.

كان يطيق الصيام بمشقة وكلفة شديدة له أن يفطر ويطعم على كل يوم مسكيناً، وأعلمهم أن الصيام في هذه الحال خير. ثم نسخ هذا الحكم الأخير بقوله في الآية الآتية: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يريد: تعلمون فوائد الصوم الدنيوية والآخروية، وهي كثيرة أجلها مغفرة الذنوب وذهاب الأمراض.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فرضية الصيام وهو شهر رمضان.
2- الصيام يربي ملكة التقوى في المؤمن.
3- الصيام يكفر الذنوب لحديث: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" .
4- رخصة الإفطار للمريض1 والمسافر.
5- المرأة الحامل أو المرضع دل قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أنه يجوز لهما الإفطار مع القضاء، وكذا الشيخ الكبير فإنه يفطر ولا يقضي، والمريض مرضاً لا يرجى برؤه كذلك. إلا أن عليهما أن يطعما عن كل يوم مسكيناً بإعطائه حفنتي طعام كما أن المرأة الحامل والمرضع2 إذا خافت على حملها أو طفلها أو على نفسها أن عليها أن تطعم مع كل صوم تصومه قضاء مسكيناً.
6- في الصيام فوائد دينية واجتماعية عظيمة أشير إليها بلفظ: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
من هذه الفوائد:
1- يعود الصائم الخشية من الله تعالى في السر والعلن.
2- كسر حدة الشهوة، ولذا أرشد العازب3 إلى الصوم.
3- يربي الشفقة والرحمة في النفس.
4- فيه المساواة بين الأغنياء والفقراء والأشراف4 والأوضاع.
__________
1 المريض له حالتان. الأولى: أن يكون مرضه شديداً فهذا يجب عليه أن يفطر. والثانية: أن يكون مرضه غير شديد فيستحب له الفطر.
2 في الكلام إجمال وهذا تفصيله: الحامل والمرضع إذا خافتا على طفليهما فعليهما القضاء والإطعام، وإن خافتا على نفسيهما فعليهما الصيام دون الإطعام.
3 لحديث: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه فإنه له وجاء" أي خصاء.
4 الأشراف: جمع شريف، والأوضاع: جمع وضيع، وهو الدنيء.

5- تعويد الأمة النظام والوحدة والوئام.
6- يذهب المواد المترسبة في البدن، وبذلك تتحسن1 صحة الصائم.
{شَهْرُ2 رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ3 وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(185)}
شرح الكلمات:
{شَهْرُ رَمَضَانَ} : هو الشهر التاسع من شهور السنة القمرية، ولفظ الشهر مأخوذ من الشهرة، ورمضان مأخوذ من رمض الصائم إذا جر جوفه من العطش4.
{الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} : هذه آية فضله على غيره من سائر الشهور حيث أنزل فيه القرآن، وذلك في ليلة القدر منه لآية: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا ثم نزل نجماً بعد نجم، وابتدئ نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان أيضاً.
__________
1 لحديث: "صوموا تصحوا وسافروا تغنموا ".
2 قرئ: {شَهْر} بالنصب فيكون بدلاً من قوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} ، وقرئ بالرفع فيكون مبتدأ والخبر، {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ }. وقد يكون المبتدأ محذوفاً تقديره هي: أي الأيام المعدودات.
3 قوله صلى الله عليه وسلم: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً" ، أوضح طريق للصوم والإفطار وبه العمل والحمد لله.
4 والرمضاء: شدة الحر، ويشهد لذلك حديث مسلم: " صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال" ، أي اشتد الحر في الأرض فلم يقوى الفصيل على الوقوف على الأرض بأخفافه فيبرك.

{هُدىً لِلنَّاسِ} : هادياً للناس إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم في الدارين.
{وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} : البينات: جمع بينة، والهدى: الإرشاد، والمراد أن القرآن نزل هادياً للناس ومبيناً لهم سبيل الهدى موضحاً طريق الفوز والنجاة فارقاً لهم بين الحق والباطل في كل شؤون الحياة.
شهد الشهر1 : حضر الإعلان2 عن رؤيته.
{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} : فعليه القضاء بعدد الأيام التي أفطرها مريضاً أو مسافراً.
{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّة} : وجب القضاء من أجل إكمال عدة الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرون يوماً.
{وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} : وذلك عند إتمام صيام رمضان من رؤية الهلال إلى العودة من صلاة العيد والتكبير مشروع وفيه أجر كبير، وصفته المشهورة: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} : فرض عليكم الصوم وندبكم إلى التكبير لتكونوا بذلك من الشاكرين لله تعالى على نعمه؛ لأن الشكر3 هو الطاعة.
معنى الآية الكريمة:
لما ذكر تعالى أنه كتب على أمة الإسلام الصيام في الآية السابقة وأنه أيام معدودات بين في هذه الآية أن المراد من الأيام المعدودات أيام شهر رمضان المبارك الذي أنزل فيه القرآن هادياً موضحاً طرق الهداية، وفارقاً به بين الحق والباطل، فقال تعالى: {شَهْرُ4 رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} يريد شهر رمضان، ومعنى: شهد، كان حاضراً غير مسافر لما أعلن عن رؤية هلال رمضان، فليصمه على سبيل الوجوب إن كان مكلفاً. ثم ذكر عذر المرض والسفر، وأن على من أفطر بهما قضاء ما
__________
1 اختلف في قبول شهادة الواحد في هلال رمضان، والذي عليه الأكثر وهو الأحوط للدين أن الواحد إذا كان عدلاً تقبل شهادته، هذا في الصام، أما في الإفطار وهو رؤية هلال شوال فلا بد من شاهدين اثنين.
2 إذا أسلم الكافر ليلاً وبلغ الصبي وجب عليهما الصيام من الغد، أما إذا أسلم الكافر وبلغ الغلام في نهار رمضان فإنه يستحب لهما الإمساك ولا يجب.
3 يشهد له قوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} ، والشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح وهو العمل، قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا
4 يجمع رمضان على رمضانات، وأرمضاء ويجوز أن يقال شهر رمضان. ورمضان بدون شهر لحديث: "إذا كان رمضان فاعتمري فإن عمرة فيه تعدل حجة" .

أفطر بعدده، وأخبر تعالى أنه يريد بالإذن في الإفطار للمريض والمسافر ليس بالأمة، ولا يريد بها العسر فله الحمد وله المنة، فقال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .
ثم علل تعالى للقضاء بقوله ولتكملوا العدة، أي: عدة أيام رمضان، هذا أولاً، وثانياً: لتكبروا الله على ما هداكم عندما تكملون الصيام برؤية هلال شوال وأخيراً ليعدكم بالصيام والذكر للشكر، وقال عز وجل: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
هداية الآية
من هداية الآية:
1- فضل1 شهر رمضان وفضل القرآن.
2- وجوب صيام رمضان على المكلفين، والمكلف هو: المسلم العاقل مع سلامة المرأة من دمي الحيض والنفاس.
3- الرخصة للمريض الذي يخاف تأخر برئه أو زيادة مرضه، والمسافر مسافة2 قصر.
4- وجوب القضاء على من أفطر لعذر3.
5- يسر الشريعة الإسلامية وخلوها من العسر4 والحرج.
6- مشروعية التكبير ليلة العيد ويومه، وهذا التكبير جزء لشكر نعمة الهداية إلى الإسلام.
7- الطاعات: هي الشكر، فمن لم يطع الله ورسوله لم يكن شاكراً فيعد مع الشاكرين.
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ(186)}
__________
1 يكفي في بيان فضل رمضان قول النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين". رواه مسلم، قوله صلى الله عليه وسلم: " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " في الصحيح.
2 أوسط ما قيل في مسافة القصر إنها أربعة بُرُد، وهي ثمانية وأربعون ميلاً، والميل: ألفا ذراع عند أهل الأندلس وهو يعادل الكيلو المتر المعروف الآن.
3 لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي فعليه قضاء أيام أخر بعدد ما أفطر.
4 لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "دين الله يسر" ، وقوله لأصحابه: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا" . في الصحيح.

شرح الكلمات:
الداعي : السائل ربه حاجته
{فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} : أي: يجيبوا ندائي إذا دعوتهم لطاعتي وطاعة رسولي بفعل المأمور وترك المنهي والتقرب إليّ بفعل القرب وترك ما يوجب السخط.
{يَرْشُدُونَ} : بكمال القوتين العلمية والعملية، إذ الرشد: هو العلم بمحاب الله ومساخطه، وفعل المحاب وترك المساخط، ومن لا علم له ولا عمل فهو السفيه الغاوي والضال الهالك.
معنى الآية الكريمة:
ورد أن جماعة من الصحابة سألوا النبي قائلين: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فأنزل الله تعالى قوله: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ1 الدَّاعِ} الآية، ومعنى المناجاة: المكالمة بخفض الصوت، والمناداة برفع الصوت، وإجابة الله دعوة عبده قبول طلبه وإعطاؤه مطلوبه2. وما على العباد إلا أن يستجيبوا لربهم بالإيمان به وبطاعته في أمره ونهيه، وبذلك يتم رشدهم ويتأهلون للكمال والإسعاد في الدارين الدنيا والآخرة.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- قرب الله تعالى من عباده إذ العوالم كلها في قبضته وتحت سلطانه ولا يبعد عن الله شيء من خلقه إذ ما من كائن إلا والله يراه ويسمعه ويقدر عليه، وهذه حقيقة القرب.
2- كراهية رفع3 الصوت بالعبادات إلا ما كان في التلبية والأذان4 والإقامة.
3- وجوب الاستجابة لله تعالى بالإيمان وصالح الأعمال.
4- الرشد في طاعة الله والغي والسفه في معصيته تعالى.
__________
1 دل على فضل الدعاء أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق عليه لفظ العبادة، فقال: "الدعاء هو العبادة" رواه أبو داود، ومما يحرم الإجابة: أكل الحرام، والاستعجال. وأن يقول دعوت فلم يستجب لي، ذلك لحديث مسلم.
2 على الداعي أن يعزم في دعوته ولا يقل: اللهم أعطني كذا إن شئت، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري: "إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة، ولا يقولن اللهم إن شئت فاعطني فإنه لا مستكره له" .
3 يستحب الإسرار بالدعاء لقوله تعالى: {زكريَّا، إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} .
4 من الأوقات التي يرجى فيه استجابة الدعاء: ما بين الأذان والإقامة، والسحر، ووقت الفطر، وحال السفر، والمرض، وفي السجود، ودبر الصلوات، وعند اشتداد الكرب من ظلم وغيره، فقد ورد من الأحاديث والآثار ما يصدق هذا ويؤكده.

{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(187)}
شرح الكلمات:
{لَيْلَةَ الصِّيَامِ1} : الليلة التي يصبح العبد بعدها صائماً.
{الرَّفَثُ} : الجماع.
{لِبَاسٌ لَكُمْ} : كناية عن اختلاط بعضكم ببعض؛ كاختلاط الثوب بالبدن.
{تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} : بتعريضها للعقاب، ونقصان حظها من الثواب بالجماع ليلة الصيام قبل أن يحل الله لكم ذلك.
{بَاشِرُوهُنَّ} : جامعوهن، أباح لهم ذلك ليلاً.
{وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} : اطلبوا بالجماع الولد إن كان قد كتب لكم2، ولا يكن الجماع لمجرد الشهوة.
{الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} : الفجر الكاذب وهو بياض3 يلوح في الأفق؛ كذنب السرحان4.
__________
1 روي في سبب نزول هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} الآية أن عمر رضي الله عنه بعد ما نام ووجب عليه الصوم وقع على أهله، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشكى إليه ما حدث له من وقاع أهله ليلاً، فأنزل الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} الآية.
2 ويحتمل اللفظ معاني أخرى مثل: ما أبيح لكم، وليلة القدر، والرخصة، والتوسعة.
3 لحديث مسلم: "لا يغرنكم من سحوركم آذان بلال، ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا وأشار بيديه يعني معترضاً.
4 السرحان: الذئب.

{الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} : سواد يأتي بعد البياض الأول فينسخه تماماً.
{الْفَجْرِ} : انتشار الضوء أفقياً ينسخ سواد الخيط الأسود ويعم الضياء الأفق كله.
{عَاكِفُونَ1 فِي الْمَسَاجِدِ} : منقطعون إلى العبادة في المسجد تقرباً إلى الله تعالى.
{حُدُودُ اللَّهِ} : جمع حد وهو ما شرع الله تعالى من الطاعات فعلاً أو تركاً.
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ} : أي كما بين أحكام الصيام يبين أحكام سائر العبادات من أفعال وتروك ليهيئهم للتقوى التي هي السبب المورث للجنة.
معنى الآية الكريمة:
كان في بداية فرض الصيام أن من نام بالليل لم يأكل ولم يشرب ولم يقرب امرأته حتى الليلة الآتية. كأن الصيام يبتدئ من النوم لا من طلوع الفجر، ثم إن ناساً أتوا نسائهم وأخبروا ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة تبيح لهم الأكل والشرب والجماع طوال الليل إلى طلوع الفجر، فقال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} أي: الاختلاط بهن، إذ لا غنى للرجل عن امرأته ولا المرأة عن زوجها {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}. يسترها وتستره؛ كالثوب يستر الجسم، وأعلمهم أنه تعالى علم منهم ما فعلوه من إتيان نسائهم ليلاً بعد النوم قبل أن ينزل حكم الله فيه بالإباحة أو المنع، فكان ذلك منهم خيانة لأنفسهم فقال تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} . وأعلن لهم عن الإباحة بقوله: { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} . يريد من الولد2، لأن الجماع لا يكون لمجرد قضاء الشهوة بل للإنجاب والولد. وحدد لهم الظرف الذي يصومون فيه وهو النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فقال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ3 مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وحرم على المعتكفين في المساجد مباشرة نسائهم فلا يحل للرجل وهو
__________
1 الاعتكاف: ملازمة المسجد للعبادة وهو من سنن الإسلام فقد اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستحب أن يكون في العشر الأواخر من رمضان، وأقله يوم وليلة. ولا يصح إلا في المسجد الذي تقام فيه صلاة الجمعة، ويفسده الجماع ويجب قضاؤه على من أفسده بجماع أهله.
2 تقدم ما يحتمله اللفظ من غير الولد في رقم (2) من هذا التعليق.
3 فلذا قيل الفجر: فجران، كاذب وصادق، وقد بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم: الأنف الذكر تحت رقم 3.

معتكف أن يخرج من المسجد ويغشى امرأته وإن فعل أثم وفسد اعتكافه وجب عليه قضاؤه. قال تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ1 وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وأخبرهم أن ما بينه لهم من الواجبات والمحرمات هي حدوده تعالى فلا يحل القرب منها ولا تعديها فقال عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} ثم قال: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فامتن تعالى على المسلمين بهذه النعمة وهي بيان الشرائع والأحكام والحدود بما يوحيه إلى رسوله من الكتاب والسنة ليعد بذلك المؤمنين للتقوى، إذ لا يمكن أن تكون تقوى ما لم تكن شرائع تتبع وحدود تحترم. وقد فعل فله الحمد وله المنة.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- إباحة الأكل والشرب والجماع في ليال الصيام من غروب الشمس2 إلى طلوع الفجر.
2- بيان ظرف الصيام وهو من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس.
3- بيان ما يسمك عنه الصائم وهو الأكل الشرب والجماع.
4- مشروعية الاعتكاف وخاصة في رمضان، وأن المعتكف لا يحل له مخالطة امرأته وهو معتكف حتى تنتهي مدة اعتكافه التي عزم أن يعتكفها.
5- استعمال الكتابة بدل التصريح فيما يتسحي من ذكره، حيث كنى بالمباشرة عن الوطء.
6- حرمة انتهاك حرمات الشرع وتعدي حدوده.
7- بيان الغاية من إنزال الشرائع ووضع الحدود وهي تقوى الله عز وجل.
8- ثبت بالسنة: سنة3 السحور واستحباب تأخيره ما لم يخش طلوع الفجر، واستحباب تعجيل الفطر4.
{ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ
__________
1 المباشرة: كناية عن الجماع: إذ البشرة تمس البشرة فيه.
2 يحرم الوصال: وهو صيام يومين فأكثر بلا إفطار لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والوصال، إياكم الوصال، يحذر منه ". أخرجه البخاري.
3 لحديث مسلم: "إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور" .
4 لحديث: "لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور" رواه أحمد.

أَمْوَالِ النَّاسِ بِالأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(188)}
شرح الكلمات:
الْبَاطِلَ : خلاف الحق1.
َتُدْلُوا : الإدلاء بالشيء، إلقاؤه2، والمراد هنا: إعطاء القضاة والحكام الرشوة ليحكموا لهم بالباطل حتى يتوصلوا إلى أموال غيرهم.
{فَرِيقاً} : أي: طائفة وقطعة من المال.
{بِالأِثْمِ} : المراد به هنا: بالرشوة وشهادة الزور، واليمين الفاجرة أي الحلف بالكذب ليقضي القاضي لكم بالباطل في صورة حق.
معنى الآية الكريمة:
لما أخر تعالى في الآية السباقة أنه يبين للناس3 أحكام دينه ليتقوه بفعل المأمور وترك المنهي بين في هذه الآية حكم أكل أموال المسلمين بالباطل، وأنه حرام فلا يحل لمسلم أن يأكل مال أخيه بغير طيب نفس منه. وذكر نوعاً هو شر أنواع أكل المال بالباطل، وهو دفع الرشوة إلى القضاة والحاكمين ليحكموا لهم بغير الحق فيورطوا القضاة في الحكم بغير الحق ليأكلوا أمال إخوانهم بشهادة الزور واليمين الغموس الفاجرة وهي التي يحلف فيها المرء كاذباً.
وقال تعالى: { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: وأنتم تعلمون حرمة ذلك.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- حرمة أكل مال المسلم بغير حق سواء كان بسرقة أو بغصب أو غش أو احتيال ومغالطة.
__________
1 الباطل: لغة: الذاهب الزائل.
2 يقال: أدلى دلوه في البئر إذا ألقاها فيها ليخرج الماء، والحبل الذي يلقى بالدلو يقال له: الرشاء، ومنه أخذ اسم الرشوة، فالراشي يعطي الرشوة ليستخلص الحكم له.
3 إن هذه الآية وإن نزلت في سبب خاص: وهو تخاصم عبدان ابن أشوع الحضرمي مع أمرؤ القيس الكندي، إذ ادعى الأول مالاً على الثاني، فأنكر وأراد أن يحلف، فنزلت فإنها عامة في أمة الإسلام قاطبة، فلا يحل أكل مال أمرء مسلم بغير حق، فيدخل فيه القمار والخداع، والغصوب، وجحد الحقوق وكذا ما حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه، وذلك كمهر البغي، وحلوان الكاهن، وأثمان بيع الخمر وغيرها.

2- حرمة الرشوة تدفع للحاكم ليحكم1 بغير الحق.
3- مال الكافر غير المحارب كمال المسلم في الحرمة إلا أن مال المسلم أشد حرمة لحديث: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله "2. ولقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} وهو يخاطب المسلمين.
{يَسْأَلونَكَ3 عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ4 لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ5 وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(189)}
شرح الكلمات:
{الأَهِلَّةِ} : جمع هلال: وهو القمر في بداية ظهوره في الثلاثة الأيام الأولى من الشهر؛ لأن الناس إذا رأوه رفعوا أصواتهم الهلال الهلال.
المواقيت : جمع ميقات: الوقت المحدد المعلوم للناس.
إتيان البيوت من ظهورها : أن يتسور الجدار ويدخل البيت تحاشياً أن يدخل من الباب.
{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} : البر الموصل إلى رضوان الله. بر عبد: اتقى الله تعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه ليس البر دخول البيوت من ظهورها.
الفلاح : الفوز: وهو النجاة من النار ودخول الجنة.
__________
1 حكم الحاكم لا يحل الحرام سواء أموالاً أو فروجاً لهذه الآية ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إنما أنا بشر وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فيلحملها أو ليذرها ".
2 رواه مسلم.
3 حقيقة السؤال هي: طلب أحد من آخر بذل شيء أو إخباراً عن شيء فإن كان طلب شيء تعدى الفعل بنفسه نحو: سأله مالاً، وإن كان إخباراً عن شيء تعدى بعن نحو: سأله عن كذا.
4 الوقت والميقات: بمعنى واحد، إلا أن الميقات أخص من الوقت فإنه عام.
5 ذكر الحج خصوصاً لأنه يفوت بفوات وقته إذا تقدم أو تأخر، إذ الحج يوم واحد وهو تاسع الحجة، ومكان واحد وهو عرفة لحديث: "الحج عرفة" .

معنى الآية الكريمة:
روى أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلين: ما بال الهلال يبدوا دقيقاً، ثم يزيد حتى يعظم ويصبح بدراً، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما كان أول بدئه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: هي مواقيت للناس، وعلة بدءها صغيرة ثم تتكامل ثم تنقص حتى المحاق: هي أن يعرف الناس بها مواقيتهم التي يؤقتونها لأعمالهم1 فبوجود القمر على هذه الأحوال تعرف عدة النساء وتعرف الشهور، فنعرف رمضان2 ونعرف شهر الحج ووقته، كما نعرف آجال العقود في البيع والإيجار، وسداد الديون وما إلى ذلك. وكان الأنصار في الجاهلية إذا أحرم أحدهم بحج أو عمرة وخرج من بيته وأراد أن يدخل لغرض خاص لا يدخل من الباب حتى لا يظله نجف الباب فيتسور الجدار ويدخل من ظهر البيت لا من بابه وكانوا يرون هذا طاعة وبراً، فأبطل الله تعالى هذا التعبد الجاهلي بقوله عز وجل: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ} . بر أهل التقوى والصلاح. وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها فقال: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} ، وأمرهم بتقواه عز وجل ليفلحوا في الدنيا والآخرة. فقال: { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية:
1- أن يسأل المرء عما ينفعه ويترك السؤال3 عما لا يعنيه.
2- فائدة الشهور القمرية عظيمة إذ بها تعرف كثير من العبادات.
3- حرمة الابتداع في الدين4 ولو كان برغبة في طاعة الله تعالى وحصول الأجر.
4- الأمر بالتقوى المفضية إلى فلاح العبد ونجاته في الدارين.
__________
1 من ذلك بيوع الآجال وبيع السلم فلا بد من تحديد الوقت بعام معين أو شهر معين.
2 لحديث عبد الرازق والحاكم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً" فإن غم في أول رمضان عددنا شعبان ثلاثين يوماً وإن غم في آخر رمضان عددنا رمضان ثلاثين يوماً.
3 وشاهده في السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه" .
4 قال القرطبي في تفسير هذه الآية: بيان أن ما لم يشرعه الله قربة ولا ندب إليه لا يصير قربة يتقرب بها إلى الله تعالى واستشهد بحديث أبي إسرائيل إذ نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مروه فليتكلم وليستظل وليقعد ولتم صومه" . فأبطل ما لم يكن قربة وصحح ما هو قربة.

{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ1 وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين َ(191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ(193)}
شرح الكلمات:
{سَبِيلِ اللَّهِ} : الطريق الموصل إلى رضوانه وهو الإسلام، والمراد إعلاء كلمة2 الله.
{الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} : المشركون الذين يبدؤونكم بالقتال.
{وَلا تَعْتَدُوا}3 : لا تجاوزوا الحد فتقتلوا النساء والأطفال ومن اعتزل القتال.
{ثَقِفْتُمُوهُمْ} : تمكنتم من قتالهم.
{وَالْفِتْنَةُ} : الشرك4.
{الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} : المراد به مكة والحرم من حولها.
{وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} : بأن لم يبق من يعبد غير الله تعالى.
{فَلا عُدْوَانَ} : أي: لا اعتداء بالقتل والمحاربة إلا على الظالمين. أما من أسلم فلا يقاتل.
معنى الآيات:
هذه الآيات الثلاث: { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} من أوائل ما نزل في شأن قتال المشركين
__________
1 يقال رجل ثقف لقف، إذا كان محكماً لما يتناوله والمراد: اقتلوهم حيث تمكنتم من ذلك غالبين لهم قاهرين.
2 لقوله صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" . في الصحيح.
3 يدخل في هذا النهي كل محرم؛ كالميتة و تحريق الأشجار وقتل الحيوان لحديث في الصحيح: " اغزوا في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع" .
4 يصح تفسير الآية: بأن الفتنة التي حملوكم عليها وراموا رجعوكم بها إلى الكفر أشد من القتل أي: من قتل المؤمن.

وهي متضمنة الأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بقتال من يقاتلهم والكف عمن يكف عنهم، وقال تعالى: { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: في سبيل إعلاء كلمة الله ليعبد وحده. {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} ، واقتلوهم حيث تمكنتم منه، وأخرجوهم من ديارهم كما أخرجوكم أيها المهاجرون من دياركم، ولا تتحرجوا من القتل، فإن فتنتهم للمؤمنين لحملهم على الكفر بالاضطهاد والتعذيب أشد من القتل: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ1 عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} فلا تكونوا البادئين فإن قاتلوكم فاقتلوهم. كذلك القتل والإخراج الواقع منكم لهم يكون جزاء كل كافر يعتدي ويظلم. فإن انتهوا عن الشرك والكفر وأسلموا فإن الله يغفر لهم ويرحمهم؛ لأن الله تعالى غفور رحيم.
أما الآية الرابعة(193) وهي قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} فهي مقررة لحكم سابقاتها، إذ فيها الأمر بقتال المشركين الذين قاتلوهم قتالاً يستمر حتى لا يبقى في مكة من يضطهد في دينه ويفتن فيه ويكون الدين كله لله فلا يعبد غيره، وقوله فإن انتهوا من الشرك بأن اسلموا ووحدوا فكفوا عنهم ولا تقاتلوهم، إذ لا عدوان2 إلا على الظالمين وهم بعد إسلامهم ما أصبحوا ظالمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب قتال من يقاتل المسلمين، والكف عمن يكف عن قتالهم، وهذا قبل نسخ هذه الآية.
2- حرمة الاعتداء في القتال بقتل الأطفال والشيوخ والنساء إلا أن يقاتلن.
3- حرمة القتال عند المسجد الحرام، أي مكة والحرم إلا أن يبدأ العدو بالقتال فيه فيقاتل.
4- الإسلام يجب ما قبله لقوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
5- وجوب الجهاد وهو فرض كفاية ما وجد مؤمن يضطهد لإسلامه أو يفتن في دينه.
__________
1 القول بأن هذه الآية محكمة أصح لأن دلالتها على ذلك واضحة وهو أن لا يقاتل في الحرم المكي وأن لا يبدأ به فإذا بدأ المشركون بقتال المؤمنين قاتلهم المؤمنون فيه، ويشهد لهذا حديث ابن عباس في الصحيح: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام لحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة" . الحديث.
2 قتال من قاتل المسلمين لا يسمى عدواناً إلا من باب المشاكلة نحو: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ، إذ الأولى حقاً سيئة، أما الثانية فإنها قصاص عادل وسميت سيئة مشاكلة في اللفظ.

{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ1 قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ2 مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(195)}
شرح الكلمات:
{الشَّهْرُ الْحَرَامُ} : الشهر المحرم القتال فيه والأشهر الحرم أربعة ثلاثة سرد وواحد فرد. فالثلاثة هي القعدة والحجة ومحرم، والرابع الفرد: رجب.
الحرمات : جمع حرمة؛ كالشهر الحرام، والبلد الحرام، والإحرام.
{أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} : المتقون: هم المؤمنون الذين يتقون معاصي الله تعالى ومخالفة سنته في الحياة وكونه تعالى معهم: يسددهم ويعينهم وينصرهم.
{التَّهْلُكَةِ} : الهلكة والهلاك مثلها.
الإحسان : اتقان الطاعة وتخليصها من شوائب الشرك، وفعل الخير3 أيضاً.
معنى الآيتين:
الآية الأولى(194) في سياق ما قبلها تشجع المؤمنين المعتدى عليهم على قتال أعدائهم وتعلمهم أن من قاتلهم في الشهر الحرام فليقاتلوه في الشهر الحرام، ومن قاتلهم في الحرم فليقاتلوه في الحرم، ومن قاتلهم وهم محرمون فليقاتلوه وهو محرم، وهكذا الحرمات قصاص
__________
1 الحرمات: جمع حرمة، كالظلمات: جمع ظلمة، والحرمة: ما منع العبد من انتهاكه، والقصاص يمعنى المساواة هذه الآية لا خلاف بين العلماء في أنها أصل المماثلة في القصاص، فمن جرح جرح بمثل ما جرح، ومن قتل يقتل بمثل ما قتل به، اللهم إلا من قتل بزنا أو لواط فهذا قطعاً لا مماثلة فيه ولكن يقتل بالسيف.
2 لهذا الآية نظيرها وهو قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ، وهي بالنسبة إلى الأمة قد نسخت بآيات الجهاد، أما بالنسبة للأفراد فالجمهور على أن الفرد لا يعاقب بنفسه ولكن بواسطة الحاكم، ولكن يرى بعضهم كالإمام الشافعي: أن الفرد إذا لم يتوصل إلى أخذ حقه إلا بالمعاقبة فلينظر إذا كان يمكنه أن يأخذ بقدر ما أخذ منه مساواة بلا زيادة فلا بأس أن يأخذ بشرط أن يأمن من نسبته إلى السرقة حتى لا يتعرض إلى إقامة الحد عليه.
3 فعل الخير يشمل مواساة الفقراء والمساكين وصلة ذو الأرحام كما يشمل عدم الإساءة إلى المسيء بالعفو والصفح عنه فهو باب واسع.

بينهم ومساواة. ومن اعتدى عليهم فليعتدوا عليه مثل اعتدائه عليهم، وأمرهم بتقواه عز وجل وأعلمهم أنه معهم ما اتقوه بالتسديد والعون والنصر.
وأما الآية1(195) فقد أمرهم بإنفاق المال للجهاد لإعداد العدة وتسيير السرايا ولمقاتلين ونهاهم أن يتركوا الإنفاق في سبيل الله الذي هو الجهاد فإنهم متى تركوا الإنفاق والجهاد كانوا كمن ألقى بيده في الهلاك، وذلك أن العدو المتربص بهم إذا رآهم قعدوا عن الجهاد غزاهم وقاتلهم وانتصر عليهم فهلكوا. كما أمرهم بالإحسان في أعمالهم كافة وإحسان الأعمال إتقانها وتجويدها، وتنقيتها من الخلل والفساد، وواعدهم إن هم أحسنوا أعمالهم بتأييدهم ونصرهم، فقال تعالى : {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ومن أحبه الله أكرمه ونصره وما أهانه ولا خذله.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- احترام الشهر الحرام وسائر الحرمات.
2- جواز المقاصة والمجازاة لمن اعتدى بحيث يعامل بما عامل به سواء بسواء.
3- رد الاعتداء والنيل من المعتدي الظالم البادي2 بالظلم والاعتداء.
4- معية الله تعالى لأهل الإيمان والتقوى والإحسان.
5- فضيلة الإحسان لحب الله تعالى للمحسنين.
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ3 وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ
__________
1روي أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: هذه الآية نزلت فينا معاشر الأنصار، وذلك أنه لما نصر الله رسوله وأظهر دينه قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها فأنزل الله عز وجل: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية، والإلقاء باليد في التهلكة: أن نقيم في أموالنا.
2 هذا ليس على بابه وإنما هو في المعتدي الكافر، أما المسلم فإن العفو عنه محمود ومطلوب أيضاً، قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه} وقال رسوله صلى الله عليه وسلم: "أدي الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك" .
3 الآية دليل على مشروعية العمرة وهي كذلك سنة واجبة، أما الحج فقد فرض بالكتاب في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وبالنسبة في حديث ابن عمر: "بني الإسلام على خمس" إذ فيه حج البيت والإجماع أيضاً.

الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(196)}
شرح الكلمات:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} : فإتمامهما1 أن يحرم بهما من الميقات وأن يأتي بأركانهما وواجباتهما على الوجه المطلوب من الشارع، وأن يخلص فيهما لله تعالى.
{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} : الحصر والإحصار2 أن يعجز الحاج أو المعتمر عن إتمام حجه أو عمرته إما بعدو يصده عن دخول مكة أو مرض شديد لا يقدر معه على مواصلة السير إلى مكة3.
{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} : أي فالواجب على من أحصر ما تيسر له من الهدي شاة أو بقرة أو بعير.
{وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ} : لا يتحلل المحصر من إحرامه حتى يذبح ما تيسر له من الهدي فإن ذبح تحلل بحلق رأسه.
{فَفِدْيَةٌ} : فالواجب هو فدية من صيام أو صدقة أو نسك.
{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} : فمن أحرم بعمرة في أشهر الحج وتحلل وبقي في مكة ينتظر الحج وحج فعلاً فالواجب ما استيسر من الهدي.
__________
1 ومن إتمامها أن يخرج لهما لا لتجارة ولا غيرها فيخرج لهما لا غيرهما كما قال علي رضي الله عنه: "أن تحرم بهما من دويرة أهلك، والحج تمامه عرفة، والعمرة والسعي بعد الطواف والحلق أو التقصير".
2 ذهب مالك والشافعي إلى أن المحصر بمرض لا يحل له أن يتحلل بل عليه أن يبقى على إحرامه حتى يطوف ولو بعد عام، وذهب غيرهما إلى أن المريض الشديد المرض حكمه حكم المحصر بالعدو ينحر ويتحلل، وإن كان الحج فرضاً عليه القضاء، وإن كان نفلاً فلا قضاء عليه.
3 هذا إذا لم يشترط عند إحرامه، أما إذا اشترط بقوله عند إحرامه: "محلي حيث حبستني" فإنه يتحلل ولا شيء عليه إلا ما كان من مالك فإنه لا يرى الإشتراط وهو محجوج بحديث ضباعة: "حجي واشترطي".

{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} : فمن تمتع بالعمرة ولم يجد هدياً لعجزه عنه، فالواجب صيام عشرة أيام ثلاثة في مكة وسبعة في بلده.
{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} : أي ما وجب من الهدي أو الصيام عند العجز وهو لغير أهل الحرم أما سكان مكة والحرم1 حولها وهم أهل الحرم فلا يجب عليهم شيء إن تمتعوا.
معنى الآية الكريمة:
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يتموا الحج والعمرة له سبحانه وتعالى فيأتوا بها على الوجه المطلوب وأن يريدوا بهما الله تعالى، ويخبرهم أنهم إذا أحصروا فلم يتمكنوا من إتمامها، فالواجب عليهم أن يذبحوا ما تيسر لهم، فإذا ذبحوا أو نحروا حلوا من إحرامهم، وذلك بحلق شعر رؤوسهم أو تقصيره، كما أعلمهم أن من كان منهم مريضاً أو به أذى من رأسه واضطر إلى حلق شعر رأسه أو لبس ثوب أو تغطية رأس، فالواجب بعد أن يفعل ذلك فدية وهي واحد من ثلاثة على التخيير: صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين حفنتان2 من طعام، أو ذبح شاة. كما أعلمهم أن من تمتع بالعمرة إلى الحج ولم يكن من سكان الحرم أن عليه ما استيسر من الهدي شاة أو بقرة أو بعير فإن لم يجد ذلك صام ثلاثة أيام في الحج من أول شهر الحجة إلى يوم التاسع منه وسبعة أيام إذا رجع إلى بلاده. وأمرهم بتقواه عز وجل وهي امتثال أوامره والأخذ بتشريعه و حذرهم من إهمال أمره والاستخفاف بشرعه فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- وجوب إتمام الحج والعمرة لمن شرع فيهما بالإحرام من الميقات، وإن كان الحج3 تطوعاً والعمرة غير واجبة.
__________
1 المكي وساكن الحرم إن حصرا بمرض لا يحل لهما التحلل بذبح الهدي بل عليهما أن يحملا على نعش ويوقف بهما بعرفة ويطاف بهما وهما على النعش.
2 ويجزئ اليوم كيلو رز أو بر أو تمر لكل مسكين ولا يجوز إلقاء ذلك لحمام الحرم كما يفعل الجهال.
3 لقول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} فمن شرع في عبادة يجب أن يتمها.

2- بيان حكم الإحصار1، وهو ذبح شاة من مكان الإحصار ثم التحلل بالحلق أو التقصير، ثم القضاء من قابل إن تيسر ذلك للعبد، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى هو وأصحابه العمرة التي صدوا فيها عن المسجد الحرام عام الحديبية.
3- بيان فدية الأذى: وهي أن من ارتكب محظوراً من محظورات الإحرام بأن حلق أو لبس مخيطاً أو غطى رأسه لعذر وجب عليه فدية وهي صيام أو إطعام أو ذبح شاة.
4- بيان حكم التمتع2، وهو أن من كان من غير سكان مكة والحرم حولها إذا أحرم بعمرة في أشهر الحج وتحلل منها وبقي في مكة وحج من عامه أن عليه ذبح3 شاة فإن عجز صام ثلاثة أيام في مكة وسبعة في بلاده.
5- الأمر بالتقوى وهي طاعة الله تعالى بامتثال أمره واجتناب نهيه، والتحذير من "تركها لما يترتب عليه من العقاب الشديد"
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ4 الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ(197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ
__________
1 الواجب على المحصر أن يذبح هدي في الحرم وإن عجز ذبحه في مكان الإحصار، وإن عجز ذبحه حيث أمكنه وإن لم يجده لفقر صام عشرة أيام بدله، والواجب أن لا يتحلل إلا بعد نحر الهدي إن كان ذلك في مقدوره، هذا أوسط المذاهب في هذه المسألة الشائكة الكثيرة الآراء.
2 لا خلاف في جواز الإحرام بأي نسك من أنواع النسك الثلاثة إلا أن الإفراد لمن يعتمر في غير أشهر الحج ويحج من عامه أفضلها.
3 شاه الإحصار أولاً لا بد وأن تكون سليمة؛ كشاة الأضحية في سنها وسلامتها من العور والعرج والهزال والمرض.
4 روى البخاري عن ابن عباس قال: "كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله تعالى: {وتزودوا....} " الآية، والزاد: التمر، والسويق يومئذ وهو ما يتحاجه الحاج من سائر أنواع الزاد.

لَمِنَ الضَّالِّينَ(198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(199)}
شرح الكلمات:
{أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} : هي شوال والقعدة وعشر1 ليال من الحجة هذه هي الأشهر التي يحرم فيها بالحج.
{فَرَضَ} : نوى الحج وأحرم2 به.
{فَلا رَفَثَ} : الرفث: الجماع ومقدماته.
{وَلا فُسُوقَ} : الفسق والفسوق: الخروج عن طاعة الله بترك واجب أو فعل حرام.
الجدال : المخاصمة والمنازعة.
الجناح : الإثم.
{تَبْتَغُوا فَضْلاً} : تطلبوا ربحاً في التجارة من الحج.
{أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} : الإفاضة من عرفات تكون بعد الوقوف بعرفة يوم الحج وذلك بعد غروب الشمس من يوم التاسع من شهر الحجة.
{الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} : مزدلفة وذكر الله تعالى عندها: هو صلاة المغرب والعشاء جمعاً بها وصلاة الصبح.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان أحكام الحج والعمرة فأخبر تعالى أن الحج له أشهر3 معلومة وهي شوال والقعدة وعشر ليال من الحجة فلا يحرم بالحج إلا فيها. وأن من أحرم بالحج يجب عليه أن يتجنب الرفث والفسق4 والجدال5 حتى لا يفسد حجه أو ينقص أجره، وانتدب الجاج
__________
1 لو أحرم ليلة العاشر وهي ليلة العيد ووصل إلى عرفة ووقف بها قبل طلوع الفجر صح حجه.
2 يكره أن يحرم المسلم بالحج قبل أشهره، ولو أحرم صح إحرامه وعليه المضي فيه والأفضل له أن يتحلل بعمرة وإن بقى على إفراده كره له ذلك، وصح منه، هذا أرجح المذاهب في هذه المسألة.
3 لم يذكر أشهر الحج في الآية بالتعيين وذلك للعلم بها ولبيان الرسول صلى الله عليه وسلم لها، وقال أشهر وهي شهران وعشر ليال من باب التغليب.
4 أنه بتجنب هذه الثلاثة يكون حجه مبرور لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه، الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" . قالت العلماء: الحج المبرور: الذي لم يعص الله تعالى فيه وحف بفعل الخيرات.
5 الجدال: مأخوذ من الجدال الذي هو الفتل للحبل ونحوه، فالمجادل يريد أن يفتل رأي من يجادله أي يثنيه عنه ويرده عليه.

إلى فعل الخير من صدقة وغيرها فقال: { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} ولازمه أنه يثيب عليه ويجزي به. وأمر الحجاج أن يتزودوا لسفرهم في الحج بطعام وشراب يكفون به وجوههم عن السؤال فقال: وتزودوا، وأرشد إلى خير الزاد، وهو التقوى، ومن التقوى عدم سؤال الناس أموالهم والعبد غير محتاج وأمرهم بتقواه عز وجل، أي بالخوف منه حتى لا يعصوه في أمره ونهيه فقال: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} ، والله أحق أن يتقى؛ لأنه الواحد القهار، ثم أباح لهم الاتجار أثناء وجودهم في مكة ومنى فقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} يريد رزقاً حلالاً بطريق التجارة المباحة، ثم أمرهم بذكر الله تعالى في مزدلفة بصلاة المغرب والعشاء والصبح فيها وذلك بعد إفاضتهم من عرفة بعد غروب الشمس فقال عز من قائل: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ1 عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} ثم ذكرهم بنعمة هدايته لهم بعد الضلال الذي كانوا فيه وانتدبهم إلى شكره وذلك بالإكثار من ذكره فقال تعالى :{ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} ثم أمرهم بالمساواة في الوقوف بعرفة والإفاضة منها فليقفوا كلهم بعرفات، وليفيضوا جميعاً منها فقال عز وجل: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} ، وذلك أن الحمس2 كانوا يفيضون من أدنى عرفات حتى ينجوا من الزحمة ويسلموا الحطمة. وأخيراً أمرهم باستغفار الله أي: طلب المغفرة منه ووعدهم بالمغفرة بقوله: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمة الرفث والفسوق والجدال في الإحرام.
2- استحباب فعل الخيرات للحاج أثناء حجه ليعظم أجره ويبر حجه.
3- إباحة الاتجار والعمل للحاج طلباً للرزق على أن لا يحج لأجل ذلك.
4- وجوب3 المبيت بمزدلفة لذكر الله تعالى.
__________
1 الإجماع على أن من وقف بعرفة قبل الزوال وخرج منها قبل الزوال إنه ما حج، أما من وقف بعد الزوال وخرج قبل غروب الشمس فالجمهور على صحة حجه، وعليه ذبح شاه وقال مالك: يبطل حجه. والله أعلم.
2 الحمس: جمع أحمس، من هو أشد تحمساً وحماسة لحماية الحرم وهم قريش ومن يمت إليهم بنسب وكانوا يقولون: نحن أهل الله في بلدته، وقبطان بيته.
3 القول بركنية المبيت بمزدلفة قول شاذ لا يلتفت إليه، وأما الوجوب فمتأكد بالآية والحديث، والخروج منها بعد النزول بها بعد نصف الليل للعجزة والضعفة جائر بإذن الرسول صلى الله عليه وسلم كما هو ثابت في السنن.

5- وجوب شكر الله تعالى بذكره وطاعته على هدايته وإنعامه.
6- وجوب المساواة في أداء مناسك الحج بين سائر الحجاج فلا يتميز بعضهم عن بعض في أي شعيرة من شعائر الحج.
7- الترغيب في الاستغفار1 والإكثار منه.
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ2 آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ(200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً3 وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ(202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(203)}
شرح الكلمات:
{قَضَيْتُمْ} : أديتم وفرغتم منها.
المناسك : جمع منسك وهي عبادات الحج المختلفة.
الخلاق : الحظ والنصيب.
__________
1 يسن الاستغفار ثلاثاً بعد كل صلاة فريضة لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سلم من صلاته قال: "استغفر الله ثلاثاً " وسيد الاستغفار هو: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبو لك بنعمتك علي وأبو بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ".
2 الكاف: في محل نصب، أي ذكرا كذكركم فهي بمعنى مثل، وأو هنا للإضراب الانتقالي، أي بل اذكروه ذكراً أشد من ذكركم آبائكم.
3 روي عن علي رضي الله عنه إنه كان يقول: "حسنة الدنيا: المرأة الصالحة، وحسنة الآخرة: الحور العين، وقد لا يصح هذا عن علي، وما فسرنا به أعم وأشمل وأعظم.

{حَسَنَةً} : حسنة الدنيا: كل ما يسر ولا يضر من زوجة صالحة وولد صالح ورزق حلال وحسنة الآخرة النجاة من النار ودخول الجنان.
{وَقِنَا} : احفظنا ونجنا من عذاب النار.
{نَصِيبٌ} : حظ وقسط من أعمالهم الصالحة ودعائهم الصالح.
الأيام المعدودات1 : أيام التشريق الثلاثة بعد يوم العيد.
{تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} : رمى يوم الأول والثاني وسافر.
{وَمَنْ تَأَخَّرَ} : رمى الأيام الثلاثة كلها.
{فَلا إِثْمَ} : أي لا ذنب في التعجل ولا في التأخر.
{لِمَنِ اتَّقَى} : للذي اتقى ربه بعدم ترك واجب أوجبه أو فعل حرام حرمه.
{تُحْشَرُونَ} : تجمعون للحساب والجزاء يوم القيامة.
معنى الآيات:
بهذا الآيات الأربع انتهى الكلام على أحكام الحج، ففي الآية الأولى(200) يرشد تعالى المؤمنين إذا فرغوا من مناسكهم بأن رموا جمرة العقبة ونحروا وطافوا طواف الإفاضة، واستقروا بمنى للراحة والاستجمام أن يكثروا من ذكر الله تعالى عند رمي الجمرات، وعند الخروج من الصلوات ذكراً مبالغاً في الكثرة منه على النحو الذي كانوا في الجاهلية يذكرون فيه مفاخر آبائهم2 وأحساب أجدادهم. وبين تعالى حالهم وهي أن منهم من همه الدنيا فهو لا يسأل الله تعالى إلا ما يهمه منها، وهذا كان عليه أكثر الحجاج في الجاهلية، وأن منهم من يسأل الله تعالى خير الدنيا والآخرة، وهم المؤمنون الموحدون فيقولون: {رَبَّنَا آتِنَا فِي3 الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ، وهذا متضمن تعليم المؤمنين وإرشادهم إلى هذا الدعاء الجامع والقصد الصالح النافع فلله الحمد والمنة، وفي الآية(202) يخبر تعالى أن لأهل الدعاء الصالح وهم المؤمنون الموحدون نصيباً من الأجر على أعمالهم التي كسبوها في الدنيا،
__________
1 روى أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الأيام المعدودات: أيام التشريق، والأيام المعلومات: أيام العشر من أول الحجة.
2 قال أهل العلم: إن عادة العرب في الجاهلية إنهم إذا قضوا حجهم وقفوا عند الجمرات يفاخرون بآبائهم حتى أن الرجل ليقول اللهم إن أبي كان عظيم القبة عظيم الجفنة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته، فلا يذكر غير أبيه.
3 هذه الآية من جوامع الدعاء التي عمت الدنيا والآخرة وفي الصحيحين أن أنس بن مالك: قال كان أكثر دعوة يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} .

وهو تعالى سريع الحساب فيعجل لهم تقديم الثواب وهو الجنة، وفي الآية(203) يأمر تعالى عباده الحجاج المؤمنين بذكره تعالى في أيام التشريق عند رمي الجمار وبعد الصلوات الخمس قائلين: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر ألله أكبر ولله الحمد ثلاث مرات إلى عصر اليوم الثالث في أيام التشريق1 ثم أخبرهم الله تعالى بأنه لا حرج على من تعجل السفر إلى أهله بعد رمي اليوم الثاني، كما لا حرج على من تأخر فرمى اليوم الثالث فقال تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ2 عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} فالأمر على التخيير وقيد نفي الإثم بتقواه عز وجل فمن ترك واجباً أو فعل محرماً فإن عليه إثم معصيته ولا يطهره منها إلا التوبة ففي الإثم مقيد بالتعجل ودعمه فقط. فكان قوله تعالى لمن اتقى قيدا ً جميلاً، ولذا أمرهم بتقواه عز وجل، ونبههم إلى مصيرهم الحتمي، وهو الوقوف بين يديه سبحانه وتعالى، فليستعدوا لذلك بذكره وشكره والحرص على طاعته.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الذكر بمنى عند رمس الجمرات إذ يكبر مع كل حصاة قائلاً: الله أكبر.
2- فضيلة الذكر3 والرغبة فيه؛ لأنه من محاب الله تعالى.
3- فضيلة سؤال الله تعالى الخيرين وعدم الاقتصار على أحدهما، وشره الاقتصار على طلب الدنيا وحطامها.
4- فضيلة دعاء: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . فهي جامعة للخيرين معاً، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت يختم بها كل شوط.
5- وجوب المبيت ثلاث ليال بمنى ووجوب الحمرات إذ بها يتأتى ذكر الله في الأيام المعدودات، وهي أيام التشريق.
6- الرخصة في التعجل لمن رمى اليوم الثاني.
7- الأمر بتقوى الله وذكر الحشر والحساب والجزاء، إذ هذا الذكر يساعد على تقوى الله عز وجل.
__________
1 لقد رخص لمن لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق بلا خلاف.
2 قيل أن هذا التخيير ونفي الإثم على المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي لأنه حذر متحرز من كل ما يريبه فرفع الإثم حتى لا يبقى في نفسه ما يؤلمه من التقديم والتأخير وهو وجه حسن للآية.
3 روى أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله". وروى مسلم أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم: "لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وذكر الله".

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ(204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ(205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ(206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ(207)}
شرح الكلمات:
{يُعْجِبُكَ}1 : يروق لك وتستحسنه.
في الدنيا : إذا تحدث في أمور الدنيا.
{أَلَدُّ2 الْخِصَامِ} : فوي الخصومة شديدها، لذلاقة لسانه.
{تَوَلَّى} : رجع وانصرف، أو كانت له ولاية.
{الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} : الحرث: الزرع، والنسل: الحيوان.
{أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ3 بِالأِثْمِ} : أخذته الحمية والأنف بذنوبه فهو لا يتقي الله.
{يَشْرِي نَفْسَهُ} : يبيع نفسه لله تعالى بالجهاد في سبيله بنفسه وماله.
معنى الآيات:
يخر تعالى رسوله والمؤمنين عن حال المنافقين، والمؤمنين الصادقين، فقال تعالى مخاطباً الرسول صلى الله عليه وسلم: ومن الناس رجل منافق يحسن القول، وإذا قال يعجبك قوله لما عليه من طلاء
__________
1 الإعجاب: إيجاد العجب في النفس، والعجب انفعال يعرض للنفس عند مشاهدة أمر غير مألوف خفي السبب.
2 الألد: لغة الأعوج والمنافق في حال خصومته يكذب ويزور عن الحق، ولا يستقيم وفي الحديث: "إذ خاصم فجر" .
3 الأخذ: أخذ الشيء باليد، ويطلق ويراد به الاستيلاء على الشيء نحو: {خذوهم واحصروهم} ، وأخذته الحمى والعزة: حال نفسية يرى صاحبها أنه لا يمانع فيما يفعل ويريد، وبالإثم: الباء للمصاحبة، أي: أخذته العزة مصاحبة للإثم كائنة معه، وهو احتراز من العزة المصاحبة لما هو محمود من الفعال؛ كالغضب لله تعالى.

ورونق، وذلك إذا تكلم في أمور الحياة الدنيا بخلاف أمور الآخرة فإنه يجهلها وليس له دافع ليقول فيها؛ لأنه كافر، و عندما يحدث يشهد الله أنه يعتقد ما يقول، فيقول للرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الله أني مؤمن وأني أحبك، ويشهد الله أني كذا... وإذا قام من مجلسك وانصرف عنك: {سَعَى1 فِي الأَرْضِ} أي: مشى فيها بالفساد ليهلك الحرث والنسل بارتكاب عظائم الجرائم فيمنع المطر وتيبس المحاصيل الزراعية، وتمحل الأرض وتموت البهائم وينقطع النسل وعمله هذا مبغوض لله تعالى فلا يحبه ولا يحب فاعله. كما أخبر تعالى أن هذا المنافق إذا أمر بمعروف أو نهى عن منكر فقيل له اتق الله لا تفعل كذا أو اترك كذا تأخذه الأنفة والحمية بسبب ذنوبه التي هو متلبس بها فلا يتقي الله ولا يتوب إليه فيكفيه جزاء على نفاقه وشره وفساده جهنم يمتهدها فراشاً لا يبرح منها أبداً، ولبئس المهاد جهنم.
كما يخبر تعالى عن المؤمن الصادق فيقول من الناس رجل مؤمن صادق الإيمان باع نفسه وماله لله تعالى طلباً لمرضاته والحياة في جواره في الجنة دار السلام فقال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} رحيم بهم.
قيل: أن الرجل المنافق الذي تضمنت الحديث عنه الآيات الثلاثة الأولى: هو الأخنس2 بن شريق، وأن الرجل المؤمن الذي تضمنت الحديث عنه الآية الرابعة(207) هو: صهيب بن سنان الرومي أبو يحي، إذ المشركون لما علموا به أنه سيهاجر إلى المدينة ليلحق بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه قالوا: لن تذهب بنفسك ومالك لمحمد، فلن نسمح لك بالهجرة إلا إذا أعطيتنا مالك كله، فأعطاهم كل ما يملك وهاجر فلما وصل المدينة، ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ربح البيع أبا يحي ربح البيع. والآيات وإن نزلت في شأن الأخنس وصهيب فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالأخنس مثل سوء لكل من يتصف بصفاته، وصيب مثل الخير والكمال لكل من يتصف بصفاته.
__________
1 السعي: المشي الحثيث، ويطلق على الكسب والعمل، قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} .
2 أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فقد روى ابن كثير عن نوف البكالي قوله: إن لا أجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل، قوم يحتالون على الدنيا ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر يلبسون للناس نسوك الضأن وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله تعالى: "عليَّ يجترئون وبي يغترون حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران. وذكر: {ومن الناس...} الآية.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التحذير من الاغترار بفصاحة1 وبيان الرجل إذا لم يكن من أهل الإيمان والإخلاص.
2- شر الناس من يفسد في الأرض بارتكاب الجرائم مما يسبب فساداً وهلاكاً للناس والمواشي.
3- قول الرجل يعلم الله، ويشهد الله يعتبر يميناً فليحذر المؤمن أن يقول ذلك وهو يعلم من نفسه أنه كاذب.
4- إذا قيل للمؤمن اتق الله يجب عليه أن لا يغضب أو يكره من أمره بالتقوى بل عليه أن يعترف بذنبه ويستغفر الله تعالى ويقلع عن المعصية فوراً.
5- الترغيب في الجهاد بالنفس2 والمال وجواز أن يخرج المسلم من كل ماله في سبيل الله تعالى ولا بعد ذلك إسرافاً ولا تبذيراً إذ الإسراف والتبذير في الإنفاق في المعاصي والذنوب.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ(210)}
شرح الكلمات:
{السِّلْم} : الإسلام3.
__________
1 يشهد له حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: " أن من الشعر لحكمة وأن من البيان لسحراً" .
2 تأول عمر وعلي وابن عباس هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} فيمن يأمر أحداً بمعروف وينهاه عن منكر فتأخذه العزة بالإثم فيقاتل الواعظ له، فيبيع لله الواعظ نفسه ويقاتله.
3 روي أن حذيفة بن اليمان قال في هذه الآية: "الإسلام ثمانية أسهم: الصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، والحج سهم، والعمرة سهم، والجهاد سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر. وقد خاب من لا سهم له في الإسلام".

{كَافَّةً}1 : جميعاً لا يتخلف عن الدخول في الإسلام2 أحد، ولا يترك من شرائعه ولا من أحكامه شيء.
{خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} : مسالكه في الدعوة إلى الباطل وتزيين الشر والقبح.
{فَإِنْ زَلَلْتُمْ} : وقعتم في الزلل3 وهو الفسق والمعاصي.
{الْبَيِّنَاتُ} : الحجج والبراهين.
{هَلْ يَنْظُرُونَ} : ما ينظرون: الاستفهام للنفي.
الظلل : جمع ظلة: ما يظلل من سحاب أو شجر ونحوهما.
{الْغَمَامِ} : السحاب الرقيق الأبيض.
معنى الآيتبن:
ينادي الحق تبارك وتعالى عباده المؤمنين آمراً إياهم الدخول في الإسلام دخولاً شمولياً، بحيث لا يتخيرون بين شرائعه وأحكامه ما وافق مصالحهم وأهواءهم قبلوه وعملوا به، وما لم يوافق ردوه أو تركوه وأهملوه، وإنما عليهم أن يقبلوا شرائع الإسلام وأحكامه كافة، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان في تحسين القبيح وتزيين المنكر، إذ هو الذي زين لبعض مؤمني أهل الكتاب تعظيم السبت وتحريم أكل الإبل بحجة أن هذا من دين الله الذي كان عليه صلحاء بني إسرائيل فنزلت هذه الآية فيهم تأمرهم وتأمر سائر المؤمنين بقبول كافة شرائع الإسلام وأحكامه، وتحذرهم من عاقبة اتباع الشيطان فإنها الهلاك التام وهو ما يريده الشيطان بحكم عداوته للإنسان. هذا ما تضمنته الآية(208)، أما الآية الثانية(209) فقد تضمنت أعظم تهديد وأشد وعيد لمن أزله الشيطان فقبل بعض شرائع الإسلام ولم يقبل البعض الآخر، وقد عرف أن الإسلام حق، وشرائعه أحق فقال تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} يحملها كتاب الله القرآن ويبينها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله سينتقم
__________
1 كآفة: اسم يفيد الإحاطة بأجزاء ما وصف به، فقوله تعالى: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} ، أي: حتى لا يبقى مشروع ما يعمل به أو لا يبقى فرد لا يدخل فيه.
2 اختلف في تحديد معنى السلم في الآية، والراجح أنها بمعنى الإسلام ويكون الخطاب معنياً به بعض من آمن من أهل الكتاب وبقى متمسكاً ببعض شرائع التوراة؛ كتحريم يوم السبت، وتحريم شرب لبن الإبل، أمروا بالدخول في الإسلام كافة، أي: بقبول شرائعه كلها وترك شرائع غيره وتكون بمعنى الصلح وترك الحرب والتهارج ويكون الخطاب للمسلمين عامة بترك التهارج بينهم والتقاتل.
3 أصل الزلل: الزلق، وهو اضطراب القدم وتحركها في الموضع المراد إثباتها فيه، والمراد هنا عدم الثبات على طاعة الله ورسوله بفعل الأمر وترك النهي بتزيين الشيطان ذلك للعبد حتى يقع في الضرر.

منكم؛ لأنه تعالى غالب على أمره حكيم في تدبيره وإنجاز وعده ووعيد، وأما الآية الثالثة(210) فقد تضمنت حث المتباطئين على الدخول في الإسلام، إذ لا عذر لهم في ذلك حيث قامت الحجة وظهرت ولاحت الحجة، فقال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ} أي: ما ينظرون1 {إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَة}ُ وعند ذلك يؤمنون، ومثل هذا الإيمان الاضطراري لا ينفع حيث يكون العذاب لزاماً. بقضاء الله العادل، قال تعالى: {وَقُضِيَ الأَمْرُ} إذا جاء الله تعالى لفصل القضاء وانتهى الأمر إليه فحكم وانتهى كل شيء، فعلى أولئك المتباطئين المترددين في الدخول في الإسلام المعبر عنه بالسلم؛ لأن الدخول فيه حقاً سلم، والخروج منه أو عدم الدخول فيه حقاً حرب عليهم أن يدخلوا في الإسلام ألا إلى الإسلام يا عباد الله! فإن السلم خير من الحرب!.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب2 قبول شرائع الإسلام كافة وحرمة التخير فيها.
2- ما من مستحل حراماً، أو تارك واجباً إلا وهو متبع للشيطان في ذلك.
3- وجوب توقع العقوبة عند ظهور المعاصي العظام لئلا يكون أمن من مكر3 الله.
4- إثبات صفة المجيء للرب تعالى: لفصل القضاء يوم القيامة.
5- حرمة التسويق والمماطلة في التوبة.
{سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(212)}
__________
1 الكلام صالح لأن يعود إلى من يعجب قوله ويقبح عمله في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ ...} الآية، وصالح لأن يعود إلى المترددين من أهل الكتاب لعدم خلوصهم في الإسلام كله، وصالح لأن يكون عائداً إلى كل متردد في الإسلام غير صادق في الدخول فيه إلى يوم القيامة، وهذا من إعجاز القرآن، وكونه كتاب هداية للناس كافة وفي كل زمان ومكان.
2 شاهده قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض} الآية.
3 إذ حصول الأمن لازمه الاستمرار على المعاصي وعدم التوبة، والله يقول: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}.

شرح الكلمات:
{سَلْ} : إسأل: سقطت منه الهمزتان للتخفيف.
{بَنِي إِسْرائيلَ} : ذرية يعقوب بن إسحق بن إبراهيم وإسرائيل لقب يعقوب.
{آيَةٍ} : خارقة للعادة؛ كعصا موسى تدل على أن من أعطاه الله تلك الآيات هو رسول الله حقاً. وآيات بني إسرائيل التي آتاهم الله تعالى منها فلق البحر لهم، وإنزال المن والسلوى في التيه عليهم.
{نِعْمَةَ1 اللَّهِ} : ما يهبه لعباده من خير يجلب له المسرة ويدفع عنه المضرة ونعم الله كثيرة.
{َيَسْخَرُونَ} : يحتقرون ويستهزئون.
معنى الآيتين:
يأمر الله تعالى رسوله أن يسأل بني إسرائيل عن الآيات الكثيرة التي آتاهم الله، وكيف كفروا بها فلم تنفعهم شيئاً، والمراد تسليته صلى الله عليه وسلم من الألم النفسي الذي يحصل له من عدم إيمان أهل الكتاب والمشركين به وبما جاء به من الهدى وضمن ذلك تقريع اليهود وتأنيبهم على كفرهم بآيات الله وإصرارهم على عدم الدخول في الإسلام. ثم أخبر تعالى أن من يبدل نعمة الله التي هي الإسلام بالكفر به ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم فإن عقوبة الله تعالى تنزل به لا محالة في الدنيا أو في الآخرة لأن الله شديد العقاب2.
هذا ما تضمنته الآية الأولى(211)، وأما الآية الثانية(212) فقد أخبر تعالى أن الشيطان زين للذين كفروا بالله ورسوله وشرائعه الحياة الدنيا فرغبوا فيها وعملوا لها وأصبحوا لم يروا غيرها، ولذلك سخروا من المؤمنين الزاهدين فيها لعلمهم بزوالها وقلة نفعها فلم يكرسوا كل جهدهم لجمعها والحصول عليها بل أقبلوا على طاعة ربهم وأنفقوا ما في أيدهم في سبيل الله طلباً لرضاه. كما أخبر أن المؤمنين المتقين سيجازيهم يوم القيامة خير الجزاء وأوفره فيسكنهم دار السلام في عليين، ويخزي أعدائهم الساخرين منهم ويهينهم فيسكنهم الدرك الأسفل من النار.
__________
1 فسرت نعمة الله هنا: بالإسلام، وهو كذلك فإن الإسلام أكبر نعمة لما يجلبه من السعادة والكمال وما يدفعه من العقاب في الدارين.
2 جملة: {أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} خبرية متضمنة للوعيد ذيل بها الكلام، والعقاب من العقب كأن المعاقب يمشي بالمجازاة في أثار عقبه ليجزيه به.

وهو تعالى المتفضل ذو الإحسان إذا رزق يرزق بغير1 حساب وذلك لواسع فضله وعظيم ما عنده.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- التحذير من كفر النعم لما يترتب على ذلك من أليم العذاب وشديد العقاب ومن أجَلَّ النعم؛ نعمة الإسلام، فمن كفر به وأعرض عنه فقد تعرض لأشد العقوبات وأقساها وما حل ببني إسرائيل من ألوان الهون والدون دهراً طويلاً شاهد قوي وما حل بالمسلمين يوم أعرضوا عن الإسلام واستبدلوا به الخرافات ثم القوانين الوضعية شاهد أكبر أيضاً.
2- التحذير من زينة الحياة الدنيا والرغبة فيها والجمع لها نسيان الدار الآخرة وترك العمل لها. فإن أبناء الدنيا اليوم يسخرون من أبناء الآخرة، ولكن أبناء الآخرة أهل الإيمان والتقوى يكونون يوم القيامة فوقهم درجات إذ هم في أعالي الجنان والآخرون في أسافل النيران.
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(213)}
__________
1 الآية: ترغيب في طلب فضل الله تعالى وفي الحديث الصحيح: " يا ابن آدم أنفق أنفق عليك" ، وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} ، وفي الصحيح أيضاً: "يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، وما لبست فأبليت، وما تصدقت فأبقيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس" .

شرح الكلمات:
{كَانَ النَّاسُ1 أُمَّةً وَاحِدَةً} : كانوا قبل وجود الشرك فيهم أمة2 واحدة على الإسلام والتوحيد وذلك قبل قوم نوح.
{النَّبِيِّينَ} : جمع نبي والمراد بهم الرسل إذ كل نبي3 رسول بدليل رسالتهم القائمة على البشارة والنذارة والمستمدة من كتب الله تعالى المنزلة عليهم.
{الْكِتَابَ} : اسم جنس يدخل فيه كل الكتب الإلهية.
{أُوتُوهُ} : أعطوه.
{الْبَيِّنَاتُ} : الحجج والبراهين تحملها الرسل إليهم وتورثها فيهم شرائع وأحكاماً وهدايات عامة.
{بَغْياً}4 : البغي: الظلم والحسد.
الصراط المستقيم : الإسلام المفضي بصاحبه إلى السعادة والكمال في الحياتين.
معنى الآية الكريمة:
يخبر تعالى أن الناس5 كانوا ما بين آدم ونوح عليهما السلام في فترة طويلة أمة واحدة على دين الإسلام لم يعبد بينهم إلا الله تعالى حتى زين الشيطان لبعضهم عبادة غير الله تعالى فكان الشرك والضلال فبعث الله تعالى لهدايتهم نوحاً عليه السلام فاختلفوا إلى مؤمن وكافر وموحد ومشرك، وتوالت الرسل تحمل كتب الله تعالى المتضمنة الحكم الفصل في كل ما يختلفون فيه. ثم أخبر تعالى عن سننه في الناس وهي أن الذين يختلفون في الكتاب، أي فيما
__________
1 أي الذين كانوا على الدين الحق وهم عشرة قرون من آدم إلى أن حدث فيهم الشرك، فبعث الله تعالى فيهم عبده الشكور نوحاً عليه السلام.
2 لفظ: الأمة: مأخوذ من أممت كذا إذا قصدته، فسميت الجماعة مقدصهم واحد أمة، وقد يطلق على الواحد أمة، إذ كان مقصده واحداً على خلاف غيره، ومنه قول الرسول صلى الله عيه وسلم في قس بن ساعدة: "يحشر يوم القيامة أمة وحده".
3 عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، والرسل منهم: ثلاثمائة وثلاثة عشر، هذا قول جمهور أهل السنة والجماعة، والرسل المذكورون بالاسم العلم في القرآن: خمسة وعشرون رسولاً، وأول الأنبياء: آدم، وأول الرسل: نوح، وخاتم الرسل والأنبياء محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين.
4 منصوب على المفعول لأجله، أي: لم يختلفوا إلا للبغي الذي هو الظلم الذي صار طبعاً لهم لكثرة ممارستهم له والحسد الذي ملأ قلوبهم فأكلها أو كاد والعياذ بالله.
5 لفظ: الناس: اسم جمع ليس له مفرد من لفظه، وإنما واحده من غير لفظه، وهو انسان، وآل فيه للاستغراق، أي: جميع أفراده، أي: البشر كلهم.

يحويه من الشرائع والأحكام هم الذين سبق أن أوتوه وجاءتهم البينات فهؤلاء يحملهم الحسد وحب الرئاسة، والإبقاء على مصالحهم على عدم قبول ما جاء به الكتاب، واليهود هم المثل لهذه السنة، فإنهم أوتوا التوراة فيها حكم الله تعالى وجاءتهم البينات على أيدي العابدين من أنبيائهم ورسلهم واختلفوا في كثير من الشرائع والأحكام، وكان الحامل لهم على ذلك البغي والحسد. والعياذ بالله.
وهدى الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم لما اختلف فيه أهل الكتابين اليهود والنصارى، فقال تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا1} لما اختلف فيه أولئك المختلفون من الحق هداهم {بإذنه2} ولطفه وتوفيقه، فله الحمد وله المنة. ومن ذلك الحق الذي اختلف فيه أهل الكتاب من قبلنا وهدانا الله تعالى إليه:
1- الإيمان بعيسى عبد الله ورسوله حيث كفر بن اليهود وكذبوه واتهموه بالسحر وحاولوا قتله؟ وألَّهه النصارى، وجعلوه إلهاً مع الله، وقالوا فيه: إنه ابن الله. تعالى الله عن الصاحبة والولد.
2- يوم الجمعة وهو أفضل الأيام. أخذ اليهود السبت، والنصارى الأحد، وهدى الله تعالى إليه أمة الإسلام.
3- القبلة قبلة أبي الأنبياء إبراهيم استقبل اليهود بيت المقدس، واستقبل النصارى مطلع الشمس، وهدى الله أمة الإسلام إلى استقبال البيت العتيق؛ قبلة إبراهيم عليه السلام. والله يهدي من شاء إلى صراط مستقيم.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- الأصل هو التوحيد، والشرك طارئ على البشرية.
__________
1 أي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم المسلمون هداهم للإيمان بكل الكتب وسائر الرسل ونجاهم مما اختلف فيه من قبلهم، والحمد لله.
2 الإذن: الخطاب بإباحة الشيء، وهو مشتق من فعل أذن إذا أصغى إذنه يستمع إلى كلام من يكلمه ثم أطلق على الخطاب بالإباحة مطلقاً.

2- الأصل في مهمة الرسل البشارة1 لمن آمن واتقى؟ والنذارة لمن كفر وفجر، وقد يشرع لهم قتال من يقاتلهم فيقاتلونه كما شرع ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- من علامات خذلان الأمة وتعرضها للخسار والدمار أن تختلف في كتابها ودينها، فيحرفون كلام الله ويبدلون شرائعه طلباً للرئاسة وجرياً وراء الأهواء والعصبيات، وهذا الذي تعاني منه أمة الإسلام اليوم وقبل اليوم، وكان سبب دمار بني إسرائيل.
4- أمة الإسلام التي تعيش على الكتاب والسنة عقيدة وعبادة وقضاء هي المعنية بقوله تعالى: { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ2 بِإِذْنِهِ} .
5- الهداية بيد الله فليطلب العبد دائماً الهداية من الله تعالى بسؤاله المتكرر أن يهديه دائماً إلى الحق3.
{أَمْ حَسِبْتُمْ4 أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ(214)}
شرح الكلمات:
{أَمْ حَسِبْتُمْ} : أظننتم – أم هي المنقطعة فتفسر ببل والهمزة، والاستفهام إنكاري ينكر عليهم ظنهم هذا لأنه غير واقع موقعه.
{وَلَمَّا} : بمعنى لم النافية.
{مَثَلُ} : صفة وحال الذين من قبلكم.
__________
1 البشارة: الإعلام بخير حصل أو سيحصل للمبشر به، والنذارة: إعلام بشر أو ضر حصل أو سيحصل لمن أنذر به، والبشارة: وعد، والنذارة: وعيد.
2 في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا قام من الليل يصلي يقول: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون إهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم". والتوسل بهذا الدعاء نافع للخروج من ظلمة الاختلاف.
3 ومن الدعاء المأثور في ذلك: اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل وارزقنا اجتنابه ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماما.
4 في الآية إشارة إلى مثل قول القائل: "على قدر أهل العزم تأتي العزائم، ومن طلب العلا سهر الليالي، ومن يخطب الحسناء فلا يغله المهر".

{الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} : البأساء: الشدة، من الحاجة وغيرها والضراء: المرض والجراحات والقتل.
{مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} : الاستفهام للإستبطاء.
معنى الآية الكريمة:
ينكر تعالى على المؤمنين1، وهم في أيام شدة ولأواء ظنهم أنهم يدخلون الجنة بدون امتحان وابتلاء في النفس والمال بل وأن يصيبهم ما أصاب غيرهم من البأساء2 والضراء والزلزال وهو الاضطراب والقلق من الأهوال حتى يقول الرسول والمؤمنون معه – استبطاءاً للنصر الذي وُعدوا به: متى نصر الله؟ فيجيبهم ربهم تعالى بقوله: {أَلا إِنَّ نَصْرَ3 اللَّهِ قَرِيبٌ}.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية:
1- الابتلاء بالتكاليف الشرعية، ومنها الجهاد بالنفس والمال ضروري لدخول الجنة.
2- الترغيب في الإتساء بالصالحين والاقتداء بهم في العمل والصبر.
3- جواز الأعراض البشرية على الرسل كالقلق والاستبطاء للوعد الإلهي انتظاراً له.
4- بيان ما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من شدة وبلاء أيام الجهاد وحصار المشركين لهم.
{يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ(215)}
__________
1 ما من شك في أن المؤمنين وعلى رأسهم وقائدهم وإمامهم ورسولهم محمد صلى الله عليه وسلم قد مستهم البأساء والضراء في ظروف مختلفة منها: هجرتهم وحروبهم في بدر وأحد والخندق وغيرها، والآية تعنى كل ذلك وهو من مقتضيات النزول لهذه الآية.
2 وعن السلف تفسير البأساء بالفقر، والضراء بالنقم، والزلازل بالخوف من الأعداء، إذ الخوف يحدث اضطراب النفس وحركة الأعضاء.
3 وفي هذا المعنى حديث أبي رزين: "عجب ربك من قنوت عباده وقرب غيثه فينظر إليهم قانطين فيظل يضحك يعلم أن فرجهم قريب" وحديث صحيح: "والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون" .

شرح الكلمات:
{مِنْ خَيْرٍ} : من مال إذ المال يطلق عليه لفظ الخير.
الأقربين : كالأخوة والأخوات وأولادهم، والأعمام والعمات وأولادهم والأخوال والخالات وأولادهم.
{وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ1} : ما شرطية، ومن: نيابية والخير هنا لسائر أنواع البر والإحسان.
{فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} : الجملة علة لجواب الشرط المحذوف والمقدر يثبكم عليه.
معنى الآية الكريمة:
سال عمر و بن الجموح وكان ذا مال. سأل2 رسول الله صلى الله علية وسلم، مادا ينفق وعلى من ينفق؟. فنزلت الآية جواباً لسؤاله، فبينت أن ما ينفق هو المال وسائر الخيرات وأن الأحق بالإنفاق عليهم هم الوالدان3، والأقربون، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل. وأعلمهم تعالى أن ما يفعله العبد من خير يعلمه الله تعالى ويجزي به فرغب بذلك في فعل الخير مطلقاً.
هداية ألآية الكريمة:
من هداية الآية:
1- سؤال من لا يعلم حتى يعلم، و هذا طريق العلم، ولذا قالوا: "السؤال نصف العلم".
2- أفضلية الإنفاق على المذكورين4 في الآية إن كان المنفق غنياً وهم فقراء محتاجون.
3- الترغيب في فعل الخير والوعد من الله تعالى بالجزاء الأوفى عليه.
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا
__________
1 الآية في نفقة التطوع وقوله: {من خير} إشارة إلى أن ما ينفق يجب أن يكون طيباً لا خبيثاً، إذ لفظ الخير يدل على ذلك ويرمز له: {من خير}.
2 وقيل الآية نزلت فيمن سألوا من المسلمين عن الوجوه التي ينفقون فيها فأجابهم الله تعالى مبيناً لهم ذلك، وما ذهبنا إليه أن السائل عمرو بن الجموح وسؤاله عما ينفق من أنواع المال، وفيما ينفق أولى وألصق.
3 لحديث صحيح في بيان من أحق بالإنفاق عليه: "أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك" أي: الأقرب إليك فالأقرب.
4 روى أن ميمون بن مهران تلا هذه الآية: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ...} الآية، وقال: هذا مواضع النفقة ما ذكر فيها طبلاً ولا مزماراً ولا تصاوير الخشب ولا كسوة الحيطان.

شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(216)}
شرح الكلمات:
{كُتِب}َ : فرض فرضاً مؤكداً حتى لكأنه مكتوب كتابة.
{الْقِتَالُ} : قال الكافرون بجهادهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية.
{كُرْهٌ} : مكروه في نفوسكم طبعاً.
َعَسَى : هذا الفعل معناه الترجي والتوقع أعني أن ما دخلت عليه مرجو الحصول متوقع لا على سبيل الجزم، إلا أنها إن كانت من الله تعالى تفيد اليقين.
معنى الآية الكريمة:
يخبر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بأنه فرض عليهم قتال1 المشركين والكافرين وهم يعلم أنه مكروه لهم بطبعهم لما فيه من الآلام والأتعاب وإضاعة المال والنفس، وأخبرهم أن ما يكرهونه قد يكون خيراً، وأن ما يحبونه قد يكون شراً2، ومن ذلك الجهاد فإنه مكروه لهم وهو خير لهم لما فيه من عزتهم ونصرتهم ونصره دينهم مع حسن الثواب وعظم الجزاء في الدار الآخرة، كما أن ترك الجهاد محبوب لهم وهو شر لهم؛ لأنه يشجع عدوهم على قتالهم واستباحة بيضتهم، وانتهاك حرمات دينهم مع سوء الجزاء في الدار الآخرة. وهذا الذي أخبرهم تعالى به من حبهم لأشياء وهي شر لهم وكراهيتهم لأشياء وهي خير لهم هو كما أخبر لعلم الله به قبل خلقه، والله يعلم وهم لا يعلمون فيجب التسليم لله تعالى في أمره وشرعه مع حب ما أمر به وما شرعه واعتقاد أنه خير لا شر فيه.
__________
1 قرئت الآية: {وكتب عليكم القتل} وقراءة القتال أشهر وأظهر، والفرق بين القتل والقتال ظاهر، وجاء كلا اللفظين في قول عمرو بن ربيعة:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول
2 قال القرطبي: كما اتفق في بلاد الأندلس تركوا الجهاد وجبنوا عن القتال وأكثروا من الفرار فاستولى العدو على البلاد وأسر وقتل وسب واسترق فإن لله وإنا إليه راجعون. ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته، وأنشد لأبي سعيد الضرير قوله شاهداً لمعنى الآية الكريمة:
رب امرء تتقيه ... جر أمراً ترتضيه
خفي المحبوب منه ...
وبدا المكروه فيه

هداية الآية الكريمة
من هداية الآية:
1- وجوب الجهاد على أمة الإسلام ما بقيت فتنة في الأرض وشرك فيها.
2- جهل الإنسان بالعواقب يجعله يحب المكروه، ويكره المحبوب.
3- أوامر الله كلها خير، ونواهيه1 كلها شر. فلذا يجب فعل أوامره واجتناب نواهيه.
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(218)}
شرح الكلمات:
{الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} : أي المحرم: قتال بدل اشتمال من الحرام، إذ السؤال عن القتال في الشهر الحرام (رجب).
{كَبِيرٌ} : أي ذنب عظيم.
{وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} : صرف عن دين الله.
__________
1 المراد بالأوامر: ما أمر الله تعالى به في كتابه وعلى لسان رسوله من المعتقدات والعبادات والأحكام، ومن النواهي ما نهى الله عنه في كتابه وعلى لسانه رسوله من المعتقدات الباطلة والعبادات المبتدعة والأحكام الفاسدة.

{وَكُفْرٌ بِهِ} : كفر بالله تعالى.
{وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} : مكة والمسجد الحرام فيها.
{أَهْلِهِ} : النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون.
{أَكْبَرُ} : أعظم وزراً.
{وَالْفِتْنَةُ} : الشرك واضطهاد المؤمنين ليكفروا.
{حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ1} : بطل أجرها فلا يثابون عليها لردتهم.
{هَاجَرُوا} : تركوا ديارهم خوف الفتنة والاضطهاد في ذات الله.
معنى الآيتين:
لما أخبر تعالى أنه كتب على المؤمنين القتال أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة عبد الله بن جحش إلى بطن نخلة يتعرف على أحوال الكفار. فشاء الله تعالى أن يلقى عبد الله ورجاله عيراً لقريش فقاتلوهم فقتلوا منهم رجلاً يدعى عمرو بن الحضرمي وأسروا اثنين وأخذوا العير وقفلوا راجعين وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الثانية، وهي أول ليلة من رجب. فثارت ثائرة قريش وقالت: محمد يحل الشهر الحرام بالقتال فيه، وردد صوتها اليهود، والمنافقون بالمدينة حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم وقف العير والأسيرين ولم يقض فيهما بشيء، وتعرض عبد الله بن جحش ورفاقه لنقد ولوم عظيمين من أكثر الناس، وما زال الأمر كذلك حتى أنزل الله تعالى هاتين الآيتين {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ2 قِتَالٍ فِيهِ} أي: عن القتال فيه، أجبهم يا رسولنا وقل لهم القتال فيه وزر كبير بيد أن الصد عن دين الله والكفر به تعالى، وكذا الصد عن المسجد الحرام، وإخراج الرسول منه والمؤمنين وهم أهله وولاته بحق أعظم وزراً في حكم الله تعالى، كما أن شرك المشركين في الحرم وفتنة المؤمنين فيه لإرجاعهم عنه دينهم الحق إلى الكفر بشتى أنواع التعذيب أعظم من القتل في الشهر الحرام. مضافاً إلى كل هذا عزمهم على قتال المؤمنين إلى أن يردوهم عن دينهم إن استطاعوا. ثم أخبر تعالى المؤمنين محذراً إياهم من الارتداد مهما كان العذاب أن من يرتد عن دينه ولم يتب بأن مات كافراً فإن
__________
1 إن وفاهم الموت على ذلك أما إن تابوا وماتوا على الإسلام ففي إثباتهم على أعمالهم قبل الردة خلاف انظره على الصفحة التالية تحت رقم 1.
2 هذا كان قبيل نسخ حرمة القتال في الشهر الحرام.

أعماله الصالحة كلها1 تبطل ويصبح من أهل النار الخالدين فيها أبداً. هذا ما تضمنته الآية الأولى، أما الآية الثانية(218) {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا2} فقد نزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه طمأنهم الله تعالى على أنهم غير آثمين لقتالهم في الشهر الحرام كما شنع عليهم الناس بذلك، وأنه يرجون رحمة الله أي الجنة وأنه تعالى غفور لذنوبهم رحيم بهم، وذلك لإيمانهم وهجرتهم وجهادهم في سبيل الله، وقال تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ3 رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- حرمة الشهر الحرام والبلد الحرام.
2- نسخ القتال في الشهر الحرام بدليل قتال الرسول صلى الله عليه وسلم هوازن وثقيف في شوال وأول القعدة وهما في الأشهر الحرم.
3- الكشف عن نفسية الكافرين وهي عزمهم الدائم على قتال المسلمين إلى أن يردوهم عن الإسلام ويخرجوهم منه.
4- الردة4 محبطة للعمل فإن تاب المرتد5 يستأنف العمل من جديد، وإن مات قبل التوبة فهو من أهل النار الخالدين فيها أبداً.
5- بيان فضل الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله.
__________
1 على هذا مالك وأبو حنيفة خلافاً للشافعي إذ يرى رحمه الله تعالى أن من ارتدد ثم تاب يعود إليه كل عمل صالح عمله قبل الردة فلا يعيد الحج إذا حج، والراجح ما قررناه في التفسير إذ أقل ما يقال عليه إعادة الحج طمعاً في مغفرة ذنوبه وعدم مؤاخذاته، أما من مات كافراً فالإجماع على خلوده في النار، ودليل الجمهور قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} الآية، وحمله الشافعي على أنه مطلق مقيد بآية الموت على الكفر فما دام لم يمت كافراً فإن أعماله قبل الردة لا تبطل، والله أعلم.
2 نقل فعل هجر الشيء إذا تركه إلى هاجر، وهي صيغة المفاعلة إما أنه للمبالغة في الترك كما قيل عافاك الله، والمعافي واحد وهو الله تعالى، وأما لأنه ترك شيئاً عن عداوة ولا تكون إلا بين اثنين، فقيل: هاجر، والمكان المهاجر منه يقال له: مهاجر.
3 الرجاء: ترقب الخير مع تغليب ظن حصوله.
4 اختلف في المرتد هل يستتاب أو يقتل بالردة فوراً والجمهور على أنه يستتاب أولاً فإن أصر قتل ومالك يرى أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم لا يستتاب ويقتل واستشهد بالمرأة التي قتلت خادمها بسب النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرت الرسول صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليها، وكذلك الزنديق يقتل ولا يستتاب.
5 الأصل في قتل المرتد حديث صحيح: "من بدل دينه فاقتلوه" واختلف في قتل المرأة إذا ارتددت الجمهور إنها لا تقتل لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والأطفال في الحرب.

{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(219) فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(220)}
شرح الكلمات:
{الْخَمْرِ1} : كل ما خامر العقل وغطاه فأصبح شاربه لا يميز ولا يعقل، ويطلق لفظ الخمر على عصير العنب أو التمر أو الشعير وغيرها.
الميسر2 : القمار، وسمي ميسراً؛ لأن صاحبه ينال المال بيسر وسهولة.
الإثم3 : كل ضار فاسد يضر بالنفس أو العقل أو البدن أو المال أو العرض.
المنافع4 : جمع منفعة، وهي ما يسر ولا يضر من سائر الأقوال والأفعال والمواد.
{الْعَفْوَ} : العفو هنا: ما فضل وزاد عن حاجة الإنسان من المال.
{تَتَفَكَّرُونَ} : فتعرفون ما ينفع في كل منهما فتعلمون لدنياكم ما يصلحها، وتعملون لآخرتكم ما يسعدكم فيها، وينجيكم من عذابها.
{تُخَالِطُوهُمْ} : تخلطون مالهم مع مالكم ليكون سواء.
{لاعْنَتَكُمْ} : العنت: المشقة الشديدة، يقال: أعنته إذا كلفه مشقة شديدة.
__________
1 الخمر: مأخوذ من خمر الشيء إذا ستره وغطاه، ومنه خمار المرأة التي يغطي رأسها، وفي الحديث: "خمروا الإناء" أي: غطوه، والخمر تطلق أساساً على ماء العنب إذا على أو طبخ ثم أطلقت على كل ما خمر العقل وغطاه من سائر المسكرات.
2 الميسر: مأخوذ من اليسر، وهو: وجوب الشيء لصاحبه، يقال: يسر لي كذا، إذا وجب شرط – والمضارع: ييسر يسراً وميسراً، وهو القمار، وسواء كان بالإزلام، أو النرد، أو الكعاب، أو الجوز، أو الكيرم.
3 والخمر كلها إثم، إذ ما فيها كله ضرر، وقد سماها العرب: الإثم، قال الشاعر:
شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذلك الإثم يذهب بالعقول
4 والنفع الذي هو الربح إذ كانوا يشترونها من الشام بالرخص ويبيعونها بالغلاء في ديارهم كان في الجاهلية، إما بعد ما حرمها الله تعالى وحرم بيعها فلم يبقى فيها نفع البنة.

معنى الآيتين:
كان العرب في الجاهلية يشربون الخمور ويقامرون وجاء الإسلام فبدأ دعوتهم إلى التوحيد والإيمان بالبعث الآخر، إذ هما الباعث القوي على الاستقامة في الحياة، ولما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم والعديد من أصحابه وأصبحت المدينة تمثل مجتمعاً إسلامياً وأخذت الأحكام تنزل شيئاً فشيئاً فحدث يوماً أن صلى أحد الصحابة بجماعة وهو ثملان فخلط في القراءة فنزلت آية النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فكانوا لا يشربونها إلا في أوقات معينة، وهنا كثرت التساؤلات حول شرب الخمر فنزلت هذه الآية: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} فأجابهم الله تعالى بقوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} فترك الكثير1 كلاً من شرب الخمر ولعب القمار لهذه الآية. وبقي آخرون فكان عمر يتطلع إلى منعهما منعاً باتاً ويقول: "اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً" فاستجاب الله تعالى له، ونزلت آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فقال عمر: "انتهينا ربنا" وبذلك حرمت الخمر وحرم الميسر تحريماً قطعياً كاملاً، ووضع الرسول صلى الله عليه وسلم حد الخمر وهو الجلد. وحذر من شربها وسماها أم الخبائث وقال: "مدمن الخمر لا يكلمه الله يوم القيامة ولا يزكيه" في ثلاثة نفر وهم: العاق لوالديه، ومسبل إزاره، ومدمن الخمر.
وقوله تعالى: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ2 وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فهو كما قال تعالى فقد بين في سورة المائدة منشأ الإثم، وهو أنهما يسببان العداوة والبغضاء بين المسلمين ويصدان عن ذكر الله وعن الصلاة، وأي إثم أكبر في زرع العداوة والبغضاء بين أفراد المسلمين، والإعراض عن ذكر الله، وتضييع الصلاة حقاً إن فيهما لإثماً كبيراً، وأما المنافع فهي إلى جانب هذا الإثم قليلة ومنها: الربح في تجارة الخمر وصنعها، وما تكسب شاربها من النشوة والفرح والسخاء والشجاعة، وأما الميسر فمن منافعه الحصول على المال بلا كد ولا تعب وانتفاع بعض الفقراء به، إذ كانوا يقامرون على الجزور من الإبل ثم يذبح ويعطى للفقراء والمساكين.
__________
1 يرى كثير من المفسرين أن أية البقرة هذه نزلت قبل آية النساء وما رجحته في التفسير أولى، لأن آية البقرة تعتبر محرمة للخمر والميسر بخلاف آية النساء.
2 لما كان تحريم الخمر تدريجياً كان من الحكمة ذكر ما كانوا يرونه من المنافع في الاتجار بها وشربها وكذا منافع الميسر إذ كانوا يعطون ما يربحونه للفقراء، وحسبهم وهم المؤمنون صرفاً لهم عن الخمر والميسر قوله: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} ، وإذا زادت المضرة على المنفعة بطل العمل عقلاً وشرعاً.

أما قوله تعالى في الآية: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} فهو سؤال نشأ عن استجابتهم لقول الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فأرادوا أن يعرفوا الجزء الذي ينفقونه من أموالهم في سبيل الله. فأجابهم الله تبارك وتعالى بقوله: {قُلِ الْعَفْوَ} أي: ما زاد على حاجتكم وفضل عن نفقتكم على أنفسكم. ومن هنا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" رواه البخاري. وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي: مثل هذا البيان يبين الله لكم الشرائع والأحكام والحلال ليعدكم بذلك إلى التفكير الواعي البصير في أمر الدنيا والآخرة فتعملون لدنياكم على حسب حاجتكم إليها وتعملون لآخرتكم التي مردكم إليها وبقاؤكم فيها على حسب ذلك.
وهذا ما تضمنته الآية الأولى(219)، أما الآية الثانية(220): {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} الآية، فإنه لما نزل قوله تعالى من سورة النساء: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} خاف المؤمنون والمؤمنات من هذا الوعيد الشديد، وفصل من كان في بيته يتيم يكفله، فصل طعامه عن طعامه، وشرابه عن شرابه، وحصل بذلك عنت ومشقة كبيرة وتساءلوا عن المخرج، فنزلت هذه الآية، وبينت لهم أن المقصود هو إصلاح مال اليتامى وليس هو فصله أو خلطه، فقال تعالى: {قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ...} مع الخلط خير من الفصل مع عدم الإصلاح، ودفع الحرج في الخلط فقال: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ1 فَإِخْوَانُكُمْ} ، والأخ يخالط أخاه في ماله، وأعلمهم أنه تعالى يعلم المفسد لمال اليتيم من المصلح له ليكونوا دائماً على حذر، وكل هذا حماية لمال اليتيم الذي فقد والده. ثم زاد الله في منته عليهم برفع الحرج في المخالطة فقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ2} أي: أبقاكم في المشقة المترتبة على فصل أموالكم عن أموال يتاماكم، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي غالب على ما يريده حكيم فيما يفعله ويقضي به.
__________
1 {فإخوانكم} : الفاء واقعة في جواب إن الشرطية، وإخوانكم: خبر، والمبتدأ محذوف تقديره: فهم إخوانكم.
2 مفعول المشيئة محذوف كما هو الغالب فيه، والتقدير: ولو شاء الله عنتكم لأعنتكم، أي: كلفكم ما فيه العنت والمشقة، ولكنه لم يفعل رحمة بكم ولطفاً بحالكم.

هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- حرمة1 الخمر والميسر حيث نسخت هذه الآية بآية المائدة، لقوله تعالى فيها: {فاجتنبوه} وقوله {فهل أنتم منتهون} .
2- بيان أفضل صدقة التطوع وهي ما كانت عن ظهر غنى وهو2 العفو في هذه الآية.
3- استحباب التفكر في أمر الدنيا والآخرة لإعطاء الأولى بقدر فنائها والآخرة بحسب بقائها.
4- جواز خلط مال اليتيم بما كافله إذا كان أربح له وأوفر، وهو معنى الإصلاح في الآية.
5- حرمة مال اليتيم، والتحذير من المساس به وخلطه إذا كان يسبب نقصاً فيه أو إفساداً.
{وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(221)}
شرح الكلمات:
{وَلا تَنْكِحُوا} : لا تتزوجوا.
الأمة : خلاف الحرة.
{وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} : أي أعجبكم حسنها وجمالها.
{يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} : بحالهم ومقالهم وأفعالهم.
{آيَاتِهِ} : أحكام دينه ومسائل شرعه.
__________
1 أن كل مسكر داخل في إثم الخمر، وقليله ككثيره في الحرمة سواء بإجماع الأمة، وكل أنواع الميسر ولو اختلفت المسميات؛ كاليانصيب وغيرها محرمة.
2 شاهده حديث مسلم: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا" أي: تصدق به على الفقراء والمساكين.

معنى الآية الكريمة:
ينهى الله تعالى المؤمنين أن يتزوجوا المشركات إلا أن يؤمن بالله ورسوله، فإن آمن جاز نكاحهن، وأعلمهم منفراً من نكاح المشركات مرغباً في نكاح المؤمنات: ولأمة مؤمنة فضلاً عن حرة خير من حرة مشركة، ولو أعجبتكم المشركة لحسنها وجمالها، كما نهاهم محرماً عليهم أن يزوجوا المؤمنات بالمشركين حتى يؤمنوا، فإن آمنوا جاز لهم أن ينكحوهم بناتهم ونساءهم فقال تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} وقال منفراً مرغباً ولعبد مؤمن خير من حرٍ مشرك ولو أعجبهم المشرك لشرفه أو ماله أو سلطانه، وعلل لذلك بقوله: {أولئك} أي المشركات والمشركون يدعون إلى النار فمخالطتهم مضرة ومفسدة لا سيما بالتزوج منهم، والله عز وجل يدعو إلى الجنة بالإيمان والعمل الصالح، وإلى المغفرة بالتوبة الصادقة. فاستجيبوا له وأطيعوه فيما أمركم به ونهاكم عنه. كما أنه تعالى يبين آياته للناس ليعدهم للتذكر والاتعاظ فيقبلون على طاعته الموصلة إلى رضاه والجنة، ويبعدون عن معصيته المؤدية إلى سخطه والنار.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية:
1- حرمة نكاح المشركات، أما الكتابيات فقد أباحهن الله تعالى بآية المائدة، إذ قال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ1 مِنْ قَبْلِكُمْ} .
2- حرمة نكاح المؤمنة الكافر مطلقاً2 مشركاً كان أو كتابياً.
3- شرط الولاية في نكاح المرأة لقوله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} فهو هنا يخاطب أولياء النساء المؤمنات، ولذا لا يصح نكاح إلا بولي3.
4- التنفير من مخالطة المشركين والترغيب في البعد عنهم؛ لأنهم يدعون إلى الكفر بحالهم ومقالهم وأعمالهم، وبذلك هم يدعون إلى النار.
__________
1 الخلاف في حرمة نكاح الكتابيات ضئيل ولا وزن له، وإن كان عدم التزوج بهن أفضل وأسلم، وهذا في الذميات، أما الحربيات فلا يجوز نكاحهن، وعلى هذا مالك، وقد سئل ابن عباس عن نكاح الحربية الكتابية، فقال: لا تحل.
2 شاهده من القرآن قوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ} الممتحنة.
3 لحديث: "لا نكاح إلا بولي" وحديث أبي داود: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل" وهو حديث صحيح. والولي: عصبة المرأة الأقرب فالأقرب فإن لم يكونوا فالسلطان ولي من لا ولي لها. ومن أركان النكاح الإشهاد عليه بشاهدين فأكثر وعليه الجمهور.

5- وجوب موالاة أهل الإيمان ومعاداة أهل الكفر والضلال؛ لأن الأولين يدعون إلى الجنة، والآخرين يدعون إلى النار.
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ(222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(223)}
شرح الكلمات:
{الْمَحِيضِ1} : مكان الحيض وزمنه، والحيض: دم يخرج من رحم المرأة إذا خلا من الجنين.
{أَذىً} : ضرر يضر المجامع في أيامه.
{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} : اتركوا جماعهن2 أيام الحيض.
{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} : أي: لا تجامعوهن حتى ينقطع دم3 حيضهن.
{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} : إي: إذا انقطع دم حيضهن واغتسلن منه.
__________
1 يطلق على الحيض أيضاً لأنه مصدر حاضت المرأة حيضة ومحاضاً ومحيضاً، فهي حائض، وقد يقال: حائضة، وعليه قول الشاعر:
كحائضة يزني بها غير طاهر
والحيضة: المرأة الواحدة ، والحيضة بكسر الحاء: الإثم، والحيضة أيضاً: الخرقة تستثفر بها الحائض. قالت عائشة: يا ليتني كنت حيضة ملقاة، واشتقاق الكلمة من السيلان ومنعه الحوض لأن الماء يسيل إليه.
2 الجمهور على أن من وطأ امرأته في الحيض لا كفارة عليه، وإنما عليه التوبة والاستغفار، وضعفوا حديث: "الكفارة بنصف دينار أو دينار" لاضطرابه، وبه قال أحمد وعمل به.
3 أجمع العلماء على أن للمرأة ثلاثة أحكام في رؤيتها الدم السائل من فرجها: فإن كان أسود غائراً تعلوه حمرة فذلك الحيض، ويحرم عليها الصوم والصلاة ويحرم وطئها، وتقضي الصوم ولا تقضي الصلاة للأحاديث الصحيحة في ذلك، وأكثر الحيض خمسة عشر يوماً، وأقله لا حد له على الصحيح، وأقل الطهر أيضاً خمسة عشر يوماً ليكمل الشهر حيضاً وطهراً، وإن كان الدم زائداً على مدة الحيض فهو الاستحاضة وتصلي معه وتصوم وتوطأ أيضاً. والحكم الثالث: دم النفاس وأكثره أربعين يوماً، وأقله يوم وليلة وحكمه حكم الحيض.

{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} : أي: جامعهن في قبلهن، وهن طاهرات متطهرات1.
{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} : يريد مكان إنجاب الأولاد، فشبه النساء بالحرث؛ لأن الأرض إذا حرثت أنبت الزرع، والمرأة إذا وطئت أنبتت الولد بإذن الله تعالى.
{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} : إذن بجماع المرأة مقبلة أو مدبرة إذا كان في القبل الذي هو منبت الزرع، وهي طاهرة من الحيض والنفاس.
{وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ} : يريد الأعمال الصالحة، ومنها إرادة تحصين النفس والزوجة بالجماع وإرادة انجاب الأولاد الصالحين الذين يوحدون الله ويدعون لوالديهم طوال حياتهم.
معنى الآيتين:
يخبر تعالى رسوله بأن بعض المؤمنين2 عن المحيض هل تساكن المرأة معه وتؤاكل وتشارب أو تهجر بالكلية حتى تطهر إذ كان هذا من عادة أهل الجاهلية، وأمره أن يقول لهم: الحيض أذى يضر بالرجل المواقع فيه، وعليه فليعتزلوا النساء الحيض في الجماع فقط لا في المعاشرة والمأكلة والمشاربة، وإنما في الجماع فقط أيام سيلان الدم بل لا بأس بمباشرة الحائض في غير ما بين السرة والركبة، للحديث الصحيح في هذا كما أكد هذا المنع بقوله لهم: {وَلا تَقْرَبُوهُن}َّ 3 أي: لا تجامعوهن حتى يطهرن بإنقطاع دمهن والاغتسال بعده لقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي: اغتسلن، {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} بإتياهن وهو القبل لا الدبر فإنه محرم وأعلمهم تعالى أنه يحب التوابين من الذنوب المتطهرين من النجاسات والأقذار، فليتوبوا وليتطهروا ليفوزوا بحب مولاهم عز وجل هذا معنى الآية الأولى(222) أما الآية الثانية(223) وهي قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} فهي تضمنت جواب سؤال هو هل يجوز جماع المرأة مدبرة بأن يأتيها الرجل من ورائها إذ حصل هذا السؤال من بعضهم فعلاً، فأخبر تعالى
__________
1 هل الزوجة الكتابية يحبرها زوجها أن تغتسل من الحيض والنفاس؟ أرى أن يأمرها مرغباً لها في ذلك وليس عليه إجبارها لأنه لا إكراه في الدين. وهي غير متعبدة به.
2 روى مسلم عن أنس رضي الله عنه أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيض} الآية.
3 إذا قيل لا تقرب بفتح الراء معناها لا تتلبث بالشيء، وإن قيل: لا تقرب فمعناها: لا تدنوا، ولذا جاز للزوج أن يقرب من زوجته الحائض أو النفساء ويباشرها من غير الفرج.

أنه لا مانع من ذلك إذا كان في القبل، وكانت المرأة طاهرة من دمي الحيض والنفاس، وسمى المرأة حرثاً؛ لأن رحمها ينبت فيه الولد كما ينبت الزرع في الأرض الطيبة وما دام الأمر كذلك فيأت الرجل امرأته كما شاء مقبلة أو مدبرة إذ المقصود حاصل وهو الإحصان وطلب الولد.
فقوله تعالى: {أَنَّى شِئْتُمْ} يريد على أي حال من إقبال أو إدبار شئتم شرط أن يكون ذلك في القبل لا في الدبر1. ثم وعظ تعالى عباده بقوله: {وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ} من الخير ما ينفعكم في آخرتكم واعلموا أنكم ملاقوا الله تعالى فلا تغفلوا عن ذكره وطاعته، إذ هذا هو الزاد الذي ينفعكم يوم تقفون بين يدي ربكم. وأخيراً أمر رسوله أن يبشر المؤمنين بخير الدنيا والآخرة وسعادتهما من كان إيمانه صحيحاً مثمراً التقوى والعمل الصالح.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- حرمة الجماع أثناء الحيض والنفاس لما فيه من الضرر، ولقوله تعالى: { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} .
2- حرمة وطء المرأة إذا انقطع دم حيضها أو نفاسها ولم تغتسل، لقوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} .
3- حرمة2 نكاح المرأة في دبرها لقوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} وهو القبل.
4- وجوب التطهير من الذنوب بالتوبة، والتطهير من الأقذار والنجاسات بالماء.
5- وجوب تقديم ما أمكن من العمل الصالح ليكون زاد المسلم إلى الدار الآخرة لقوله تعالى: {وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ} .
6- وجوب تقوى الله تعالى بفعل ما أمر وترك ما نهى عنه وزجر.
7- بشرى الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لكل مؤمن3 ومؤمنة.
__________
1 وذلك لتحريم وطء المرأة في دبرها للآية الكريمة وللأحاديث الصحاح وما أكثرها ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن" ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من أتى امرأة في دبرها لم ينظر الله إليه يوم القيامة" وور: تلك اللوطية الصغرى.
2 تقدمت الأحاديث المحرمة لنكاح المرأة في دبرها ذات رقم 1 في هذه الصفحة.
3 أي: صادق الإيمان كما تقدم وعلامة صدقه أن يحركه للعمل الصالح ويحمله على ترك الشرك والمعاصي.

{وَلا تَجْعَلُوا1 اللَّهَ عُرْضَةً2 لأَيْمَانِكُمْ أَنْ3 تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(224) لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ(225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(227)}
شرح الكلمات:
العرضة : ما يوضع مانعاً من شيء، واليمين يحلفها المؤمن أن لا يفعل خيراً.
الأيمان : جمع يمين، نحو: والله لا أفعل كذا أو والله لأفعلن كذا.
البرور : الطاعة وفعل البر.
اللغو : الباطل، وما لا خير فيه. ولغو اليمين أن يحلف العبد على الشيء يظنه كذا فيتبين خلافه، أو ما يجري على لسانه من أيمان من غير أرادة الحلف.
{كَسَبَتْ قُلُوبُكُم}ْ : ما تعمد القلب وقصد اليمين لأجله لفعله حتماً أو منعه.
{يُؤْلُونَ} : الإيلاء4: الحلف على عدم وطء الزوجة.
التربص : الانتظار والتمهل.
{فَاءُوا} : رجعوا إلى وطء نسائهم بعد الامتناع عنه باليمين.
{الطَّلاقَ} : فك رابطة الزوجية وحلها بقوله: هي طالق أو مطلقة أو طلقتك.
__________
1 قيل نزلت الآية في أبي بكر الصديق لما حلف أن لا ينفق على ابن خالته مسطح، لأنه خاض في الإفك، وقيل: نزلت في عبد الله بن رواحة حين حلف أن لا يكلم ختنه بشير بن النعمان.
2 العرضة: ما ينصب في الطريق مانعاً، فيعترض طريق السائرين وأصبح يطلق على كل ما يوضع أمام الناس، يقال: فلان أصبح عرضة للناس. أي: يقعون فيه، ويقال: المرأة عرضة للنكاح، أي: إذا بلغت فهي أمام أنظار الرجال.
3 {أن تبروا} أصلها: أن لا تبروا فحذفت لا كما حذفت في {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} أي: أن لا تضلوا، وحذفها للتخفيف ولظهور المعنى المراد.
4 يقال: ألى يؤلي إيلاء، وائتلى وائتلي يأتلي ائتلاء، وتألى تألياً إذا حلف على كذا، والإيلاء جائز لتأديب الأزواج ولكن لا يصل أربعة أشهر فقد ألى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه شهراً تأديباً لهن.

معنى الآيات:
ينهى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يجعلوا الحلف به مانعاً من فعل الخير، وذلك كأن يحلف العبد أن لا يتصدق على فلان أو أن لا يكلم فلاناً أو أن لا يصلح بين اثنين فقال تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ} يريد الحلف به عرضة لأيمانكم1، أي: مانعاً لكم من فعل خير أو ترك إثم أو إصلاح بين الناس. وأخبرهم أنه سميع لأقوالهم عليهم بنياتهم وأفعالهم فليتقوه عز وجل.
ثم أخبرهم أنه تعالى لا يؤاخذهم باللغو2 في أيمانهم وهو أن يحلف الرجل على الشيء يظنه كذا فيظهر على خلاف ما ظن، أو أن يجري على لسانه ما لا يقصده من الحلف كقوله: لا، والله، بل والله، فهذا مما عفا عنه لعباده فلا إثم فيه ولا كفارة تجب فيه. لكن يؤاخذهم بما كسبت قلوبهم من الإثم، وذلك كأن يحلف المرء كاذباً ليأخذ حق أخيه المسلم بيمينه الكاذبة فهذه هي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار وهذه لا تنفع فيها الكفارة الموضوعة لمن حلف على أن لا يفعل ثم حنث، وإنما على صاحب اليمين الغموس التوبة بتكذيب نفسه والاعتراف بذنبه ورد الحق الذي أخذه بيمينه الفاجرة إلى صاحبه وبذلك يغفر الله تعالى له ويرحمه، والله غفور رحيم.
وبمناسبة ذكر اليمين ذكر تعالى حكم من يولي من امرأته أي يحلف أن لا يطأها فأخبر تعالى أن على المولي تربص أربعة أشهر، فإن فاء إلى امرأته أي رجع إلى وطئها فبها ونعمت، وعليه أن يكفر عن يمينه، وإن لم يفيء إلى وطئها وأصر على ذلك فإن على القاضي أن يوفقه أمامه ويطالبه بالفيء فإن أبى طلقها عليه.
قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم} يغفر لهم ما ارتكبوه من الذنب في حق نسائهم ويرحمهم لتوبتهم.
وإن عزموا3 الطلاق بأن أبوا أن يفيئوا طلقوا، والله سميع لأقوالهم عليهم بما في قلوبهم. فليحذروه بعدم فعل ما يكره، وترك فعل ما يجب.
__________
1 الإيمان جمع يمين وهو الحلف، وسمي الحلف يميناً أخذا من اليمين؛ لأن عادة العرب إذا حلف أحدهم للآخر وضع يده اليمنى على يده اليمنى، ويقال أعطاه يميناً إذا حلف له مؤكداً حلفه بوضع يده اليمنى على يد صاحبه اليمنى.
2 اللغو: مصدر لغى يلغو لغواً. إذا قال كلاماً خطأ وباطلاً، ولذا المؤمنون إذا سمعوا اللغو أعرضوا ولم يلتفتوا إليه ولم يأبهوا له {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} .
3 عزم الطلاق: هو التصميم عليه فإن لم يفيئوا فقد وجب عليهم الطلاق وعليه فالمولى بين خير النظرين، وهما الفيء أو الطلاق.

هداية الآيات:
1- كراهية منع الخير بسبب اليمين، وعليه فمن حلف أن لا يفعل خيراً فليكفر عن يمينه وليفعل الخير لحديث الصحيح: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير" .
2- لغو اليمين معفو عنها ولها صورتان: الأولى: أن يجري على لسانه لفظ اليمين وهو لا يريد أن يحلف نحو لا والله، وبلى والله، والثانية: أن يحلف على شيء يظنه كذا فيتبين خلافه، مثل أن يقول: والله ما في جيبي درهم ولا دينار وهو ظان أو جازم أنه ليس في جيبه شيء من ذلك ثم يجده فهذه صورة لغو اليمين.
3- اليمين المؤاخذ عليها العبد هي: أن يحلف متعمداً الكذب قاصداً له من أجل الحصول على منفعة دنيوية وهي المقصودة بقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وتسمى باليمين الغموس، واليمين الفاجرة.
4- اليمين التي تجب فيها الكفارة هي التي يحلف فيها العبد أن يفعل كذا ويعجز فلا يفعل، أو يحلف أن لا يفعل كذا ثم يضطر ويفعل، ولم يقل أثناء حلفه إن شاء الله، والكفارة مبينة في آية المائدة وهي إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم أو تحرير رقبة فإن لم يجد صام ثلاثة أيام.
5- بيان حكم الإيلاء، وهو أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته مدة فإن كانت أقل من1 أربعة أشهر فله أن لا يحنث نفسه ويستمر ممتنعاً عن الوطء، إلى أن تنتهي مدة الحلف إلا أن الأفضل أن يطأ ويكفر عن2 يمينه، وإن كانت أكثر من أربعة أشهر فإن عليه أن يفئ إلى زوجته أو تطلق عليه وإن كان ساخطاً غير راض.
{وَالْمُطَلَّقَاتُ3 يَتَرَبَّصْنَ
__________
1 ما السر في الأربعة أشهر؟ يبدو أنه ثلث السنة، والثلث كثير كما في حديث سعد في الوصية، ويؤيد هذا ما أجراه عمر رضي الله عنه من سؤال النساء عن مدى صبر المرأة على زوجها. فقلن شهران، ويقل صبرها في ثلاثة أشهر وينفد في أربعة أشهر. فأمر قواد الأجناد أن لا يمسكوا الرجل في الغزو أكثر من أربعة أشهر.
2 لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير" .
3 {والمطلقات} الجملة خبرية ومعناها الإنشاء وهو الأمر بالتربص ثلاثة قروء، وهذا خاص بالحرائر، أما الإماء فيتربص قرأين لا غير، ثبت هذا بالسنة الصحيحة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "طلاق الأمة تطليقتان وقرءها حيضتان".

بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(228)}
شرح الكلمات:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ} : جمع مطلقة وهي المرأة تسوء عشرتها فيطلقها زوجها أو القاضي.
{يَتَرَبَّصْنَ} : ينتظرن.
{قُرُوءٍ} : القرء: إما مدة الطهر، أو مدة الحيض.
{مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} : من الأجنة فلا يحل للمطلقة أن تكتم ذلك.
{وَبُعُولَتُهُنَّ} : أزواجهن واحد البعولة: بعل؛ كفحل ونخل.
{بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} : أي: في مدة التربص والانتظار.
{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} : يريد على الزوجة حقوق لزوجها، ولها حقوق على زوجها.
{وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} : هي درجة القوامة1 أن الرجل شرعاً هو القيم على المرأة.
معنى الآية الكريمة:
بمناسبة طلاق المؤلي إن أصر على عدم الفيئة ذكر تعالى في هذه الآية: {وَالْمُطَلَّقَاتُ2} إلخ. أن على المطلقة التي تحيض أن تنتظر، فلا تتعرض للزواج3 مدة ثلاثة أقراء فإن انتهت المدة ولم يراجعها
زوجها فلها أن تتزوج، وهذا الانتظار يسمى عدة، وهي واجبة مفروضة عليها لحق زوجها، إذ له الحق أن يراجعها4 فيها، وهذا معنى قوله تعالى في الآية: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ
__________
1 لفظ الدرجة دال على علو المنزلة وهو كذلك، وهو ظاهر في أنه يحميها، ويصونها وينفق عليها وتجب طاعته عليها، كما أن هناك فضلاً الخلق والكسب والعمل؛ كالجهاد وشهود الجمعة والجماعات.
2 المطلقات: جنس يشتمل كل مطلقة ويخرج من لا تحيض لصغر سن أو كبر بدليل الكتاب من سورة الطلاق.
3 القرء: لفظ مشترك بين الحيض والطهر، ولذا ذهب مالك إلى أن القرء: الطهر، فجعل العدة ثلاثة أطهار، ورجحه قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وهو أول الطهر، وذهب غيره إلى أن القرء: الحيض، والكل جائز وواسع والحمد لله، إلى أن الاعتداد بالإطهار أرفق بالمطلقة إذ تكون المدة أقصر لأنها تطلق في طهر لم يجامعها فيه الزوج فيبقى عليها طهران فقط.
4 جعل الله تعالى مدة العدة رحمة بالزوجين، إذ قد تحدث لهما ندامة فيتراجعان بلا كلفة، قال تعالى من سورة الطلاق: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} ، أي: المراجعة، وللرجعية النفقة على الزوج، لأنها محبوسة من أجله ولا يجوز له أن يستمتع بها لا بالنظر ولا غيره، ولو و طئها بدون نية مراجعة إثم ولا حد عليه للشبهة.

بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً}.
كما أن على المطلقة أن لا تكتم الحيض بأن تقول: ما حضت إلا حيضة أو حيضتين وهي حاضت ثلاثاً تريد بذلك الرجعة لزوجها، ولا تقول حضت ثلاثاً وهي لم تحض من أجل أن لا ترجع إلى زوجها، ولا تكتم الحمل كذلك حتى إذا تزوجت من آخر تنسب إليه الولد وهو ليس بولده، وهذا من كبائر الذنوب. ولذا قال تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} ، يريد من حيض وحمل إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} يريد الزوج أحق بزوجته المطلقة ما دامت في عدتها وعلى شرط أن لا يريد بإرجاعها المضارة بها بل لا بد وأن يريد برجعتها الإصلاح وطيب العشرة بينهما وهذا ظاهر قوله تعالى: {إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحا} ، وعلى المطلقة أن تنوي برجوعها إلى زوجها الإصلاح أيضاً.
ثم أخبر تعالى أن للزوجة من الحقوق على زوجها، مثل ما للزوج عليها من حقوق فقال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وأخبر أن للرجل على المرأة درجة لم ترقها المرأة ولم تكن لها وهي القيومية المفهومة من قوله تعالى من سورة النساء: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} وختمت الآية بجملة: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} إشعاراً بوجوب تنفيذ هذه التعاليم لعزة الله تعالى وحكمته فإن الغالب يجب أن يطاع والحكيم يجب أن يسلم له في شرعه؛ لأنه صالح نافع غير ضار.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- بيان عدة المطلقة إذا كانت تحيض وهو التربص ثلاثة حيض أو أطهار.
2- حرمة كتمان المطلقة حيضاً أو حملاً خلقه الله تعالى في رحمها، ولأي غرض كان.
3- أحقية1 الزوج بالرجعة من مطلقته إذا لم تنقض عدتها، حتى قبل الرجيعة زوجة بدليل أنها لو ماتت يرثها زوجها ولو مات ترثه. وأنه لا يحل أن تخطب أو تتزوج ما دامت في عدتها.
4- إثبات حقوق كل من2 الزوجين على صاحبه.
__________
1 معنى أحق في قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} أن المطلقة لها حق أن لا ترجع والزوج له حق أن يراجعها متى شاء فكان هناك حقان أقواهما حق الزوج. أو يقال: اسم التفضيل هنا ليس على بابه، والأول أظهر لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "الأيم أحق بنفسها" .
2 من الحقوق المتبادلة بين الزوجين أن يتزين كل منهما لصاحبه بما يكون زينة عرفية لهما مما هو مباح.

5- تقرير سيادة الرجل على المرأة لما وهبه الله من ميزات1 الرجولة المفقودة في المرأة.
{الطَّلاقُ2 مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(229)}
شرح الكلمات:
{الطَّلاقُ3} : الاسم من طلق وهو أن يقول لزوجته: أنت طالق أو طلقتك.
{مَرَّتَانِ4} : يطلقها، ثم يردها، ثم يطلقها ثم يردها. أي يملك الزوج الإرجاع في طلقتين أما إن طلق الثالثة فلا يملك ذلك ولا ترجع حتى تنكح زوجاً غيره.
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} : حسن العشرة فإن خافت المرأة أو خاف الزوج أن لا يؤدي حقوق الزوجية جاز الفداء وهو دفع مال للزوج ليخلي سبيل المرأة تذهب حيث شاءت، ويسمى هذا خلعاً.
{حُدُودَ اللَّهِ} : ما يجب أن ينتهي إليه العبد من طاعة الله ولا يتجاوزه.
__________
1 تقدم ذكر بعضها في الصفحة قبل ذي تحت رقم 4.
2 كان الطلاق في الجاهلية وبرهة من الزمن في الإسلام ليس له حد فقد يطلق الرجل امرأته عشرات المرات حتى إن رجلاً قال لامرأته لا آويك ولا أدعك تحلين. قالت وكيف؟ قال: أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك، فشكت ذلك إلى عائشة فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية: {الطلاق مرتان} إلخ.
3 الطلاق شرعاً: هو حل العصمة المنعقدة بين الزوجين بألفاظ مخصوصة منها: أنت طالق. والطلاق مباح لرفع الضرر عن أحد الزوجين أو عن كليهما.
4 روى الدارقطني، عن أنس: أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: {الطلاق مرتان} فلما صار ثلاثاً؟. قال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} هي الثالثة.

الظالم : المتجاوز لما حد الله تعالى، والظلم وضع الشيء في غير موضعه.
معنى الآية الكريمة:
ما زال السياق في بيان أحكام الطلاق فيقرر تعالى في هذه الآية أن الطلاق الذي يملك الزوج الرجعة فيه هو طلقتان: أولى، وثانية فقط، ومن هنا فمن طلق الثانية فهو بين خيارين؛ إما أن يمسك زوجته بمعروف، أو يطلقها بإحسان فإن طلقها فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، هذا معنى قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} لأي يحسن العشرة وهو أداء ما للزوج من حقوق، أو تسريح أي تطليق بإحسان بأن يعطيها باقي صداقها إن كان، ويمتعها بشيء من المال ولا يذكرها بسوء.
وقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ1 أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} : حرم تعالى على الزوج أن يأخذ من مهر زوجته شيئاً بدون رضاها، إلا في حال واحدة وهي إذا كرهت المرأة الزوج ولم تطق البقاء معه، وهو غير ظالم لها في هذه الحال يجوز أن تعطي الزوج مالاً ويطلقها ويسمى هذا خلعاً، وهو2 حلال على الزوج غير الظالم، وهذا معنى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} وهي هنا المعاشرة الحسنة فلا جناح أي لا إثم فميا فدت3 به نفسها فلها أن تعطي المال للزوج وله أن يأخذه منها مقابل تركها وحل عصمة الزوجية بينهما.
وقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ4} يريد أحكام شرعه فلا يحل تجاوز الحلال إلى الحرام، ولا تجاوز الإحسان إلى الإساءة ولا المعروف إلى المنكر ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، عرضها للعذاب، وما ينبغي له ذلك.
__________
1 الخطاب هنا للأزواج وفي قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} للحكام وولاة الأمور.
2 لا خلاف في أن المخالع منها بائنة لا يملك الزوج رجعتها في العدة، وهل يعتبر الخلع طلاقاً أو فسخاً. الراجح أنه طلاق فتعتد المخالع منها عدة الطلاق ثلاثة قروء.
3 أما ما كان من الفدية مثل المهر أو أقل فلا خلاف فيه، أي: في جوازه، وأما ما كان أكثر من المهر ففيه خلاف. والراجح على أنه جائز ولكنه مناف لمكارم الأخلاق.
4 القصر في جملة: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، قصر حقيقي. إذ كل ظالم متعد لحدود الله.

هداية الآية
من هداية الآية:
1- حرمة الطلاق الثلاث1 بلفظ واحد؛ لأن الله تعالى قال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}.
2- المطلقة ثلاث طلقات لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجاً غيره2 ويطلقها أو يموت عنها.
3- مشروعية الخلع وهو أن تكره المرأة البقاء مع زوجها فتخلع نفسها منه بمال تعطيه إياه عوضاً عما أنفق عليها في الزواج بها.
4- وجوب الوقوف عند حدود الله وحرمة تعديها.
5- تحريم الظلم وهو ثلاثة أنواع: ظلم الشرك وهذا لا يغفر للعبد إلا بالتوبة منه، وظلم العبد لأخيه الإنسان وهذا لابد من التحلل منه، وظلم العبد لنفسه بتعدي حد من حدود الله وهذا أمره إلى الله إن شاء غفره وإن شاء واخذ به.
{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(230)}
شرح الكلمات:
{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ} : الطلقة الثالثة فلا تحل له إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره.
{فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} : أي لا إثم ولا حرج عليهما في الزواج من جديد.
{أَنْ يَتَرَاجَعَا} : أن يرجع كل منهما إلى صاحبه بعقد جديد وبشرط أن يظنا إقامة حدود الله فيهما، وإلا فلا يجوز نكاحهما.
معنى الآية الكريمة:
يقول تعالى مبيناً حكم من طلق امرأته الطلقة الثالثة: فإن طلقها فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، ويكون النكاح صحيحاً ويبني بها الزوج الثاني لحديث: "حتى تذوقي عسيلته
__________
1 وهو الطلاق البدعي، والجمهور على أنه يقع ثلاثة وخلاف الجمهور يقولون: طلاق بدعي ويقع واحدة، ودليلهم الآية: {الطلاق مرتان}، {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} والطلاق بلفظ الثلاث ليس فيه مرتان ولا إقراء، فلذا هو بدعي ولا تبين المطلقة به، بل هي مطلقة واحدة لا غير.
2 لا يحل لامرء أن يتزوج مطلقة ثلاثاً ليحلها لزوجها للعن الرسول صلى الله عليه وسلم من يفعل ذلك في قوله: "لعن الله المحلل والمحلل له" . وسماه: بالتيس المستعار.

ويذوق عسيلتك" ، فإن طلقها الثاني بعد البناء و الخلوة والوطء أو مات عنها جاز لها أن تعود إلى الأول إن رغب هو في ذلك وعلما من أنفسهما أنهما يقيمان حدود الله فيهما بإعطاء كل واحد حقوق صاحبه1 مع حسن العشرة وإلا فلا مراجعة تحل لهما. ولذا قال تعالى: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} ثم نوه الله تعالى بشأن تلك الحدود فقال: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} وهي شرائعه، بينهما سبحانه وتعالى لقوم يعلمون2، إذ العالمون بها هم الذين يقفون عندها ولا يتعدونها فيسلمون من وصمه الظلم وعقوبة الظالمين.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- المطلقة ثلاثاً لا تحل لمطلقها3 إلا بشرطين: الأول: أن تنكح زوجا ًغيره نكاحاً صحيحاً، ويبنى بها ويطأها. والثاني: أن يغلب على ظن كل منهما أن العشرة بينهما تطيب وأن لا يتكرر ذلك الاعتداء الذي أدى إلى الطلاق ثلاث مرات.
2- موت الزوج الثاني كطلاقه تصح معه الرجعة إلى الزوج الأول بشرطه.
3- إن تزوجت المطلقة ثلاثاً بنية التمرد على الزوج حتى يطلقها لتعود إلى الأول فلا يحلها هذا النكاح لأجل التحليل، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أبطله وقال: "لعن الله المحلل والمحلل له" ويسمى بالتيس المستعار، ذاك الذي يتزوج المطلقة ثلاثاً بقصد أن يحلها للأول.
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(231)}
__________
1 ذهب بعض الفقهاء إلى أن ليس على الزوجة عمل لزوجها ولا حق له عليها إلا في الاستمتاع بها، وهو قول واهٍ يرده ما كان عليه بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه وأزواج أصحابه، إذ كن يطحن ويغسلن ويطبخن ويقمن بعمل المنزل ويأمرن بذلك بل ويضربن إن قصرن فيه.
2 أي الذين يفهمون الأحكام فهماً يهيئهم للعمل بها وبإدراك مصالحها فلا يتحيلون في فهمها ليتركوا العمل بها.
3 اختلف فيمن طلقت طلقة أو طلقتين ثم تزوجت ومات زوجها وطلقها ورجعت إلى زوجها الأول، فهل النكاح الجديد يهدم السابق أو تبقى على ما كانت عليه؟. الجمهور على أنها تبقى على ما كانت عليه من طلقة أو طلقتين.

شرح الكلمات:
{أَجَلَهُنَّ} : أجل المطلقة مقاربة1 انتهاء أيام عدتها.
{أَوْ سَرِّحُوهُنَّ} : تسريح المطلقة تركها بلا مراجعة لها حتى تنقضي عدتها وتبين من زوجها.
{ضِرَاراً} : مضارة لها وإضراراً بها.
{لِتَعْتَدُوا} : لتتجاوزوا حد الإحسان إلى الإساءة.
{هُزُواً2} : لعباً بها بعدم التزامكم بتطبيق أحكامها.
{نِعْمَتَ اللَّهِ} : هنا هي الإسلام.
{وَالْحِكْمَةِ3} : السنة النبوية.
{يَعِظُكُمْ بِهِ} : بالذي أنزله من أحكام الحلال والحرام لتشكروه تعالى بطاعته.
معنى الآية الكريمة:
ما زال السياق في بيان أحكام الطلاق والخلع والرجعة ففي هذه الآية يأمر تعالى عباده المؤمنين إذا طلق أحدهم امرأته وقاربت نهاية عدتها أن يراجعها فيمسكها4 بمعروف، والمعروف هو حسن عشرتها أو يتركها حتى تنقضي عدتها ويسرحها بمعروف فعيطيها كامل حقوقها ولا يذكرها إلا بخير ويتركها تذهب حيث شاءت. وحرم على أحدهم أن يراجع امراته من أجل أن يضر بها فلا هو يحسن إليها ولا يطلقها فتستريح منه، فقال تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} يريد عليهن حتى تضطر المرأة المظلومة إلى المخالعة فتفدي نفسها منه بمال وأخبر تعالى: أن من يفعل هذا الإضرار فقد عرض نفسه للعذاب الأخروي.
كما نهى تعالى المؤمنين عن التلاعب بالأحكام الشرعية، وذلك بإهمالها وعدم تنفيذها فقد قال تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ5 اللَّهِ هُزُواً} وأمرهم أن يذكروا نعمة الله عليهم حيث من
__________
1 بالإجماع أن المراد من بلوغ الأجل هنا: مقاربة بلوغه لأنه إذا بلغ الأجل لا خيار له في الإمساك.
2 لا خلاف بين أهل العلم أن من طلق هازلاً أن الطلاق يلزمه لحديث أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة ".
3 الحكمة: هي السنة المبينة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم مراد الله فيما لا نص عليه من الكتاب.
4 قال أهل العلم: إن من الإمساك بالمعروف أن الزوج إذا لم يجد ما ينفق على زوجته يطلقها، فإن لم يطلقها خرج من حد المعروف.
5 روي عن أبي الدرداء أنه قال: كان الرجل في الجاهلية يطلق ويقول: إنما طلقت وأنا لاعب. وينكح ويعتق ويقول: كنت لاعباً. فنزلت هذه الآية: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} .

عليهم بالإسلام دين الرحمة والعدالة والإحسان، وذلك ليشكروه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
كما عليهم أن يذكروا نعمة الله عليهم زيادة على الإسلام وهي نعمة إنزال الكتاب. والحكمة ليعظهم بذلك فيأمرهم بما فيه سعادتهم وكمالهم، وينهاهم عما فيه شقاؤهم وخسرانهم: ثم أمرهم بتقواه عز وجل: فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} وأعلمهم أنه أحق أن يُتقى؛ لأنه بكل شيء عليم لا يخفى عليه من أمرهم شيء فليحذروا أن يراهم على معصيته مجانبين لطاعته.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- لا يحل للمطلق أن يراجع امرأته من أجل أن يضر بها ويظلمها حتى تخالعه بمال.
2- حرمة التلاعب بالأحكام الشرعية بعدم مراعتها وتنفيذها.
3- وجوب ذكر نعمة الله على العبد وذلك بذكرها باللسان، والاعتراف1 بها في الجنان.
4- وجوب تقوى الله تعالى في السر والعلن.
5- مراقبة الله تعالى في سائر شؤون الحياة؛ لأنه بكل شيء عليم.
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ2 يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(232)}
شرح الكلمات:
{فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} : أي انتهت عدتهن3.
__________
1 وصرفها فيما يرضي المنعم عز وجل وذلك باستعمال القوى الفعلية والبدنية في طاعة الله وإنفاق المال فيما يجب أن ينفق فيه.
2 {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ} الإشارة فيه إلى حكم العضل المحرم والمخاطب به سائر المسلمين ولم يقل: ذلكم، إذ الأصل هو الإشارة إلى المذكور وهو مفرد ولو قال: ذلكم، جاز.
3 بلوغ الأجل في هذه الآية هو نهايته وليس كالآية السابقة، إذ بلوغ الأجل فيها المراد: قرب نهايته، إذ لو بلغ الأجل نهايته ما كان صحت مراجعتها.

{فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} : أي لا تمنعوهن من التزوج مرة أخرى بالعودة إلى الرجل الذي طلقها ولم يراجعها حتى انقضت عدتها.
{إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} : إذا رضي الزوج المطلق أن يردها إليه ورضيت هي بذلك.
{ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ} : أي النهي عن العضل يُكلف به أهل الإيمان إذ هم القادرون على الطاعة.
{ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ} : أي ترك العضل خير لكم من العضل وأطهر لقلوبكم؛ إذ العضل قد يسبب ارتكاب الفاحشة.
معنى الآية الكريمة:
ينهى الله تعالى أولياء أمور النساء أن يمنعوا المطلقة طلقة أو طلقتين فقط من أن تعود إلى زوجها الذي طلقها وبانت منه بانقضاء عدتها، إذا رضيت هي بالزواج منه مرة أخرى ورضي هو به وعزما على المعاشرة الحسنة بالمعروف وكانت هذه الآية استجابة لأخت معقل بن يسار رضي الله عنه حيث أرادت أن ترجع إلى زوجها1 الذي طلقها وبانت منه بانقضاء العدة فمنعها أخوها معقل.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ} أي هذا النهي عن العضل يوجه إلى أهل الإيمان بالله واليوم الآخر فهم الأحياء الذي يستجيبون لله ورسوله إذا أمروا أو نهوا.
وأخيراً أخبرهم تعالى أن عدم منع المطلقة من العودة إلى زوجها خير لهم، حالاً ومآلاً، وأطهر لقلوبهم ومجتمعهم. وأعلمهم أنه يعلم عواقب الأمور وهم لا يعلمون فيجب التسليم بقبول شرعه، والانصياع لأمره ونهيه. فقال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .
هداية الآية
من هداية الآية:
1- حرمة العضل أي منع المطلقة أن ترجع إلى من طلقها.
2- وجوب2 الولاية على المرأة؛ لأن الخطاب في الآية كان للأولياء {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} .
__________
1 اسم هذا الزوج: (أبو البداح) وكان قد طلق أخت معقل بن يسار، ورغب في العودة إليها بنكاح جديد بعد انقضاء عدتها، فأبى معقل وقال لها: وجهي من وجهك حرام إن تزوجتيه. فنزلت هذه الآية: {وإذا طلقتم...} إلخ.
2 دليله: أن أخت معقل كانت ثيبة ومعنها أخوها من الزواج بمن طلقها وراجعها ثم طلقها مرة ثانية وانقضت عدتها ولما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعقل: " إن كنت مؤمناً فلا تمنع أختك من أبي البداح "، فقال آمنت بالله وردها إلى أبي البداح، فهذا دليل على شرطية الولي في النكاح البكر والثيب سواء.

3- المواعظ تنفع أهل الإيمان لحياة قلوبهم.
4- في امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه الخير كله، والطهر جميعه.
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ1 بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(233)}
شرح الكلمات:
{حَوْلَيْنِ} : عامين.
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} : أي على الأب.
{بِالْمَعْرُوفِ} : بحسب حاله يساراً أو إعساراً.
{وُسْعَهَا} : طاقتها وما تقدر عليه.
{لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا2} : أي لا يحل أن تؤذي أم الولد بمنعها من إرضاع ولدها، أو بمنعها الأجرة على إرضاعه هذا في حال طلاقها، أو موت زوجها.
__________
1 قوله تعالى: {كسوتهن} ، إما أن يكون المراد به المرضع غير المطلقة، فهي التي يجب لها الكسوة، أما المرضع بأجرة فلا كسوة لها وإنما لها ثمن الإرضاع، أو يكون ذكر الكسوة من باب مكارم الأخلاق، إذ ذو الخلق الكريم يكرم مرضعة ولده بالكسوة وغيرها.
2 في الآية دليل على أن الأم أحق بالحضانة إذا طلقت أو مات الوالد ولا خلاف في ذلك ما لم تتزوج فإن حضانتها تسقط بذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لمن شكت إليه: "إنت أحق به ما لم تنكحي" . واختلف في مدة الحضانة، فمالك يرى: أنها إلى بلوغ الغلام وتزوج الجارية، ورأى الشافعي: أنها إلى ثمان سنوات ثم يخبر الولد بين أبيه وأمه، فأيهما اختار له ذلك، والبنت كذلك. فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم خير الولد بين أبيه وأمه.

{وَلا مَوْلُودٌ لَهُ} : أي ولا يضار1 الوالد كذلك بأن يجبر على إرضاع الولد من أمه المطلقة أو يطالب بأجرة لا يطيقها.
{وَعَلَى الْوَارِثِ} : الوارث هو الرضيع2 نفسه إن كان له مال وإلا فعلى من يكفله من عصبته.
{فِصَالاً} : فطاماً للولد قبل نهاية العامين.
معنى الآية الكريمة:
بمناسبة بيان أحكام الطلاق وقد تطلق المرأة أحياناً وهي حامل ذكر تعالى أحكام الرضاع، وقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ3 يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} أي: على الأم المطلقة أن ترضع ولدها حولين كاملين إن أرادت هي وأب الرضيع إتمام الرضاعة، وأن على المولود له وهو الأب إن كان موجوداً نفقة المرضعة طعاماً وشراباً وكسوة بالمعروف بحسب حال الوالد من الغنى والفقر، إذ لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها من قدرة.
ثم نبه تعالى على أنه لا يجوز أن تؤذى الوالدة بسبب ولدها بأن تمنع من إرضاع ولدها أو تكره على إرضاعه وهي لا تريد ذلك، أو تحرم النفقة مقابل الإرضاع أو يضيق عليها فيها كما لا يجوز أن يضار أي يؤذي المولود له وهو الأب: بأن يجبر على إرضاع ولده من أمه وقد طلقها ولا يأن يطالب بنفقة باهظة لا يقدر عليها. وعلى الوارث وهو الرضيع نفسه إن كان له مال. فإن لم يكن له مال فعلى عصبته الذكور الأقرب فالأقرب أي عليهم أجرة الإرضاع فإن لم يكن للولد مال وليس له عصبة وجب على الأم أن ترضعه مجاناً؛ لأنها أقرب الناس إليه، ثم ذكر تعالى رخصتين في الإرضاع: الأولى: فطام قبل عامين، فإن لهما ذلك بعد التشاور في ذلك وتقدير مصلحة الولد من هذا الفطام المبكر. فقال تعالى: {فَإِنْ
__________
1 وفي الحديث الصحيح: "لا ضرر ولا ضرار" ، ومن هنا رؤى في الحضانة جانب الولد فينظر فيمن يقدر على حفظه وتربيته، ولما كانت الأم أرحم به وأحن عليه أعطيته ما لم تتزوج وتشغل عنه فإن تزوجت فأمها وهي جدته، وإما أم أبيه فخالته أحق به منها، والعبرة بمن يكون أرحم وأحفظ بالولد.
2 الجمهور على أن المراد بالوارث، ورثة الرضيع إذا هلك من نساء ورجال، ذكره القرطبي في تفسيره، وقال غيره: إن الوارث هو الرضيع إذا مات والده وترك مالاً. أجرة المرضع من ماله، فإن كان لا مال له فمن مال ورثته هو ولا تضار هي في واجب نفقتها ولا الوالد أو وارثه في أدائها. وما فسرنا به الآية واضح ومستقيم والحمد لله رب العالمين.
3 {والوالدات} مبتدأ، وجملة: يرضعن، خبر. فالجملة خبرية، ومعناها الإنشاء. إذ ما تضمنته الجملة هو إرشاد من الله تعالى للمؤمنين في طريقة إرضاع أولادهن.

أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي لا تضييق ولا حرج. والثانية إن أراد المولود له أن يسترضع لولده من مرضعاً غير أمه فله ذلك إن طابت به نفسه الأم، قال تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} بشرط أن يسلم الأجرة1 المتفق عليها بالمعروف بلا إجحاف ولا مماطلة، وأخيرا وعظ الله كلاً من المرضِع والمرضَع له بتقواه في هذه الحدود التي وضعها لهما، وأعلمهم أنه بما يعملون بصير فليحذروا مخالفة أمره، وارتكاب نهيه. فسبحانه من إلهٍ عظيم برٍ رحيم.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- وجوب إرضاع الأم ولدها الرضعة الأولى "اللَّبا" إن كانت مطلقة وسائر الرضاع إن كانت غير مطلقة.
2- بيان الحد الأعلى للرضاع وهو عامان2 تامان. ولذا فالزيادة عليهما غير معتبرة شرعاً.
3- جواز أخذ الأجرة على الإرضاع.
4- وجوب نفقة الأقارب على بعضهم في حال الفقر.
5- جواز إرضاع الوالد ولده من3 مرضع غير والدته.
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(234) وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ
__________
1 المراد من الأجرة هي تلك التي وجبت للمطلقة بإرضاعها ولدها قبل أخذ الوالد له ليرضعه عند غيرها إن لم يكن قد سلمها لها أيام إرضاعها للولد.
2 لحديث: "لا رضاع بعد فصال ولا يتم بعد احتلام" رواه أبو دواد الطيالسي. عن جابر ذكره ابن كثير. وحديث ابن عباس عند البخاري: "لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين". ولذا فما كان من رضاع بعد الحولين فلا يحرم بدلالة هذا الحديث الصحيح.
3 إذا كان في ذلك مصلحة للرضيع أو لعجز الوالدة عنه.

وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ(235)}
شرح الكلمات:
{يُتَوَفَّوْنَ} : يوفيهم الله تعالى ما كتب لهم من العمر فيموتون.
{وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} : يتركون زوجات لهم.
{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} : ينتظرن حتى انقضاء عدتهن، وهي أربعة أشهر وعشر ليال.
{بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} : بلغن انتهاء العدة.
{فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} : لا حرج عليكم أيها الأولياء فيما فعلن في أنفسهن من مس الطيب والتجمل والتعرض للخطاب.
{فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} : لا إثم عليكم في التعريض دون التصريح بالخطبة، كما لا إثم في إضمار الرغبة في النفس.
{حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} : أي حتى تنتهي العدة.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في بيان أحكام الطلاق والعدد والنفقات، ففي هذه الآية(234) أن على من مات1 عليها زوجها أن تنتظر أربعة أشهر وعشر ليال إن كانت حرة، أو نصف المدة إن كانت أمة فلا تتجمل ولا تمس طيباً، ولا تتعرض للخطاب بحال حتى تنقضي عدتها المذكورة في الآية إلا أن تكون حاملاً فإن عدتها تنقضي2 بوضع حملها لقوله تعالى من سورة الطلاق: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فإذا بلغت أجلها، أي: انتهت المدة التي هي
__________
1 من مات زوجها أو طلقها في غيبته عنها: هل تعتد من يوم الطلاق أو الوفاة أو من يوم يأتيها الخبر بذلك؟. الجمهور وهو الراجح أنها تعتد من يوم الوفاة أو الطلاق، وعليه فلو مات ز وجها أو طلقها ولم يلقها حتى انتهت مدة العدة فلا عدة عليها بعد.
2 يرى بعض السلف أن تعتد المتوفى عنها زوجها بأقصى الأجلين، أي: بأطولهما، فإن كانت مدة الحمل أكثر من أربعة أشهر وعشر اعتدت به، وإلا اعتدت بوضع الحمل، وما عليه الجمهور أولى، وهو: وضع الحمل.

محدة فيها فلا جناح على ذوي زوجها المتوفي ولا على ذويها هي فيما تفعل بنفسها من ترك الإحداد1 والتعرض للخطاب للتزوج هذا معنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي: بما هو مباح لهن ووعظهم في ختام الآية بقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فاحذروه فلا تعملون إلا ما أذن فيه لكم.
أما الآية الثانية(235) فقد تضمنت تحريم خطبة المرأة المعتدة من طلاق أو وفاة فلا يحل خطبتها لما في ذلك من الضرر؟ إذ قد تحمل هذه الخطبة من رجل مرغوب فيه لماله أو دينه أو نسبه أن تدعي المرأة انقضاء عدتها وهي لم تنقض، وقد تفوت على زوجها المطلق لها فرصة المراجعة، وهذا كله ضرر محرم. كما تضمنت الآية في صدرها رفع الحرج، أي: الإثم في التعريض بالخطبة دون اللفظ الصريح المحرم فقال تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أيها المسلمون فيما عرضتم من خطبة النساء المعتدات نحو قوله: إني راغب في الزواج، أو إذا انقضت عدتك تشاورينني إن أردت الزواج. كما تضمنت الكشف عن نفسية الرجل إذ قال تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} مبدين رغبتكم منهن فرخص لكم في التعريض دون التصريح، ولكن لا تواعدوهن سراً هذا اللفظ هو الدال على تحريم خطبة المعتدة من وفاة أو من طلاق بائن، أما الطلاق الرجعي فلا يصح الخطبة فيه تعريضاً ولا تصريحاً؛ لأنها في حكم الزوجة، وقوله: {إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} هو الإذن بالتعريض.
كما تضمنت هذه الآية حرمة عقد النكاح على المعتدة حتى تنتهي عدتها إذ قال تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ2 النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} ، والمراد من الكتاب المدة التي كتب الله على المعتدة أن تتربص فيها. وختمت الآية بوعظ الله تعالى المؤمنين حيث أمرهم أن يعلموا أن الله يعلم ما في أنفسهم ولا يخفى عليه شيء من أعمالهم وتصرفاتهم فليحذروه غاية الحذر، فلا يخالفوه في أمره ولا نهيه. كما أعلمهم أنه تعالى غفور لمن تاب منهم بعد الذنب حليم عليهم لا يعاجلهم بالعقوبة ليتمكنوا من التوبة.
__________
1 الإحداد واجب على المتوفى عنها زوجها فقط لحديث الصحيح: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" . والإحداد: هو ترك أنواع الزنية حتى الكحل والخضاب، وعليها لزوم البيت وعدم التعرض للخطاب.
2 أي: لا تعقدوا على المعتدة حتى تنقضي عدتها. يقال: عزم كذا،وعزم على كذا بمعنى واحد.

هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان عدة الوفاة وهي أربعة أشهر1 وعشر ليال، وبينت السنة أن عدة الأمة على النصف.
2- وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها وهو عدم التزين ومس الطيب وعدم التعرض للخطاب وملازمة المنزل الذي توفى عنها زوجها وهي فيه فلا تخرج منه إلا لضرورة قصوى.
3- حرمة خطبة المعتدة، وجواز التعريض لها بلفظ غير صريح.
4- حرمة عقد النكاح على معتدة قبل انقضاء عدتها، وهذا من باب أولى ما دام الخطبة محرمة ومن عقد على امرأة قبل انقضاء عدتها يفرق بينهما ولا تحل له بعد عقوبة لهما2.
5- وجوب مراقبة الله تعالى في السر والعلن واتقاء الأسباب المفضية بالعبد إلى فعل محرم.
{لا جُنَاحَ3 عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ4 النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ5 تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ(236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ6 مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ
__________
1 قيل: الحكمة في العشر ليال بعد الأربعة أشهر، أنها التي ينفخ فيها الروح في الجنين لحديث: "إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة" . الحديث. فثلاثة أربعينات بأربعة أشهر، وفي العشر بعد ينفخ فيه الروح. والحديث هو حديث ابن مسعود في مسلم.
2 هذا مذهب مالك، أما الجمهور فإنه يفارقها فإذا انتهت عدتها له أن يخطبها ويتزوجها، ولا فرق في هذا بين عدة الوفاة أو الطلاق غير الرجعي.
3 هذا استئناف بياني كأن سائلاً سأل عن جواز الطلاق قبل البناء وعدمه، فأجاب تعالى بقوله: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} الآية. مبيناً الجواز وحكم المهر للمطلقة قبل البناء.
4 المطلقات أربع: مطلقة قبل البناء، ولم يسم لها مهر فلها المتعة ولا عدة عليها. المطلقة قبل البناء وسمي لها مهر فلها نصفه إلا أن يعفو، ومطلقة بعد البناء لها ما سمي من المهر، وعليها العدة، ومطلقة بعد البناء ولم يسم لها مهر فلها مهر مثيلتها.
5 أو هنا بمعنى الواو، أي: ولم تفرضوا.
6 النصف: فيه لغات، كسر النون، وضمها، ونصيف بفتح النون وإشباع الصاد، والنصيف أيضاً: قناع المرأة.

الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(237) حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ(238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ(239)}
شرح الكلمات:
الجناح : الإثم المترتب على المعصية.
{مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} : ما لم تجامعوهن.
{أَوْ تَفْرِضُوا} : تقدروا لهن1 مهراً.
{الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} : ذو الوسع في المال، وقدره: ما يقدر عليه ويستطيعه.
{الْمُقْتِرِ} : الضيق العيش.
{الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} : هو الزوج.
{وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} : أي المودة والإحسان.
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} : بأدائها في أوقاتها في جماعة مع استيفاء شروطها وأركانها وسننها.
{وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} : صلاة العصر، أو الصبح فتجب المحافظة على كل الصلوات وخاصة العصر والصبح لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من صلى البردين –العصر والصبح- دخل الجنة".
{قَانِتِينَ} : خاشعين ساكنين2.
{فَرِجَالاً} : مشاة على أرجلكم أو ركباناً على الدواب وغيرها مما يركب.
__________
1 اختلف في من مات زوجها قبل البناء بها ولم يسم لها صداق هل لها مثل صداق مثيلاتها، أو لا صداق لها؟ ولكن لها الميراث وعليها العدة. فمن قال: بالقياس، لا صداق لها، ومن أخذ بحديث بروع الذي رواه الترمذي وصححه قال: لها مهر المثل وترث وتعتد. وبروع: امرأة مات زوجها قبل البناء بها ولم يسم لها مهراً فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لها بمهر المثل والميراث والعدة.
2 الخشوع في الصلاة مستلزم لترك الكلام فيها وكيف وقد سلم ابن مسعود على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته فلم يرد عليه، ثم اعتذر له بقوله: "إن في الصلاة لشغلا" أي: عن الكلام.

معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بيان أحكام الطلاق وما يتعلق به، ففي هذه الآية (236): يخبر تعالى عباده المؤمنين أنه لا إثم ولا حرج عليهم إن هم طلقوا أزواجهم قبل البناء بهن، وقبل أن يسموا لهن مهوراً أيضاً، وفي هذين الحالين يجب عليهم أن يمتعوهن1 بأن يعطوا المطلقة قبل البناء ولم تكن قد أعطيت مهراً ولا سمى لها فيعرف مقداره في هذه الحال، وقد تكون نادرة يجب على الزوج المطلق جبراً لخاطرها أن يعطيها مالاً على قدر غناه وفقره تتمتع به أياماً عوضاً عما فاتها من التمتع بالزواج، فقال تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ}.
وأما الآية الثانية(237) فإنه تعالى يخبر أن من طلق امرأته قبل البناء بها وقد سمى لها صداقاً قل أو كثر فإن عليه أن يعطيها وجوباً نصفه إلا أن تعفو عنه المطلقة فلا تأخذه تكرماً، أو يعفو المطلق تكرماً فلا يأخذ منه شيئاً فيعطيها إياه كاملاً فقال عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} -أي: فالواجب نصف ما فرضتم- إلا أن يعفون –المطلقات- أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وهو الزوج. ثم بعد تقرير هذا الحكم العادل الرحيم دعا الطرفين2 إلى العفو، وأن من عفا منهما كان أقرب إلى التقوى فقال عز وجل: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ونهاهم مع هذا عن عدم نسيان المودة والإحسان بينهما فقال: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
وأما الآية الثانية(238) فإنه تعالى يرشد عباده المؤمنين إلى ما يساعدهم على الالتزام بهذه الواجبات الشرعية والآداب الإسلامية الرفيعة وهو المحافظة على إقامة الصلوات الخمس عامة والصلاة الوسطى خاصة فقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} ، وكانوا قبلها يتكلمون في الصلاة فمنعهم من ذلك بقوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} أي ساكنين خاشعين. وإن حصل خوف لا يتمكنون معه من أداء الصلاة على الوجه
__________
1 المتعة واجبة للمطلقة قبل البناء ولم يكن سمي لها مهراً ، ومستحبة لغيرها. هذا أشهر المذاهب وأقربها من الحق، ومقدار المتعة موكول إلى المطلق، فليمتع بحسب حاله غنياً وفقراً، هذا في غير المطلقة قبل البناء ولم يسم لها مهراً ؛ لأن متعتها واجبة، إذ ليس لها غيرها فقد يتولى القاضي بيان مقدارها.
2 وإن كان الخطاب صالحاً لكل من الزوج والزوجة إلا إن العفو من الزوجة أولى؛ لأن الطلاق كان منه، ولو كانت هي سببه لكان عفوها هي أولى، ولعل هذا سر قوله: {أقرب للتقوى} .

المطلوب من السكون والخشوع فليؤدوها وهم مشاة على أرجلهم أو راكبون على خيولهم، حتى إذا زال الخوف وحصل الأمن فليصلوا على الهيئة التي كانوا يصلون عليها من سكون وسكوت وخشوع، فقال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ1 كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} يريد الله تعالى بالذكر هنا إقام الصلاة أولاً، ثم الذكر العام مذكراً إياهم بنعمة العلم مطالباً إياهم بشكرها وهو أن يؤدوا الصلاة على أكمل وجوهها وأتمها؛ لأنها المساعد على سائر الطاعات وحسبها أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر. هذا ما تضمنته الآية الرابعة(239).
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان حكم المطلقة قبل البناء وقبل تسمية المهر، وأن لها المتعة فقط بحسب حال المطلق من غنى وفقر.
2- بيان حكم المطلقة قبل البناء وقد سمى لها صداق فإن لها نصفه وجوباً إلا أن تتنازل عنه برضاها فلها ذلك كما أن الزوج المطلق إذا تنازل عن النصف وأعطاها المسمى كاملاً فله ذلك.
3- الدعوة إلى إبقاء المودة والفضل والإحسان بين الأسرتين: أسرة المرأة المطلقة، وأسرة الزوج المطلق، حتى لا يكون الطلاق سبباً في العداوات والتقاطع.
4- وجوب المحافظة على الصلوات الخمس وخاصة صلاة العصر2 وصلاة الصبح "الصلاة الوسطى"3.
5- منع الكلام في الصلاة لغير إصلاحها.
6- وجوب الخشوع في الصلاة
__________
1 {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} أي: أتموا الصلاة كما أمركم فأتموا ركوعها وسجودها وقيامها وجلوسها كما تفعلون ذلك في حال الأمن وعدم الخوف.
2 اختلف في بيان الصلاة الوسطى بلغ الخلاف عشرة أقوال حتى عدت كل صلاة الصلاة الوسطى حتى يتم المحافظة على الصلوات الخمس كلها، وأقوى الأقوال إنها الصبح أو العصر، ورجح مالك: الصبح، ورجح غيره: العصر، والسنة الصحيحة شاهدة لمن قال أنها العصر، وذلك لحديث الصحيح: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" .
3 الوسطى مؤنث الأوسط، ووسط الشيء خيره وأعدله، وفي هذا المعنى قال الشاعر، يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا أوسط الناس طراً في مفاخرهم ... وأكرم الناس أماً برةً وأبا
وأفردت الصلاة الوسطى بالذكر تشريفاً لها.

7- بيان صلاة الخائف من عدو وغيره وأنه يجوز له أن يصلي وهو ماش أو راكب.
8- الأمر بملازمة ذكر الله، والشكر على نعمه وبخاصة نعمة العلم بالإسلام.
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً1 إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ2حَكِيمٌ(240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ(241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(242)}
شرح الكلمات:
{الْحَوْلِ} : العام.
{فَإِنْ خَرَجْنَ} : من بيت الزوج المتوفي قبل نهاية السنة.
{مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} : أي متعة لا مبالغة فيها، ولا تقصير.
{حَقّاً} : متعيناً على المطلقين الأتقياء.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان حقوق النساء المطلقات والمتوفى عنهن ففي هذه الآية(240) يخبر تعالى أن الذين يتوفون من المؤمنين ويتركون أزواجاً فإن لهن من الله تعالى وصية على ورثة الزوج المتوفى أن ينفذوها وهي أن يسمحوا لزوجة المتوفى عنها أن تبقى معهم في البيت تأكل وتشرب إلى نهاية السنة بما فيها مدة العدة وهي أربعة أشهر وعشر ليال إلا إذا رغبت في الخروج بعد انقضاء العدة فلها ذلك، هذا معنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ3 يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
__________
1 المراد بالمتاع هنا: هو السكنى في بيت زوجها المتوفى عنها إن كان له سكنى يملكها.
2 في قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} إشارة إلى وجوب تنفيذ وصية الله تعالى؛ لأنه غالب على أمره قاهر لعباده فكيف يخرجون عن طاعته، والحكيم لا يعترض عليه بل يسلم الأمر إليه رزقنا الله طاعته بالإسلام إليه ظاهراً وباطناً.
3 اختلف في توجيه هذه الآية فمن قائل: بنسخها وأن الناسخ لها الآية التي قبلها: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} ، ومن قائل: بنسختها آية المواريث، إذ المتوفى عنها إن لم يكن للزوج ولد الربع من التركة، ومن قائل: وهو مجاهد ورجحه ابن جرير الطبري بعدم النسخ وأنه رحمة بالمؤمنة المتوفى عنها زوجها إذا أتمت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً يسمح لها بالبقاء في بيت زوجها الهالك إلى نهاية السنة، وهذا حسب اختيارها ورغبتها فكانت هذه الوصية وصية رحمة مندوباً إليها، وهذا الذي رجحته في تفسير الآية فليتأمل.

وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وقوله فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن تقدم معناه، وهو أن للمعتدة إذا انقضت عدتها أن تتزين وتمس الطيب وتتعرض للخطاب لتتزوج. وما ختمت به الآية: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} إشارة إلى أن هذه الوصية قد شرعها عزيز حكيم فهي متعينة التحقيق والتنفيذ.
وأما الآية الثانية(241) {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} ففيها حكم آخر وهو أن المطلقة المبني بها على مطلقها أن يمتعها بشيء من المال كثياب أو دابة أو خادمة، وعليه فالمطلقة قبل البناء وقبل تسمية المهر لها المتعة واجبة لها إذ ليس لها سواها، والمطلقة قبل البناء وقد سمى لها المهر فإن لها نصف المهر لا غير، والمطلقة بعد البناء وهي هذه المقصودة في هذه الآية لها متعة بالمعروف سواء قيل بالوجوب أو الاستحباب1؛ لأنها لها المهر كاملاً.
وقوله تعالى في الآية الثالثة(242) {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} معناه كهذا التبيين لأحكام الطلاق والخلع والرضاع والعدد والمنع يبين تعالى لنا آياته المتضمنة أحكام شرعه لنعقلها ونعمل بها فنكمل عليها ونسعد في الحياتين الدنيا والآخرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الإبقاء على المعتدة عدة وفاة في بيت الهالك سنة إن طابت نفسها بذلك وذلك بعد انقضاء العدة الواجبة، فالزائد وهو سبعة أشهر وعشرون يوماً في هذه الوصية إلا أن جمهور أهل العلم يقولون بنسخ هذه الوصية، وعدم القول بالنسخ أولى، لاختلافهم في الناسخ لها2.
2- حق3 المطلقة المدخول بها في المتعة بالمعروف
3- منة الله على هذه الأمة ببيان الأحكام لها لتسعد بها وتكمل عليها، فلله الحمد والشكر.
__________
1 تقدم مثل هذا البيان في الآيات السابقة تحت رقم صفحة 227 من نهر الخير.
2 رجح هذا القول شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية، ومال إليه تلميذه: ابن القيم، ولم يفصح عنه.
3 أي: تقرير حق المتعة للمدخول بها على سبيل السنية والاستحباب كما تقدمت في النهر.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا1 ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ(243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(245)}
شرح الكلمات:
{أَلَمْ تَرَ} : ألم ينته إلى علمك ... فالرؤية قلبية والاستفهام للتعجب.
{أُلُوفٌ} : جمع ألف، وهي صيغة كثرة فهم إذا عشرات الألوف.
{فِي سَبِيلِ اللَّهِ} : الطريق الموصل إلى مرضاته وهو طاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه ومن ذلك جهاد الكفار والظالمين حتى لا تكون فتنة.
{يُقْرِضُ اللَّهَ} : يقتطع شيئاً من ماله وينفقه في الجهاد لشراء السلاح وتسيير المجاهدين.
{يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} : يضيق ويبسط يوسع، يقبض ابتلاء، ويبسط امتحاناً.
معنى الآيات:
يخاطب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول: ألم ينته إلى علمك قصة الذين خرجوا من ديارهم فراراً من الموت وهم ألوف، وهم أهل مدينة من مدن2 بني إسرائيل أصابها الله تعالى بمرض3 الطاعون ففروا هاربين من الموت فأماتهم الله عن آخرهم ثم أحياهم بدعوة نبيهم حزقيل عليه السلام، فهل أنجاهم فرارهم من الموت، فكذلك من يفر من القتال هل ينجيه فراره من
__________
1 هذا الأمر أمر تكويني لا شرعي تعبدي.
2 ذكر القرطبي أن اسم هذه القرية: "داوردان" وهي من نواحي شرق واسط بينهما فرسخ (معجم ياقوت).
3 روى الترمذي وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الطاعون فقال: "بقيت رجز أو عذاب أرسل على طائفة من بني إسرائيل فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها" . قلت: هذا ما يعرف الآن بالحجر الصحي.

الموت؟ والجواب: لا، وإذاً فلم الفرار من الجهاد إذا تعين؟ وفي تأديب تلك الجماعة بإماتتها ثم بإحيائها فضل من الله عليها عظيم، ولكن أكثر الناس لا يشكرون. وإذاً فقاتلوا أيها المسلمون في سبيل1 الله ولا تتأخروا متى دعيتم إلى الجهاد بالنفس والمال، واعلموا أن الله سميع لأقوالكم عليم بنياتكم وأعمالكم فاحذروه، ثم فتح تعالى باب الاكتتاب المالي للجهاد فقال: {مَنْ ذَا الَّذِي2 يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} لا شائبة شرك فيه لأحد والنفس طيبة به فإن الله تعالى يضاعفه له أضعافاً كثيرة الدرهم بسبعمائة درهم فأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل إعلاء كلمة الله، ولا تخافوا الفقر فإن ربكم يقبض ويبسط: يضيق على العبد ابتلاء ويوسع امتحاناً، فمنعكم الإنفاق في سبيل الله لا يغير من تدبير الله شيئاً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إذا نزل الوباء ببلد لا يجوز الخروج فراراً منه، بهذا ثبتت السنة.
2- وجوب ذكر النعم وشكرها.
3- وجوب القتال في سبيل الله إذا تعين.
4- فضل الإنفاق في سبيل الله.
5- بيان الحكمة في تضييق الله على العبد رزقه، وتوسيعه، وهو الابتلاء لأجل الصبر والامتحان لأجل الشكر، فيالخيبة من لم يصبر، عند التضييق عليه، ولم يشكر عند التوسعة له.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا
__________
1 القتال في سبيل الله: هو ما كان لإعلاء كلمة الله تعالى.
2 الاستفهام هنا للتخصيص والتهييج على الإنفاق في سبيل الله.

مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ(246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(247)}
شرح الكلمات:
{الْمَلأِ} : أشراف الناس من أهل الحل والعقد بينهم إذا نظر المرء إليهم ملأوا عينه رواء وقلبه هيبة.
عسى : كلمة توقع وترج.
{كُتِبَ} : فرض ولزم.
{مَلِكاً} : يسوسهم في السلم والحرب.
{أَنَّى يَكُونُ} : الاستفهام للإنكار بمعنى كيف يكون له الملك.
{اصْطَفَاهُ} : فضله عليكم واختاره لكم.
بسطة في الجسم : أي طولاً زائداً يعلو به من عداه.
معنى الآيات:
لقد فرض الله تعالى على المؤمنين القتال، ودارت رحى المعارك بداية من معركة بدر وكان لابد من المال والرجال الأبطال الشجعان، فاقتضى هذا الموقف شحذ الهمم وإلهاب المشاعر لتقوى الجماعة المسلمة بالمدينة على مواجهة حرب العرب والعجم معاً، ومن هنا لمطاردة الجبن والبخل وهما من شر الصفات في الرجال ذكر تعالى حادثة الفارين من الموت

التاركين ديارهم لغيرهم كيف أماتهم الله ولم ينجيهم فرارهم، ثم أحياهم ليكون ذلك عبرة لهم ولغيرهم، فالفرار من الموت لا يجدي الصبر والصمود حتى النصر، ثم أمر تعالى المؤمنين بعد أن أخذ ذلك المنظر من نفوسهم مأخذه فقال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، ولما كان المال المقدم في القتال فتح الله لهم اكتتاباً مالياً وضاعف لهم الربح في القرض بشرط خلوصه وطيب النفس به، ثم قدم لهم هذا العرض التفصيلي لحادثة أخرى تمنل في ثناياها العظات والعبر لمن هو في موقف المسلمين الذين يحاربهم الأبيض والأحمر وبلا هوادة وعلى طول الزمن فقال تعالى وهو يخاطبهم في شخص نبيهم صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ1 لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يريد ألم ينته إلى علمك بإخبارنا إياك قول أشراف بني إسرائيل –بعد وفادة موسى- لنبي لهم ابعث لنا2 ملكاً نقاتل في سبيل الله فنطرد أعداءنا من بلادنا ونسترد سيادتنا ونحكم شريعة ربنا. ونظراً إلى ضعفهم الروحي والبدني والمالي تخوف النبي أن لا يكونوا صادقين فيما طالبوه به فقال: {هَلْ3 عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} بتعيين الملك القائد أن لا تقاتلوا!؟ فدفعتهم الحمية فقالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الحال أنا قد أخرجنا من ديارنا4 وأبنائنا، وذلك أن العدو وهم البابليون لما غزوا فلسطين بعد أن فسق بنو إسرائيل فتبرجت نساؤهم واستباحوا الزنى والربا وعطلوا الكتاب وأعرضوا عن هدى أنبيائهم فسلط الله عليهم هذا العدو الجبار فشردهم فأصبحوا لاجئين.وما كان من نبي الله شمويل إلا أن بعث من تلك الجماعات الميتة موتاً معنوياً رجلاً منهم هو طالوت وقادهم فلما دنوا من المعركة جبنوا وتولى أكثرهم5 منهزمين قبل القتال، وصدق نبيهم في فراسته إذ قال لهم: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا} .
__________
1 هو شمويل بن بال بن علقمة، هكذا ذكره القرطبي في تفسيره، ويقال فيه: شمعون أيضاً ويعرف بابن العجوز؛ لأن أمه كانت عجوزاً فسألت الله الولد فوهبها إياه بعد عقم وكبر سن.
2 {ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ..} فيه دليل على أن الجهاد لإعلاء كلمة الله لابد له من إمام تجتمع عليه كلمة الأمة وأيما جهاد يخلو من إمامة شرعية يقاتل تحت رايتها فعاقبتها خسر، وشاهد هذا حال المسلمين اليوم فقد قاتلوا الاستعمار تحت شعار الأحزاب فلما انتصروا خسروا كل شيء حتى دينهم.
3 عسيتم: بكسر السين، وعسيتم بفتح السين، وهما قراءتان سبعيتان. الأولى لنافع، والثانية لحفص.
4 أن الخروج من الوطن صعب على النفوس البشرية، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خروجه من مكة قال: "إني أعلم أنك أحب البلاد إلى الله ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت" ، ويقول: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أكثر" .
5 ولذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته عن تمني لقاء العدو فقال: "لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموه فاثبتوا" .

هذا ما تضمنته الآية الأولى(246) من هذا القصص أما الآية الثانية(247) فقد تضمنت اعتراض ملأ بني إسرائيل على تعيين طالوت ملكاً عليهم بحجة أنه فقير من أسرة غير شريفة، وأنهم أحق بهذا المنصب منه، ورد عليهم حجتهم الباطلة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ1 وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} . كان هذا رد شمويل على قول الملأ: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ2وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} . وكأنهم لما دمغتهم الحجة وهي أن الله تعالى قد اختار طالوت وفضله عليهم بهذا الاختيار وأهله للولاية بما أعطاه وزاده من العلم وقوة الجسم، والقيادات القتالية تعتمد على غزارة العلم وقوة البدن بسلامة الحواس وشجاعة العقل والقلب أقول كأنهم لما بطل اعتراضهم ورضوا بطالوت على عادة بني إسرائيل في التعنت طالبوا بآية تدل على أن الله حقاً اختاره لقيادتهم فقال لهم إلخ وهي الآية(248) الآتية.
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(248)}
شرح الكلمات:
{نَبِيُّهُمْ} : شمويل.
{آيَةَ مُلْكِهِ} : علامة أن الله تعالى ملكه عليكم.
{التَّابُوتُ} : صندوق خشبي فيه بقية من آثار آل موسى وآل هارون.
{سَكِينَةٌ} : طمأنينة القلب وهدوء نفسي.
__________
1 في تقديم العلم على الجسم إشارة إلى أن إمامة الجاهل وقيادته لا خير فيها، والمراد من العلم علم الشرائع وهي تتناول السلم والحرب فلذا هو كامل الأهلية وحسبه اصطفاء الله تعالى واختياره له.
2 لأن الملك في سبط يهوذا والنبوة في بني لاوي، وطالوت من سبط بنيامين فما هو من سبط الملك ولا في بني لاوي أهل النبوة.

{وَبَقِيَّةٌ} : بقية الشيء ما تبقى منه بعد ذهاب أكثره وهي هنا رضاض من الألواح التي تكسرت، وعصا موسى وشيء من آثار أنبيائهم.
{تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} : من أرض العمالقة فتضعه بين يدي بني إسرائيل في مخيماتهم.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ} : أي في إتيان التابوت الذي أخذه العدو بالقوة منكم في رده إليكم علامة قوية على اختيار الله تعالى لطالوت ملكاً عليكم.
معنى الآية الكريمة:
قد أصبح بشرح الكلمات معنى الآية واضحاً وخلاصته أن شمويل النبي أعلمهم أن آية تمليك الله تعالى لطالوت عليهم أن يأتيهم التابوت المخصوب منهم وهو رمز تجمعهم واتحادهم ومصدر استمداد قوة معنوياتهم لما حواه من آثار آل موسى وآل هارون؛ كرضاض الألواح، وعصا موسى ونعله وعمامة هارون وشيء من المن الذي كان ينزل عليهم في التيه، فكان هذا التابوت بمثابة الراية يقاتلون تحتها فإنهم إذا خرجوا للقتال حملوه معهم إلى داخل المعركة ولا يزالون يقاتلون ما بقي التابوت بأيديهم لم يغلبهم عليه عدوهم، ومن هنا وهم يتحفزون للقتال جعل الله تعالى لهم إتيان1 التابوت آية على تمليك طالوت عليهم وفي نفس الوقت يحملونه معهم في قتالهم فتسكن2 به قلوبهم وتهدأ نفوسهم فيقاتلون وينتصرون بإذن الله تعالى، "أما كيفية حمل الملائكة للتابوت فإن الأخبار تقول إن العمالقة تشاءموا بالتابوت عندهم إذا ابتلوا بمرض البواسير وبآفات زراعية وغيرها ففكروا في أن يردوا هذا التابوت لنبي إسرائيل وساق الله أقداراً لأقدار، فجعلوه في عربة يجرها بقرتان أو فرسان ووجهوها إلى جهة منازل بني إسرائيل فمشت العربة فساقتها3 الملائكة حتى وصلت بها إلى منازل بني
__________
1 نسبة الإتيان إلى التابوت أسلوب عربي، نحو: "عزم الأمر". و"جدار يريد أن ينقض" وال في التابوت للعهد فهو معروف لهم معهود عندهم، وقيل: طوله ثلاثة أذرع وعرضه ذراعان، وهو من خشب تعمل منه الأمشاط يقال له الشمشار وعليه صفائح الذهب.
2 السكينة: قال فيها مجاهد إنها حيوان كالهر له جناحان وذنب ولعينه شعاع إلى آخر ما قال، والصحيح ما في التفسير ويؤيده قول ابن عطية، إذ قال: "والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وأثارهم فكانت النفوس تسكن إلى ذلك وتأنس به وتقوى إلى أنه صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أن السكينة تكون ملكاً كما في حديث مسلم: إذ كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط فغشيته سحابة فجعلت تدور وتدنو وجعل الفرس منها فلما أصبح أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فلما قال: "تلك السكينة نزلت للقرآن" . وتكون السكينة بمعناها: وهو السكون كما في حديث مسلم: "إلا نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة" . الحديث.
3 هكذا تقول الروايات على أن حمل الملائكة كان يدفع العربة والسير بها إلى ديار بني إسرائيل ولا مانع من حمل الآية على ظاهرها وهو أن الملائكة أخذت التابوت وحملته إلى بني إسرائيل وهو الظاهر.

إسرائيل" فكانت آية وأعظم آية، وقبل بنو إسرائيل بقيادة طالوت، وباسم الله تعالى قادهم في الآية التالية(249) بيان السير إلى ساحات القتال.
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي1 وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ2 أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(249)}
شرح الكلمات:
{فَصَلَ طَالُوتُ}3 : انفصل من الديار وخرج يريد العدو.
{بِالْجُنُودِ}4 : العسكر وتعداده –كما قيل: سبعون ألف مقاتل.
{مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} : مختبركم بنهر جار لعل هو نهر الأردن الآن.
{وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ} : لم يشرب منه.
{غُرْفَةً}5 : الغرفة بالفتح المرة، وبالضم الاسم من الاغتراف.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} : هم الذين لم يشربوا من النهر، أما من شرب فقد كفر وأشرك.
__________
1 أي: ليس من أصحابي في هذه الحرب ولا من جندي الذين أقاتل بهم ولم يرد خروجه من الإيمان وهو كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من غش فليس منا" ، "ومن رغب عن سنتي فليس مني" ، فإنه لا يعني كفره.
2 الظن هنا: بمعنى اليقين، أو يكون الظن على بابه وليس هو في لقاء الله تعالى وإنما هو في الموت في هذه الحرب هل يقتلون فيلاقون الله أو لم يقتلوا.
3 هل كان طالوت نبياً؟ يستدل على نبوته بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} وبقوله: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} والله أعلم وعلى كل فهو عبد صالح.
4 لفظ الجند وجمعه: جنود وأجناد، مشتق من الجند الذي هو غليظ الأرض، إذ الجنود يعتصم بعضهم ببعض فيقوون ويغلظون على عدوهم.
5 الغرفة بالضمة: اسم لا يعرف كالأكلة، اسم لما يؤكل، والغرفة أيضاً: البناء العالي، والجمع: غرف.

{أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ} : أي: يوم القيامة فهم يؤمنون بالبعث الآخر.
{كَمْ مِنْ فِئَةٍ} : كم للتكثير، والفئة: الجماعة يفيء بعضها إلى بعض.
{وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} : يسددهم ويعينهم وينصرهم.
معنى الآية:
إنه لما خرج طالوت بالجيش أخبرهم أن الله تعالى مختبرهم في سيرهم هذا إلى قتال عدوهم بنهر ينتهون إليه وهم في حر شديد وعطش شديد، ولم يأذن لهم في الشرب منه إلا ما كان من غرفة واحدة، فمن أطاع ولم يشرب فهو المؤمن، ومن عصى وشرب بغير المأذون به فهو الكافر ولما وصلوا إلى النهر شربوا منه يكرعون؛ كالبهائم إلا قليلاً منهم. وواصل طالوت السير فجاوز النهر وهو ومن معه، ولما كانوا على مقربة من جيش العدو وكان قرابة مائة ألف قال الكافرون والمنافقون: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} فأعلنوا انهزامهم، وانصرفوا فارين، وقال المؤمنون الصادقون وهم الذين قال الله فيهم: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} كانت هذه الآية في بيان سير طالوت إلى العدو، وفي الآيتين التاليتين(250و251) بيان المعركة وما انتهت إليه من نصر حاسم للمؤمنين الصادقين قال تعالى:
{وَلَمَّا بَرَزُوا1 لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا2 أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(250) فَهَزَمُوهُمْ3 بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ
__________
1 البراز: المكان الفسيح في الأرض والمتسع منها والمتبرز الذاهب في البراز وكانوا يخرجون لقضاء الحاجة في البراز فأطلق لفظ: البراز على ما يحل فيه، وهو: العذرة.
2 فيه مشروعية الدعاء في مثل هذا الموقف، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر حتى سقط ردائه، وكان إذا لاقى العدو قال: "اللهم بك أصول وبك أجول" ويقول: "اللهم إني أعوذ بك من شرورهم وأجعلك في نحورهم" . وعلم أصحابه ذلك.
3 الهزم: الكسر، ومنه قولهم: سقاء متهزم، إذا أثنى بعضه على بعض مع الجفاف، وقيل في زمزم: هزمه جبريل، أي: هزمها جبريل برجله، فتكسرت الأرض وخرج الماء.

بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ(251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ(252)}
شرح الكلمات:
{بَرَزُوا لِجَالُوتَ} : ظهروا في ميدان المعركة وجالوت قائد قوات العمالقة.
{أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} : أصبب الصبر في قلوبنا صباً حتى تمتلئ فلم يبقى للخوف والجزع موضع.
{وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} : في أرض المعركة حتى لا ننهزم وذلك بتقوية قلوبنا والشد من عزائمنا.
{دَاوُدُ} : هو نبي الله ورسوله داود، وكان يومئذ غير نبي1 ولا رسول في جيش طالوت.
{وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} : كان ذلك بعد موت شمويل النبي وموت طالوت الملك.
{وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} : فعلمه صنعة الدروع، وفهم منطق الطير هو وولده سليمان عليهما السلام.
{لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} : وذلك بغلبة أهل الشرك على أهل التوحيد، وأهل الكفر على أهل الإيمان.
معنى الآيات:
لما التقى الجيشان جيش الإيمان وجيش الكفر طالب جالوت بالمبارزة فخرج2 له داود من جيش طالوت فقتله والتحم الجيشان فنصر الله جيش طالوت وكان عدد أفراده ثلاثمائة وأربعة عشر مقاتلاً لا غير لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل بدر: "إنكم على عدة أصحاب طالوت" وكانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً فهزم الله جيش الباطل على كثرته ونصر جيش الحق على قلته. وهنا ظهر كوكب داود في الأفق بقتله رأس الشر جالوت فمن الله عليه بالنبوة والملك بعد موت
__________
1 أي: لم ينبأ بعد ولم يرسل، إذ الرسل ينبئون ويرسلون غالباً في سن الأربعين.
2 لم يقص الله تعالى علينا شيئاً عن كيفية قتل داود لجالوت لعدم الفائدة الكبيرة منها، وخلاصتها كما يلي: كان والد داود في جيش طالوت وله ستة أبناء معه، واسمه: إيشا، وكان داود أصغرهم وكان يرعى الغنم، وكان لنبيهم درع وأوحى الله أن من استوت عليه درعه هو الذي يقاتل جالوت فاستوت على داود وقبل البراز، قال طالوت: من قتل جالوت أشاطره ملكي وأزوجه ابنتي وكان داود قد مر بحجر فناداه أن خذني يا داود وقاتل بي فجعله في مخلاته واحتفظ به، فلما برز لجالوت جعل الحجر في مقلاعه وكان رامياً فرمى جالوت فقتله. وهذه بداية أمره عليه السلام.

كل من النبي شمويل والملك طالوت قال تعالى: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ1 وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} .
وختم الله القصة ذات العبر والعظات العظيمة بقوله: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} بالجهاد2 والقتال، لاستولى أهل الكفر وأفسدوا الأرض بالظلم والشرك والمعاصي، ولكن الله تعالى بتدبيره الحكيم يسلط بعضاً على بعض، ويدفع بعضاً ببعض منة منه وفضلاً. كما قال عز وجل: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} .
ثم التفت إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وقال له تقريراً لنبوته وعلو مكانته: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} التي تقدمت في هذا السياق {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} صلى الله عليه وسلم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الجهاد الشرعي يشترط له الإمام المبايع بيعة شرعية.
2- يشترط للولاية الكفاءة وأهم خصائصها العلم، وسلامة العقل والبدن.
3- جواز التبرك بآثار الأنبياء كعمامة النبي أو ثوبه أو نعله مثلاً.
4- جواز اختبار أفراد الجيش لمعرفة مدى استعدادهم للقتال والصبر عليه.
5- فضيلة الإيمان بلقاء الله، وفضيلة الصبر على طاعة الله خاصة في معارك الجهاد في سبيل الله.
6- بيان الحكمة في مشروعية الجهاد، وهي دفع أهل الكفر والظلم بأهل الإيمان والعدل، لتنتظم الحياة ويعمر الكون.
__________
1 فسر ابن كثير الحكمة بالنبوة لقرينة الملك، إذ جعله الله تعالى ملكاً نبياً؛ كولده سليمان عليهما السلام.
2 وفي صحيح الحديث: "وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم" وفيه معنى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْض} ، وأورد ابن كثير أحاديث في هذا المعنى وضعفها.
* في قول طالوت في رقم 1 من قتل جالوت: أشركه في ملكي وأزوجه ابنتي موجود نظيره في الإسلام. إذ للإمام أن يقول: من جاءني برأس فلان فله كذا، ومن دخل حصن كذا فله كذا وكذا.

الجزء الثالث
{تِلْكَ الرُّسُلُ1 فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ(253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ(254)}
شرح الكلمات:
{تِلْكَ الرُّسُلُ} : أولئك الرسل الذين قص الله تعالى على رسوله بعضاً منهم وأخبره أنه منهم في قوله: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} . في الآية قبل هذه.
{مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} : كموسى عليه السلام.
{وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} : وهو محمد صلى الله عليه وسلم حيث فضله2 تفضيلاً على سائر الرسل.
{الْبَيِّنَاتِ} : المعجزات الدالة على صدق عيسى في نبوته ورسالته.
{بِرُوحِ الْقُدُسِ} : جبريل عليه السلام كان يقف دائماً إلى جانب عيسى يسدده ويقويه إلى أن رفعه الله تعالى إليه.
{اقْتَتَلُوا} : قتل بعضهم بعضاً.
{أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} : النفقة الواجبة وهي الزكاة، ونفقة التطوع المستحبة.
__________
1 روى أحمد عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: أي الأنبياء كان أول؟ قال: "آدم" قلت: رسول ونبي كان؟ قال: "نعم نبي مكلم" ، قلت: يا رسول الله كم المرسلون؟ قال: "ثلاثمائة وبضعة عشر جماً غفيراً" .
2 شاهده قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" . ومع هذا زيادة في كماله قال: "لا تفضلوني على موسى" ، وقال على يونس بن متى: "فصلى الله عليّه ما أرفع مقامه" .

{لا بَيْعٌ فِيهِ}1 : لا يشتري أحد نفسه بمال يدفعه فداء لنفسه من العذاب.
{وَلا خُلَّةٌ} : أي: صداقة تنفع صاحبها.
{وَلا شَفَاعَةٌ} : تقبل إلا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى.
{وَالْكَافِرُونَ} : بمنع الزكاة والحقوق الواجبة لله تعالى ولعباده هم الظالمون.
معنى الآيتين:
بعد أن قص الله تبارك وتعالى على رسوله قصة ملأ بني إسرائيل في طلبهم نبيهم شمويل بأن يعين لهم ملكاً يقودهم إلى الجهاد، وكانت القصة تحمل في ثناياها أحداثاً من غير الممكن أن يعلمها أمي مثل محمد صلى الله عليه وسلم بدون ما يتلقاها وحياً يوحيه الله تعالى إليه وختم القصة بتقرير نبوته ورسالته بقوله: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}، أخبر الله تعالى أن أولئك الرسل فضل بعضهم على بعض، منهم من فضله بتكليمه كموسى عليه السلام، ومنهم من فضله بالخلة كإبراهيم عليه السلام، ومنهم من رفعه إليه وأدناه وناجاه وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من آتاه الملك2 والحكمة وعلمه صنعة الدروع كداود عليه السلام، ومنهم من آتاه الملك والحكمة وسخر له الجن وعلمه منطق الطير كسليمان عليه السلام، ومنهم من آتاه البينات وأيده بروح القدس وهو عيسى عليه السلام. فقال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ3 مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} كنبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذ فضله بعموم رسالته وبختم النبوات بنبوته، وبتفضيل أمته، وبإدخاله الجنة في حياته قبل مماته، وبتكليمه ومناجاته مع ما خصه من الشفاعة يوم القيامة. ثم أخبر تعالى أنه لو يشاء هداية الناس لهداهم فلم يختلفوا بعد رسلهم ولم يقتتلوا من بعد ما جائتهم البينات وذلك لعظيم قدرته، وحرية إرادته فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. هذا بعض ما أفادته الآية الأولى(253) أما الآية الثانية(254) فقد نادى الله تعالى عباده المؤمنين وأمرهم بالإنفاق في سبيل الله تقرباً إليه وتزوداً للقائه قبل يوم القيامة حيث لا
__________
1 قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} بالنصب من غير تنوين. وأنشد حسان، وهو شاهد هذه القراءة:
ألا طعان ولا فرسان عادية ... ألا تجشؤكم عند التنانير
يهجو ناساً فيصفهم بالقعود عن القتال وملازمة التنور للطعام.
2 الحكمة هنا: هي النبوة كما تقدم عن ابن كثير في: "نهر الخير".
3 هل يجوز للمسلم أن يقول مثل موسى أفضل من هارون، أو إبراهيم أفضل من عيسى مثلاً؟. الجواب: لا. لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تخيروا بين الأنبياء ولا تفضلوا بين أنبياء الله" ، أي: لا تقولون فلان خير من فلان، ولا فلان أفضل من فلان. إذ نحن لا نقدر على التفضيل، وإنما يقدر عليه الله وحده، إذ هو يهب ما يشاء لمن يشاء.

فداء ببيع وشراء، ولا صداقة تجدي ولا شفاعة تنفع، والكافرون بنعم الله وشرائعه هم الظالمون المستوجبون1 للعذاب والحرمان والخسران.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- تفاضل الرسل فيما بينهم بحسب جهادهم وصبرهم وما أهلهم الله تعالى له من الكمال.
2- صفة الكلام لله تعالى حيث كلم موسى في الطور، وكلم محمداً في الملكوت الأعلى.
3- الكفر والإيمان والهداية والضلال، والحرب والسلم كل ذلك تبع لمشيئته تعالى وحكمته.
4- ذم الاختلاف في الدين وأنه مصدر شقاء وعذاب.
5- وجوب الإنفاق في سبيل الله مما رزق الله تعالى عبده.
6- التحذير من الغفلة والأخذ بأسباب النجاة يوم القيامة حيث لا فداء ولا خلة تنفع ولا شفاعة ومن أقوى الأسباب الإيمان والعمل الصالح وإنفاق المال تقرباً إلى الله تعالى في الجهاد وغيره.
{اللَّهُ لا 2إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ(255)}
__________
1 قال القرطبي عند هذه الآية: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي: فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق المال، قال: وقال عطاء ابن دينار: الحمد لله الذي قال: الكافرون هم الظالمون، ولم يقل الظالمون هم الكافرون.
2 صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا المنذر –أبي بن كعب- أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟" قال: قلت الله لا إله إلا هو الحي القيوم. فضرب في صدري وقال: "ليهنك العلم يا أبا المنذر". وروى أحمد: "أن آية الكرسي تعدل ربع القرآن وأن الزلزلة والكافرون والنصر كل واحدة تعدل ربع القرآن، وأن الصمد تعدل ثلث القرآن".

شرح الكلمات:
{اللَّهُ} : علم على ذات الرب تبارك وتعالى.
{لا إِلَهَ إِلا هُوَ} : الإله المعبود، ولا معبود بحق إلا الله، إذ هو الخالق الرازق المدبر بيده كل شيء وإليه مصير كل شيء، وما عداه من الآلهة فعبادتها بدون حق فهي باطلة.
{الْحَيُّ}1 : ذو الحياة العظيمة التي لا تكون لغيره تعالى وهي مستلزمة للقدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر والكلام.
{الْقَيُّومُ}2 : القائم بتدبير الملكوت كله علويه وسفليه، القائم على كل نفس بما كسبت.
السِّنة : النعاس يسبق النوم.
{كُرْسِيُّهُ} : الكرسي: موضع القدمين، ولا يعلم كنهه إلا الله تعالى.
{يَؤُودُهُ} : يثقله ويشق عليه.
معنى الآية الكريمة:
لما أخبر تعالى عن يوم القيامة وأنه يوم لا بيع فيه ولا شفاعة وأن الكافرين هم الظالمون، أخبر عن جلاله وكماله وعظيم سلطانه وأنه هو المعبود بحق وأن عبادته هي التي تنجي من أهوال يوم القيامة فقال: { اللَّهُ لا 3إِلَهَ إِلا هُوَ} : أي: أنه الله المعبود بحق ولا معبود بحق سواه. {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} الدائم الحياة التي لم تسبق بموت ولم يطرأ عليها موت. القيوم: العظيم القيومية على كل شيء، لولا قيوميته على الخلائق ما استقام من أمر العوالم شيء {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ4} : إذ النعاس والنوم من صفات النقص وهو تعالى ذو الكمال المطلق. وهذه الجملة برهان على الجملة قبلها، إذ من ينعس وينام لا يتأتى له القيومية على
__________
1 الحي: أصلها الحيي؛ كالحذر فحذفت كسرة الياء الأولى فسكنت وأدغمت في الثانية فصارت الحي، والقيوم أصلها القيووم، فقلبت الواو الأولى ياء وأدغمت في الياء فصارت القيوم.
2 روى الترمذي وقال حديث حسن صحيح: "إن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " في هاتين الآيتين : {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، و { الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، إن فيهما اسم الله الأعظم " ورواه أبو داود، أيضاً.
3 هذه آية الكرسي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت" رواه النسائي وغيره.
4 ورد في الصحيح عن أبي موسى قال: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، وحجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" .

الخلائق ولا يسعها حفظاً ورزقاً وتدبيراً. {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} : خلقاً وملكاً وتصرفاً، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} : ينفي تعالى وهو الذي له ما في السموات وما في الأرض ينفي أن يشفع عنده في الدنيا أو في الآخرة أحد كائن من كان بدون أن يأذن له في الشفاعة. {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ1} : لكمال عجزهم. {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ2 السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} : لكمال ذاته. {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} : ولا يثقله أو يشق عليه حفظ السموات والأرض وما فيهما وما بينهما. {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} : العلي الذي ليس فوقه شيء والقاهر الذي لا يغلبه شيء، العظيم الذي كل شيء أمام عظمته صغير حقير.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية:
1- أنها أعظم آية في كتاب الله تعالى اشتملت على ثمانية عشر إسماً لله تعالى ما بين ظاهر ومضمر، وكلماتها خمسون كلمة وجملها عشر جمل كلها ناطقة بربوبيته تعالى وألوهيته وأسمائه وصفاته الدالة على كمال ذاته وعلمه وقدرته وعظيم سلطانه.
2- تستحب قراءتها بعد الصلاة المكتوبة، وعند النوم، وفي البيوت لطرد الشيطان.
{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(257)}
__________
1 هذا كناية عن إحاطة علم الله بكل شيء، إذ لا يعزب على علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وهو بكل شيء عليم، وأما الخلق فإنهم لا يعلمون إلا ما شاء أن يعلمهم إياه.
2 أورد ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر أحد قدره" رواه الحاكم موقوفاً وقال صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

شرح الكلمات:
{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} : لا يكره المرء على الدخول في الدين1، وإنما يعتنقه بإرادته واختياره.
{الرُّشْدُ}2 : الهدى الموصل إلى الإسعاد والإكمال.
{الْغَيِّ} : الضلال المفضي بالعبد إلى الشقاء والخسران.
{بِالطَّاغُوتِ}3 : كل ما صرف عن عبادة الله تعالى من إنسان أو شيطان أو غيرهما.
{بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}4 : لا إله إلا الله محمد رسول الله.
{لا انْفِصَامَ لَهَا} : لا تنفك ولا تنحل بحال من الأحوال.
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} : مُتوليهم بحفظه ونصره وتوفيقه.
{الظُّلُمَاتِ} : ظلمات الجهل والكفر.
{النُّورِ} : نور الإيمان والعلم.
{أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} : المتولون لهم الشياطين الذين زينوا لهم عبادة الأوثان فأخرجوهم من الإيمان إلى الكفر ومن العلم إلى الجهل.
معنى الآيتين:
يخبر الله تعالى بعد ذكر صفات جلاله وكماله في آية الكرسي أنه لا إكراه في دينه، وذلك حين أراد بعض الأنصار إكراه من تهود أو تنصر من أولادهم على الدخول في دين الإسلام، ولذا فإن أهل الكتابين ومن شابههم تؤخذ منهم الجزية ويقرون على دينهم فلا يخرجون منه إلا باختيارهم وإرادتهم الحرة، أما الوثنيون والذين لا دين لهم سوى الشرك والكفر فيقاتلون حتى يدخلوا في الإسلام إنقاذاً لهم من الجهل والكفر وما لازمهم من الضلال والشقاء.
ثم أخبر تعالى أنه بإنزال كتابه وبعثه رسوله ونصر أولياءه قد تبين الهدى من الضلال والحق من الباطل، وعليه فمن يكفر بالطاغوت وهو الشيطان الذي زين عبادة الأصنام ويؤمن بالله فيشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فقد استمسك5 من الدين بأمتن عروة وأوثقها، ومن يصر على الكفر بالله والإيمان بالطاغوت فقد تمسك بأوهى من خيط العنكبوت. والله
__________
1 الإكراه: الحمل على فعل المكروه، والدين هنا: الإسلام، وجملة "لا إكراه" خبر بمعنى الإنشاء.
2 يقال: رشد يرشد رشداً، ورشد يرشد رشداً، إذا اهتدى واستقام، وغوى ضده، وألغي مصدر من غوي يغوي، إذ ضل في معتقد أو رأي.
3 كان العرب في الجاهلية يسمون الصنم المعبود: الطاغية، وفي الحديث: "كان يهلون لمناة الطاغية".
4 الوثقى: مؤنث الأوثق، وجمع الوثقى: الوثائق، مثل: الفضلى، والفضل.
5 السين والتاء في استمسك للتأكيد كما في استجاب بمعنى: أجاب.

سميع لأقوال عباده عليم بنياتهم وخفيات أعمالهم وسيجزي كلاً بكسبه. ثم أخبر تعالى أنه ولي عباده المؤمنين فهو يخرجهم من ظلمات1 الكفر والجهل إلى نور العلم والإيمان فيكملون ويسعدون، وأن الكافرين أوليائهم الطاغون من شياطين الجن والإنس الذين حسنوا لهم الباطل والشرور، وزينوا لهم الكفر والفسوق والعصيان، فأخرجوهم بذلك من النور إلى الظلمات فأهلوهم لدخول النار فكانوا أصحابها الخالدين فيها.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- لا يكره أهل الكتابين ومن في حكمهم كالمجوس والصابئة على الدخول2 في الإسلام إلا باختيارهم وتقبل منهم الجزية فيقرون على دينهم.
2- الإسلام3 كله رشد، وما عداه ضلال وباطل.
3- التخلي عن الرذائل مقدم على التحلي بالفضائل.
4- معنى لا إله إلا الله، وهي الإيمان بالله والكفر بالطاغون.
5- ولاية الله تعالى تنال بالإيمان والتقوى.
6- نصرة الله تعالى ورعايته لأولياءه دون أعداءه.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(258)}
__________
1 وحد تعالى لفظ النور، وجمع لفظ الظلمة، لأن الحق واحد، والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة.
2 هل هذه الآية: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} منسوخة بآية السيف؟ الراجح أنها محكمة غير منسوخة هل تؤخذ الجزية من غير أهل الكتاب ومن لهم شبهة كتاب؟ أما كفار قريش، الإجماع على أن لا تؤخذ منهم الجزية، ومن عداهم مذهب مالك يرى أخذ الجزية منهم، والإبقاء عليهم، ولعل هذا إن دعت الضرورة إلى ذلك، وما ذكرته في التفسير أصح المذاهب وأعدلها.
3 جاء في صحيح البخاري ما ملخصه: أن عبد الله بن سلام رأى رؤيا كأنه في دوحة خضراء وفي وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء في أعلاه عروة.." الحديث وفسر له النبي صلى الله عليه وسلم: "الروضة بالإسلام، والعمود عمود الإسلام، والعروة هي العروة الوثقى". أي أنت على الإسلام حتى تموت. فكان مبشراً بالجنة رضي الله عنه.

شرح الكلمات:
{أَلَمْ تَرَ} : ألم ينته إلى علمك يا رسولنا، والاستفهام يفيد التعجب من الطاغية المحاج لإبراهيم.
{حَاجَّ} : جادل ومارى وخاصم.
{فِي رَبِّهِ} : في شأن ربه من وجوده تعالى وربوبيته وألوهيته للخلق كلهم.
{آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ1} : أعطاه الحكم والسيادة على أهل بلاده وديار قومهم.
{إِبْرَاهِيمُ} : هو أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام، وكان هذا الحجاج قبل هجرة إبراهيم إلى أرض الشام.
{فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} : انقطع عن الحجة متحيراً مدهوشاً ذاك الطاغية الكافر وهو النمرود البابلي.
معنى الآية الكريمة:
لما ذكر الله تعالى ولايته لأولياءه وأنه مؤيدهم وناصرهم ومخرجهم من الظلمات إلى النور ذكر مثالاً لذلك وهو محاجة النمرود2 البابلي لإبراهيم عليه السلام فقال تعالى مخاطباً رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} أي: لم ينته إلى علمك حجاج ذاك الطاغية الذي بطرته نعمة الملك الذي آتيناه امتحاناً له فكفر وادعى الربوبية وحاج خليلنا فبين إنه لأمر عجب. إذ قال له إبراهيم ربي الذي يحي ويميت، وأنت لا تحيي ولا تميت، فقال أنا أحيي3 وأميت، فرد عليه إبراهيم حجته قائلاً: ربي يأتي بالشمس من المشرق فآت بها أنت من المغرب، فاندهش وتحير وانقطع وأيد الله وليه إبراهيم فانتصر4، فهذا مثال لإخراج الله تعالى أولياؤه من ظلمة الجهل إلى نور العلم.
__________
1 إذ هو ملك بابل وقيل أنه أحد الأربعة الذين ملكوا المعمورة وهم مسلمان، وكافران، فالمسلمان: سليمان، وذو القرنين عليهما السلام. والكافران: النمرود، وبختنصر عليهما لعائن الرحمن.
2 يقال له النمرود بن كؤتن بن كنعان بن سام بن نوح عليه السلام، وفي الآية دليل على جواز إطلاق اسم الملك على الحاكم الكافر ولما حارب الله تعالى أهلكه مع جيشه بالبعوض إذ فتح عليهم باباً من البعوض فأكلت الجيش فلم تتركه إلا عظاماً، وأما النمرود فقد دخلت بعوضة في دماغه فصار يضرب على دماغه حتى هلك بذلك.
3 يريد أنه يحيي من أراد حياته، ويميت من أراد موته، وهذا مجرد تمويه وسفسطة فلذا عدل إبراهيم عنها وألزمه الحجة إن كان صادقاً في دعواه بالإتيان بالشمس من المغرب كما يأتي بها الله من المشرق.
4 يذكر أهل التفسير هنا أن إبراهيم ذهب يمتار من عند الملك كغيره فجادله الملك ومنعه الميرة فعاد بلا شيء وفي أثناء طريقه وجد رملاً أحمر فملأ منه غرارتين حتى لا يفاجئ أهله بالخيبة ولما وصل ونام قامت زوجته سارة ففتحت الغرارة فوجدتها دقيقاً من أجود الدقيق الحواري.

هداية الآية:
من هداية الآية:
1- النعم تبطر صاحبها إذا حرم ولاية الله تعالى.
2- نصرة الله لأولياءه وإلهامهم الحجة لخصم أعدائهم.
3-إذا ظلم العبد ووالى الظلم حتى أصبح وصفاً له يحرم هداية الله تعالى فلا يهتدي أبداً.
4- جواز المجادلة والمناظرة في إثبات العقيدة الصحيحة السليمة.
{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(259)}
شرح الكلمات:
{قَرْيَةٍ}1 : مدينة لم يذكر الله تعالى اسمها فلا يبحث عنها لعدم جدوى معرفتها.
{خَاوِيَةٌ} : فارغة من سكانها ساقطة2 عروشها على مبانيها وجدرانها.
{أَنَّى يُحْيِي} : كيف يحيي3.
__________
1 سميت القرية قرية: لاجتماع الناس فيها، مأخوذ من قريت الماء إذا جمعته، وهي في القرآن، المدينة الكبيرة، والمراد بها هنا بيت المقدس، وقد خربها الطاغية بختنصر ثم بعد سبعين سنة أعيد بناؤها كما كانت.
2 العريش: سقف البيت، وجمعه: عروش ، وهو كل ما يهيأ ليظل أو يكن من ينزل تحته، ومنه عريش الدالية، أي شجرة العنب، إذ يعرش لها عريش تمد عليه أغصانها لتتدلى منه عناقيدها.
3 اختلف فيمن هو المار على القرية، هل هو عزيز أو إرميا، أو الخضر، وأرجح الأقوال إنه عزيز، وما دام الله ورسوله لم يذكرا اسمه فلا داعي إلى ذكره، والتعرف إليه، ولذا لم أذكره في التفسير.

{بَعْدَ مَوْتِهَا} : بعد خوائها وسقوطها على عروشها.
{لَبِثْتَ} : مكثت وأقمت.
{لَمْ يَتَسَنَّهْ1} : لم يتغير بمر السنين عليه.
{آيَةً} : علامة على قدرة الله على بعث الناس أحياء يوم القيامة.
{نُنْشِزُهَا} : في قراءة ورش: ننشرها، بمعنى: نحييها بعد موتها. وننشزها: نرفعها ونجمعها لتكون حماراً كما كانت.
معنى الآية:
هذا مثل آخر معطوف على الأول الذي تجلت فيه على حقيقتها ولاية الله لإبراهيم حيث أيده بالحجة القاطعة ونصره على عدوه النمرود، قال تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ} فارغة من سكانها ساقطة سقوفها على مبانيها فقال المار بها مستبعداً حياتها مرة ثانية: كيف يحيي الله هذه القرية بعد خرابها؟ فأماته الله مائة عام ثم أحياه، وسأله: كم لبتث؟ قال: حسب عادة من نام في يوم واستيقظ فيه، فإنه يرى أنه نام يوماً أو بعض يوم، فأجابه مصوباً له فهمه: {بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} ، ولكي تقتنع بما أخبرت به، فانظر إلى طعامك وكان سلة من تين وشرابك وكان عصيراً من عنب فإنه لم يتغير طعمه ولا لونه، وقد مر عليه قرن من الزمن، و انظر إلى حمارك فإنه هلك بمرور الزمن ولم يبقى منه إلا عظامه تلوح بيضاء فهذا دليل قاطع على موته وفناؤه لمرور مائة سنة عليه، وانظر إلى العظام كيف نجمعها ونكسوها لحماً فإذا هي حمارك الذي كنت تركبه من مائة سنة، ونمت وتركته إلى جانبك يرتع، وتجلت قدرة الله تعالى في عدم تغير الذي جرت العادة أنه يتغير في ظرف يوم واحد، وهو سلة التين وشراب العصير. وفي تغير الذي جرت العادة أنه لا يتغير إلا في عشرات الأعوام، وهو الحمار. كما هي ظاهرة في موت صاحبهما وحياته بعد لبثه على وجه الأرض ميتاً لم يعثر عليه أحد طيلة مائة عام. وقال له الرب تبارك وتعالى بعد أن وقفه على مظاهر قدرته فعلنا هذا بك لنريك2 قدرتنا على إحياء القرية متى أردنا إحياءها ولنجعلك في قصتك هذه آية للناس،
__________
1 مشتق من السنة لأن مر السنين يوجب التغير فتسنه تغير بمر السنين عليه، مثل تحجر الطين صار حجراً بمرور الأيام أو الساعات عليه.
2 قوله تعالى: {وَلِنَجْعَلَكَ} قيل: الواو مقحمة، والأًصل: لنجعلك، وعلى أصالة الواو وعدم إقحامها يكون المعنى، أريناك ذلك لتعلم قدرتنا ولنجعلك آية للناس، فالواو عاطفة إذا وهو وظيفتها أي: العطف.

تهديهم إلى الإيمان بنا وتوحيدنا في عبادتنا وقدرتنا على البعث الآخر الذي لا ريب فيه لتجزى كل نفس بما كسبت، وأخيراً لما لاحت أنوار ولاية الله في قلب هذا العبد المؤمن الذي أثار تعجبه خراب القرية فاستبعد حياتها قال: أعلم1 أن الله على كل شيء قدير، فهذا مصداق قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ2 إِلَى النُّورِ}
هداية الآية
من هداية الآية:
1- جواز طروء استبعاد ما يؤمن به العبد أنه حق وكائن، كما استبعد هذا المؤمن المار بالقرية حياة القرية مرة أخرى بعد ما شاهد من خرابها وخوائها.
2- عظيم قدرة الله تعالى بحيث لا يعجزه تعالى شيء وهو على كل شيء قدير.
3- ثبوت البعث الآخر وتقريره.
4- ولاية الله تعالى للعبد المؤمن التقي تجلت في إذهاب الظلمة التي ظهرت على قلب المؤمن باستبعاده قدرة الله على إحياء القرية، فأراه الله تعالى من مظاهر قدرته ما صرح في قوله: {أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(260)}
__________
1 وقرئ: أعلم، والقائل له حينئذ الله تبارك وتعالى أو ملك من ملائكته، أو هو خاطب نفسه قائلاً لها اعلمي يا نفسي هذا العلم اليقيني الذي ما كنت تعلمينه.
2 لما قرر تعالى ولايته للذين آمنوا وإنه يخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم ذكر لذلك ثلاثة أحداث تجلى في كل واحد منها مصداق ما أخبر به، فالأول محاجة النمرود لإبراهيم وإعطاءه تعالى نور العلم الذي أسكت به المجادل الكافر النمرود. والثاني: استبعاد عزيز إحياء الله مدينة القدس بعد تدميرها وتخريبها فأراه الله من آياته ما أذهب عنه ما وجده في نفسه من استبعاد حياة تلك المدينة، والثالث: طلب إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، وقد أراه ذلك فأذهب به ما وجده إبراهيم من التطلع إلى معرفة ذلك.

شرح الكلمات:
{إِبْرَاهِيمُ} : هو خليل الرحمن أبو الأنبياء عليه السلام.
{لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} : يسكن ويهدأ من التطلع والتشوق إلى الكيفية.
{فَصُرْهُنَّ1 إِلَيْكَ} : أملهن واضممهن إليك وقطعهن أجزاء.
{سَعْياً} : مشياً سريعاً وطيراناً.
{عَزِيزٌ} : غالب لا يمتنع عنه ولا منه شيء أراده بحال من الأحوال.
{حَكِيمٌ} : لا يخلق عبثاً ولا يوجد لغير حكمة، ولا يضع شيئاً في غير موضعه اللائق به.
معنى الآية الكريمة:
هذا مثل ثالث يوجه إلى الرسول والمؤمنين حيث تتجلى لهم ولايته تعالى لعباده المؤمنين بإخراجهم من الظلمات إلى النور حتى مجرد ظلمة باستبعاد شيء عن قدرة الله تعالى، أو تطلع إلى كيفية إيجاد شيء ومعرفة صورته. فقال تعالى: اذكروا {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي2 الْمَوْتَى} . سأل إبراهيم ربه أن يريه طريقة الإحياء كيف تتم هل هي جارية على نواميس معينة أم هي مجرد قدرة يقول صاحبها للشيء كن فيكون، فسأله ربه وهو عليم به أتقول الذي تقول ولن تؤمن؟ قال إبراهيم: بلى أنا مؤمن بأنك على كل شيء قدير، ولكن أريد أن أرى صورة لذلك يطمئن لها قلبي ويسكن من التطلع والتشوق إلى معرفة المجهول لدي. فأمره تعالى إجابه له لأنه وليه فلم يشأ أن يتركه يتطلع إلى كيفية إحياء ربه الموتى، أمره بأخذ أربعة طيور3 وذبحها وتقطيعها أجزاء وخلطها مع بعضها بعضاً ثم وضعها على أربعة جبال4 على كل جبل ربع الأجزاء المخلوطة، ففعل، ثم أخذ برأس كل طير على حدة
__________
1 فسر: {صرهن} بأملهن وقطعهن كما في التفسير، والكل صحيح، إذ إما إمالتهن أولاً ثم تقطيعهن وشاهد أملهن في قول العرب: رجل أصور إذا كان مائل العنق. وامرأة صوراء، وجمع صور؛ كسوداء وسود، وعليه قول الشاعر:
الله يعلم أنا في تلفتنا ... يوم الفراق إلى جيراننا صور
وشاهد قطعهن قوله: صار الشيء يصوره إذا قطعه، ومنه قول الشاعر:
بنهضي وقد كاد ارتقائي يصورها
2 هذا السؤال والله ما كان عن شك من إبراهيم أبداً، وكيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" ، أي لو شك إبراهيم لكنا نحن أحرى بذلك لضعفنا ولكن ما شك إبراهيم، وكل ما طلبه زيادة اليقين برؤية كيفية الإحياء كيف تتم، فسلام على إبراهيم الخليل وعلى محمد في العالمين
3 يروى عن ابن عباس وبعض علماء السلف إنها كانت حمامة وديكاً وغراباً وطاووساً وليس في معرفتها كبير فائدة فلذا لم أذكرها في التفسير.
4 الجبل: قطعة عظيمة من الأرض أرسى الله تعالى بها الأرض حتى لا تضطرب وتتحرك ومنافعها كثيرة منها: أن بعض الناس يتخذونها حصوناً مانعة من وصول العدو إليهم. قال السموأل:
لنا جبل يحتله من نجيره ... منيع يرد الطرف وهو كليل
وهو أحد جبال طيء شمال الحجاز.

ودعاه فاجتمعت أجزائه المفرقة المختلطة بأجزاء غيره وجاءه يسعى فقدم له رأسه فالتصق به وطار في السماء وإبراهيم ينظر ويشاهد مظاهر قدرة ربه العزيز الحكيم. سبحانه لا إله غيره ولا رب سواه.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
1- غريزة1 الإنسان في حب معرفة المجهول والتطلع إليه.
2- ولاية الله تعالى لإبراهيم حيث أراه من آياته ما اطمئن به قلبه وسكنت له نفسه.
3- ثبوت2 عقيدة الحياة الثانية ببعث الخلائق أحياء بالحساب والجزاء.
4- زيادة الإيمان واليقين كلما نظر العبد إلى آيات الله الكونية، أو قرأ وتدبر آيات الله القرآنية.
{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ(263)}
__________
1 قالت العلماء: من غرائز الإنسان التي جبل عليها حبه معرفة المجهول والآية أكبر شاهد، إذ الخليل أحب أن يعرف كيفية إحياء الموتى.
2 إذ رؤية إبراهيم لكيفية إحياء الله تعالى الموتى من الطير أكبر دليل على قدرة الله تعالى على إحياء العباد يوم القيامة ومن هداية هذه الآية إراءه المشركين المنكرين للبعث الآخر هذه الحادثة العجيبة كأنهم يشاهدونها فتقوم بذلك الحجة عليهم وعلى كل منكر للبعث والحياة الآخرة.

شرح الكلمات:
{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ1} : صفتهم المستحسنة العجيبة.
{سَبِيلِ اللَّهِ} : كل ما يوصل إلى مرضاة الله تعالى من الإيمان وصالح الأعمال.
{يُضَاعِفُ} : يزيد ويكثر حتى يكون الشيء أضعاف ما كان.
{مَنّاً وَلا أَذىً} : المن2: ذكر الصدقة وتعدادها على من تصدق بها عليه على الوجه التفضل عليه. والأذى: التطاول على المتصدق عليه وإذلاله بالكلمة النابية أو التي تمس كرامته وتحط من شرفه.
{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} : كلام طيب يقال للسائل المحتاج، نحو: الله يرزقنا وإياكم، الله كريم. الله يفتح علينا وعليك.
{وَمَغْفِرَةٌ} : ستر على الفقير بعدم إظهار فقره، والعفو عن سوء خلقه إن كان كذلك.
{غَنِيٌّ} : غني ذاتي لا يفتقر معه إلى شيء أبداً.
{حَلِيمٌ} : لا يعاجل بالعقوبة بل يعفو ويصفح.
معنى الآيات:
يخبر تعالى مرغباً في الجهاد بالمال لتقدمه على الجهاد بالنفس؛ لأن العدة أولاً والرجال ثانياً، أن مثل ما ينفقه المؤمن في سبيل الله وهو هنا الجهاد، في نماءه وبركته وتضاعفه، كمثل حبة3 بر بذرت في أرض طيبة فأنبتت سبع4 سنابل في كل سنبلة مائة حبة فأثمرت الحبة الواحدة سبعمائة حبة، وهكذا الدرهم الواحد ينفقه المؤمن في سبيل الله يضاعف إلى سبعمائة
__________
1 ذكر القرطبي: أنه روي أن هذه الآية: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ} نزلت في شأن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، إذ عثمان جهز جيش العسرة في غزوة تبوك، وعبد الرحمن خرج بنصف ماله وهو أربعة آلاف، فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم: "بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت" .
2 المن: من كبائر الذنوب، إذ صاحبه أحد ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم "في صحيح مسلم" والمنان هو الذي لا يعطي شيئاً إلا منة.
3 الحب: اسم جنس لكل ما يزرعه الإنسان ويقتاته وأكثر ما يراد بالحب: البر، ومنه قول المتلمس:
أليت حب العراق الدهر أطعمه ... والحب يأكله في القرية السوس
والحبة بكسر الحاء: بذور البقول مما ليس بقوت، وفي حديث الشفاعة: "فينبتون كما تنب الحبة في حميل السيل" وحبة القلب سويدائه، والحب معروف ضد الكره.
4 في الآية: دليل على مشروعية الزراعة، وهي واجب كفائي وورد فيها: "التمسوا الرزق في خبايا الأرض" . رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها.

ضعف، وقد يضاعف إلى أكثر لقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} هذا ما تضمنته الآية الأولى(261)، وأما الآية الثانية(262) فهي تحمل بشرى الله تعالى للمنفقين في سبيله الذين لا يتبعون ما أنفقوه مناً به ولا أذى لمن أنفقوه عليه بأن لا خوف عليهم فيما يستقبلونه من حياتهم ولا هم يحزنون على ما يتركون وراءهم ويخلفون. وهذه هي السعادة حيث خلت حياتهم من الخوف والحزن حل محلها الأمن والسرور. وأخيراً الآية الثالثة(263) وهي: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ...} فإن الله تعالى يخبر بأن الكلمة الطيبة تقال للفقير ينشرح لها صدره وتطيب لها نفسه خير من مال يعطاه صدقة عليه يهان به ويذل فيشعر بمرارة الفقر أكثر، وألم الحاجة أشد، ومغفرة وستر لحالته وعدم فضيحته أو عفو عن سوء خلقه؛ كإلحاحه في المسألة، خير أيضاً من صدقة يفضح1 به ويعاتب ويشنع عليه بها، وقوله في آخر الآية: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} أي: مستغن عن الخلق حليم لا يعاجل بالعقوبة من يخالف أمره.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضل النفقة في الجهاد وإنها أفضل النفقات.
2- فضل الصدقات وعواقبها الحميدة.
3- حرمة المن بالصدقة وفي الحديث: "ثلاثة لا يدخلون الجنة..." وذكر من بينهم المنان.
4- الرد الجميل على الفقير إذا لم يوجد ما يعطاه، وكذا العفو عن سوء القول منه ومن غيره خير من الصدقة يتبعها أذى، وفي الحديث: "الكلمة الطيبة صدقة".
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ
__________
1 وصح عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "الكلمة الطيبة صدقة" وقوله: "ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق" ، قال: "لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا عاق لوالديه ولا منان".

تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(264)}
شرح الكلمات:
إبطال الصدقة1 : حرمان من ثوابها.
{بِالْمَنِّ2 وَالأَذَى} : تقدم معناهما.
{رِئَاءَ النَّاسِ} : مراءاة لهم ليكسب محمدتهم، أو يدفع مذمتهم.
{صَفْوَانٍ}3 : حجر أملس.
{وَابِلٌ}4 : مطر شديد.
{صَلْداً} : أملس ليس عليه شيء من التراب.
{لا يَقْدِرُونَ} : يعجزون عن الانتفاع بشيء من صدقاتهم الباطلة.
معنى الآية:
بعد أن رغب تعالى في الصدقات ونبه إلى ما يبطل أحرها وهو المن والأذى نادى عباده المؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا...} ناهياً عن إفساد صدقاتهم وإبطال ثوابها فقال: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} مشبهاً حال إبطال الصدقات بحال صدقات المرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر في بطلانها فقال: {وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ5 مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ6 الآخِرِ} وضرب مثلاً لبطلان صدقات من يتبع صدقاته مناً أو أذى أو يرائي بها الناس أو هو كافر لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر فقال: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ}
__________
1 قالت العلماء: إن الصدقة التي يعلم الله من صاحبها إنه يمن أو يؤذي بها فإنها لا تقبل، وهو كما قالوا: لأن الله تعالى قال: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} وإبطالها هو عدم قبولها وإذا لم تقبل فلا يعطي صاحبها ثواباً عليها وهو معنى لا تقبل.
2 يقال طعم الآلاء أحلى من المن، وهو أمرّ من الآلاء عند المن. الآلاء الأول: النعم، والثاني: شجر من الورق. والمن الأول: شيء يشبه العسل، والثاني: تذكير المنعم عليه بالنعمة.
3 الصفوان: واحدة صفوانه.
4 يقال: وبلت السماء تبل والأرض مبولة، ومنه قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} أي: شديداً.
5 إن الكافر قد يعطي المال ولكن ليراه الناس فيمدحوه ويشكروه وهذا عمل أهل الجاهلية الماضية والحاضرة أيضاً.
6 أي: إنفاقاً؛ كإنفاق الذي ينفق ماله رئاء الناس طلباً لمحمدتهم أو خوفاً من مذمتهم.

أي حجر أملس عليه تراب1، {فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً} أي:نزل عليه مطر شديد فأزال التراب عنه فتركه أملس عارياً ليس عليه شيء، فكذلك تذهب الصدقات الباطلة ولم يبق منها لصاحبها شيء ينتفع به يوم القيامة، فقال تعالى: {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} أي: مما تصدقوا به، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ2 الْكَافِرِينَ} إلى ما يسعدهم ويكملهم لأجل كفرانهم به تعالى.
هداية الآية:
من هداية الآية:
1- حرمة المن والأذى في الصدقات وفسادها بها.
2- بطلان صدقة المان والمؤذي والمرائي بهما.
3- حرمة الرياء وهي من الشرك لحديث: "وإياكم والرياء فإنه الشرك الأصغر" .
{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(266)}
__________
1 التراب على الصفوان: عندما يراه الفلاح يعجبه لنعومة التربة وصفائها فيبذر فيه رجاء أن يحصد ولكن إذا نزل عليه المطر الشديد وذهب به وبالبذر معه فيصاب صاحبه بخيبة الأمل، فكذلك المنفق رئاء الناس.
2 هذه الجملة زيل بها الكلام لتحمل تحذيراً شديداً للمؤمنين أن يسلكوا مسالك الكافرين في إنفاقهم وأعمالهم فإنها باطلة خاسرة.

شرح الكلمات:
المثل : الصفة المستملحة المستغربة.
{ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} : طلباً لرضا الله تعالى.
{وَتَثْبِيتاً}1 : تحقيقاً وتيقناً بمثوبة الله تعالى لهم على إنفاقهم في سبيله.
{جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ2} : بستان كثير الأشجار بمكان مرتفع.
{ضِعْفَيْنِ} : مضاعفاً مرتين، أو ضعفي ما يثمر غيرها.
الوابل : المطر الغزير الشديد.
الطل : المطر الخفيف.
{إِعْصَارٌ} : ريح عاصف فيها سموم.
معنى الآيتين:
لما ذكر الله تعالى خيبة المنفقين أموالهم رياء الناس محذراً المؤمنين من ذلك ذكر تعالى مرغباً في النفقة التي يريد بها العبد رضا الله وما عنده من الثواب الأخروي فقال ضارباً لذلك مثلاً: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} أي: طلباً لمرضاته {وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي: تحققاً وتيقناً منهم بأن الله تعالى سيثيبهم عليها مثلهم في الحصول ما أمّلوا من رضا الله وعظيم الأجر؛ كمثل جنة بمكان مرتفع عالٍ أصابها مطر غزير فأعطت ثمرها ضعفي ما يعطيه غيرها من البساتين، ولما كانت هذه الجنة بمكان عال مرتفع فإنها إن لم يصبها المطر الغزير فإن الندى والمطر اللين الخفيف كافٍ في سقيها وريها حتى تؤتي ثمارها مضاعفاً مرتين، وختم تعالى هذا الكلام الشريف بقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قواعد به المنفقين ابتغاء مرضاته وتثبيتاً من أنفسهم بعظم الأجر وحسن المثوبة، وأوعد به المنفقين الذين يتبعون ما أنفقوا بالمن والأذى والمنفقين رياء الناس بالخيبة والخسران.
كان هذا معنى الآية الأولى(265) وأما الآية الثانية(266) فإنه تعالى بسائل عباده تربية
__________
1 لقد اختلف في معنى: {وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ورجح ما فسرناه به في التفسير وهناك معنى آخر لطيف وهو: وتثبيتاً لأنفسهم على الإيمان وأفعال البر لأن الحسنة تلد الحسنة، فهم ينفقون أموالهم طلباً لرضوان الله وترويضاً منهم لأنفسهم على فعل الخير والإحسان.
2 الربوة: مثلثة الراء: المكان المرتفع.

لهم وتهذيباً لأخلاقهم وسموا بهم إلى مدارج الكمال الروحي فيقول: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ1} أي: أيحب أحدكم أيها المنفقون في غير مرضاة الله تعالى أن يكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار وله فيها من كل الثمرات والحال أنه قد تقدمت به السن وأصبح شيخاً كبيراً، ومع هذا العجز فإنه له ذرية صغاراً لا يقدرون على الكسب وجلب عيشهم بأنفسهم، وأصاب ذلك البستان الذي هو مصدر عيش الوالد وأولاده أصابه ريح عاتية تحمل حرارة السموم2 فأتت على ذلك البستان فأحرقته، كيف يكون حال الرجل3 الكبير وأولاده؟ هكذا الذي ينفق أمواله رئاء الناس يخسرها كلها في وقت هو أحوج إليها من الرجل العجوز وأطفاله الصغار، وذلك يوم4 القيامة، وأخيراً يمتن تعالى على عباده بما يبين لهم من الآيات في العقائد والعبادات والمعاملات والآداب ليتفكروا فيها فيهتدوا على ضوئها إلى كمالهم وسعادتهم فقال تعالى: {كَذَلِكَ} أي: كذلك التبيين {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ5} .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- استحسان ضرب الأمثال تقريباً للمعاني إلى الأذهان لينتفع بها.
2- مضاعفة أجر الصدقة الخالية من المن والأذى ومراءاة الناس.
3- بطلان صدقات المان والمؤذي والمرائي وعدم الانتفاع بشيء منها.
4- وجوب التفكر في آيات الله لا سيما تلك التي تحمل بيان العقائد والأحكام والآداب والأخلاق.
__________
1 الود: حب الشيء مع تمنيه.
2 ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "أبردوا بصلاتكم في الحر فإن شدة الحر من فيح جهنم" رواه البخاري وغيره.
3 روى الحاكم وذكره ابن كثير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول: "اللهم اجعل أوسع رزقك علي عند كبر سني وانقضاء عمري".
4 روى البخاري أن عمر رضي الله عنه سأل يوماً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} فقالوا: الله أعلم. فقال: قولوا : نعلم ولا نعلم. فقال عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. فقال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك. فقال: ضربت مثلاً لرجل غني يعمل بطاعة الله ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله.
5 أي: في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقاءها، وهذا لا يتنافى مع ما فسرنا به الآية. في التفسير.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ(267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ(269)}
شرح الكلمات:
{مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} : من جيد أموالكم وأصلحها.
{وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} : من الحبوب وأنواع الثمار.
{وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} : لا تقصدوا الرديء تنفقون منه.
{إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ1} : إلا أن تغضوا أبصاركم عن النظر في رداءته فتأخذونه بتساهل منكم وتسامح.
{حَمِيدٌ} : محمود في الأرض والسماء في الأولى والأخرى لما أفاض ويفيض من النعم على خلقه.
{يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} : يخوفكم من الفقر ليمنعكم من الإنفاق في سبيل الله.
{وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} : يدعوكم إلى ارتكاب الفواحش ومنها البخل والشح.
{الْحِكْمَةَ} : فهم أسرار الشرع، وحفظ الكتاب والسنة.
{أُولُو الأَلْبَابِ} : أصحاب العقول الراجحة المفكرة فيما ينفع أصحابها.
__________
1 يقال: أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورضي ببعض حقه وتجاوز، وما في التفسير فهو مأخوذ من تغميض العين لعدم رؤية العيب والرداءة، وقراءة الجمهور تشهد للمعنيين التجاوز، وتغميض العين.

معنى الآيات:
بعدما رغب تعالى عباده المؤمنين في الإنفاق في سبيله في الآية السابقة ناداهم هنا بعنوان الإيمان، وأمرهم بإخراج زكاة أموالهم من جيد ما يكسبون فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ1 آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ2 وَمِمَّا أَخْرَجْنَا} يريد الحبوب والثمار كما أن ما يكسبونه يشمل النقدين والماشية من إبل وبقر وغنم، ونهاهم عن التصدق بالرديء من أموالهم، فقال: {وَلا تَيَمَّمُوا3 الْخَبِيثَ مِنْه4ُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} يريد لا ينبغي لكم أن تنفقوا الرديء وأنتم لو أعطيتموه في حق لكم ما كنتم لتقبلوه لولا أنكم تغمضون وتتساهلون في قبوله، وهذا منه تعالى تأديب لهم وتربية. وأعلمهم أخيراً أنه تعالى غني عن خلقه ونفقاتهم فلم يأمرهم بالزكاة والصدقات لحاجة به، وإنما أمرهم بذلك لإكمالهم وإسعادهم، وأنه تعالى حميد محمود بماله من إنعام على سائر خلقه، كان هذا معنى الآية(267) أما الآية(268) فإنه تعالى يحذر عباده من الشيطان ووسواسه فأخبرهم أن الشيطان يعدهم الفقر5، أي: يخوفهم منه حتى لا يزكوا ولا يتصدقوا ويأمرهم بالفحشاء فينفقون أموالهم في الشر والفساد ويبخلون بها في الخير، والصالح العام، أما هو تعالى فإنه بأمره إياهم بالإنفاق يعدهم مغفرة ذنوبهم؛ لأن الصدقة تكفر الخطيئة، وفضلاً منه وهو الرزق الواسع الحسن، وهو الواسع الفضل العليم بالخلق. فاستجيبوا أيها المؤمنون لنداء الله تعالى، وأعرضوا عن نداء الشيطان فإنه عدوكم لا يعدكم إلا بالشر، يأمركم إلا بالسوء والباطل، كان هذا ما تضمنته الآية الثانية، أما الآية الثالثة(269) فإن الله تعالى يرغب في تعلم العلم النافع الذي يحمل على العمل الصالح، ولا يكون ذلك إلا علم الكتاب والسنة حفظاً وفهماً وفقهاً فيهما فقال
__________
1 قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ...} إلخ. اثنتان من الله تعالى، واثنتان من الشيطان. ويفسره حديث الترمذي إذ فيه قول صلى الله عليه وسلم: "إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك: فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ، ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ...} الآية.
2 الآية في الزكاة قطعاً، والنهي عن الإنفاق من الرديء يشمل الزكاة. والتطوع معاً.
3 روى الحاكم وصححه على شرط الشيخين في سبب نزول هذه الآية عن البراء قال: هذه الآية نزلت فينا، كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته فيأتي الرجل بالقنو فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام فكان أحدهم إذا جاع جاء فضربه بعصاه فيسقط من البسر والتمر فيأكل وكان أناس مما لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف والشيص فيعلقه فنزلت: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} الآية.
4 أي: من الخبيث الذي هو الرديء.
5 تفتح فاء الفقر، وتضم كالضعف والضُعف.

تعالى: {يُؤْتِي} أي: هو تعالى: {الْحِكْمَةَ مَنْ1 يَشَاءُ} من طلبها وتعرض لها راغباً فيها سائلاً الله تعالى أن يعلمه، وأخبر أخيراً أن من يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً2 فليطلب العاقل الحكمة قبل طلب الدنيا هذه تذكرة {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ}.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الزكاة في المال الصامت من ذهب وفضة وما يقوم مقامهما من العمل وفي الناطق من الإبل والبقر والغنم إذ الكل داخل في قوله: {مَا كَسَبْتُمْ} وهذا بشرط الحول3 وبلوغ النصاب.
2- وجوب الزكاة في الحرث: الحبوب والثمار وذلك فيما بلغ نصاباً، وكذا في المعادن إذ يشملها لفظ الخارج من الأرض.
3- قبح الإنفاق من الرديء وترك الجيد.
4- التحذير من الشيطان ووجوب مجاهدته بالإعراض عن وساوسه ومخالفة أوامره.
5- إجابة نداء الله والعمل بإرشاده.
6- فضل العلم على المال.
{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ(270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا4 هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ
__________
1 الحكمة: النبوة والقرآن والإصابة في الأمور بوضع كل شيء في موضعه، فأعلى الحكمة النبوة ثم القرآن والسنة. وفي الصحيح: "لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها" . واللفظ يشمل القرآن والسنة.
2 أصل الحكمة: إحكام الشيء وإتقانه، وعليه فحفظ القرآن والسنة وفهما والعمل بهما هو الحكمة، وفي الصحيح: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين". وورد: رأس الحكمة مخافة الله.
3 الحول: هو مرور سنة كاملة على زكاة النقدين والأنعام وعروض التجارة، والنصاب في الحبوب والثمار خمسة أوسق لحديث الصحيح: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" والوسق: ستون صاعاً، والصاع: أربعة أمداد. وفي النقدين: الذهب عشرون ديناراً ما يعادل سبعين غراماً، وفي الفضة: مائتا درهم: ما يعادل 460 غراماً، وفي الغنم أربعون شاة، وفي البقر ثلاثون بقرة، وفي الإبل خمس منها.
4 قوله تعالى: { فَنِعِمَّا هِيَ} ثناء على إبداء الصداقة وقوله: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ} حكم على أن الإخفاء خير من الإبداء، قال أحد الحكماء: إذا اصطنعت المعروف فاستره، وإذا اصطنع إليك فانشره. قال دعبل الخزاعي:
إذا انتقموا أعلنوا أمرهم ...
وإن أنعموا أنعموا باكتتام

فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(271)}
شرح الكلمات:
{مِنْ نَفَقَةٍ} : يريد قليلة أو كثيرة من الجيد أو الرديء.
{مِنْ نَذْرٍ} : النذر1: التزام المؤمن بما لم يلزمه به الشارع، كأن يقول: لله عليّ أن أتصدق بألف؛ أو أصوم شهراً أو أصلى كذا ركعة يقول: إن حصل2 لي كذا من الخير أفعل كذا من الطاعات.
{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} : أي تظهروها.
{فَنِعِمَّا هِيَ} : فنعم تلك الصدقة التي أظهرتموها لُيفتدى بكم بها.
{وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} : يكفر بمعنى: يسترها ولا يطالب بها، ومن للتبعيض إذ حقوق العباد لا تكفرها الصدقة.
معنى الآية الكريمة:
بعدما دعا تعالى عباده إلى الإنفاق في الآية السابقة أخبر تعالى أنه يعلم ما ينفقه عباده فإن كان المنفق جيداً صالحاً يعلمه ويجزي به وإن كان خبيثاً رديئاً يعلمه ويجزي به، وقال تعالى مخاطباً عباده المؤمنين: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ3} فما كان مبتغي به وجه الله ومن جيد المال فسوف يكفر به السيئات ويرفع به الدرجات، وما كان رديئاً ونذراً لغير الله تعالى فإن أهله ظالمون وسيغرمون أجر نفقاتهم ونذرهم لغير الله ولا يجدون من يثيبهم على شيء منها لأنهم ظالمون فيها حيث وضعوها في غير موضعها، {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} هذا ما تضمنته الآية الأولى(270).
__________
1 مما يجب علمه أنه شاع في العامة بين المسلمين النذر للأولياء والصالحين وهو محرم قطعاً إذ هو من شرك العبادة فبعضهم يقول يا سيدى فلان إن قضى الله حاجتي فعلت لك كذا، وآخر يقول: إن حصل لي كذا ذبحت لك أو جددت بناء قبتك أو أنرت ضريحك، فيجب أن ينهى عن هذا كله ويعلم من يفعله عن هذا كله ويعلم من يفعله أنه أشرك بعبادة ربه.
2 النذر المشروط مكروه لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "النذر لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من مال البخيل" . أو كما قال صلى الله عليه وسلم. أم النذر المطلق فهو قربة من أفضل القرب، وفي التفسير بيان لكل من المطلق والمشروط فانظره.
3 في الآية إبجاز بليغ إذ التقدير: وما أنفقتم من نفقة فإن الله يعلهما، أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه، فحذف من الأول لدلالة الأخير عليه تجنباً للتكرار المنافي لبلاغة الكلام .

أما الآية الثانية(271) فقد أعلم تعالى عباده المؤمنين أن ما ينفقونه لوجهه ومن طيب أموالهم علناً وجهراً هو مال رابح، ونفقة مقبولة يثاب عليها صاحبها، إلا أن ما يكون من تلك النفقات سراً ويوضع في أيدي الفقراء يكون خيراً لصاحبه لبعده من شائبة الرياء، ولإكرام الفقراء، وعدم تعريضهم لمذلة التصدق عليهم وإنه تعالى يكفر عن المنفقين سيئاتهم بصدقاتهم، وأخبر أنه عليم بأعمالهم فكان هذا تطميناً لهم على الحصول على أجور صدقاتهم، وسائر أعمالهم الصالحة.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- الترغيب في الصدقات ولو قلت والتحذير من الرياء فيها وإخراجها من رديء الأموال.
2- جواز إظهار الصدقة1 عن سلامتها من الرياء.
3- فضل صدقة السر وعظم أجرها، وفي الحديث الصحيح: " ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" ذكر من السبعة الذين يظلهم الله بظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ(272) لِلْفُقَرَاءِ2 الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
__________
1 صدقة التطوع الإسرار بها أفضل، ففي الحديث: "صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل" ، وفي الصحيح: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" . والصدقة الواجبة وهي الزكاة إعلانها من أفضل إسرارها. هذا ومرد القضية إلى حال المتصدق والمتصدق عليه فإن كان المتصدق بإعلانه يتبعه غيره ويكون كمن سن سنة حسنة فالإعلان أفضل وإن كان المتصدق عليه يخجل ويستحي من الصدقة عليه فالإسرار له أفضل من غيره.
2 من قال بوجوب صدقة الفطر: منع إعطائها لفقراء أهل الذمة، ومن قال بثنيتها دون وجوبها: قال يجوز، والصحيح إنها حق لفقراء المسلمين لانشغالهم بصلاة العيد وبالعبادة في رمضان، وأهل الذمة يعملون الليل والنهار.

لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ(273) الَّذِينَ1 يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(274)}
شرح الكلمات:
{هُدَاهُمْ} : هدايتهم إلى الإيمان وصالح الأعمال.
{مِنْ خَيْرٍ} : من مال.
{فَلأَنْفُسِكُمْ} : ثوابه العاجل بالبركة وحسن الذكر والأجل يوم القيامة عائد على أنفسكم.
{يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} : يرد أجره كاملاً لا ينقص منه شيء.
{أُحْصِرُوا} : حبسوا ومنعوا من التصرف لأنهم هاجروا من بلادهم.
{ضَرْباً فِي الأَرْضِ} : أي: سيراً فيها لطلب الرزق بالتجارة وغيرها لحصار العدو لهم.
{بِسِيمَاهُمْ} : علامات حاجتهم من رثاثة الثياب وصفرة الوجه.
{مِنَ التَّعَفُّفِ} : ترك سؤال الناس والكف عنه.
{إِلْحَافاً}2 : إلحاحاً وهو ملازمة السائل من يسأله حتى يعطيه.
معنى الآيات:
لما أمر تعالى بالصدقات ورغب فيها وسألها غير المؤمنين من الكفار واليهود فتحرج الرسول
__________
1 قيل نزلت في علي، إذ كان له أربعة دراهم فأنفقها على ما ذكر في الآية، والآية عامة في المنفقين من غير تبذير ولا تقتير وفي كل حالة تتطلب الإنفاق سواء بالليل أو بالنهار سراً أو علانية.
2 الإلحاح والإلحاف، والإحفاء مصادر ألح في السؤال، والحف وأحفى والإلحاف مشتق من اللحاف؛ لأنه يشتمل على الملتحق به، كذلك الإلحاف في السؤال؛ لأن المحلف يأتي أمام المسؤال ويأتي عن يمينه وعن شماله يسأله لا يفارقه حتى يعطيه أو يمنعه.

والمؤمنون من التصدق على الكافرين فأذهب الله تعالى عنهم هذا الحرج وأذن لهم بالتصدق على غير المؤمنين والمراد من الصدقة: صدقة التطوع لا الواجبة وهي الزكاة، فقال تعالى مخاطباً رسوله وأمته تابعة له: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} لم يوكل إليك أمر هدايتهم لعجزك عن ذلك، وإنما الموكل إليك بيان الطريق لاغير، وقد فعلت فلا عليك أن لا يهتدوا، ولو شاء الله هدايتهم لهداهم، وما تنفقوا من مال تثابوا عليه، سواء كان على مؤمن أو كافر إذا أردتم به وجه الله وابتغاء مرضاته، وأكد تعالى هذا الوعد الكريم بقوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} والحال أنكم لا تظلمون بنقص ما أنفقتم ولو كان النقص قليلاً. كان هذا معنى الآية الأولى(272)، أما الآية الثانية وهي: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ...} فقد بين تعالى فيها أفضل جهة ينفق فيها المال ويتصدق به عليها، وهي فقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم وأحصروا في المدينة بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيعون ضرباً في الأرض للتجارة ولا للعمل، ووصفهم تعالى بصفات يعرفهم بها رسوله والمؤمنون ولولا تلك الصفات لحسبهم لعفتهم وشرف نفوسهم الجاهل بهم أغنياء غير محتاجين، فقال تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} لا يسألون1 مجرد2 سؤال فضلاً عن أن يلحوا ويلحفوا. ثم في نهاية الآية أعاد تعالى وعده الكريم بالمجازاة على ما ينفق في سبيله، فقال: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} ولازمه أن يثيبكم عليه أحسن ثواب فابشروا واطمأنوا.
وأما الآية الثالثة(274) في آخر آيات الدعوة إلى الإنفاق جاءت تحمل أعظم بشر للمنفقين في كل أحوالهم بالليل والنهار سراً وعلانية بأن أجر نفقاتهم مدخر لهم عند ربهم يتسلمونه يوم يلقونه، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الدنيا والبرزخ والآخرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- جواز التصدق على الكافر المحتاج بصدقة التطوع لا الزكاة فإنها حق3 المؤمنين
__________
1 متى تحل المسألة؟ قال أحمد: إذا لم يكن للمرء ما يغديه ويعشيه جاز له السؤال، وقال: لا يسأل الرجل لغيره، ولكن يقول لغيره تصدقوا لقوله صلى الله عليه وسلم: "اشفعوا تؤجروا" .
2 أي لا يسألون بإلحاح ولا بدونه فهم لا يسألون غيرهم البتة.
3 شاهده قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن آخد الصدقة من أغنيائكم وأردها على فقرائكم" ، وشاهده في الصحيح: "خذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم" .

2- ثواب الصدقة عائد على المتصدق عليه فلذا لا يضر إن كان كافرا.
3- وجوب الإخلاص في الصدقة أي: يجب أن يراد بها وجه الله تعالى لا غير.
4- تفاضل أجر الصدقة بحسب فضل وحاجة المتصدق عليه.
5- فضيلة التعفف وهو ترك السؤال مع الاحتياج1، وذم الإلحاح في الطلب من غير الله تعالى أما الله عز وجل فإنه يحب الملحين في دعائه.
6- لا جواز التصدق بالليل والنهار وفي السر والعلن إذ الكل يثيب الله تعالى فعليه ما دام قد أريد به وجهه لا وجه سواه.
بشرى الله تعالى للمؤمنين المنفقين بادخار أجرهم عنده تعالى و نفي الخوف والحزن عنهم مطلقاً.
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(277)}
__________
1 من أعطى شيئاً من غير طلب ولا تشوف جاز له أخذه لحديث الصحيح: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عمر مالاً فقال عمر أعطه أفقر إليه مني. فقال صلى الله عليه وسلم: "خذه وما جاءك من المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك" .

شرح الكلمات:
{يَأْكُلُونَ الرِّبا1} : يأخذونه ويتصرفون فيه بالكل في بطونهم، وبغير الأكل، والربا هنا: ربا النسيئة وحقيقته أن يكون لك على المرء دين فإذا حل أجله ولم يقدر على تسديده تقول له: أخر وزد. فتؤخره أجلاً وتزيد في رأس المال قدراً معيناً، هذا هو ربا الجاهلية والعمل به اليوم في البنوك الربوية فيسلفون المرء مبلغاً إلى أجل ويزيدون قدراً آخر نحو العشر أو أكثر أو أقل، والربا حرام بالكتاب والسنة والإجماع وسواء كان ربا فضل2 أو ربا نسيئة.
{لا يَقُومُونَ} : من قبوهم يوم القيامة.
{يَتَخَبَّطُهُ3 الشَّيْطَانُ} : يضر به الشيطان ضرباً غير منتظم.
{مِنَ الْمَسِّ4} : المس: الجنون، يقال: بفلان مس من جنون.
{مَوْعِظَةٌ} : أمر أو نهي بترك الربا.
{فَلَهُ مَا سَلَفَ} : ليس عليه أن يرد الأموال التي سبقت توبته.
{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} : أي: يذهبه شيئاً فشيئاً حتى لا يبقى منه شيء؛ كمحاق القمر آخر الشهر.
{وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} : يبارك في المال الذي أخرجت منه، ويزيد فيه، ويضاعف أجرها أضعافاً كثيرة.
{كَفَّارٍ أَثِيمٍ} : الكفار: شديد الكفر، يكفر بكل حق وعدل وخير، أثيم: منغمس في الذنوب لا يترك كبيرة ولا صغيرة إلا ارتكبها.
__________
1 لغة الزيادة وشاهده الحديث: "والله ما أخذنا من لقمة إلا ربا من تحتها" أي: الطعام وعبر عن الأخذ بالأكل، لأن الأخذ يراد للأكل غالباً، وكل حرام قد يطلق عليه الربا تجوزاً.
2 ربا الفضل بيانه في حديث مسلم: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر والتمر بالملح بالملح مثل بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي سواء" . وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: "فإذا اختلفت الأجناس فيبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد" .
3 يقال: خطة وتخبطة كملكه وتملكه، وعبده وتعبده، والتخبط: الضرب في غير استواء، ومنهم قولهم: خبط عشواء.
4 أصل المس: اللمس باليد، ومن مسه الشيطان اختلط عقله وأصبح يصيح بسبب مس الشيطان له فيقال: فلان يصرع من الجن، أي: من مس الجن له، والشيطان من الجن، فالمرابي يقوم يوم القيامة من قبره كالمجنون الذي به مس الجن يصرع صرعه.

معنى الآيتين:
لما حث الله على الصد قات وواعد عليها بعظيم الأجر ومضا عف الثواب ذكر المرابين الذين يضاعفون مكاسبهم المالية بالربا وهم بذلك يسدون طرق البر، ويصدون عن سبيل المعروف فبدل أن ينموا أموالهم بالصدقات نموها بالربويات، فذكر تعالى حالهم عند القيام من قبورهم وهم يقومون، ويقعدون ويغفون1 ويُصرعون، حالهم من حال يصرع في الدنيا بمس الجنون، علامة يعرفون بها يوم القيامة كما يعرفون بانتفاخ بطونهم وكأنها خيمة مضروبة بين أيديهم. قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} , وذكر تعالى سبب هذه النقمة عليهم فقال: {ذَلِكَ} أي: أصابهم ذلك الخزي والعذاب بأنهم ردوا علينا حكمنا بتحريم الربا، وقالوا إنما البيع مثل الربا، إذ الربا الزيادة في نهاية الأجر، والبيع في أوله، ورد تعالى عليهم، فقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ2 وَحَرَّمَ الرِّبا} فما دام قد حرم الربا فلا معنى للاعتراض، ونسوا أن الزيادة في البيع هي في قيمة سلعة تغلو وترخص، وهي جارية على قانون الإذن في التجار، وأما الزيادة في آخر البيع فهي زيادة في الوقت فقط. ثم قال تعالى مبيناً لعباده سبيل النجاة محذراً من طريق الهلاك: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} وهي تحريمه تعالى للربا ونهيه عنه فانتهى عنه فله ما سلف قبل معرفته للتحريم، أو قبل توبته منه، وأمره بعد ذلك إلى الله إن شاء ثبته على التوبة فنجاه، وإن شاء خذله لسوء عمله، وفساد نيته فأهلكه وأرداه، وهذا معنى قوله تعالى: {اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . أخبر تعالى أنه بعدله يمحق3 الربا، وبفضله يربي الصدقات، وأنه لا يحب كل كفار لشرع الله وحدوده، أثيم بغشيانه الذنوب وارتكابه المعاصي. كان هذا معنى الآية الأولى(275)، أما الآية الثانية(276) فهي وعد رباني صادق وبشرى إلهية سارة لكل من آمن وعمل صالحاً وأقام الصلاة على الوجه الذي تقام به وآتي الزكاة بأن له أجره، وافٍ عند ربه يتسلمه يوم الحاجة إليه في عرصات القيامة وأنه لا يخاف مما يستقبله في الحياة الدنيا والآخرة ولا يحزن أيضاً في الدنيا ولا في الآخرة.
__________
1 قال ابن عطية: وأما ألفاظ الآية فيحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون لأن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه كما يقوم المسرع في مشيه يخلط في هيئة حركاته حتى يقال: قد جن هذا، ولكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود، إذا كان يقرأ: لا يقومون يوم القيامة مع –تظافر أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل.
2 في هذا دليل على أنه لا قياس مع، النص، فالمشركون قاسوا الربا على البيع فأبطل الله قياسهم؛ لأن الربا حرام فلا يقاس على البيع الحلال.
3 روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قل " أي: إلى قلة ونقصان.

هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان عقوبة آكل الربا يوم القيامة لاستباحتهم وأكلهم له، وعدم التوبة منه.
2- تحريم الربا وكل مال حرام لما جاء في الآية من الوعيد الشديد.
3- صفة الحب لله تعالى وأنه تعالى يحب أولياءه وهم أهل الإيمان به وطاعته ويكره أعداءه وهم أهل الكفر به ومعاصيه من أكل الربا وغيره من كبائر الذنوب.
4- حلية البيع إن تم على شروطه المبنية في كتب الفقه.
5- من تاب من الربا تقبل توبته، ويحل له ما أفاده منه قبل التوبة بشرط سيأتي في الآيات بعد هذه.
6- وعيد الله تعالى بمحق الربا ووعده بإرباء1 الصدقة.
7- بشرى الله تعالى لأهل الإيمان والعمل الصالح مع إقامتهم للصلاة وإيتائهم للزكاة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ(279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(281)}
شرح الكلمات:
{اتَّقُوا اللَّهَ} : خافوا عقابه بطاعته بأن تجعلوا طاعته وقاية تقيكم غضبه وعقابه.
__________
1 شاهده من الكتاب: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قل" ، وقوله: "إن العبد إذا تصدق من طيب يقبلها الله منه فيأخذها بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله، وإن الرجل يتصدق باللقمة فتربوا في يد الله -أو قال- في كف الله حتى تكون مثل أحد فتصدقوا" .

{وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} : اتركوا ما بقي عندكم من المعاملات الربوية.
{فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ} : اعلموا بحرب من الله ورسوله واحملوا سلاحكم ولاينفعكم1 سلاح فإنكم المهزومون الهالكون.
{فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} : بعد التوبة مالكم إلا رأس المال الذي عند المدين لكم فخذوه واتركوا زيادة الربا.
العسرة : الشدة والضائقة المالية.
{فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} : أي انتظار للمدين إلى أن ييسر الله عليه فيعطيكم رأس مالكم الذي أخذه منكم.
{وَأَنْ تَصَدَّقُوا} : وأن تتصدقوا على المعسر بترك ما لكم عليه فذلك خير لكم.
معنى الآيات:
بمناسبة ذكر عقوبة آكل الربا في الآيات السابقة نادى الله تعالى عباده المؤمنين آمراً إياهم بتقواه تعالى، وذلك بطاعته وترك معصيته، وبالتخلي عما بقي عند بعضهم من المعاملات الربوية مذكراً إياهم بإيمانهم إذ من شأن المؤمن الاستجابة لنداء ربه فعل ما يأمره به وترك ما ينهاه عنه فقال تعالى: {يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، ثم هذه المتباطئين بقوله: فإن لم تفعلوا فاعلموا بحرب2 قاسية ضروس من الله ورسوله، ثم بين لهم طريق التوبة وسبيل الخلاص من محنة الربا بقوله: وإن تبتم بترك الربا فلكم رؤوس3 أموالكم لا غير لا تظلمون بأخذ زيادة، ولا تظلمون بنقص من رأس مالكم. وإن وجد مدين لكم في حالة إعسار فالواجب انتظاره إلى ميسرته4، وشيء آخر وهو خير لكم أن تتصدقوا بالتنازل عن ديونكم كلها تطهيراً لأموالكم التي لامسها الربا وتزكية لأنفسكم من آثاره السيئة. ثم ذكر تعالى سائر عباده يوم القيامة وافيه من أهوال ومواقف
__________
1 قال ابن عباس رضي الله عنهما: "من كان مقيماً على الربى لا ينزع فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه".
2 حرمة الربا مجمع عليها، والأحاديث الواردة في تحريمه كثيرة جداً، أذكر منها، حديث مسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات" وذكر منها أكل الربا، وحديث أبي داود: "لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه" .
3 استدل بعض الفقهاء بهذه الآية على أن كل ما طرأ على البيع قبل القبض مما يوجب تحريم العقد أبطل العقد.
4 ورد في فضل إنذار المعسر أحاديث منها: "من أنظر معسرا كان له بكل يوم صدقة" . وقوله: "من سره أن ينجيه من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه" .

صعبة حيث يتم الحساب الدقيق وتجزي فيه كل نفس مؤمنة أو كافرة بارة أو فاجرة ما كسبته من خير وشر وهو لا يظلمون بنقص حسناتهم أو زيادة سيئاتهم فقال تعالى: { وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} وهذا التوجيه الذي حملته هذه الآية ذات الرقم (280) آخر توجيه تلقته البشرية من ربها تعالى إذ هذه آخر ما نزل من السماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب التوبة من الربا ومن كل المعاصي.
2- المصر على المعاملات الربوية يحب على الحاكم أن يحاربه1 بالضرب على يديه حتى يترك الربا.
3- من تاب من الربا لا يظلم بالأخذ من رأس ماله بل يعطاه وافياً كاملاً إلا أن يتصدق بالتنازل عن ديونه الربوية فذلك خير له حالاً ومآلاً.
4- وجوب ذكر الدار الآخرة والاستعداد لها بالإيمان والعمل الصالح وترك الربا والعاصي.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ2 آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ3 إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ
__________
1 قال ابن خويز منداد: "ولو أن أهل بلد اصطلحوا على الربا استحلالاً له كانوا مرتدين، والحكم فيهم كالحكم في أهل الردة، وإن لم يكن ذلك منهم استحلالاً، للإمام محاربتهم، ألا ترى أن الله تعالى قد أذن في ذلك فقال: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} .
2 قال ابن عباس رضي الله عنهما: "نزلت هذه الآية في السلم خاصة، يعني: إن سلم أهل المدينة كان سبب نزولها وهي عامة في كل الديون بلا خلاف.
3 رفع بلفظ: "يدين"، الاشتراك، إذ التداين معناه: دان بعضهم بعضا، إذا جازاه بعمله ومنه قولهم: "دناهم كما دنوا فلما قال بدين رفع المعنى العام وأصبح خاصاً بالتداين المالي.

أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(282)}
شرح الكلمات:
{تَدَايَنْتُمْ1} : داين بعضكم بعضاً في شراء أو بيع أو سلم أو قرض.
{إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً2} : وقت محدد بالأيام أو الشهور أو الأعوام.
{بِالْعَدْلِ} : بلا زيادة ولا نقصان ولا غش أو احتيال بالحق والإنصاف.
{وَلا يَأْبَ} : لا يمتنع الذي يحسن الكتابة أن يكتب.
{وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} : لأن إملاءه اعتراف منه وإقرار بالذي عليه من الحق.
{وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} : لا ينقص من الدين الذي عليه شيء ولو قل كفلس وليذكره كله.
__________
1 تداين: تفاعل من الدين، يقال: داينت الرجل، عاملته بدين معطيعاً أو آخذاً كما بايعته إذا بعته أو باعك.
2 ذكر الأجل المسمى يجعل الآية في بيع السلم لحديث الصحيح: "من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" . والسلم والسلف واحد. ويقال له: بيع المحاويج.

شرح الكلمات:
{سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً} : السفيه: الذي لا يحسن التصرفات المالية، والضعيف: العاجز عن الإملاء؛ كالأخرس، أو الشيخ الهرم.
{وَلِيُّهُ} : من يلي أمره ويتولى شؤونه لعجزه وقصوره.
{مِنْ رِجَالِكُمْ} : أي المسلمين الأحرار دون العبيد والكفار.
{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} : تنسى أو تخطئ لقصر إدراكها.
{وَلا تَسْأَمُوا} : لا تضجروا أو تملوا من الكتابة ولو كان الدين صغيراً مبلغه.
{أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} : أعدل في حكم الله وشرعه.
{وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} : أثبت لها وأكثر تقريراً؛ لأن الكتابة لا تنسى والشهادة تنسى أو يموت الشاهد أو يغيب.
{وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا1} : أقرب أن لا تشكوا بخلاف الشهادة بدون كتابة.
{تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} : أي: تتعاطونها، البائع يعطي البضاعة والمشتري يعطي النقود فلا حاجة إلى كتابتها ولا حرج أو إثم يترتب عليها.
{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} : إذا باع أحد أحداً داراً أو بستاناً أو حيواناً يشهد على ذلك البيع.
{وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} بأن يكلف مالاً يقدر عليه بأن يدعي ليشهد في مكان بعيد يشق عليه أو يطلب إليه أن يكتب زوراً أو يشهد به.
{فُسُوقٌ بِكُمْ} : أي: خروج عن طاعة ربكم لاحق بكم إثمه وعليكم تبعته يوم القيامة.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} : في أوامره فافعلوها، وفي نواهيه فاتركوها، وكما علمكم هذا يعلمكم كل ما تحتاجون فاحمدوه بألسنتكم واشكروه بأعمالكم، وسيجزيكم بها وهو بكل شيء عليم.
__________
1 روى أبو داود والترمذي أن أول من جحد آدم، إذ أراه الله تعالى ذريته فرأى رجلاً أزهر ساطع النور فسأل الله تعالى فقال: إنه داود . فقال: رب كم عمره؟ قال: ستون. قال: فزده من عمري أربعين ليكمل له مائة فزاده، وكان عمر آدم ألف سنة وكتب الله ذلك في كتاب ولما عاش آدم وحضرته الوفاة قال: رب بقي من عمري أربعون سنة. فقال الله تعالى: ألم تكن قد وهبتها لولدك داود. فجحد آدم فأخرج الكتاب قد شهد عليه الملائكة إلى أن الله تعالى وفى لآدم ألف سنة ولداود مائة. "نقلناه بالمعنى".

معنى الآية الكريمة:
لما حث تعالى على الصدقات وحرم الربا، ودعا إلى العفو على المعسر، والتصدق عليه بإسقاط الدين الأمر الذي قد يتبادر إلى الذهن أن المال لا شأن له ولا قيمة في الحياة فجاءت هذه الآية، آية الدين الكريمة لتعطي للمال حقه وترفع من شأنه فإنه قوام الحياة فقررت واجب الحفاظ عليه بكتابة الديون والإشهاد عليها بمن ترضى عدالتهم وكون الشهود رجلين مسلمين حرين، فإن انعدام رجل من الاثنين قامت امرأتان1 مقامه، واستحث2 الله تعالى من يحسن الكتابة أن يكتب إذا كان في سعة من أمره، وحرم على الشهود إذا ما دعوا لأداء الشهادة أن يتخلوا عنها، وحرم على المتداينين أن لا يكتبوا ديونهم ولو كانت صغيرة قليلة، فقال تعالى: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ} ، ورخص تعالى رحمة منه في عدم كتابة التجارة الحاضرة التي يدفع فيها السلعة في المجلس ويقبض الثمن فيه فقال: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا...} ، وأمر بالإشهاد على البيع فقال: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ...} ، ونهى عن الإضرار بالكاتب أو الشهيدين، بأن يلزم الكاتب أن يكتب إذا كان في شغله، أو الشاهد بأن يطلب منه أن يشهد وهو كذلك في شغله، أو أن يدعي إلى مسافات بعيدة تشق عليه إذ أمره تطوع وفعل خير لا غير فليطلب كاتب وشاهد غيرهما إذا تعذر ذلك منهما لانشغالهما. وحذر من كتمان الشهادة أو الحيف والجور في الكتابة والإضرار بالكاتب والشهيد فقال: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ...} وأكد ذلك بأمره بتقواه فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ...} بامتثال أمره ونهيه لتكملوا وتسعدوا وكما علمكم هذا العلم النافع ما زال يعلمكم وهو بكل شيء عليم. هذا معنى الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ...} .
هداية الآية
من هداية الآية:
1- وجوب كتابة الديون سواء كانت بيعاً، أو شراءً، أو سلفاً، أو قرضاً هذا ما قرره ابن جرير،
__________
1 الجمهور على أن اليمين تقوم مقام شاهد، أي: أن إن عدم الشاهد الثاني قضى القاضي بالشاهد واليمين التي يحلفها المطالب بالبينة ومن هنا إن وجد من الشهود امرأتان فقط اعتبرنا شاهداً وزيدت اليمين وقضى القاضي بذلك، وهذا في الأموال خاصة.
2 نعم إذا كان في سعة من أمره فليكتب على سبيل الندب، وإن لم يوجد غيره وجب عليه أن يكتب وفي قوله. {كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} أمر له أن يكتب الوثائق على طريقتها فلا يبدل ولا يغير، وفيه تذكير له بالنعمة إذ كان لا يعرف الكتابة فعلمه الله إذاً فليشكر الله هذه النعمة بالكتابة لمن طلبها منه.

ورد القول بالإرشاد والندب1.
2- رعاية النعمة بشكرها لقوله تعالى للكاتب: كما علمه الله فليكتب إذ علمه الكتابة وحرم غيره منها.
3- جواز النيابة في الإملاء لعجز عنه وعدم قدرة عليه.
4- وجوب العدل والإنصاف في كل شيء لا سيما في كتابة الديون المستحقة المؤجلة.
5- وجوب الإشهاد على الكتابة لتأكدها به، وعدم نسيان قدر الدين وأجله.
6- شهود2 المال لا يقلّون عن رجلين عدلين من الأحرار3 المسلمين لا غير، والمرأتان المسلمتان اللتان فرض شهادتهما تقومان مقام الرجل الواحد.
7- الحرص على كتابة الديون والعزم على ذلك ولو كان الدين صغيراً تافهاً.
8- الرخصة في عدم كتابة التجارة الحاضرة السلعة والثمن المدارة بين البائع والمشتري.
9- وجوب الإشهاد على بيع العقارات والمزارع والمصانع مما هو ذو بال.
10- حرمة الإضرار بالكاتب4 والشهيد.
11- تقوى الله تعالى بسبب العلم، وتُكسب المعرفة5 بإذن الله تعالى.
{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(283) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
__________
1 الأقرب إلى الصواب أن بعض الأمور تجب فيها الكتابة كبيع الدور والمزارع وغيرها وبعضها لا تجب وإنما تندب الكتابة لا غير.
2 كون الشهود لا يقلون عن اثنين هذا عام في كل شهادة إلا شهادة الزنى فإنهم لا يقلون عن أربعة أبداً.
3 اختلف في شهادة العبيد والصبيان والجمهور على عدم جواز شهادتهم إلا في الأمور التافهة فلا بأس بذلك.
4 قوله تعالى: {إذا ما دُعوا} دل على أن الشهود يأتون الحاكم ليشهدوا، ودل على أن من لم يدع ليس عليه أن يشهد، ولكن ورد في السنة الترغيب في أداء الشهادة ولو لم يدع إليها المسلم لا سيما إذا توقف على شهادته إثبات حق من الحقوق فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها" رواه الأئمة.
5 قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} هو وعد منه تعالى بأن يجعل للمتقي نوراً في قلبه يفهم به ما يلقى إليه ويفرق بين الحق والباطل يشهد لهذا قوله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} الأنفال.

وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(284)}
شرح الكلمات:
السفر : الخروج من الدار والبلد ظاهراً أو بعيداً بمسافة أربعة برد فأكثر.
{وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً} : من يكتب لكم، أو لم تجدوا أدوات الكتابة من دواة وقلم.
{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} : فاعتاضوا عن الكتابة الرهن فليضع المدين رهناً لدى الدائن.
{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} : فلا حاجة إلى الرهن.
فليؤد المؤتمن أمانته : أي: فليعط الدين الذي أؤتمن عليه حيث تعذرت الكتابة ولم يأخذ دائنه منه رهناً على دينه.
{آثِمٌ قَلْبُهُ} : لأن الكتمان من عمل القلب فنسب الإثم إلى القلب.
{وَإِنْ تُبْدُوا} : تظهروا.
معنى الآيتين:
لما أمر تعالى بالإشهاد والكتابة في البيوع والسلم والفروض في الآيات السابقة أمر هنا –عند تعذر الكتابة لعدم وجود كاتب أو أدوات الكتابة وذلك في السفر- أمر بالاستعاضة عن الكتابة بالرهن وذلك بأن يضع المدين رهناً لدى دائنه عوضاً عن الكتابة يستوثق به دينه هذا في حال عدم ائتمانه والخوف منه، وأما إن أمن بعضهم بعضاً فلا باس بعدم الارتهان فقال تعال: {وَإِنْ كُنْتُمْ1 عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ2...} والرهان جمع رهن3. وقال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} فلم تأخذوا رهاناً، {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} في ذلك. ثم
__________
1 الرهن جائز بالكتاب وهذه الآية نص في الرهن في السفر، وأما في الحضر فهو جائز بالسنة وإجماع الأمة، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً، فطلب اليهودي رهناً فرهنه درعه صلى الله عليه وسلم، فمات ودرعه مرهونة في ثلاثين صاعاً من شعير.
2 قوله: {مَقْبُوضة} دل على اشتراط القبض ولو بالوكالة ولو أن عدلاً من الناس وضع الرهن تحت يده جاز، إذ هو معنى القبض، ويجوز رهن ما في الذمة كأن يرهن المدين ديناً له ثابتاً في ذمة مالي معترف غير منكر، لأن الاستيثاق يحصل بذلك.
3 أصل الرهن الدوام، وشرعاً: حبس عين في دين لاستيفاء الدين من العين أو من منافعها إذا عجز المدين عن التسديد، ويجمع الرهن على رهان، ورهن.

نهى تعالى نهياً جازماً عن كتمان شهادتهم فقال: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ...} وبين تعالى عظم هذا الذنب فقال: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ1...} وأعلم أنه عليم بما يعملونه فيجازيهم بعلمه، وهو تهديد ووعيد منه سبحانه وتعالى لكاتمي الشهادة والقائلين بالزور فيها. هذا معنى الآية الأولى(282)، أما الآية الثانية(283) فإنه تعالى قد أخبر بأن له جميع ما في السموات وجميع ما في الأرض خلفاً وملكاً وتصرفاً، وبناء على ذلك فإن من يبدي ما في نفسه من خير أو شر أو يخفه يحاسب به، ثم هو تعالى بعد الحساب يغفر لمن يشاء من أهل الإيمان والتقوى، ويعذب من يشاء من أهل الشرك والمعاصي، له كامل التصرف؛ لأن الجميع خلقه وملكه وعبيده.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- جواز أخذ الرهن في السفر والحضر توثيقاً من الدائن لدينه.
2- جواز ترك أخذ الرهن2 إن حصل الأمن من سداد الدين وعدم الخوف منه.
3- حرمة كتمان الشهادة والقول بالزور فيها وأن ذلك من أكبر الكبائر كما في الصحيح.
4- محاسبة العبد بما يخفي في نفسه من الشك والشرك والنفاق وغير ذلك من بغض أولياء الله وحب لأعدائه، ومؤاخذته بذلك، والعفو عن الهم بالخطيئة والذنب دون الشك والشرك والحب والبغض من المؤمن الصادق الإيمان للحديث الصحيح الذي أخرجه الستة: "إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل" .
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ3 بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا
__________
1 القول محذوف، أي: يقولون: لا تفرق، وهذا الحذف للقول شائع نحو: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي: يقولون: سلام عليكم، {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} أي: يقولون: ربنا... إلخ.
2 إذا كان الرهن دابة تركب أو شاة تحلب أو داراً تسكن أو نخلاً بتمر، فعلى المرتهن نفقة علف الدابة والشاة، مقابل الركوب واللبن، وإن سكن الدار دفع أجرتها، وإن جز التمر أخذه بثمنه لحديث: "لا تغلق الرهن لصاحبه غنمه وعليه غرمه" .
3 قال العلماء: "إثم القلب: سبب مسخه".

وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ(285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(286)}
شرح الكلمات:
{آمَنَ} : صدق جازماً بصحة الخبر ولم يتردد أو يشك فيه قط.
{الرَّسُولُ} : نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
{كُلٌّ} : كل من الرسول والمؤمنين.
{لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ1} : نؤمن بهم جميعاً ولا نكون؛ كاليهود والنصارى نؤمن ببعض ونكفر ببعض.
{سَمِعْنَا} : سماع فهم واستجابة طاعة.
{الْمَصِيرُ} : المرجع: أي رجوعنا إليك يا ربنا فاغفر لنا.
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً2} : التكليف: الإلزام مما فيه كلفة ومشقة تحتمل.
{إِلا وُسْعَهَا3} : إلا ما تتسع لها طاقتها ويكون في قدرتها.
{لَهَا مَا كَسَبَتْ} : من الخير.
{وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} : من الشر.
__________
1 قرئ: {ورسله} بإسكان السين تخفيفاً، وهو شائع في تخفيف المتحرك للسكون نحو: عنق.
2 روى القرطبي عن أبي هريرة أنه قال: ما وددت أن أحداً ولدتني أمه إلا جعفر أبي طالب، فإني تبعته يوماً وأنا جائع فلما بلغ منزله فلم يجد فيه سوى نحي سمن قد بقي فيه أثاره فشق بين أيدينا فجعلنا نلعق ما فيه من السمن ونربه، وهو يقول: ما كلف الله نفساً فوق طاقتها: ولا تجود يد إلا بما تجد. الرب بضم الراء: ما يطبخ من التمر.
3 وسواس الصدر مما لا طاقة للعبد بدفعه بحال وقد سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال، ما رواه مسلم عن علقمة بن عبد الله قال: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة، قال: "تلك صريح الإيمان" .

{لا تُؤَاخِذْنَا} : لا تعاقبنا.
{إِنْ نَسِينَا} : فتركنا ما أمرتنا به أو فعلنا ما نهيتنا عنه نسياناً منا غير عمد.
{أَوْ أَخْطَأْنَا} : فعلنا غير ما أمرتنا خطأ منا بدون إرادة فعل منا له ولا عزيمة.
{إِصْراً}1 : تكليفاً شاقاً يثقل علينا وياسرنا فيحبسنا عن العمل.
{مَوْلانَا} : مالكنا وسيدنا ومتولي أمرنا لا مولى لنا سواك.
معنى الآيتين:
ورد أنه لما نزلت الآية(284) {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ...} وفيها {...وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ...} اضطربت لها نفوس المؤمنين، وقالوا من ينجو منا إذا كنا نؤاخذ بما يخفى في أنفسنا من الهم والوسواس وحديث النفس فأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالرضا بحكم الله تعالى والتسليم به فقال لهم: "قولوا سمعنا وأطعنا ولا تكونوا كاليهود : {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا...} فلما قالوها صادقين أنزل الله تعالى هاتين الآيتين: {آمَنَ الرَّسُولُ...} فأخبر عن إيمانهم مقروناً بإيمان نبيهم تكريماً لهم وتطميناً فقال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ2 بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ...} وأخبر عنهم بقولهم الذي كان سبب استجابة الله تعالى لهم فقال عنهم: {... وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} وأخبرهم تعالى أنه لرحمته بهم وحكمته في تصرفه في خلقه لا يكلف نفساً إلا ما تتسع له طاقتها وتقدر على فعله، وإن لها ما كسبت من الخير فتجزى به خيراً وعليها ما اكتسبت من الشر فتجزى به شراً إلا أن يعفو عنها ويعفر لها فقال: {لا يُكَلِّفُ3 اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ...} وعلمهم كيف يدعونه ليقول لهم قد فعلت، كما صح به الخبر فقال قولوا: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ4} وفعلاً
__________
1 الإصر: الأمر الغليظ الصعب أو هو الذنب الذي ليس فيه توبة ولا كفارة ويطلق الإصر على العهد ومنه: {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} أي: عهدي وميثاقي، لأن الإصر يطلق على الحبل الذي تربط الأحمال ونحوها.
2 روى مسلم عن ابن عباس لما نزلت: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ...} الآية، قال: دخل قلوبهم منها شيء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا". قال: فألقى الله في قلوبهم الإيمان فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل قوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} الآية.
3 ورد في فضل خاتمة البقرة أحاديث كثيرة منها: قوله صلى الله عليه وسلم: "أوتيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن نبي قبلي" .

قد عفا عنهم في النسيان والخطأ وخفف عنهم في التشريع فما جعل عليهم في الدين من حرج، وعفا عنهم وغفر لهم ورحمهم ونصرهم على الكافرين بالحجة والبيان وفي المعارك بالسيف والسنان فله الحمد والمنة وهو الكبير المتعال.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- تقرير أركان الإيمان وهي الإيمان وملائكته وكتبه ورسله.
2- وجوب الإيمان بكافة الرسل وحرمه الإيمان ببعض وترك البعض وهو كفر والعياذ بالله تعالى,
3- وجوب طاعة الله ورسوله والتسليم والرضا بما شرع الله ورسوله وحرمة رد شيء من ذلك.
4- رفع الحرج1 عن هذه الأمة رحمة بها.
5- عدم المؤاخذة بالنسيان2 أو الخطأ فمن نسي وأكل أو شرب وهو صائم فلا إثم عليه أو أخطأ فقتل فلا إثم عليه.
6- العفو عن حديث النفس3 لنزول الآية فيه ما لم يتكلم المؤمن أو يعمل.
7- تعليم هذا الدعاء واستحباب الدعاء به إئتساء بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقد ورد من قرأ هاتين الآيتين4 عند النوم كفتاه {آمَنَ الرَّسُولُ...} السورة.
__________
1 شاهده قوله تعالى من سورة الحج: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} .
2 حديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" . أي: رفع إثمه. أما أحكامه، ففيها تفصيل: فالغرامات لا تسقط، فمن كسر آنية خطأ أو نسياناً يغرمها لصاحبها، ومن نسى صلاة مفروضة قضاها، ومن قتل خطأ دفع الدية ويسقط القصاص بالخطأ، كما يسقط الكفر بالنطق خطأ وسهواً.
3 شاهده حديث: "إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل" . رواه الجماعة.
4 لحديث مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه" . أي: من قام الليل لحديث: "من قرأ بعد العشاء مرتين أجزأتاه من قيام الليل، وكفتاه من شر الشيطان، فلا يكون له عليه سلطان" .

سورة آل عمران
...
سورة آل عمران1
مدنية
وآياتها مائتا آية بلا خلاف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{الم(1) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ(2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
__________
1 صدر هذه السورة إلى ثلاث وثمانين آية نزلت في وفد نجران سنة تسع من الهجرة.

بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ والإنجيل(3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ(4) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ(5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(6)}
شرح الكلمات:
{الم} : تقدم الكلام على مثله من سورة البقرة فليرجع إليه هناك.
{اللَّهُ} : المعبود بحق1.
{لا إِلَهَ إِلا هُوَ} : لا معبود بحق سواه.
{الْحَيُّ}: ذو الحياة المستلزمة للإرادة والعلم والسمع والبصر والقدرة.
{الْقَيُّومُ} : القيم على كل مخلوقاته بالتربية والرعاية والحفظ.
{الْكِتَابَ} : القرآن.
{بِالْحَقِّ} : متلبساً به إذ كل ما فيه حق وصدق لا باطل فيه بأي وجه من الوجوه.
{مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ2} : من الكتب السابقة لا يخالفها ولا يبطلها؛ لأن مصدر الجميع واحد هو الله تعالى.
{التَّوْرَاةَ}3 : كتاب موسى عليه السلام ومعناه بالعبرية الشريعة4.
__________
1 الله: اسم علم على ذات الرب تبارك وتعالى ومعناه: الإله الحق الذي لا يستحق العبادة سواه، ولذا فسرناه في التفسير بأنه المعبود الحق لكونه الإله الحق الذي لا يعبد بحق غيره.
2 معنى بين يديه: أنها تقدمته في النزول فكانت كأنها أمامه وهو وراءها، وهو معنى: بين يديه.
3 اختلف في لفظ التوراة هل هو مشتق من ورى الزند إذا أوقد به النار فهي لنور الهداية فيما سميت التوراة، أو هي معربة عن كلمة: "طورا" العبرية، ومعنى طورا: الهدي، وعلى كل حال فهذا علم لا ينفع وجهالة لا تضر.
4 وهي عند اليهود: خمسة أسفار: سفر التكوين، سفر الخروج، وسفر اللاويين، وسفر العدد، وسفر تثنية الاشتراع.

{وَالأِنْجِيلَ}1 : كتاب عيسى عليه السلام ومعناه باليونانية: التعليم الجديد2.
{الْفُرْقَانَ}3 : ما فرق الله به بين الحق والباطل من الحجج القرآنية والمعجزات الإلهية والعقول النيرة البشرية التي لم يغلب عليها التقليد والجمود والهوى.
{يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ} : التصوير إيجاد الصورة للشيء لم تكن له من قبل، والأرحام: جمع رحم: مستودع الجنين.
معنى الآيات:
أخرج ابن جرير الطبري بأسانيد صحيحة أن وفد4 نجران والمكون من ستين راكباً فيهم أشرافهم وأهل الحل والعقد منهم، وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاجونه في أمر المسيح عليه السلام، ويريدون أن يثبتوا إلهيته بالإدعاء الباطل فأنزل الله تعالى نيفاً وثمانين آية من فاتحة السورة {ألم} إلى ما يقرب الثمانين. وذلك رداً لباطلهم، وإقامة للحجة عليهم، وسيلاحظ هذا المتدبر للآيات ويراه واضحاً جلياً في السياق القرآني في هذه الآيات.
فقد قال تعالى: {الم، اللَّهُ لا إِلَهَ5 إِلا هُوَ} فأخبر أنه تعالى لا معبود بحق إلا هو، فأبطل عبادة المسيح عليه السلام وعبادة كل معبود سوى الله تعالى من سائر المعبودات، وقال: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فذكر برهان استحقاقه للعبادة دون غيره، وهو كونه تعالى حياً أزلاً وأبداً وكل حي غيره مسبوق بالعدم ويلحقه الفناء. فلذا لا يستحق الألوهية إلا هو عز وجل. والمسيح عليه السلام مسبوق بالعدم ويلحقه الفناء فكيف يكون إلهاً؟ وقال تعالى القيوم أي القائم على كل الخلق بالتربية والرعاية والحفظ والتدبير والرزق، وما عداه فليس له ذلك بل هو مربوب مرزوق فكيف يكون إلهاً مع الله؟ ودليل ذلك أنه نزل عليك الكتاب: القرآن بالحق مصحوباً به ليس فيه
__________
1 الإنجيل، قيل: معناه الأصل، إذ هو أصل العلوم والحكم، وجمعه: أناجيل، وجمع التوراة: توارٍ.
2 ويطلق الإنجيل على أربعة كتب: إنجيل يوحنا، ومرقص، ولوقا، وبرنابا.
3 وفسر الفرقان بالقرآن، وهو حق لقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} ، وسمي فرقاناً لأنه فرق بين الحق والباطل.
4 كان مجيء هذا الوفد في السنة التاسعة من الهجرة التي هي عام الوفود، ولذا كان آخر السورة متقدماً في النزول عن أولها، إذ آخرها كان في غزوة أحد، وكانت في السنة الثالثة.
5 قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} هذه الجملة مع جملة: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} قيل: أن فيهما اسم الله الأعظم.

من الباطل شيء فآياته كلها مثبتة للألوهية لله نافية لها عما سواه، فكيف يكون المسيح إلهاً مع الله أو يكون هو الله، أو ابن الله كما يزعم نصارى نجران وغيرهم من نصارى اليونان والرومان وغيرهم نزله مصدقاً لما بين يديه من الكتب التي سبقته لا يخالفها ولا يتناقض معها، فدل ذلك أنه وحي الله، وأنزل من قبله التوراة والإنجيل هدى للناس وأنزل الفرقان1 ففرق به بين الحق والباطل في كل ما يلبس أمره على الناس فتبين أن الرب الخالق الرازق المدبر للحياة المحيي المميت الحي الذي لا يموت هو الإله الحق وما عداه مربوب مخلوق لا حق له في الإلوهية والعبادة وإن شفى مريضاً أو أنطق أبكم أو أحيا ميتاً بإذن الله تعالى فإن ذلك لا يؤهله لأن يكون إلهاً مع الله؛ كعيسى بن مرين عليه السلام فإن ما فعله من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى كان بقدرة الله وإذنه بذلك لعيسى وإلا لما قدر على شيء من ذلك شأنه شأن عباد الله تعالى، ولما رد الوفد ما حاجهم به الرسول وأقام به الحجة عليهم تأكد بذلك كفرهم فتوعدهم الرب تعالى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ2 شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} وهذا وعيد شديد لكل من كذب بآيات الله وجحد بالحق الذي تحمله من توحيد الله تعالى ووجوب طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ } فلو كان هناك من يستحق الألوهية معه لعلمه وأخبر عنه، كما قرر بهذه الجملة أن عزته تعالى لا ترام وأنه على الانتقام من أهل الكفر به لقدير. وذكر دليلاً آخر على بطلان ألوهية المسيح فقال: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ3} وعيسى عليه السلام قد صور في رحم مريم فهو قطعاً ممن صور الله تعالى، فكيف يكون إذاً إلهاً أو إبناً لله كما زعم النصارى؟ وهنا قرر الحقيقة فقال: {لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فالعزة التي لا ترام والحكمة التي لا تخطئ هما مقتضيات ألوهيته الحقة التي لا يجادل فيها إلا مكابر ولا يجاحد فيها إلا معاند؛ كوفد نصارى نجران ومن على شاكلتهم من أهل الكفر والعناد.
__________
1 الفرقان: وإن أطلق على القرآن لكونه فرق بين الحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشاد، فإنه يطلق على كل ما يفرق بين الهدى والضلال؛ كالمعجزات، وما يحصل للمؤمن المتقي من نور يفرق بين الضار والنافع، والخطأ والصواب.
2 التنوين في عذاب: للتفخيم، والشديد هو الذي لا يقادر قدره.
3 أي: من حسن وقبح وسواد وبياض وطول وقصر، وعاهة وسلامة وسعادة وشقاء.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير ألوهية الله تعالى بالبراهين ونفي الألوهية1 عن غيره من سائر خلقه.
2- ثبوت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بإنزال الله تعالى الكتاب عليه.
3- إقامة الله تعالى الحجة على عباده بإنزال كتبه والفرقان فيها الحق والباطل في كل شؤون الحياة.
4- بطلان ألوهية المسيح؛ لأنه مخلوق مصور في الأرحام كغيره صوره الله تعالى على ما شاء فكيف يكون بعد ذلك إلهاً مع الله2 أو ابناً له تعالى عن ذلك علواً كبيرا.
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ3 عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ(7) رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ(8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ(9)}
__________
1 أي: بالبراهين كذلك.
2 ضلال النصارى أعظم ضلال وأسوأه، إذ كيف يعقل أن يكون عيسى إلهاً وقد قتل وصلب في اعتقادهم، وكيف يكون إلهاً وهو ابن امرأة اسمها مريم، وهم يعترفون بذلك، فسبحان الله أين تذهب عقول العقلاء؟.
3 أخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلى : {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ} إلى: {أوليِ الأَلْبَابْ} ثم قال: "إذا رأيتم الذين يبتغون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله: فاحذروهم" .

شرح الكلمات:
{مُحْكَمَاتٌ1} : الظاهرة الدلالة البينة المعنى التي لا تحتمل إلا معنى واحداً، وذلك كآيات الأحكام من حلال وحرام وحدود، وعبادات، وعبر وعظات.
{مُتَشَابِهَاتٌ} : غير ظاهرة الدلالة محتملة لمعان يصعب على غير الراسخون في العلم القول فيها وهي كفواتح السور، وكأمور الغيب2. ومثل قول الله تعالى في عيسى عليه السلام: {...وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ3 وَرُوحٌ مِنْهُ...} وكقوله تعالى: {...إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ 4..} .
{فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} : الزيغ: الميل عن الحق بسبب شبهة أو شهوة أو فتنة.
{ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} :أي: طلباً لفتنة المؤمنين في دينهم ومعتقداتهم.
{وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} : طلباً لتأويله ليوافق معتقداتهم الفاسدة.
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} : وما يعلم ما يؤول إليه أمر المتشابه إلا الله منزله.
{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ5} : هم أهل العلم اليقيني في نفوسهم الذين رسخت أقدامهم في معرفة الحق فلا يزلون ولا يشتطون في شبهة أو باطل.
{كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} : أي المحكم والمتشابه فنؤمن به جميعاً.
{إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} : أصحاب العقول الراجحة والفهوم السليمة.
{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا6} : أي: لا تمل قلوبنا عن الحق بعدما هديتنا إليه وعرفتنا به فعرفناه.
{وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} : أعطنا من عندك رحمة.
__________
1 قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: المحكمات، أي: في القرآن ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره، والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله تعالى بعلمه دون خلقه.
2 قال بعضهم: وذلك مثل وقت قيام الساعة وخروج يأجوج ومأجوج والدجال ونزول عيسى، ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور.
3 سورة النساء: 171.
4 سورة الأنعام: 57.
5 روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن الراسخين في العلم: "هو من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه" .
6 سئلت أم سلمة رضي الله عنها في حديث حسن رواه الترمذي عن ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها فقالت: "كان أكثر دعاؤه: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" .

معنى الآيات:
ما زال تعالى يقرر ربوبيته وألوهيته ونبوة رسوله ويبطل دعوى نصاري نجران في ألوهية المسيح عليه السلام، فيقول: هو أي: الله الحي القيوم الذي أنزل عليك الكتاب، أي: القرآن منه آيات محكمات، لا نسخ فيها ولا خفاء في معناها ولا غموض في دلالتها على ما نزلت فيه وهذه معظم آي الكتاب وهي أمة واصلة، ومنه آيات أخر متشابهات و هي قليلة والحكمة من إنزالها كذلك الامتحان والاختبار بالحلال والحرام، وبأمور الغيب ليثبت على الهداية والإيمان من شاء الله هدايته، ويزيغ في إيمانه وضل عن سبيله من شاء الله تعالى ضلاله وعدم هدايته. فقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ...} أي: ميل عن الحق {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} للخروج به عن طريق الحق وهداية الخلق كما فعل النصارى حيث ادعوا أن الله ثالث ثلاثة؛ لأنه يقول نخلق ونحيي، ونميت، وهذا كلام جماعة فأكثر، وكما قالوا في قوله تعالى في شأن عيسى: {... وَرُوحٌ مِنْهُ1...} أنه جزء منه متحد به وكما قال الخوارج في قوله تعالى: {...إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ2...} فلا يجوز لأحد أن يحكم في شيء وكفروا علياً وخرجوا3 عنه لتحكيمه أبا موسى الأشعري في حقيقة الخلاف بين على ومعاوية، وهكذا يقع أهل الزيغ في الضلال حيث يتبعون المتشابه ولا يردونه إلى المحكم فيظهر لهم معناه ويفهمون مراد الله تعالى منه. وأخبر تعالى أنه لا يعلم تأويله إلا هو سبحانه وتعالى، وأن الراسخين4 في العلم يفوضون أمره إلى الله منزله فيقولون {...آمَنَّا بِهِ5 كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَاب6} ، ويسألون ربهم الثبات
__________
1 سورة النساء: 171.
2 سورة الأنعام: 57.
3 روى أن أبا أمامة رضي الله عنه مر برؤوس منصوبة عند باب مسجد دمشق فسأل عنها، فقيل: إنها رؤوس خوارج جيء بها من العراق فقال: "أولئك كلاب النار ثلاثاً شر قتلة تحت ظل السماء طوبى لمن قتلهم ثلاثاً ثم بكى، فقيل ما يبكيك. فقال: رحمة بهم إنهم كانوا من أهل الإسلام فخرجوا منه، ثم قرأ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} إلى قوله: {أولو الألباب} .
4 روى أن ابن عباس رضي الله عنه قال: "التفسير على أربعة أنحاء: تفسير لا يعذر أحد في فهمه، وتفسير تعرفه العرب من لغتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلا الله". كما يروى هذا عن عائشة وغيرها.
5 الجمهور على أن الوقف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} ومن هنا قالوا: لا يعلم المتشابهة إلا الله، وهو مما استأثر به دون عباده ومن قال: "أن قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} معطوف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} ، قالوا: إن الراسخين في العلم قد يعلمون المتشابه دون البعض ويدل عليه قولهم: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} أي: ما علمناه وما لم نعلمه، وروى أن ابن عباس قال: "أنا ممن يعلم تأويله".
6 هذه الجملة ليست من كلام الراسخين ولكنها من كلام الله تعالى فهي تذييل للكلام السابق سيقت للثناء عليهم.

على الحق فيقولون: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً..} ترحمنا بها في دنيانا وأخرانا إنك أنت وحدك الوهاب، لا إله غيرك ولا رب سواك، ويقررون مبدأ المعاد والدار الآخرة فيقولون سائلين ضارعين {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} لمحاسبتهم ومجازاتهم على أعمالهم فاغفر لنا وارحمنا يومئذ حيث آمنا بك وبرسولك و بكتابك محكم آيه ومتشابهه، إنك لا تخلف الميعاد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- في كتاب الله المحكم والمتشابه، فالمحكم يجب الإيمان به، والعمل بمقتضاه، والمتشابه يجب الإيمان به ويفوض أمر تأويله إلى الله منزله ويقال: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} .
2- أهل الزيغ الذين يتبعون ما تشابه1 يجب هجرانهم والإعراض عنهم؛ لأنهم مبتدعة وأهل أهواء.
3- استحباب الدعاء بطلب النجاة عند ظهور الزيغ ورؤية الفتن2 والضلال.
4- تقرير مبدأ المعاد والدار الآخرة.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ(10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ(11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ
__________
1 قال أهل العلم: التشابه يكون حقيقياً وإضافياً. فالحقيقي لا سبيل إلى فهم معناه، وهو المراد من الآية: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} ، والإضافي: ما اشتبه معناه لاحتياجه إلى طلب دليل آخر، فإذا طلبه العالم وجده وهو كثير. منه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} فهذا يبين معناه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} .
2 روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أيام حروب الردة كان يصلي المغرب فيقرأ بالفاتحة وسورة من قصار المفصل، وفي الركعة الثالثة بأم القرآن ويقرأ قوله تعالى سراً: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} يقنت بها. كما روي عن عائشة أنها قالت: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من الليل قال: "لا إله إلا أنت سبحانك أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علماً، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب" .

وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ1 رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ(13)}
شرح الكلمات:
{{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} : هم وفد نجران ويهود المدينة والمشركون والمنافقون.
{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ} : لن تجزي عنهم ولن تقيهم عذاب الله إذا حل بهم.
{وَقُودُ النَّارِ} : الوقود ما توقد به النار من حطب أو فحم حجري أو غاز.
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} : كعادتهم وسننهم في كفرهم وتكذيبهم وما حل بهم من عذاب في الدنيا والآخرة.
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا2} : هم يهود المدينة بنو قينقاع.
{آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ3} : علامة واضحة، والفئتان: المسلمون وقريش إلتقتا في بدر.
{يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ} : يقوي.
{لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ} العبرة: العظة، وما يعبر به ذو البصيرة مواضع الخطر فينجو.
معنى الآيات:
لما أصر وفد نجران على الكفر والتكذيب واتباع المتشابه من آي الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل من الحق والخروج عنه. توعد الرب تعالى جنس الكافرين من نصارى ويهود وعرب وعجم فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا..} بالحق لما جاءهم وعرفوه معرفة لا لبس فيها ولا
__________
1 الضمير عائد على المسلمين على أسلوب الالتفات والأصل: ترونهم مثليكم، ويحتمل أن يكون الضمير عائداً على المشركين، ولكن الصواب أنه عائد على المؤمنين، لأن الله تعالى قلل المشركين في أعين المؤمنين ليقدموا على قتالهم.
2 استئناف ابتدائي للانتقال من النذارة إلى التهديد حيث تطلب المقام ذلك إذا تبجح اليهود وتطاولوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مخوفين له بكلامهم السخيف.
3 الفئة: الجماعة من الناس، وسميت فئة لأنه يفاء إليها، أي: يرجع إليها في وقت اشتداد الحرب.

غموض، ولكن منعهم من قبوله الحفاظ على المناصب والمنافع هؤلاء جميعهم سيعذبهم الله تعالى في نار جهنم ولن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئاً، واعلم أنهم وقود النار، التي مهدوا لها بكفرهم وبئس المهاد مهدوه لأنفسهم. ثم أخبر تعالى أنهم في كفرهم وعنادهم حتى يأتيهم العذاب كدأب آل فرعون والذين من قبلهم من الأمم التي كذبت رسلها؛ كقوم نوح وقوم هود وقوم صالح حتى أخذهم الله بالعذاب في الدنيا بالهلاك والدمار، وفي الآخرة بعذاب النار وبئس المهاد، وكان ذلك بذنوبهم لا بظلم الله تعالى ثم أمر الله تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول ليهود المدينة الذين قالوا للرسول لا يغرنك أنك قاتلت من لا يحسن الحرب فانتصرت عليهم يريدون قريشاً في موقعة بدر، إنك إن قاتلتنا ستعلم أنا نحن الناس، لما قالوا قولتهم هذه يهددون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أمره أن يقول لهم1 {سَتُغْلَبُونَ} يريد في المعركة وتنهزمون وتموتون، وبعد موتكم تحشرون إلى جهنم وبئس المهاد جهنم مهدتموها لأنفسكم بكفركم وعنادكم وجحودكم للحق بعد معرفته. وفتح أعينهم على حقيقة لو تأملوها لما تورطوا في حرب الرسول حتى هزمهم وقتل من قتل منهم وأجلى من أجلاهم. وهي أن المسلمين الذين قاتلوا المشركين في بدر وانتصروا عليهم كانوا أقل عدد وأنقص عدة، ومع ذلك انتصروا؛ لأنهم يقاتلون في سبيل الله، والكافرون يقاتلون في سبيل الطاغوت والشرك والظلم والطغيان، ونصر الله الفئة القليلة المسلمة2 وهزم الفئة الكافرة الكثيرة، فلو اعتبر اليهود بهذه الحقيقة لما تورطوا في حرب مع الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً. ولكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وهي البصائر. فقال تعالى لهم: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} –في بدر- جماعة- تقاتل في سبيل الله- إعلاء لكلمته- وأخرى فئة كافرة تقاتل في سبيل الطاغوت {يَرَوْنَهُمْ3مِثْلَيْهِمْ
__________
1 فعلاً فقد جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم: "يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، وقد عرفتم إني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم" .
2 إذ كان عدد المسلمين ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وكان عدد المشركين رابياً على التسعمائة مقاتل.
3 رأى المسلمون الكافرين مثليهم، أي: مثلي عدد المسلمين، وهذا معنى التقليل إذ الكافرون تسعمائة فرأوهم ستمائة وهو التقليل المذكور.==

ج2.

 

الكتاب : أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير
المؤلف : جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري
الناشر : مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية
الطبعة : الخامسة، 1424هـ/2003م
مصدر الكتاب : موقع مكتبة المدينة الرقمية
http://www.raqamiya.org
[ الكتاب موافق للمطبوع ، ومعه حاشيته المسماة نهر الخير على أيسر التفاسير ]

رَأْيَ الْعَيْنِ} لقربهم منهم. ومع هذا نصر الله الأقلية وهم الأكثرية الكافرة، وذلك لأن الله تعالى يؤيد بنصره من يشاء، فأيد أولياءه وهزم أعداءه، وإن في هذه الحادثة لعبرة وعظة ومتفكر ولكن لمن كان ذا بصيرة. أما من لا بصيرة له فإنه لا يرى شيئاً حتى يقع في الهاوية، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكور لهم: {لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الكفر مورث لعذاب يوم القيامة والكافر معذب قطعاً.
2- الأموال والأولاد والرجال والعتاد مهما كثروا لن يغنوا من بأس الله شيئاً إذا أراده بالكافرين في الدنيا والآخرة.
3- الذنوب بريد العذاب1 العاجل والأجل.
4- ذم الفخر والتعالي وسوء عاقبتهما.
5- العاقل من اعتبر بغيره، ولا عبرة لغير أولي الأبصار أي البصائر.
6- صدق خبر القرآن في ما أخبر به اليهود من هزيمتهم، فكان هذا دليل صدق على أن القرآن وحي الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الإسلام دين الله الحق.
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ(14)}
شرح الكلمات:
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ2 حُبُّ الشَّهَوَاتِ} : جعل حبها مستحسناً في نفوسهم لا يرون فيه قبحاً ولا دمامة.
__________
1 شاهده في كتاب الله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}، {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}.
2 روى البخاري أن عمر رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ...} إلخ. قال: الآن يارب حين زينتها لنا. فأنزل الله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} الآية.

{الشَّهَوَاتِ1} : جمع شهوة بمعنى المشتهى طبعاً وغريزة؛ كالطعام والشراب اللذيذين.
َالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ : القنطار: ألف ومائة أوقية فضة، والمقنطرة: الكثيرة بعضها فوق بعض.
َالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ2 : ذات السمات الحسان والمعدة للركوب عليها للغزو والجهاد.
َالأَنْعَامِ : الإبل والبقر والغنم وهي الماشية.
َالْحَرْثِ3 الزروع والحقول وسائر النباتات النافعة.
{ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: ذلك المذكور من النساء والبنين إلخ. متاع الحياة الدنيا يريد يستمتع به فيها ويموت صاحبها ويتركها.
معنى الآية الكريمة:
لما ذكر تعالى عناد من كفر من النصارى، واليهود، والمشركين، وجحودهم، وكفرهم، ذكر علة الكفر وبين سببه ألا وهو ما زينه تعالى لبني البشر عامة ليفتنهم فيه ويمتحنهم به وهو حب الشهوات، أي: المشتهيات بالطبع البشري من النساء4، والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسمومة والأنعام والحرث وهو كل ما يحرث من سائر الحبوب والنباتات الغذائية والعطرية وغيرها. هذا الذي جعل تلك الجماعات ترفض الحق وتدفعه؛ لأنه يحول بينهم وبين هذه المشتهيات غالباً فلا يحصلون عليها،ولم يعلموا أنها مجرد متاع زائل فلا يبيعوا بها الجنة دار الخلد والسلام، ولذا قال تعالى ذلك أي ما ذكر من أصناف المحبوبات متاع الحياة الدنيا لا غير إما الآخرة فلا ينفع فيها شيء من ذلك بل لا ينفع فيها إلا الزهد فيه والإعراض عنه إلا ما لابد منه للبلغة به إلى عمل الدار الآخرة وهو الإيمان وصالح الأعمال، والتخلي عن الكفر والشرك وسائر الذنوب والمعاصي.
__________
1 في صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" ، ومعناه: أن الجنة لا تنال إلا بقطع مغاور المكاره والصبر عليها، وأن النار لا ينجي منها إلا ترك الشهوات وفطام النفس عنها.
2 ما ذكرناه مأخوذ من السومة وهي: السمة، أي: العلامة، وقد تكون المسومة مأخوذ من السوم، وهي: الرعي في المرعى، يقال: أسام الماشية إذا رعى بها في المرعى. والخيل مؤنثة.
3 الحرف: مصدر أطلق على المحروثات نفسها من المزارع الحدائق.
4 روى الشيخان عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء" . وفي حديث آخر: "اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" رواه مسلم.

وختم تعالى الآية بقوله مرغباً في العمل للدار الآخرة داعياً عباده إلى الزهد في المتاع الفاني للتعلق قلوبهم بالنعيم الباقي فقال: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} ، أي: المرجع الحسن، والنزول الكريم والجوار الطيب السعيد.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- يزين الله تعالى بمعنى يجعل الشيء زيناً محبوباً للناس للإبتلاء والاختبار قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً1} ويزين الشيطان للإضلال والإغواء، فالله يزين الزين ويقبح القبيح، والشيطان يزين القبيح، ويقبح الزين. فانظر الفرق وتأمل.
2- المزينات في هذه الآية من تزيين الله تعالى للابتلاء، وكلها زينة في الواقع وليس فيها قبيح إلا إذا طلبت من غير حلها وأخذت بشره ونهم فأفسدت أخلاق آخذها أو طغت عليه محبتها فأنسته لقاء الله وما عنده فهلك بها كاليهود والنصارى والمشركين.
3- كل ما في الدنيا مجرد متاع، والمتاع دائماً قليل وزائل فعلى العاقل أن ينظر إليه كما هو فلا يطلبه بما يحرمه حسن2 المآب عند الله. اللهم لا تحرمنا حسن مآبك يا الله يا رحمن يا رحيم.
{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ(17)}
__________
1 سورة الكهف: 7.
2 المآب: المرجع، يقال: آب يؤب أوباً، ومآباً إذا رجع، ومنه قول امرؤ القيس:
وقد طفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
والمراد بالمآب: ما أعده الله تعالى لأولياءه من النعيم المقيم في دار السلام.

شرح الكلمات:
{أَؤُنَبِّئُكُمْ1} : أخبركم بنبأ عظيم لأن النبأ لا يكون إلا بالأمر العظيم.
{بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} : أي: المذكور في الآية السابقة من النساء والبنين. إلخ.
{اتَّقَوْا} : خافوا ربهم فتركوا الشرك به ومعصيته ومعصية رسوله.
{مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} : من خلال قصورها وأشجارها أنهار2 الماء، وأنهار اللبن وأنهار العسل وأنهار الخمر.
{خَالِدِينَ فِيهَا} : مقيمين فيها إقامة لا يرحلون بعدها أبداً.
َأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ : زوجات: هي الحور العين نقيات من دم الحيض والبوم وكل أذى وقذر.
الصَّابِرِينَ : على الطاعات لا يفارقونها وعلى المكروه لا يتسخطون، وعن المعاصي لا يقارفونها.
َالصَّادِقِينَ : في إيمانهم وأقوالهم وأعمالهم.
َالْقَانِتِينَ : العابدين المحسنين الداعين الضارعين.
َالْمُنْفِقِينَ: المؤدين للزكاة المتصدقين بفضول أموالهم.
َالْمُسْتَغْفِرِينَ3 بِالأَسْحَارِ : السائلين ربهم المغفرة في آخر الليل وقت السحور.
معنى الآيات:
لما بين الله تعالى ما زينه للناس من حب الشهوات من النساء والبنين اوالقناطير المنقطرة من الذهب والفضة إلى آخر ما ذكر تعالى، وبين أن حسن المآب عنده سبحانه وتعالى فليطلب منه بالإيمان والصالحات أمر رسوله أن يقول للناس كافة أؤنبئكم بخير من ذلك المذكور لكم. وبينه بقوله: { لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
__________
1 يصح أن يكون منتهى الاستفهام قوله تعالى: {مِنْ ذَلِكُمْ} و {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} خبر مقدم، وجنات: المبتدأ، ويصح أن يكون منتهى الاستفهام: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} و{جَنَّاتٌ} : خبر، والمبتدأ محذوف.
2 شاهد هذا في قوله تعالى من سورة محمد صلى الله عليه وسلم: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} .
3 المختار من ألفاظ الاستغفار ما رواه الطبراني: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت، أبو لك بنعمتك عليّ، وأبو بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" . وقول العبد: "اللهم لا إله إلا أنت سبحانك عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".

وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ...} وهو رضاه عز1 وجل عنهم وهو أكبر من النعيم المذكورقبله، قال تعالى في آية أخرى2: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ...} .
ثم أخبر تعالى أنه بصير بعباده يعلم المؤمن الصادق والمنافق الكاذب، والعامل المحسن والعامل المسيء وسيجزي كلا بعدله وفضله، ثم ذكر صفات المتقين التي ورثوا بها ما وصف من النعيم فقال: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} فذكر صفة الإيمان والخشية والضراعة والدعاء لهم ثم كر باقي الصفات الكمالية فقال: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} ، يتهجدون آخر الليل وقبيل طلوع الفجر يكثرون من الاستغفار وهو طلب المغفرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- نعيم الآخرة خير من نعيم الدنيا مهما كان.
2- نعيم الآخرة خاص بالمتقين الأبرار، ونعيم الدنيا غالباً ما يكون للفجار.
3- التقوى وهي ترك الشرك والمعاصي هي العامل الوراثي لدار السلام.
4- استحباب الضراعة والدعاء والاستغفار3 في آخر الليل.
5- الصفات المذكورة لأهل التقوى هنا كلها واجبة لا يحل أن لا يتصف بها مؤمن ولا مؤمنة في الحياة.
{شَهِدَ4 اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو5 الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ
__________
1 في قوله تعالى من سورة التوبة: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
2 أخرج مسلم عنه صلى الله عليه وسلم: "أن أهل الجنة إذ أدخلوها يقول الله تعالى لهم: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: يا ربنا وأي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبداً".
3 شاهده ما رواه الأئمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ينزل الله عز وجل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول فيقول: "أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له. فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر" . رواه مسلم
4 روى الكلبي، ونقل ذلك القرطبي فقال: "لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم عليه حبران من أحبار الشام فلما أبصرا المدينة، قالا أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان، فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت، فقالا له: أنت محمد؟ قال: نعم. قالا: وأنت أحمد؟ قال: نعم. قالا: نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك. وصدقناك. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسألاني: فقالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله؟ فأنزل الله تعالى على نبيه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} الآية.
5 في عطف شهادة أولي العلم على شهادة الله تعالى شرف كبير لأولي العلم، وفي الحديث: "أن العلماء ورثة الأنبياء" ، "العلماء أمناء الله على خلقه" .

لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(18) إِنَّ الدِّينَ1 عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(20)}
شرح الكلمات:
{شَهِدَ} : أخبر عن علم بحضوره الأمر المشهود به.
{لا إِلَهَ إِلا هُوَ} : لا معبود بحق في الأرض ولا في السماء إلا الله تبارك وتعالى.
{وَأُولُو الْعِلْمِ} : أصحاب العلم الصحيح المطابق للواقع وهم الأنبياء والعلماء.
القسط : العدل في الحكم والقول والعمل.
{الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} : الغالب ذو العزة التي لا تغلب، الحكيم في خلقه وفعله وسائر تصرفاته.
{الدِّينَ} : ما يدان الله تعالى به أي: يطاع فيه ويخضع له به من الشرائع والعبادات.
{الإِسْلامُ2} : الانقياد لله بالطاعة والخلوص من الشرك، والمراد به هنا ملة الإسلام.
{بَغْياً} : ظلماً وحسداً.
{حَاجُّوكَ} : جادلوك وخاصموك بحجج باطلة واهية.
__________
1 {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} صيغة حصر، أي: حصر المسند إليه الذي هو الدين في المسند الذي هو الإسلام، أي: لا دين إلا الإسلام، وقد أكد هذا الحصر بحرف التوكيد: إن، والمعنى: إن الدين الصحيح هو الإسلام لا غيره.
2 حقيقة الإسلام الشرعية: إنه اعتقاد الحق والنطق به، والعمل بموجبه، عبادة وخلقاً وحكماً حتى تكون حياة المسلم كلها وفق مراد الله تعالى منه وما دعاه إليه وخلقه من أجله.

{أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} : أخلصت كل أعمالي القلبية والبدنية لله وحده لا شريك له.
{وَمَنِ اتَّبَعَنِ} : كذلك أخلصوا لله كل أعماله له وحده لا شريك له.
{أُوتُوا الْكِتَابَ} : اليهود والنصارى.
الأميين : العرب المشركين سموا بالأميين لقلة من يقرأ ويكتب فيهم.
{أَأَسْلَمْتُمْ} : الهمزة الأولى للاستفهام والمراد به الأمر أي: أسلموا خيراً لكم لظهور الحق وانبلاج نوره بينكم بواسطة كتاب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
{فَإِنْ أَسْلَمُوا} : فإن أجابوك وأسلموا فقد اهتدوا إلى سبيل النجاة.
{وَإِنْ تَوَلَّوْا} : أدبروا عن الحق بعد رؤيته وأعرضوا عه بعد معرفته فلا يضرك أمرهم إذ ما عليك إلا البلاغ وقد بلغت.
معنى الآيات:
يخبر الجبار عز وجل أنه1 شهد أنه لا إله إلا هو وأن الملائكة وأولي العلم يشهدون كذلك شهادة علم وحق قامت على مبدأ الحضور الذاتي، والفعلي وأنه تعالى قائم في الملكوت كله، علويه وسفليه، بالعدل، فلا رب غيره ولا إله سواه، العزيز في ملكه وخلقه الحكيم في تدبيره وتصريفه فلا يضع شيئاً في غير موضعه اللائق به. فرد بهذه الشهادة على باطل نصارى نجران، ومكر اليهود، وشرك العرب، وأبطل كل باطلهم سبحانه وتعالى، ثم أخبر أيضاً أن الدين الحق الذي لا يقبل تعالى ديناً سواه، هو الإسلام، القائم على مبدأ الانقياد الكامل لله تعالى بالطاعة، والخلوص التام من سائر أنواع الشرك فقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ} في حكمه وقضائه الإسلام، وما عداه فلا يقبله2 ولا يرضاه. ثم أخبر تعالى عن حال نصارى نجران، المجادلين لرسوله، في شأن تأليه عيسى بالباطل فقال: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} يريد أن خلاف أهل الكتاب لم يكن عن جهل منهم بالحق ومعرفته3 و لكن كان عن علم حقيقي وإنما حملهم على الخلاف المسبب للفتن
__________
1 ورد أن من قال عند تلاوة هذه الآية: {شَهِدَ اللَّهُ} إلخ. وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة –يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول عز وجل: "عبدي عهد إليّ وأنا أحق من وفى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنة".
2 روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بما أرسلت به إلا كان من أهل النار" .
3 يشهد لهذه الحقيقة ما رواه البخاري: " أن غلاماً يهودياً كان يضع للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءه ويناوله لعنه فمرض فآتاه النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأبوه قائم عند رأسه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا فلان قل لا إله إلا الله فنظر إلى أبيه فسكت أبوه، فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى أبيه فقال أبوه: أطع أبا القاسم. فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أخرجه بي من النار".

والحروب وضياع الدين، البغي والحسد إذ كل فرقة تريد الرئاسة والسلطة الدينية والدنيوية لها دون غيرها، وبذلك يفسد أمر الدين والدنيا، وهذه سنة بشرية تورط فيها المسلمون1 بعد القرون المفضلة أيضاً، والتاريخ شاهد. ثم قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} يتوعد تعالى ويهدد كل من يكفر بآياته الحاملة لشرائعه فيجحدها ويعرض عنها فإنه تعالى يحصي عليه ذنوب كفره وسيئات عصيانه ويحاسبه بها ويجزيه وإنه سريع الحساب؛ لأنه لا يشغله شيء عن آخر ولا يعيبه إحصاء ولا عدد، ثم يلتفت بالخطاب إلى رسوله قائلاً له: {فَإِنْ حَاجُّوكَ} يريد وفد نجران النصراني فاختصر الحجاج معهم بإظهار موقفك المؤيس لهم داعياً إياهم إلى الإسلام الذي عرفوه وأنكروه حفاظاً على الرئاسة والمنافع بينهم فقل لهم: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} أيضاً أسلم وجهه لله فليس فينا شيء لغير الله وقلوبنا وأعمالنا وحياتنا كلها فأسلموا2 أنتم يا أهل الكتاب ويا أميون {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} وإن تولوا وأعرضوا فلا يضرك إعراضهم، إذ ما كلفت إلا البلاغ وقد بلغت، أما الحساب والجزاء فهو إلى الله تعالى البصير بأعمال عباده العليم بنياتهم وسوف يجزيهم بعلمه ويقضي بينهم بحكمه وهو العزيز الحكيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- اعتبار الشهادة والأخذ بها إن كانت قائمة على العلم وكان الشاهد أهلاً لذلك بأن كان مسلماً عدلا ً.
2- شهادة الله أعظم شهادة تثبت بها الشرائع والأحكام وتليها شهادة الملائكة وأولي العلم.
3- بطلان كل دين بعد الإسلام و كل ملة غير ملته لشهادة الله تعالى بذلك وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الآية(85) من هذه السورة والآتي تفسيرها إن شاء الله تعالى.
4- الخلاف بين أهل العلم والدين يتم عندما يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة فيتورطون في
__________
1 وما زال المسلمون متفرقين إلى اليوم، بل تفرقهم اليوم أسوأ من الأول، ودولهم دويلات، وشريعتهم التي يسوسون بها الأمة المسلمة شرائع.
2 روى محمد بن إسحاق أن وفد نجران لما دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم منهم السيد والعاقب، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسلما" . قالا: قد أسلمنا قبلك. فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: "كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولداً وعبادتكما الصليب" .

المطاعم والمشارب، ويتشوقون إلى الكراسي والمناصب، ويرغبون في الشرف يومئذ يختلفون بغياً بينهم وحسداً لبعضهم بعضاً.
5- من أسلم قلبه لله وجوارحه وأصبح وقفاً في حياته على الله فقد اهتدى إلى سبيل النجاة والسلام.
6- من علق قلبه بالحياة الدنيا وأعرض عما يصرفه عنها من العبادات ضل في حياته وسعيه وحسابه على الله وسيلقى جزاءه.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ(22)}
شرح الكلمات:
{يَكْفُرُونَ} : يجحدون ويكذبون.
{النَّبِيِّينَ} : جمع نبي وهو ذكر من بنى آدم أوحى إليه الله تعالى.
القسط : العدل والحق والخير والمعروف.
{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} : أخبرهم إخباراً يظهر أثره على بشرة وجوههم ألماً وحسرة.
{حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} : بطلت وذهبت لم يجنوا منها شيئاً ينفعهم، ويهلكون بذلك ويعدمون الناصر لهم؛ لأن الله خذلهم وأراد إهلاكهم وعذابهم في جهنم.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في هتك أستار الكفرة من أهل الكتابيين اليهود والنصارى، فذكر تعالى هنا أن الذين يكفرون1 بآيات الله وهي حججه وأعلام دينه، وما بعث بها رسله، ويقتلون مع
__________
1 جيء بالأفعال المضارعة في صلاة الذين يكفرون يقتلون النبيين ويقتلون إلخ. لأجل استحضار الحالة الفظيعة من جهة، ومن جهة أخرى عن نيات اليهود فإنهم ما زالوا مصرين على قتل الأنبياء، وكيف وقد حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة.

ذلك النبيين بغير حق1 ولا موجب للقتل، ويقتلون الذين يأمرونهم2 من أتباع الأنبياء المؤمنين الصالحين، هذه جرائم بعض أهل الكتاب فبشرهم بعذاب أليم، ثم أخبر أن أولئك البعداء في مهاوي الشر والفساد والظلم والعناد حبطت أعمالهم في الدنيا فلا يجنون منها عاقبة حسنة ولا مدحاً ولا ثناء بل سُجلت لهم بها عليهم لعنات في الحياة والممات، والآخرة كذلك وليس لهم فيها من ناصرين ينصرونهم فيخلصونهم من عذاب الله وهيهات هيهات أن يوجد من دون الله ولي أو نصير.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- الكفر والظلم من موجبات هلاك الدنيا ولزوم عذاب الآخرة.
2- قتل الآمرين بالمعروف3 والناهين عن المنكر كقتل الأنبياء في عظم الحرم.
3- الشرك محبط للأعمال مفسد لها في الدنيا والآخرة.
4- من خذله الله تعالى لا ينصره أحد، ومن ينصره الله لا يغلبه أحد.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ(23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ
__________
1 بغير حق: حال مؤكدة إذ لا يقع قتل نبي إلا بغير حق، فقتلهم الأنبياء متأكد وهو قبيح، وكونه بغير حق هو أشد قبحاً، والآية تشنيع لأفعالهم القبيحة.
2 روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن أبي عبيدة رضي الله عنه قال: "قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة؟ قال: "رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بمعروف ونهى عن منكر ثم قرأ الآية : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ} إلخ. ثم قال: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعون نبياً أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة وسبعون رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار من ذلك اليوم فهم الذين ذكر الله تعالى" .
3 ذكر القرطبي في تفسيره الرواية التالية: كل بلدة يكون فيها أربعة فأهلها معصومون من البلاء: إمام عادل لا يظلم، وعالم على سبيل الهدى، ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحرسون على طلب العلم والقرآن ونساؤهم مستورات لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى. وأخرج ابن ماجة عن أنس بن مالك قال: قيل: يا رسول الله متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: "إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم من قبلكم" قلنا: يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: "الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رذالتكم" . الرذالة: كالحسالة. ومعناه: فيمن لا خير فيهم.

لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(25}
شرح الكلمات:
{أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ} : اعطوا حظاً وقسطاً من التوراة.
{يُدْعَوْنَ} : يُطلب1 إليهم أن يتحاكموا فيما اختلفوا فيه من الحق إلى كتابهم الذي يؤمنون به وهو التوراة فيأبون ويعرضون.
{يَتَوَلَّى} : يرجع وهو مصمم على عدم العودة إلى الحق.
{أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} : هذا قول اليهود ويعنون بالأيام الأربعين يوماً تلك التي عبدوا فيها العجل بع غياب موسى عليه السلام عنهم.
{يَفْتَرُونَ} : يكذبون.
{لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} : هو يوم القيامة.
{مَا كَسَبَتْ} : ما عملت من خير أو شر.
{لا يُظْلَمُونَ} : بأن يعذبوا بدون المقتضي لعذابهم من الشرك والكفر والمعاصي.
معنى الآيات:
ما زال السياق في فضح أهل الكتاب بذكر ذنوبهم وجرائمهم، فيقول تعالى لرسوله حاملاً له على التعجب من حال اليهود ألم تر يا رسولنا إلى الذين أوتوا نصيباً2 من الكتاب، أي ألم ينته إلى علمك أمرهم حيث يدعون إلى التحاكم3 إلى كتاب الله تعالى فيما انكروه4 واختلفوا فيه من صفاتك وشأن نبوتك ورسالتك، ثم يتولى عدد منهم وهم مصممون على عدم العودة وطلب الحق والإقرار به إنها حال تدعو إلى التعجب حقاً، وصارفهم عن قبول الحق
__________
1 قال ابن عباس: "هذه الآية نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على يهود في بيت المدراس فدعاهم إلى الإسلام فقالوا له: على أي دين أنت؟ فقال: " على ملة إبراهيم" ، فقالوا: إن إبراهيم كان يهودياً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلموا إلى التوراة، فهي بيننا وبينكم". فأبوا عليه. فنزلت هذه الآية".
2 التنكير للتقليل وليس للتعظيم بأن السياق في ذمهم وتقبيح سلوكهم.
3 الآية دليل على وجوب من دعا إلى التحاكم إلى شرع الله أن يجيب إلى ذلك ولا يمتنع وإلا يقدح في إيمانه.
4 أي من كون إبراهيم عليه السلام لم يكن يهودياً، حيث زعموا إنه كان يهودياً كما تقدم في سبب نزول الآية: {ألم ترى الذين...}.

ومراجعته هو اعتقادهم الفاسد بأن النار لا تمسهم إذا ألقوا فيها إلا مدة أربعين يوماً، وهي المدة التي عبد فيها أسلافهم العجل يوم غاب موسى عنهم لمناجاته ربه تعالى في جبل الطور. وهذه الدعوى باطلة لا أساس لها من الصحة بل يُخلدون في النار لا بعبادة أسلافهم العجل أربعين يوماً بل بكفرهم وظلمهم وجحودهم وعنادهم، ويبين تعالى الحقيقة لرسوله والمؤمنين وهي أن هذه الدعوى اليهودية ما هي إلا فرية1 افتراها علماؤهم ليهونوا عليهم ارتكاب الجرائم وغثيان عظائم الذنوب. كما حصل للمسلمين في القرون المظلمة من تاريخ الإسلام حيث أصبح مشايخ التصوف يدجلون على المريدين بأنه يستغفرون لهم ويغفر لهم. ثم قال تعالى معظماً حالهم مهولاً موقفهم: فكيف2 أي: حالهم. إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه، وهو يوم القيامة كيف تكون حالهم أنها حال يعجز الوصف عنها، {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} من خير أو شر وهم لا يظلمون بنقص حسناتهم إن كانت لهم حسنات، ولا بالزيادة في سيئاتهم وما لهم إلا السيئات.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- من الإعراض عن الدين والكفر به رفض التحاكم إليه قال قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء: 65].
2- أفسد شيء للأديان بعقائدها وشرائعها وعباداتها الافتراء فيها والابتداع عليها والقول فيها بغير علم.
3- مضرة الاغترار بما يقوله بعض المفسرين والمحشين على الكتب الدينية من الحكايات والأباطيل بحجة الترغيب أو الترهيب فيغتر بها الناس فيضلوا ويهلكوا.
4- فضيلة ذكر أهوال يوم القيامة وما يلاقي فيها أهل الظلم والفساد وفي القرآن: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [سورة ص: 46]
__________
1 من جملة افتراءاتهم قولهم: أن الله وعد يعقوب أن لا يعذب أبناءه.
2 هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته على جهة التوقيف والتعجيب.

{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(27)}
شرح الكلمات:
{اللَّهُمَّ} : يا الله حذف حرف النداء "يا" وعوض عنه الميم المشددة وهو خاص بنداء الله تعالى.
{مَالِكَ} : المالك: الحاكم المتصرف يفعل في الملك ما يشاء ويحكم ما يريد لعظم سلطانه وقوة إرادته.
{الْمُلْكَ} : المملوك: والمقصود به ما سوى المالك عز وجل، من سائر الكائنات.
{تُؤْتِي الْمُلْكَ} : السلطان والتصرف في بعض الملكوت.
{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} : تدخل الليل في النهار فلا يبقى ليل، و تولج النهار في الليل فلا يبقى نهار.
{وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} : أي تخرج جسماً حياً من جسم ميت في المحسوسات؛ كالدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة، ومن المعنويات تخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.
{بِغَيْرِ حِسَابٍ1} : بغير عدد ولا حد لواسع فضله وغناه عما سواه.
__________
1 الرزق هو كل ما ينتفع به الإنسان فيطلق على الطعام على اختلافه من حب وتمر ولحم وعلى كل ما يحتاج إليه الإنسان في حفظ دنيته صالحة للعبادة.

معنى الآيتين:
من المناسبات التي قيلت في نزول هاتين الآيتين: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبر أصحابه أن ملك أمته سيبلغ كذا وكذا في أحاديث صحاح سخر اليهود والمنافقون من إخبار الرسول بذلك مستبعدين له غاية البعد لجهلهم وكفرهم فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين ضمن الرد على نصارى نجران فأمره أن يقول: {اللَّهُمَّ1 مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ...} إلخ.. أمره أن يقول ذلك ليعطيه ما وعده بن من اتساع ملك أمته حتى تشمل ملك فارس والروم، وليرد على ضلال النصارى في تأليه عيسى عليه السلام، إذ المعبود بحق المستحق للعبادة والتأليه دون سواه من هو مالك الملك كله، ويتصرف فيه وحده يؤتي منه ما يشاء لمن يشاء، وينزع عمن أعطاهم ما شاء ومتى شاء لا يحول دون تصرفه حائل، ولا يقف دون إعطائه أو نزعه واقف. يعز الذليل متى شاء ويذل العزيز متى شاء، بيده الخير2 لا بيد غيره يُفيضه على من يشاء، ويمنعه عمن يشاء وهو على كل شيء قدير. يولج النهار في الليل فلا يبقى نهار، ويولج الليل في النهار فلا يبقى ليل، مظهر من مظاهر القدرة الموجبة لألوهيته وطاعته ومحبته، ويدخل ساعات من الليل في النهار فيقصر الليل ويطول النهار، ويدخل ساعت من النهار في الليل فيطول، مظهر من مظاهر الحكمة والقدرة والرحمة، يخرج الحي من الميت؛ الإنسان من النطفة، والنبتة من الحبة. ويخرج الميت من الحي؛ النطفة من الإنسان الحي، والبيضة من الدجاجة، والكافر من المؤمن الحي، والعكس كذلك، هذه مظاهر ربوبيته المستلزمة لألوهيته تفرر أنه الإله الحق، لا رب غيره ولا إله سواه، وبذلك تأكد أمران: الأول: أن الله قادر على إعطاء رسوله ما وعده لأمته، وقد فعل. والثاني: أن عيسى لم يكن إلا عبداً مربوباً لله بالعبودية وشرفه بالرسالة وأيده، بالمعجزات.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- فضل الدعاء3 بهاتين الآيتين بأن يقرأهما العبد ثم يقول: "رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما
__________
1 ذكر القرطبي: أن النضر بن شميل، قال: من قال اللهم فقد دعا الله تعالى بجميع أسماؤه كلها، وقال الحسن البصري: "اللهم: تجمع الدعاء".
2 والشر بيده أيضاً، وحذف للتطلب المقام ذلك نحو: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} أي: والبرد.
3 أخرج أبو نعيم في الحلية أن معاذاً حبس يوماً عن صلاة الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عما حبسه فقال: كان على دين=

تعطي منهما من تشاء، وتمنع من تشاء اقض عني الدين، فإنه يقضى بإذن الله تعالى ويعطى إن سأل حاجة له من حوائج الدنيا والآخرة.
2- استجابة الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وإنجازه1 ما وعده في أمته.
3- بطلان ألوهية عيسى عليه السلام وثبوت عبوديته ورسالته وكرامته.
{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ(28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ(30)}
شرح الكلمات:
{لا يَتَّخِذِ} : لا يجعل.
{أَوْلِيَاءَ} : جمع ولي يتولونهم بالنصر والمحبة والتأييد.
{فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ2} : أي: بريء الله تعالى منه، ومن برئ الله منه هلك.
__________
= ليحنا اليهودي، فوقف عند بابي يرصدني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أتحب أن يقضي عنك ربك؟" قال: قلت: نعم. قال: اقرأ كل يوم {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} إلى قوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} ثم قل: رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي منها من تشاء وتمنع من تشاء، اقضي عني ديني. فلو كان عليك ملء الأرض ذهباً لأداها عنك" .
1 إذ لم يقبض الرسول صلى الله عليه وسلم حتى دانت الجزيرة كلها بالإسلام ولم يمضي ربع قرن حتى بلغ ملك أمته من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، ومن جملة ذلك دولة فارس والروم.
2 هذا نحو: {واسئل القرية} أي: أهل القرية على حذف مضاف كذلك: {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} أي: ليس في ولاية الله وحزبه في شيء.

{تُقَاةً1} : وقاية باللسان وهما الكلمة الملينة للجانب، المبعدة للبغضاء.
{مُحْضَراً} : حاضراً يوم القيامة.
{أَمَداً بَعِيداً} : مدى وغاية بعيدة.
{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} : أي: يخوفكم عقابه إن عصيتموه.
معنى الآيات:
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أي: أعواناً وأنصاراً يبادلونهم المحبة والمناصرة على إخوانهم المؤمنين، وأعلمهم تعالى أن من يفعل ذلك فقد برئ الله تعالى منه، وذلك لكفره وردته، حيث والى أعداء الله وعادى أولياءه، فقال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ2 الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} أي: برئ الله تعالى منه وانقطعت صلته وانبت حبل الولاية بينه وبين الله تعالى، ويا هلاكه، ثم رخص تعالى للمؤمنين المستضعفين الذين يعيشون تحت سلطان الكافرين في أن يعطوهم حلاوة لسانهم دون قلوبهم وأعمالهم3 فيتقون بذلك شرهم وأذاهم، وذلك بكلمة المصانعة والمجاملة، قال تعالى: {إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاة...} ولما كان أمر البراء والولاء ذا خطر عظيم، قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} أي: في أن تتخذوا أعداءه أولياء ضد أوليائه وأخبرهم أن المصير إليه لا إلى غيره فليحذر العصاة من وقوفهم بين يدي الله، فقال: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}.
هذا ما تمضنته الآية الأولى(28)، وأما الآية الثانية(29) فقد أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس مؤمنهم وكافرهم {... إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ...} من حب أو بغض، من رضى أو سخط فلا تنطقوا به ولا تظهروه بحال من الأحوال، أو أن تظهروه بقول أو عمل أو حال فإنه تعالى يعلمه ويعلم ما في السموات والأرض، ويحاسب به ويجزي عليه وهو
__________
1 قال ابن عباس: "التقاة هي: أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا يقتل ولا يأتي مأثماً، وقرئ: {إلا أن تتقوا منهم تقية} ، وقالوا في التقية: أن يكون المؤمن في دار الكفار قائماً بينهم فله أن يداريهم بلسانه إذا كان خائفاً على نفسه وقلبه مطمئن بالإيمان. وأصل تقاة: وقي على وزن فعلة، كتؤدة، فقلبت الواو تاء وقلبت الياء ألفاً فصارت تقاة.
2 {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، حرف الجر: {من} لتأكيد الظرفية، وهو تقييد للنهي في الظاهر فيكون المنهى عنه اتخاذ الكافرين أولياء دون المؤمنين، وهو المراد من الآية، ولذلك صور منها: أن يتخذ المسلم أو المسلمون جماعة الكفر أولياء لهم ميلاً إلى كفرهم ومناوئة للمسلمين وهذه كفر بلا خلاف، ومنها أن يوالي الكفار لأجل الإضرار بالمسلمين، وهذه كالأولى، ومنها: ما أذن فيها، وهي التقية.
3 روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لنكشر في أقوام وقلوبنا تلعنهم" يريد المنافقين. والتكشير: كالابتسام إلا أنه متكلف فيه.

على كل شيء قدير. ألا فليراقب الله العاقل وليتقه، فلا يقدم على معاصيه، وخاصة موالاة أعدائه على أوليائه. وأما الآية الثالثة(30) {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ...} ففيها يذكر تعالى عباده بيوم القيامة ليقصروا عن الشر ويرعووا من الظلم والفساد فيقول أذكروا يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً، أي: حاضراً تجزى به، وما عملت من سوء وشر حاضراً أيضاً ويسوءها مرآة فتود بكل قلبها لو أن بينها وبينه غاية من المسافة لا تدرك وينهي تعالى تذكيره وإرشاده سبحانه وتعالى بقوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} مؤكداً التحذير الأول به، ويختم الآية بقوله: {وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} ، ونعم ما ختم به إذ لولاه لطارت قلوب العالمين فزعاً وخوفاً فذو الرأفة بعباده ولا يوأس من رحمته.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة موالاة الكافرين1 مطلقاً.
2- موالاة الكافرين على المؤمنين ردة وكفر وبراءة من الله تعالى.
3- جواز التقية في حال ضعف المؤمنين وقوة الكافرين .
4- وجوب الحذر من عذاب الله تعالى وذلك بطاعته تعالى.
5- خطورة الموقف يوم القيامة ووجوب الاستعداد له بالإيمان والتقوى.
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ(32)}
شرح الكلمات:
{تُحِبُّونَ اللَّهَ} : لكمال ذاته وإنعامه عليكم.
__________
1 أي: وإن لم يكن فيها ضرر للمسلمين، وما أذن فيه للتقية فإنه مؤقت ولا يجوز الاستمرار فيه إلا حال العجز عن الهجرة خشية أن يولد للمسلم أولاد فيوالون الكافرين، وهم لا يعلمون أن ما كان عليه آباؤهم كان تقية لاغير.

{يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} : لطاعتكم إياه وطهارة أرواحكم بتقواه.
{وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} : يسترها عليكم ولا يؤاخذكم بها.
{فَإِنْ تَوَلَّوْا} : أعرضوا عن الإيمان والطاعة.
معنى الآيتين:
لما ادعى وفد نصارى نجران أن تعظيمهم المسيح وتقديسهم له ولأمه إنما هو من باب طلب حب1 الله تعالى بحب ما يحب وتعظيم ما يعظم، أمر الله تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يقول لهم: إن كنتم تحبون الله تعالى ليحبكم فاتبعوني على ما جئت به من التوحيد والعبادة يحببكم الله تعالى، ويغفر لكم ذنوبكم أيضاً وهو الغفور الرحيم. وبهذا أبطل دعواهم في أنهم ما ألهوا المسيح عليه السلام إلا طلباً لحب الله تعالى والحصول عليه. وأرشدهم إلى أمثل طريق على حب2 الله تعالى وهو متابعة الرسول على ما جاء به من الإيمان والتوحيد والعبادة المزكية بالروح المورثة لحب الله تعالى وهذا ما تضمنته الآية الأولى(31)، وأما الآية الثانية(32) فقد أمر تعالى رسوله أن يأمر وفد نصارى نجران وغيرهم من أهل الكتاب والمشركين بطاعته وطاعة رسوله إذ هما طريق الكمال والإسعاد في الدنيا والآخرة. فإن أبوا وأعرضوا أو تولوا فقد باءوا بغضب الله وسخطه عليهم؛ لأنهم كافرون والله لا يحب الكافرين هذا معنى قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- محبة العبد للرب تعالى واجب وإيمان لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أحبوا الله تعالى لما يغذوكم به من النعم وأحبوني بحب3 الله تعالى" ، وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله
__________
1 الحب: المحبة، والحب بالكسر: كالحب، والحب أيضاً: المحبوب، ومنه الأثر: أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه: أي: زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وورد حبه يحب ولم يأت اسم الفاعل منه: حاب كما لم يأت اسم المفعول من أحب محب وإنما أتى محبوب.
2 روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال: إني أحب فلاناً فأحبه. قال: فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه. فيحبه أهل السماء ، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبداً دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلاناً فأبغضه. قال: فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه. قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض" .
3 الحب: الميل إلى ما في إدراكه لذة روحية؛ كحب الله ورسوله وحب ما يحب الله ورسوله، ويستلزم الحب طاعة المحبوب، قال الشاعر:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأعطته ...
إن المحب لمن يحب مطيع

أحب إليه مما سواهما".
2- محبة الله تعالى للعبد هي غاية ما يسعى إليه أولوا العلم في الحياة.
3- طريق الحصول على محبة الله تعالى للعبد هو اتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالإيمان بما جاء به واتباع شرعه وطاعته في المنشط والمكره، للآية: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} إذ ليس الشأن أن يحُب العبد، وإنما الشأن أن يُحبّ!.
4- دعوى محبة الله ورسوله مع مخالفة أمرهما ونهيهما دعوى باطلة وصاحبها خاسر لا محالة.
{ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ1 وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(37)}
شرح الكلمات:
{اصْطَفَى آدَمَ} : اختار وآدم هو أبو البشر عليه السلام.
__________
1 اصطفاء آدم كان بالوحي إليه وبإكرام له بأن خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته واصطفاء نوح بإرساله وجعله أبا للبشر بعد الطوفان، وبإطالة عمره وأهلاك الظالمين بدعوته، وآل إبراهيم بأن جعل النبوة بعد إبراهيم فيهم وختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فخرهم وسيد أولهم وآخرهم. واصطفى آل عمران ومنهم: حنا ومريم، وعيسى اصطفاهم بكلمات لم تكن لأحد في أيامهم سواهم.

{َآلَ إِبْرَاهِيمَ} : آل الرجل: أهله واتباعه على دينه الحق.
{عِمْرَانَ} : رجل صالح من صلحاء بني إسرائيل في عهدهم الأخير: هو زوج حنة وأبو مريم عليهم السلام.
{الْعَالَمِينَ} : هم الناس المعاصرون لهم.
امْرَأَتُ عِمْرَانَ} : حنة1.
{نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} : ألزمت نفسها أن تجعله لله يعبده ويخدم بيته الذي هو بيت المقدس.
{مُحَرَّراً2} : خالصاً لا شركة فيه لأحد غير الله بحيث لا تنتفع به أبداً.
{مَرْيَمَ} : خادمة الرب تعالى.
{إِنِّي أُعِيذُهَا} : أحصنها وأحفظها بجنابك من الشيطان.
{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} : زكريا أبو يحي عليهما السلام وكانت امرأته أختاً لحنة.
{الْمِحْرَابَ} : مقصورة ملاصقة للمسجد.
{أَنَّى لَكِ هَذَا}؟ : من أين لك هذا، أي من أين جاءك.
معنى الآيات:
لما ادعى نصارى وفد نجران ما ادعوه في المسيح عليه السلام من تأليهه وتأليه أمه أنزل الله تعالى هذه الآيات يبين فيها مبدأ أمر عيسى وأمه وحقيقة أمرهما فأخبر تعالى أنه اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران اصطفاهم لدينه واختارهم لعبادته ففضلهم بذلك على الناس وأخبر أنهم ذرية3 بعضهم من بعض لم تختلف عقائدهم، ولم تتباين فضائلهم وكمالاتهم الروحية، وذلك لحفظ الله تعالى لهم وعنايته بهم. وأخبر تعالى أنه سميع عليم، أي سميع لقول امرأة عمران عليم بحالها لما قالت: {... رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً..} وذلك أنها كانت لا تلد، فرأت في حديقة منزلها طائراً يطعم أفراخه فحنت إلى الولد وسألت ربها أن يرزقها ولداً وتجعله له يعبده ويخدم بيته، فاستجاب الله تعالى لها فحملت ومات زوجها وهي
__________
1 هي حنة بنت ماقودة، مات زوجها وهي حبلى.
2 أي خالصاً لعبادة الله لا تبقي بها أنسا لها ولا خدمة.
3 ذرية: منصوب على الحال في الآية الكريمة، ولفظ ذرية يطلق على الواحد، وعلى الجمع، ويطلق على الولد والوالد، وهو مشتق من الذرء الذي هو الخلق، فذرأ بمعنى خلق.

حبلى، وقالت ما قص الله تعالى عنها في قوله: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ1 لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، وحان وقت الولادة فولدت ولكن أنثى لا ذكراً فتحسرت لذلك، وقالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} وكيف لا يعلم وهو الخلاق العليم. وقالت: {.. وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى..} في باب الخدمة في بيت المقدس، فلذا هي آسفة جداً، وأسمت مولودتها: مريم، أي خادمة الله، وسألت ربها أن يحفظها وذريتها من الشيطان الرجيم، واستجاب الله تعالى لها، فحفظها وحفظ2 ولدها عيسى عليه السلام، فلم يقربه شيطان قط. وتقبل3 الله تعالى ما نذرته له وهو مريم، فأنبتها نباتاً حسناً فكانت تنمو نماء عجيباً على خلاف ا لمواليد، وكفلها زكريا فتربت في بيت خالتها وذلك أن حنة لما وضعتها أرضعتها ولفتها في قماطها وبعثت بها إلى صلحاء بني إسرائيل يسندونها إلى من يرون تربيتها في بيته، لأن أمها نذرتها لله تعالى، فلا يصح منها أن تبقيها في بيتها ووالدها مات أيضاً، فأحب كل واحد أن يكفلها فكفلها زكريا وأصبحت في بيت خالتها4 بتدبير الله تعالى لها، ولما كبرت أدخلها المحراب لتتعبد فيه، وكان يأتيها بطعامها، فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، فيعجب لذلك ويسألها قائلاً: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} ؟ فتجيبه قائلة: {هُوَ مِنْ عِنْدِ5 اللَّهِ} وتعلل لذلك فتقول: {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان إفضال الله تعالى وإنعامه على من يشاء.
2- بيان أن عيسى عليه السلام ليس بابن الله ولا هو الله، ولا ثالث ثلاثة، بل هو عبد الله ورسوله أمه مريم، وجدته حنة، وجده عمران، من بيت شرف وصلاح في بني إسرائيل.
3- استجابة الله تعالى لدعاء أولياؤه كما استجاب لحنة ورزقها الولد وأعاذ بنتها وولدها من الشيطان الرجيم.
__________
1 جرياً على سنتهم في نذر أولادهم الذكور لخدمة بيت المقدس.
2 أخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخاً من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه، ثم قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}" .
3 أي: رضيعها منها وقبلها كالشيء يهدى للكريم فيقبله ويثيب عليه.
4 روى عن ابن عباس أن زكريا استأجر لها بئراً فأرضعتها حولين كاملين.
5 تريد أنه يحصل لها بغير طريقة الأسباب المعروفة وإنما يوضع بين يديها كرامة لها والله هو الرازق لها سبحانه وتعالى.

4- مشروعية1 النذر لله تعالى وهو التزام المؤمن الطاعة تقرباً إلى الله تعالى.
5- بيان فضل الذكر على الأنثى في باب النهوض بالأعمال والواجبات.
6- جواز التحسر والتأسف لما يفوت العبد من الخير الذي كان يأمله.
7- ثبوت كرامات الأولياء كما تم لمريم في محرابها.
8- تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ مثل هذه القصص لا يتأتى لأمي أن يقصه إلا أن يكون رسولاً يوحى إليه. ولهذا ختمه بقوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ} .
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ(38) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ(39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ(40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ}
شرح الكلمات:
{هُنَالِكَ} : ثم عندما2 رأى كرامة الله لمريم عليها السلام.
{زَكَرِيَّا} : أحد أنبياء بني إسرائيل ورسلهم.
{هَبْ لِي} : أعطني.
__________
1 ذكر القرطبي: أن ولداً قال لأمه: يا أمة ذريني لله أتعبد له وأتعلم العلم له. فقالت: نعم. فسار يتعبد ويطلب العلم فلما كمل في علمه وحاله آتاها فطرق الباب. فقالت: من؟ فقال: ابنك فلان، فقالت: قد تركتك لله فلا نعود فيك.
2 أي: في ذلك المكان، وهو المحراب. تنبه إلى الدعاء لما شاهد من خوارق العادات فدعا طالباً الولد فاستجاب الله تعالى له، ولا يقال: كيف يأخذ الرسول على من دونه ومن امرأة بالذات؟ فإن الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها التقطها، وأهل الكمال من الناس يعتبرون دائماً بما يرون ويسمعون.

{مِنْ لَدُنْكَ} : من عندك.
{ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} : أولاداً أطهاراً صالحين.
{بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} : هي: عيسى عليه السلام؛ لأنها كان بكلمة الله تعالى: "كن".
{وَسَيِّداً1 وَحَصُوراً2} : شريفاً ذا علم وحلم، ولا رغبة له في النساء لقلة مائه.
{غُلامٌ} : ولد ذكر.
{عَاقِرٌ3} : عقيم لا تلد لعقهما وعقرها.
{آيَةً} : علامة أستدل بها على بداية الحمل لأشكر نعمتك.
{إِلا رَمْزاً} : إلى إشارة بالرأس أو باليد يفهم منها ما يفهم من الكلام.
{َالإِبْكَارِ} : أول النهار، والعشي: آخره.
معنى الآيات:
لما شاهد زكريا من كرامات الله لمريم أنها تؤتى بفاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، ذكر أن الله تعالى قد يعطي ما شاء لمن يشاء على غير نظام السنن الكونية، فكبر سنه وعقم امرأته لا يمنعان أن يعطيه الله تعالى ولداً، فسأل ربه الولد فاستجاب4 له ربه فبشرته الملائكة بالولد وهو قائم يصلي في محرابه قائلة: أن الله يبشرك بولد اسمه يحي5 مصدقاً بكلمة من الله يريد أنه يصدق بعيسى بن مريم ويكون على نهجه، لأن عيسى هو الكلمة إذا قال بقول تعالى له: "كن" فكان، ووصفه بأنه سيد ذو علم وحلم وتقى وحصور لا يأتي6 النساء، ونبي من الصالحين، فلما سمع البشارة من الملائكة جاءه الشيطان وقال له: إن الذي سمعته من البشرى هو من الشيطان ولو كان من الرحمن لأوحاه إليك وحياً، وهنا أراد زكريا أن يتثبت من الخبر فقال: { رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي
__________
1 السيد في عرف الشرع: من يقوم بإصلاح حال الناس في دنياهم وآخراهم معاً، وشاهده قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" وقوله في الحسن: "إن ابني هذا سيد" .
2 قال المفسرون في الحصور أقوالاً كثيرة: أمثلها أنه كان معصوماً من الفواحش والقاذورات، وغير مانعة ذلك من تزويج النساء الحلال وغشيانهم وإيلادهن، إذ يفهم من دعاء زكريا المتقدم أنه يكون له أولاد طيبون صالحون.
3 مأخود من عقرت المرأة رحمها، أي: قطعتها فلم تحبل ولم تلد، وهو وصف خاص بالنساء، فلذا يقال: عاقر ولا يلبس، إذ لا يوجد في الرجال عاقر حتى يفرق بينهما بالتاء.
4 الفاء في قوله تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ} هي للترتيب، أي: فور دعاؤه استجاب الله تعالى له، وفيها معنى السببية أيضاً: أي: بسبب دعاؤه أعطاه والله على ما يشاء قدير.
5 يحي: معرب يوحنا بالعبرانية نطق بها العرب على صيغة المضارع.
6 هذا قول الجمهور وقد تقدم في النهر ما هو أمثل ما قيل في الحصور مراعاة لكمال الأنبياء وعلو مقاماتهم.

عَاقِرٌ} فأوحى إليه: أن هذا فعل الله والله يفعل ما يشاء. وهنا قال زكريا: رب اجعل لي آية يريد علامة يستدل بها على وجود الحمل ليستقبل النعمة بالشكر فأجابه ربه قائلاً: {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} يريد أنك تصبح وأنت عاجز عن الكلام لمدة ثلاثة أيام، فلا تقدر أن تخاطب أحداً إلا بالإشارة وهي الرمز فيفهم عنك، وأمره تعالى أن يقابل هذا الإنعام بالشكر التام فقال له: {وَاذْكُرْ1 رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ} يريد صل بالعشي آخر النهار والإبكار أوله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الاعتبار بالغير، إذ زكريا دعا بالولد لما رأى كرامة الله تعالى لمريم.
2- مشروعية الدعاء وكونه سراً أقرب إلى الإجابة، وكونه في الصلاة كذلك.
3- جواز تلبيس إبليس على المؤمن، ولكن الله تعالى يذهب كيده ووسوسته.
4- جواز سؤال الولد الصالح.
5- كرامات الله تعالى لأولياؤه –استجابة دعاؤهم.
6- فضل الإكثار من الذكر، وفضيلة صلاتي الصبح والعصر وفي الحديث: "من صلى البردين دخل الجنة" .
{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ(42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ(43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ(44)}
__________
1 روى عن كعب القرظي قوله: لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا إذ جعل له آية الولد له ألا يكلم الناس ثلاثة أيام إلارمزا، ولم يعفه من الذكر بل أمره بقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} ولرخص للرجل في الحرب، إ ذ قال تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً}.

شرح الكلمات:
{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ} : اذكر لوفد نصارى نجران ما قالت الملائكة فإن ذلك دليل على صحة نبوتك، وصدقك في أمر التوحيد، وعدم ألوهية عيسى.
{اصْطَفَاكِ} : اختارك لعبادته وحسن طاعته.
{وَطَهَّرَكِ} : من الذنوب وسائر النقائص المخلة بالولاية لله تعالى.
{وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ1} : أي فضلك على نساء العالمين بما أهلك له من كرامة ولادة عيسى من غير أب.
{اقْنُتِي2} : أطيعي ربك وأقنتي له واخشعي.
{وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} : اشهدي صلاة الجماعة في بيت المقدس.
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} : أي ما ذكرت من قصة مريم وزكريا من أخبار الغيب.
{لَدَيْهِمْ} : عندهم وبينهم.
{إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ3} : جمع قلم وهو ما يكتب به وإلقاءها لأجل الاقتراع بها على كفالة مريم.
{يَخْتَصِمُونَ} : في شأن كفالة مريم عليها و عليهم السلام.
معنى الآيات:
يقول تعالى لنبيه اذكر لوفد نجران الذين يحاجونك في ألوهية المسيح، إذ قالت الملائكة مخاطبة مريم أم المسيح بما أهلها الله تعالى له وأكرمها به من اصطفاء4 الله تعالى لها لتكون من صالحي عباده، وتطهيره إياها من سائر الذنوب والنقائص والعيوب مفضلاً على نساء عالمها حيث برأها وأكرمها وأظهر آية قدرته فيها فولدت عيسى بكلمة الله وليس على سنته
__________
1 قيل في سبب لقبها بالصدّيقة، أنها لم تسأل الآية عندما بشرت بالولد كما سألها زكريا عليه السلام، وأثنى عليها تعالى بقوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} .
2 روى عن الأوزاعي أنه قال: لما أمر تعالى مريم بالقنوت قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها، وسألت دماً وقبحاً.
3 ألقوها في نهر الأردن، وهو نهر جار وأفادت هذه الآية مشروعية القرعة وأنها وإن كانت في شرع من قبلنا إلا أنها شرعت لنا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها وكذا حديث: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا" .
4 اختلف في نبوة النساء، ورجح كثيرون نبوة مريم لخطاب الملائكة لها وإخبارهم باصطفاء الله تعالى لها وهذا يرجح نبوتها. أما الرسالة فلا لأن الرسالة تتطلب الاتصال بالرجال، وهذا بتنافى مع كمال النساء وما خلقن له من الستر والحجاب.

تعالى في تناسل البشر من ذكر وأنثى، وأمرها بمواصلة الطاعة والإخبات والخشوع لله تعالى فقال: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي1 وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ2} ، وخص الصلاة بالذكر لأهميتها وذكرها بأعظم أركانها وهو السجود والركوع وفي بيت المقدس مع الراكعين.
هذا معنى الآيتين الأولى(42) والثانية(42)، أما الآية الثالثة(44) فقد خاطب الرب تبارك وتعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم مشيراً إلى ما سبق في هذا القصص المتعلق بآل عمران حنة ومريم وزكريا ويحي، ومريم أخيراً بأنه كله من أنباء الغيب، وإخباره يوحيه تعالى إليه فهو بذلك نبيه ورسوله، وما جاء به من الدين هو الحق، وما عداه فهو باطل، وبذلك تقرر مبدأ التوحيد، وأنه لا إله إلا الله، وبطل باطل أهل الكتاب فلا عزير ابن الله، ولا المسيح ابن الله، ولا هو إله مع الله، وإنما هو عبد الله ورسول الله. ثم تقريراً لمبدأ الوحي وتأكيداً له قال تعالى لرسوله أيضاً، وما كنت لديهم أي عند علماء بني إسرائيل وصلحائهم وفي حضرتهم، وهم يقترعون على النذيرة: "مريم" من يكفلها فرموا بأقلامهم في النهر فمن وقف قلمه في الماء كان كافلها بإذن الله، فالقوا أقلامهم تلك الأقلام التي كانت تكتب الحق والهدى لا الباطل والضلال كما هي أغلب أقلام أرباب الصحف والمجلات اليوم، فوقف قلم زكريا ففاز بكفالتها3 بإذن الله تعالى وقد تقدم قول الله تعالى: فكفلها زكريا، بهذا قامت الحجة على أهل الكتاب وغيرهم بأنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الدين الحق هو الإسلام وما عداه فباطل وضلال!.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضل مريم عليها السلام وأنها ولية صديقة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من كمل النساء ففي
__________
1 قدم السجود على الركوع في الذكر وإن كان مؤخراً في الفعل؛ لأنه ألصق بالشكر والمقام مقام شكر.
2 فيه دليل على صلاة المرأة في الجماعة، وقد سن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل قوله: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" وإن كان قوله {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} لا يستلزم الصلاة في جماعة إذ هو أمر بالركوع فقد تركع وحدها أو مع غيرها.
3 قال القرطبي دلت هذه الآية: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} على أن الخالة أحق بالحضانة من سائر القرابات ما عدا الجدة. وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابنة حمزة "أمة الله" لجعفر لأن خالتها كانت تحته. وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما الخالة بمنزلة الأم" .

الصحيح: "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل النساء1 إلا آسيا امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" .
2- أهل القرب من الله هم أهل طاعته القانتون له.
3- الصلاة سلم العروج إلى الملكوت الأعلى.
4- ثبوت الوحي المحمدي وتقريره.
5- مشروعة الاقتراع عند الاختلاف وهذه وإن كانت في شرع من قبلنا إلا أنها مقررة في شرعنا والحمد الله.
{إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ(46) قَالَتْ2 رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(47)}
شرح الكلمات:
{يُبَشِّرُكِ} : يخبرك بخبر سار مفرح لك.
{بِكَلِمَةٍ مِنْهُ3} : هو المسيح عليه السلام وسمي كلمة لأنه كان بكلمة الله تعالى: {كن}
{الْمَسِيحُ4} : لقب عيسى عليه السلام ومن معانيه الصديق.
الوجيه : ذو الجاه والقدر والشرف بين الناس.
__________
1 وفي رواية أخرى: "خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسيا امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم" .
2 ذهب القرطبي إلى أن كلمة: رب، تعني سيدي، أي: جبريل، وهو خطأ واضح بل المراد به الرب تبارك وتعالى، فهي تخاطب ربها طالبة معرفة سبب الولد، إذ الأسباب المعتادة لم تكن، فكيف يكون الولد؟.
3 المراد بكلمة: هو، كلمة التكوين، ووصف عيسى بكلمة، مراد به: كلمة خاصة، وهي كلمة: {كن}.
4 اختلف في سبب تلقيب عيسى بالمسيح، والمشهور أنه لقب تشريف؛ كالفاروق مثلاً، أو الملك، أو الصديق، وأما عيسى فهو: معرب، أيشوع، ومعناه السيد، وهل المسيح مشتق من المسح؟ وهل هو بمعنى الماسح، أو الممسوح خلاف.

{فِي الْمَهْدِ} : المهد: مضجع الصبي وهو رضيع.
{وَكَهْلاً} : الكهولة: سن ما بين الشباب والشيخوخة.
{وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} : تريد لم يقربها ذكر لا للوقاع ولا لغيره، وذلك لعقمها وبعدها عن الرجال الأجانب.
{قَضَى أَمْراً} : أراده وحكم بوجوده.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في حِجَاج وفد نصارى نجران إذ قال الله تعالى لرسوله واذكر1 لهم: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} الآية، حيث أخبرتها الملائكة، أي: جبريل عليه السلام بأن الله تعالى يبشرها بولد يكون بكلمة الله تعالى اسمه المسيح عيسى بن مريم، وأنه ذو جاه وشرف في الدنيا وفي الآخرة ومن المقربين، وأنه يكلم الناس وهو في مهده وقت رضاعه، كما يكلمهم في شبابه وكهولته2، وأنه من الصالحين الذين يؤدون حقوق الله تعالى وحقوق عباده وافية غير منقوصة، فردت مريم قائلة: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ} أي: كيف يكون لي ولد ولم يغشني بشر بجماع وسنة الله في خلق الولد الغشيان. فأجابها جبريل قائلاً: الأمر هكذا سيخلق الله تعالى منك ولداً من غير أب، وهو سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء، وإذا حكم بوجود شيء من غير ذوات الأسباب فإنما يقول له: {كن} فهو يكون، كما قضى الله تعالى وأراد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان شرف مريم وكرامتها على ربها إذا كلمها جبريل وبشرها بعد أن تمثل لها بشراً.
2- بيان شرف عيسى عليه السلام ووجاهته في الدنيا والآخرة وأنه من المقربين والصالحين.
3- تكلم عيسى في المهد3 آي من آيات الله تعالى حيث لم تجر العادة أن الرضيع يتكلم في زمان رضاعه.
__________
1 إذ الظرفية هنا بدل من نظيراتها السابقة، وهي معمولة لفعل محذوف، أي: أذكر.
2 ذكر الكهولة هنا تطمين لأمه أنه لا يموت صغيراً وتكليمه في الكهولة يكون بعد نزوله من السماء؛ لأنه عليه السلام رفع مع نهاية سن الشباب، وهو ثلاث وثلاثون سنة لا غير.
3 لقد تكلم في المهد غير واحد، منهم شاهد يوسف، وصاحب جريج، وكلام عيسى في المهد هو قوله: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ} الآية في سورة مريم.

4- جواز طلب الاستفسار1 عما يكون مخالفاً للعادة لمعرفة سر ذلك أو علته أو حكمته.
{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ(48) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(49) وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(51)}
شرح الكلمات:
{الْكِتَابَ} : الخط والكتابة.
{وَالْحِكْمَةَ} : العلم الصحيح والإصابة في الأمور وفهم أسرار التشريع الإلهي.
{وَرَسُولاً} : أي وابعثه رسولاً.
آية : علامة دالة على رسالته وصدق نبوته.
{أَخْلُقُ لَكُمْ} : أي أصور لكم، لا الخلق الذي هو الإنشاء والاختراع إذ ذاك لله تعالى.
{كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ2} : كصورة الطير.
__________
1 هذا من قولها: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ} الآية.
2 قيل: اليهود هم الذين طلبوا أن يخلق لهم خفاشاً؛ لأنه أعجب من سائر الخلق، ومن عجائبه أنه لحم ودم يطير بغير ريش، ويلد كما يلد الحيوان ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور وله لبن يرضع به أولاده ويضحك كما يضحك الإنسان ويحيض كما تحيض المرأة، ولا يبصر في ضوء النهار، ولا في ظلمة الليل وإنما يبصر في ساعين؛ بعد غروب الشمس ساعة، وبعد طلوع الفجر ساعة.

{الأَكْمَهَ} : الذي ولد أعمى.
الأبرص : ذو البرص وهو مرض عياء عجز عنه الطب القديم والحديث، والبرص: بياض يصيب الجلد البشري.
{تَدَّخِرُونَ} : تحبسونه وتخفونه عن أطفالكم من الطعام وغيره.
{لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ} : من قبلي.
{إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ} : إلهي وإلهكم فاعبدوه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان حقيقة عيسى عليه السلام، وأنه عبد الله ورسوله وليس بابن الله ولا بإله مع الله فأخبر تعالى أنه يخلقه بكلمة كن ويعلمه الكتاب والإنجيل والتوراة والإنجيل، وقد فعل، وأ،ه يبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل وقد فعل فأخبرهم عيسى أنه قد جاءهم بآية من ربهم تدل على صدق رسالته وهذه الآية1 هي أنه يخلق لهم من الطين على صور الطير وينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله، و أنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى بإذن الله، وفعلاً كان يمسح على ذي العاهة المستعصاة كالبرص فيبرأ صاحبها فوراً، وطلبوا منه أن يحي لهم سام بن نوح2 فأحياه بإذن الله، وأنه يخبرهم بما يأكلون في بيوتهم وما يدخرون، فما يخطئ أبداً، ثم قال لهم: إن في ذلك المذكور لآية لكم دالة على صدقي إن كنتم مؤمنين فآمنوا بي ولا تكذبوني وقد جئتكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة، ولأحل لكم بعض الذي حرم3 عليكم، وفي ذلكم خير لكم ورحمة فآمنوا بي، فكذبوه فقال لهم: اتقوا الله وأطيعوني تنجوا وتسعدوا وأعلمهم أخيراً أن الله تعالى هو ربه وربهم وأن عليهم أن يعبدوه ليكلموا ويسعدوا وأن عبادة الله تعالى وحده وبما شرع هي الصراط المستقيم المفضي بالسالكين إلى الكمال والإسعاد في الحياتين.
__________
1 قوله تعالى: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وحد آية وهي آيات لأنها جنس كنعمة بمعنى جنس النعم، والمراد من الآية ما تقدم في قوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْر} إلخ.
2 روى أنه أحيا لهم أربعة وهم: سام بن نوح، والعاذر، وكان صديقاً له. وابن العجوز، وابنة العاشر.
3 هو ما حرمه الله عليهم على عهد موسى من أكل الشحوم ونحوها، أما ما كان محرماً أصلاً لضرورة فلا يحله لهم ذلك؛ كالسرقة والقتل والزنا والربا، فإنه لا يحله لهم أبداً.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- شرف الكتابة وفضلها.
2- فضل الحكمة1 وهي الفقه في أسرار الشرع والإصابة في الأمور.
3- الغيب لله، ويعلم أنبياءه منه ما يشاء.
4- ثبوت معجزات عيسى عليه السلام.
5- لا إله إلا الله، ومحمد رسول الله، وعيسى كلمة الله وروح منه ورسول إلى بني إسرائيل.
6- الأمر بالتقوى وطاعة الرسول لتوقف السعادة والكمال عليهما.
{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ(53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ(56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
__________
1 يكفي الحكمة شرفاً وفضلاً قول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها" .

الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ(58)}
شرح الكلمات:
{أَحَسَّ1 عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} : علم منهم الكفر به وبما جاء به، وهمهم بأذيته.
{الْحَوَارِيُّونَ2} : جمع حواري، والمراد بهم أصفياؤه وأصحابه.
{مُسْلِمُونَ} : منقادون لأمر الله ورسوله مطيعون.
{الشَّاهِدِينَ} : الذين يشهدون أن لا إله إلا الله، ويعبدونه بما يجب أن يعبد به.
مكروا : دبروا القتل للمسيح عليه السلام.
{وَمَكَرَ اللَّهُ} : دبر تعالى لإنجائه وخيبهم فيما عزموا عليه.
{خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} : أحسن المدبرين لإنقاذ أوليائه وإهلاك أعدائه.
{مُتَوَفِّيكَ} : متمم لك ما كتب لك من أيام بقاءك مع قومك.
{وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} : إلي جواري في الملكوت الأعلى.
{وَمُطَهِّرُكَ} : منزهك ومبعدك من رجسهم وكفرهم.
{ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} : ذلك المذكور من أمر عيسى نقرؤه عليك من جملة آيات القرآن الحكيم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحجاج مع وفد نصارى نجران فذكر تعالى من شأنه أنه لما علم عيسى بكفر قومه وهمهم بقتله غيلة استصرخ المؤمنين قائلاً: {مَنْ أَنْصَارِي3 إِلَى اللَّهِ} فأجابه الحواريون وهم أصفياؤه وأحباؤه قائلين: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} آمنا بالله واشهد يا روح الله بأنا مسلمون: { رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ4 فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} لك بالوحدانية
__________
1 أحس بالشيء: عرفه وعلمه بواسطة الحاسة والحواس: السمع والبصر واللسان والبدن والشم، والإحساس: العلم بالشيء، والحس: القتل يقال حسه إذا قتله.
2 كانوا اثني عشر رجلاً، وسمى الناصر للنبي حواريا لبياض قلبه وصفاء روحه، وفي الحديث "لكل نبي حواري وجواري الزبير "، والحور لغة: البياض، والحواري: الخبز الأبيض.
3 هل (إلى) هنا بمعنى مع، أي : من أنصاري مع الله نظيره: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} أي: مع أموالكم، أو هي على بابها، ويكون الكلام "من أنصاري" في الطريق إلى الله؟.
4 أي: عيسى عليه السلام.

ولرسلك بالرسالة. قال تعالى: ونفذ اليهود مكرهم في محاصرتهم لمنزل عيسى ليأخذوه ويصلبوه، ومكر الله تعالى وهو خير الماكرين إذ قال لعبده ورسوله عيسى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} أي: قابضك ورافعك إلى جواري، فقبضه تعالى فأخرجه من روزنة1 المنزل ورفعه2 إليه وألقى الشبه على رئيس شرطة المهاجمين فظنوه هو المسيح فقتلوه وصلبوه فسبحان المدبر الحكيم، وهكذا: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ3} ، وقوله له: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يريد منزهه من تهم اليهود الباطلة، إذ قالوا ساحر وابن زنا، ومبعده من ساحة مجتمعهم الذي تعفن بكفرهم والخبث والشر والفساد وواعده بأنه سيجعل الذين اتبعوه فيما جاء به من الإيمان والإسلام والإحسان فوق الذين كفروا بذلك إلى يوم القيامة وقد أنجز الله تعالى وعده فأعز أهل الإسلام ونصرهم، وأزل اليهود والكفار وأخزاهم. كما واعده أيضاً أن يرد الجميع إليه يوم القيامة ويحكم بينهم فيما اختلفوا فيه في الدنيا من الإيمان والكفر، والصلاح والفساد ويجزي كل فريق بما كسب من خير أو شر فقال: { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} في الدنيا بالقتل والسباء والذلة والمسكنة، وفي الآخرة بعذاب النار، وما لهم من ناصرين يخلصهم من عذابنا، وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجور إيمانهم وصالح أعمالهم في الدنيا نصراً وتمكيناً وفي الآخرة جنات ونعيماً، والله عز وجل لا يحب الظالمين فكيف يظلم عباده إذ جزاهم بأعمالهم؟ إنه لا يظلم أحداً من عباده مؤمنهم وكافرهم مثقال ذرة بل يجزي بعدله ويرحم بفضله
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- قيام الحجة على نصارى نجران، إذ أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالوحي فقرر به بطلان ألوهية عيسى عليه السلام بذكر أوصافه وأحواله مع قومه، وكرامة الله تعالى له، ولاتباعه معه ومن بعده في الدنيا والآخرة.
__________
1 الروزنة: الكوة في السقف أو الجدار.
2 لم أر داعياً إلى استشكال الكثيرين رفع عيسى حياً إلى الملكوت الأعلى وإبقاءه هناك إلى أن ينزله في آخر أيام هذه الدنيا، حيث صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزول عيسى بما لا مجال للشك فيه، إن السنن الكونية خلقها الله تعالى فهو قدير على تبديل ما شاء منها أليس الله على كل شيء قديراً؟ بلى. فلم إذاً يرتبك المؤمنون في شأن رفع عيسى حياً وإبقائه في دار السلام حياً حتى ينزل في آخر الدنيا؟.
3 ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: "اللهم امكر لي ولا تمكر عليّ " ومما يجب أن يعلم أن أفعال الله لا تشبه أفعال العباد لأن ذاته لا تشبه ذواتهم.

2- الإسلام دين الأنبياء وسائر الأمم البشرية ولا دين1 حق غيره فكل دين غيره باطل.
3- تقرير حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في أن لكل نبي حواريين2 وأنصاراً.
4- فضل أهل لا إله إلا الله إذ هم شاهدون بالحق والناطقون به.
5- تقرير قبض الله تعالى لعيسى ورفعه إليه حياً. ونزوله في آخر الدنيا ليحكم زمناً ثم ليموت الموتة التي كتب الله على كل إنسان، فلم يجمع الله تعالى له بين موتتين. هذا دليل أنه رفع إلى السماء حياً لا ميتاً.
6- صادق وعد الله تعالى بعزة أهل الإسلام، وذلة اليهود على مدى الحياة.
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ(60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ(61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ(63)}
شرح الكلمات:
المثل3 : الصفة المستغربة البديعة.
{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} : أي ما قصصناه عليك في شأن عيسى4 هو الحق الثابت من ربك.
__________
1 تقدم شاهده في قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} .
2 تقدم الحديث أنفاً، وهو حديث صحيح.
3 المماثلة الحاصلة بين آدم وعيسى عليهما السلام في شيء واحد وهو: أن كلا منهما خلق من غير أب وخلق بكلمة التكوين وهي: {كن}.
4 وهو أن الله تعالى أرسل جبريل عليه السلام فنفخ في كم درع مريم فسرت النفخة فيها فحملت بعيسى وولدته في ساعة من نهار، وتكلم بعد وضعها له، وطمأن والدته وأرشدها إلى ما تقوله لمن يتصدى لها يعيبها. وحاصله أنه كان بكلمة التكوين وهي: {كن} كما كان آدم بها فلا أب له ولا أم.

{الْمُمْتَرِينَ} : الشاكين، إذ الامتراء: الشك.
{حَاجَّكَ} : جادلك بالحجج.
{نَبْتَهِلْ} : نلتعن أي: نلعن الكاذب منا.
{الْقَصَصُ الْحَقُّ} : ما قصه الله تعالى هو القصص الحق الثابت الذي لا شك فيه.
المفسدون : الذين يعملون بمعاصي الله تعالى في الأرض من الشرك وكبائر الذنوب.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عبودية عيسى ورسالته دون ربوبيته وألوهيته، فقد روي أن وفد نجران قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم فيما قالوا: كل آدمي له أب فما شأن عيسى لا أب له؟ فأنزل الله تعالى على رسوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ} فإذا هو كائن، فأي داع لاتخاذ عيسى إلهاً، ألكونه خلقه الله من غير أب فآدم كذلك خلق بدون أب ولا أم، وإنما كان بكلمة الله، فكذلك عيسى خلق بكلمة الله التي هي: {كُنْ} فكان، هذا هو الحق الثابت من الله تعالى في شأن عيسى عليه السلام فلا تكونن من الشاكين فيه، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يشك1 ولما أكثروا عليه صلى الله عليه وسلم من التردد والمجادلة أرشده ربه تعالى إلى طريق التخلص منهم وهو المباهلة بأن يجتمعوا ويقول كل فريق: اللهم العن الكاذب منا، ومن كان كاذباً منهم يهلك على الفور، فقال له ربه تعالى: فإن حاجوك { فَقُلْ: تَعَالَوْا} "هلموا" {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا2 وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} وخرج في الغد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الحسن والحسين وفاطمة رضي الله عنهم3 أجمعين إلا أن النصارى عرفوا الحق وخافوا إن لاعنوا هلكوا فهربوا4 من الملاعنة، ودعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأبوا ورضوا بالكفر إبقاء على زعامتهم ودنياهم ورضوا بالمصالحة فالتزموا بأداء الجزية للمسلمين والبقاء على دينهم الباطل. ثم قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ5 الْحَقُّ} فالذي قصصناه عليك في شأن عيسى عليه السلام، وأنه عبد الله ورسوله وكلمته
__________
1 أن الخطاب وإن كان موجهاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن المراد غيره من سائر الناس الذين يتأتى لهم الشك، أما هو فإنه المعصوم مما هو أقل من الشك الذي هو كفر.
2 في هذا دليل على أن أبناء البنات يطلق عليهم أبناء فيسمون بذلك.
3 أنه قال لهم، أي: لعلي وفاطمة والحسن والحسين: "إن أنا دعوت فأمنوا" ، أي: قولوا بعدي آمين.
4 في هروب نصارى نجران "وهم علماء" من الملاعنة دليل قاطع على أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله وأن دينه هو الدين الحق وما عداه باطل.
5 القصص: اسم لما يقص، وهو الإخبار بما فيه طول وتفصيل، مشتق من قص الأثر، إذا تتبعه.

ألقاها إلى مريم وروح منه، وأنه لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا هو تعالى، وأن الله لهو العزيز الغالب الذي لا يمانع في شيء أراده، الحكيم في خلقه وتدبيره ثم توعد نصارى نجران وغيرهم من أهل الفساد في الأرض بأنه عليم بهم وسوف يحل نقمته بهم، وينزل لعنته عليهم وهو على كل شيء قدير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ولاية الله تعالى لرسوله بإرشاده إلى الطريقة التي أنهى بها جدال النصارى الذي ألمه وأتعبه.
2- مشروعية المباهلة غير أنها تكون في الصالحين الذين يستجاب لهم.
3- تقرير ألوهية الله تعالى دون سواه وبطلان دعوى النصارى في تأليه عيسى عليه السلام.
4- تهديد الله تعالى لأهل الفساد في الأرض وهم الذين يعملون بالشرك والمعاصي.
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ(64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالأِنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ(65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ(68)}

شرح الكلمات:
{أَهْلَ الْكِتَابِ} : اليهود والنصارى لأن اليهود عندهم التوراة، والنصارى عندهم الإنجيل.
{إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ1} : الكلمة السواء: هي العادلة وهي أن نعبد الله وحده لا شريك له ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله.
{أَرْبَاباً2} : الأرباب: جمع رب، وهو المألوه المطاع بغير طاعة الله تعالى.
{فَإِنْ تَوَلَّوْا} : أعرضوا عن التوحيد.
{اشْهَدُوا} : اعلموا علم رؤيا ومشاهدة بأنا مسلمون.
{تُحَاجُّونَ} : تجادلون بحجج3 باطلة.
{يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً} : لم يكن إبراهيم على ملة اليهود، ولا على ملة النصارى.
{كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} : مائلاً عن الملل الباطلة إلى ملة الحق وهي الإسلام.
{أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ} : أحق بالنسبة إلى إبراهيم وموالاته الذين اتبعوه على التوحيد.
{وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} : متولي أمرهم وناصرهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في إبطال باطل أهل الكتابين إذا قال تعالى لرسوله قل لهم يا أهل الكتاب من يهود ونصارى تعالوا ارتفعوا من وهدة الباطل التي أنتم واقعون فيها إلى كلمة سواء كلمة عدل نصف بيننا وهي أن نعبد الله وحده لا نشرك به سواه وأن لا يتخذ بعضنا4 بعضاً أرباباً من دون الله فيفرض طاعته على غيره5 ويلزمه بالسجود له تعظيماً وتقديساً فإن أبوا عليك ذلك
__________
1 كلمة: سوىً، وسوى، وسواء: بمعنى واحد إلى أن السين إذا فتحت مدت.
2 نظيرها قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} معناه: أنهم أنزلوهم منزلة ربهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرمه الله ولم يحلله، وسجدوا لهم أيضاً.
3 المجادلة بالتي هي أحسن والقائمة على أساس العلم الصحيح ممدوحة غير مذمومة، وهذه صورة لها: أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما لونها؟ قال: حمر. قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم. قال: فمن أين ذلك؟ قال: لعل عرقاً نزعه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعل عرقاً نزعه".
4 وقد راسل النبي صلى الله عليه وسلم ملوك الروم بمضمون هذه الآية، إذ كتب إلى هرقل قائلاً: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك اثم الأريسيين (الأكارين) (وهم الفلاحون) {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} .. إلى قوله {مسلمون} ". رواه مسلم.
5 وذلك بأن يحرم عليه ما أحل الله ويحل له ما حرم الله ويلزمه بقبول ذلك والإذعان له.

وتولوا عنه فقولوا أيها المؤمنون: اشهدوا أيها المتولون عن الحق بأنا مسلمون. وفي هذا تعريض بل تصريح بأن غيرهم ليسوا مسلمين.
هذا معنى الآية الأولى(64) أما الآية الثانية(65) فيأمر تعالى رسوله أيضاً أن يقول للمتولين عن الحق يا أهل الكتاب لم تحاجون في شأن إبراهيم وتدعي كل طائفة منكم أن إبراهيم كان على دينها مع أن اليهودية ما كانت إلا بعد نزول التوراة، والنصرانية ما كانت إلا بعد نزول الإنجيل، وإبراهيم كان قبل نزول الكنابين بمائات السنين، مالكم تقولون بما لا يقبل ولا يعقل أفلا تعقلون؟ ثم وبخهم بما هم أهله قائلاً لهم: اسمعوا يا هؤلاء أنتم جادلتم فيما لكم به علم في شأن دينكم وكتابكم فلم تجادلون فيما ليس لكم به علم في شأن إبراهيم وملته الحنيفية التي قامت على مبدأ التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، والله يعلم من شأن إبراهيم ودينه ما لا تعلمون أننتم فليس من حقكم القول فيما لا تعلمونه. ثم أكذبهم بعد أن وبخهم فقال: { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً} وإنما كان حنيفاً موحداً مطيعاً لربه مسلماً له ولم يكن من المشركين. وبعد أن وبخ تعالى المجادلين لرسوله وكذبهم في دعواهم أن إبراهيم على دينهم قرر حقيقة كبرى ينبغي أن يعلموها ويقروا بها وهي أن أحق1 الناس بالنسبة لإبراهيم والإنتماء إليه هم الذين اتبعوه على ملة التوحيد وعبادة الله تعالى بما شرع وهذا النبي الكريم العظيم محمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه واتبعوا الهدى الذي جاء به، والله تعالى ولي المؤمنين، وعدو الكافرين والمشركين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا يصلح حال البشرية ولا يستقيم أمرها إلا إذا أخذت بمبدأ: الكلمة السواء وهي أن تعبد ربها وحده لا تشرك به سواه، وألا يعلو بعضها على بعض تحت أي قانون أو شعار.
2- حجية التاريخ وبيان الحاجة إليه، إذ رد الله تعالى على أهل الكتاب في دعواهم أن إبراهيم كان على دينهم بأن التوراة والإنجيل لم ينزلا إلا بعد وفاته فكيف يكون يهودياً أو نصرانياً.
__________
1 روى أن ابن عباس قال: "قال رؤساء اليهود: والله يا محمد لقد علمت إنا أولى الناس بدين إبراهيم منك ومن غيرك فإنه كان يهودياً وما بك إلا الحسد فأنزل الله تعالى هذه الآية: {ما كان إبراهيم يهودياً... -إلى قوله :- والله ولي المؤمنين}.

3- ذم من يجادل1 فيما لا علم له به، ولا شأن له فيه.
4- اليهودية كالنصرانية لم تكن دين الله تعالى، وإنما هما بدعتان لا غير.
5- المؤمنون بعضهم أولياء بعض وإن تناءت ديارهم وتباعدت أقطارهم والله ولي المؤمنين.
{وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ(70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(71)}
شرح الكلمات:
{وَدَّتْ طَائِفَةٌ2} : أحبت فرقة وهم الأحبار والرؤساء فيهم.
{لَوْ يُضِلُّونَكُمْ3} : أي: تمنوا إيقاعكم في الضلال لتشقوا وتهلكوا مثلهم.
{وَمَا يَشْعُرُونَ} : أي: وما يدرون ولا يعلمون بأنهم بمحاولة إضلال المؤمنين إنما هم يضلون أنفسهم حيث يتوغلون في الشر فيضاعف لهم العذاب.
لبس الحق بالباطل : خلطه به كأنما كسا الباطل ثوب الحق وكسا الحق ثوب الباطل حتى لا يُعرف فيؤخذ به، ويهتدي عليه.
معنى الآيات:
يخبر تعالى عباده المؤمنين أن فرقة من أهل الكتاب تمنوا لو توقعكم في الضلال لتهلكوا والغالب أن هذه الطائفة تكون في رؤسائهم من أحبار وقسس وإن كان أغلب اليهود
__________
1 قال القرطبي: "نزلت هذه الآية في معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر حين دعاهم يهود من بني النضير وقريضة وبني قينقاع إلى دينهم والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
2 الإضلال: يكون بمعنى الهلاك كما هو هنا وعليه قول الشاعر:
كنت القذى في موج أكدر مزبد ... قذف الأوتي به فضل ضلالاً
أي: هلك هلاكاً، والأوتي: السيل يأتي من حيث لا يعلم.
3 تقدم أنهم من يهود المدينة وأن العبرة بعموم اللفظ، لذا فإن هذا النوع ما زال إلى اليوم يود إضلال المسلمين.

والنصارى يودون إضلال المسلمين حسداً لهم على الحق الذي هم عليه، وأخبر تعالى أنهم بتمنيهم هلاك المسلمين إنما يهلكون أنفسهم وما يدرون ذلك ولا يعلمون به وقال عز وجل: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} .
هذا معنى الآية(69) أما الآية(70) فقد نادى الرب تعالى أهل الكتاب ليوبخهم وينعي عليهم ضلالهم فقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ1 بآيَاتِ اللَّهِ} أي: لم تجحدون الآيات التي بها نعت الرسول وصفته لله في التوراة والإنجيل والحال أنكم تشهدون أنها صفات الرسول ونعوته وإنها منطبقة عليه؟ أليس هذا قبحاً منكم وشراً تعود عاقبته عليكم؟.
وفي الآية(71) وبخهم أيضاً على خلطهم الحق بالباطل حتى لا يعرف ويؤخذ به ويهتدي عليه فقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ2 لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِل}ِ وشنع عليهم بكتمانهم الحق الذي هو نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم المبينة في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم فقال: {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه الحق من الله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان رغبة كثير من اليهود والنصارى في إضلال المسلمين وإهلاكهم.
2- عاقبة الشر والفساد تعود على صاحبها في نهاية الأمر.
3- قبح من يكتم الحق وهو يعرفه.
4- حرمة التدليس والتلبيس في كل شيء لا سيما في دين الله تعالى لإبعاد الناس عنه.
5- حرمة كتمان الحق في الشهادة وغيرها.
{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ
__________
1 الاستفهام إنكاري، والآيات هي المشتملة على صفات الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ونعوته، ومن الآيات المعجزات التي تجلت على يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
2 إعادة النداء مرة ثانية: {يا أهل الكتاب} لأجل توبيخهم وتسجيل باطلهم عليهم.

الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(73)}
شرح الكلمات:
وجه النهار1 وآخره : أوله: وهو الصباح، وأخره: وهو المساء.
{وَلا تُؤْمِنُوا2 إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} : أي: لا تصدقوا إلا ما كان على ملتكم.
{الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} : البيان الحق والتوفيق الكامل بيان الله وهداه لا ما يخلط اليهود ويلبسون تضليلاً للناس.
{أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} : أن يعطى أحد نبوة وديناً وفضلاً.
{أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} : يخاصموكم يوم القيامة عند ربكم.
{قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّه} : قل إن التوفيق للإيمان والهداية للإسلام بيد الله لا بيد غيره.
{وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} : ذو سعة بفضله، عليم بمن يستحق فضله فيمن عليه.معنى الآيات:
يخبر تعالى عن كيد اليهود ومكرهم بالمسلمين فيقول: {وَقَالَتْ3 طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وذلك أن كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف عليهما لعائن الله قال لبعض إخوانهم صلوا مع المسلمين صلاة الصبح إلى الكعبة، وصلوا العصر إلى الصخرة بيت المقدس فإن قيل لكم: لم عدلتم
__________
1 سمي أول النهار: وجهاً: لأنه أحسنه، وأول ما يواجه، ومنه قال الشاعر:
وتضيء في وجه النهار منيرة ... كجمانة البحرية سل نظامها
2 هذا نهي من يهود خيبر إلى إخوانهم من يهود المدينة.
3 عطف على: {ودت طائفة} ، فالطائفة الأولى ودت إضلال المسلمين جهراً وعلناً، وهذه حاولته بالخداع والتضليل بأساليب المكر والإحتيال.

عن الكعبة بعد ما صليتم إليها؟ قولوا لهم قد تبين لنا أن الحق هو استقبال الصخرة لا الكعبة.
هذا معنى قوله تعالى فيهم: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ1 مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا2 بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} يعني في شأن القبلة، {وَجْهَ النَّهَارِ} أي: صباحاً {وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} أي: واجحدوا به مساءاً، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: إلى استقبال الصخرة بدلاً عن الكعبة، والغرض هو بلبلة أفكار المسلمين وإدخال الشك عليهم3 وقوله تعالى عنهم: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} يريد أنهم قالوا لبعضهم بعضا لا تصدقوا أحداً إلا لمن تبع دينكم من أهل ملتكم وهذا صرف من رؤسائهم لليهود عن الإسلام وقبوله، أي لا تصدقوا المسلمين فيما يقولون لكم، وهنا رد تعالى عليهم بقوله قل يا رسولنا: {إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}، لا ما يحتكره اليهود من الضلال ويزعمون أنه الحق والهدى وهو البدعة اليهودية، وقوله تعالى: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} هو قول اليهود معطوف على قولهم: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} ، أما قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى...} فهو كلام معترض بين كلام اليهود الذي قُدم تعجيلاً للرد عليهم، ومعنى قولهم: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ...} إلخ. أي: كراهة أن يعترف من قبلكم بأن محمداً نبي حق وأن دينه حق فيتابعه اليهود والمشركون عليه فيسلمون، أو على الأقل يثبت المسلمون عليه، ونحن نريد زلزلتهم وتشكيكهم حتى يعودوا إلى دين آبائهم، أو يحاجوكم عند ربكم يوم القيامة وتكون لهم الحجة عليكم إن أنتم اعترفتم لهم اليوم بأن نبيهم حق ودينهم حق، فلذا واصلوا الإصرار أنه لا دين حق إلا اليهودية وأن ما عداها باطل وهنا أمر تعالى رسوله أن يقول لهم مبكتاً لهم: {إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} ، لا بيد اليهود {يُؤْتِيهِ} أي: الفضل الذي هو النبوة والهدى والتوفيق وما يتبع ذلك من خير الدنيا والآخرة، {مَنْ يَشَاءُ} من عباده ويحرمه من يشاء، وهو الواسع الفضل العليم بمن يستأهله ويحق له {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
__________
1 الطائفة: الجماعة، وسميت بها؛ لأنها يسوى بها حلقة يطاف حولها.
2 ولا مانع أن يكون مراداً من الآية أنهم قالوا لسفلتهم أظهروا الإيمان بمحمد ودينه في أول النهار ثم أكفروا به آخره فإنكم إن فعلتم ذلك ارتاب من يتبعه في دينه فيرجع عن دينه إلى دينكم إلا أن ما فسرنا به الآية أظهر.
3 وهذا لا يمنع أن يكون قولهم: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ} إظهاراً منهم للدخول في الإسلام والاعتراف به في أول النهار، مكراً وخديعة، فإذا ولى النهار أظهروا رجوعهم عنه لظن من رآهم أنهم يريدون الحق، ولذلك أسلموا، فلما تبين لهم بطلان الإسلام وعدم صحته رجعوا عنه.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تسجيل المكر والخداع على اليهود وأنه صفة من صفاتهم اللازمة لهم إلى يوم القيامة.
2- الكشف عن التعصب اليهودي وأساليب التمويه والتضليل، والإعلام العالمي اليوم مظهر من مظاهر التضليل اليهودي.
3- سذاجة اليهود المتناهية في فهم مسائل الدين والاعتقاد توارثوها إلى اليوم، وإلا فأي مؤمن بالله واليوم الآخر يقول: لا تعترفوا للمسملين بأنهم على حق حتى لا يحتجوا عليكم بإعترافكم يوم القيامة؟.
إن الله تعالى يعلم أن اليهود يجحدون الإسلام وهو الحق ويكفرون به وهو الحق من ربهم وسيعذبهم في نار جهنم يخلدون فيها، وكونهم لا يصرحون للمسلمين بأنهم على حق وهم يعلمون أنهم على الحق في دينهم ينجيهم هذا من عذاب الله على كفرهم بالإسلام؟.
اللهم لا. فما معنى قولهم لا تعترفوا بالإسلام حتى لا يحتج عليكم المسلمون باعترافكم يوم القيامة؟؟ إنه الجهل والسذاجة في الفهم. وسبحان الله ماذا في الخلق من عجائب!!.
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(77)}

شرح الكلمات:
{إِنْ تَأْمَنْهُ} : ائتمنه على كذا وضعه عنده أمانة وأمنه عليه فلم يخفه.
{بِقِنْطَارٍ} : وزن معروف، والمراد هنا أنه من ذهب بدليل الدينار.
{إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} : أي ملازماً له تطالبه1 به ليل نهار.
{الأُمِّيِّينَ} : العرب والمشركين.
{سَبِيلٌ} : أي: لا يؤاخذنا الله إن نحن أكلنا أموالهم؛ لأنهم مشركون.
{بَلَى} : أي: ليس الأمر كما يقول اليهود من أنه ليس عليهم حرج ولا إثم في أكل أموال العرب المشركين بل عليهم الإثم والمؤاخذة2.
{لا خَلاقَ لَهُمْ} : أي: لا حظ ولا نصيب لهم في خيرات الآخرة ونعيم الجنان.
{وَلا يُزَكِّيهِمْ}: لا يطهرهم من ذنوبهم ولا يكفرها عنهم.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في هتك أستار أهل الكتاب وبيان نفسياتهم المريضة وصفاتهم الذميمة ففي هذه الآية(75) يخبر تعالى أن في اليهود من إن أمنته على أكبر مال أداه إليك وافياً كاملاً، ومنهم من إذا أمنته على دينار فأقل خانك فيه وأنكره عليك فلا يؤديه إليك إلا بمقاضاتك له وملازمتك إياه... فقال تعالى في خطاب رسوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ3 إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} ، ويعلل الرب تعالى سلوكهم هذا بأنهم يقولون: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} أي: لا حرج علينا ولا إثم في أكل أموال العرب لأنهم مشركون فلا نؤاخذ بأكل أموالهم وكذبهم الله تعالى في هذه الدعوة الباطلة فقال تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي: أنه كذب على الله ولكن يكذبون ليسوغوا كذبهم وخيانتهم.
وفي الآية الثانية(76) يقول تعالى: {بَلَى} أي: ليس الأمر كما يدعون بل عليهم الإثم
__________
1 استدل أبو حنيفة بقوله تعالى: {إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} ، على جواز ملازمة الغريم، ولم يرضه العلماء واستدل بعض العلماء على حبس المدين بهذه الآية.
2 قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: "إنا نصيف في العمد من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة ونقول ليس علينا في ذلك بأس. فقال له: هذا كما قال أهل الكتاب: ليس علينا في الأميين سبيل، إنهم إذا أدوا الجزية لا تحل لكم أموالهم إلا عن طيب أنفسهم.
3 ما دام في أهل الكتاب الأمين والخائن والتمييز بينهم متعذر، إذاً تعين اجتنابهم جميعاً.

والحرج والمؤاخذة، وإنما لا إثم ولا حرج ولا مؤاخذة على من أوفى بعهد الله تعالى فآمن برسوله وبما جاء به، واتقى الشرك والمعاصي فهذا الذي يحبه الله فلا يعذبه؛ لأنه عز وجل يحب المتقين. وأما الآية الأخيرة(77) فيتوعد الرب تعالى بأشد أنواع العقوبات أولئك الذين يعاهدون ويخونون ويحلفون ويكذبون من أجل حطام الدنيا ومتاعها القليل فيقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ1 ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} أي: لا حظ ولا نصيب لهم في نعيم الدار الآخرة ولا يكلمهم تشريفاً لهم وإكراماً، ولا يزكيهم بالثناء عليهم ولا بتطهيرهم من ذنوبهم، ولهم عذاب مؤلم في دار الشقاء وهو عذاب دائم مقيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- يجب أن لا يغتر باليهود ولا يوثق فيهم لما عرفوا به من الخيانة.
2- من كذب على الله أحرى به أن يكذب على الناس.
3- بيان اعتقاد اليهود في أن البشرية غير اليهود نجس وأن أموالهم وأعراضهم مباحة لليهود حلال لهم، لأنهم المؤمنون في نظرهم وغيرهم الكفار.
4- عظم ذنب من يخون عهده من أجل المال، وكذا من يحلف كاذباً لأجل المال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين يستحق بها مالاً وهو فيها فاجر لقي2 الله وهو عليه غضبان".
{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(78)}
شرح الكلمات:
{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً} : طائفة من اليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة النبوية.
__________
1 أخرج أهل السنن وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقطع حق امرء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان" .
2 رواه أحمد وله شواهد في الصحاح، وروى الأئمة عنه صلى الله عليه وسلم قوله: من اقتطع حق امرء مسلم بيمينه فقد أوجب له النار وحرم عليه النار" فقال له رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: "وإن كان قضيباً من آراك" .

{يَلْوُونَ1 أَلْسِنَتَهُمْ} : يحرفون السنتهم بالكلام كأنهم يقرأون الكتاب.
{وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} : وليس هو من الكتاب.
{وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} : أي: يكذبون على الله لأغراض مادية.
معنى الآية:
ما زال السياق في اليهود وبيان فضائحهم فأخبر تعالى أن طائفة منهم يلوون ألسنتهم بمعنى يحرفون نطقهم بالكلام تمويهاً على السامعين كأنهم يقرأون التوراة وما أنزل الله فيها، ولي هو من الكتاب المنزل في شيء بل هو الكذب البحت، ويقولون لكم إنه من عند الله وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب لأجل الحفاظ على الحطام الخسيس والرئاسة الكاذبة.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- بيان مكر اليهود وتضليلهم وخداعهم لهم باسم الدين والعلم.
2- جرأة اليهود على الكذب على الناس وعلى الله مع علمهم بأنهم يكذبون وهو قبح أشد وظلم أعظم.
3- التحذير للمسلم من سلوك اليهود في التضليل والقول على الله والرسول لأجل الأغراض الدنيوية الفاسدة.
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ(79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(80)}
__________
1 قرئ: {يلوون} على التكثير، والمعنى يحرفون الكلم عن القصد، وأصل اللي، الميل. يقال: لوى رأسه، إذا أماله، ومنه قوله تعالى: {لياً بألسنتهم} أي: ميلاً عن الحق، واللي: المطل أيضاً لحديث: "لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته" في الصحيح.

شرح الكلمات:
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ1} : لم يكن من شأن الإنسان2 الذي يؤتيه الله الكتاب والحكمة والنبوة.
{الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} : الكتاب: وحي الله المكتوب والحكم: بمعنى الحكمة وهي الفقه في أسرار الشرع، والنبوة: ما يشرف الله تعالى به عبده من إنباءه بالغيب وتكليمه بالوحي.
{رَبَّانِيِّينَ3} : جمع رباني: من ينسب إلى الرب لكثرة عبادته وغزارة علمه، أو إلى الربان وهو الذي يرب الناس فيصلح أمورهم ويقوم عليها.
{أَرْبَاباً} : جمع رب بمعنى السيد المعبود.
{أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ} : الاستفهام للإنكار، والكفر هنا: الردة عن الإسلام.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في الرد على أهل الكتاب وفي هذه الآية(79) الرد على وفد نصارى نجران خاصة وهم الذين يؤلهون المسيح عليه السلام. قال تعالى: ليس من شأن أي إنسان يعطيه الله الكتاب أن ينزل عليه كتاباً ويعطيه الحكم فيه وهو الفهم والفقه في أسراره فيشرفه بالنبوة فيوحي إليه، ويجعله في ذمة أنبيائه، ثم هو4 يدعو الناس إلى عبادة نفسه فيقول للناس: {كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} . إن هذا ما كان ولن يكون أبداً. لا مما هو متصور الوقوع أيضاً فما لكم أنتم يا معشر النصارى تعتقدون هذا في المسيح عليه السلام؟ إن من أوتى مثل هذا الكمال لا يقول للناس كونوا عباداً لي ولكن يقول لهم كونوا ربانيين تصلحون الناس وتهدونهم إلى ربهم ليكملوا بطاعته ويسعدوا عليها، وذلك بتعليمهم الكتاب وتدريسه ودراسته.
هذا معنى الآية(79) أما الآية(80) فإن الله تعالى يخبر عن رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه لا يؤمر الناس بعبادة غير ربه تعالى سواء كان ذلك الغير ملكاً مكرماً أو نبياً مرسلاً، وينكر على من
__________
1 لفظ: البشر: يطلق على الواحد، والجمع؛ لأنه كالمصدر، والمراد به هنا: عيسى عليه السلام.
2 أي: لا يجتمع لنبي إتيان النبوة مع قوله: {كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، وإنما الذي يجتمع له مع إتيان النبوة هو قوله: {كونُوا رَبَّانيِين} .
3 الرباني: والجمع: ربانيين، مشتق من: ربه يربه، فهو ربان له إذا دبره وأصلحه.
4 قالت اليهود يوماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: أتريد أن نتخذك يا محمد رباً؟ فأنزل الله تعالى قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية.

نسبوا ذلك إليه صلى الله عليه وسلم فيقول: {أَيَأْمُرُكُمْ1 بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فهذا لا يصح منه ولا يصدر بحال.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- لم يكن من الممكن لمن آتاه الله الكتاب والحكمة وشرفه بالنبوة أن يدعو الناس لعبادة نفسه فضلاً عن عبادة غيره.
2- سادات الناس هم الربانيون الذين يربون الناس بالعلم والحكمة فيصلحونهم ويهدونهم.
3- عظماء الناس2 من يعلمون الناس الخير ويهدونهم إليه.
4- السجود لغير الله تعالى كفر لما ورد أن الآية نزلت رداً على من أرادوا أن يسجدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُون} ؟!.
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ(81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ(83)}
شرح الكلمات:
الميثاق : العهد المؤكد باليمين.
__________
1 الاستفهام إنكاري، وفيه معنى التعجب، إذ ليس من شأن النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ الناس عباداً يتأله لهم، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: "لا يقولون أحدكم عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي. وليقل أحدكم ربي وليقل سيدي" .
2 روى ابن عبد البر عن على رضي الله عنه قوله: "من علم وعمل وعلّم دعي في ملكوت السموات عظيما" وهو مروي عن عيسى عليه السلام.

{لَمَا1 آتَيْتُكُمْ2} : مهما آتيتكم.
{لَتُؤْمِنُنَّ3} : لتصدقن برسالته
{أَأَقْرَرْتُمْ} : الهمزة الأولى للاستفهام التقرير، وأقررتم: بمعنى اعترفتم.
{إِصْرِي} : عهدي وميثاقي.
{فَمَنْ تَوَلَّى} : رجع عما اعترف به وأقر.
{الْفَاسِقُونَ} : الخارجون عن طاعة الله ورسوله.
{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} : الاستفهام للإنكار، ويبغون: بمعنى يطلبون.
{وَلَهُ أَسْلَمَ} : انقاد وخضع لمجاري أقدار الله وأحكامه عليه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الرد على نصارى نجران فيقول تعالى لرسوله اذكر لهم ما أخذ الله على النبيين وأممهم من ميثاق أنه مهما آتاهم من كناب وحكمة ثم جاءهم رسول مصدق لما معهم من النور والهدى ليؤمنن به ولينصرنه على أعداءه ومناؤيه من أهل الكفر وأنه تعالى قررهم فأقروا واعترفوا ثم استشدهم على ذلك فشهدوا وشهد تعالى فقال: {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} ثم أكد تعالى ذلك مرة أخرى بأن من يعرض عن هذا الميثاق ولم يف به يعتبر فاسقاً ويلقى جزاء الفاسقين فقال تعالى: {فَمَنْ تَوَلَّى4 بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
وقد نقض هذا الميثاق كل من اليهود والنصارى، إذ لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به وقد أخذ عليهم الميثاق بالإيمان به، وبنصره، فكفروا به، وخذلوه، فكانوا بذلك الفاسقين المستوجبين لعذاب الله.
__________
1 قرأ نافع: {لما آتيناكم} بنون العظمة، وقرأ حفص: {لما أتيتكم} بتاء المتلكم وصيغة الميثاق هي: {لَمَا آتَيْتُكُمْ} إلى قوله: {ولتنصرنه} .
2 قرأ أهل الكوفة: {لِمَا آتَيْتُكُمْ} بكسر لام لما، أي: لأجل ما آتيتكم من كتاب... إلخ. وتكون: {ما} موصولة بمعنى الذي، أي: للذي آتيتكم... إلخ.
3 روى ابن كثير عن علي وابن عباس رضي الله عنهم، أنهما قالا: "ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لأن بعث الله محمداً وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرننه، وهذا غير مناف لما قال قتادة وغيره: أن الله أخذ من النبيين ميثاقهم أن يصدق بعضهم بعضاً.
4 التولي والفسق مستحيل في حق أنبياء الله ورسله، ولذا فالمأخوذ عليهم: العهد والميثاق، هم أتباع الأنبياء والرسل، وإنما قال: ميثاق النبيين؛ لأنهم هم المبلغون أممهم لما أخذ عليهم، ويوضح هذا قوله: {فاشهدوا} أي: على أممكم.

ثم وبخ تعالى أهل الكتاب قائلاً: { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ1 –يريد الإسلام- يَبْغُونَ} أي يطلبون، ولله أسلم، أي: انقاد وخضع من في السموات من الملائكة والأرض من سائر المخلوقات الأرضية طوعاً أو كرهاً2: طائعين أو مكرهين وفوق هذا أنكم ترجعون إليه فيحاسبكم، ويجزيكم بأعمالكم.
هذا ما تضمنته الآية الأخيرة(83) إذ قال تعالى :{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله تعالى في الأنبياء السابقين وهي أن يؤمن بعضهم ببعض وينصر بعضهم بعضاً.
2- كفر أهل الكتاب وفسقهم بنقضهم الميثاق وتوليهم عن الإسلام وإعراضهم عنه بعد كفرهم بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وقد أخذ عليهم الميثاق بأن يؤمنوا به ويتبعوه.
3- بيان عظم شأن العهود والمواثيق عند الله تعالى.
4- الإنكار على من يعرض عن دين الله الإسلام. مع أن الكون كله خاضع منقاد لأمر الله ومجاري أقداره مسلم له.
{قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ(85)}
__________
1 الاستفهام للتقريع والتوبيخ، وروى عن الكلبي أن كعب بن الأشرف اليهودي وأصحابه اختصموا مع النصارى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أينا أحق بدين إبراهيم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "كلا الفريقين بريء من دينه" فقالوا: ما نرضى ولا نأخذ بدينك. فنزل قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} الآية.
2 طوعاً وكرهاً: مصدران في موضع الحال، أي: طائعين ومكرهين، إذ كل مخلوق منقاد مستسلم لما جبله الله عليه وقضاه وقدره له لا يخرج عنه بحال.

شرح الكلمات:
{الأَسْبَاطِ} : جمع سبط والسبط الحفيد، والمراد بالأسباط هنا أولاد يعقوب الاثنا عشر والأسباط في اليهود كالقبائل في العرب.
{يَبْتَغِ} : يطلب ويريد ديناً غير الدين الإسلامي.
{الْخَاسِرِينَ} : الهالكين بالخلد في نار جهنم والذين خسروا كل شيء حتى أنفسهم.معنى الآيتين:
ما زال السياق في حجاج أهل الكتاب فبعد أن وبخهم تعالى بقوله في الآيات السابقة: أفغير دين الله تبتغون يا معشر اليهود والنصارى؟ فإن قالوا: نعم. فقل أنت1 يا رسولنا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ} علينا من وحي وشرع وآمنا بما أنزل على إبراهيم خليل الرحمن وما أنزل على ولديه إسماعيل وإسحق وما أنزل على يعقوب وأولاده الأسباط، وآمنا بما أوتي موسى من التوراة وعيسى من الإنجيل، وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد من أنبياءه بل نؤمن بهم وبما جاؤا به فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما هي حالكم يا معشر اليهود والنصارى. ونحن لله تعالى مسلمون، أي: منقادون مطيعون لا نعبده بغير ما شرع ولا نعبد معه سواه. هذا معنى الآية الأولى(84) أما الآية الثانية(85) فإن الله تعالى يقرر أن كل دين غير الإسلام باطل، وأن من يطلب ديناً غير الإسلام لن يقبل منه بحال ويخسر في الآخرة خسراناً كبيراً فقال تعالى: { وَمَنْ2 يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، وذلك هو الخسران المبين.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- لا يصح إيمان عبد يؤمن ببعض الرسل ويكفر ببعض، كما لا يصح إيمان عبد يؤمن ببعض ما أنزل الله تعالى على رسله ويكفر ببعض.
__________
1 في الآية تعليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين عقيدة الإيمان الصحيحة التي أحبها الله لهم ليكملوا بها ويسعدوا عليها بإذن الله تعالى.
2 روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تجيء الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلاة فتقول يا رب أنا الصلاة فيقول: إنك على خير، وتجيء الصدقة فتقول: يا رب أنا الصدقة. فيقول: إنك على خير، ثم يجيء الصيام فيقول: يا رب أن الصيام. فيقول: إنك على خير، ثم تجيء الأعمال كل ذلك ويقول الله تعالى إنك على خير، ثم يجيء الإسلام فيقول: يا رب أنت السلام، وأنا الإسلام. فيقول الله تعالى: إنك على خير اليوم بك آخذ وبك أعطي، قال الله تعالى في كتابه : {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ". تفرد به أحمد.

2- الإسلام: هو الانقياد والخضوع لله تعالى، وهو يتنافى مع التخيير بين رسل الله ووحيه إليهم.
3- بطلان سائر الأديان والملل سوى الدين الإسلامي وملة محمد صلى الله عليه وسلم.
{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(87) خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ(88) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(89)}
شرح الكلمات:
{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً} : الاستفهام هنا للاستبعاد1، والهداية: الخروج من الضلال.
{الْبَيِّنَاتُ} : الحجج من معجزات الرسل وآيات القرآن المبينة للحق في المعتقد والعمل.
{الظَّالِمِينَ} : المتجاوزين الحد في الظلم المسرفين فيه حتى أصبح الظلم وصفاً لازماً لهم.
{لَعْنَةَ اللَّهِ} : طرد الله لهم من كل خير، ولعنة الملائكة والناس: دعائهم عليهم بذلك.
{وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} : ولا هم يمهلون من أنظره إذا أمهله ولم يعجل بعذابه.
َأَصْلَحُوا : أصلحوا ما أفسدوه من أنفسهم ومن غيرهم.
__________
1 الاستفهام للنفي والاستبعاد، إذ هو بمعنى: لا يهدي الله قوماً.. إلخ. ومنه قول الشاعر:
كيف نومي على الفراش ولما ...
يشمل القوم غارة شعواء

معنى الآيات:
ما زال السياق في أهل الكتاب1 وإن تناولت غيرهم ممن ارتد عن الإسلام من بعض الأنصار ثم عاد إلى الإسلام فأسلم وحسن إسلامه ففي كل هؤلاء يقول تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} فقد كفر اليهود بعيسى عليه السلام، وشهدوا أن الرسول محمداً حق وجاءتهم الحجج والبراهين على صدق نبوته وصحة ما جاء به من الدين الحق، والله حسب سنته في خلقه لا يهدي من أسرف في الظلم وتجاوز الحد فيه فأصبح الظلم طبعاً من طباعه، فلهذا كانت هداية من هذه حاله مستبعدة للغاية، وإن لم تكن مستحيلة ثم أخبر تعالى عنهم متوعداً لهم فقال: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} {خَالِدِينَ فِيهَا} أي: في تلك اللعنة الموجبة لهم عذاب النار {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي: ولا يمهلون ليعتذروا، أو لا يخفف عنهم العذاب. ثم لما لم تكن توبتهم مستحيلة ولأن الله تعالى يحب توبة عباده ويقبلها منهم قال تعالى فاتحاً باب رحمته لعباده مهما كانت ذنوبهم {إِلا الَّذِينَ تَابُوا2 مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} الكفر والظلم، {وَأَصْلَحُوا} نفوسهم بالإيمان وصالح الأعمال { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فكان هذا كالوعد منه سبحانه وتعالى بأن يغفر لهم ذنوبهم ويرحمهم بدخول الجنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التوغل في الشر والفساد أو الظلم والكفر قد يمنع3 العبد من التوبة. ولذا وجب على العبد إذا أذنب ذنباً أن يتوب منه فوراً، ولا يواصله مصراً عليه خشية أن يحال بنيه وبين التوبة.
2- التوبة مقبولة متى قامت على أسسها واستوفت شروطها ومن ذلك الإقلاع عن الذنب فوراً، والندم على ارتكابه، والاستغفار والعزم على عدم العودة إلى الذنب الذي تاب منه وإصلاح ما أفسده مما يمكن إصلاحه.
__________
1 روى عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن الآية نزلت في رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم راسل قومه ليسألوا له رسول الله صلى الله عليه وسلم هل له توبة فجاء قومه وسألوا له فأنزل الله هذه الآية: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً} إلى {غفور رحيم} ، و الاية تتناول اليهود من باب أولى وتنطبق عليهم تماماً فتشمل من تاب منهم ومن لم يتب على حد سواء".
2 روى ابن كثير والقرطبي أن الحارث بن سويد آخا الجلاس بن سويد الأنصاري قد ارتد بعد إسلامه مع اثنى عشر رجلاً والتحقوا بمكة ثم تاب الحارث فأسلم وحسن إسلامه.
3 أورد هنا القرطبي سؤالاً، وهو: أن ظاهر الآية: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} دال على أن من كفر بعد إسلامه لا يهديه الله وكثيراً من الظالمين تابوا من الظلم؟. وأجاب بقوله إن معنى لا يهديهم ما داموا مقيمين على كفرهم وظلمهم ولا يقبلون على الإسلام فأما إن أسلموا وتابوا فقد وفقهم الله لذلك. والله أعلم. أ.هـ كلامه.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ(90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ(91)}
شرح الكلمات:
الكفر : الجحود لله تعالى والتكذيب لرسوله وما جاء به من الدين والشرع.
{بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} : أي: ارتدوا عن الإسلام إلى الكفر.
{الضَّالُّونَ} : المخطئون طريق الهدى.
{مِلءُ الأَرْضِ} : ما يملأها من الذهب.
{وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} : ولو قدموا فداء لنفسه من النار ما قبل منه.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في أهل الكتاب وهو هنا في اليهود خاصة إذ أخبر تعالى عنهم أنهم كفروا بعد إيمانهم كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بموسى والتوراة. ثم ازدادوا1 كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، فلن تقبل توبتهم إلا إذا تابوا بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن لكنهم مصرون على الكفر بهما فكيف تقبل توبتهم، إذاً مع إصرارهم على الكفر، ولذا أخبر تعالى أنهم هم الضالون البالغون أبعد الحدود في الضلال ومن كانت هذه حاله فلا يتوب ولا تقبل توبته، ثم قرر مصيرهم بقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الأَرْضِ ذَهَباً} يريد يوم القيامة مع أنه لا مال يومئذ ولكن من باب الفرض والتقدير لا غير. فلو أن لأحدهم ملء الأرض ذهباً وقبل منه فداء لنفسه من عذاب الله لافتدى، ولكن
__________
1 أورد القرطبي إشكالاً عن قوله تعالى: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} مع العلم أن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرر، كما صح في الخبر، وكيف وهو القائل: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَات} ، وذكر ثلاثة أجوبة: الأول: أنه لا يقبل توبتهم عند الموت، كما هو نص الآية: {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ...} . الثاني: أنها لا تقبل توبتهم التي كانت قبل كفرهم إن الكفر محبط للعمل. والثالث: أنها لا تقبل وهم مصرون على الكفر. قلت: وهذا أمثلها وهو ما ذكرته في تفسير الآية. والله أعلم.

هيهات هيهات1 إنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، ولكن من جاء ربه بقلب سليم من الشرك والشك وسائر أمراض القلوب نجا من النار ودخل الجنة بإذن الله تعالى.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- سنة الله فيمن توغل في الكفر أو الظلم أو الفسق وبلغ حدا ًبعيداً أنه لا يتوب.
2- اليأس من نجاة من مات كافراً يوم القيامة.
3- لا فدية تقبل يوم القيامة من أحد ولا فداء لأحد فيه.
{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ(92)}
شرح الكلمات:
{لَنْ تَنَالُوا} : لن تحصلوا عليه وتظفروا به.
{الْبِرَّ} : كلمة جامعة لكل خير، والمراد به هنا ثوابه وهو الجنة.
{تُنْفِقُوا} : تتصدقوا.
{مِمَّا تُحِبُّونَ} : من المال الذي تحبونه لأنفسكم وهو أفضل أموالكم عندكم.
{مِنْ شَيْءٍ} : يريد قلّ أو كثر.
{فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} : لازمه أنه يجزيكم به بحسب كثرته أو قلته.
معنى الآية الكريمة:
يخبر تعالى عباده المؤمنين الراغبين في بره2 تعالى وإفضاله بأن ينجيهم من النار ويدخلهم الجنة بأنهم لن يظفروا بمطلوبهم من بر ربهم حتى ينفقوا من أطيب أموالهم وأنفسها عندهم وأحبها إليهم. ثم أخبرهم مطمئناً لهم على إنفاقهم أفضل أموالهم بأن ما ينفقونه من قليل
__________
1 روى البخاري ومسلم عن أبي قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم. فيقال له: كذبت، قد سئلت ما هو أيسر من ذلك فلم تفعل" .
2 يطلق لفظ البر على العمل الصالح أو هو جماعه وثوابه، وفي الصحيح، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً" .

أو كثير نفيس أو خسيس هو به عليم وسيجزيهم به، وبهذا حبب إليهم الإنفاق ورغبهم فيه فجاء أبو طلحة رضي الله عنه يقول يا رسول الله: أن الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ، وإن من أحب أموالي إليّ بيرحا "حديقة" فأجعلها حيث أراك الله يا رسول الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: "مال رابح أو رائج اجعلها في أقربائك" فجعلها في أقربائه حسان بن ثابت وأبي بن كعب رضي الله عنهم أجمعين.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- البر وهو فعل الخير يهدي إلى الجنة.
2- لن يبلغ العبد بر الله وما عنده من نعيم الآخرة حتى ينفق من أحب أمواله إليه.
3- لا يضيع المعروف عند الله تعالى قل أو كثر طالما أريد وجهه تعالى.
__________
1 لما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} بادر الأصحاب رضي الله عنهم بالتصدق بأحب أموالهم إليها فأعتق عمر جارية له من أحب الجواري إليه، وأعتق ولده مولاه نافعاً، وتصدق زيد بن حارثة بفرس له كانت أحب ما يملك، وتصدق أبو طلحة ببستانه "بيرحا" فدل هذا على فقه الصحابة ومدى استجابتهم لما هو خير عند الله وأعظم أجراً. فرضى الله عنهم وأرضاهم ولا حرمنا حبهم وجوارهم.

الجزء الرابع
{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ(96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ(97)
شرح الكلمات:
{الطَّعَامِ1} : اسم لكل ما يطعم من أنواع المأكولات.
حل : الحل: الحلال، وسمى حلالاً لانحلال عقدة الحظ عنه.
بني إسرائيل : أولاد يعقوب الملقب بإسرائيل المنحدرون من أبنائه الاثنى عشر إلى يومنا هذا.
{حَرَّمَ} : حظر ومنع.
{التَّوْرَاةُ} : كتاب أنزل على موسى عليه السلام وهو من ذرية إسرائيل.
{فَاتْلُوهَا} : اقرأوها على رؤوس الملأ لنتبين صحة دعواكم من بطلانها.
افترى2 الكذب : اختلقه وزوره وقاله.
{مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} : دينه وهي عبادة الله تعالى بما شرع، ونبذ الشرك والبدع.
{حَنِيفاً3} : مائلاً عن الشرك إلى التوحيد.
__________
1 الطعام: "أل" للجنس، ولفظ: كل، للتنصيص على العموم.
2 الافتراء: كالاختلاق سواء، والافتراء مأخوذ من الفري، وهو قطع الجلد قطعاً ليصلح بها قربة وحذاء ونحوهما.
3 حنيفاً منصوب على الحال وصاحبها إبراهيم المجرور بالإضافة.

بِبَكَّةَ : مكة.
لِلْعَالَمِينَ : للناس أجمعين.
مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ1 : آية من الآيات وهو الحجر الذي قام عليه أثناء بناء البيت فارتسمت قدماه وهو صخر فكان هذا آية.
َمَنْ دَخَلَهُ : الحرم الذي حول البيت يحددوه المعروفة.
آمِناً : لا يخاف على نفس ولا مال ولا عرض.
الحج : قصد البيت للطواف به وأداء بقية المناسك.
سَبِيلاً : طريقاً والمراد القدرة على السير إلى البيت والقيام بالمناسك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحجاج مع أهل الكتاب فقد قال يهود للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف تدعي أنك على دين إبراهيم، وتأكل ما هو محرم في دينه من لحوم الإبل وألبانها، فرد الله تعالى على هذا الزعم الكاذب بقوله: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ} أي حلالاً لبني إسرائيل، وهم ذرية يعقوب الملقب بإسرائيل، ولم يكن هناك شيء محرم عليهم في دين إبراهيم اللهم إلا ما حرم إسرائيل "يعقوب" على نفسه خاصة وهو لحوم الإبل وألبانها لنذر نذره وهو أنه مرض2 مرضاً آلمه فنذر3 لله تعالى إن شفاه ترك أحب الطعام والشراب إليه، وكانت لحوم الإبل وألبانها من أحب الأطعمة والأشربة إليه فتركها لله تعالى، هذا معنى قوله تعالى: { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} من قبل أن تنزل التوراة، إذ التوراة نزلت على موسى بعد إبراهيم ويعقوب بقرون عدة، فكيف تدعون أن إبراهيم كان لا يأكل لحوم الإبل ولا يشرب ألبانها فأتوا بالتوراة فاقرؤوها فسوف تجدون أن ما حرم الله تعالى على اليهود إنما كان لظلمهم واعتدائهم فحرم عليهم أنواعاً من الأطعمة، وذلك بعد إبراهيم ويعقوب
__________
1 مقام إبراهيم من جملة الآيات، إذ أثر قدمي إبراهيم باقية على المقام الذي هو صخرة، وفيه قال أبو طالب:
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافياً غير ناعل
وأمر تعالى بالصلاة خلفه في قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} فمن طاف بالبيت يختم طوافه بصلاة ركعتين خلفه.
2 أكثر الروايات على أن مرض يعقوب كان بعرق النساء, وأن ما نذره من ترك أحب الطعام والشراب إليه كان باجتهاد منه وليس شرعاً عنده، إذ هو من المباح، وللعبد أن يترك مباحاً متى شاء لاسيما إن تركه لله تقرباً إليه وتوسلاً لقضاء حاجته؛ كشفاء من مرض مثلاً.
3 روى ابن ماجة في سننه عن أنس ابن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "شفاء عرق النساء إلية شاه (عربية)"، تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء، ثم يشرب على الريق كل يوم جزء". قال أنس فوصفته لأكثر من مائة فبرأ بإذن الله تعالى.

بقرون طويلة. قال تعالى في سورة النساء: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا "اليهود" حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وقال في سورة الأنعام: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ1 وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} الآية.
ولما طولبوا بالإتيان بالتوراة وقراءتها بهتوا ولم يفعلوا فقامت الحجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم.
وقوله تعالى: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} بعد قيام الحجة بأن الله تعالى لم يحرم على إبراهيم ولا على بني إسرائيل شيئاً من الطعام والشراب إلا بعد نزول التوراة باستثناء ما حرم إسرائيل على نفسه من لحمان الإبل وألبانها فاؤلئك هم الظالمون بكذبهم على الله تعالى وعلى الناس. ومن هنا أمر الله تعالى رسوله أن يقول: صدق الله فيما أخبر به رسوله ويخبره به وهو الحق من الله، إذاً فاتبعوا يا معشر اليهود ملة إبراهيم الحنيف الذي لم يكن أبداً من المشركين.
هذا ما تضمنته الآيات الثلاث: 93-94-95، وأما قوله تعالى: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ2 وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} فإنه متضمن الرد3 على اليهود الذين قالوا إن بيت المقدس هو أول قبلة شرع للناس استقبالها فلم يعدل محمد وأصحابه عنها إلى استقبال الكعبة؟ وهي متأخرة الوجود فأخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس هو الكعبة لا بيت المقدس وأنه جعله مباركاً يدوم بدوام الدنيا والبركة لا تفارقه، فكل من يلتمسها بزيارته وحجه والطواف به يجدها ويحظى بها، كما جعله هدى للعالمين، فالمؤمنون يأتون حجاجاً وعماراً فتحصل لهم بذلك أنواع من الهداية، والمصلون في مشارق الأرض ومغاربها يستقبلونه في صلاتهم، وفي ذلك من الهداية للحصول على الثواب وذكر الله والتقرب إليه أكبر هداية، وقوله تعالى في آيات بينات يريد: في المسجد الحرام دلائل واضحات منها: مقام إبراهيم وهو الحجر الذي كان يقوم عليه أثناء بناء البيت حيث بقى أثر قدميه عليه مع إنه صخرة من الصخور ومنها زمزم والحجر والصفا والمروة وسائر المشاعر كلها آيات ومنها: الأمن التام لمن دخله فلا
__________
1 راجع تفسير هذه الآية في موضعها من سورة الأنعام.
2 أخرج مسلم في صحيحه عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً، ثم جعلت الأرض لك مسجداً فحيثما أدركتك الصلاة فصلِ".
3 ذكر القرطبي عن مجاهد قوله: تفاخر المسلمون واليهود. فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء في الأرض المقدسة. وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل. فأنزل الله تعالى هذه الآية: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ..} الآية.

يخاف غير الله تعالى. قال تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ1 كَانَ آمِناً} ثم هذا الأمن له والعرب يعيشون في جاهلية جهلاء وفوضى لا حد لها، ولكن الله جعل في قلوبهم حرمة الحرم وقدسيته ووجوب أمن كل من يدخله ليحجه أو يعتمره، وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ2 سَبِيلاً} ، لما ذكر تعالى البيت الحرام وما فيه من بركات وهدايات وآيات ألزم عباده المؤمنين به وبرسوله بحجه ليحصل لهم الخير والبركة والهداية، ففرضه بصيغة: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} وهي أبلغ صيغ الإيجاب، واستثنى العاجزين عن حجه واعتماره بسبب مرض أو خوف قلة نفقة للركوب والإنفاق على النفس والأهل أيام السفر.
وقوله تعالى في آخر الآية: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} فإنه خبر منه تعالى بأن من كفر بالله ورسوله وحج بيته بعد ما ذكر من الآيات والدلائل الواضحات فإنه لا يضر إلا نفسه، أما الله تعالى فلا يضره شيء وكيف وهو القاهر فوق عباده والغني عنهم أجمعين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ثبوت النسخ في الشرائع الإلهية، إذ حرم الله تعالى على اليهود بعض ما كان حلاً لهم.
2- إبطال دعوى دعوى اليهود أن إبراهيم كان محرماً عليه الإبل وألبانها.
3- تقرير النبوة المحمدية لتحدي اليهود وعجزهم عن دفع الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
4- البيت الحرام كان قبل بيت المقدس وأن البيت الحرام أول بيت وضع للتعبد بالطواف به.
5- مشروعية طلب البركة لزيارة ا لبيت وحجه والطواف به والتعبد حوله.
6- وجوب الحج على الفور3 لمن لم يكن له مانع يمنعه من ذلك.
7- الإشارة إلى كفر من يترك الحج وهو قادر عليه، ولا مانع يمنعه منه غير4 عدم المبالاة.
__________
1 سورة اللفظ خبر، ومعناه الإنشاء، أي: الأمر بمعنى: فمن دخله فأمنوه، هكذا قال بعضهم ولا منافاة بين القولين، فإن الحرم كان آمناً في عهد الجاهلية قروناً بما ألقى الله في قلوب العرب من حرمة الحرم إن بيت المقدس تسلط عليه الجبابرة، فخربوه غير مرة، ومكة رد الله الطغاة عنها.
2 تواردت طرق حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن السبيل في قوله تعالى: { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فقال: "الزاد والرحلة" . وهو كذلك.
3 مما يدل على فورية الحج إذا توفرت النفقة وآمن الطريق وزالت الموانع، قوله صلى الله عليه وسلم: " تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له" . رواه أحمد. فما دمنا مأمورين بالتعجل كان الفور ألزم والتراخي أبعد. والله أعلم وأعز وأحكم.
4 الإجماع على أن الحج مرة واحدة في العمر لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا، ولو قلت نعم لوجبت" إذ سأل سأئل قائلاً: أفي كل عام يا رسول الله، وذلك لما نزلت: {ولله على الناس حج البيت...}. ومما يؤكد فرضيته وهي مؤكدة بخطاب الله تعالى أن عمر رضي الله عنه قال: "من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهودياً أو نصرانياً" قال ابن كثير اسناده صحيح.

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ(98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(99)}
شرح الكلمات:
الكفر : الجحود.
آيات الله : ما أنزل تعالى من الحجج والبينات في القرآن المقررة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزله تعالى في التوراة والإنجيل من صفات النبي صلى الله عليه وسلم ونعوته الموجبة للإيمان به واتباعه على دين الحق الذي جاء به وهو الإسلام.
{شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ1} : عليم به مطلع عليه، وما يعملونه هو الكفر والشر والفساد.
{تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ2} : تصرفون الناس ممن آمن منكم ومن العرب عن الإسلام الذي هو سبيل الله تعالى المفضي بأهله إلى سعادة الدارين.
{تَبْغُونَهَا عِوَجاً3} : تطلبون لها العوج حتى تخرجوا بها عن الحق والهدى فيضل سالكها وذلك بالتحريف والتضليل.
{وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} : بعلمكم بأن الإسلام حق، وأن ما تبغونه له من من الإضلال لأهله والتضليل هو كفر وباطل.
معنى الآيتين:
بعد دحض الله تعالى شبه أهل الكتاب وأبطلها في الآيات السابقة أمر تعالى رسوله
__________
1 هذا دال على أن أهل الكتاب يؤمنون بعموم علم الله وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فلهذا كان توبيخهم أشد.
2 قرئ: {يصدون} من صد، إذ يقال: صده وأصده عن كذا، صرفه عنه.
3 أصلها تبغون لها فحذفت اللام، نحو: {كالوهم} أي: كالوا لهم.

أن يقول لهم موبخاً مسجلاً عليهم الكفر يا أهل الكتاب لم تكفرون بحجج الله تعالى وبراهينه المثبتة لنبوة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ودينه الإسلام تلك الحجج والبراهين التي جاء بها القرآن والتوراة والإنجيل معاً؟ والله جل جلاله مطلع على كفركم عليم به، أما تخافون عقابه أما تخشون عذابه؟.
كما أمر تعالى رسوله أيضاً أن يقول لهم مؤنباً موبخاً لهم على صرفهم المؤمنين عن الإسلام بأنواع الحيل والتضليل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ1} أي: يا أهل العلم الأول لم تصرفون المؤمنون عن الإسلام الذي هو سبيل الله بما تثيرونه بينهم من الشكوك والأوهام تطلبون للإسلام العوج لينصرف المؤمنون عنه، مع علمكم التام بصحة الإسلام وصدق نبيه محمد عليه الصلاة والسلام أما تخافون الله، أما تخشونه تعالى وهو مطلع على سوء تدبيركم غير غافل عن مكركم وغشكم وخداعكم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- شدة قبح كفر وظلم من كان عالماً من أهل الكتاب بالحق ثم كفره وجحده بغياً وحسداً.
2- حرمة صرف الناس عن الحق والمعروف بأنواع الحيل وضروب الكذب والخداع.
3- علم الله تعالى بكل أعمال عباده من خير وشر وسيجزيهم بها فضلاً منه وعدلاً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ(100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(101)
__________
1 أخرج ابن إسحاق في سبب نزول هذه الآية: {يا أهل الكِتَابْ...} إن شماس بن قيس اليهودي رأى جماعة من المسلمين من الأوس والخزرج بادياً عليهم الوثام "المحبة" فغاظه ذلك، فأمر أحد اليهود أن يجلس بينهم ويذكرهم بحرب بعاث، وفعل فحدث نزاع بينهم أدى إلى الخروج إلى الحرة للتقاتل وفعلاً خرجوا وسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم وهدأهم بقوله: "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم" ، وما زال يعظهم حتى ألقوا السلاح وتعانقوا وهم يبكون وعرفوا أنها مكرة يهود وخدعتهم عليهم لعائن الله وأنزل تعالى هذه الآية والتي قبلها.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(103)}
شرح الكلمات:
{فَرِيقاً} : طائفة1 من الحاقدين على الإٍسلام العاملين على الكيد له والمكر به وبأهله.
{يَرُدُّوكُمْ} : يرجعوكم إلى الكفر بعد إيمانكم.
{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} : الاستفهام للإنكار والتعجب من كفرهم بعد إيمانهم.
{آيَاتُ اللَّهِ} : آيات القرآن الكريم.
{يَعْتَصِمْ} : يتمسك بشدة.
{حَقَّ تُقَاتِهِ} : باستفراغ الوسع في إمتثال أمره، واجتناب نهيه، وتقاته2 هي تقواه.
{بِحَبْلِ اللَّهِ} : كتابه القرآن ودينه الإسلام، لأن الكتاب والدين هما الصلة التي تربط المسلم بربه، وكل ما يربط ويشد شيئاً بآخر هو سبب وحبل.
{فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} : جمعها على أخوة الإيمان ووحد ببنها بعد الاختلاف والنفرة.
{شَفَا حُفْرَةٍ} : شفا الحفرة: حافتها وطرفها بحيث لو غفل الواقف عليها وقع فيها.
__________
1 قالوا هم: شاس اليهودي وأصحابه الذين أثاروا الفتنة بين الأوس والخزرج ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فطاعة أعداء الإسلام من اليهود والنصارى كانت وما زالت سبب دمار أمة الإسلام.
2 التقاء اسم مصدر اتقى يتقي إتقاءاً، وأصلها: وقي فتحرك حرف العلة فانفتح ما قبله فقلبه واواً، فصارت وقاه، وأبدلت الواو تاء فصارت تقاة.

أنقذكم منها : بهدايتكم إلى الإسلام وبذلك أنجاكم من النار.معنى الآيات:
بعد أن وبخ تعالى اليهود على خداعهم ومكرهم وتضليلهم للمؤمنين وتوعدهم على ذلك، نادى المؤمنين محذراً إياهم من الوقوع في شباك المضللين من اليهود فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} ، وذلك أن نفراً من الأوس والخزرج كانوا جالسين في مجلس يسودهم الود والتصافي ببركة الإسلام الذي هداهم الله تعالى إليه فمر بهم شاس بن قيس اليهودي فآلمه ذلك التصافي والتحابب وأحزنه بعد أن كان اليهود يعيشون في منجاة من الخوف من جيرانهم الأوس والخزرج لما كان بينهم من الدمار والخراب، فأمر شاس شاباً أن يذكرهم بيوم بعاث فذكروه وتناشدوا الشعر فثارت الحمية القبلية بينهم فتسابوا وتشاتموا حتى هموا بالقتال فأتاهم الرسول صلى الله عليه وسلم وذكرهم بالله تعالى وبمقامه فهدأوا، وذهب الشر ونزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} فحذرهم من مكر أهل المكر من اليهود والنصارى، وأنكر عليهم ما حدث منهم حاملاً لهم على التعجب من حالهم أو كفروا بعد إيمانهم فقال عز وجل: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ} صباح مساء في الصلوات وغيرها، {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ1} هادياً ومبشراً ونذيراً وأرشدهم إلى الاعتصام بدين الله وبشر المعتصمين بالهداية إلى طريق السعادة والكمال فقال: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ} أي: بكتابه وسنة نبيه {فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ثم كرر تعالى نداءه2 لهم بعنوان الإيمان تأكيداً لهم به وأمرهم بأن يبذلوا وسعهم في تقوى الله عز وجل وذلك بطاعته كامل الطاعة بامتثال أمره واجتناب نهيه حاضاً لهم على الثبات على دين الله حتى يموتوا عليه فلا يبدلوا ولا يغيروا فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ3 وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وأمرهم بالتمسك بالإسلام عقيدة وشريعة، ونهاهم عن التفرق والاختلاف وأرشدهم إلى ذكر نعمته تعالى عليهم بالألفة
__________
1 عصمة هذه الأمة من الذنوب والسقوط في هذين الأمرين الكتاب والسنة، فمهما تمسكت أمة الإسلام بهما فإنها لا تضل ولا تسقط ولو كادها أهل الأرض أجمعون، ومهما أعرضت عنهما سقطت وهانت ولو دعمها أهل الأرض أجمعون.
2 من مظاهر إكرا م الله تعالى للمؤمنين أن ناداهم مباشرة بيا أيها الذين آمنوا بخلاف أهل الكتاب فإنه أمر رسوله أن يناديهم إشعاراً لهم بعدم رضاه عنهم وغضبه عليهم.
3 روى أن تقوى الله حق تقاته تتمثل في أن يطاع تعالى ولا يعصى ويشكر ولا يكفر، ويذكر ولا ينسى، وخصصتها آية التغابن: {فاتقوا الله ما استطعتم} ، إذ لا تكليف مع العجز عن القيام به.

والمحبة التي كانت ثمرة هدايتهم للإيمان والإسلام، بعد أن كانوا أعداء متناحرين مختلفين فألف بين قلوبهم فأصبحوا بها إخواناً متحابين متعاونين، كما كانوا قبل نعمة الهداية إلى الإيمان على شفا جهنم لو مات أحدهم يومئذ لوقع فيها خالداً أبداً، وكما أنعم عليهم وأنقذهم من النار ما زال يبين لهم الآيات الدالة على طريق الهداية الداعية إليه ليثبتهم على الهداية ويكملهم فيها فقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا1 وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ2 لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- طاعة كثير من علماء اليهود والنصارى بالأخذ بنصائحهم وتوجيهاتهم وما يشيرون به على المسلم تؤدي بالمسلم إلى الكفر شعر بذلك أم لم يشعر، فلذا وجب الحذر كل الحذر منهم.
2- العصمة في التمسك بكتاب الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن تمسك بهما لم يضل.
3- الأخذ بالإسلام جملة والتمسك به عقيدة وشريعة أمان من الزيغ والضلال، وأخيراً من الهلاك والخسران.
4- وجوب التمسك بشدة بالدين الإسلامي وحرمة3 الفرقة والاختلاف فيه.
5- وجوب ذكر النعم لأجل شكر الله تعالى عليها بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
6- القيام على الشرك والمعاصي وقوف على شفير جهنم فمن مات على ذلك وقع في جهنم حتماً بقضاء الله وحكمه.
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(104) وَلا
__________
1 في الآية حرمة التفرق في الدين، ومنه التفرق في الحكم، فكلاهما محرم، لما يفضي بالمتفرقين إلى الهلاك والخسران، عرف هذا أعداء الإسلام فعملوا على تفرقة أمة الإسلام، وفرقوها مذاهب وطوائف ثم دويلات وحكومات، ثم أذلوها وأهانوها.
2 وهذه نعمة أخرى مواصلة إنزال القرآن بالأحكام والشرائع والآداب والمواعظ والعبر، ليتم لهم كمالهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، فلله الحمد والمنة.
3 في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: "أن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً. يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم. ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال" .

تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ(106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ(108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ(109)}
شرح الكلمات:
الأمة : أفراد من البشر أو غيرهم تربطهم رابطة جنس أو لغة أو دين ويكون أمرهم واحداً، والمراد بالأمة هنا المجاهدون وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
{الْخَيْرِ} : الإسلام وكل ما ينفع الإنسان في حياته الأولى والآخرة من الإيمان والعمل الصالح.
المعروف : المعروف كل ما عرفه الشرع فأمر به لنفعه وصلاحه للفرد أو الجماعة.
{الْمُنْكَرِ} : ضد المعروف، وهو ما نهى عنه الشرع لضرر وإفساد، للفرد أو الجماعة.
الذين تفرقوا : هم أهل الكتاب من اليهود1 والنصارى.
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ2} : هذا يوم القيامة.
{فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} : رحمة الله هنا: الجنة جعلنا الله تعالى من أهلها، آمين.
__________
1 وقيل هم: الحرورية، وقيل: المبتدعة من هذه الأمة، وكونهم اليهود والنصارى، هذا الراجح والحق وعليه جمهور المفسرين.
2 تبيض وجوه المؤمنين المتقين وتسود وجوه الكافرين والمبتدعين من أصحاب الأهواء.

تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق: هذه آياتنا نقرأها عليك متلبسة بالحق، لا باطل فيها أبداً. وإلى الله ترجع الأمور: إلى الله تصير الأمور فيقضي فيها بما يشاء ويحكم ما يريد فضلاً وعدلاً.
معنى الآيات:
بعدما أمر الحق تبارك وتعالى عباده المؤمنين بتقواه والتمسك بدينه ونهاهم عن الفرقة والاختلاف وحضهم على ذكر نعمه ليشكروها بطاعته أمرهم في هذه الآية(104) بأن يوجدوا من أنفسهم جماعة تدعو إلى الإسلام وذلك بعرضه على الأمم والشعوب ودعوتهم إلى الدخول فيه، كما تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في ديار الإسلام وبين أهله فقال تعالى مخاطباً إياهم: ولتكن منكم1 أي: يجب أن تكون منكم طائفة يدعون إلى الخير، أي: الإسلام، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وبشرهم بأن الأمة التي تنهض بهذا الواجب هي الفائزة بسعادة الدنيا والآخرة فقال: فأولئك هم المفلحون الفائزون بالنجاة من العار والنار، وبدخول الجنة مع الأبرار.
وفي الآيات(105)(107) نهاهم أن يسلكوا أهل الكتاب في التفرق في السياسة والاختلاف في الدين فيهلكوا هلاكهم فقال تعالى: مخاطباً إياهم: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} فلا ينبغي أن يكون العلم والمعرفة بشرائع الله سبباً في الفرقة والخلاف2، وهما أداة الوحدة والائتلاف، وأعلمهم بجزاء المختلفين من أهل الكتاب ليعتبروا ولا يتفرقوا فقال تعالى: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} لا يغادر قدره ولا يعرف مداه، وأخبرهم عن موعد حاول هذا العذاب العظيم بهم، وأنه يوم القيامة حينما تبيض وجوه المؤمنين القائمين على الكتاب والسنة، وتسود وجوه الكافرين المختلفين القائمين على البدع والأهواء، فقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ3
__________
1 من: للتبعيض، وعليه فسرنا الآية، وقلنا بوجود طائفة لا كل الأمة، إذ لابد من العلم لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، والعلم لا يتوفر لكل فرد أبداً، ولذا فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية.
2 نهاهم تعالى عن التفرق والاختلاف، وقد وقع ما نهاهم عنه، وثبت ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال: "تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة، النصارى مثل ذلك، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" . رواه الترمذي وقال هذا حديث صحيح، وفعلاً وقد وجدت ست فرق، وهي: الحرورية –والقدرية –والجهمية –والمرجئة –والرافضة –والجبرية. انقسمت كل فرقة من هذه إلى اثنتي عشرة فرقة فصارت اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلى أهل السنة والجماعة.
3 روى ابن القاسم عن مالك في العتبية أنه قال ما آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} ، قال مالك: إنما هذه الآية لأهل القبلة بدليل قوله تعالى: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ...} .

وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} وبين جزاء الفريقين فقال: فأما الذين اسودت وجوههم من سوء ما عاينوه من أهل الموقف وما أيقنوا أنهم صائرون إليه من عذاب النار فيقال لهم تفريعاً وتوبيخاً: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} إذ هذه وجوه من تلك حالهم، فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون بالله وشرائعه.
وأما الذين ابيضت وجوههم فلم يطل في الهول موقفهم حتى يدخلوا جنة ربهم قال تعالى: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
وفي الآية(108) شرف الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بخطابه والوحي إليه فقال: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا1 عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} أي: هذه الآيات المتضمنة للهدى والخير نقرأها عليك بالحق الثابت الذي لا مرية فيه، ولا شك يعتريه فبلغها عنا وادع بها إلينا فمن استجاب لك نجا ومن أعرض هلك، وما الله يريد ظلماً للعالمين. فلا يعذب إلا بعد الإعلام والإنذار.
وفي الآية الأخيرة(109) يخبر تعالى أنه له ملك السموات والأرض خلقاً وتصرفاً وتدبيراً، وأن مصير الأمور إليه وسيجزي المحسن بالحسنى و المسيء بالسوأى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب وجود طائفة من أمة الإسلام تدعو الأمم والشعوب إلى الإسلام و تعرضه عليهم وتقاتلهم إن قاتلوها عليه، ووجوب وجود هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل مدن وقرى المسلمين.
2- حرمة الفرقة بين المسلمين والاختلاف في دين الله.
3- أهل البدع والأهواء يعرفون في عرصات القيامة باسوداد وجوههم.
4- أهل السنة والجماعة وهم الذين يعيشون عقيدة وعبادة على ما كان عليه رسول الله2 صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعرفون يوم العرض بابيضاض وجوههم.
__________
1 التلاوة: كالقراءة، إلا أن القراءة عادة تكون لكلام مكتوب، وأما التلاوة فهي مجرد حكاية كلام لإرادة تبليغه بلفظه.
2 " افترقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الملة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة في الجنة، وقيل من هم يا رسول الله. فقال: هم الذين يكونون على ما أنا عليه وأصحابي".

5- كرامة الرسول على ربه وتقرير نبوته. وشرف من آمن به واتبع ما جاء به.
6- مرد الأمور إلى الله تعالى في الدنيا والآخرة فيجب على عقلاء العباد أن يتخذوا لهم عند الله عهداً بالإيمان به وتوحيده في عبادته بتحقيق لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ(110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ(111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(112)}
شرح الكلمات:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} : وجدتم أفضل وأبرك أمة وجدت على الأرض.
{أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} : أظهرت وأبرزت لهداية الناس ونفعهم.
{أَذىً} : الأذى: الضرر اليسير.
{يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ} : ينهزمون فيفرون من المعركة مولينكم أدبارهم، أي: ظهورهم.
{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} : أحاطت بهم المذلة ولصقت بهم حتى لا تفارقهم.
{وَبَاءُوا بِغَضَبٍ} : رجعوا من رحلتهم الطويلة في الكفر وعمل الشر بغضب الله.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ...} إلخ.: ذلك إشارة إلى ما لصق بهم من الذلة والمسكنة وما عادوا به من غضب الله تعالى وما تبعه من عذاب "فالباء" في بأنهم

سببه، أي: بسبب فعلهم كذا وكذا والمسكنة هي ذلة الفاقة والفقر.
{يَعْتَدُونَ} : الاعتداء مجاوزة الحد في الظلم والفساد.
معنى الآيات:
لما أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه والاعتصام بحبله فامتثلوا وأمرهم بتكوين جماعة منهم يدعون إلى الإسلام ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فامتثلوا ذكرهم بخير عظيم فقال لهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} كما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كنتم خير الناس للناس.." ووصفهم بما كانوا به خير أمة فقال تأمرون بالمعروف وهو الإسلام وشرائع الهدى التي جاء بها نبيه صلى الله عليه وسلم وتنهون عن المنكر وهو الكفر والشرك وكبائر الإثم والفواحش، وتؤمنون بالله. وبما يتضمنه الإيمان بالله من الإيمان بكل ما أمر تعالى بالإيمان به من الملائكة والكتب والرسل والبعث الآخر والقدر. ثم دعا تعالى أهل الكتاب إلى الإيمان الصحيح المنجي من عذاب الله، فقال عز وجل، ولو آمن أهل الكتاب بالنبي محمد وما جاء به من الإسلام لكان خيراً لهم من دعوى الإيمان الكاذبة التي يدعونها. وأخبر تعالى عنهم بأن منهم المؤمنين الصادقين في إيمانهم؛ كعبد الله بن سلام وأخيه، وثعلبة بن سعيد وأخيه، وأكثرهم الفاسقون الذين لم يعملوا بما جاء في كتابهم من العقائد والشرائع من ذلك أمر الله تعالى بالإيمان بالنبي الأمي واتباعه على مايجيء به من الإسلام ثم أخبر المسلمين أن فساق أهل الكتاب لن يضروهم إلا أذى يسيراً كإسماعهم الباطل وقولهم الكذب. وأنهم لو قاتلوهم ينهزمون أمامهم مولينهم ظهورهم فارين من القتال ثم لا ينصرون على المسلمين في أي قتال يقع بين الجانبين.
كما أخبر تعالى في الآية(112) أنه تعالى ضرب عليهم الذلة والمسكنة أينما ثقفوا وفي يا البلاد وجدوا لن تفارقهم الذلة والمسكنة في حال من الأحوال إلا في حال دخولهم في الإسلام وهو حبل1 الله، أو معاهدة وارتباط بدولة قوية وذلك هو حبل2 الناس. كما أخبر تعالى عنهم
__________
1 هذه الآية مخصصة لعموم آية الأعراف: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} إلا في حال إسلامهم أو ارتباطهم بمعاداة دولة قوية كما هي الحال اليوم.
2 الحبل مستعار هنا للعهد، أي: المعاهدة التي تربطهم بدولة قوية كبريطانيا وأمريكا الآن.

أنهم رجعوا من عنادهم وكفرهم بغضب الله، وما يستتبعه من عذاب في الدنيا بحالة الفاقة والفقر المعبر عنها بالمسكنة، وفي الآخرة بعذاب جهنم كما ذكر تعالى علة عقوبتهم، وأنها الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء بغير حق وعصيانهم المستمر واعتداؤهم الذي لا ينقطع فقال تعالى {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إثبات خيرية أمة الإسلام وفي الحديث: "أنتم تتمون1 سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله" .
2- بيان علة خيرية أمة2 الإسلام، وهي الإيمان بالله والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3- وعد الله تعالى لأمة الإسلام –ما تمسكت به- بالنصر على اليهود في أي قتال بينهم.
4- صدق القرآن في إخباره عن اليهود بلزوم الذلة والمسكنة لهم أينما كانوا.
5- بيان جرائم اليهود التي كانت سبباً في ذلتهم ومسكنتهم وهي الكفر المستمر، وقتل الأنبياء بغير حق والعصيان والاعتداء على حدود الشرع.
{لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ(113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ
__________
1 ومن هنا فعصر الصحابة أفضل ممن بعدهم، وذلك لتحقق الصفات التي كانت بها الخيرية، ويشهد لهذا الحديث الصحيح: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" . فالخيرية العامة لهذه الأمة لا جدال فيها، والخيرية الخاصة فهي: تتوفر لأهل الصفات الثلاث: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان التام في كل زمان ومكان.
2 يوضح هذا قول عمر في حجه، وقد رأى في الناس دعة فقال، بعد أن قرأ هذه الآية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} . من سره أن يكون في هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها.

فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ(114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ(115)}
شرح الكلمات:
{لَيْسُوا سَوَاءً} : غير متساوين.
{أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} : جماعة قائمة ثابتة على الإيمان والعمل الصالح.
{يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ} : يقرأون القرآن.
{آنَاءَ اللَّيْلِ} : ساعات الليل جمع إني وإني.
{وَهُمْ يَسْجُدُونَ} : يصلون.
{وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} : يستدرونها خشية الفوات.
{فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} : فلن يجحدوه بل يعترف لهم به ويجزون به وافياً.
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى حال أهل الكتاب وأنهم فريقان مؤمن صالح، وكافر فاسد. ذكر هنا في هذا الآيات الثلاث: (113-114-115) أن أهل الكتاب ليسوا سواء1، أي: غير متساوين في الحال، وأثنى على أهل الصلاح منهم فقال جل ذكره {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ2} ، أي: على الإيمان الحق والدين الصحيح وهم الذين أسلموا. يتلون آيات الله يقرأونها في صلاتهم آناء الليل، أي: ساعات الليل في صلاة العشاء وقيام الليل وهم يسجدون، وهذا ثناء عليهم بالسجود، إذ هو أعظم مظاهر الخشوع لله تعالى كما أثنى تعالى عليهم بالإيمان الصادق والأمر بالمعروف وهو الدعوة إلى عبادة الله تعالى بعد الإيمان به والإسلام الظاهر والباطن له. وينهون عن المنكر وهو الشرك بعبادة الله تعالى والكفر به وبرسوله فقال عز وجل: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} أي: يبادرون إليها قبل فواتها، والخيرات هي كل قول وعمل صالح من سائر القربات. وشهد
__________
1 يرى بعضهم أن الكلام تم عند قوله: {ليسوا سواء} أي: ليس المسلمون و أهل الكتاب سواء، ثم استأنف فقال: {من أهل الكتاب} إلخ. وما ذكرته في التفسير أصح وأوضح.
2 المراد بهم: عبد الله بن سلام، وأخوه، وعمته، وسعيه أو سنعة بن غريض، وثعلبة بن سعية، وأسد القرظي، وغيرهم ممن أسلموا وحسن إسلامهم في دنيا الإسلام والمسلمين إلى اليوم.

تعالى لهم بالصلاح فقال: {وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} .
وأخيراً في الأية الآخيرة(115) أن ما يفعلونه من الصالحات وما يأتونه من الخيرات لن يجحدوه بل يعترف لهم به ويجزون عليه أتم الجزاء، لأنهم متقون والله عليهم بالمتقين فلن يضيع أجرهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضل الثبات على الحق والقيام على الطاعات.
2- فضل تلاوة القرآن الكريم في صلاة الليل.
3- فضل الإيمان والدعوة إلى الإسلام.
4- فضل المسابقة في الخيرات والمبادرة إلى الصالحات.
5- فضيلة الكتابي إذا أسلم وحسن إسلامه، وفي الصحيحين يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران" الحديث.
{ إِنَّ الَّذِينَ1 كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(117)}
شرح الكلمات:
{كَفَرُوا} : كذبوا بالله ورسوله وشرعه ودينه.
{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ} : لن تجزي عنهم يوم القيامة أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئاً، إذ لا مال يومئذ ينفع، ولا بنون.
__________
1 {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} اسم إن، والخبر {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} .

{مَثَلُ} : أي: صفة وحال ما ينفقونه لإبطال دعوة الإسلام، أو للتصدق به.
الصر1 : الريح الباردة الشديدة البرد التي تقتل الزرع وتفسده.
الحرث : ما تحرث له الأرض وهو الزرع.
{ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} : حيث دنسوها بالشرك والمعاصي فعرضوها للهلاك والخسار.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى حال مؤمني أهل الكتاب وأثنى عليهم بما وهبهم من صفات الكمال ذكر هنا في هاتين الآيتين ما توعد به أهل الكفر من الكتابين وغيرهم من المشركين على طريقة القرآن في الترغيب والترهيب ليهتدي من هيأه الله تعالى للهداية فقال: إن الذين كفروا أي كذبوا الله ورسوله فلم يؤمنوا ولم يوحدوا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم2 أي: في الدنيا والآخرة مما أراد الله تعالى بهم شيئاً من الإغناء؛ لأن الله تعالى غالب على أمره وعزيز ذو انتقام، وقوله تعالى: {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . فيه بيان حكم الله تعالى فيهم وهو أن أولئك البعداء في الكفر والضلال المتوغلين في الشر والفساد هم أصحاب النار الذين يعيشون فيها لا يفارقونها أبداً ولن تغني عنهم أموالهم التي كانوا يفاخرن بها، ولا أولادهم الذين كانوا يعتزون بهم ويستنصرون، إذ يوم القيامة لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم: سليم من الشك والشرك والكبر والعجب والنفاق.
هذا ما تضمنته الآية: (116) أما الآية(117) فقد ضرب تعالى فيها مثلاً لبطلان نفقات الكفار والمشركين وأعمالهم التي يرون أنها نافعة لهم في الدنيا والآخرة ضرب لها مثلاً: ريحاً باردة شديدة البرودة أصابت زرع أناس كاد يُحصد وهم به فرحون وفيه مؤملون فأفسدته تلك الريح وقضت عليه نهائياً فلم ينتفعوا بشيء منه، قال تعالى في هذا المثل: مثل ما ينفقون، أي: أولئك الكفار في هذه الحياة الدنيا، أي: مما يرونه نافعاً لهم من بعض أنواع البر. {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ3 أَصَابَت} أي تلك الريح الباردة حرث قوم، أي: زرعهم النابت
__________
1 الصر: مأخوذ من الصرير الذي هو الصوت، وفي الحديث: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجراد الذي الذي قتله الصر" أي: البرد الشديد.
2 كرر حرف النفي: {ولا أولادهم} لتأكيد عدم إغناء الأولاد عنهم شيئاً مع أن العرف: أن الأولاد يذبون عن آبائهم ويدفعون عنهم.
3 {فيها صر} هذا التعبير أفاد شدة برد هذا الريح، إذ جعل الصر مظروفاً فيها.

فأهلكته، أي: أفسدته. فحرموا من حرثهم ما كانوا يؤملون، وما ظلمهم1 حيث أرسل عليهم الريح فأهلكت زرعهم، إذ لم يفعل الله تعالى هذا بهم إلا لأنهم ظلموا بالكفر والشرك والفساد فجزاهم الله بالحرمان وبذلك كانوا هم الظالمين لأنفسهم. قال تعالى: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- لن يغني عن المرء مال ولا ولد متى ظلم وتعرض لنقمة الله تعالى.
2- الكفر هم أهل النار وخلودهم فيها محكوم به مقدر عليهم لا نجاة منه.
3- ان العمل الصالح بالشرك والموت على الكفر.
4- حسان ضرب الأمثال في الكلام لتقريب المعاني إلى الأذهان.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ(118) هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(120)}
__________
1 نفى تعالى عن نفسه ظلم هؤلاء المنفقين في الباطل والشر والفساد فلم يجنوا خيراً من إنفاقهم وأثبت الظلم منهم لأنفسهم لسوء إنفاقهم وفساده.

شرح الكلمات:
{بِطَانَةً} : بطانة الرجل1 الذين يطلعهم على باطن2 أمره الذي يخفيه على الناس للمصلحة.
{مِنْ دُونِكُمْ} : من غيركم، أي: من غير المسلمين؛ كالكفار وأهل الكتاب.
{لا يَأْلُونَكُمْ} : لا يقصرون في إفساد الأمور عليكم.
{خَبَالاً3} : فساداً في أمور دينكم ودنياكم.
{وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} : أحبوا عنتكم، أي: مشقتكم.
{بَدَتِ الْبَغْضَاءُ} : ظهرت شدة بغضهم لكم.
{أُولاءِ} : هؤلاء حذفت منه هاء التنبيه لوجودها في ها أنتم قبلها.
{بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} : أي: بالكتب الإلهية كلها.
{عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} : من شدة الغيظ عليكم؛ لأن المغتاظ إذا اشتد به الغيظ بعض أصبعه على عادة البشر، والغيظ: شدة الغضب.
{حَسَنَةٌ} : ما يحسن من أنواع الخير؛ كالنصر والتأييد والقوة والخير.
{سَيِّئَةٌ} : ما يسوءكم؛ كالهزيمة أو الموت أو المجاعة.
{كَيْدُهُمْ} : مكرهم بكم وتبييت الشر لكم.
{بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} : علماً به وقدرة عليه، إذ هم واقعون تحت قهره وعظيم سلطانه.
معنى الآيات:
لما أخبر تعالى عن مصير الكافرين في الآخرة، وأن ذلك المصير المظلم كان نتيجة كفرهم وظلمهم حذر المؤمنين من موالاتهم دون المؤمنين وخاصة أولئك الذين يحملون في صدورهم الغيظ والبغضاء للمسلمين الذين لا يقصرون في العمل على إفساد أحوال المسلمين والذين
__________
1 أصل البطانة: بطانة الثوب شبه بها بطانة الرجل ووليجته، وهم من يطلعهم على أسراره ثقة فيهم، ومثل البطانة الشعار وهو الثوب الذي يلي الجسد، وفي الحديث: "الأنصار شعار والناس دثار" .
2 روى البخاري تعليقاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه. والمعصوم من عصمه الله ".
3 الخبال: الخبل، وهو الفساد، وفي الحديث: "من أصيب بدم أو خبل" أي: جرح يفسد العضو، ويقال: رجل خبل، وخبله الحب: أفسده.

يسوءهم أن يروا المسلمين متآلفين متحابين أقوياء ظاهرين متصورين على أهل الشرك والكفر، ويسرهم أيضاً أن يروا المسلمين مختلفين أو ضعفاء منكسرين مغلوبين. فقال تعالى –وقوله الحق- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي: بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً. {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً} أي: أفراداً من دونكم1 أي: من غير أهل دينكم؛ كاليهود والنصارى والمنافقين والمشركين تستشيرونهم وتطلعونهم على أسراركم وبواطن أموركم، ووصفهم تعالى تعريفاً بهم فقال: {لا يَأْلُونَكُمْ2 خَبَالاً} ، يعني: لا يقصرون في إفساد أموركم الدينية والدنيوية.
{وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} أي: أحبوا عنتكم ومشقتكم، فلذا هم لا يشيرون عليكم إلا بما يفسد عليكم أموركم ويسبب لكم الكوارث والمصائب في حياتكم وقوله تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} وصف آخر مشخص لهؤلاء الأعداء المحرم اتخاذهم بطانة، ألا وهو ظهور البغضاء من أفواههم3 بما تنطق به ألسنتهم من كلمات الكفر والعداء للإسلام وأهله، وما يخفونه من ذلك في صدورهم4 هو أكبر مما يتفلت من ألسنتهم. ويؤكد عز وجل تحذيره للمؤمنين فيقول: { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ} المتضمنة لبيان أعدائكم وأحوالهم وصفاتهم لتعتبروا {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} أي: الخطاب وما يتلى عليم ويقال لكم. ثم يقول تعالى معلماً محذراً ها أنتم أيها المسلمون تحبونهم ولا يحبونكم. قد علم الله أن من بين المؤمنين من يحب بعض الكافرين لعلاقة الإحسان الظاهرة بينهم فأخبر تعالى عن هؤلاء كما أن رحمة المؤمن وشفقته قد تتعدى حتى لأعدائه فلذا ذكر تعالى هذا وأخبر به وهو الحق، وقال: {وَتُؤْمِنُونَ} أي: وهم لا يؤمنون بكتابكم فانظروا إلى الفرق بينكم وبينهم فكيف إذاً تتخذونهم بطانة تفضون إليهم بأسراركم. وأخبر تعالى عن المنافقين أنهم إذا لقوا المؤمنين قالوا إنا مؤمنون وإذا تفرقوا عنهم وخلوا بأنفسهم ذكروهم وتغيظوا عليهم حتى يعضوا
__________
1 قيل لعمر رضي الله عنه: إن ها هنا رجل من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم أفلا يكتب عنك؟ فقال: "لا آخذ بطانة من دون المؤمنين" وجاء أبو موسى الأشعري بحساب نصارى لعمر فانتهره وقال: "لا تدنهم، وقد أقصاهم الله، ولا تكرمهم وقد أهانهم، ولا تأمنهم وقد خونهم الله".
2 هذه الجملة وإن كانت صفة لكلمة بطانة، فهي معنى العلة للنهي السابق.
3 خصت الأفواه بالذكر دون الألسن إشارة إلى أنهم يتشدقون بالكلام إيهاماً وتضليلاً.
4 استدل أهل العلم بهذه الآية على أن شهادة العدو لا تصح على عدوه، وكيف به إذا كان كافراً؟.

أطراف أصابعهم1 من شدة الغيظ. فقال تعالى: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ2 مِنَ الْغَيْظِ} وهنا أمر رسوله أن يدعو عليهم بالهلاك فقال له: قل يا رسولنا لهم {مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فلذا أخبر عنهم كاشفاً الغطاء عما تكنه نفوسهم ويخفونه في صدورهم.
هذا ما تضمنته الآيتان الأولى(118) والثانية(119) وأما الآية الثالثة(120) فقد تضمنت أيضاً بيان صفة نفسية للكافرين المنهي عن اتخاذهم بطانة وهو استياؤهم وتألمهم لما يرونه من حسن حال المسلمين كائتلافهم واجتماع كلمتهم ونصرهم وعزتهم وقوتهم وسعة رزقهم، كما هو أيضاً فرحهم وسرورهم بما قد يشاهدونه من خلاف بين المسملين أو وقوع هزيمة لجيش من جيوشهم، أو تغير حال عليهم بما يضر ولا يسر وهذه نهاية العداوة وشدة البغضاء، فهل مثل هؤلاء يتخذون أولياء؟. فقال تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ3 تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} . ولما وصف تعالى هؤلاء الكفرة بصفات مهيلة مخيفة، قال لعباده المؤمنين مبعداً الخوف عنهم: {وَإِنْ تَصْبِرُوا} على ما يصيبكم وتتقوا الله تعالى في أمره ونهيه وفي سننه في خلقه لا يضركم4 كيدهم شيئاً، لأن الله تعالى وليكم مطلع على تحركاتهم وسائر تصرفاتهم وسيحبطها كلها، دل على هذا المعنى قوله في الجملة التذيلية {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة اتخاذ مستشارين وأصدقاء من أهل الكفر عامة وحرمة إطلاعهم على أسرار الدولة الإسلامية، والأمور التي يخفيها المسلمون على أعدائهم لما في ذلك من الضرر الكبير.
2- بيان رحمة المؤمنين وفضلهم على الكافرين.
3- بيان نفسيات الكافرين وما يحملونه من إرادة الشر والفساد للمسلمين.
4- الوقاية من كيد الكفار ومكرهم تكمن في الصبر والتجلد وعدم إظهار الخوف للكافرين
__________
1 العض: مصدر عض، عض يعض عضاً وعضيضاً، إذا أخذ الشيء بأسنانه، والعض بضم العين: علف الدواب.
2 الأنامل: جمع أنملة، وهي طرف الأصبع الأعلى.
3 هذا من شدة حسدهم للمسلمين، ولقد أحسن من قال:
كل العداوة قد ترجى إفاقتها ... إلا عداوة من عداك من حسد
4 قرئ: {لا يضركم} من ضاره يضيره ضيراً، ومن قوله تعالى: {لا ضَيْرَ} ، والضير، والضرر: بمعنى واحد.

ثم تقوى الله تعالى بإقامة دينه ولزوم شرعه والتوكل عليه, والأخذ بسننه في القوة والصبر.
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(123)}
شرح الكلمات:
{وَإِذْ غَدَوْتَ} : أي: واذكر إذ غدوت، والغدو: الذهاب أول النهار.
{مِنْ أَهْلِكَ} : أهل الرجل زوجه وأولاده. ومن لابتداء الغاية إذ خرج صلى الله عليه وسلم صباح السبت من بيته إلى أحد حيث نزل المشركون به1 يوم الأربعاء.
{تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ} : تنزل المجاهدين الأماكن التي رأيتها صالحة للنزول فيها من ساحة المعركة.
{هَمَّتْ} : حدثت نفسها بالرجوع إلى المدينة وتوجهت إرادتها إلى ذلك.
{طَائِفَتَانِ} : هما بنو سلمة، وبنو حارثة من الأنصار.
{تَفْشَلا} : تضعفا وتعودا إلى ديارهما تاركين الرسول ومن معه يخوضون المعركة وحدهم.
{وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} : متولي أمرهما وناصرهما ولذا عصمهما من ترك السير إلى المعركة.
{بِبَدْرٍ} : بدر اسم رجل وسمي المكان به؛ لأنه كان له فيه ماء وهو الآن قرية تبعد عن المدينة النبوية بنحو من مائة وخمسين ميلاً "كيلو متر".
{وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} : لقلة عددكم وعُددِكُم وتفوق العدو عليكم.
__________
1 الموافق للثاني عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة: "وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا فرأى أن في سيفه ثلمة، وأن بقراً له تذبح، وأنه أدخل يده في درع حصينه، فتأولها أن نفراً من أصحابه يقتلون وأن رجلاً من أهل بيته يصاب وأن الدرع الحصينة: المدينة". أخرجه مسلم.

معنى الآيات:
لما حذر الله تعالى المؤمنين من اتخاذ بطانة من أهل الكفر والنفاق، وأخبرهم أنهم متى صبروا واتقوا لا يضرهم كيد أعدائهم شيئاً ذكرهم بموقفين: أحدهما لم يصبروا فيه ولم يتقوا فأصابتهم الهزيمة وهو غزوة أحد، والثاني صبروا فيه واتقوا فانتصروا وهزموا عدوهم وهو غزوة بدر، فقال تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} أي: اذكر يا رسولنا لهم غدوك صباحاً من بيتك إلى ساحة المعركة بأحد، تبوء المؤمنين مقاعد للقتال، أي: تنزلهم الأماكن الصالحة للقتال الملائمة لخوض المعركة، والله سميع لكل الأقوال التي دارت بينكم في شأن الخروج إلى العدو، أو عدمه و قتاله داخل1 المدينة عليم بنياتكم وأعمالكم
ومن ذلك هم بنى سلمه وبنى حارثة بالرجوع من الطريق لولا أن الله سلم فعصمهما من الرجوع لأنه وليهما .هذا معنى قوله تعالى :{ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} أي تجبنا وتحجما عن ملاقاة العدو ،والله وليهما فعصمهما من ذنب2 الرجوع وترك الرسول صلى الله عليه وسلم يخوض المعركة بدون جناحيها وهما بنو حارثة وبنو سلمة { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} فتوكلت الطائفتان على الله وواصلتا سيرهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمهما الله من شر ذنب وأقبحه.
والحمد لله.
هذا موقف والمقصود منه التذكير بعدم الصبر وترك التقوى فيه حيث أصاب المؤمنين فيه شر هزيمة واستشهد من الأنصار سبعون ومن المهاجرين أربعه وشج3رأس صلى الله علية وسلم وكسرت رباعيتة واستشهد عمه حمزة4 رضى الله عنة.
والموقف الثاني هو غزوة بدر حيث صير فيها المؤمنون واتقوا أسباب الهزيمة فنصرهم الله وأنجز لهم ما وعدهم لأنهم صبروا واتقوا، فقتلوا سبعين رجلاً وأسروا سبعين وغنموا غنائم طائلة قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ5 أَذِلَّةٌ} فاتقوا الله بالعمل بطاعته، ومن ذلك
__________
1 خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بألف رجل من المدينة وفي أثناء مسيره، رجع ابن أبي بثلاثمائة رجع غاضباً، إذ كان يرى عدم قتال العدو خارج المدينة، فلم يطع في ذلك فغضب، ورجوعه هو الذي سبب الهم بالرجوع لني حارثة وبني سلمة.
2 روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال فينا نزلت: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} قال: نحن الطائفتان: بنو حارثة، وبنو سلمة. وما أحب أنها لم تنزل لقول الله عز وجل: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا}.
3 الذي رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشج وجهه: هو ابن قميئة، أقماه الله ولعنه. والذي أدمى شفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسر رباعيته: هو عتبة ابن أبي وقاص، أخو سعد بن أبي وقاص.
4 وقتل حمزة: وحشي، كانت تحرضه على قتل حمزة: هند بنت عتبة، وتقول له: إيهاً أبا دسمة أشف واستشف (والدسمة: غبرة في سواد).
5 كانت غزوة بدر في السابع عشر من رمضان يوم جمعة، وكان جيش العدو بها ما بين التسعمائة إلى الألف، وجيش المسلمين ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، وغزوة بدر أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ترك اتخاذ بطانة من أعدائكم لتكونوا بذلك شاكرين نعم الله عليكم فيزيدكم، فذكر تعالى في هذا الموقف النصر؛ لأنه خير، فقال {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} ، ولم يقل في الموقف الأول، ولقد هزمكم الله بأحد وأنتم أعزة؛ لأنه تعالى حيي كريم فاكتفى بتذكيرهم بالغزوة فقط وهم يذكرون هزيمتهم فيها ويعلمون أسبابها وهي عدم الطاعة وقلة الصبر.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضيلة الصبر والتقوى وأنهما عدة الجهاد في الحياة.
2- استحسان التذكير بالنعم والنقم للعبرة والاتعاظ.
3- ولاية الله تعالى للعبد تقيه مصارع السوء، وتجنبه الأخطار.
4- تقوى الله تعالى بالعمل بأوامره واجتناب نواهيه هي الشكر الواجب على العبد.
{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ(124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ(125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ(127)}
شرح الكلمات:
{أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ} : الاستفهام انكاري1، أي: ينكر عدم الكفاية. ومعنى يكفيكم يسد حاجتكم.
__________
1 ذهب بعض إلى أن الاستفهام هنا: تقريري؛ لأنه مجاب ببلى، وجائر أن يكون للاستفهام معنيان في آن واحد لدلالة اللفظ عليهما معاً. فتأمل!!.

{أَنْ يُمِدَّكُمْ} : أي: بالملائكة عوناً على قتال أعدائكم المتفوقين عليكم بالعدد والعتاد.
{الْمَلائِكَةِ} : واحدهم ملاك وهم عباد الله مكرمون مخلقون من نور لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون.
{بَلَى} : حرف إجابة، أي: يكفيكم.
{مِنْ فَوْرِهِمْ1 هَذَا} : أي: من وجههم في وقتهم هذا.
{مُسَوِّمِينَ} : معلمين بعلامات تعرفونهم بها.
{إِلا بُشْرَى لَكُمْ} : البشرى: الخبر السار الذي يتهلل له الوجه بالبشر والطلاقة.
{وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} : اطمئنان القلوب سكونها وذهاب الحروف والقلق عنها.
{لِيَقْطَعَ طَرَفاً} : الطرف الطائفة، يريد ليهلك من جيش العدو طائفة.
{أَوْ يَكْبِتَهُمْ} : أي: يخزيهم ويذلهم.
{فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} : يرجعوا إلى ديارهم خائبين لم يحرزوا النصر الذي أملوه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تذكير الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما تم لهم من النصر في موقف الصبر والتقوى في بدر فقال: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ2} عندما بلغهم وهم حول المعركة أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين برجاله يقاتلون معهم فشق ذلك على أصحابه فقلت: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} أي: يكفيكم. {إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ3 مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} أي: من وجههم ووقتهم هذا {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} بعلامات وإشارات خاصة بهم، ولما انهزم كرز قبل تحركه وقعد عن إمداد قريش بالمقاتلين لم يمد الله تعالى رسوله والمؤمنين بما ذكر من الملائكة فلم يزدهم على الألف التي أمدهم بها لما استغاثوه في أول المعركة جاء ذلك في سورة
__________
1 الفور: مصدر فارت القدر فوراً واستعير للأولية مع السرعة في الحال بدون بطء أو تأخر أو تراخ.
2 ذهب بعض المفسرين؛ كمجاهد، وعكرمة، وغيرهما أن قوله تعالى: {إِذْ تَقُول للمؤمنين} إلخ، كان يوم أحد فهو وعد لهم بالمدد المذكور من الملائكة على شرط الصبر والتقوى، فلما لم يصبروا ولم يتقوا كما هو معلوم لم يمدهم بالعدد المذكور من الملائكة، وما ذهبنا إليه في التفسير أقرب إلى الواقع، والله أعلم.
3 أي: المشركون من أصحاب كرز.

الأنفال في قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ} فهذه الألف هي التي نزلت فعلاً وقاتلت مع المؤمنين وشوهد ذلك وعلم به يقيناً، أما الوعد بالإمداد الأخير فلم يتم؛ لأنه كان مشروطاً بإمداد كرز لقريش فلما لم يمدهم، لم يمد الله تعالى المؤمنين، فقال تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} أي: الإمداد المذكور {إِلا بُشْرَى} للمؤمنين تطمئن له قلوبهم وتسكن له نفوسهم فيزول القلق والاضطراب الناتج عن الخوف من إمداد كرز المشركين بالمقاتلين، ولذا قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ1} العزيز أي: الغالب، الحكيم الذي يضع النصر في موضعه فيعطيه مستحقه من أهل الصبر والتقوى {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وقد فعل فأهلك من المشركين سبعين، أو يكبتهم أي: يخزيهم ويذلهم إذ أسر منهم سبعون، وانقبلوا خائبين لم يحققوا النصر الذي أرادوه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سبب هزيمة المسلمين في أحد وهو عدم صبرهم وإخلالهم بمبدأ التقوى إذ عصى الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلوا من الجبل يجرون وراء الغنيمة هذا على تفسير أن الوعد بالثلاثة آلاف وبالخمسة كان بأحد2، وكان الوعد مشروطاً بالصبر والتقوى فلما لم يصبروا ولم يتقوا لم يمدهم بالملائكة الذين ذكر لهم.
2- النصر وإن كانت له عوامله من كثرة العدد وقوة العدة فإنه بيد الله تعالى فقد ينصر الضعيف ويخذل القوى، فلذا وجب تحقيق ولاية الله تعالى أولاً قبل إعداد العدد. وتحقيق الولاية يكون بالإيمان والصبر والطاعة التامة لله ولرسوله ثم التوكل على الله عز وجل.
3- ثبوت قتال الملائكة مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر قتالاً حقيقياً؛ لأنهم نزلوا في صورة بشر يقاتلون على خيول، وعليهم شاراتهم وعلاماتهم. ولا يقولن قائل3: الملك الواحد يقدر على أن يهزم ملايين البشر، فكيف يعقل اشتراك ألف ملك في قتال المشركين وهم لا يزيدون عن الألف رجل، وذلك أن الله تعالى أنزلهم في صورة بشر4 فأصبحت صورتهم وقوتهم قوة
__________
1 الحكيم: الذي يضع الأشياء في مواضعها ويفعل دائماً على ما تقتضيه الحكمة في سائر أفعاله.
2 وهو الراجح من قولي المفسرين: كابن جرير، وغيره.
3 قاله الأصم، كأنه فعلاً أصم فلم يسمع كلام الله تعالى، واسم هذا الأصم أبو بكر، وهو من أهل الاعتزال، وإذاً فلا غرابة في إنكاره.
4 بدل لذلك قوله تعالى: {مسومين} ، فالمسوّم: ذو السمة، أي: العلامة، و ذلك أن البطل المقاتل يجعل على رأسه أو على رأس فرسه ريشاً ملوناً يرمز به إلى أنه لا يخاف أن يعرفه عدوه حتى لا يسدد إليه سهامه.

البشر، ويدل على ذلك ويشهد له أن ملك الموت لما جاء موسى في صورة رجل يريد أن يقبض روحه ضربه موسى عليه السلام ففقأ عينه، وعاد إلى ربه تعالى ولم يقبض روح موسى عليهما معاً السلام. من رواية البخاري.
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ(128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ(131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(132)}
شرح الكلمات:
{الأَمْرِ} : الشأن والمراد هنا توبة الله على الكافرين أو تعذيبهم.
رشَيْءٌ} : شيء نكرة متوغلة في الإيهام. وأصل الشيء: ما يعلم ويخبر به.
{أَوْ} : هنا بمعنى حتى، أي: فاصبر حتى يتوب عليهم أو يعذبهم.
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} : أي: مالكاً وخلقاً وعبيداً يتصرف كيف يشاء ويحكم كما يريد.
{لا تَأْكُلُوا الرِّبا} : لا مفهوم للأكل بل كل تصرف بالربا حرام سواء كان أكلاً أو شرباً أو لباساً.
{الرِّبا1} : لغة: الزيادة، وفي الشرع نوعان: ربا فضل وربا نسيئة، ربا الفضل: يكون في الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح فإذا بيع الجنس بمثله يحرم الفضل أي الزيادة ويحرم التأخير،
__________
1 ربا البنوك اليوم شر من ربا الجاهلية هو: أن يبيع الرجل أخاه شيئاً إلى أجل فإذا حلّ الأجل ولم يد سداداً قال له أخر وزد، أما ربا البنوك فإنه يبيعه نقداً بنقد إلى أجل بزيادة فورية يسجلها عليه.

وربا النسيئة: هو أن يكون على المرء دين إلى أجل فيحل الأجل ولم يجد سداداً لدينه فيقول له أخرني وزد في الدين.
{أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} : لا مفهوم لهذا؛ لأنه خرج مخرج الغالب، إذ الدرهم الواحد حرام كالألف، وإنما كانوا في الجاهلية يؤخرون الدين ويزيدون مقابل التأخير حتى يتضاعف الدين فيصبح أضعافاً كثيرة.
{تُفْلِحُونَ} : تنجون من العذاب وتظفرون بالنعيم المقيم في الجنة.
{أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} : هيئت وأحضرت للمكذبين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
{لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} : لترحموا فلا تُعذبوا بما صدر منكم من ذنب المعصية.معنى الآيات:
صح1 أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد دعا على أفراد من المشركين بالعذاب، وقال يوم أحد لما شج رأسه وكسرت رباعيته: "كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيه م؟ " فأنزل الله تعالى عليه قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} أي: فاصبر حتى يتوب2 الله تعالى عليهم أو يعذبهم بظلمهم فإنهم ظالمون ولله ما في السموات وما في الأرض ملكاً وخلقاً يتصرف كيف يشاء ويحكم ما يريد فإن عذب فبعدله، وإن رحم فبفضله، وهو الغفور لمن تاب الرحيم بمن أناب.
هذا ما تضمنته الآيتان الأولى(128) والثانية(129) وأما الآية الثالثة(130) فإن الله تعالى نادى عباده المؤمنين بعد أن خرجوا من الجاهلية ودخلوا في الإسلام بأن يتركوا أكل الربا وكل تعامل به فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي: بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً} إذ كان الرجل يكون عليه دين ويحل أجله ولم يجد ما يسدد به فيأتي إلى دائنه ويقول أخر ديني3 وزد عليّ وهكذا للمرة الثانية والثالثة حتى يصبح الدين بعد ما كان عشراً عشرين وثلاثين. وهذا معنى قوله: {أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} ، ثم أمرهم بتقواه عز وجل
__________
1 رواه مسلم، وهذا نص الحديث: "لما كسرت رباعية الرسول صلى اله عليه وسلم وشج في رأسه فجعل يسلت الدم عنه، ويقول كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وكسروا رباعيته "سنة الأمامية" وهو يدعوهم إلى الله تعالى فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية.
2 لما نزلت الآية وفيها: {أو يتوب عليهم} وهي تحمل إطماعه صلى الله عليه وسلم في إسلامهم قال: " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" ، روى مسلم عن ابن مسعود قوله: "كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكى نبياً من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".
3 هذا إن كان الطالب التاجر المدين أما إن كان المطالب هو الدائن فإنه يقول له: أتقضي أم تُربي؟.

وواعدهم بالفلاح فقال عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي: كي تفلحوا بالنجاة من العذاب والحصول على الثواب وهو الجنة.
وفي الآية الرابعة(131) أمرهم تعالى باتقاء النار التي أعدها للكافرين فهي مهيئة محضرة لهم، واتقاؤها يكون بطاعته تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال عز وجل: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ1} ، أي: المكذبين بالله ورسوله فلذا لم يعلموا بطاعتهما لأن التكذيب مانع من الطاعة، وفي الآية الأخيرة(132) أمرهم تعالى بطاعته وطاعة رسوله وودعهم على ذلك بالرحمة في الدنيا والآخرة وكأنه يشير2 إلى الذين عصوا رسول الله في أحد وهم الرماة الذين تخلوا عن مراكزهم الدفاعية فتسبب عن ذلك هزيمة المؤمنين أسوأ هزيمة فقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي: كي يرحمكم فيتوب عليكم ويغفر لكم ويدخلكم دار السلام والنعيم المقيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استقلال الرب تعالى بالأمر كله فليس لأحد من خلقه تصرف في شيء إلا ما أذن فيه للعبد.
2- الظلم مستوجب للعذاب ما لم يتدارك الرب العبد بتوبة فيتوب ويغفر له ويعفو عنه.
3- حرمة أكل الربا مطلقاً مضاعفاً كان أو غير مضاعف.
4- بيان الجاهلية إذ هو هذا الذي نهى الله تعالى عنه بقوله: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا} .
5- وجوب التقوى لمن أراد الفلاح في الدنيا والآخرة.
6- وجوب اتقاء النار ولو بشق تمرة3.
7- وجوب طاعة الله ورسوله للحصول على الرحمة الإلهية وهي العفو والمغفرة ودخول الجنة.
__________
1 في الآية إشارة واضحة إلى أن مستحل الربا يكفر به ويستحق عذاب النار.
2 وعليه فآية تحريم الربا هي: معترضة في سياق الحديث عن غزوة بدر وأحد وفي هذا الاعتراض جماله وحسن وقعه في النفوس، ومن فوائده دفع السآمة عن السامع، إذا استمر الكلام في موضوع واحد.
3 حديث: "اتقوا النار ولو بشق تمرة" رواه البخاري في صحيحه ورواه غيره.

{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ(135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ(136)}
شرح الكلمات:
{وَسَارِعُوا1} : المسارعة إلى الشيء المبادرة إليه بدون توانٍ ولا تراخ.
{إِلَى مَغْفِرَةٍ} : المغفرة: ستر الذنوب وعدم المؤاخذة بها. والمراد هنا: المسارعة إلى التوبة بترك الذنوب، وكثرة الاستغفار وفي الحديث: "ما من رجل يذنب ذنباً ثم يتوضأ ثم يصلي ويستغفر الله إلا غفر له" 2.
{وَجَنَّةٍ} : الجنة دار النعيم فوق السموات، والمسارعة إليها تكون بالإكثار من الصالحات.
{أُعِدَّتْ} : هيئت وأحضرت فهي موجودة الآن مهيأة.
{لِلْمُتَّقِينَ} : المتقون هم الذين اتقوا الله تعالى فلم يعصوه بترك واجب ولا
__________
1 قرئ في السبع: {سارعوا} بدون واو، وهي قراءة ورش عن نافع.
2 أخرجه الطبراني عن علي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.

بفعل محرم، وإن حدث منهم ذنب تابوا منه فوراً.
{فِي السَّرَّاءِ1 وَالضَّرَّاءِ} : السراء: الحال المسرة وهي اليسر والغنى، والضراء: الحال المضرة وهي الفقر.
{وَالْكَاظِمِينَ2 الْغَيْظَ} : كظم الغيظ: حبسه، والغيظ: ألم نفسي يحدث إذا أوذي المرء في بدنه أو عرضه أو ماله، وحبس الغيظ: عدم إظهاره على الجوارح بسبب أو ضرب ونحوهما للتشفي والانتقام.
{وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} : العفو عدم المؤاخذة للمسيء مع القدرة على ذلك.
{يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} : المحسنون هم الذين يبرون ولا يسيئون في قول أو عمل.
{فَاحِشَةً} : الفاحشة: الفعلة القبيحة الشديدة القبح؛ كالزنى وكبائر الذنوب.
{أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} : بترك واجب أو فعل محرم فدنسوها بذلك فكان هذا ظلماً لها.
{وَلَمْ يُصِرُّوا3} : أي: يسارعون إلى التوبة، لأن الإصرار هو الشد على الشيء والربط عليه مأخوذ من الصر، والصرة معروفة.
{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} : أي: أنهم مخالفون للشرع بتركهم ما أوجب، أو بفعلهم ما حرم.
{وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} : الذي هو الجنة.
معنى الآيات:
لما نادى الله تعالى المؤمنين ناهياً لهم عن أكل الربا آمراً لهم بتقواه عز وجل، وباتقاء النار وذلك بترك الربا وترك سائر المعاصي الموجبة لعذاب الله تعالى، ودعاهم إلى طاعته وطاعة رسوله كي يرحموا في دنياهم وأخراهم. أمرهم في الآية الأولى(133) بالمسارعة إلى شيئين
__________
1 قيل في السراء والضراء: الرخاء والشدة، وقيل، في السراء: العرس والولائم، والضراء: النوائب والمآتم. وما فسرنا به الآية أعم وأحسن.
2 يقول كضمت السقاء، أي: ملأته وسدت عليه، والكضامة: ما يسد به السقاء.
3 ذكر القرطبي هنا مسألة، وهي: من وطن نفسه على فعل ذنب فإنه يؤاخذ به، ولو لم يفعله لعجز قام به وهو مصر على فعله، واستشهد بقوله تعالى: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} يعني: أصحاب الجنة الذين عزموا على قطع ثمارها، دون إعطاء المساكين منها، كما استشهد بحديث: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" . وكلامه في الجملة صحيح ولكن من ترك ما أصر عليه خوفاً من الله تعالى سيكتب له حسنة لحديث: "من هم بسيئة فلم يعملها كتب له عند الله حسنة" .

الأول مغفرة ذنوبهم وذلك بالتوبة النصوح، والثاني دخول الجنة التي وصفها لهم، وقال تعالى : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا1 السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} أي: أحضرت وهيئت للمتقين والمسارعة إلى الجنة هي المسارعة إلى موجبات دخولها، وهي الإيمان والعمل الصالح إذ بهما تزكوا الروح وتطيب فتكون أهلاً لدخول الجنة.
هذا ما تضمنته الآية الأولى، وأما الآيتان الثانية والثالثة(135) فقد تضمنتا صفات المتقين الذين أعدت لهم الجنة دار السلام فقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} هذا وصف لهم بكثرة الإنفاق في سبيل الله، وفي كل أحايينهم من غنى وفقر وعسر ويسر، وقوله: {وَالْكَاظِمِينَ2 الْغَيْظَ} وصف لهم بالحلم والكرم النفسي، وقوله: {وَالْعَافِينَ عَنِ3 النَّاسِ} وصف لهم بالصفح والتجاوز عن زلات الآخرين تكرماً، وفعلهم هذا إحسان ظاهر ومن هنا بشروا بحب الله تعالى لهم فقال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} كما هو تشجيع على الإحسان وملازمته في القول والعمل وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} وصف لهم بملازمة ذكر الله وعدم الغفلة، ولذا إذا فعلوا فاحشة ذنباً كبيراً أو ظلموا أنفسهم بذنب4 دون الفاحش ذكروا وعيد الله تعالى ونهيه علما فعلوا، فبادروا إلى التوبة وهي الإقلاع عن الذنب والندم عن الفعل والعزم على عدم العودة إليه، واستغفار الله تعالى منه. وقوله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ5} وصف لهم بعدم الإصرار، أي: المواظبة على الذنب وعدم تركه وهم يعلمون أنه ذنب ناتج عن تركهم لواجب أو فعلهم محرم، وأما الآية الرابعة(136) فقد تضمنت بأن جزائهم على إيمانهم وتقواهم وما اتصفوا به من كمالات نفسية، وطهارة روحية ألا وهو مغفرة ذنوبهم، كل ذنوبهم
__________
1 ذكر العرض ولم يذكر الطول لأن الطول لا يدل على العرض، أما العرض فإنه يدل على الطول: فطول كل شيء بحسب عرضه، وعرض السموات معناه بعرض السموات، فلو أخذت السموات سماء بعد سماء، والأرضون وألصقت ببعضها كان عرض الجنة كذلك، هذا الذي عليه أهل التفسير من السلف. قال الزهري: "أما طولها فلا يعلمه إلا الله".
2 ورد في كظم الغيظ أحاديث منها: "ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" .
3 ورد في فضل العفو أحاديث كثيرة منها: "من سر أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات فليعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه ويصل من قطعه" . رواه الحاكم وصححه. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه الله" .
4 في الصحيحين، قال عثمان: أنه توضأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم لا صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه" .
5 أي: أن من تاب تاب الله عليه. هكذا روي عن مجاهد ولا يتنافى مع ما فسرنا به الآية، وورد "ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة" .

وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ومدح المنان عز وجل ما جازاهم به من المغفرة والخلود في الجنة ذات النعيم المقيم، فقال: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب تعجيل التوبة وعدم التسويف فيها لقوله تعالى: {وَسَارِعُوا} .
2- سعة1 الجنة، وأنها مخلوقة الآن لقوله تعالى: {أُعِدَّتْ} .
3- المتقون هم أهل الجنة وورثتها بحق.
4- فضل استمرار الإنفاق في سبيل الله، ولو بالقليل.
5- فضيلة خلة كظم الغيظ بترك المبادرة إلى التشفي والانتقام.
6- فضل العفو عن الناس مطلقاً مؤمنهم وكافرهم، بارهم وفاجرهم.
7- فضيلة الاستغفار وترك الإصرار على المعصية للآية والحديث: " ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة" . رواه الترمذي وأبو داود وحسنه ابن كثير.
{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ(138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ(141)}
__________
1 روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما دامت الجنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ فأجاب قائلاً: "سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار" . قال حيث شاء الله تعالى. قال: "وكذلك النار تكون حيث شاء الله تعالى" . رواه البزار مرفوعاً، وما دل عليه الكتاب والسنة: أن الجنة فوق السماء السابعة وسقفها عرش الرحمن، وأن النار في أسفل سافلين ولا منافاة بينهما أبداً.

شرح الكلمات:
{ قَدْ خَلَتْ} : خلت: مضت.
{سُنَنٌ1} : جمع سنة، وهي السيرة والطريقة التي يكون عليها الفرد أو الجماعة، وسنن الله تعالى في خلقه قانونه الماضي في الخلق.
{فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} : الأمر للإرشاد، للوقوف على ديار الهالكين الغابرين لتعتبروا.
{عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} : عاقبة أمرهم، وهي ما حل بهم من الدمار والخسار كعاد وثمود.
{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} : أي: ما ذكر في الآيات بيان للناس به يتبينون الهدى من الضلال وما لازمهما من الفلاح، والخسران.
{وَمَوْعِظَةٌ} : الموعظة: الحال التي يتعظ بها المؤمن فيسلك سبيل النجاة.
{وَلا تَهِنُوا} : لا تضعفوا.
{قَرْحٌ} : القرح: أثر السلاح في الجسم؛ كالجرح، وتضم القاف فيكون بمعنى الألم.
{الأَيَّامُ2} : جمع يوم والليالي معها، والمراد بها ما يجريه الله من تصاريف الحياة من خير وغيره، وإعزاز وإذلال.
{شُهَدَاءَ3} : جمع شهيد وهو المقتول في سبيل الله، وشاهد: وهو من يشهد على غيره.
{وَلِيُمَحِّصَ} : ليخلص المؤمنين من أدران المخالفات وأوضار الذنوب.
{وَيَمْحَقَ} : يمحو4 ويذهب آثار الكفر والكافرين.معنى الآيات:
لما حدث ما حدث من انكسار المؤمنين بسب عدم الصبر، والطاعة اللازمة للقيادة ذكر تعالى تلك الأحداث مقرونة بفقهها لتبقى هدى موعظة للمتقين من المؤمنين وبدأها بقوله:
__________
1 السنة: الطريق المستقيم، يقال: فلان على السنة، أي: على طريق الاستواء لا يميل إلى شيء من الأهواء، وكل من يعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على الطريق المستقيم الذي لا يميل بصاحبه إلا الأهواء والمبتدعات.
2 تداولها بين الناس فرح وغم وصحة وسقم وفقر وانتصار وانكسار والدولة الكرة ومنه قول الشاعر:
فيوم لنا ويوم علينا ... ويوماً نساء ويوماً نسر
3 سمي القتيل في سبيل الله: شهيداً؛ لأنه الحاضر للجنة ومشهود له بها، ومن فضل الشهيد أن لا يجد من ألم القتل إلا كما يجده الإنسان في القرحة لا غير.
4 قال ابن كثير في: {ويمحق الكافرين} أي: فإنهم إذا ظفروا بغواً وبطروا ويكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم.

{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا1 فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} فأخبر تعالى المؤمنين بأن سننه قد مضت فيمن قبلهم من الأمم كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، فقد أرسل الله تعالى إليهم رسله فكذبوهم فأمضى تعالى سننه فيهم فأهلك المكذبين وأنجى المؤمنين بعد ما نالهم من أذى المكذبين ، وستمضي سننه اليوم كذلك، فينجيكم وينصركم ويهلك المكذبين أعداءكم. وإن ارتبتم فسيروا في الأرض وقفوا على آثار الهالكين، وانظروا كيف كانت عاقبتهم، ثم قال تعالى: هذا الذي ذكرت في هذه الآيات بيان للناس يتبينون به الحق من الباطل والهدى من الضلال، وهدى يهتدون به إلى سبيل السلام وموعظة يتعظ بها المتقون لاستعدادهم بإيمانهم وتقواهم للاتعاظ فيطيعون الله ورسوله فينجون ويفلحون هذا ما تضمنته الآيتان الأولى(137) والثانية(138) وأما الآيتان الثالثة(139) والرابعة(140) فقد تضمنتا تعزيه الرب تعالى للمؤمنين فيما أصابهم يوم أحد، إذ قال تعالى مخاطباً لهم {وَلا تَهِنُوا} أي: لا تضعفوا فتقعدوا عن الجهاد والعمل، ولا تحزنوا على ما فاتكم من رجالكم، {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} أي: الغالبون لأعدائكم المنتصرون عليهم، وذلك فيما مضى وفيما هو آتٍ مستقبلا بشرط إيمانكم وتقواكم واعلموا أنه إن يمسسكم قرح بموت أو جراحات لا ينبغي أن يكون ذلك موهناً لكم قاعداً بكم عن مواصلة الجهاد فإن عدوكم قد مسه قرح مثله، وذلك في معركة بدر، والحرب سجال يوم لكم ويوم عليكم وهي سنة من سنن ربكم في الحياة. هذا معنى قوله تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} ، ثم بعد هذا العزاء الكريم الحكيم ذكر تعالى لهم علة هذا الحدث الجلل، والسر فيه وقال: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} أي: ليظهر بهذا الحادث المؤلم إيمان المؤمنين وفعلاً فالمنافقون رجعوا من الطريق بزعامة رئيسهم المنافق الأكبر عبد الله بن أبي بن سلول، والمؤمنون واصلوا سيرهم وخاضوا معركتهم فظهر إيمانكم واتخذ الله منهم شهداء، وكانوا نحواً من سبعين شهيداً منهم أربعة من المهاجرين وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومصعب بن عمير2 والباقون من الأنصار رضي الله عنهم أجمعين. وقوله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ3 اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: أوجد هذا الذي أوجده في أحد من جهاد وانكسار تخليصا
__________
1 أي: بإقدامكم أو بأفهامكم، وعقولكم.
2 وعبد الله بن جحش ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعثمان بن شماس.
3 اصل التمحيص: تخليص الشيء من كل عيب، يقال: محصت الذهب؛ إذا أزلت خبثه.

للمؤمنين من ذنوبهم وتطهيراً لهم ليصفوا الصفاء الكامل، ويمحق الكافرين بإذهابهم وإنهاء وجودهم.
إن هذا الدرس نفع المؤمنين فيما بعد فلم يخرجوا من طاعة نبيهم، وبذلك توالت انتصاراتهم حتى أذهبوا ريح الكفر والكافرين من كل أرض1 الجزيرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عاقبة المكذبين بدعوة الحق الخسار والوبال.
2- في آي القرآن الهدى والبيان والمواعظ لمن كان من أهل الإيمان والتقوى.
3- أهل الإيمان هم الأعلون في الدنيا والآخرة.
4- الحياة دول وتارات فليقابلها المؤمن بالشكر والصبر.
5- الفتن تمحص الرجال، وتودي بحياة العاجزين الجزعين.
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ(142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ(143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ(144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ
__________
1 وخارج الجزيرة، فالفتوحات التي فتحها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغرب والشرق لم يفتحها غيرهم ممن جاء بعدهم من التابعين ولا من غيرهم، وهو إنجاز وعد الله تعالى في قوله: {وأنتمْ الأَعْلَونْ} أي: الغالبون القاهرون.

ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ(145)}
شرح الكلمات:
{أَمْ حَسِبْتُمْ} : بل أظننتم فلا ينبغي أن تظنوا هذا الظن فالاستفهام إنكاري.
{وَلَمَّا يَعْلَمِ} : ولم يبتلكم بالجهاد حتى يعلم علم ظهور1 من يجاهد منكم ممن لا يجاهد كما هو عالم به في باطن الأمر وخفيه.
{خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ} : أي مضت من قبله الرسل بلغوا رسالتهم وماتوا.
{أَفَإِنْ مَاتَ2 أَوْ قُتِلَ} : ينكر تعالى على من قال عندما أشيع أن النبي قتل:"هيا بنا نرجع إلى دين قومنا"، فالاستفهام منصب على قوله: { انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} لا على فإن مات أو قتل، وإن دخل عليها.
{انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} : رجعتم عن الإسلام إلى الكفر.
{كِتَاباً مُؤَجَّلاً3} : كتب تعالى آجل الناس مؤقتة يمواقيتها فلا تتقدم ولا تتأخر.
{ثَوَابَ الدُّنْيَا} : الثواب: الجزاء على النية والعمل معاً، وثواب الدنيا الرزق وثواب الآخرة الجنة.
{الشَّاكِرِينَ} : الذين ثبتوا على إسلامهم فاعتبر ثباتهم شكراً لله، وما يجزيهم به هو الجنة ذات النعيم المقيم، وذلك بعد موتهم.
__________
1 أي: علم شهادة حتى يقع عليه الجزاء بحسب الظاهر المشاهد للناس.
2 مات رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في وقت دخوله المدينة مهاجراً وذلك ضحى حين اشتد الضحاء، ودفن يوم الثلاثاء أول ليلة الأربعاء، قال أنس: لما كان اليوم الذي دخل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، ولما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا من دفن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا.
3 {كتاباً} : منصوب على المصدر، أي: كتب ذلك كتاباً، ومؤجلاً: نعت.

معنى الآيات:
ما زال السياق متعلقاً بغزوة أحد فأنكر تعالى على المؤمنين ظنهم أنهم بمجرد إيمانهم يدخلون الجنة بدون أن يبتلوا بالجهاد والشدائد تمحيصاً لهم وإظهاراً للصادقين منهم في دعوى الإيمان والكاذبين فيها، كما يظهر الصابرين الثابتين والجزعين المرتدين فقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} ثم عابهم تعالى على قلة صبرهم وانهزامهم في المعركة مذكراً إياهم بتمنيات الذين لم يحضروا وقعة بدر، وفاتهم فيها ما حازه من حضرها من الأجر والغنيمة بأنهم إذا قُدر لهم قتال في يوم ما من الأيام يبلون فيه البلاء الحسن فلما قدر تعالى ذلك لهم في وقعة أحد جزعوا وما صبروا وفروا منهزمين فقال تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ1 مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} أي: فلما انهزمتم وما وفيتم ما واعدتم أنفسكم به؟ هذا ما تضمنته الآيتان الأولى(142) والثانية(143)، وأما الآية الثالثة(144) فقد تضمنت عتاباً شديداً لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما اشتدت المعركة وحمي وطيسها واستحر القتل في المؤمنين نتيجة خلو ظهورهم من الرماة الذين كانوا يحمونهم من ورائهم وضرب ابن قميئة –أقمأه الله- رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر في وجهه فشجه وكسر رباعيته، وأعلن أنه قتل محمداً فانكشف المسلمون وانهزموا، وقال من قال منهم لم نقاتل وقد مات رسول الله، وقال بعض المنافقين نبعث إلى ابن أبي رئيس المنافقين يأتي يأخذ لنا الأمان من أبي سفيان، ونعود إلى دين قومنا!! فقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ2 إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} وما دام رسولاً كغيره من الرسل، وقد مات الرسل قبله فلم ينكر موته، أو يندهش له إذاً؟ بعد تقرير هذه الحقيقة العلمية الثابتة أنكر تعالى بشدة على أولئك الذين سمعوا صرخة إبليس في المعركة "قتل محمد" ففروا هاربين إلى المدينة، ومنهم من أعلن ردته في صراحة وهم المنافقون، فقال تعالى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} فعاتبهم
__________
1 وكان منهم من وفى بما وعد وقاتل حتى استشهد، وهو: أنس بن النضر، عم أنس بن مالك، فإنه لما رأى المسلمين قد انكشوا قال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلاء" وباشر القتال وهو يقول: إني لأجد ريح الجنة، ولما قتل وجد به أكثر من ثمانين ضربة وفيه نزل قول الله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} .
2 لما قبض صلى الله عليه وسلم قام عمر في الناس وقال: "أن الرسول لم يمت ولن يموت حتى يقطع أيدي وأرجل أقوام" وكان في دهشة عظيمة حتى جاء أبو بكر من العوالي فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مسجي فكشف الغطاء عن وجهه وقبله بين عينيه ثم خرج فسمع ما قال عمر فرقي المبنر وقال: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" وقرئ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية. فرجع عمر إلى رشده واعترف بموت نبيه وبكاه.

منكراً على المنهزمين والمرتدين من المنافقين ردتهم، وأعلمهم أن ارتداد من ارتد أو يرتد لن يضر الله تعالى شيئاً، فالله غني عن إيمانهم ونصرهم، وأنه تعالى سيجزي الثابتين على إيمانهم وطاعة ربهم ورسوله صلى الله عليه وسلم وسيجزيهم دنيا وآخرة بأعظم الأجور وأحسن المثوبات.
هذا ما تضمنته الآية الثالثة أما الرابعة (145) فقد تضمنت حقيقتين علميتين:
الأولى: أن موت الإنسان متوقف حصوله على إذن الله خالقه ومالكه فلا يموت أحد بدون علم الله تعالى بذلك فلم يكن لملك الموت أن يقبض روح إنسان قبل إذن الله تعالى له بذلك، وشي آخر وهو أن موت كل إنسان قد ضبط تاريخ وفاته باللحظة فضلاً عن اليوم والساعة، وذلك في كتاب1 خاص، فليس من الممكن أن يتقدم أجل إنسان أو يتأخر بحال من الأحوال، هذه حقيقة يجب أن تعلم، من قول الله تعالى: { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً}.
والثانية: أن من دخل المعركة يقاتل باسم الله فإن كان يريد بقتاله ثواب الدنيا فالله عز وجل يؤتيه من الدنيا ما قدره له، وليس له من ثواب الآخرة شيء، وإن كان يريد ثواب الآخرة لا غير، فالله عز وجل يعطيه في الدنيا ما كتب له ويعطيه ثواب الآخرة وهو الجنة وما فيها من نعيم مقيم وأن الله تعالى سيجزي الشاكرين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. هذه الحقيقة التي تضمنها قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الابتلاء بالتكاليف الشرعية الصعبة منها والسهلة من ضروريات الإيمان.
2- تقرير رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبشريته المفضلة، وموتته المؤلمة2 لكل مؤمن3.
__________
1 هو كتاب المقادير: اللوح المحفوظ.
2 رثت صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي الله بآيات دلت على مدى ما أصاب المؤمنين من حزن وألم بفراق نبيهم نذكر منها ثلاث أبيات، وهي:
أفاطم صلى الله رب محمد ... على حدث أمسى بيثرب ثاويا
فدى لرسول الله أمي وخالتي ... وعمي وآبائي ونفسي وماليا
فلو أن رب الناس أبقى نبياً ... سعدنا ولكن أمره كان ماضيا
3 إن قيل لم تأخر دفن النبي صلى الله عليه وسلم يومين، وهو القائل: "عجلوا دفن جيفتكم ولا تؤخرهوها" . والجواب كان ذلك لأمور: أولاً: اختلافهم في المكان الذي يدفنوه فيه، حتى أخبرهم الصديق بأنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما دفن نبي إلا حيث يموت" . ثانياً: اختلافهم في تعيين الخليفة للأهمية

3- الجهاد وخوض المعارك لا يقدم أجل العبد، والفرار من الجهاد لا يؤخره أيضاً.
4- ثواب الأعمال موقوف على نية العاملين وحسن قصدهم.
5- فضيلة الشكر بالثبات على الإيمان والطاعة لله ورسوله في الأمر والنهي.
{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ(146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(148)}
شرح الكلمات:
{وَكَأَيِّنْ1 مِنْ نَبِيٍّ} : كثير من الأنبياء. وتفسر: كأين بكم وتكون حينئذ للتكثير.
{رِبِّيُّونَ2} : ربانيون علماء وصلحاء وأتقياء عابدون.
{فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ} : ما ضعفوا عن القتال ولا انهزموا لأجل ما أصابهم من قتل وجراحات.
{وَمَا اسْتَكَانُوا} : ما خضعوا ولا ذلوا لعدوهم.
الإسراف : مجاوزة الحد في الأمور ذات الحدود التي أن يوقف عندها.
{فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} : أعطاهم الله تعالى ثواب الدنيا النصر والغنيمة.
{الْمُحْسِنِينَ} : الذين يحسنون نياتهم فيخلصون أعمالهم لله، ويحسنون أعمالهم فيأتون بها موافقة لما شرعت عليه في كيفياتها وأعدادها وأوقاتها.
__________
1 قال الخليل: "وكأين أصلها، أي: دخلت عليها كاف التشبيه، وبنيت معها فصارت مثل: كم للدلالة على التكثير، وفيها لغات منها: كائن، وقرأ بها ابن كثير، وكئن، وقرأ بها ابن محيصن، وكأين، وبها قرأ الجمهور.
2 في الربيين ثلاث لغات: كسر الراء وضمها وفتحها، وهم الجماعة الكثيرة. والواحد: ربي، بكسر الراء وضمها أيضاً، وما ذكرناه في التفسير هو الحق.

معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن أحداث غزوة أحد فذكر تعالى هنا ما هو في تمام عتابه للمؤمنين في الآيات السابقة عن عدم صبرهم وانهزامهم وتخليهم عن نبيهم في وسط المعركة وحده حتى ناداهم: إليّ عباد الله إليّ عباد الله فثاب إليه رجال. فقال تعالى مخبراً بما يكون عظة للمؤمنين وعبرة لهم: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ} أي: وكم من نبي من الأنبياء السابقين قاتل معه جموع كثيرة من العلماء والأتقياء والصالحين فما وهنوا، أي: ما ضعفوا، ولا ذلوا لعدوهم ولا خضعوا له كما هم بعضكم أن يفعل أيها المؤمنون، فصبروا على القنال مع أنبيائهم متحملين آلام القتل والجرح فأحبهم ربهم تعالى لذلك لأنه يحب الصابرين.
هذا ما تضمنته الآية الأولى(146) ونصها: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا1 وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} و أما الآية الثانية فأخبر تعالى فيها عن موقف أولئك الربيين وحالهم أثناء الجهاد في سبيله تعالى فقال: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا2 فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} . ولازم هذا كأنه تعالى يقول للمؤمنين لم لا تكونوا أنتم مثلهم وتقولوا قولتهم الحسنة الكريمة وهي الضراعة لله تعالى بدعائه واستغفاره لذنوبهم الصغيرة والكبيرة والتي كثيراً ما تكون سبباً للهزائم والانتكاسات كما حصل لكم أيها المؤمنون فلم يكن لأولئك الربانيين من قول سوى قولهم: ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، فسألوا الله مغفرة ذنوبهم وتثبيتهم أقدامهم في أرض المعركة حتى لا يتزلزلوا فينهزموا، والنصرة على القوم الكافرين أعداء الله وأعدائهم فاستجاب لهم ربهم فأعطاهم ما سألوا وهو ثواب الدنيا بالنصر والتمكين وحسن ثواب الآخرة وهو رضوانه الذي أحله عليهم وهم في الجنة دار المتقين والأبرار، هذا ما دلت عليه الآية الأخيرة(148) {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ3 ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
__________
1 استكان: مشتق من السكون لأن الذليل العاجز يسكن لمن خضع له، ولا يتحرك ليدفع عنه الأذى وما ناله من عدوه الغالب له.
2 أخرج مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء: "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني" وهو دعاء تواضع منه عظيم.
3 في حسن الثواب والمحسنين جناس تام، والجملة تذييلية تحمل البشرى للقوم المحسنين في قتالهم ولقاء أعدائهم مع إحسانهم في عبادة ربهم وسواء منها القلبية والبدينة.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الترغيب في الاتساء1 بالصالحين في إيمانهم وجهادهم وصبرهم وحسن أقوالهم.
2- فضيلة الصبر والإحسان، يحب الله تعالى الصابرين والمحسنين.
3- فضيلة الاشتغال بالذكر2 والدعاء عند المصائب والشدائد بدل التأوهات وإبداء التحسرات والتمنيات، وشر من ذلك التصخت والتضجر والبكاء والعويل.
4- كرم الله تعالى المتجلي في استجابة دعاء عباده الصابرين المحسنين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ(149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ(150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ(151)}
شرح الكلمات:
{إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا} : المراد من طاعة الكافرين قبول قولهم والأخذ باراشادتهم.
{يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} : يرجعوكم إلى الكفر بعد الإيمان.
{خَاسِرِينَ} : فاقدين لكل خير في الدنيا، ولأنفسكم وأهليكم يوم القيامة.
__________
1 شاهده أن الله تعالى جعل لنا رسوله بعد أن كمله وعصمه، جعله لنا أسوة يأتسي بفعاله وأخلاقه وأحواله المؤمنون المتقون والعالمون الصابرون.
2 شاهده ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، الصلاة أكبر مظهر لذكر الله تعالى، ومن الذكر المشروع عند المصائب قول: إنا لله وإنا إليه راجعون.

{بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ} : بل أطيعوا الله ربكم ووليكم ومولاكم فإنه خير من يطاع وأحق من يطاع.
{الرُّعْبَ} : شدة الخوف من توقع الهزيمة والمكروه.
{وَمَأْوَاهُمُ} : مقر إيوائهم ونزولهم.
{مَثْوَى} : المثوى مكان الثوى، وهو الإقامة والاستقرار.
{الظَّالِمِينَ} : المشركين الذين أطاعوا غير الله تعالى وعبدوا سواه.معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث1 غزوة أحد، فقد روى أن بعض المنافقين لما رأى هزيمة المؤمنين في أحد، قال في المؤمنين ارجعوا إلى دينكم وإخوانكم، ولو كان محمد نبياً لما قتل إلى آخر ما من شأنه أن يقال في تلك الساعة الصعبة من الاقتراحات التي قد كشف عنها هذا النداء الإلهي للمؤمنين، وهو يحذرهم من طاعة الكافرين بقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ2 عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} فلا شك أن الكافرين قد طالبوا المؤمنين بطاعته بتنفيذ بعض الاقتراحات التي ظاهرها النصح وباطنها الغش والخديعة، فنهاهم الله تعالى عن طاعتهم في ذلك وهذا النهي وإن نزل في حالة خاصة، فإنه عام في المسلمين على مدى الحياة، فلا يحل طاعة الكافرين من أهل الكتاب وغيرهم وفي كل ما يأمرون به أو يقترحونه، ومن أطاعهم ردوه عن دينه إلى دينهم فينقلب: يرجع خاسراً في دنياه وآخرته، والعياذ بالله. هذا ما تضمنته الأولى(149) وأما الآية الثانية(150) فقد تضمنت الأمر بطاعته تعالى، إذ هو أولى بذلك لأنه ربهم ووليهم ومولاهم، فهو أحق بطاعتهم من الكافرين، فقال تعالى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ3} فأطيعوه، ولا تطيعوا أعداءه وإن أردتم أن تطلبوا النصر بطاعة الكافرين فإن الله تعالى خير الناصرين فاطلبوا النصر منه بطاعته فإنه ينصركم، وفي الآية الثالثة (151) لما امتثل المؤمنون أمر ربهم فلم يطيعوا
__________
1 لفظ الكافرين شامل لكل ما أولت الآية به من المشركين والمنافقين واليهود، وهذا أمر لا ينكر فإن طاعة الكافرين لا تقضي بمن أطاعهم إلا إلى الخيبة والخسران في الدارين.
2 وجه المناسبة هو أنه لما أمر تعالى المؤمنين بالإقتداء بالصالحين من أتباع الأنبياء، وذلك بالصبر والاحتساب حذرهم في هذه الآيات من اتباع الكافرين وقبول ما يطلبون ويقترحونه عليه فإنه مفضي بهم إلى الكفر أولاً ثم إلى الإثم والخسران ثانياً.
3 قرئ بنصب اسم الجلالة، ويكون معمولاً لفعل مقدر وتقديره: بل أطيعوا الله مولاكم فهو أحق بطاعته من الكافرين والمنافقين، وفي هذا رد على من قال ساعة الهزيمة: لو كلمنا ابن أبي يأخذ لنا أمناً من أبي سفيان.

الكافرين وعدهم ربهم سبحانه وتعالى بأنه سيلقي في قلوب الكافرين الرعب1 وهو الخوف والفزع والهلع حتى تتمكنوا من قتالهم والتغلب عليهم وذلك هو النصر المنشود منكم، وعلل تعالى فعله ذلك بالكافرين بأنهم أشركوا به تعالى آلهة عبدوها معه لم ينزل بعبادتها حجة ولا سلطاناً، وقال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} وأخيراً مأواهم النار، أي: محل إقامتهم النار، وذم تعالى الإقامة في النار فقال: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} ، يريد النار بئس المقام للظالمين وهم المشركون2.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تحرم طاعة الكافرين في حال الاختيار3.
2- بيان السر في تحريم طاعة الكافرين، وهو أنه يترتب عليها الردة. والعياذ بالله.
3- بيان قاعدة من طلب النصر من غير الله أذله الله.
4- وعد الله المؤمنين بنصرهم بعد إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، إذ هم أبو سفيان بالعودة إلى المدينة بعد انصرافه من أحد ليقضي عمن بقى في المدينة من الرجال، كذا سولت له نفسه، ثم ألقى الله تعالى في قلبه الرعب فعدل عن الموضوع بتدبير الله تعالى.
5- بطلان كل دعوى ما لم يكن لأصحابها حجة وهي المعبر عنها بالسلطان4 في الآية إذ الحجة يثبت بها الحق ويناله صاحبه بواسطتها.
{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ
__________
1 الرعب بإسكان العين وطمسها الخوف الذي يملأ النفس خوفاً، لأن مادة الرعب مأخوذة من الماء، يقال: سيل راعب يملأ الوادي، وكانت هذه الآية رداً على أبي سفيان لما فكر في العودة إلى المدينة بعد انصرافه من أحد، إلا أن الله تعالى هزمه لما ألقى في نفسه من الرعب، فعاد إلى مكة، كما هي بشرى للمؤمنين متى أطاعوا ربهم وثبتهم فإنه يلقى الرعب في قلوب أعدائهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالرعب مسيرة شهر.
2 لقوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، والكافرون مشركون بلا شك.
3 أما في حال الإكراه فإن من لم يطق العذاب يرخص له في إعطائهم ما طلبوا منه على شرط أن يكون كارهاً بقلبه ساخطاً في نفسه غير راضٍ عنهم ولا عن صنيعهم وذلك للآية: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ} .
4 السلطان: الحجة لأن الحق يؤخذ بالحجة ويؤخذ بالسلطان، وهل السلطان مأخوذ من السليط، وهو ما يضاء السراج، وهو دهن السمسم، وسمي الحاكم سلطاناً للاستضاءة به في إظهار الحق وقمع الباطل؟ نعم، وجائز.

مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ(152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(153)}
شرح الكلمات:
{صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ1} : أنجزكم ما وعدكم على لسان رسوله بقوله للرماة اثبتوا أماكنكم فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم.
{تَحُسُّونَهُمْ} : تقتلونهم إذ، الحس: القتل. يقال: حسه، إذا قتله فأبطل حسه.
{بِإِذْنِهِ} : بإذنه لكم في قتالهم وبإعانته لكم على ذلك.
{فَشِلْتُمْ} : ضعفتم وجبنتم عن القتال.
{تُصْعِدُونَ2} : تذهبون في الأرض فارين من المعركة، يقال: أصعد إذا ذهب في صعيد الأرض.
{وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} : لا تلوون رؤوسكم على أحد تلتفتون إليه.
{وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} : أي: يناديكم من خلفكم إليَّ عباد الله ارجعوا إليّ عباد الله ارجعوا.
__________
1 صدق الوعد: تحقيقه والوفاء به، لأن الصدق هو مطابقة الخبر للواقع، وهذا الوعد كان لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أخبرهم به وهو يهيئ صفوفهم للقتال.
2 صعد يصعد، إذا طلع المنبر أو سطحاً، وأصعد يصعد إصعاداً، إذا سار في بطن الأرض أو الوادي جرياً على صعيد الأرض فكان الإصعاد إبعاداً في الأرض.

{فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ1} : جزاكم على معصيتكم وفراركم غماً على غم. والغم: ألم النفس وضيق الصدر.
{مَا فَاتَكُمْ} : من الغنائم.
{وَلا مَا أَصَابَكُمْ} : من الموت والجراحات والآلام والأتعاب.معنى الآيتين:
ما زال السياق في أحداث أحد، فقد تقدم في السياق قريباً نهى الله تعالى المؤمنين عن طاعة الكافرين في كل ما يقترحون، ويشيرون به عليهم. ووعدهم بأنه سيلقي الرعب في قلوب الكافرين، وقد فعل فله الحمد حيث عزم أبو سفيان على أن يرجع إلى المدينة ليقتل من بها ويستأصل شأفتهم، فأنزل الله تعالى في قلبه وقلوب أتباعه الرعب فعدلوا عن غزو المدينة مرة ثانية، وذهبوا إلى مكة. ورجع الرسول والمؤمنون من حمراء الأسد، ولم يلقوا أبا سفيان وجيشه. وفي هاتين الآيتين يخبرهم تعالى بمنته عليهم حيث أنجزهم ما وعدهم من النصر، فقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ2 اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} ، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بوأ الرماة مقاعدهم. وكانوا ثلاثين رامياً وجعل عليهم عبد الله بن جبير أمرهم بأن لا يبرحوا أماكنهم كيفما كانت الحال، وقال لهم: إنا لا نزال غالبين ما بقيتم في أماكنكم ترمون العدو فتحمون ظهورنا بذلك، وفعلاً دارت المعركة وأنجز الله تعالى لهم وعده ففر المشركون أمامهم تاركين كل شيء هاربين بأنفسهم والمؤمنون يحسونهم حساً، أي: يقتلونهم قتلاً بإذن الله وتأييده لهم، ولما رأى الرماة هزيمة المشركين والمؤمنون يجمعون الغنائم، قالوا: ما قيمة بقاءنا هنا، والناس يغنمون فهيا بنا ننزل إلى ساحة المعركة لنغنم، فذكرهم عبد الله بن جبير قائدهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأولوه ونزلوا إلى ساحة المعركة يطلبون الغنائم، وكان على خيل المشركين خالد بن الوليد، فما رأى الرماة أخلوا مراكزهم إلا قليلاً منهم كر بخيله عليهم فاحتل أماكنهم وقتل من بقي فيها، ورمى المسلمين من ظهورهم فتضعضعوا لذلك، فعاد المشركون إليهم ووقعوا بين الرماة الناقمين والمقاتلين الهاجئين، قوقعت الكارثة فقتل سبعون من المؤمنين ومن
__________
1 الباء قد تكون هنا للمصاحبة، أي أصابكم غماً مصحوباً بغم. والغم الأول: القتل والجراح، والثاني: الإرجاف بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بأس أن يكون الغم الأول هو الذي أغموا به الرسول بمخالتفهم إياه وأصابهم غم الهزيمة.
2 في هذه الآية عود إلى التسلية على ما أصابهم وإظهار لاستمرار عناية الله تعالى بهم.

بينهم حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وجرح رسول الله في وجه، وكسرت رباعيته، وصاح الشيطان قائلاً: إن محمداً قد مات، وفر المؤمنون من ميدان المعركة إلا قليلاً منهم، وفي هذا يقول تعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ1} يريد تنازع الرماة مع قائدهم عبد الله بن جبير، حيث نهاهم عن ترك مقاعدهم وذكرهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنازعوه في فهمه وخالفوا الأمر ونزلوا، وكان ذلك بعد أن رأوا إخوانهم قد انتصروا وأعدائهم قد انهزموا2، وهو معنى قوله تعالى: {وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} أي: من النصر {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ3 الدُّنْيَا} وهم الذين نزلوا إلى الميدان يجمعون الغنائم، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} وهم: عبد الله بن جبير والذين صبروا معه في مراكزهم حتى استشهدوا فيها، وقوله تعالى: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} وذلك إخبار عن ترك القتال لما أصابهم من الضعف حينما رأوا أنفسهم محصورين بين رماة المشركين ومقاتليهم فأصعدوا في الوادي هاربين بأنفسهم، وحصل هذا بعلم الله تعالى وتدبيره، والحكمة فيه أشار إليها تعالى بقوله: {لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي: يختبركم فيرى المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، والصابر من الجزع، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} يريد أنه لو شاء يؤاخذهم بمعصيتهم أمر رسوله، فسلط عليهم المشركين فقتلوهم أجمعين، ولم يبقوا منهم أحداً إذ تمكنوا منهم تماماً ولكن الله سلم. هذا معنى: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} هذا ما تضمنته الآية الأولى(152)، أما الآية الثانية(153) فهي تصور الحال التي كان عليها المؤمنون بعد حصول الانكسار والهزيمة4 فيقول تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ} أي: عفا عنكم في الوقت الذي فررتم في المصعدين في الأودية هاربين من المعركة والرسول يدعوكم من ورائكم إليَّ عباد الله ارجعوا، وأنتم فارون لا تلوون على أحد، أي: لا تلتفتوا إليه. وقوله تعالى : {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ} يريد جزاكم على معصيتكم غماً، والغم: ألم النفس لضيق الصدر وصعوبة
__________
1 آل في الأمر: نائبة عن المضاف، إذ التقدير في أمركم وشأنكم.
2 نعم انهزم المشركون في أول المعركة حتى شوهدت نسائهم عن سوقهن هاربات في أعلى الجبل خوفاً من الأسر، ومن بينهم هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان.
3 إرادة الدنيا وحدها غير معصية ولكن ما ترتبت عنها من ترك طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطالب الدنيا إذا طلبها من حلها ولم يخل طلبه بواجب ولم يحمله على فعل حرام لا يأثم ولا يلام.
4 لما تمت الهزيمة جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بعض أصحابه على صخرة من سفح أحد فجاء أبو سفيان فارتفع على نشز من الأرض، وقال: أفي القوم محمد؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجيبوه" ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجيبوه" . ثم قال: أفي القوم عمر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجيبوه". ثم التفت إلى أصحابه وقال: أما هؤلاء فقد قتلوا. فقال له عمر: كذبت يا عدوا الله، فقد أبقى لك الله من يخزيك به. فقال: أعل هبل. مرتين. فأجابوه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلين. الله أعلى وأجل. فقال: لنا العزة ولا عزة لكم. فقالوا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله مولانا ولا مولى لكم.

الحال، وقوله: {بِغَمٍّ} أي: على غم، وسبب الغم الأول فوات النصر والغنيمة، والثاني: القتل والجراحات، وخاصة جراحات نبيهم وإذاعة قتله صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ} أي: ما أصابكم بالغم الثاني الذي هو خبر قتل الرسول صلى الله عليه وسلم لكي لا تحزنوا على ما فاتكم من النصر والغنيمة، ولا على ما أصابكم من القتل والجراحات فأنساكم الغم الثاني ما غمكم به الغم الأول الذي هو فوات النصر والغنيمة. وقوله: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} يخبرهم تعالى أنه بكل ما حصل منهم من معصية وتنازع وفرار، وترك للنبي صلى الله عليه وسلم في المعركة وحده وانهزامهم وحزنهم خبير مطلع عليه عليم به وسيجزي به المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته أو يعفو عنه، والله عفو كريم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- مخالفة القيادة الرشيدة والتنازع في حال الحرب يسبب الهزيمة1 المنكرة.
2- معصية الله ورسوله والاختلافات بين أفراد الأمة تعقب أثاراً سيئة أخفها عقوبة الدنيا بالهزائم وذهاب الدولة والسلطان2.
3- ما من مصيبة تصيب العبد إلا وعند الله ما هو أعظم منها، فلذا يجب حمد الله تعالى على أنها لم تكن أعظم.
4- ظاهر هزيمة أحد النقمة وباطنها النعمة، وبيان ذلك أن علم المؤمنون أن النصر والهزيمة يتمان حسب سنن إلهية فما أصبحوا بعد هذه الحادثة المؤلمة يغفلون تلك السنن أو يهملونها.
5- بيان حقيقة كبرى وهي أن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم مرة واحدة وفي شيء واحد ترتب عليها ألم وجراحات وقتل وهزائم وفوات خير كبير وكثير، فكيف بالذين يعصون رسول الله طوال حياتهم وفي كل أوامره ونواهيه، وهم يضحكون ولا يبكون، وآمنون غير خائفين3.
__________
1 الخلاف كله شر ولكنه في ساحة الحرب أشد، ولهذا قال تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} إلى أن قال: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم} . الآية من سورة الأنفال.
2 شاهد هذا حال المسلمين اليوم، وقبل اليوم أنهم بعد أن عصوا الله ورسوله بالإعراض عن شرع الله وإهمال أحكامه والتعصب للمذاهب والرضا بالانقسام والخلاف حل بهم ما حل من الذل والهون والدون.
3 هذه حال أكثر المسلمين اليوم ومنذ قرون عدة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكذا لم يبرحوا أذلاء تابعين للكافرين لا يستقلون في عمل أو تدبير.

{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ(155)}
شرح الكلمات:
{أَمَنَةً نُعَاساً1} : الأمنة: الأمن، والنعاس: استرخاء يصيب الجسم قبل النوم.
{يَغْشَى2 طَائِفَةً مِنْكُمْ} : يصيب المؤمنين ليستريحوا ولا يصيب المنافقين.
{أَهَمَّتْهُمْ3 أَنْفُسُهُمْ} : أي: لا يفكرون إلا في نجاة أنفسهم غير مكترثين بما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
{ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} : هو اعتقادهم4: أن النبي قُتل أو أنه لا ينصر.
{هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ} : أي: ما لنا من الأمر من شيء.
__________
1 الأمنة: وقيل: إن الأمنة تكون عند الخوف والأمن يكون مع الخوف وعدمه، وقرئ الأمنة بإسكان الميم.
2 قرئ: يغشى بالياء، وهو عائد إلى النعاس، وقرئ: تغشى بالتاء ويعود على الأمنة.
3 من أفراد هذه الطائفة: معتب بن قشير وأصحابه خرجوا طمعاً للغنيمة لا غير.
4 قال ابن عباس: وهو تكذيبهم بالقدر.

{مَا لا يُبْدُونَ لَكَ} : أي: ما لا يظهرون لك.
{لَبَرَزَ الَّذِينَ} : لخرجوا من المدينة ظاهرين ليلقوا مصارعهم هناك.
{كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} : يريد كتب في كتاب المقادير، أي: اللوح المحفوظ.
{مَضَاجِعِهِمْ} : جمع مضجع، وهو مكان النوم، والاضطجاع والمراد المكان الذي صرعوا في قتلى.
{وَلِيَبْتَلِيَ1} : ليختبر.
{وَلِيُمَحِّصَ} : التمحيص: التمييز وهو إظهار شيء من شيء كإظهار الإيمان من النفاق، والحب من الكره.
{اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} : أوقعهم في الزلل وهو الخطيئة والتي كانت الفرار من الجهاد.
معنى الآيتين:
ما زال الساق في الحديث عن غزوة أحد فأخبر تعالى في الآية الأولى (153) عن أمور عظام: الأول: أنه تعالى بعد الغم الذي أصاب به المؤمنين أنزل على أهل اليقين خاصة أمناً كاملاً فذهب الخوف عنهم حتى أن أحدهم2 لينام والسيف في يده فيسقط من يده ثم يتناوله، قال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} ، والثاني: أن أهل الشرك والنفاق حرمهم الله تعالى من تلك الأمنة فما زال الخوف يقطع قلوبهم، والغم يسيطر على أنفسهم وهم لا يفكرون إلا في أنفسهم كيف ينجون من الموت، وهم المعنيون بقوله تعالى : {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ3 أَنْفُسُهُمْ} ، والثالث: أن الله تعالى قد كشف عن سرائرهم، فقال: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} ، والمراد من ظنهم بالله غير الحق ظن المشركين أنهم يعتقدون أن الإسلام باطل وأن محمداً ليس رسولاً، وأن المؤمنين سيهزمون ويموتون وينتهي الإسلام ومن يدعو إليه. والرابع: أن الله تعالى قد كشف سرهم فقال عنهم: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ4 شَيْءٍ} هذا القول قالوه سراً فيما بينهم، ومعناه ليس لنا من الأمر من شيء
__________
1 أي: لا يعاملهم معاملة المختبر لهم وليصبح ما كان غيباً لله مشاهدة لهم.
2 قال أبو طلحة والزبير وأنس: غشينا النعاس حتى إن السيف ليسقط من يد أحدنا فيتناوله من الأرض.
3 حدثتهم أنفسهم بما يدخل الهم عليهم، وهو تكذيبهم بالقدر والحرص على نجاتهم وحزنهم على ما فاتهم من الغنيمة، وهذه كلها موجبات الهم والغم.
4 هذه الجملة بدل اشتمال من جملة: {يظنون بالله غير الحق} . لأن ظنهم مشتمل على قولهم: {هَلْ لَنا من الأَمر مِنْ شَيئْ} أي: ليس لنا من الأمر من شيء. وهذا القول قاله: ابن أبي بما سمع باستشهاد من استشهد من الخزرج.

ولو كان لنا ما خرجنا ولا قاتلنا ولا أصابنا الذي أصابنا فأطلعه الله تعالى على سرهم، وقال له: رد عليهم بقولك: إن الأمر كله لله. ثم هتك تعالى مرة أخرى سترهم وكشف سرهم فقال: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ} أي: يخفون في أنفسهم من الكفر والبغض والعداء لك ولأصحابك ما لا يظهرونه لك. والرابع: لما تحدث المنافقون1 في سرهم، وقالوا: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} : يريدون لو كان الأمر بأيديهم ما خرجوا لقتال المشركين لأنهم إخوانهم في الشرك والكفر، ولو قتلوا مع من قتل في أحد فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} بالمدينة لبرز، أي: ظهر {الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} وصرعوا فيها وماتوا، لأن ما قدره الله نافذ على كل حال، ولا حذر مع2 القدر، ولا بد أن يتم خروجكم إلى أحد بتدبير الله تعالى ليبتلي الله، أي: يمتحن ما في صدوركم ويميز ما في قلوبكم فيظهر ما كان غيباً لا يعلمه إلا هو إلى عالم المشاهدة ليعلمه ويراه على حقيقته رسوله والمؤمنون، وهذا لعلم الله تعالى بذات الصدور. هذا معنى قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.
هذا ما تضمنته الآية الأولى، أما الآية الثانية(154) فقد تضمنت إخبار الله تعالى عن حقيقة واحدة ينبغي أن تعلم وهي أن الذين فروا من المعركة لما اشتد القتال وعظم الكرب، الشيطان هو الذي أوقعهم في هذه الزلة، وهي توليهم عن القتال بسبب3 بعض الذنوب كانت لهم، ولذا عفا الله عنهم ولم يؤاخذهم بهذه الزلة، وذلك لأن الله غفور حليم، فلذا يمهل عبده حتى يتوب فيتوب عليه ويغفر له، ولو لم يكن حليماً لكان يؤاخذ لأول الذنب والزلة فلا يمكن أحداً من التوبة والنجاة. هذا معنى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ} أي: عن القتال، يوم التقى الجمعان، أي: جمع المؤمنين وجمع الكافرين بأحد. {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ4 الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا
__________
1 تقدم آنفاً أن هذا قاله: رئيس المنافقين: ابن أبي، وقد عاد من الطريق مع ثلاثمائة رجل ممن استجاب لدعوته المثبطة عن القتال، ولا مانع أن يقوله غير واحد من المنافقين، وهو كذلك.
2 أي: بنافع، ولكن طلب الحذر من جملة الأسباب المطلوب اتخاذها طاعة لله، والله يقول: {خُذواْ حِذْرَكم} ، وإنما لما يقع ما قدره الله تعالى ولم ينفع في رده حذر وجب الرضا به والتسليم لله في إجراءه على مقتضى مراده، وعليه فلا أسف ولا حزن ولا سخط، إذ ما قضاه الله هو الخير والخير كله.
3 في هذه الآية بيان بسبب الهزيمة الخفي، وهو مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم حيث تركوا مواقعهم ونزلوا لطلب الغنيمة، والمراد إلقاء تبعة الهزيمة عليهم، إذ هم السبب فيها.
4 استزلهم: أي: أزلهم بمعنى جعلهم زالين، والزلل: إن كان معناه: انزلاق القدم وسقوط صاحبها، فإن معناها هنا: الوقوع في الذلة التي هي الخطيئة، والسين والتاء في استزلهم للتأكيد، مثل: استفاد كذا واستنشق الماء أو الهواء: {واسْتَغْنَى اللّه} .

كَسَبُوا} ، {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} فلم يؤاخذهم {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} .
هداية الايتين
من هداية الآيتين:
1- إكرام الله تعالى لأولياءه بالأمان الذي أنزله في قلوبهم.
2- إهانة الله تعالى لأعدائه بحرمانهم مما أكرم به أولياءه وهم في مكان واحد.
3- تقرير مبدأ القضاء والقدر، وأن من كتب موته في مكان لا بد وأن يموت فيه.
4- أفعال الله تعالى لا تخلو أبداً من حكم عالية فيجب التسليم لله تعالى والرضا بأفعاله في خلقه.
5- الذنب يولد الذنب، والسيئة تتولد عنها سيئة أخرى، فلذا وجبت التوبة من الذنب فوراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ(157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ(158)}
شرح الكلمات:
{آمَنُوا} : صدقوا الله ورسوله فيما أخبرا به من وعد ووعيد.
{لإِخْوَانِهِمْ} : هذه أخوة العقيدة لا أخوة النسب، وهي هنا أخوة النفاق.
{ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ} : ضربوا في الأرض بأقدامهم مسافرين1 للتجارة غالباً.
__________
1 وقد يكون السفر لمصالح المسلمين.

{غُزّىً1} : جمع غاز وهو من يخرج لقتال ونحوه من شؤون الحرب.
الحسرة2 : ألم يأخذ بخناق النفس بسبب فوت مرغوب أو فقد محبوب.معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث غزوة أحد ونتائجها المختلفة، ففي هذه الآية(156) ينادي الله المؤمنين الصادقين في إيمانهم بالله ورسوله ووعد الله تعالى ووعيده يناديهم3 لينهاهم عن الاتصاف بصفات الكافرين النفسية وهو من ذلك قول الكافرين لإخوانهم في الكفر: إذ هم ضربوا في الأرض لتجارة أو لغزو فمات من مات منهم أو قتل من قتل بقضاء الله وقدره، لو كانوا عندنا، أي: ما فارقونا وبقوا في ديارنا ما ماتوا وما قتلوا وهذا دال على نفسية الجهل ومرض الكفر، وحسب سنة الله تعالى فإن هذا القول منهم يتولد، لهم عنه بإذنه تعالى غم نفسي وحسرات قلبية تمزقهم، وقد تودي بحياتهم، وما درى أولئك الكفرة الجهال أن الله يحيي ويميت، فلا السفر ولا القتال يميتان، ولا القعود في البيت جبناً وخوراً يحيي، هذا معنى قوله تعالى في هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} وقوله تعالى في ختام هذه الآية: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} في وعد للمؤمنين إن انتهوا عما نهاهم عنه في الآية ووعيد إن لم ينتهوا فيجزيهم بالخير خيراً، وبالشر إن لم يعفوا شراً. أما الآية الثانية (157) فإن الله تعالى يبشر عباده المؤمنين مخبراً إياهم بأنهم إن قتلوا في سبيل الله أو ماتوا فيه يغفر لهم ويرحمهم وذلك خير مما يجمع الكفار من حطام الدنيا ذلك الجمع للحطام الذي جعلهم يجبنون على القتال والخروج في سبيل الله فقال تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ4 فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ5 لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ6} ، وفي الآية الثالثة (158) يؤكد تلك الخيرية التي تضمنتها الآية السابقة فيقول: { وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ}
__________
1 الغزو: قصد الشيء، والمغزى: المقصد، والمغزية: المرأة التي غزا زوجها، والنسبة إلى الغزو، غزي.
2 والحسرة: شدة الأسف على الحزن.
3 في نداء الله المؤمنين بعنوان الإيمان، وهي صفة جامعة لهم فيه تلطف بعد تقريع فريق منهم، وهم الذين تولوا عن القتال يوم التقى الجمعان.
4 اللام موطئة للقسم: أي: مؤذنة بأن قبلها قسماً مقدراً، واللام: {المَغْفِرة} هي في جواب القسم الذي هو المغفرة.
5 أهل الحجاز يقولون: متم بكسر الميم، نحو: نمتم من نام ومات وغيرهم يقولون: مُتم بضم الميم في متم، ونمتم، نحو: كنتم وقلتم.
6 قرئ: {تَجْمَعون} بالتاء، أي: أنتم أيها المؤمنون: {ويَجمَعوُن} بالياء، أي: الكافرون والمنافقون.

في سبيلنا {لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ1} حتما، وثم يتم لكم جزاؤنا على استشهادكم وموتكم في سبيلنا، ولنعم ما تجزون به في جوارنا الكريم.
هداية الآيات:
1- حرمة التشبه بالكفار ظاهراً وباطناً.
2- الندم يولد الحسران والحسرة غم وكرب عظيمان، والمؤمن يدفع ذلك بذكره القضاء والقدر فلا يأسى على ما فاته ولا يفرح بما آتاه من حطام الدنيا.
3- موتة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها.
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(160)}
شرح الكلمات:
{لِنْتَ لَهُمْ} : كنت رفيقاً بهم، تعاملهم بالرفق واللطف.
{فَظّاً} : خشناً في معاملتك شرساً في اختلافك وحاشاه2 صلى الله عليه وسلم.
{لانْفَضُّوا} : تفرقوا وذهبوا تاركينك وشأنك.
{فَاعْفُ عَنْهُمْ} : يريد إن زلوا أو أساءوا.
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} : اطلب مشورتهم في الأمر ذي الأهمية؛ كمسائل الحرب والسلم.
__________
1 فيه وعظ وعظهم الله به حيث أعلمهم أنهم سواء ماتوا حتف أنوفهم، أو قتلوا فإن رجوعهم إلى الله وسيجزيهم على قتالهم وموتهم في سبيل الله.
2 ومن صفاته صلى الله عليه وسلم في التوراة كما في رواية البخاري أنه صلى الله عليه وسلم: ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق. والغليظ القلب: من قلت شفقته وعزت رحمته، كما قال الشاعر:
يبكى علينا ولا نبكي على أحد ...
لنحن أغلظ أكباداً من الإبل

معنى الآيتين:
ما زال السياق في الآداب و النتائج المترتبة على غزوة أحد، ففي هذه الآية(119) يخبر تعالى عما وهب رسوله من الكمال الخلقي الذي هو قوام الأمر فيقول: {فَبِمَا1 رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} أي: فبرحمة من عندنا رحمناهم بها لنت2 لهم، {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً} أي: قاسياً جافاً جافياً قاسي القلب غليظة {لانْفَضُّوا مِنْ3 حَوْلِكَ} أي: تفرقوا عنك، وحرموا بذلك سعادة الدارين. وبناء على هذا فاعف4 عن مسيئهم، واستغفر لمذنبهم، و شاور ذي الرأي منهم، وإذا بدا لك رأي راجح المصلحة فاعزم على تنفيذه متوكلاً على ربك فإنه يحب المتوكلين، والتوكل: الإقدام على فعل ما أمر الله تعالى به أو أذن فيه بعد إحضار الأسباب الضرورية له. وعدم التفكير فيما يترتب عليه بل يفوض أمر النتائج إليه تعالى.
هذا ما تضمنته الآية الأولى، أما الآية الثانية(160) فقد تضمنت حقيقة كبرى يجب العلم بها والعمل دائماً بمقتضاها، وهي أن النصر بيد الله، والخذلان كذلك فلا يطلب نصر إلا منه تعالى، ولا يرهب خذلان إلا منه عز وجل، وطلب نصره هو إنفاذ أمره بعد إعداد الأسباب اللازمة له، وتحاشي خذلانه تعالى يكون بطاعته والتوكل عليه هذا ما دل عليه قوله تعالى في هذه الآية: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- كمال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلقي.
2- فضل الصحابة رضوان الله عليهم وكرامتهم على ربهم سحانه وتعالى.
3- تقرير مبدأ المشورة بين5 الحاكم وأهل الحل والعقد في الأمة.
__________
1 الميم: صلة، أي مزيدة لتوكيد الكلام وتقويته، نحو: قوله تعالى: {فَبِما نَقْضِهمْ ميِثَاقهمْ} ، وقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} وجند ما هنالك.
2 وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعنف الذين تولوا يوم أحد بل رفق بهم. فأخبر تعالى أن ذلك كان بتوفيق منه عز وجل لرسوله.
3 قيل: يمنعهم الحياء والاحتشام والهيبة من القرب منك بعد ما كان من توليهم، وهذا شأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 هذا الترتيب مقصود فأولاً: يعفو عنهم لما كان بينه وبينهم. وثانياً: يتستغفر الله لهم لم كان بينهم وبين ربهم من تبعات. وبعد هذا الإعداد يصبحون أهلاً للمشورة فيشاورهم.
5 الاستشارة مأخوذة من شرت الدابة، إذا علمت خبرها كجري ونحوه، ويقال للموضع الذي تركض فيه المشوار، قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام. من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. وقد قيل: ما ندم من استشار ومن أعجب برأيه ضل. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما ندم من استشار ولا خاب من استخار ولا عال من اقتصد" .

4- فضل العزيمة1 الصادقة مقرونة بالتوكل على الله تعالى.
5- طلب النصر من غير الله خذلان، والمنصور من نصره الله، والمخذول من خذله الله عز وجل.
{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ(163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(164)}
شرح الكلمات:
{أَنْ يَغُلَّ} : أي: يأخذ من الغنيمة خفية، إذ الغل والغلول بمعنى السرقة من الغنائم قبل قسمتها.
{تُوَفَّى} : تجزى ما كسبته في الدنيا وافياً تاماً يوم القيامة.
{رِضْوَانَ اللَّهِ} : المراد به ما يوجب رضوانه من الإيمان والصدق والجهاد.
وسخط الله : غضبه الشديد على الفاسقين عن أمره المؤذين لرسوله صلى الله عليه وسلم.
__________
1 من الحزم المشورة، والحزم: جودة النظر في الأمر وتنقيحه، والحذر من الخطأ فيه والعزم قصد الإمضاء فيما حزم فيه ومن مظاهر الحزم والعزم للرسول صلى الله عليه وسلم: أنه استشار أصحابه في الخروج إلى قتال المشركين خارج المدينة أو البقاء فيها. والقتال داخلها. ورأى عدم الخروج أصلح، ورأى أكثر الأصحاب الخروج فوافقهم فدخل بيته فلبس آلات حربه وخرج فلما رأوا كذلك تراجعوا واعتذروا ولكنه أبى أن يتراجع، فتلجى حزمه وعزمه، وقال: "لا ينبغي لنبي لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه" .

{مَنَّ} : أنعم وتفضل.
{رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} : هو محمد صلى الله عليه وسلم.
{وَيُزَكِّيهِمْ} : بما يرشدهم إليه من الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والآداب العالية.
{وَالْحِكْمَةَ} : كل قول صالح نافع أبداً ومنه السنة النبوية.معنى الآيات:
الغل والغلول1 والإغلال بمعنى واحد، وهو أخذ المرء شيئاً من الغنائم قبل قسمتها وما دام السياق في غزوة أحد، فالمناسبة قائمة بين الآيات وهذه، ففي الآية الأولى (161) ينفي تعالي أن يكون من شأن الأنبياء أو مما يتأتى صدوره عنهم الإغلال وضمن تلك أن أتباع الأنبياء يحرم عليهم أن يغلوا، ولذا قرئ في السبع أن يُغل بضم2 الياء وفتح الغين، أي: يفعله أتباعه بأخذهم من الغنائم بدون إذنه. هذا معنى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} ثم ذكر تعالى جزاء وعقوبة من يفعل وقال: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} فأخبرهم تعالى أن من أغل شيئاً يأت به يوم القيامة يحمله حتى البقرة والشاة كما يبين ذلك في الحديث3، ثم يحاسب عليه كغيره ويجزي به، كما تجزى كل نفس بما كسبت من خير أو شر ولا تظلم نفس شيئاً لغنى الرب تعالى عن الظلم وعدله. هذا مضمون الآية الأولى، أما الثانية (162) ينفي تعالى أن تكون حال المتبع لرضوان الله تعالى بالإيمان به ورسوله وطاعتهما بفعل الأمر واجتناب النهي، كحال المتبع لسخط الله تعالى بتكذيبه تعالى وتكذيب رسوله ومعصيتهما بترك الواجبات وفعل المحرمات فكانت جهنم مأواه، وبئس المصير جهنم. هذا معنى قوله تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} ثم ذكر تعالى أن كلاً من
__________
1 سمي الغلول: غلولاً، لأن الأيدي فيها مغلولة، أي: ممنوعة، كأن فيها غلاً، وهو الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه.
2 فتح الياء قراءة حفص، وهي رد على من تصور أن النبي في إمكانه أن يأخذ شيئاً من الغنيمة قبل قسمتها فأخبر تعالى أنه من غير الممكن أن يغل النبي لعصمة الله تعالى لأنبياءه، وقراءة الضم قراءة نافع، وهي: تحرم على اتباع النبي الغلول بصيغة بليغة، إذ تجعل غلولهم من قبيل المعتذر الذي لا يحدث.
3 في صحيح مسلم أن أبا هريرة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال: "لا ألقين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول يا رسول الله أعنى، فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبغلتك، ثم ذكر الفرس والشاة والنفس والرقاع" . والرقاع: جمع رقعة وهي ما يكتب عليها.

أهل الرضوان، وأصحاب السخط متفاوتون في درجاتهم1 عند الله, بحسب أثر أعمالهم في نفوسهم قوة وضعفاً فقال: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} ، فدل ذلك على عدالة العليم الحكيم. هذا ما دلت الآية(163)، أما الآية الأخيرة(164) فقد تضمنت امتنان الله تعالى على المؤمنين من العرب ببعثه رسوله فيهم، يتلو عليهم آيات الله ويدعوهم إليه فيؤمنون ويكملون في إيمانهم ويزكيهم من أوضار الشرك وظلمة الكفر بما يهديهم به، ويدعوهم إليه من الإيمان وصالح الأعمال وفاضل الأخلاق وسامي الآداب، ويعلمهم الكتاب المتضمن للشرائع والهدايات والحكمة التي هي فهم أسرار الكتاب، والسنة، وتتجلي هذه النعمة أكثر لمن يذكر حال العرب في جاهليتهم قبل هذه النعمة العظيمة عليهم، هذا معنى قوله تعالى في الآية الأخيرة: {لَقَدْ مَنَّ2 اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ3 يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تحريم4 الغلول، وأنه من كبائر الذنوب5.
2- طلب رضوان الله واجب، وتجنب سخطه واجب كذلك، والأول يكون بالإيمان وصالح الأعمال والثاني يكون بترك الشرك والمعاصي.
3- الإسلام أكبر نعمة وأجلها على المسلمين فيجب شكرها بالعمل به والتقيد بشرائعه وأحكامه.
4- فضل العلم بالكتاب والسنة.
__________
1 المشهور: أن أهل النار في دركات متوافتة كما أن أهل الجنة في درجات متوافتة، فالدرجة: ما أريد بها الارتفاع، والدركة: ما أريد بها السفول والهبوط.
2 من هنا: بمعنى أسدى النعمة للمؤمنين، ببعثة الرسول فيهم، وليس هو من المن المذموم الذي هو تعداد النعمة إلى أن الله تعالى له أن يمن وهو أمن من كل من، من وأعطى.
3 قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: هذه للعرب خاصة: إذ فهمت من كلمة: {مِنْ أَنْفسهم} إنها تعنى من جنسهم العربي، وبعضهم يرى العموم فيها لكل مؤمن ومؤمنة وهو كذلك، إذ هو بشر مثلهم.
4 شاهده قوله صلى الله عليه وسلم في الذي غل الشملة يوم خييبر: "والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذ يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم تشتعل عليها ناراً" . ولما سمع هذا الوعيد أحد الأصحاب جاء بشراك أو شراكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شراك أو شراكين من نار" رواه مالك في الموطأ.
5 الإجماع على أن الغال لا تقطع يده ولكن يعذر، والغلول لا يكون إلا في الغنائم وسمى الرسول صلى الله عليه وسلم هدايا العمال غلولاً ويفضحون بها يوم القيامة، لحديث مسلم في قصة ابن اللتبية.

{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ(166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ(167) الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(168)}
شرح الكلمات:
المصيبة : إحدى المصائب: ما يصيب الإنسان من سوء وأسوأها مصيبة الموت.
{مِثْلَيْهَا} : ضعفيها إذ قتلوا في بدر سبعين من المشركين وأسروا1 سبعين.
{أَنَّى هَذَا} : أي: من أين أتانا الذي أتانا من القتل والهزيمة.
{فَبِإِذْنِ اللَّهِ} : أي: بإرادته تعالى وتقديره يربط المسببات بأسبابها.
{نَافَقُوا} : أظهروا من الإيمان مالا يبطنون من الكفر.
{أَوِ ادْفَعُوا} : أي: ادفعوا العدو عن دياركم وأهليكم وأولادكم، إن لم تريدوا ثواب الأخرة.
{فَادْرَأُوا} : أي: ادفعوا
{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} : في دفع المكروه بالحذر.
__________
1 اعتبر الأسير قتيلاً؛ لأن الآسر له يملك قتله متى شاء، فلذا قال تعالى: {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} .

معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في أحدث غزوة أحد ففي الآية الأولى: ينكر الله تعالى على المؤمنين قولهم بعد أن أصابتهم مصيبة القتل والجراحات والهزيمة: {أَنَّى1 هَذَا} أي: من أي وجه جاءت هذه المصيبة ونحن مسلمون ونقاتل في سبيل الله ومع رسوله؟ فقال تعالى: {أَوَلَمَّا2 أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} بأحد قد أصبتم مثليها ببدر، لأن ما قتل من المؤمنين بأحد كان سبعين، وما قتل المشركين ببدر كان سبعين قتيلاً وسبعين أسيراً، وأمر رسوله صلى الله عليه و سلم أن يحييهم: قل هو من عند أنفسكم، وذلك بمعصيتكم لرسول الله خالف الرماة أمره، وبعدم صبركم إذ فررتم من المعركة تاركين القتال. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} إشعار بأن الله تعالى أصابهم بما أصابهم به عقوبة لهم حيث لم يطيعوا رسوله ولم يصبروا على قتال أعدائه. هذا ما تضمنته الآية الأولى(165)، أما الآيات الثلاث بعدها فقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} يخبر تعالى المؤمنين أن ما أصابهم يوم أحد عند التقاء جمع المؤمنين وجمع المشركين في ساحة المعركة كان بقضاء الله وتدبيره، وعلته إظهار المؤمنين على صورتهم الباطنية الحقة وأنهم صادقون في إيمانهم، ولذا قال تعالى: وليعلم المؤمنين علم انكشاف وظهور كما هو معلوم له في الغيب وباطن الأمور هذا أولاً، وثانياً: ليعلم الذين نافقوا فأظهروا الإيمان والولاء لله ولرسوله والمؤمنين ثم أبطنوا الكفر والعداء لله ورسوله والمؤمنين، فقال عنهم في الآيتين الثالثة(167) والرابعة(168) {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} وهم عبد الله إبي بن سلول رئيس المنافقين وعصابته الذين رجعوا من الطريق قبل الوصول إلى ساحة المعركة، وقد قال عبد الله بن حرام والد جابر تعالوا قاتلوا في سبيل الله رجاء ثواب الآخرة، وإن لم تريدوا ثواب الآخرة فادفعوا عن أنفسكم وأهليكم معرة جيش غاز يريد قتلكم إذ وقوفكم معنا يكثر سوادنا ويدفع عنا خطر العدو الداهم. فأجابوا قائلين: لو نعلم قتالاً سيتم لاتبعناكم، فأخبر تعالى عنهم بأنهم في هذه الحال: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} إذ يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} حتى من أنفسهم يعلم أنهم يكتمون عداوة الله ورسوله والمؤمنين وإرادة السوء بالمؤمنين، وأن قلوبهم
__________
1 أنى: هذه جملة اسمية، فإني بمعنى أي وهو الخبر مقدم، وهذا مبتدأ مؤخر.
2 الاستفهام هنا للإنكار والتعجب لأن قولهم: {أَنْى هَذا} مما ينكر ويتعجب منه، وذلك أن سبب المصيبة غير خاف ولا غامض فهو ظاهر مكشوف وهو عصيانهم للقيادة بمخالفة أمرهم، ولما: اسم زمان مضمن معنى الشرط، و قلتم: هو الجزاء.

مع الكافرين الغازين. ثم أخبر تعالى عنهم أنهم قعدوا عن الجهاد في أحد وقالوا لإخوانهم في النفاق –وهم في مجالسهم الخاصة-: لو أنهم قعدوا فلم يخرجوا كما لم نخرج نحن ما قتلوا. فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم قائلاً: {فَادْرَأُوا} أي: ادفعوا1 عن أنفسكم الموت إذا حضر أجلكم إن كنتم صادقين في دعواكم أنهم لو قعدوا ما قتلوا.
من هداية الآيات:
1- المصائب2 ثمرة الذنوب.
2- كل الأحداث التي تتم في العالم سبق بها علم الله، ولا تحدث إلا بإذنه.
3- قد يقول المرء قولاً أو يظن ظناً يصبح به على حافة هاوية الكفر.
4- الحذر لا يدفع3 القدر.
{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ(171)}
شرح الكلمات:
{وَلا تَحْسَبَنَّ} : ولا تظنن.
{قُتِلُوا} : استشهدوا.
{أَحْيَاءٌ} : يحسون ويتنعمون في نعيم الجنة بالطعام والشراب.
__________
1 هذا رد على ابن أبي كبير المنافقين، وسيدهم الذي قال: لو أطاعونا ما قتلوا.
2 قال تعالى من سورة الشورى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} أي: من الذنوب والمعاصي.
3 ومع أنه لا يدفع القدر فإن استعماله واجب لقوله تعالى: {خُذوا حِذْرَكم} .

{فَرِحِينَ} : مسرورين.
{أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} : لما وجدوا من الأمن التام عند ربهم.
{وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} : على ما خلفوا وراءهم في الدنيا لما نالهم من كرامة في الجنة.
{يَسْتَبْشِرُونَ} : يفرحون.
{وَفَضْلٍ} : وزيادة .
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن غزوة أحد فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَحْسَبَنَّ1} أي: لا تظنن الذين استشهدوا من المؤمنين في أحد وغيرها أمواتاً لا يحسون ولا يتنعمون بطيب الرزق ولذيذ العيش بل هم أحياء عند ربهم يرزقون أرواحهم في حواصل طير خضر يأكلون من ثمار الجنة ويأوون إلى قناديل معلقة بالعرش. إنهم فرحون بما أكرمهم2 الله تعالى به، ويستبشرون بإخوانهم المؤمنين الذين خلفوهم في الدنيا على الإيمان والجهاد بأنهم إذا لحقوا بهم لم يخافوا ولم يحزنوا لأجل ما يصيرون إليه من نعيم الجنة وكرامة الله تعالى لهم فيها. إن الشهداء جميعاً مستبشرون فرحون بما ينعم3 الله عليهم ويزيدهم وبأنه تعالى لا يضيع أجر المؤمنين شهداء وغير شهداء بل يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الشهداء أحياء والمؤمنون أحياء في الجنة غير أن حياة الشهداء أكمل.
2- الشهداء4 يستبشرون بالمؤمنين الذين خلفوهم على الإيمان والجهاد بأنهم إذا لحقوا بهم نالهم من الكرامة والنعيم ما نالهم هم قبلهم.
__________
1 روى أبي داود بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقامهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنا، إنا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينقلوا عند الحرب، فقال الله سبحانه: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله : {ولا تحسبن} ". الآية.
2 مما ورد في فضل الشهيد: أن الله تعالى يغفر له كل ذنب أذنبه إلا الدين، لقوله صلى الله عليه وسلم: "القتيل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين، كذلك قال لي جبريل عليه السلام آنفاً" . قال العلماء: الدين يشمل كل الحقوق المتعلقة بالذمة.
3 روى الترمذي وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للشهيد عند الله ست خصال. يغفر له في دفعه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفرع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتي وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه" .
4 الإجماع على أن شهيد المعركة بين الكفار والمسلمين: أنه لا يغسل ولا يصلى عليه لحديث البخاري: "وادفنوهم بدمائهم" يعنى شهداء أحد ولا يغسلهم, والعلة في عدم غسلهم: أن دمائهم يوم القيامة كريح المسك.

3- لا خوف ينال المؤمن الصالح إذا مات ولا حزن يصيبه.
{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ(172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ(174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(175)}
شرح الكلمات:
{اسْتَجَابُوا1} : اجابوا الدعوة وقبلوا الأمر.
{الْقَرْحُ2} : ألم الجراحات.
{أَحْسَنُوا} : أعمالهم وأقوالهم أتوا بها وفق الشرع وأحسنوا إلى غيرهم.
{وَاتَّقَوْا} : ربهم فلم يشركوا به ولم يعصوه فيما أمرهم به أو نهاهم عنه.
{جَمَعُوا لَكُمْ} : جمعوا الجيوش لقتالكم.
{حَسْبُنَا اللَّهُ} : يكفينا الله ما أرادونا به من الأذى.
{وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} : نعم الوكيل الله نوكل إليه أمورنا ونفوضها إليه.
انقلبوا : رجعوا من حمراء الأسد إلى المدينة.
أولياء الشيطان : أهل طاعته والاستجابة إليه فيما يدعوهم إليه من الشر والفساد.
__________
1 قيل: أن هذه الآية: {الذينَ اسْتَجابوُا} إلخ. نزلت في رجلين من بني الأشهل كانا مثخنين بالجراح وخرجا إلى حمراء الأسد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوكأ أحدهما على صاحبه.
2 أخرج أصحاب الصحاح عن عروة بن الزبير أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قال له: كان أبواك من الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح. وتعني بأبويه: الزبير وأبا بكر الصديق رضي الله عنهما.

معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث غزوة أحد وما لابسها من أمور وأحوال والآيات الأربع كلها في المؤمنين الذين حضروا غزوة أحد يوم السبت وخرجوا في طلب أبي سفيان يوم الأحد وعلى رأسهم نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن يرفع معنويات أصحابه الذين كلموا وهزموا يوم السبت بأحد، وأن يرهب أعداءه فأمر مؤذناً يؤذن بالخروج في طلب أبي سفيان وجيشه، فاستجاب المؤمنون وخرجوا وإن منهم للمكلوم والمجروح، وإن أخوين جريحين كان أحدهما يحمل أخاه على ظهره فإذا تعب و ضعه فمشى قليلاً، ثم حمله حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد، وألقى الله تعالى الرعب في قلب أبي سفيان فارتحل هارباً إلى مكة، وقد حدث هنا أن معبداً الخزاعي1 مر بمعسكر أبي سفيان فسأله عن الرسول فأخبره أنه خرج في طلبكم وخرج معه جيش كبير وكلهم تغيظ عليكم، أنصح لك أن ترحل فهرب برجاله خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأقام الرسول صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد برجاله كذا ليلة ثم عادوا لم يمسسهم سوء وفيهم نزلت هذه الآيات الأربع وهذا نصها:
الآية(172) {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} يريد في أحد واستجابوا: لبوا نداء الرسول صلى الله عليه وسلم وخرجوا معه في ملاحقة أبي سفيان، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} ولكل من أحسن واتقى أجر عظيم، إلا وهو الجنة الآية الثانية(173) {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ2 قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} . المراد من الناس القائلين هم: نفر من عبد القيس مروا بأبي سفيان وهو عازم على العودة إلى المدينة لتصفية المؤمنين بها في نظره فقال له أبو سفيان أخبر محمداً وأصحابه أني ندمت على تركهم أحياء بعدما انتصرت عليهم وإني جامع جيوشي وقادم عليهم، والمراد من الناس الذين جمعوا هم: أبو سفيان، فلما بلغ هذا الخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه زادهم3 إيماناً فوق إيمانهم بنصر الله تعالى وولايته لهم، وقالوا: حسبنا الله، أي: يكفينا الله شرهم، ونعم الوكيل الذي يكفينا ما أهمنا
__________
1 لأن خزاعة كانت حلفاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعيبت نصحه، أي: موضع سره.
2 روى البخاري عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {الذيِنَ قَاَل لَهْم النَاس} إلى: {وَنِعْمَ الوَكيِل} قالها إبراهيم الخليل عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} .
3 الذي زادهم إيماناً: هو قول الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} وهل الإيمان يزيد وينقص: الخلاف قديم في هذه القضية، والقول الذي تشهد له نصوص الكتاب والسنة، هو: أن الإيمان يقوى ويضعف، فإذا قوي زاد عمل المؤمن في الطاعات بفعل الحسنات وترك السيئات، وإذا ضعف قل عمله الصالح وزاد عمله الطالح، فيستدل على الإيمان قوة وضعفاً بمتعلقه وهو الطاعة والمعصية.

ونفوض أمرنا إلى الله. الآية الثالثة(174) {فَانْقَلَبُوا} أي: رجعوا من حمراء الأسد؛ لأن أبا سفيان ألقى الله الرعب في قلبه فانهزم وهرب، رجعوا مع نبيهم سالمين في نعمة الإيمان والإسلام والنصر، {وَفَضْلٍ} حيث أصابوا تجارة في طريق عودتهم {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} أي: أذى، {وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} بالاستجابة لما دعاهم الله ورسوله وهو الخروج في سبيل الله لملاحقة أبي سفيان وجيشه. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} وما أفاضه على رسوله كاف في التدليل عليه الآية الرابعة(175) {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ1 فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، وذلك أن وفد عبد القيس آجره أبو سفيان بكذا حمل من زبيب إن هو خوف المؤمنين منه فبعثه كأنه "طابور" يخذل له المؤمنين إلا أن المؤمنين عرفوا أنها مكيدة، {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ، فنزلت الآية: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ} الناطق على لسان النفر من عبد القيس يخوف المؤمنين من أوليائه أبي سفيان وجمعه، فلا تخافوهم فنهاهم عن الخوف منهم وأمرهم أن يخافوه2 تعالى، فلا يجبنوا ويخرجوا إلى قتال أبي سفيان وكذلك فعلوا لأنهم المؤمنون بحق رضي الله عنهم أجمعين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضل الإحسان والتقوى وأنهما مفتاح كل خير.
2- فضل أصحاب رسول الله على غيرهم، وكرامتهم على ربهم.
3- فضل كلمة: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ3} ، قالها رسول الله وقالها إبراهيم من قبل فصلى الله عليهما وسلم.
4- بيان أن الشيطان يخوف4 المؤمنين من أوليائه، فعلى المؤمنين أن لا يخافوا غير ربهم تعالى في الحياة، فيطيعونه ويعبدونه ويتوكلون عليه، وهو حسبهم ونعم الوكيل لهم.
__________
1 معنى يخوف أولياءه: أنه يخوف المؤمنين بأولياءه، وهم المشركون، وذلك على لسان نعيم ابن مسعود الذي أجره أبو سفيان ليخوف المؤمنين بعزم أبي سفيان على الكر عليهم لاستئصالهم وإبادتهم.
2 الخوف من الله تعالى أمر الله به، وهو واجب على كل مؤمن، وحقيقته: أن يترك العبد ما يخاف أن يعذب عليه، وقيل: الخائف الذي يبكي ويمسح عينيه، وإنما من يترك ما يخاف أن يعذب به.
3 الوكيل: فعيل، بمعنى: مفعول، أي: الموكول إليه الأمر.
4 الشيطان: يكون من الجن ومن الإنس، فإن كان من الجن فتخويفه يكون بواسطة الواسوس، وإن كان من شياطين الإنس فتخويفه يكون بالكلام الشفوي الذي ظاهره النصح، وباطنه الخداع والغش.

{وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالأِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(178)}
شرح الكلمات:
الحزن : غم يصيب النفس لرؤية أو سماع ما يسوءه ويكرهه.
{الْكُفْرِ} : الكفر: تكذيب الله تعالى ورسوله فيما جاء به الرسول وأخبر به.
{يُسَارِعُونَ} : يبادرون.
{حَظّاً} : نصيباً.
{اشْتَرَوُا الْكُفْرَ} : اعتاضوا الكفر عن الإيمان.
{نُمْلِي لَهُمْ} : الإملاء: الإمهال والإرخاء بعدم البطش وترك الضرب على أيديهم بكفرهم.
{إِثَّمَا} : الإثم: كل ضار قبيح ورأسه: الكفر والشرك.معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث غزوة أحد، ففي هذه الآيات الثلاث –وقد كشفت الأحداث عن أمور خطيرة، حيث ظهر النفاق مكشوفاً لا ستار عليه، وحصل من ذلك ألم شديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين- يخاطب الله تعالى رسوله قائلاً له: لا يحزنك1 مسارعة هؤلاء المنافقين2 في
__________
1 قرأ نافع: يحزنك، بضم الياء وكسر الزاي، من أحزن يحزن في كل القرآن إلا قوله تعالى: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} ، وقرأ الجمهور {يحزنك} بفتح الياء وضم الزاي.
2 قيل في هؤلاء المسارعين في الكفر: إنهم المنافقون، وقيل: هم كفار قريش، وقيل: هم اليهود، واللفظ يشمل على ذلك، إذ الفئات الثلاث كلها كانت تسارع في الكفر بنصرته والعمل فيه وبه.

الكفر، وقال في الكفر ولم يقل إلى الكفر إشارة إلى أنهم ما خرجوا منه؛ لأن إسلامهم كان نفاقاً فقط، {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} ، والله يريد أن لا يجعل لهم نصيباً من نعيم الآخرة. فلذا تركهم في كفرهم كلما خرجوا منه عادوا إليه، وحكم عليهم بالعذاب العظيم فقال: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . هذا ما تضمنته الآية الأولى(176). أما الآية الثانية (177) فقد تضمنت حكم الله تعالى على الذين يرتدون بعد إيمانهم فيبيعون الإيمان بالكفر، ويشترون الضلالة بالهدى حكم عليهم بأنهم لن يضروا1 الله شيئاً من الضرر، ولهم عذاب أليم فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالأِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً2 وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} والعذاب الأليم هو عذاب النار إذ لا آلم ولا أشد إيجاعاً منه.
وأما الآية الثالثة(178) فقد تضمنت بطلان حسبان الكافرين أن الله تعالى عندما يمهلهم ويمد في أعمارهم ولم يعاجلهم بالعذاب أن ذلك خيرٌ لهم، لا، بل هو شر لهم، إذ كلما تأخروا يوماً اكتسبوا فيه إثماً فيقدر ما تطول حياتهم بعظم ذنبهم وتكثر آثامهم، وحيئنذ يوبقون ويهلكون هلاكاً لا نظير له قال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ3 الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي: ذو إهانة، لأنهم كانوا ذوي كبر وعلو في الأرض وفساد، فلذا ناسب أن يكون عذابهم اهانات لهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا ينبغي للمؤمن أن يحزنه كفر كافر ولا فسق فاسق، لأن ذلك لا يضر الله تعالى شيئاً، وسيجزي الله الكافر والفاسق بعدله.
2- لا ينبغي للعبد أن يغره إمهال الله له، وعليه أن يبادر بالتوبة من كل ذنب إذ ليس هناك إهمال وإنما هو إمهال.
3- الموت للعبد4 خير من الحياة؛ لأنه إذا كان صالحاً فالآخرة خير له من الدنيا وإن كان غير
__________
1 {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئا} من الضرر لا في ذاته، ولا في دينه في ملكه، وسلطانه، ولا رسوله، وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم: "لا يعبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني" .
2 كرر لفظ: {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئا} لأجل التأكيد والتقرير حتى ييأس المنافقون والكافرون من إلحاق أي ضرر برسول الله صلى الله عليه وسلم وبدعوته، وشيئا: منصوب على المصدرية، أي: لن يضروا الله ضرراً قليلاً ولا كثيراً.
3 فسر الإملاء بطول العمر ورغد العيش وهو كذلك مع إضافة عدم معاجلتهم بالعقوبة إنظاراً لهم.
4 شاهده قول ابن مسعود رضي الله عنه: "ما من أحد بر ولا فاجر إلا والموت خير له لأنه إن كان براً فقد قال الله تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} ، وإن كان فاجراً فقد قال تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} ". وروي مثله عن ابن عباس، أخرجه رزين.

ذلك حتى لا يزداد إثماً فيوبق بكثرة ذنوبه.
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ(179) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(180)}
شرح الكلمات:
{لِيَذَرَ} : ليترك.
{يَمِيزَ} : يميز ويبين.
{الْخَبِيثَ} : من خبثت نفسه بالشرك والمعاصي.
{الطَّيِّبِ} : من طهرت نفسه بالإيمان والعمل الصالح.
{الْغَيْبِ} : ما غاب فلم يدرك بالحواس.
{يَجْتَبِي} : يختار ويصطفي.
{يَبْخَلُونَ1} : يمنعون ويضنون.
يطوقون به : يجعل طوقاً في عنق أحدهم.معنى الآيتين:
ما زال السياق في أحداث وقعة أحد، وما لازمها من ظروف وأحوال، فأخبر تعالى في هذه الآية (179) أنه ليس من شأنه تعالى أن يترك المؤمنين على ما هم عليه فيهم المؤمن الصادق
__________
1 البخل بضم الباء وإسكان الخاء، والبخل بفتح الباء والخاء معاً هو أن يمنع الإنسان الحق الواجب عليه من زكاة أو ضيافة أو إطعام جائع وستر عارٍ، ولم يوجد من يقوم به سواه، وما لا فلا يقال فيه بخيل شرعاً.

في إيمانه، والكاذب فيه وهو المنافق. بل لا بد من الابتلاء بالتكاليف الشاقة منها؛ كالجهاد والهجرة والصلاة والزكاة، وغير الشاقة من سائر العبادات حتى يميز المؤمن الصادق وهو الطيب الروح، من المؤمن الكاذب وهو المنافق الخبيث الروح، قال تعالى: {مَا كَانَ1 اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} وذلك أن الله لم يكن من سننه في خلقه أن يطلعهم على الغيب فيميز المؤمن من المنافق، و البار من الفاجر، وإنما يبتلي بالتكاليف ويظهر بها المؤمن من الكافر والصالح من الفاسد. إلا أنه تعالى قد يجتبي من رسله من يشاء فيطلعه على الغيب، ويظهره على مواطن الأمور وبناء على هذا2 فآمنوا بالله ورسله حق الإيمان، فإنكم إن آمنتم صادق الإيمان واتقيتم معاصي الرحمان كان لكم بذلك أعظم الأجور وهو الجنة دار الحبور والسرور هذا ما دلت عليه الآية(179)، أما الآية الثانية(180) فإن الله تعالى يخبر عن خط البخلاء الذين يملكون المال ويبخلون به فيقول: ولا يحسن أي ولا يظن الذين يبخلون بما آتاهم الله من المال الذي تفضل الله به عليهم أن بخلهم به خير لأنفسهم كما يظنون بل هو أي البخل شر لهم، وذلك لسببين الأول: ما يلحقهم في الدنيا من معرة البخل وآثاره السيئة على النفس، والثاني: أن الله تعالى سيعذبهم به بحيث يجعله طوقاً من نار في أعناقهم، أو بصورة ثعبان فيطوقهم3، ويقول لصاحبه: "أنا مالك أنا كنزك" كما جاء في الحديث. فعلى من يظن هذا الظن الباطل أن يعدل عنه، ويعلم أن الخير في الإنفاق لا في البخل. وأن ما يبخل به هو مال الله ، وسيرثه، ولم يجن البخلاء إلا المعرة في الدنيا والعذاب في الآخرة. قال تعالى: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ، فاتقوه فيما آتاكم فآتوا زكاته وتطوعوا بالفضل فإن ذلك خير لكم. والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
__________
1 روي أن الآية نزلت إجابة لمن طالبوا بعلامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق فأجابهم الله تعالى بأنه ليس من شأنه أن يترك المؤمنين على ما هم عليه في اختلاطهم مع المنافقين حتى ينزل من الشرائع والتكاليف وما يميز بفعله وتركه المؤمن من المنافق.
2 إذ العبرة ليست بمعرفة الغيب، وإنما العبرة بالنجاة من النار والفوز بالجنة، وعليه فأعرضوا عن المطالبة بمعرفة الغيب وأقبلوا على ما يحقق لكم نجاتكم وسعادتكم.
3 روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثْل له شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، يؤخذ بلهزمتيه –يعني شدقيه- ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ...} الآية.

هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- من حكم التكليف إظهار المؤمن الصادق من المؤمن الكاذب.
2- استئثار الرب تعالى بعلم الغيب دون خلقه إلا ما يطلع عليه رسله لحكمة اقتضت ذلك.
3- ثمن الجنة الإيمان والتقوى.
4- البخل بالمال شر لصاحبه، وليس بخير له كما يظن البخلاء.
5- من أوتي مالاً ومنع حق الله فيه عذب به يوم القيامة دلت على ذلك هذه الآية وآية1 التوبة وحديث البخاري: "من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه –أي شدقيه- يقول أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا الآية {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ...} الآية".
{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ(182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ(184)}
__________
1 هي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ* يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ}.

شرح الكلمات:
{عَذَابَ الْحَرِيقِ1} : هو عذاب النار المحرقة تحرق أجسادهم.
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} : أي: ذلك العذاب بسبب ما قدمته أيديكم من الجرائم.
{عَهِدَ إِلَيْنَا} : أمرنا ووصانا في كتابنا "التوراة".
{أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ} : أي: لا نتابعه، على ما جاء به ولا نصدقه في نبوته.
{بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} : القربان: ما يتقرب به إلى الله تعالى من حيوان وغيره يوضع في مكان فتنزل عليه نار بيضاء من السماء فتحرقه.
{بِالْبَيِّنَاتِ} : الآيات والمعجزات.
{وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} : أي: من القربان.
{فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} : الاستفهام للتوبيخ، ومن قتلوا من الأنبياء: زكريا ويحي عليهما السلام.
{وَالزُّبُرِ} : جمع زبور وهو الكتاب؛ كصحف إبراهيم.
{وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} : الواضح البين؛ كالتوراة والزبور والإنجيل.
معنى الآيات:
لما نزل قول الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ} ودخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بيت "المدراس2" واليهود به وهم يستمعون لأكبر علمائهم وأجل أحبارهم فنحاص فدعاه أبو بكر إلى الإسلام، فقال فنحاص: إن رباً يستقرض، نحن أغنى منه! ينهانا صاحبك عن الربا ويقبله فغضب أبو بكر رضي الله عنه وضرب اليهودي، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا أبا بكر فسأل الرسول أبا بكر قائلاً: "ما حملك على ما صنعت" ؟ فقال إنه قال: إن الله فقير ونحن أغنياء. فأنكر اليهودي فأنزل3 الله تعالى الآية {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} ، أي: نكتبه أيضاً، ونقول لهم: {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق} ، وقولنا ذلك بسبب ما
__________
1 الحريق: اسم للملتهبة من النار، إذ النار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة.
2 بيت المعلم من بني إسرائيل.
3 إن من نزلت فيهم الآية لم يقتلوا الأنبياء وإنما قتلهم سلفهم ولكن برضاهم عن أسلافهم، وما صنعوا كان حكمهم حكم من قتل، لأن الرضا بالمعصية معصية. روى أن رجلاً حسن قتل عثمان عند الشعبي، فقال له الشعبي: "شاركت في دمه فجعل الرضا بالقتل قتلاً".

قدمته أيديكم من الشر والفساد وأن الله ليس بظلام للعبيد، فلم يكن جزاؤهكم مجافياً للعدل ولا مباعداً له أبداً لننزه الرب تعالى عن الظلم لعباده، هذا ما تضمنته الآية الأولى(181) {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} ، والآية الثانية(182) {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ، وأما الآية الثالثة(183) وهي قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فقد تضمنت دعوى يهودية كاذبة بطالة لا صحة لها البتة، والرد عليها، فالدعوى هي قولهم إن الله1 قد أمرنا موصياً لنا أن لا نؤمن لرسول فنصدقه ونتابعه على ما جاء به،حتى يأتينا بقربان تأكله النار، يريدون صدقة من حيوان أو غيره توضع أمامهم فتنزل عليها نار من السماء فتحرقها، فذلك آية نبوته، وأنت يا محمد ما أتيتنا بذلك فلا نؤمن بك ولا نتابعك على دينك، وأما الرد فهو قول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قل يا رسولنا: {قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ} وهي المعجزات، {وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} وهو قربان تأكله النار فلم قتلتموهم، إذ قتلوا زكريا ويحي وحاولوا قتل عيسى، إن كنتم صادقين في دعواكم؟، وأما الآية الرابعة (184) فإنها تحمل العزاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول له ربه تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ} فلم يؤمنوا بك، فلا تحزن ولا تأسى لأنك لست وحدك الذي كُذبت، فقد كذبت رسل كثر كرام، جاءوا أقوامهم بالبينات، أي: المعجزات، وبالزبر، والكتاب المنير؛ كالتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وكذبتهم أممهم كما كذبك هؤلاء اليهود والمشركين معهم فاصبر ولا تحزن.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- كفر اليهود وسوء أدبهم مع الله تعالى ومع أنبيائهم ومع الناس أجمعين.
2- تقرير جريمة قتل اليهود للأنبياء وهي من أبشع الجرائم.
__________
1 روى القرطبي عن الكلبي: أن هذه الآية نزلت رداً على كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهوذا وفنحاص بن عزريا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: أتزعم إن الله أرسلك إلينا وأنه أنزل علينا كتاباً عهد إلينا فيه ألا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار فإن جئتنا به صدقناك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

3- بيان كذب اليهود في دعواهم أن الله عهد إليهم أن لا يؤمنوا بالرسول حتى1 يأتيهم بقربان تأكله النار.
4- تعزية الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر والثبات أمام ترهات اليهود وأباطيلهم.
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ(185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ(186)}
شرح الكلمات:
{ذَائِقَةُ الْمَوْتِ2} : أي: ذائقة موت جسدها، أما هي فإنها لا تموت.
{تُوَفَّوْنَ} : تعطون جزاء أعمالكم خيراً أو شراً وافية لا نقص فيها.
{زُحْزِحَ} : نجي وأبعد.
{فَازَ} : نجا من مرهوبه وهو النار، وظفر بمرغوبه وهو الجنة.
{مَتَاعُ الْغُرُورِ3} : المتاع: كل ما يستمتع به، والغرور: الخداع، فشبهت الدنيا بمتاع خادع غار صاحبه، لا يلبث أن يضمحل ويذهب.
__________
1 وإن صحت دعواهم في التوراة فإن فيها استثناء عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم أو هي منسوخة في الإنجيل ولكن ما رد الله تعالى به عليهم لا يتطلب مزيد حجج فإنه قاطع مفحم مسكت، ونص التوراة تمامه: "حتى يأتيكما المسيح ومحمد فإذا أتياكما فآمنوا بهما من غير قربان".
2 قرئ: {ذائقة الموت} بالإضافة، و {ذائقة الموت} بدونها، والأولى قراءة العامة، وهذا مما لا محيص للإنسان عنه. قال أمية بن الصلت:
من لم يمت عبطة يمت هرماً ... للموت كأس والمرء ذائقها
ومعنى: عبطة: شاباً، وللموت علامات من أبرزها عرق الجبين، وفي الحديث: "المؤمن يموت بعرق الجبين" . فإذا شوهدت لقن الميت لقوله صلى الله عليه وسلم: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" .
3 يوضح معنى متاع الغرور: قوله صلى الله عليه وسلم: "والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما ترجع إليه" ، والغرور مصدر أضيف إليه المتاع، فالمتاع: ما يتمتع به ثم يضمحل، وكونه للغرور زاد في التحذير منه، فلذا قال فيها قتادة: "الدنيا متاع متروك يوشك أن تضمحل بأهلها".

{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} : لتختبرن في أموالكم بأداء الحقوق الواجبة فيها، أو بذهابها وأنفسكم بالتكاليف الشاقة؛ كالجهاد والحج، أو المرض والموت.
{أُوتُوا الْكِتَابَ} : اليهود والنصارى.
{الَّذِينَ أَشْرَكُوا} : العرب.
{فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} : يريد أن الصبر والتقوى من الأمور الواجبة التي هي عزائم وليس فيها رخص ولا ترخيص بحال من الأحوال.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تعزية الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لقد جاء في الآية السابقة تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما آلمه من تكذيب اليهود والمشركين له، وفي هذه الآية أعظم تسلية وعزاء، إذ أخبر تعالى فيها بأن كل نفس مهما علت أو سفلت ذائقة الموت1 لا محالة، وإن الدنيا ليست دار جزاء وإنما هي دار كسب وعمل، ولذا قد يجرم فيها المجرمون ويظلم الظالمون، ولا ينالهم مكروه، وقد يحسن فيها المحسنون ويصلح المصلحون ولا ينالهم محبوب، وفي هذا تسلية عظيمة وأخرى: العلم بأن الحياة الدنيا بكل ما فيها لا تعدو كونها متاع الغرور، أي: متاع زائل غار ببهرجه وجمال منظره، ثم لا يلبث أن يذهب ويزول. هذا ما دلت عليه الآية الأولى(185)، أما الآية الثانية(186) ففيها يخبر تعالى رسوله والمؤمنين بأنهم لا محالة مختبرون في أموالهم وفي أنفسهم. في أموالهم بالحوائج، وبالواجبات، وفي أنفسهم بالمرض والموت والتكاليف الشاقة؛ كالجهاد والحج والصيام، وإنهم لا بد وأن يسمعوا من أهل الكتاب والمشركين أذى كبيراً كما قال فنحاص: الله فقير2 ونحن أغنياء أو كما قال النصارى: المسيح ابن الله، وكما قال المشركون: اللات والعزى ومناة آلهة مع الله. حثهم تعالى على الصبر
__________
1 من أحكام الاحتضار: تلقين لا إله الا الله وقراءة يس، لتخفيف سكرات الموت لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من ميت يقرأ عنده يس إلا هون الله عليه" ، وفي حديث أبي داود: "اقرأوا يس على موتاكم" ، ومن أحكام الموت: تغميض العينين، وغسل، وكفنه، والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، وتعجيل دفنه، والإسراع في المشي به، لحديث: "اسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحاً فخير تقدمونها إليه، وإن تك غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم" .
2 قال ابن أبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ارجع إلى رحلك لا تؤذنا في مجالسنا. وكان كعب بن الأشرف ينظم القصائد يسب فيها المسلمون ويؤلب فيها عليهم الكافرين، بل كان يتشبب بنساء المؤمنين، ولذا أذن الرسول في اغتياله فقتله غيلة: محمد بن مسلمة، وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين

والتقوى، فقال: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} فإن صبركم وتقواكم مما أوجب الله تعالى عليكم وليس هو من باب الندب والاستحباب بل هو من باب الفرض والوجوب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ليست الدار الدنيا بدار جزاء وإنما هي دار عمل.
2- تعريف الفوز الحق وهو الزحزحة عن النار ودخول الجنة.
3- بيان حقيقة هذه الحياة وأنها كمتاع خادع لا يلبث أن يتلاشى ويضمحل.
4- الابتلاء ضروري فيجب الصبر والتقوى فإنهما من عزائم الأمور لا من رخصها.
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ1 لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ(187) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(189)}
شرح الكلمات:
الميثاق : العهد المؤكد باليمين.
{أُوتُوا الْكِتَابَ} : اليهود والنصارى.
الكتمان : إخفاء الشيء وجحوده حتى لا يرى ولا يعلم.
{فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} : ألقوه وطرحوه ولم يلتفتوا إليه، وهو ما أخذ عليهم العهد والميثاق فيه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من الإسلام.
__________
1 الضمير عائد إلى الكتاب، أي: أقسم عليكم بجلالي وكمالي لتظهرن جميع ما في الكتاب من الأحكام والأخبار، ومنها: نعوت النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته.

{وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} : اعتاضوا عنه حطام الدنيا ومتاعها الزائل إذ كتموه. إبقاء على منافعهم الدنيوية.
{أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} : أي: يثني عليهم ويذكروا بخير وهم لم يفعلوا ما يوجب لهم ذلك.
{بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ} : بمنجاة من العذاب في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب أليم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في اليهود فيقول تعالى لنبيه، واذكر لهم إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب، وهم اليهود والنصارى أخذ على علمائهم العهد المؤكد بأن يبينوا للناس نعوت النبي صلى الله عليه وسلم في كتابهم، وأن يؤمنوا به ويتابعوه على ما جاء به من الهدى ودين الحق وهو الإسلام، ولكنهم كتموه ونبذوه وراء ظهورهم فلم يلتفتوا إليه واستبدلوا بذلك ثمناً قليلاً وهو الجاه والمنصب والمال، قال تعالى: {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} وذم الله تعالى ذلك الثمن القليل فقال: {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} ، هذا ما تضمنته الآية الأولى(187)، وأما الآية الثانية(188) {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا1 بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . فإن الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: لا تحسبن يا رسولنا الذين يفرحون بما أتوا من الشر والفساد بتحريف كلامنا وتبديل أوامرنا وتغيير شرائعنا وهم مع ذلك يحبون أن يحمدهم الناس أي يشكروهم ويثنوا عليهم، ما لم يفعلوا من الخير والإصلاح إذ عملهم كان العكس وهو الشر والفساد من اليهود، ولا تحسبنهم بمفازة، أي: بمنجاة من العذاب، ولهم عذاب أليم يوم القيامة. وأما الآية الثالثة 189) فقد أخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض، وأنه على كل شيء قدير فدلل بذلك على قدرته على البطش بالقوم والانتقام منهم، وأنه منجز وعيده لهم وهو عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة فقال: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
__________
1 روى البخاري وغيره عن أبي سعيد الخدري: أن رجالاً من المنافقين كانوا إذا خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت هذه الآية. وروي في سبب نزولها الخبر الآتي: إن مروان بعث بأحد رجاله إلى ابن عباس يسأله قائلاً: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً لنعذبن أجمعين؟ فقال ابن عباس: "ما لكم وهذه إنما نزلت هذه في أهل الكتاب، ثم تلا هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ} إلى قوله: {ولَهمْ عَذَابْ أليِم} .

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- أخذ الله الميثاق على علماء أهل الكتاب ببيان الحق يتناول علماء1 الإسلام فإن عليهم أن يبثوا الحق ويجهروا به، ويحرم عليهم كتمانه2 أو تأويله إرضاء للناس ليحوزوا على مكسب دنيوي مالاً أو جاهاً أو سلطاناً.
2- لا يجوز للمسلم أن يحب أن يحمد بما لم يفعل من الخير والمعروف، بل من الكمال أن لا يرغب المسلم في مدح الناس وثنائهم وهو فاعل لما يستوجب ذلك فكيف بمن لم يفعل ثم يحب أن يحمد. بل بمن يفعل الشر والفساد ويحب أن يحمد عليه بالتصفيق3 له وكلمة يحي فلان...
3- ملك الله تعالى لكل شيء وقدرته على كل شيء توجب الخوف منه والرغبة إليه وأكثر الناس عن هذا غافلون، وبه جاهلون.
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ(190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ( 191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ(192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ
__________
1 قال محمد بن كعب لا يحل لعالم أن يسكت على علمه ولا لجاهل أن يسكت على جهله، قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الآية، وقال: {فأسْأَلوُا أَهْل الذِكرْ إنْ كُنتمْ لا تَعْلَموُن} ، وقال على رضي الله عنه: "ما أخذ الله على الجاهلين أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن يعلموا".
2 شاهده ما جاء من طرق متعددة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سُئل عن عمل فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" . وشاهده أيضاً: حديث البخاري: "من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة" .
3 هذا حال الكثير من زعماء أمة الإسلام في عصور انحطاطها وفساد عقائدها وأخلاقها وانحراف سلوكها نتيجة كيد المجوس لها واليهود والنصارى كذلك.

آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ(193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ(194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ(195)}
شرح الكلمات:
{فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} : أي: في وجودهما من العدم.
{وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} : تعاقبهما هذا يجيء وذاك يذهب، هذا مظلم وذاك مضيء.
{لآياتٍ} : دلائل واضحة على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته.
{لأُولِي الأَلْبَابِ} : أصحاب العقول التي تُدرك بها الأشياء وتفهم بها الأدلة.
{رَبَّنَا} : يقولون: ربنا إلخ...
{بَاطِلاً} : لا لشيء مقصود منه، وإنما هو من باب اللعب.
{سُبْحَانَكَ1} : تنزيهاً لك عن العبث واللعب، وعن الشريك والولد.
{فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} : أجرنا واحفظنا من عذاب النار بتوفيقك لنا للأعمال الصالحة وتجنيبنا الأعمال الفاسدة الموجبة لعذاب النار.
{أَخْزَيْتَهُ} : أذللته وأشقيته
__________
1 روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن معنى: سبحان الله، فقال: "تنزيه الله عن السوء" .

{وَكَفِّرْ عَنَّا} : استر وامح.
{الأَبْرَارِ} : جمع بر أو بار، وهم المتمسكون بالشريعة.
{عَلَى رُسُلِكَ} : على ألسنة رسلك من النصر والتأييد.
{الْمِيعَادَ} : الوعد.
{هَاجَرُوا} : تركوا بلادهم وديارهم وأموالهم وأهليهم فراراً بدينهم.
{وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} : آذاهم المشركون من أجل الإيمان بي ورسولي وطاعتنا.
{ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} : أي: أجراً جزاء كائناً من عند الله، وهو الجنات بعد تكفير السيئات.
معنى الآيات:
لما قال اليهود تلك المقالة السيئة: إن الله تعالى فقير ونحن أغنياء، وحرفوا الكتاب وبدلوا وغيروا ويحبون أن يحمدوا على باطلهم كانت مواقفهم هذه دالة على عمى في بصائرهم، وضلال في عقولهم، فذكر تعالى من الآيات الكونية ما يدل على غناء، وافتقار عباده إليه، كما يدل على ربوبيته على خلقه، وتدبيره لحياتهم وتصرفه في أمورهم، وأنه ربهم لا رب لهم غيره وإلههم الذي لا إله لهم سواه إلا أن هذا لا يدركه إلا أرباب العقول الحصيفة والبصائر النيرة، فقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ1 وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} نعم إن في إيجاد السموات والأرض من العدم وفي اختلاف الليل والنهار بالطول والقصر والظلام والضياء، والتعاقب بذهاب هذا ومجيء ذاك دلائل واضحات على غنى الله وافتقار عباده وبراهين ساطعة على ربوبيته لخلقه. وألوهيته لهم. هذا ما تضمنته الآية الأولى(190)، وأما الآيات الأربع بعدها فقد تضمنت وصفاً لأولي الألباب الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض فيهتدون إلى معرفة الرب تعالى فيذكرونه ويشكرونه. فقال تعالى عنهم: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً2 وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} وهذا شامل لحالهم في الصلاة3
__________
1 صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل قرأ هذه الآيات العشر، فلذا استحب لمن قام من ليله ليتجهد أن يقرأها ويتفكر فيها، وورد عن عثمان: من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة".
2 شاهد هذا قول عائشة في الصحيح: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه". ومن الأدب أن يستثنى من هذا لعموم حالة التبول وقضاء الحاجة في الكنف.
3 لحديث عمران بن حصين رضي الله عنهما إذ قال: "كان بي البواسير فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صلي قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب" رواه الأئمة، وفي مسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى النافلة قاعداً وذلك قبل موته بعام".

وخارج الصلاة. وقال عنهم: {وَيَتَفَكَّرُونَ1 فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ، أي: في إيجادهما وتكوينهما وإبداعهما، وعظيم خلقهما، وما أودع فيهما من مخلوقات. فلا يلبثون أن يقولوا: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} ، أي: لا لحكمة مقصودة ولا لهدف مطلوب، بل خلقته بالحق، وحاشاك أن تكون من اللاعبين العابثين سبحانك تنزيها لك عن العبث واللعب بل خلقت ما خلقت لحكم عالية لأجل أن تذكر وتشكر، فتكرم الشاكرين الذاكرين، في دار كرامتك وتهين الكافرين في دار عذابك، ولذا قالوا: في الآية(192) {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} . والظالمون هم الكافرون، ولذا يعدمون النصير ويخزون بالعذاب المهين، وقال عنهم في الآية(193) {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} ، والمنادي هو القرآن الكريم والرسول2 صلى الله عليه وسلم وتوسلوا بإيمانهم لربهم طالبين أشرف المطالب وأسماها مغفرة ذنوبهم ووفائهم مع الأبرار فقالوا {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ3} وهو ما جاء في الآية(193)، وأما الآية الخامسة(194) فقد سألوا ربهم أن يعطيهم ما وعدهم على ألسنة رسله من النصر والتمكين في الأرض، هذا في الدنيا، وأن لا يخزيهم يوم القيامة بتعذيبهم في النار، فقالوا: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} ، أي: وعدك الحق، وفي الآية السادسة(195) ذكر تعالى استجابته لهم فقال لهم: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} بل أجازي الكل بعمله لا أنقصه له ذكراً كان أو أنثى لأن بعضكم من بعض الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر فلا معنى للتفرقة بينكم، وذكر تعالى بعض أعمالهم الصالحة التي استوجبوا بها هذا الإنعام فقال: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} ، وواعدهم قائلاً: {لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} ، وكان ذلك ثواباً منه تعالى على أعمالهم الصالحة، والله عنده حسن الثواب، فليرغب إليه، وليطمع فيه، فإنه البر الرحيم.
__________
1 الفكرة: تردد القلب في الشيء، والتفكر ممدوح ما كان في خلق السموات والأرض، وفي أحوال القيامة والمعاد والجزاء والدار الآخرة، وورد النهي عن التفكر في ذات الله، إذ قال صلى الله عليه وسلم: "تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره" .
2 أي: محمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن مسعود، وابن عباس، وأكثر المفسرين، وقال قتادة وغيره: هو القرآن. والكل صحيح، والرسول نادى، والقرآن نادى إلى اليوم.
3 لم ما قالوا: وتوفنا مع الأبرار؟ إنهم هضماً لأنفسهم وتواضعاً لربهم وإعلاناً عن رغبتهم في الالتحاق بربهم حباً في لقائه، والحياة إلى جواره في الملكوت الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب التفكر في خلق السموات والأرض للحصول على المزيد من الإيمان والإيقان.
2- استحباب تلاوة هذه الآيات: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ...} إلى آخر السورة، وذلك عند القيام للتهجد آخر الليل لثبوت ذلك في الصحيح1 عنه صلى الله عليه وسلم.
3- استبحاب ذكر الله في كل حال2 من قيام أو قعود أو اضطجاع.
4- استحباب التعوذ من النار بل وجوبه ولو مرة في العمر.
5- مشروعية التوسل إلى الله تعالى بالإيمان وصالح الأعمال.
6- فضل الهجرة والجهاد في سبيل الله.
7- المساواة بين المؤمنين والمؤمنات في العمل والجزاء.
8- استحباب الوفاة بين الأبرار وهم أهل الطاعة لله ولرسوله والصدق فيها وذلك بالحياة معهم والعيش بينهم لتكون الوفاة بإذن الله معهم.
{لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ(196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ(198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ
__________
1 روى الشيخان عن ابن عباس: أنه نام ليلة عند خالته ميمونة، قال: فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الأخر قعد فنظر في السماء فقال: {إنَّ في خَلْق السَموَات} الآيات، ثم قام فتوضأ، واستن ثم صلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال، فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى بالناس الصبح.
2 شاهده حديث عائشة الصحيح: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه".

سَرِيعُ الْحِسَابِ(199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(200)}
شرح الكلمات:
{لا يَغُرَّنَّكَ} : لا يكن منك اغترار، المخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد أصحابه وأتباعه.
{تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} : تصرفهم فيها بالتجارة والزراعة والأموال والمآكل والمشارب.
{مَتَاعٌ قَلِيلٌ} : تصرفهم ذلك هو متاع قليل يتمتعون به أعواماً وينتهي.
{مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} : مآلهم بعد التمتع القليل إلى جهنم يأوون إليها فيخلدون فيها أبداً.
{نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} : النزل: ما يعد للضيعف من قرى: طعام وشراب وفراش.
الأبرار : جمع بار، وهو المطيع لله ولرسوله الصادق في طاعته.
{وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} : القرآن والسنة، وما أنزل إليهم؛ التوراة والإنجيل.
{خَاشِعِينَ لِلَّهِ} : مطيعين مخبتين له عز وجل.
{لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} : لا يجحدون أحكام الله وما أمر ببيانه للناس مقابل منافع تحصل لهم.
{اصْبِرُوا وَصَابِرُوا1} : الصبر: حبس النفس على طاعة الله ورسولهن والمصابرة: الثبات والصمود أمام العدو.
{وَرَابِطُوا} : المرابطة: لزوم الثغور منعاً للعدو من التسرب إلى ديار المسلمين.
{تُفْلِحُونَ} : تفوزون بالظفر المرغوب، والسلامة من المرهوب في الدنيا والآخرة.
__________
1 الصبر المأمور به له مواطن ثلاثة: وهي صبر على الطاعات، وصبر دون المعاصي، وصبر على البلاء. فلا جزع ولا تسخط، ولكن رضاً وتسليماً.

معنى الآيات:
ينهى الله تبارك وتعالى دعاة الحق من هذه الأمة في شخصية نبيهم صلى الله عليه وسلم أن يغرهم1، أي: يخدعهم ما يتصرف فيه أهل الكفر والشرك والفساد من مكاسب وأرباح وما يتمتعون به من مطاعم ومشارب ومراكب، فيظنوا أنهم على هدى أو أن الله تعالى راضٍ عنهم وغير ساخط عليهم، لا، لا، إنما هو متاع في الدنيا قليل، ثم يردون إلى أسوأ مأوى وشر قرار إنه جهنم التي طالما مهدوا لدخولها بالشرك والمعاصي، وبئس المهاد مهدوه لأنفسهم الخلود في جهنم. هذا معنى الآيتين الأولى والثانية وهما قوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ2 الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} ، أما الآية الثالثة (198)، وهي قوله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ3 لِلأَبْرَارِ} فإنها قد تضمنت استدراكاً حسناً وهو لما ذكر في الآية قبلها مآل الكافرين وهو شر مآل جهنم وبئس المهاد، ذكر في هذه الآية مآل المؤمنين وهو خير مآل: {جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ، وما عند الله تعالى من النعيم المقيم في دار السلام خير لأهل الإيمان والتقوى من الدنيا وما فيها فلا يضرهم أن يكونوا فقراء، وأهل الكفر أغنياء موسرين، أما الآية الرابعة(199) وهي قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب4ِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} الآية فإنها تضمنت الرد الإلهي على بعض المنافقين الذين أنكروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين صلاتهم على النجاشي بعد موته، إذ قال بعضهم انظروا إلى محمد وأصحابه يصلون على علج مات في غير ديارهم وعلى غير ملتهم، وهم يريدون بهذا الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فرد الله تعالى عليهم بقوله: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} أي: اليهود والنصارى لمن يؤمن بالله، وما أنزل إليكم أيها المؤمنون، وما أنزل
__________
1 أي: خير مما يتقلب فيه الكفار من متاع في الدنيا في الدنيا.
2 روى في سبب نزول هذه الآية: أن بعضاً من المسلمين قالوا: هؤلاء الكفار لهم تجائر وأموال، واضطراب في البلاد، وقد هلكنا نحن من الجوع. فنزلت الآية.
3 الغر، والغرور: هو الإطماع في أمر محبوب على نية عدم وقوعه لمن يطمع به، ويغرر. وهو أيضاً: إظهار الأمر المضر في صورة النافع، وهو مشتق من الغرة، وهي الغفلة. يقال: رجل غر، إذا كان ينخدع لمن يخدعه. وفي الحديث: "المؤمن غر كريم".
4 ثبت في الصحيحين: "أن النجاشي لما مات نعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال: "إن أخاً لكم بالحبشة قد مات، فصلوا عليه" ، فخرجوا إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه". وروى غير واحد عن أنس بن مالك أنه قال: "لما توفى النجاشي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفروا لأخيكم. فقال بعض الناس: يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة: {وإِنَّ مِنْ أَهْل الكِتَاب...} الآية.

إليهم في التوراة والإنجيل خاشعين لله، أي: خاضعين له عابدين، لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً كسائر اليهود والنصارى حيث يحرفون كلام الله ويخفون منه ما يجب أن يظهروه ويبينوه حفاظاً على منصب أو سمعة أو منفعة مادية، أما هؤلاء وهم: عبد الله بن سلام من اليهود وأصحمة النجاشي من النصارى، وكل من أسلم من أهل الكتاب فإنهم المؤمنون حقاً المستحقون للتكريم والإنعام قال تعالى فيهم أولئك لهم أجرهم عند ربهم يوفيهم إياه يوم القيامة إن اله سريع الحساب، إذ يتم حساب الخلائق كلهم في مثل نصف يوم من أيام الدنيا.
هذا ما تضمنته الآية الرابعة(199)، أما الآية الخامسة والأخيرة(200) وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا1 وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فإنها تضمنت دعوة كريمة ونصيحة غالية ثمينة للأمة الرحيمة بأن تصبر على الطاعات وعلى الشدائد والملمات فتصابر أعداءها حتى يُسلموا أو يسلموا القياد لها. وترابط بخيولها وآلات حربها في حدودها وثغورها مرهبة عدوها حتى لا يطمع في غزوها ودخول ديارها. ولتتق الله تقوى تكون سبباً في فوزها وفلاحها بهذه الرحمة الربانية ختمن سورة آل عمران المباركة ذات الحكم والأحكام وتليها سورة النساء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تنبيه المؤمنين وتحذيره من الاغترار بما يكون عليه الكافرون من سعة الرزق وهناءة العيش فإن ذلك لم يكن عن رضى الله تعالى عنهم، وإنما هو متاع في الدنيا حصل لهم بحسب سنة الله تعالى في الكسب والعمل ينتج لصاحبه بحسب كده وحسن تصرفه.
2- ما أعد لأهل الإيمان والتقوى وهم الأبرار من نعيم مقيم في جوار ربهم خير من الدنيا وما فيها.
3- شرف مؤمني أهل الكتاب وبشارة القرآن لهم بالجنة وعلى رأسهم عبد الله بن سلام وأصحمة النجاشي.
__________
1 المصابرة: هي الصبر في وجه العدو الصابر، ومن هنا كانت المصابرة أشد من الصبر؛ لأنها صبر في وجه عدو صابر، فأيهما لم يثبت على صبره هلك، وأصبح النجاح لأطولهما صبراً. قال زفر بن الحارث في اعتذاره عن الانهزام:
سقيناهم كأساً سقونا بمثلها ...
ولكنهم كانوا على الموت أصبرا

4- وجوب الصبر والمصابرة والتقوى والمرابطة1 للحصول على الفلاح الذي هو الفوز المرغوب والسلامة من المرهوب في الدنيا والآخرة.
__________
1 المرابطة: مصدر رابط رباطاً إذا حبس نفسه في ثغر من ثغور المسلمين يحرسها من مداهمة العدو الكافر لها، وفضل الرباط عظيم، ووردت فيه أحاديث كثيرة، نكتفي منها بما يلي حديث البخاري: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها" . وحديث مسلم: "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه" ، وإن مات مرابطاً جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان.

سورة النساء
...
سورة النساء
مدنية2
وآياتها 176 آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)}
شرح الكلمات:
{النَّاسُ} : البشر، واحد الناس من غير لفظه وهو إنسان.
{اتَّقُوا رَبَّكُمُ} : خافوه إن يعذبكم فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه.
{مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ3} : هي آدم عليه السلام.
{وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} : خلق حواء من آدم من ضلعه4.
{وَبَثَّ} : نشر وفرق في الأرض من آدم وزوجه رجالاً ونساء كثيراً.
{تَسَاءَلُونَ بِهِ} : كقول الرجل لأخيه: أسألك بالله أن تفعل لي كذا.
{وَالأَرْحَامَ} : الأرحام: جمع رحم، والمراد من اتقاء الأرحام صلتها وعدم قطعها.
{رَقِيباً} : الرقيب: الحفيظ العليم.
__________
2 الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فإنها مكية، فإنها نزلت يوم الفتح في مكة في شأن عثمان بن طلحة الحجي.
3 لفظ النفس: مؤنث قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} أي: النفس، ولذا وصفت هنا بواحدة لا بواحد.
4 قال قتادة: "خلقت حواء من قصيراء آدم، وفي الحديث: "المرأة من ضلع..." .

معنى الآية الكريمة:
ينادي الرب تبارك وتعالى عباده بلفظ عام يشمل مؤمنهم وكافرهم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} ويأمرهم بتقواه عز وجل وهي اتقاء عذابه في الدنيا والآخرة بالإسلام التام إليه ظاهراً وباطناً. واصفاً نفسه تعالى بأنه ربهم الذي خلقهم من نفس واحدة وهي آدم الذي خلقه من طين، وخلق من تلك النفس زوجها1 وهي حواء، وأنه تعالى بث منهما أي: نشر منهما في الأرض رجالاً كثيراً ونساء كذلك ثم كرر الأمر بالتقوى، إذ هي ملاك الأمر، فلا كمال ولا سعادة بدون الالتزام بها قائلاً: {وَاتَّقُوا اللَّهَ2 الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ3} أي: اتقوا الله ربكم الذي آمنت به قلوبكم فكنتم إذا أراد أحدكم من أخيه شيئاً قال له أسألك بالله إلا أعطيتني كذا... واتقوا الأرحام4 أن تقطعوها فإن في قطعها فساداً كبيراً وخللاً عظيما يصيب حياتكم فيفسدها عليكم، وتوعدهم تعالى إن لم يمتثلوا أمره بتقواه ولم يصلوا أرحامهم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} مراعياً لأعمالكم محصياً لها حافظاً يجزيكم بها ألا أيها الناس فاتقوه.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
1- فضل هذه الآي إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حاجة تلا آية آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون} . وتلا هذه الآية، ثم آية الأحزاب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} ، ثم يقول: أما بعد ويذكر حاجته.
2- أهمية الأمر بتقوى الله تعالى إذا كررت في آية واحدة مرتين في أولها وفي آخرها.
3- وجوب صلة الأرحام وحرمة قطعها.
4- مراعاة الأخوة البشرية بين الناس واعتبارها في المعاملات.
__________
1 الفصيح هو: لفظ زوج، ولذا لم يرد في القرآن بالتاء قط، وتساهل فيه الفقهاء لأجل التفرقة بين الرجل والمرأة، ولهذا يقولون للزوج كذا، وللزوجة كذا.
2 الإتيان باسم الجلالة هنا: {واتقوا الله} بدل: اتقوا ربكم من أجل تربية المهابة في نفس السامعين لأن المقام مقام تشريع فلا بد من إعداد النفوس لقبوله والنهوض به.
3 الأرحام: معطوف على اسم الجلالة منصوب، أي: اتقوا الله أن تعصوه، والأرحام أن تعطعوها. وقرئ: الأرحام بالجر عطفاً على الضمير في به، وهو قبيح. إذ لا يعطف على الضمير المجرور إلا إذا أعيد حرف الجر إلا ما كان ضرورة الشعر؛ كقول القائل:
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما بك والأيام من عجب
وعظم القبح؛ لأن في ذلك حلف بالرحم، والحلف بغير الله حرام.
4 الأرحام: اسم لكل الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره، وصلة الرحم واجبة إجماعاً، وفي الحديث: "صلي أمك" أمر لأسماء، وأمها كانت يومئذ كافرة. وقال صلى الله عليه وسلم: "من ملك ذا رحم محرم فقد عتق عليه" .

{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً(2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا(3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً(4)}
شرح الكلمات:
{الْيَتَامَى} : جمع يتيم ذكراً كان أو أنثى، وهو من مات والده وهو غير بالغ الحلم.
{وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} : الخبيث: الحرام، والطيب: الحلال، والمراد بها هنا الرديء والجيد.
{حُوباً كَبِيراً} : الحوب: الإثم العظيم.
{أَلا تُقْسِطُوا1} : أن لا تعدلوا.
{مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} : أي: اثنتين أو ثلاث، أو أربع إذ لاتحل الزيادة على الأربع2.
{أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} : أقرب أن لا تجوروا بترك العدل بين الزوجات.
{صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً3} : جمع صدقة، وهي الصداق والمهر، ونحلة بمعنى فريضة واجبة.
{هَنِيئاً} : الهنيء: ما يستلذ به عند أكله.
{مَرِيئاً} : المريء: ما تحسن عاقبته بأن لا يعقب آثاراً سيئة.
__________
1 روى مسلم عن عائشة في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا} إلى قوله: {وَرُبَاعَ} ، قالت لعروة: "يا ابن أختي: هى اليتيمة، تكون في حجر وليها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا ويبلغوا بهن سنتهن من الصداق، وأمره أن ينكحوا ما طاب لهم" الحديث.
2 استبنط من إباحة أربع أن الزوج عليه أن يبيت مع زوجته ليلة من أربع، ولا يجوز التقصير في ذلك إلا برضاها.
3 وبنو تميم، يقولون: صُدقة بضم الصاد، والجمع: صدقات. والنحلة: بكسر النون وضمها، أصلها: العطاء، يقال: نحلة نحله كذا أعطاه. فالصداق عطية من الله للمرأة، وما دام عطية الله، فهي إذاً فريضة واجبة.

معنى الآيات:
لما أمر تعالى بصلة الأرحام وحرم قطعها في الآية السابقة أمر في هذه الآية أوصياء اليتامى أن يعطوا اليتامى1 أموالهم إذا هم بلغوا سن الرشد وآنسوا منهم الرشد، فقال تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} . ونهاهم محرماً عليهم أن يستبدلوا أموال اليتامى الجيدة بأموالهم الرديئة فقال تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ} ، أي: الرديء من أموالكم بالطيب من أموالهم، ملا في ذلك من أذية اليتيم في ماله، ونهاهم أيضاً أن يأكلوا أموال يتاماهم مخلوطة مع أموالهم لما في ذلك من أكل مال التيم بغير حق فقال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ2 إِلَى أَمْوَالِكُمْ} ، وعلل ذلك بأنه إثم عظيم فقال عز وجل: {إنه} أي: الأكل {كَانَ حُوباً كَبِيراً} والحوب الإثم. هذا معنى الآية الأولى(2) {وَآتُوا الْيَتَامَى3 أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً4 كَبِيراً} ، وأما الآية الثانية(3) فقد أرشد الله تعالى أولياء اليتيمات أن هم خافوا أن لا يعدلوا معهن إذا تزوج أحدهم وليته أرشدهم أن يتزوجوا ما طاب لهم من النساء غير ولياتهم مثنى، وثلاث ورباع5. يريد اثنتين أو ثلاث أو أربع كل بحسب قدرته، فهذا خير من الزواج بالولية فيهضم حقها وحقها آكد لقرابتها. هذا معنى قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} . وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يريد تعالى وإن خاف المؤمن ألا يعدل بين زوجاته لضعفه فليكتف بواحدة ولا يزد عليها غيرها أو يتسرى بمملوكته إن كان له مملوكة فإن هذا أقرب إلى أن لا يجور المؤمن ويظلم نساءه. هذا معنى قوله تعالى: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا} . وفي الآية الرابعة والأخيرة يأمر تعالى بأن يعطوا النساء مهورهن فريضة منه تعالى فرضها على
__________
1 هذا باعتبار ما كانوا عليه، أما اليوم فليسوا يتامى، إذ لا يتم مع البلوغ.
2 قيل: إلى هنا بمعنى مع، وهو سائغ إلى أنها على بابها أولى والتقدير ولا تأكلوا أمواله مضافة إلى أموالكم.
3 أي: أعطوا، يقال: أتاه كذا، أعطاه إياه والإيتاء مصدر الإعطاء، ويقال لفلان: أتوا، أي: عطاء، ويقال: أتوت الرجل أتوه إيتاوه وهي الرشوة، ولإيتاء اليتامى أموالهم صورتان: الأولى: غذائهم وكساؤهم ما داموا تحت الولاية، والثانية: دفع أموالهم إليهم، وذلك عند البلوغ والرشد.
4 الحوب: الإثم، وفيه لغات: الحوب بضم الحاء، والحوب بفتحها، والحيابة والحاب أيضاً، وهو مصدر كالقال من قال: قولاً وقالاً، ويكون الحوب بالضم بمعنى الوحشة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب: "إن طلاق أم أيوب لحوب" ، والحوبة: الإثم ومنه: اللهم اغفر حوبتي، والحوبة: الحاجة، ومنه: إليك أرفع حوبتي، أي: حاجتي. هذا في الدعاء.
5 الإجماع على أن المراد من قوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} أن ينكح الرجل اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً على التخيير، وليس معناه الجمع بين تسع نساء، ومن فعل وهو عالم يحد بالرجم، وإن كان جاهلاً يحد بالجلد.

الرجل لامرأته، فلا يحل له ولا لغيره أن يأخذ منها شيئاً إلا يرضى الزوجة فإن هي رضيت فلا حرج في الأكل من الصداق لقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} .
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1-كل مال حرام فهو خبيث، وكل حلال فهو طيب.
2-لا يحل للرجل أن يستبدل جيداً من مال يتيمه بمال رديء من ماله؛ كأن يأخذ شاة سمينة ويعطيه هزيلة أو يأخذ تمراً جيداً ويعطيه رديئاً خسيساً.
3-لا يحل خلط مال اليتيم مع مال الوصي ويؤكلان جميعاً لما في ذلك من أكل مال اليتيم ظلما.
4-جواز نكاح أكثر من واحدة إلى أربع مع الأمن من الحيف والجور.
5-وجوب مهور النساء وحرمة الأكل منها بغير طيب نفس صاحبة المهر وسواء في ذلك الزوج، وهو المقصود في الآية أو الأب والأقارب.
{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً(5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً(6)}
شرح الكلمات:
{وَلا تُؤْتُوا1} : لا تعطوا.
__________
1 في الآية دليل على مشروعية الحجر على السفيه، وسواء كان السفه لصغر أو لخفة عقل أو عدم رشيد.

{السُّفَهَاءَ} : جمع سفيه، وهو من لا يحسن التصرف في المال.
{قِيَاماً1} : القيام: ما يقوم به الشيء، فالأموال جعلها الله تعالى قياماً، أي: تقوم عليها معايش الناس ومصالحهم الدنيوية والدينية أيضاً.
{قَوْلاً مَعْرُوفاً} : أي: قولاً تطيب2 به نفسه فلا يغضب ولا يحزن.
{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} : أي: اختبروهم كي تعرفوا هل أصبحوا يحسنون التصرف في المال.
{بَلَغُوا النِّكَاحَ} : أي: سن الزواج، وهي البلوغ.
{آنَسْتُمْ} : أبصرتم الرشد في تصرفاتهم3.
{إِسْرَافاً وَبِدَاراً} : الإسراف: الإنفاق في غير الحاجة الضرورية، والبدار: المبادرة والمسارعة إلى الأكل منه قبل أن ينقل إلى اليتيم بعد رشده.
{فَلْيَسْتَعْفِفْ} : أي: يعف بمعنى يكف عن الأكل من مال يتيمه.
{فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} : أي: بقدر الحاجة الضرورية.
{وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} : شاهداً لقرينة فأشهدوا عليهم.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في إرشاد الله تعالى عباده المؤمنين إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم في الدنيا، ونجاتهم وفلاحهم في الآخرة فقال تعالى في الآية الأولى (5) {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ4 فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} ، فنهاهم تعالى أن يعطوا أموالهم التي هي قوام معاشهم السفهاء من امرأة وولد أو رجل قام به وصف السفه، وهو قلة البصيرة بالأمور المالية، والجهل بطرق التصرف الناجحة مخافة أن ينفقوها في غير وجوهها، أو يفسدوها بأي نوع من الإفساد، كالإسراف ونحوه، وأمرهم أن يرزقوهم فيها ويكسوهم، وقال فيها ولم يقل منها إشارة إلى أن المال ينبغي في تجارة أو صناعة أو
__________
1 قياماً: أصلها: قواماً، فكسر ما قبل الواو فقلبت ألفاً قياماً وقواماً بمعنى واحد، والقيام والقوام ما يقيم غيره، فالأموال بها يتقوم المعاش، ولذا قيل: ا لأموال قوام الأعمال.
2 كقوله لولد: مالي إليك صائر، وكأن يدعو لهم: بارك الله فيكم، أو يقول: هذا مالكم احفظه لكم لتأخذوه يوم ترشدون.
3 دفع مال اليتيم إليه يتم بشرطين: الرشد والبلوغ. فإن وجد أحدهما دون الآخر فلا يتم تسليم المال.
4 في هذه الآية دليل على مشروعية الوصاية والولاية والكفالة على الأيتام وبها دليل على وجوب النفقة على الزوجة والأولاد، وفي الصحيح: "إفضل الصدفة ما ترك غني، واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول" وهم الزوجة والولد والعبد.

زراعة فيبقى رأس المال والكل يكون من الربح فقط، كما أمرهم أن يقولوا لسفائهم الذين منعوهم المال أن يقولوا لهم قولاً معروفاً؛ كالعدة الحسنة والكلمة الطيبة، هذا ما تضمنته الآية الأولى، أما الثانية (6) فقد أمرهم تعالى باختبار1 اليتامى إذا بلغوا سن الرشد أو ناهزوا البلوغ2 بأن يعطوا شيئاً من المال ويطلبوا منهم أن يبيعوا أو يشتروا فإذا وجدوا منهم حسن تصرف دفعوا إليهم أموالهم وأشهدوا عليهم، حتى لا يقول أحدهم في يوم من الأيام ما أعطيتني مالي، {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} أي: شاهداً ورقيباً حفيظاً. ونهاهم عز وجل أن يأكلوا أموال اليتامى إسرافاً وبداراً أن يكبروا ويريد لا تأكلوا أموال يتاماكم أيها الولاة والأوصياء3 بطريق الإسراف، وهو الإنفاق الزائد على قدر الحاجة، والمبادرة هي المسارعة قبل أن يرشد السفيه وينقل إليه المال. ثم أرشدهم إلى أقوم الطرق وأسدها في ذلك، فقال: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً} فليكف عن مال اليتيم ولا يأكل منه شيئاً، {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} وذلك بأن يستقرض منه ثم يرده إليه بعد الميسرة، وإن كان الولي فقيراً جاز له أن يعمل بأجر كسائر العمال، وإن كان غنياً فليعمل مجاناً احتساباً وأجره على الله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- مشروعية الحجر على السفيه لمصلحته.
2- استحباب تنمية الأموال في الأوجه الحلال لقرينة {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} .
3- وجوب اختبار السفيه قبل دفع ماله إليه، إذ لا يدفع إليه المال إلا بعد وجود الرشد.
4- وجوب الإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعد بلوغه ورشده.
5- حرمة أكل مال اليتيم والسفيه مطلقاً.
6- الوالي على اليتيم إن كان غنياً فلا يأكل من مال اليتيم شيئاً، وإن كان فقيراً استقرض ورد عند الوجد واليسار، وإن كان مال اليتيم يحتاج إلى أجير للعمل فيه جاز للوفي أن يعمل بأجرة المثل.
__________
1 هذا الآية نزلت في ثابت بن رفاعة، وفي عمه، وذلك أن رفاعة توفى وترك ابنه وهو صغير، فأتى عم ثابت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبن أخي في حجري، فما يحل لي من ماله، ومتى أدفع إليه ماله؟. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
2 يعرف البلوغ بالاحتلام وإنبات شعر العانة، أو بلوغ ثمانية عشر سنة، هذا للغلام. أما الجارية فتزيد بعلامة أخرى هي الحيض والحمل.
3 العاجز عن الوصاية لجهل أو عدم قدرته أو ضعف أرادته ينبغي له أن لا يلي مال يتيم أو قاصر لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: " يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي لاتأمرن على اثنين ولا تلينّ مال يتيم" رواه مسلم.

{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً(7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً(8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً(9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)}
شرح الكلمات:
{نَصِيبٌ} : الحظ المقدر1 في كتاب الله.
{الْوَالِدَانِ} : الأب والأم.
{وَالأَقْرَبُونَ} : جمع قريب، وهو هنا الوارث بنسب أو مصاهرة أو ولاء.
{نَصِيباً مَفْرُوضاً} : قدراً واجباً لازماً.
{أُولُو الْقُرْبَى} : أصحاب القرابات الذين لا يرثون لبعدهم عن عمودي النسب.
{فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} : أعطوهم شيئاً يرزقونه.
{قَوْلاً مَعْرُوفاً} : لا إهانة فيه ولا عتاب،ولا تأفيف.
الخشية : الخوف في موضع الأمن.
{قَوْلاً سَدِيداً} : عدلاً2 صائباً.
{ظُلْماً} : بغير حق يخول لهم أكل مال اليتيم.
__________
1 هذا النصيب الذي أوجبه الله للورثة مجمل وسيأتي تفصيله في آية: {يُوصِيكُم الله فيِ أَوْلادكم} الآية.
2 القول السديد هو قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد ابن أبي وقاص، وقد مرض مرضاً شديداً فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فقال سعد: يا رسول الله إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلث مالي؟ قال: "لا" قال: فشطره؟ قال: "لا" قال: فالثلث؟ قال: "الثلث والثلث كثير". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ".

{وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} : سيدخلون سعيراً ناراً مستعرة يشوون فيها ويحرقون بها.
معنى الآيات:
لقد كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الأطفال بحجة أن الطفل كالمرأة لا تركب فرساً ولا تحمل كلاً ولا تنكي عدواً، يكسب1 ولا تكسب، وحدث وحدث أن امرأة يقال لها: أم كحة، مات زوجها وترك لها بنتين فمنعهما أخو الهالك من الإرث فشكت: أم كحة إلى2 رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية الكريمة: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} ، ومن ثم أصبحت المرأة؛ كالطفل الصغير يرثان كالرجال، وقوله تعالى: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ} أي: من المال المتروك {أَوْ كَثُرَ} حال كون ذلك نصيباً مفروضاً لابد من إعطائه الوارث ذكراً كان أو أنثى صغيراً أو كبيراً. والمراد من الوالدين: الأب والأم، الأقربون3؛ كالأبناء والإخوان والبنات والأخوات، والزوج والزوجات، هذا ما تضمنته4 الآية الأولى (7)، وأما الآية الثانية(8) فقد تضمنت فضيلة جميلة غفل عنها المؤمنون وهي أن من البر والصلة والمعروف إذا هلك هالك، وقدمت تركته للقسمة بين الورثة، وحضر قريب غير وارث لحجبه أو بعده أو حضر يتيم أو مسكين من المعروف أن يعطوا شيئاً من تلك التركة قبل قسمتها وإن تعذر العطاء؛ لأن الورثة يتامى أو غير عقلاء يصرف أولئك الراغبون من قريب ويتيم ومسكين بكلمة طيبة كاعتذار جميل تطيب به نفوسهم هذا ما تضمنته الآية الثانية وهي قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ5 الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} أي: من المال المتروك {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} إن تعذر إعطاؤهم لمانع يتم أو عقل. أما الآية الثالثة
__________
1 يكسب، أي: الرجل، ولا تكسب، أي: المرأة.
2 فقال صلى الله عليه وسلم: "انصرفا حتى أنظر ما يحدث الله لي فيهن" . فأنزل الله تعالى هذه الآية رداً عليهم وإبطالاً لقولهم وتصرفهم الجاهلي، إذا المفروض أن الصغير والمرأة أولى بالإرث لحاجتهما وخوفهما.
3 لفظ الأقربون مجمل، ومن هنا أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سويد وعرفجة: "ألا يفرقا من مال أوس شيئاً فإن الله جعل لبناته نصيباً ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل ربنا" . فنزلت: {يوصِيكم الله} الآية، فأرسل إليهما أن أعطي أم محة الثمن مما ترك أوس، ولبناته الثلثين ولكما بقية المال.
4 قوله تعالى: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} اختلف أهل العلم في الشيء يتركه الموروث، وهو لا يقبل كالدار الصغيرة، والجوهرة الواحدة، وما إلى ذلك، فذهب بعض إلى إنه لابد من القسمة، وذهب آخرون، وهو الحق إن شاء الله تعالى: أن مالاً يقبل القسمة لفساده يباع ويقسم ثمنه على الورثة ولا شفعة فيه لأنه لا تأتي فيه الحدود، والشفعة فيما يقسم وتوقع فيه الحدود، وهذا ليس كذلك لتعذر قسمته، ويشهد لهذا الرأي حديث الدارقطني، ونصه: "لا تعضيه" أي: لا تفرقه على أهل الميراث إلا ما حمل القسم، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مالاً يقبل القسم لا يحوز تعضيته أي: تفريقه على الورثة لأنه يفسد بالقسمة فتعين أن يباع ويقسم ثمنه.
5 الجمهور على أن هذه الآية منسوخة بأية: {يُوصِيكمْ الله فيِ أَوْلادُكم} الآية، وقال ابن عباس: "إنها محكمة" وعلى إنها غير منسوخة شرحناها في التفسير، فليتأمل.

وهي قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} ، فقد تضمنت إرشاد الله تعالى للمؤمن الذي يحضر مريضاً على فراش الموت بأن لا يسمح له أن يحيف في الوصية بأن يوصي لوارث أو يوصي بأكثر من الثلث أو يذكر ديناً ليس عليه، وإنما يريد حرمان الورثة. فقال تعالى آمراً عباده المؤمنين {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ} أي: من بعد موتهم، {ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ} ، أي: فليخشوا هذه الحال على أولاد غيرهم ممن حضروا وفاته. كما يخشونها على أولادهم. إذاً فعليهم أن يتقوا الله في أولاد غيرهم. وليقولوا لمن حضروا وفاته ووصيته قولاً سديداً: صائباً لا حيف فيه ولا جور معه. هذا ما تضمنته الآية الثالثة (9)، أما الآية الرابعة (10) فقد تضمنت وعيداً شديداً لمن يأكل مال اليتيم ظلماً، إذ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى1 ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ2 سَعِيراً} . والمراد من الظلم أنهم أكلوها بغير حق أباح لهم ذلك كأجرة عمل ونحوه، ومعنى: {يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} إنهم يأكلون النار يوم القيامة، فقوله إنما يأكلون في بطونهم ناراً هو باعتبار ما يؤول إليه أمر أكلهم اليوم، والعياذ بالله من نار السعير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ التوارث في الإسلام.
2- استحباب إعطاء من حضر قسمة التركة من قريب أو يتيم ومسكين وإن تعذر إعطاؤهم صُرفوا بالكلمة الطيبة، وفي الحديث: "الكلمة الطيبة صدقة" .
3- وجوب النصح والإرشاد للمحتضر حتى لا يجور في وصيته عند موته.
4- على من يخاف على أطفاله بعد موته أن يحسن إلى أطفال غيره فإن الله تعالى يكفيه فيهم.
5- حرمة أكل مال اليتامى ظلماً، والوعيد الشديد فيه.
__________
1 الآية دليل على أن أكل مال اليتيم بدون حق من كبائر الذنوب بل هو من الموبقات السبع لحديث الصيحح: "اجتنبوا السبع الموبقات" وذكر الشرك، وعقوق الوالدين، والربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات.
2 قرأ أبو حيوة: {وسيُصلّون} بضم الياء وتشديد اللام من التصلية التي هي كثرة الفعل مرة بعد أخرى ومنه: { ثُمّ الْجَحِيم صَلّوه} ، أي: مرة بعد مرة، وعليه قول الشاعر:
وقد تصليت حر حربهم ... كما تصلى المقرور من قرتين
يريد أنه اكتوى بنار حربهم مرة بعد مرة كما يفعل من به البرد الشديد فإنه يستدفئ مرة بعد مرة.

{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً(11)}
شرح الكلمات:
{يُوصِيكُمُ} : يعهد إليكم.
{فِي أَوْلادِكُمْ} : في شأن أولادكم والولد يطلق على الذكر والأنثى.
{حَظِّ} : الحظ: الحصة أو النصيب.
{نِسَاءً} : بنات كبيرات أو صغيرات.
{ثُلُثَا مَا تَرَكَ} : الثلث: واحد من ثلاثة، والثلثان: اثنان من ثلاثة.
{السُّدُسُ} : واحد من ستة.
{إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} : ذكراً كان أو أنثى، أو كان له ولد ولدٍ أيضاً ذكراً أو أنثى، فالحكم واحد.
{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} : اثنان فأكثر.
{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} : أي يُخرجُ الدين1 ثم الوصية ويقسم الباقي على الورثة.
{لا تَدْرُونَ} : لا تعلمون.
{فَرِيضَةً2} : فرض الله ذلك عليكم فريضة.
__________
1 يرى الإمام الشافعي أن من مات وعليه زكاة أو حج الفرض أن يخرج ذلك من ماله قبل قسمة التركة، وقال مالك: إن أوصى به تنفذ تنفذ وصيته، وإن لم يوص فالمال للورثة، وهو أمره إلى الله تعالى.
2 الفرائض ست: وهي النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس.

{عَلِيماً حَكِيماً} : عليماً بخلقه وما يصلح لهم، حكيماً في تصرفه في شؤون خلقه وتدبيره لهم.
معنى الآية الكريمة:
هذه الآية الكريمة(11) {يُوصِيكُمُ1 اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ2 لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} إلخ. والتي بعدها(12) وهي قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} إلخ. نزلت لتفصيل حكم الآية (7) والتي تضمنت شرعية التوارث بين الأقارب المسلمين فالآية الأولى(11) بين تعالى فيها توارث الأبناء مع الآباء، فقال تعالى: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} أي: في شأن أولادكم {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} يريد إذا مات الرجل وترك أولاداً ذكوراً وإناثاً فإن التركة تقسم على أساس للذكر مثل نصيب الأنثيين، فلو ترك ولداً وبنتاً وثلاثة دنانير فإن الولد يأخذ دينارين، والبنت تأخذ ديناراً، وإن ترك بنات اثنين أو أكثر ولم يترك معهن ذكراً فإن للبنتين فأكثر الثلثين، والباقي للعصبة، إذ قال تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} . وإن ترك بنتاً واحدة فإن لها النصف والباقي للعصبة، وهو معنى قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} ، وإن كان الميت قد ترك أبويه، أي: أمه وأباه وترك أولاداً ذكوراً أو إناثاً فإن لكل واحد من أبويه السدس والباقي للأولاد، وهو معنى قوله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} ، يريد ذكراً كان أو أنثى3. فإن لم يكن للهالك ولد ولا ولَدْ ولَدٍ فلأمه الثلث4 وإن كان له أخوة اثنان فأكثر فلأمه السدس5، هذا معنى قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} . أي: تسقط من الثلث6 إلى السدس وهذا
__________
1 هذه الآية مبينة لما أجمل في آية: {للرجَال نَصيب..} وتسمى آية المواريث وهي من أعظم الآيات قدراً؛ لأن علم الفرائض يعتبر ثلث العلم لقوله صلى الله عليه وسلم في رواية أبي داود وغيره: "العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة" . ومعنى محكمة غير منسوخة، ومعنى قائمة ثابتة صحيحة، ومعنى عادلة لم يخرج بها عن مراد الله تعالى منها، وذلك بإعطاء الوارث ما كتب الله له.
2 خرج من لفظ: الأولاد الكافر لأنه لا حق له في الإرث؛ لأن الكفر مانع، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم" . كما خرج ميراث النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" .
3 إذا كان الولد خنثى فإنه يورث من حيث يبول، إن بال من حيث يبول الرجال يورث إرث الذكر، وإن بال من حيث تبول النساء يورث إرث النساء، وإن أشكل ذلك يعطي نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى. على هذا الجمهور.
4 هناك ما يعرف بالثلث الباقي، وهو أن تهلك هالكة وتترك زوجها وأبويها؛ فللزوج النصف، والباقي ثلثه للأم، والثلثان للأب، قرر هذا ابن عباس، وزيد بن ثابت، وقرره كافة الأصحاب، وعليه الأئمة، وحتى لا تأخذ المرأة أكثر من الرجل.
5 قيل في سر حجب الأخوة لأمهم من الثلث إلى السدس: أن والدهم هو الذي يلي نكاحهم وهو الذي ينفق عليهم دون أمهم. وهو رأي حسن.
6 الجدة ترث السدس ولا ترث الثلث، كما ترثه الأم إجماعاً.

يسمى بالحجب فحجبها إخوة ابنها الميت من الثلث إلى السدس. وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} يريد أن قسمة التركة على النحو الذي بين تعالى يكون بعد قضاء دين الميت وإخراج ما أوصى به إن كان الثلث فأقل وهو معنى قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . وقوله تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} معناه: نفذوا هذه الوصية المفروضة كما علمكم الله ولا تحاولوا أن تفضلوا أحداً على أحد فإن هؤلاء الوارثين آباؤكم وأبناؤكم ولا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً في الدنيا والآخرة، ولذا فاقسموا التركة كما علمكم بلا محاباة فإن الله تعالى هو القاسم والمعطي عليم بخلقه وبما ينفعهم أو يضرهم حكيم في تدبيره لشؤونهم فليفوض الأمر إليه، وليرض بقسمته فإنها قسمة عليم حكيم.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
1- أن الله تعالى تولى قسمة التركات بنفسه فلا يحل لأحد أن يغر منها شيئاً.
2- الاثنان يعتبران جمعاً.
3- ولد الولد1 حكمه حكم الولد نفسه في الحجب.
4- الأب عاصب فقد يأخذ فرضه مع أصحاب الفرائض وما بقي يرثه بالتعصيب لقوله صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فالأولى رجل ذكر.
{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ
__________
1 لفظ: الولد، يشمل المولود فعلاً، والجنين في بطن أمه دنيا أو بعيداً من الذكور أو الإناث على حد سواء.

مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ(12)}
شرح الكلمات:
{أَزْوَاجُكُمْ} : الأزواج هنا: الزوجات.
{وَلَدٌ} : المراد هنا بالولد: ابن الصلب ذكراً كان أو أنثى، وولد الولد مثله.
{الرُّبُعُ} : واحد من أربعة.
{كَلالَةً1} : الكلالة أن يهلك هالك ولا يترك ولداً ولا والداً ويرثه إخوته لأمه.
{وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ2} : أي: من الأم.
{غَيْرَ مُضَارٍّ} : بهما –أي: الوصية والدين- أحداً من الورثة.
{حَلِيمٌ} : لا يعاجل بالعقوبة على المعصية.معنى الآية الكريمة:
كانت الآية قبل هذه في بيان الوراثة بالنسب وجاءت هذه في بيان الوراثة بالمصاهرة، والوارثون بالمصاهرة: الزوج والزوجات، قال تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} ، فمن ماتت وتركت مالاً ولم تترك ولداً ولا ولد ولدٍ ذكراً كان أو أنثى فإن لزوجها من تركتها النصف، وإن تركت ولداً أو ولد ولد ذكراً كان أو أنثى فإن لزوجها من تركتها الربع لا غير لقول الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ}. وهذا من بعد سداد الدين إن كان على الهالكة دين، وبعد إخراج الوصية إن أوصت الهالكة بشيء، لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ
__________
1 من يكلله النسب إذا أحاط به وبه سمي الإكليل؛ لإحاطته بالرأس، وسمي القرابة: كلالة؛ لإحاطتهم بالميت من جوانبه، وليسوا منه، ولا هو منهم.
2 أخ: أصله أخو بدليل تثنيته على أخوين نصباً وجراً وأخوان رفعاً.

بِهَا أَوْ دَيْنٍ}. هذا ميراث الزوجة من زوجها فهو الربع إن لم يترك الزوج ولداً ولا ولد ولد ذكراً كان أو أنثى فإن ترك ولداً أو ولد ولد فللزوجة الثمن، وهذا معنى قوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . هذا وإن كان للزوج الهالك زوجتان أو أكثر فإنهن يشتركن في الربع بالتساوي إن لم يكن للهالك ولد، وإن كان له ولد فلهن الثمن يشتركن فيه بالتساوى وقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} أي تورث كلالة أيضاً، والموروث كلالة وهو من ليس له والد ولا ولد، وإنما يرثه إخوته لأمه كما في هذه الآية أو إخوته لأبيه وأمه كما في آي الكلالة في آخر هذه السورة، فإن كان له أخ من أمه فله السدس، وكذا إن كانت له أخت فلها السدس، وإن كانوا اثنين فأكثر فلهم الثلث1 لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ2 وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ3} بأن يوصى بأكثر من الثلث، أو يقر بدين وليس عليه دين وإنما حسد للورثة أو بغضاً لهم لا غير، فإن تبين ذلك فلا تنفذ الوصية ولا يسدد الدين وتقسم التركة كلها على الورثة، وقوله تعالى: { وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} أي: وصاكم أيها المؤمنون بهذا وصية فهي جديرة بالإحترام والامتثال. والله عليم بنياتكم وأحوالكم وما يضركم وما ينفعكم فسلموا قسمته وأطيعوه فيها وهو حليم لا يعاجل بالعقوبة فلا يغركم حلمه أن بطشه شديد وعذابه أليم.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- بيان ميراث الزوج من زوجته، والزوجة والزوجات من زوجهن.
2- بيان ميراث الكلالة وهو من لا يترك والداً ولا ولداً فيرثه إخوته فقط4 يحوطون به إحاطة
__________
1 وهو ما يعرف بالحجرية، أو الحمارية، أو المشتركة وهي: أن تموت امرأة وتترك زوجها وأمها وأخوة لأمها وأخاً لأبيها وأمها، فللزوج النصف، والأم السدس، والباقي للأخوة للأم، ولا شيء للأخ للأب، أو لهما معا. وسميت بالحمارية: لأنهم لما منعوا قالوا للقاضي بينهم: هب أبانا حماراً أليست أمنا واحدة، وقالوا هب أبانا حجراً أليست أمنا واحدة، وطالبوا بتشريكهم في الإرث فسميت المشتركة.
2 ذكرت الوصية قبل الدين، والإجماع على تقديم الدين على الوصية لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وقيل في السر في ذلك: أن تقديم الوصية في اللفظ كان بسبب أنه لا يوجد من يطالب بها فقد تنسى، وأما الدين فأهله يطالبون به فلا ينسى ولا يترك.
3 مضار: اسم فاعل، أي: مضارر، فأدغمت الراء في الراء فصارت مضار، أي: حال كون الموصي غير مريد الإضرار بالورثة.
4 أي: لأمه، ولهذا خالف أخوة الأم الورثة في ثلاث مسائل: الأولى: أنهم يرثون مع من يدلون به وهو أمهم. والثانية: إن ذكورهم وإناثهم في الميراث سواء. والثالثة: أنهم لا يرثون إلا إذا كان ميتهم يورث كلالة.

الإكليل بالرأس فلذا سُميت الكلالة.
3- إهمال الوصية أو الدين إن علم إن الغرض منها الإضرار بالورثة فقط.
4- عظم شأن المواريث فيجب معرفة ذلك وتنفيذه كما وصى الله تعالى.
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ(14)}
شرح الكلمات:
{تِلْكَ حُدُودُ1 اللَّهِ} : تلك اسم إشارة أشير به إلى سائر ما تقدم من أحكام النكاح وكفالة اليتامى وتحريم أكل مال اليتيم، وقسمة التركات. وحدود الله هي ما حده لنا وبينه من طاعته وحرم علينا الخروج عنه والتعدي له.
{الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} : هو النجاة من النار ودخول الجنة.
العذاب المهين : ما كان فيه إهانة للمعذب بالتقريع والتوبيخ ونحو ذلك.
معنى الآيتين:
لما بين تعالى ما شاء من أحكام الشرع وحدود الدين أشار إلى ذلك بقوله: {تِلْكَ2 حُدُودُ اللَّهِ} قد بينها لكم وأمرتكم بالتزامها، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فيها وفي غيرها من الشرائع والأحكام فجزاؤه أنه يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار، أنهار العسل واللبن والخمر والماء، وهذا هو الفوز العظيم، حيث نجاه من النار وأدخله الجنة يخلد فيها أبداً. {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} بتعد تلك الحدود وغيرها من الشرائع والأحكام ومات على ذلك فجزاؤه أن
__________
1 الحدود: جمع حد، وهو ظرف مكان يميز عن مكان آخر يمنع تجاوزه. هذا هو الحد لغة وشرعاً، ما منع الله تجاوزه مما أحل إلى ما حرم فأحكام الشرع هي حدوده.
2 يرى بعضهم أن الإشارة لأقرب مذكور، وهو قسمة المواريث وما فسرنا به أولى لأنه أعم يشمل كما تقدم من أحكام الشريعة.

يدخله ناراً يخلد فيها1 وله عذاب مهين. والعياذ بالله من عذابه وشر عقابه.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان حرمة تعدي حدود الله تعالى.
2- بيان ثواب طاعة الله ورسوله وهو الخلود في الجنة.
3- بيان جزاء معصية الله ورسوله وهو الخلود في2 النار والعذاب المهين فيها.
{وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً(15) وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً(16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً(17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً(18)}
__________
1 إن أريد بالعصيان هنا: الكفر، فالخلود على بابه. وإن أريد بها الكبائر: فالخلود مستعار لمدة ما كقولنا: خلد الله ملكك. وكقول زهير: ولا أرى خالداً إلا الجبال الرواسيا.
2 هذا الخلود لمن كانت معصيته مكفرة له، أما من لم يكفر بمعصيته فإنه لا يخلد في النار، بل يخرج منها بإيمانه كما بينت ذلك السنة ا لصحيحة.

شرح الكلمات:
{وَاللاتِي1} : جمع التي، اسم موصول للمؤنث المفرد، واللاتي للجمع المؤنث.
{الْفَاحِشَةَ2} : المراد بها هنا: الزنا.
{مِنْ نِسَائِكُمْ} : المحصنات3.
{سَبِيلاً} : طريقاً للخروج من سجن البيوت.
{يَأْتِيَانِهَا} : الضمير عائد إلى الفاحشة المتقدم ذكرها.
{فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} : اتركوا آذيتهما بعد أن ظهرت توبتهما.
{التَّوْبَةُ} : أصل التوبة الرجوع وحقيقتها الندم على فعل القبيح مع تركه، والعزم على عدم العودة إليه.
{السُّوءَ} : كل ما أساء إلى النفس والمراد به هنا: السيئات.
{بِجَهَالَةٍ} : لا مع العمد والإصرار وعدم المبالاة.
{أَعْتَدْنَا} : أعددنا وهيأنا.
{أَلِيماً} : موجعاً شديد الإيجاع.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى بحدوده وذكر جزاء متعديها، ذكر هنا معصية من معاصيه وهي فاحشة الزنا، ووضع لها حداً في البيوت حتى الموت أو إلى أن ينزل حكماً آخر يخرجهن من الحبس وهذا بالنسبة إلى المحصنات. فقال تعالى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ4} أي: من المسلمين بشهدون بأن فلانة زنت بفلانة
__________
1 ومثل اللاتي: اللائي، وجمع اللاتي، اللواتي، وجمع اللائي: اللوائي.
2 سمي الزنا: فاحشة لأنه تجاوز الحد في الفساد، إذ به يفسد الخلق والعرض والنسب والدين والمجتمع، وكفى بهذا فساداً عظيماً.
3 النساء: اسم جمع واحدة من غير لفظ: "امرأة" والمحصنات: جمع محصنة وهي التي تزوجت زواجاً شرعياً، وسواء بقيت عليه أو تأيمت بموت أو طلاق.
4 منكم: أي من المسلمين، إذ لا بد من أربعة شهود من المسلمين يشهدون بأنهم رأوا الفرج في الفرج. مثل: الميل في المكحلة، لحديث أبي داود عن جابر قال: "جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ي بأعلم رجل منكم، فأتوه بابن صوريا، فناشدهما: كيف تجدان أمر هذين في التوراة. قالا: نجد في التوراة إذا شاهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها، مثل الميل في المكحلة رجماً. قال: فما يمنعمكا أن ترجموهما؟ قالا: ذهب سلطانناً فكرهنا القتل. فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم الشهود فحضروا وشهدوا فأمر برجمهما فرجما".

فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن1 أو يجعل الله لهن سبيلا. أما غير المحصنات وهن الأبكار فقد قال تعالى في شأنهن، {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} فآذوها، أي: بالضرب الخفيف والتقريع والعتاب، مع الحبس للنساء، أما الرجال فلا يحبسون وإنما يكتفى بآذاهم إلى أن يتوبوا ويصلحوا فحين إذ يعفو عنهم ويكفوا عن أذيتهم هذا معنى قوله تعالى: {وَالَّذَانِ2 يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً} .
ولم يمض على هذين الحدين إلا القليل من الزمن حتى أنجز الرحمن ما وعد وجعل لهن سبيلاً، فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم كان جالساً بين أصحابه حتى أنزل الله تعالى عليه الحكم النهائي في جريمة الزنا فقال صلى الله عليه وسلم: " خذوا عني، خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" . والمراد من الثيب بالثيب، أي: إذا ثيب بثيب، وكذا البكر بالبكر. وبهذا أوقف الحد الأول من النساء والرجال معاً ومضى الثاني، أما جلد البكرين فقد نزل فيه آية النور: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} ، وأما رجم المحصنين فقد مضت فيه السنة، فقد رجم ماعز، والغامدية بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حد قائم إلى يوم القيامة. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى(15) والثانية(16)، وأما الآيتان بعدهما وهما(17)و(18) فقد أخبر تعالى أن الذين يستحقون التوبة وثبتت لهم من الله تعالى هم المذنبون الذين يرتكبون المعصية بسب جهالة منهم، ثم يتوبون من قريب لا يسوفون التوبة ولا يؤخرونها أما الذين يجترحون السيئات مع علم منهم وإصرار، ولا يتوبون إثر غشيان الذنب فلا توبة تضمن لهم فقد يموتون بلا توبة شأنهم شأن الذين يعملون السيئات ولا يتوبون حتى إذا مرض أحدهما وظهرت عليه علامات الموت وأيقن إنه ميت لا محالة قال إنه تائب كشأن الكافرين إذا تابوا عند3 معاينة الموت فلا تقبل
__________
1 يتوفاهن: يتقاضاهن. يقال: توفى فلان حقه من فلان بمعنى استوفاه، أي: أخذه كاملا لم يبقى منه شيئاً ولما كان العمر أياماً تمر يوماً بعد يوم حتى ينقضي العمر ويموت الإنسان، قيل في الموت: الوفاة، ويقال: توفى فلان؛ لأن أيامه أخذت يوماً فيوماً حتى انقضت على طريقة تسديد الدين جزءاً فجزءاً حتى كمل. قال الشاعر:
إذ ما تقاضى المرء يوم وليلة ... تقاضاه شيء لا يمل التقضيا
2 المراد من هذان: الإمساك للمرأة الزانية دون الرجل؛ لأن الرجل يعمل فلا يحبس، فلذا غلب جانب النساء في قوله: {واللاتي يأتِيَا الفَاحِشَة}، وغلب الرجل على المرأة في قوله: {واللَذان يَأْتْيانَها منكم} لأن الأذى صالح للمرأة والرجل معاً، وهو عبارة عن السب والجفاء والتوبيخ باللسان لاغير.
3 وعليه، فقوله تعالى: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} ليس على ظاهره، وإنما معناه يشرفون على الموت، ومن أشرف على الموت، وحضره، فحكمه حكم من مات وهو سائغ في اللغة.

منهم توبة أبداً. هذا معنى الآيتين الكريمتين الأولى {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِم} أي: يقبل توبتهم لأنه عليم بضعف عباده حكيم يضع كل شيء في موضعه اللائق به، ومن ذلك قبول توبة من عصوه بجهالة لا بعناد ومكابرة وتحدٍ، ثم تابوا من قريب لم يطيلوا1 مدة المعاصي، والثانية: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} ، كما هي ليست للذين يعيشون على الكفر فإذا جاء أحدهم الموت قال تبت كفرعون فإنه لما عاين الموت بالغرق {قَالَ آمَنْتُ أَنّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . فرد الله تعالى عليه: { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} . وقوله تعالى: {أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} . إشارة إلى كل من مات على غير توبة بارتكابه كبائر الذنوب أو بكفر وشرك إلى أن المؤمن الموحد يخرج من النار بإيمانه والكافر يخلد فيها. نعوذ بالله من النار وحال أهلها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عظم قبح فاحشة الزنى.
2- بيان حد الزنى قبل نسخه بآية سورة النور، وحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في رجم المحصن والمحصنة.
3- التوبة التي تفضل الله بها هي ما كان صاحبها أتى ما أتى من الذنوب بجهالة لا بعلم وإصرار ثم تاب من قريب زمن.
4- الذين يسوفون التوبة ويؤخرونها يخشى عليهم أن لا يتوبوا حتى يدركهم الموت وهم على ذلك فيكونون من أهل النار، وقد يتوب أحدهما، لكن بندرة وقلة وتقبل توبته إذا لم يعاين أمارات الموت لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" . رواه الترمذي وأحمد وغيرهما وإسناده حسن.
5- لا تقبل توبة من حشرجت نفسه وظهرت عليه علامات الموت، وكذا الكافر من باب أولى لا تقبل له توبة بالإيمان إذا عاين علامات الموت كما لم تقبل توبة فرعون.
__________
1 لأن سنة الله تعالى: أن المرء إذا أدمن على معصية بطول فعلها يشربها قلبه فتحسن في نظره وتجمل في طبعه، فلا يقوى على تركها، وليس أدل على ذلك من فاحشة اللواط، فهي من أقبح الفواحش، ومع هذا من زينت له لا يقدر على تركها.

{يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً(19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً(20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً(21)}
شرح الكلمات:
{كَرْهاً} : بدون رضاهن.
العضل : المنع بشدة كأنه إمساك بالعضلات أو من العضلات.
{بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} : أي: من المهور.
الفاحشة : الخصلة القبيحة الشديدة القبح؛ كالزنا.
{مُبَيِّنَةٍ1} : ظاهرة واضحة ليست مجرد تهمة أو مقالة سوء.
{بِالْمَعْرُوفِ2} : ما عرفه الشرع واجباً أو مندوباً أو مباحاً.
{قِنْطَاراً} : أي: من الذهب أو الفضة مهراً وصداقاً.
__________
1 قرئت: {مبينة} بفتح الياء، وقرئت بكسرها {مبينة} ، وقرأ ابن عباس {مبينة} بكسر الباء، اسم فاعل من أبان يبين، فهو مبين، وهي مبينة. والمعنى واحد.
2 من المعاشرة بالمعروف: أن لا يعبس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون منطلقاً في القول لا فظاً ولا غليظاً، ولا مظهراً ميلاً إلى غيرها.

{بُهْتَاناً وَإِثْماً} : أي: كذباً وافتراء، وإثماً حراماً لا شك في حرمته؛ لأنه ظلم.
{أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} : أي: خلص الزوج إلى عورة زوجته والزوجة كذلك.
{مِيثَاقاً غَلِيظاً} : هو العقد وقول الزوج: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
معنى الآيات:
تضمنت هذه الآية: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا1 النِّسَاءَ كَرْهاً} إبطال ما كان شائعاً بين الناس قبل الإسلام من الظلم اللاحق بالنساء، فقد كان الرجل إ ذا مات والده على زوجته ورثها أكبر أولاده من غيرها فإن شاء زوجها وأخذ مهرها وإن شاء استبقاها حتى تعطيه ما يطلب منها من مال فأنزل الله تعالى قوله: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} . فبطل ذلك الحكم الجاهلي بهذه الآية الكريمة وأصبحت المرأة إذا مات زوجها اعتدت في بيت زوجها فإذا انقضت عدتها ذهبت حيث شاءت ولها ما لها وما ورثته من زوجها أيضاً وقوله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ2 لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} . فهذا حكم آخر وهو أن يحرم على الزوج إذا كره3 زوجته أن يضايقها ويضارها حتى تفتدي منه ببعض مهرها، إذ من معاني العضل المضايقة والمضارة، هذا ما لم ترتكب الزوجة فاحشة الزنا أو تترفع عن الزوج وتتمرد عليه وتبخسه حقه في الطاعة والمعاشرة بالمعروف أما إن أتت بفاحشة مبينة لا شك فيها أو أنشزت نشوزاً بيناً فحينئذ للزوج أن يضايقها حتى تفتدي منه بمهرها أو بأكثر حتى يطلقها، وذلك لقوله تعالى: {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} ثم أمر تعالى عباده المؤمنين بمعاشرة الزوجات بالمعروف وهو العدل والإحسان، فقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، وإن فرض أن أحداً منكم كره زوجته وهي لم تأتي بفاحشة مبينة فليصبر عليها ولا يطلقها فلعل الله تعالى يجعل في بقائها في عصمته خيراً كثيراً له نتيجة الصبر عليها وتقوى الله تعالى فيها وفي غيرها، فقد يرزق منها ولداً ينفعه، وقد يذهب من نفسه ذلك الكره ويحل محله الحب والمودة. والمراد أن الله تعالى أرشد المؤمن
__________
1 روى البخاري في سند نزول هذه الآية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن لم يشاءوا لم يزوجها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ} ... إلخ.".
2 جائز أن يكون فعل: {وتَعْضلوهن} في محل نصب على تقدير ولا تعضلون كما هي قراءة ابن مسعود، وجائز أن يكون في محل جزم على أن لا ناهية.
3 كرها: لدمامة، أو سوء خلق أو سلاطة لسان على ذلك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر" . رواه مسلم.

إن كره زوجته أن يصبر ولا يطلق لما في ذلك من العاقبة الحسنة، لأن الطلاق بغير موجب غير صالح ولا مرغوب للشارع وكم من أمر يكرهه العبد ويصبر عليه فيجعل الله تعالى فيه الخير الكثير. هذا ما تضمنته الآية الأولى (19)، أما الآيتان بعدها فقد تضمنتا: تحريم أخذ شيء من مهر المرأة إذا طلقها الزوج لا لإتيانها بفاحشة ولا لنشوزها، ولكن لرغبة منه في طلاقها ليتزوج غيرها في هذه الحال لا يحل له أن يضارها لتفتدي منه بشيء ولو قل، ولو كان قد أمهرها قنطاراً فلا يحل أن يأخذ منه فلساً فضلاً عن دينار أو درهم هذا معنى قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً1 فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} أتأخذونه بهتاناً، أي: ظلماً بغير حق وكذباً وافتراء وإثماً، أي: ذنبا ًعظيماً، ثم قال تعالى منكراً على من يفعل ذلك: وكيف تأخذونه أي: بأي وجه يحل لكم ذلك، والحال أنه قد أفضى2 بعضهم إلى بعض أي: بالجماع، إذ ما استحل الزوج فرجها إلا بذلك المهر فكيف إذا يسترده أو شيئاً منه بهتاناً وإثماً مبيناً، فقال تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} ؟ وقوله تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} يعني: عقد النكاح فهو عهد مؤكد يقول: الزوج نكحتها على مبدأ: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، فأين التسريح بإحسان إذا كان يضايقها حتى تتنازل عن مهرها أو عن شيء منه، هذا ما أنكره تعالى بقوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} إذ هو استفهام إنكاري3.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إبطال قانون الجاهلية القائم على أن ابن الزوج يرث امرأة أبيه.
2- حرمة العضل من أجل الافتداء بالمهر وغيره.
3- الترغيب في الصبر.
__________
1 روى أصحاب السنن، وصححه الترمذي: أن عمر بن الخطاب كان يخطب فقال: "ألا لا تغالوا في صدقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله ما أصدق قط امرأة من نساؤه ولا بناته فوق اثنتي عشر أوقية، فقامت إليه امرأة فقالت له يا عمر: أيعطينا الله وتحرمنا؟ أليس الله سبحانه وتعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} ؟ قال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر".
2 اختلف في الإفضاء الذي يجب به المهر، قال عمر: "إن أغلق باباً وأرخى ستراً ورأى عورة فقد وجب الصداق وعليها العدة، ولها الميراث وهو قول فصل. أما الإفضاء الذي تحل به المطلقة ثلاثاً من الوطء لحديث: "حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" والإفضاء في هذه الآية: الجماع أيضاً. قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
3 نعم إنكاري، وفيه معنى التعجب أيضاً؛ لأنه أمر مستنكر ومتعجب منه لفظاعته وخروجه عن اللياقة والأدب.

4- جواز أخذ الفدية من الزوجة بالمهر أو أكثر أو أقل إن هي أتت بفاحشة ظاهرة لا شك فيها؛ كالزنى أو النشوز.
5- جواز غلاء المهر فقد يبلغ القنطار1 غير أن التيسير فيه أكثر بركة.
6- وجوب مراعاة العهود والوفاء بها.
{وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً(22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً(23)}
شرح الكلمات:
{وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} : لا تتزوجوا امرأة الأب أو الجد.
{إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} : إلا ما قد مضى قبل هذا التحريم.
__________
1 لا خلاف في أن أكثر الصداق لا حد له، وإنما الخلاف في أقله، والذي عليه أكثر أهل العلم: أنه لا يقل عن ربع دينار أو ما يعادله دارهم قياساً على ما تقطع فيه يد السارق لأن الفرج محرم كاليد.

{إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} : أي: زواج نساء الآباء فاحشة شديدة القبح.
{وَمَقْتاً1} : ممقوتاً مبغوضاً للشارع، ولكل ذي فطرة سليمة.
{وَسَاءَ سَبِيلاً} : أي: قبح نكاح أزواج الآباء طريقاً يسلك.
{أُمَّهَاتُكُمْ} : جمع2 أم، فالأم محرمة ومثلها الجدة وإن علت.
{وَرَبَائِبُكُمُ} : الربائب: جمع ربيبة هي بنت الزوجة.
{وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} : الحلائل3: جمع حليلة وهي امرأة الابن من الصلب.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالإرث والنكاح وعشرة النساء. وفي هاتين الآيتين ذكر تعالى محرمات النكاح من النسب والرضاع والمصاهرة، فبدأ بتحريم امرأة الأب وإن علا فقال: {وَلا تَنْكِحُوا4 مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} ، ولم يقل من ليشمل التحريم منكوحة الأب والطريقة التي كانت متبعة عندهم في الجاهلية. ولذا قال إلا ما قد سلف في الجاهلية فإنه معفو عنه بالإسلام بعد التخلي عنه وعدم المقام عليه، وبهذه اللفظ حرمت امرأة الأب والجد على الابن وابن الابن و لو لم يدخل بها الأب، ثم ذكر محرمات النسب فذكر الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ، وبنات الأخت فهؤلاء سبع محرمات من النسب5 قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْت} ، ثم ذكر المحرمات بالرضاع فقال: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} فمن رضع من امرأة خمس6 رضعات وهو في سن الحولين، تحرم عليه ويحرم عليه أمهاتها وبناتها وأخواتها وكذا بنات زوجها وأمهاته حتى
__________
1 سأل ابن الأعرابي عن نكاح المقت، فقال: هو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها، ويقال لمن تزوج امرأة أبيه: الضيزن.
2 الصواب: جمع أمهه،الأم تجمع على: أمات وأقل ما يقول به. والآية نص في تحريم كل انثى لها على الرجل ولادة فتدخل الأم فيه، وأمها، وجداتها.
3 سميت امرأة الابن: حليلة؛ لأنها تحل معه حيث حل فهي فعيلة بمعنى فاعلة، وقيل: سميت حليلة؛ لأنها محللة له.
4 روي أن أبا قيس توفى وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنة قيس امرأة أبيه، فقالت له: إني أعدك ولداً، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستمره، فأتته فأخبرته، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاء} .
5 وحرم بالسنة المتواترة: الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها.
6 خالف مالك رحمه الله تعالى ومن وافقه، فقالوا: لا فرق بين قليل الرضاع وكثيره، إذا وصل اللبن إلى الأمعاء ولو مصة واحدة مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحرم المصة ولا المصتان" رواه مسلم.

قيل: يحرم1 من الرضاعة ما يحرم من النسب، ثم ذكر تعالى المحرمات بالمصاهرة، فقال: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} ، فأم امرأة الرجل محرمة عليه بمجرد أن يعقد على بنتها تصبح أمها حراماً. وقال: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ} ، فالربيبة: هي بنت الزوجة إذا نكح الرجل امرأة وبنى بها لا يحل له الزواج من ابنتها، أما إذا عقد فقط ولم يبين فإن البنت تحل له لقوله: { مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} ، أي: لا إثم ولا حرج2.
ومن المحرمات بالمصاهرة امرأة الابن بنى بها أم لا يبن، لقوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} أي: ليس ابناً بالتبني، أما الابن من الرضاع فزوجته كزوجة الابن من الصلب؛ لأن اللبن الذي تغذ به هو السبب فكان إذاً كالولد للصلبن، ومن المحرمات بالمصاهرة أيضاً: أخت الزوجة، فمن تزوج امرأة لا يحل له أن يتزوج أختها حتى تموت أو يفارقها وتنتهي عدتها لقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} في الجاهلية فإنه عفو بشرط عدم الإقامة عليه.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- تحريم مناكح الجاهلية إلا ما وافق الإسلام منها، وخاصة أزواج الآباء، فزوجة الأب محرمة على الابن ولو لم يدخل بها الأب وطلقها أو مات عنها.
2- بيان المحرمات من النسب وهن سبع: الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت.
3- بيان المحرمات من الرضاع وهن: المحرمات من النسب؛ فالرضيع يحرم عليه3 أمه المرضع له وبناته، وأخواتها، وعماته وخالاته، وبنات أخيه، وبنات أخته.
4- بيان المحرمات من المصاهرة، وهن سبع أيضاً: زوجة الأب بنى بها أو لم يبن، أم امرأته بنى بابنتها أو لم يبن، و بنت امرأته وهي الربيبة إذا دخل بأمها، وامرأة الولد من الصلب
__________
1 القائل: هو الرسول صلى الله عليه وسلم، والحديث متفق عليه.
2 ولحديث الصحيحين: "إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل، وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج البنت" .
3 هذا إذا كان الرضاع في الحولين، أما بعدهما فلا يحل إجماعاً.

بنى بها الولد أو لم يبن1، وكذا ابنه2 من الرضاع، وأخت امرأته ما دامت اختها تحته لم يفارقها بطلاق أو وفاة. والمحصنات3 من النساء، أي: المتزوجات قبل طلاقهن أو وفاة أزواجهن وانقضاء عدتهن.
__________
1 حكى القرطبي: الإجماع على أن الرجل إذا وطئ امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وعلى ابنه وعلى أجداده وأحفاده.
2 في عد المحصنات من المحرمات بالصهر تجوزاً.
3 لحديث: "حرم من الرضاع ما يحرم من النسب" وهو دليل الجمهور على أن امرأة الابن من الرضاع تحرم كما تحرم امرأة الابن من الصلب.

الجزء الخامس
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً(24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(25)}
شرح الكلمات:
{وَالْمُحْصَنَاتُ} : جمع محصنة1، والمراد بها هنا: المتزوجة.
{إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} : المملوكة بالسبي والشراء، ونحوهما.
{مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} : أي: ما عداه، أي: ما عدا ما حرم عليكم.
{غَيْرَ مُسَافِحِينَ} : المسافح: الزاني، لأن السفاح هو الزني.
__________
1 وسميت المتزوجة: محصنة لأن الرجل، أي: الزوج قد أحصنها، أي: حفظها باستقلاله بها عن غيره.

{أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} : مهورهن نحلة.
{طَوْلاً1} : سعة وقدرة على المهر.
{الْمُحْصَنَاتِ} : العفيفات.
{أُجُورَهُنَّ} : مهورهن.
{وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} : الخدين: الخليل الذي يفجر بالمرأة سراً تحت شعار الصداقة.
{فَإِذَا أُحْصِنَّ} : بأن أسلمن أو تزوجن، إذ الإحصان يكون بهما.
{الْعَنَتَ} : العنت: الضرر في الدين والبدن.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في بيان ما يحرم من النكاح وما يجوز، ففي الآية الأولى(24) عطف تعالى على المحرمات في المصاهرة المرأة المتزوجة فقال: {وَالْمُحْصَنَاتُ} أي: ذوات الأزواج، فلا يحل نكاحهن إلا بعد مفارقة الزوج بطلاق أو وفاة، وبعد انقضاء العدة أيضاً واستثنى تعالى من المتزوجات المملوكة باليمين، وهي: المرأة تسبى في الحرب الشرعية، وهي الجهاد في سبيل الله، فهذه من الجائز أن يكون زوجها لم يمت في الحرب وبما أن صلتها قد انقطعت بدار الحرب وبزوجها وأهلها وأصبحت مملوكة، أذن الله تعالى رحمة بها في نكاحها ممن ملكها من المؤمنين.
ولذا ورد أن الآية نزلت في سبايا أوطاس وهي وقعة كانت بعد موقعة حنين فسبى فيها المسلمون النساء والذراري، فتحرج المؤمنون في غشيان أولئك النسوة، ومنهم المتزوجات، فأذن لهم في غشيانهن بعد أن تسلم إحداهن وتستبرأ بحيضة، أما قبل إسلامها فلا تحل؛ لأنها مشركة، هذا معنى قوله تعالى: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، وقوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} ، يريد ما حرمه تعالى من المناكح، قد كتبه على المسلمين كتاباً وفرضه فرضاً لا يجوز إهماله أو التهاون به. فكتاب الله منصوب على المصدرية2.
وقوله تعالى: {وَأُحِلَّ3 لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ4} ، أي: ما بعد الذي حرمه من المحرمات بالنسب
__________
1 الطول: مصدر طال يطول طولاً، بمعنى: قدر على التناول من بعد، ولذا فسر: بالقدرة على المهر.
2 ويجوز الرفع نحو: هذا كتاب الله وفرضه.
3 قرئ: أحل، بالبناء للمعفول، وأحل: للبناء للفاعل.
4 لابد من مراعاة ما حرم بالسنة، وهو الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة خالتها، ولا الالتفات إلى مذهب الخوراج: إذ يبيحون ذلك كما يبيحون الجمع بين الأختين، وعلة المنع هي: أن الجمع يسبب قطعية الرحم.

وبالرضاع، وبالمصاهرة على شرط أن لا يزيد المرء على أربع كما هو ظاهر قوله تعالى في أول السورة: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} ، وقوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} ، أي: لا حرج عليكم أن تطلبوا بأموالكم من النساء غير ما حرم عليكم فتتزوجوا ما طاب لكم حال كونكم محصنين غير مسافحين، وذلك بأن يتم النكاح بشروطه من الولي والصداق والصيغة والشهود، إذ أن نكاحاً بغير هذه الشروط فهو السفاح، أي: الزنا، وقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ1 بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} يريد تعالى: أيما رجل تزوج امرأة فأفضى إليها، أي: وطئها إلا وجب لها المهر كاملاً، أما التي لم يتم الاستمتاع بها بأن طلقها قبل البناء فليس لها إلا نصف المهر المسمى، وإن لم يكن قد سمى لها إلا المتعة، فالمراد من قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ2} أي: بنيتم بهن ودخلتم عليهن. وقوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} يريد إذا أعطى الرجل زوجته ما استحل به فرجها، وهو المهر كاملاً فليس عليهما بعد ذلك من حرج في أن تسقط المرأة من مهرها لزوجها، أو تؤجله أو تهبه كله له أو بعضه إذ ذاك لها وهي صاحبته كما تقدم {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء/4].
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} المراد مه إفهام المؤمنين بأن الله تعالى عليم بأحوالهم حكيم في تشريعه فليأخذوا بشرعة ورخصه وعزائمه، فإنه مراعى فيه الرحمة والعدل، ولنعم تشريع يقوم على أساس الرحمة والعدل.
هذا ما تضمنته الآية الأولى(24)، أما الآية الثانية(25) وهي قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً... 3} فقد تضمنت بيان رحمة الله بعباده المؤمنين إذ رخص لمن لم يستطع نكاح الحرائر لقلة ذات يده، مع خوفه العنت الذي هو الضرر في دينه بالزنى، أو في بدنه
__________
1 استدل الروافض بهذه الآية: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} على جواز نكاح المتعة، وهو استدلال فاسد وباطل، ويكفي في بطلانه؛ إجماع أهل السنة والجماعة على بطلانه، وإنه زنا إلى أنه لا يقام على صاحبه حد الرجم بالشبهة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "ادرءوا الحدود بالشبهات" . ونكاح المتعة رخص فيه الرسول صلى الله عليه وسلم مرة ثم أعلن عن حرمته. أعلن ذلك في حجة الوداع ليعلم كل إنسان ذلك، ومن الأدلة على حرمة المتعة: أن المتمتع بها لا ترث، والزوجة الشرعية ترث الربع والثمن.
2 الاستمتاع: التلذذ، والأجور: هي المهور، وسمي المهر: أجراً؛ لأنه أجر الاستمتاع، وهذا دليل على أنه في مقابلة البضع، إذ كل ما يقابل المنفعة يسمى أجراً.
3 اختلف في تحديد معنى الطول وأرجح الأقوال أنه: سعة المال، وعليه فلا يباح نكاح الأمة إلا بشرطين: عدم السعة في المال، وخوف العنت. فلا يصح نكاح الأمة إلا باجتماعهما، ومن كانت تحت حرة لا يجوز أن ينكح عليها أمة؛ لأن الحرة تدفع الحرة تدفع العنت عنه. وحكى الإجماع على من كانت له أمة لا يحل له أن يتزوجها، بل يطئها بملك اليمين، وذلك لتعارض حق الملك مع حق الزوجية ، وإذا أعتقها فأصبحت حرة فله؛ حينئذ أن يتزوجها.

بإقامة الحد عليه، رخص له أن يتزوج المملوكة بشرط أن تكون مؤمنة، وأن يتزوجها بإذن1 مالكها، وأن يؤتيها صداقها وأن يتم ذلك على مبدأ الإحصان الذي هو الزواج بشروطه لا السفاح، الذي هو الزنى العلني المشار إليه بكلمة: {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} ، ولا الخفي المشار إليه بكلمة: {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} أي: أخلاء، هذا معنى قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} ، أي: قدرة مالية أن ينكح المحصنات، أي: العفائف من {فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} ، أي: من إمائكم المؤمنات لا الكافرات بحسب الظاهر، أما الباطن فعلمه إلى الله، ولذا قال: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} ، وقوله: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} فيه تطييب لنفس المؤمن إذ تزوج للضرورة الأمة فإن الإيمان أذهب الفوارق بين المؤمنين، وقوله: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} فيه ببيان الشروط التي لا بد منها وقد ذكرناها آنفاً.
وقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} –أي: الإماء- بالزواج وبالإسلام {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} أي: زنين فعليهن حد هو نصف ما على المحصنات من العذاب وهو جلد خمسين جلدة وتغريب ستة أشهر؛ لأن الحرة إن زنت2 وهي بكر تجلد مائة جلدة وتغرب سنة. أما الرجم والذي هو الموت فإنه لا ينصف، فلذا فهم المؤمنون في تنصيف العذاب أنه الجلد لا الرجم وهو إجماع لا خلاف فيه وقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} يريد أبحت لكم ذلك لم خاف على نفسه الزنى، إذا لم يقدر على الزواج من الحرة لفقره واحتياجه وقوله تعالى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا...} أي: على العزوبة خير لك من نكاح الإماء. وقوله {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي: غفور للتائبين رحيم بالمؤمنين، ولذا رخص لهم في نكاح الإماء عند خوف العنت، وأرشدهم إلى ما هو خير منه وهو الصبر3. فلله الحمد وله المنة.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- تحريم المرأة المتزوجة حتى يفارقها زوجها بطلاق أو موت وحتى تنقضي عدتها.
__________
1 وأجمعوا على أنه لا يجوز للملوك أن يتزوج بغير إذن سيده، وإن تزوج فسخ زواجه، وهل عليه الحد؟ خلاف.
2 دليل حد الأمة إن زنت قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا زنت أمة أحدكم فليحدها الحد" ، وقال علي في خطبته: "أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد، من أحصن منهن ومن لم يحصن" . الحديث رواه مسلم.
3 قال أبو هريرة: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لحرائر صلاح البيت، والإيماء هلاك البيت" أو قال: " فساد البيت".

2- جواز نكاح المملوكة باليمين وإن كان زوجها حياً في دار الحرب إذا أسلمت؛ لأن الإسلام فصل بينهما.
3- وجوب المهور، وجواز إعطاء المرأة مهرها لزوجها شيئاً.
4- جواز التزوج من المملوكات لمن خاف العنت وهو عادم للقدرة على الزواج من الحرائر.
5- وجوب إقامة الحد على من زنت من الإماء إن أحصن بالزواج والإسلام.
6- الصبر على العزوبة خير من1 الزواج بالإماء لإرشاد الله تعالى إلى ذلك.
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً(27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً(28)}
شرح الكلمات:
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ2} : يريد الله أن يبين لكم بما حرم عليكم وأحل لكم ما يكملكم ويسعدكم في دنياكم وأخراكم.
{سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ3} : طرائق الذين من قبلكم من الأنبياء والصالحين لتنهجوا نهجهم فتطهروا وتكملوا وتفلحوا مثلهم.
{وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} : يرجع بكم عما كنتم عليه من ضلال الجاهلية إلى هداية الإسلام.
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ4} : من اليهود والنصارى والمجوس والزناة.
__________
1 يشهد لذلك قول عمر رضي الله عنه: "أيما رجل تزوج أمة فقد أرق نصفه، يعني يصير ولده رقيقاً، فالصبر على عدم التزوج بالإماء أفضل، لكي لا يرق الولد.
2 الأصل: يريد أن يبين لكم فحذفت أن ودخلت اللام على الفعل والتقدير يريد الله البيان لكم، والهدى والتوبة، فاللام إذن لتوكيد معنى الفعل، ومثلها في قوله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} في آية، وفي آية أخرى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} ، قال النحاس: سمى بعضهم هذه اللام: لام "أن".
3 فيكون معنى هذه الآية، كما في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكمْ مِنَ الدِين ما وصَّى به نُوح} .
4 أي: تغلبهم شهواتهم مع مخالفة شرع الله لعباده من أمور الدين التي عليها مدار سعادة الإنسان وكماله.

{أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} : تحيدوا عن طريق الطهر والصفاء إلى طريق الخبث والكدر بارتكاب المحرمات من المناكح وغيرها فتبتعدوا عن الرشد بعداً عظيماً.
{وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} : لا يصبر عن النساء، فلذا رخص تعالى لهم في الزواج من الفتيات المؤمنات.
معنى الآيات:
لما حرم تعالى ما حرم من المناكح وأباح ما أباح منها علل لذلك بقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ1} أي: بما شرع ليبين ما هو نافع لكم مما هو ضار بكم فتأخذوا النافع وتتركوا الضار، كما يريد أن يهديكم طرائق الصالحين من قبلكم من أنبياء ومؤمنين صالحين لتسلكوها فتكملوا وتسعدوا في الحياتين، كما يريد بما بين لكم أن {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} أي: يرجع بكم من ضلال الجاهلية إلى هداية الإسلام فتعيشوا على الطهر والصلاح، وهو تعالى عليم بما ينفعكم ويضركم حكيم في تدبيره لكم فاشكروه بلزوم طاعته، والبعد عن معصيته.
هذا ما تضمنته الآية الأولى(26)، أما الآية الثانية(27) فقد تضمنت الإخبار بأن الله تعالى يريد بما بينه من الحلال والحرام في المناكح وغيرها أن يرجع بالمؤمنين من حياة الخبث والفساد التي كانوا يعيشونها قبل الإسلام إلى حياة الطهر والصلاح في ظل تشريع عادل رحيم. وأن الذين يتبعون الشهوات من الزناة والنصارى وسائر المنحرفين عن سنن الهدى فإنهم يريدون من المؤمنين أن ينحرفوا مثلهم فينغمسوا في الملاذ والشهوات البهيمية حتى يصبحوا مثلهم لا فضل لهم عليهم، وحينئذ لا حق لهم في قيادتهم أو هدايتهم.
هذا معنى الآية الثانية، أما الآية الثالثة (28) فقد أخبر تعالى أنه بإباحته للمؤمنين العاجزين عن نكاح الحرائر نكاح الفتيات المؤمنات يريد بذلك التخفيف والتيسير2 عن المؤمنين رحمة بهم وشفقة عليهم لما يعلم تعالى من ضعف الإنسان وعدم صبره عن النساء بما غرز فيه من غريزة
__________
1 سيقت هذه الآية تذييلاً لما سبقها لغرض استئناس المسلمين واستنزال نفوسهم إلى امتثال أوامر الله تعالى المتقدمة في أول السورة، وهي إحكام النكاح والإرث والمعاشرة.
2 شاهده الكتاب في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين يسر ولا يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه" ، وقوله لمعاذ وأبي موسى: "يسرا ولا تعسرا" ، وبذا كان التيسير من أصول الشريعة الإسلامية ويشهد لهذا وجود الرخص في مسائل الدين.

الميل إلى أنثاه لحفظ النوع ولحكم عالية، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ1 عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً2} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- منة الله تعالى علينا في تعليله الأحكام لنا لتطمئن نفوسنا ويأتي العمل بانشراح صدر وطيب خاطر.
2- منة الله على المؤمنين بهدايتهم إلى طرق الصالحين وسبيل المفلحين ممن كانوا قبلهم.
3- منته تعالى في تطهير المؤمنين من الأخباث وضلال الجاهليات.
4- الكشف عن نفسية الإنسان، إذ الزناة يرغبون في كون الناس كلهم زناة، والمنحرفون يودون أن ينحرف الناس مثلهم، وهكذا كل منغمس في خبث أو شر أو فساد يود أن يكون كل الناس مثله، كما أن الطاهر يود أن يطهر ويصلح كل الناس.
5- ضعف الإنسان أمام غرائزه لا سيما غريزة الجنس.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً(29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً(30)}
__________
1 أي: في جميع الأحكام، وبخاصة في نكاح الإماء، لما علم من ضعف الإنسان في أمر النساء.
2 معنى: ضعيفاً، أن هواه يستميله وشهوته وغضبه يستخفانه، وهذا أشد الضعف، ولذا احتاج إلى التخفيف، فخفف الله عنه والحمد لله.

شرح الكلمات:
{آمَنُوا} : صدقوا الله والرسول.
{بِالْبَاطِلِ} : بغير حق يبيح أكلها.
{تِجَارَةً1} : بيعاً وشراءً فيحل لصاحب البضاعة أن يأخذ النقود ويحل لصاحب النقود أخذ البضاعة، إذاً لا باطل.
{تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} : أي: تزهقوا أرواح بعضكم بعضاً.
{عُدْوَاناً وَظُلْماً} : اعتداء يكون فيه ظالماً.
{نُصْلِيهِ نَاراً} : ندخله نار جهنم يحترق فيها.معنى الآيتين:
ما زال السياق في بيان ما يحل وما يحرم من الأموال والأعراض والأنفس ففي هذه الآية (29) ينادي الله تعالى عباده المؤمنين بعنوان الإيمان فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وينهاهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل بالسرقة أو الغش أو القمار أو الربا وما إلى ذلك من وجوه التحريم2 العديدة فيقول: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ، أي: بغير عوض مباح، أو طيب نفس، ثم يستثنى ما كان حاصلاً عن تجارة قائمة على مبدأ التراضي بين البيعين لحديث: "إنما البيع عن تراض" و " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" فقال تعالى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ3 مِنْكُمْ} فلا بأس بأكله فإنه حلال لكم. هذا ما تضمنته الآية كما قد تضمنت حرمة قتل المؤمنين لبعضهم بعضاً، فقال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} والنهي شامل لقتل الإنسان نفسه وقتله أخاه المسلم؛ لأن المسلمين كجسم واحد، فالذي يتقل مسلماً منهم كأنما قتل نفسه. وعلل تعالى هذا التحريم لنا فقال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} ، فلذا حرم عليكم قتل بعضكم بعضاً.
__________
1 كل معاوضة في مباح فهي تجارة حتى إن الله تعالى سمى ثمن طاعته وطاعة رسوله تجارة في قوله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ...} الآية.
2 كبيع العربون بأن يقول لأخيه: خذ هذه العشرة دنانير إن أخذت السلعة، وإلا فهي لك. هذا بيع باطل؛ لأنه لاحق له في أخذ العربون إن عجز أخوه عن أخذ السلعة له.
3 لم يختلف في بيع الخيار، وذلك بأن يقول المسلم لأخيه: بعني كذا، أو بعت كذا، أو اعطني مهلة يوم أو يومين أفكر فيها. فهذا البيع جائز إن تم وإن لم يتم واختلف في معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا". هل التفرق بالأبدان، أو بالكلام؟ والصحيح: أنه بالأبدان، فلكل منهما الفسخ والإمضاء ماداما في المجلس فإن تفرقا مضى البيع.

هذا ما تضمنته الآية الأولى(29)، أما الآية الثانية(30) فقد تضمنت وعيداً شديداً بالإصلاء بالنار والإحراق فيها كل من يقتل مؤمناً عدواناً وظلماً، أي: بالعمد1 والإصرار والظلم المحض، فقال تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} أي: القتل {عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ} أي: الإصلاء والإحراق في النار {عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} لكمال قدرته بهذا العذاب إذا لا يستطيع أن يدفع ذلك عن نفسه بحال من الأحوال.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- حرمة مال المسلم، وكل مال حرام وسواء حازه بسرقة أو غش أو قمار أو ربا.
2- إباحة التجارة والترغيب2 فيها والرد على جهلة المتصوفة الذين يمنعون الكسب بحجة التوكل.
3- تقرير مبدأ " إنما البيع عن تراض" ، و "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا".
4- حرمة قتل المسلم نفسه أو غيره من المسلمين؛ لأنهم أمة واحدة.
5- الوعيد الشديد لقاتل النفس3 عدواناً وظلماً بالإصلاء بالنار.
6- إن كان القتل غير عدوان بأن كان خطأ، أو كان غير ظلم بأن كان عمداً ولكن بحق كقتل من قتل والده وابنه أو أخاه فلا يستوجب هذا الوعيد الشديد.
{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً(31)}
شرح الكلمات:
{إِنْ تَجْتَنِبُوا} : تبتعدوا لأن الاجتناب ترك الشيء عن جنب بعيداً عنه لا يقبل عليه ولا يقربه.
__________
1 أي: لم يكن سهواً منه ولا خطأ، وهو معنى: {عدوانا} ، ولا بحق؛ كقصاص وهو معنى: {ظلماً}.
2 يكفي في الرد عليهم ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم على التاجر الأمين في قوله: "التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النبين والصديقين والشهداء يوم القيامة" . إلى أنه يحرم على التاجر أن يروج سلعته بالإيمان الكاذبة كما يكره أن يصلي على النبي عند عرض سلعته؛ كقوله: صلي على محمد، ما أجود هذا، كما يكره له أن تشغله التجارة عن صلاة الجماعة.
3 ورد الوعيد الشديد في قاتل نفسه من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة" . رواه الجماعة. وقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلدا أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو متردٍ في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً".

{كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} : الكبائر: ضد الصغائر، والكبيرة تعرف بالحد لا بالعد، فالكبيرة ما توعد الله ورسوله عليهما، أو لعن الله ورسوله فاعلها أو شرع لها حد يقام على صاحبها، وقد جاء في الحديث الصحيح بيان العديد من الكبائر، وعلى المؤمن أن يعلم ذلك ليجتنبه.
{نُكَفِّرْ} : نغطي ونستر فلا نطالب بها ولا نؤاخذ عليها.
{مُدْخَلاً كَرِيماً} : المدخل الكريم هنا: الجنة دار المتقين.
معنى الآية الكريمة:
يتفضل الجبار جل جلاله وعظم إنعامه وسلطانه فيمن على المؤمنين من هذه الأمة المسلمة بأن وعدها وعد الصدق بأن من اجتنب منها كبائر الذنوب كفر عنه صغائرها وأدخله الجنة دار السلام وخلع عليه حلل الرضوان فقال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ1 عَنْهُ} ، ما أنهاكم عنه أنا ورسولي {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} التي هي دون الكبائر2 وهي الصغائر، {وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} الذي هو الجنة، ولله الحمد والمنة. لهذا كانت هذه الأية مبشرات القرآن لهذه الأمة.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- وجوب الابتعاد عن سائر الكبائر، والصبر على ذلك حتى الموت.
2- الذنوب قسمان: كبائر، وصغائر. ولذا وجب العلم بها لاجتناب كبائرها وصغائرها ما أمكن ذلك، ومن زل فليتب فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له3.
3- الجنة لا يدخلها إلا ذوو النفوس الزكية الطاهرة باجتنابهم المدنسات لها من كبائر الذنوب والآثام والفواحش4.
__________
1 اجتناب الكبائر إن كان المراد به: كبائر الذنوب فلابد من ضميمة أداء الفرائض، فإن اجتناب الكبائر مع تضييع الفرائض غير مجد، وإن أريد باجتناب الكبائر تحاشي ترك الفرائض والاحتماء من فعل الكبائر فذاك ويشهد لهذا حديث الصحيح: "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر" .
2 اختلف في تحديد الكبيرة وفي عددها: أما العدد فقد قيل لابن عباس: الكبائر سبع؟ قال: "هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع" وقد ورد النص في بعضها كحديث مسلم: " اجتنبوا السبع الموبقات" فعد منها ستاً. وفي أحاديث صحاح أخرى ذكر عدداً آخر، والذي عليه أهل العلم أنها لا تعد ولكن تحد كما في التفسير، وأما الصغيرة: فهي نسبية فالنظرة إلى اللمسة صغيرة، واللمسة إلى القبلة صغيرة وهكذا.
3 شاهده في حديث ابن عباس رضي الله عنهما غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار، بعد قوله: "هي إلى السبعمائة أقرب".
4 أهل الكبائر الذين ماتوا يزاولونها ولم يغفر لهم ويشفع لهم فإنهم يطهرون وتزكوا نفوسهم بعذاب النار ثم يغسلون أيضاً في نهر عند باب الجنة، يقال له: نهر الحيوان، فيدخلون الجنة بنفوس زكية وأرواح طاهرة نقية.

{وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً(32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً(33)}
شرح الكلمات:
{وَلا تَتَمَنَّوْا} : التمني: التشهي والرغبة في حصول الشيء، وأداته: ليت، ولو، فإن كان مع زوال المرغوب فيه عن شخص ليحصل للمتمني فهو الحسد.
{مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ} : أي: ما فضل الله به أحداً منكم فأعطاه علماً أو مالاً أو جاهاً أو سلطاناً.
{نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا} : أي: حصة وحظ من الثواب والعقاب بحسب الطاعة والمعصية.
{مَوَالِيَ} : الموالي: من يلون التركة ويرثون الميت من أقارب.
{عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} : أي: حالفتموهم وتآخيتم معهم مؤكدين ذلك بالمصافحة واليمين.
{فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} : من الرفادة والوصية والنصرة لأنهم ليسوا ورثة.
معنى الآيتين:
صح أو لم يصح أن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ليتنا كنا رجالاً فجاهدنا وكان لنا مثل أجر الرجال فإن الله سميع عليم، والذين يتمنون1 حسداً وغير حسد ما أكثرهم ومن هنا نهى
__________
1 التمني: نوع إرادة يتعلق بالمستقبل، وعلى خلافه التلهف؛ لأنه يتعلق بالماضي، وسر النهي عنه: أن فيه تعلق البال بالمتمني ونسيان الأجل، ولذا حرم التمني الذي هو الحسد، وهو نوعان: تمني زوال النعمة من غيره لتحصل له، وتمني زوال النعمة من غيره ولو لم تحصل له، وهو شر الحسد. وهل الغبطة من الحسد؟ والجواب: لا. والغبطة هي: أن يرى العبد نعمة علم أو مال لأحد فيغتبط ويسأل الله تعالى أن يكون له ذلك العلم ليعلمه ويعمل به، أو يكون له ذلك المال ليتصدق به. فهذه الغبطة محمودة لحديث البخاري: "لا حسد إلا في اثنتين، رجل أتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، فيقول الرجل: لو أن لي مثل مال فلان لعملت مثله فهم في الأجر سواء ".

الله تعالى في هذه الآية الكريمة(32) عباده المؤمنين عن تمني ما فضل الله تعالى به بعضهم على بعض فأعطى هذا وحرم ذاك لحكم اقتضت ذلك، ومن أظهرها الابتلاء بالشكر والصبر، فقال تعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ} –من علم أو مال. أو صحة أو جاه أو سلطان- {بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} وأخبر تعالى أن سنته في الثواب والعقاب الكسب والعمل، فليعمل من أراد الأجر والمثوبة بموجبات ذلك من الإيمان والعمل الصالح، ولا يتمنى ذلك تمنياً، وليكف عن الشرك والمعاصي من خاف العذاب والحرمان ولا يتمنى النجاة تمنياً كما على من أراد المال والجاه فليعمل له بسنته المنوطة به، ولا يتمنى فقط فإن التمني كما قيل بضائع النوكى، أي: الحمقى، فلذا قال تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} ، فرد القضية إلى سنته فيها وهي كسب الإنسان. كقوله تعالى :{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} ثم بين تعالى سنة أخرى في الحصول على المرغوب: وهي دعاء الله تعالى فقال: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} فمن سأل ربه وألح1 عليه موقناً بالإجابة أعطاه فيوفقه للإتيان بالأسباب، ويصرف عنه الموانع، ويعطيه بغير سب إن شاء، وهو على كل شيء قدير، بل ومن الأسباب المشروعة الدعاء والإخلاص فيه.
هذا ما تضمنته الآية الأولى(33) فإن الله تعالى يخبر مقرراً حكما ً شرعياً قد تقدم في السياق، وهو أن لكل من الرجال والنساء ورثة يرثون إذا مات فقال: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا2 مَوَالِيَ} أي: أقارب يرثونه إذا مات، وذلك من النساء والرجال، أما الذين هم موالي بالحلف أو الإخاء فقط، أي: ليسوا من أولي الأرحام، فالواجب إعطاؤهم نصيبهم من النصرة والرفادة. والوصية لهم بشيء إذ لاحظ لهم في الإرث، لقوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} ، ولما كان توزيع المال وقسمته تتشوق له النفوس وقد يقع فيه حيف أو ظلم أخبر تعالى أنه على كل شيء شهيد فلا يخفى عليه من أمر الناس شيء فليتق ولا يُعص.
__________
1 لحديث الترمذي وغيره، قال صلى الله عليه وسلم: "سلوا الله من فضله، فإنه يحب أن يسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج" أي: من الله تعالى، وهو تعلق القلب بالرب تعالى.
2 هذه الآية ناسخة لكل من الإرث بالتحالف والمؤاخاة، وهي كقوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} ، وهو المقصود بقوله تعالى: {والَّذين عَقَدت أيمَانكم} فقد كان الرجل في الجاهلية يقوله لمن أراد محالفته: دمي دمك، وهدمي هدمك، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثي وأرثك. وأما المؤاخاة: فقد كانت بين المهاجرين والأنصار بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوارثوا بها حتى نسخت بهذه الآية، وآية الأنفال: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} .

فقال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} لا يخفى عليه من أمركم شيء فاتقوه وأطيعوه ولا تعصوه.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- قبح التمني وترك العمل.
2- حرمة الحسد.
3- فضل الدعاء وأنه من الأسباب التي يحصل بها المراد.
4- تقرير مبدأ التوارث في الإسلام.
5- من عاقد أحداً على حلف أو آخى أحداً وجب عليه أن يعطيه حق النصرة والمساعدة وله أن يوصي له بما دون الثلث1، أما الإرث فلا حق له لنسخ ذلك.
6- وجوب مراقبة الله تعالى؛ لأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء شهيد.
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً(34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً(35)}
__________
1 يدخل في هذا المتبني فإن لمن تبناه بمعنى: رباه أن يوصي له بما دون الثلث، أما أن ينسبه إليه فلا لأنه محرم بالكتاب والسنة.

شرح الكلمات:
{قَوَّامُونَ} : جمع قوام1: وهو من يقوم على الشيء رعاية وحماية وإصلاحاً.
{بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ} : بأن جعل الرجل أكمل في عقله ودينه وبدنه فصلح للقوامة.
{وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ2} : وهذا عامل آخر مما ثبتت به القوامة للرجال على النساء فإن الرجل بدفعه المهر وبقيامه بالنفقة على المرأة كان أحق بالقوامة التي هي الرئاسة.
{فَالصَّالِحَاتُ3} : جمع صالحة: وهي المؤدية لحقوق الله تعالى وحقوق زوجها.
{قَانِتَاتٌ} : مطيعات لله ولأزواجهن.
{حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} : حافظات لفروجهن وأموال أزواجهن.
{نُشُوزَهُنَّ} : النشوز: الترفع عن الزوج وعدم طاعته.
{فَعِظُوهُنَّ} : بالترغيب في الطاعة والتنفير من المعصية.
{فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} : أي: لا تطلبوا لهن طريقاً تتوصلون به إلى ضربهن بعد أن أطعنكم.
{شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} : الشقاق: المنازعة والخصومة حتى يصبح كل واحد في شق مقابل.
{حَكَماً} : الحكم: الحاكم، والمحكوم في القضايا للنظر والحكم فيها.معنى الآيتين:
يروى في سبب نزول هذه الآية أن: سعد4 بن الربيع رضي الله عنه أغضبته امرأته فلطمها، فشكاه وليها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه يريد القصاص فأنزل الله تعالى هذه الآية: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} . فقال ولي المرأة: أردنا أمراً وأراد الله غيره، وما أراده الله خير. ورضي بحكم الله تعالى وهو أن الرجل
__________
1 قوام: ومثله، قيام، وقيوم، وقيم. كلها بمعنى واحد مشتقة من القيام؛ لأن من شأن من يهتم بالشيء وتدبيره أن يقف عليه ويقوم.
2 أخذ من هذه الجملة الفقهاء: أن من عجز عن النفقة كان للزوجة فسخ النكاح لانعدام القوامة لها، التي بها استحق الرجل العصمة، وخالف أبو حنيفة: فلم يرَ الطلاق بالإعسار.
3 أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على هؤلاء الصالحات بقوله: "خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتك أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك" . وهو تفسير لقوله تعالى: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ...}.
4 ذكر في سبب نزولها عدة أسباب. وما ذكرناه أولى بالصحة والقبول.

ما دام قواماً على المرأة يرعاها ويربيها ويصلحها بما أوتى من عقل أكمل من عقلها، وعلمه أغرز من علمها غالباً، وبعد نظر في مبادئ الأمور ونهايتها أبعد من نظرها يضاف إلى ذلك أنه دفع مهراً لم تدفعه، والتزم بنفقات لم تلتزم هي بشيء منها فلما وجبت له الرئاسة عليها، وهي رئاسة شرعية كان له الحق أن يضربها بما لا يشين جارحة أو كيسر عضواً فيكون ضربه لها؛ كضرب المؤدب لمن يؤدبه ويربيه، وبعد تقرير هذا السلطان للزوج على زوجته أمر الله تعالى بإكرام المرأة والإحسان إليها والرفق بها لضعفها وأثنى عليها فقال: {فَالصَّالِحَاتُ} ، وهن: اللائي يؤدين حقوق الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحقوق أزواجهن من الطاعة والتقدير والاحترام {قَانِتَاتٌ} : أي: مطيعات لله تعالى، وللزوج، {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} أي: حافظات مال الزوج وعرضه لحديث: "وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله1" {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} أي: بحفظ الله تعالى لها وإعانته لها إذ لو وكلت إلى نفسها لا تستطيع حفظ شيء وإن قل. وفي سياق الكلام ما يشير إلى محذوف يفهم ضمناً، وذلك أن الثناء عليهن من قبل الله تعالى يستوجب من الرجل إكرام المرأة الصالحة والإحسان إليها والرفق بها لضعفها، وهذا ما ذكرته أولاً نبته عليه هنا ليعلم أنه من دلالة الآية الكريمة، وقد ذكره غير واحد من السلف.
وقوله تعالى: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} . فإنه تعالى يرشد الأزواج إلى كيفية علاج الزوجة إذا نشزت، أي: ترفعت على زوجها ولم تؤدي إليه حقوقه الواجبة له بمقتضى العقد بينهما، فيقول: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} أي: ترفعهن بما ظهر لكم من علامات ودلائل كأن يأمرها فلا تطيع ويدعوها فلا تجيب وينهاها فلا تنتهي، فاسلكوا معهن السبيل الآتي: {فَعِظُوهُنَّ} أولاً، والوعظ تذكيرها بما للزوج عليها من حق يجب أداؤه وما يترتب على إضاعته من سخط الله تعالى وعذابه، وبما قد ينجم من إهمالها في ضربها أو طلاقها، فالوعظ ترغيب بأجر الصالحات القانتات، وترهيب من عقوبة المفسدات العاصيات فإن نفع الوعظ فيها وإلا فالثانية وهي: أن يهجرها2 الزوج في الفراش فلا يكلمها وهو نائم معها على فراش واحد وقد
__________
1 رواه أبو داود الطيالسي، وقد تقدم في النهر آنفاً، وهو حديث صحيح.
2 هذا الهجر في الفراش شهر فلا يزيد عليه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين أسر إلى حفصة فأفشته لعائشة، ولا يكون كالإيلاء أربعة أشهر.

أعطاها ظهره فلا يكلمها ولا يجامعها وليصبر على ذلك حتى تؤوب إلى طاعته وطاعة الله ربهما معاً، وإن أصرت ولم يجد معها الهجران في الفراش، فالثالثة وهي: أن يضربها1 ضرباً غير مبرح لا يشين جارحة ولا يكسر2 عضواً. وأخيراً فإن هي أطاعت زوجها فلا يحل بعد ذلك أن يطلب الزوج طريقاً إلى أذيتها لا يضرب ولا بهجران لقوله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} أي: الأزواج {فَلا تَبْغُوا} أي: تطلبوا {عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} لأذيتهن باختلاف الأسباب وإيجاد العلل والمبررات لأذيتهن. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} تذييل الكلام بما يشعر من أراد أن يعلو3 على غيره بما أوتي من قدرة بأن الله أعلى منه وأكبر فليخش الله وليترك من علوه وكبريائه.
هذا ما تضمنته هذه الآية العظيمة(34)، أما الآية الثانية(35) فقد تضمنت حكماً اجتماعياً آخر وهو إن حصل شقاق بين زوج وامرأته فأصبح الرجل في شق والمرأة في شق آخر فلا تلاقي بينهما ولا وفاق ولا وئام ذلك لصعوبة الحال، فالطريق إلى حل هذا المشكل ما أرشد الله تعالى إليه، وهو أن يبعث ولي الزوجة حكماً من قبله، ويبعث ولي الزوج حكماً من قبله، أو يبعث الزوج نفسه حكماً وتبعث الزوجة أيضاً حكماً من قبلها، أو يبعث القاضي كذلك، الكل جائز لقوله تعالى: {فَابْعَثُوا} وهو يخاطب المسلمين على شرط أن يكون الحكم عدلاً عالماً بصيراً حتى يمكنه الحكم والقضاء بالعدل. فيدرس الحكمان القضية أولاً مع طرفي النزاع ويتعرفان إلى أسباب الشقاق وبما في نفس الزوج من رضى وحب، وكراهية وسخط ثم يجتمعان على إصلاح ذات البين، فإن أمكن ذلك فيها وإلا فرقا بينهما برضى الزوجين. مع العلم أنهما إذا ثبت لهما ظلم أحدهما فإن عليهما أن يطالبا برفع الظلم، فإن كان الزوج هو الظالم فليرفع ظلمه وليؤد ما و جب عليه، وإن كانت المرأة هي الظالمة فإنها ترفع ظلمها أو تفدي نفسها بمال فيخالعها به زوجها، هذا معنى قوله تعالى: {وَإِنْ
__________
1 لم يصرح الله تعالى بالضرب في كتابه إلا في الحدود، وهنا في ضرب الناشر، وهذا دليل على أن عصيان الزوجة لزوجها حرام، ويشهد لهذا حديث: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت عليه لعنتها الملائكة حتى تصبح" . رواه مسلم.
2 لحديث مسلم في خطبة الوداع، إذ فيه: "واتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوام ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف".
3 روى أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، أنه لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تضربوا إماء الله" . فجاء عمر وقال: يا رسول الله ذئرت النساء على أزواجهن فرخص صلى الله عليه وسلم في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله نساء كثير يشتكين أزواجهن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشتكين من أزواجهن ليس أولئك بخياركم" ومعنى ذئرت النساء: أي: نشزت وتغير خلقهن، أي: نشزن وأجترأن، والإجتراء هنا أولى بالمعنى.

خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} ، و الخوف هنا بمعنى: التوقع الأكيد بما ظهر من علامات ولاح من دلائل فيعالج الموقف قبل التأزم الشديد {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} ، لأنهما أعرف بحال الزوجين من غيرهما وقوله تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً} فإنه يعني الحكمين، {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} ، أي: إن كان قصدهما الإصلاح والجمع بين الزوجين وإزالة الشقاق والخلاف بينهما فإن الله تعالى يعينهما على مهمتهما ويبارك في مسعاهما ويكلله بالنجاح. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} . ذكر تعليلاً لما واعد به تعالى من التوفيق بين الحكمين، إذ لو لم يكن عليماً خبيراً ما عرف نيات الحكمين وما يجري في صدورهما من إرادة الإصلاح أو الإفساد.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- تقرير مبدأ القيومية للرجال على النساء وبخاصة الزوج على زوجته.
2- وجوب إكرام الصالحات والإحسان إليهن.
3- بيان علاج مشكلة نشوز1 الزوجة وذلك بوعظها أولاً ثم هجرانها في الفراش ثانياً.
4- لا يحل اختلاف الأسباب وإيجاد مبررات لأذية المرأة بضرب وبغيره.
5- مشروعية التحكيم في الشقاق بين الزوجين وبيان ذلك.
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً(36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ
__________
1 النشوز: العصيان، مأخوذ من النشز، وهو ما ارتفع من الأرض، ويقال: نشز الرجل ينشز إذا كان قاعداً فنهض قائماً. ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} ، أي: ارتفعوا وقوموا. فنشوز المرأة: ترفعها عن طاعة الزوج.

النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً(37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً(38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً(39)}
شرح الكلمات:
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ1} : الخطاب للمؤمنين ومعنى: اعبدوا: أطيعوه في أمره ونهيه مع غاية الذل والحب والتعظيم له عز وجل.
{وَلا تُشْرِكُوا بِهِ2 شَيْئاً} : أي: لا تعبدوا معه غيره بأي نوع من أنواع العبادات التي تعبد الله تعالى بها عباده من دعاء وخشية وذبح ونذر وركوع وسجود وغيرها.
{وَبِذِي الْقُرْبَى} : أصحاب القرابات.
{وَابْنِ السَّبِيلِ} : المسافر استضاف أو لم يستضف.
{وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى3} : أي: القريب لنسب أو مصاهرة.
{وَالْجَارِ الْجُنُبِ} : أي: الأجنبي مؤمناً كان أو كافراً.
{وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} : الزوجة، والصديق الملازم؛ كالتلميذ والرفيق في السفر.
{وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} : من الأرقاء العبيد فتيان وفتيات.
{مُخْتَالاً فَخُوراً} : الاختيال: الزهو في المشي، والفخر والافتخار بالحسب والنسب والمال بتعداد ذلك وذكره.
__________
1 هذه الآية محكمة إجماعاً لا نسخ فيها البتة، وتسمى آية الحقوق العشرة.
2 الشرك ثلاثة أنواع: شرك في ربوبية الله تعالى للعالمين. شرك في أسماؤه تعالى وصفاته. وشرك في عبادته تعالى. والشرك بأنواعه الثلاثة من الذنب الذي لا يغفر لصاحبه إلا بالتوبة الصادقة منه. ومن شرك العبادة: الرياء.
3 قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي. فقال: "إلى أقربهما منك باباً" والجيران الثلاثة: جار له ثلاثة حقوق. وجار له حقان. وجار له حق واحد. فالجار الذي له ثلاثة حقوق: فالجار المسلم القريب؛ حق الجوار، وحق القرابة، وحق الإسلام. والجار الذي له حقان: فالجار المسلم له حق الجوار، وحق الإسلام. والجار الذي له حق واحد: هو الكافر له حق الجواز.

{يَبْخَلُونَ} : يمنعون الواجب بذله من المعروف مطلقاً.
{وَيَكْتُمُونَ} : يجحدون ما أعطاهم الله من علم ومال تفضلاً منه عليهم.
{قَرِيناً} : القرين: الملازم الذي لا يفارق صاحبه مشدود معه بقرن، أي بحبل.
{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ1} : أي: أي شيء يضرهم أو ينالهم بمكروه إذا هم آمنوا؟.معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في هداية المؤمنين، وبيان الأحكام الشرعية لهم ليعملوا بها فيكملوا ويسعدوا، ففي الآية الآولى(36) يأمر تعالى المؤمنين بعبادته وتوحيده2 فيها وبالإحسان3 إلى الوالدين وذلك بطاعتهم في المعروف وإسداء الجميل لهم، ودفع الأذى عنهم، وكذا الأقرباء، واليتامى، والمساكين، والجيران4 مطلقاً أقرباء أو أجانب، والصاحب الملازم الذي لا يفارق؛ كالزوجة والمرافق في السفر والعمل والتلمذة والطلب، ونحو ذلك من الملازمة التي لا تفارق إلا نادراً، إذ الكل يصدق عليه لفظ الصاحب بالجنب. وكذا ابن السبيل وما ملكت اليمين من أمة أو عبد والمذكورون الإحسان إليهم آكد وإلا فالإحسان معروف يبذل لكل الناس كما قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} ، وقال {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} دال على أن منع الإحسان الذي هو كف الأذى وبذل المعروف ناتج عن خلق البخل والكبر وهما من شر الأخلاق هذا ما دلت عليه الآية الأولى(36).
وأما الآية الثانية(37) وقد تضمنت بمناسبة ذم البخل والكبر والتنديد ببخل بعض أهل الكتاب وكتمانهم الحق وهو ناتج عن بخلهم أيضاً قال تعالى: {الَّذِينَ5 يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه} أي: من مال وعلم وقد كتموا نُعوت النبي
__________
1 تفهام هنا إنكاري توبيخي.
2 التوحيد ضد الشرك، وقد ورد في الشرك تحذيراً منه أحاديث صحاح منها حديث مسلم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "قال الله تبارك وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" .
3 قرن تعالى في غير آية عبادته بالإحسان إلى الوالدين نظراً إلى أن الله تعالى خلق ورزق فهو أحق بالطاعة، وأن الوالدين تكون الولد منهما وربياه في صغره، فكانت المنة لهما بعد الله تعالى.
4 صح في الإحسان إلى الجار العديد من الأحاديث منها: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" ، ومنها: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيكرم جاره" , ومنها: "والله لا يؤمن. فقيل من: قال: من لا يؤمن جاره بوائقه".
5 البخل المذموم شرعاً: هو الامتناع من أداء الحقوق الواجبة. والشح: بخل مع حرص، وهو شر من مجرد البخل.

صلى الله عليه وسلم وصفاته الدالة عليه في التوراة والإنجيل، وبخلوا بأموالهم وأمروا بالبخل بها، إذ كانوا يقولون للأنصار لا تنفقوا أموالكم على محمد فإنا نخشى عليكم الفقر، وخبر الموصول الذين محذوف تقديره هم الكافرون حقاً دل عليه قوله: {وَأَعْتَدْنَا1 لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} . هذا ما جاء في هذه الآية الثانية.
أما الآيتان الثالثة(38) والرابعة(39) فإن الأولى منهما قد تضمنت بيان حال أناس آخرين غير اليهود وهم المنافقون فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} أي: مراءاة لهم ليتقوا بذلك المذمة ويحصلوا على المحمدة. {وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} . لأنهم كفار مشركون وإنما أظهروا الإسلام تقية فقط، ولذا كان إنفاقهم رياء لا غير. وقوله: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً} أي: بئس القرين له الشيطان وهذه الجملة: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ...} دالة على خبر الموصول المحذوف اكتفى بها عن ذكره كما في الموصول الأول وقد يقدر بمثل: الشيطان2 قرينهم، هو الذي زين لهم الكفر بالله واليوم الآخر.
هذا ما تضمنته الآية الثانية(39) وهي قوله تعالى {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ 3 لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} فقد تضمنت الإنكار والتوبيخ لأولئك المنافقين الذين ينفقون رياء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر بسب فتنة الشيطان لهم وملازمته إياهم، فقال تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} أي: أي شيء يضرهم أو أي أذى يلحقهم في العاجل أو الآجل، لو صدقوا الله ورسوله وأنفقوا في سبيل الله مما رزقهم الله، وفي الخطاب دعوة ربانية لهم لتصحيح إيمانهم واستقامتهم بالخروج من دائرة النفاق التي أوقعهم فيها القرين عليه لعائن الله، فلذا لم يذكر تعالى وعيداً لهم، وإنما قال: {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً} وفي هذه تخويف لهم من سوء حالهم إذا استمروا على نفاقهم فإن علم الله بهم يستوجب الضرب على أيديهم إن لم يتوبوا.
__________
1 أصل: {اعتدن} أعددن، أبدلت الدال الأولى تاء لثقل الدالين عند فك الإدغام، أما مع الإدغام فلا إبدال، نحو: أعد، ومنه العتاد الحربي، وهو عدة السلاح.
2 أو فقرينهم الشيطان.
3 ماذا: اسم استفهام بمعنى: أي شيء، ويجوز أن تكون ما مبتدأ، وذا خبره، وهو بمعنى: الذي.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عشرة حقوق والأمر بأدائها فوراً وهي عبادة الله وحده والإحسان بالوالدين، وإلى كل المذكورين1 في الآية الأولى.
2- ذم الاختيال2 الناجم عن الكبر وذم الفخر وبيان كره الله تعالى لهما.
3- حرمة البخل3 والأمر به وحرمة كتمان العلم وخاصة الشرعي منه.
4- حرمة الرياء وذم صاحبها.
5- ذم قرناء السوء لما يأمرون به ويدعون إليه قرنائهم حتى قيل:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدى
{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ4 ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً(40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً(41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثا(42)}
شرح الكلمات:
الظلم : وضع شيء في غير موضعه.
__________
1 أخص المملوك بذكر ما ورد فيه، ففي مسلم يقول صلى الله عليه وسلم: "للمملوك طعامه وشرابه وكسوته، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق" ، وقال: "لا يقل أحدكم: عبدي، وأمتي. بل يقل: فتاي، وفتاتي" ، وفي هذا مراعاة لجانب التوحيد، ومراعاة لشعور المملوك حتى لا يرى أنه مهان مستضعف. وقال صلى الله عليه وسلم في فضل العبد الصالح: " للعبد المملوك المصلح أجران"
2 الاختيال من أكبر الذنوب، وفي الحديث الصحيح: "أن الله لا ينظر إلى من جر ثوبه خيلاء ".
3 شاهده قوله صلى الله عليه وسلم: " وأي داء أدوأ من البخل "، وقال: "إ ياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا" ، وفي رواية: " حملهم على أن سفكوا دمائهم واستحلوا محارمهم" .
4 نصب {مِثْقَال} على المفعولية المطلقة، إذ التقدير: "لا يظلمون ظلماً مقدراً بمثقال ذرة، والمثقال: ما يظهر به الثقل، فهو كاسم الإله "مفعال" والمراد به المقدار، والذرة بيضة النملة".

{مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} : المثقال: الوزن مأخوذ من الثقل فكل ما يوزن فيه ثقل، والذرة أصغر حجم في الكون حتى قيل إنه الهباء أو رأس النملة.
الحسنة : الفعلة الجميلة من المعروف.
{يُضَاعِفْهَا} : يريد فيها ضعفها.
{مِنْ لَدُنْهُ} : من عنده.
{أَجْراً عَظِيماً} : جزاء كبيراً وثواباً عظيماً.
الشهيد : الشاهد على الشيء لعلمه به.
{يَوَدُّ} : يحب.
{تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ} : يكونون تراباً مثلها.
{وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} : أي: لا يخفون كلاماً.
معنى الآيات:
لما أمر تعالى في الآيات السابقة بعبادته والإحسان إلى من ذكر من عباده. وأمر بالإنفاق في سبيله، وندد بالبخل والكبر والفخر، وكتمان العلم، وكان هذا يتطلب الجزاء بحسبه خيراً أو شراً ذكر في هذه الآية(40) {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ1 مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} ، ذكر عدله في المجازاة ورحمته، فأخبر أنه عند الحساب لا يظلم عبده وزن ذرة وهي أصغر شيء وذلك بأن لا ينقص من حسناته حسنة، ولا يزيد في سيئاته سيئة، وإن توجد لدى مؤمن حسنة واحدة يضاعفها بأضعاف يعلمها هو ويعط من عنده بدون مقابل أجراً عظيماً لا يقادر قدره، فلله الحمد والمنة. هذا ما تضمنته الآية الأولى(40)، أما الآية الثانية(41) فإنه تعالى لما ذكر الجزاء والحساب الدال عليه السياق ذكر ما يدل على هول يوم الحساب وفظاعة الأمر فيه، فخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم قائلاً: { فَكَيْف 2 إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} ؟ ومعنى الآية: فكيف تكون حال أهل الكفر والشر والفساد إذا جاء الله تعالى بشهيد من كل أمة ليشهد3 عليهما فيما أطاعت وفيما عصت
__________
1 روى عن ابن مسعود، وابن عباس: "أن هذه الآية إحدا آيات هي خير مما طلعت عليه الشمس" ووجه ذلك في حديث الشفاعة في صحيح مسلم، إذ فيه: "ثم يقول لهم ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون ربنا لم نذر فيها، -أي: النار – خيراً" .
2 كيف فتحت فاؤها لالتقاء الساكنين، إذ المفروض فيها أنها ساكنة وهي هنا في محل نصب، إذ التقدير: تكون حالهم كيف.
3 هو رسولها الذي أرسل إليها.

ليتم الحساب بحسب البينات والشهود والجزاء بحسب الكفر والإيمان والمعاصي والطاعات، وجئنا بك أيها الرسول الخليل صلى الله عليه وسلم شهيداً على هؤلاء، أي: على أمته صلى الله عليه وسلم من آمن به ومن كفر، إذ يشهد أنه بلغ رسالته وأدى أمانته صلى الله عليه وسلم. هذا ما تضمنته الآية الثانية، أما الآية الثالثة(42) فإنه تعالى لما ذكر ما يدل على هول يوم القيامة في الآية(41) ذكر مثلاً لذلك الهول وهو أن الذين كفروا يودون وقد عصوا الرسول لو يسوون بالأرض فيكونون تراباً حتى لا يحاسبوا ولا يجزوا بجهنم. وأنهم في ذلك اليوم لا يكتمون الله كلاماً؛ إذ جوارحهم تنطق فتشهد عليهم. قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ} أي: يوم يؤتى من كل أمة بشهيد {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى1 بِهِمُ الأَرْضُ} فيكونون تراباً مثلها2. مرادهم أن يسووا هم بالأرض فيكونون تراباً وخرج الكلام على معنى: أدخلت رأسي في القلنسوة، والأصل: أدخلت القلنسوة في رأسي، وقوله {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} إخبار عن عجزهم عن كتمان شيء عن الله تعالى؛ لأن جوارحهم تشهد عليهم بعد أن يختم على أفواههم، كما قال تعالى من سورة يس {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان عدالة الله تعالى ورحمته ومزيد فضله.
2- بيان هول يوم القيامة حتى إن الكافر ليود أن لو سويت به الأرض فكان تراباً.
3- معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بآثار الشهادة على العبد بيوم القيامة إذ أخبر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: "اقرأ عليَّ القرآن، فقلت أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال: أحب أن أسمعه من غيري. قال: فقرأت: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} حتى وصلت هذه الآية: {فَكَيْفَ3 إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} الآية، وإذا عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان الدموع4 وهو يقول: حسبك. أي: كفاك ما قرأت عليَّ".
__________
1 قرئت: {تسَّوّى} بتشديد كل من السين والواو مع فتح التاء في السبع، وقرئت أيضاً: {تَسوى} بفتح التاء وتخفيف السين وتشديد الواو، وبضم التاء وتشديد الواو.
2 أي: تمنوا لو انفتحت لهم الأرض فساخوا فيها فتكون الباء بمعنى: على، أي: لو تسوى عليهم، أي: تنشق فتسوى عليهم.
3 الاستفهام للتعجب من حال الناس في عرصات القيامة، وقد جيء بالشهود: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ* وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} .
4 إن بكاء الرسول صلى الله عليه وسلم هنا لسببين: الأول: المسرة التي نالته بتشريف الله تعالى له في هذا المشهد العظيم، حيث يؤتى به شهيداً على أمته، لا يعرف عدد أفرادها إلا الله خالقها، ويدخل الجنة بشهادته عدد لا يحصى. والثاني: الأسى والأسف الذي يلحقه من رؤيته أعداداً هائلة من أمته يدخلون النار بشهادته عليهم. واليكاء: يكون للمسرة والحزن معاً.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً(43)}
شرح الكلمات:
{لا تَقْرَبُوا} : لا تدنوا كناية عن الدخول فيها، أو لا تدنوا من مساجدها.
{سُكَارَى} : جمع سكران، وهو من شرب مسكراً فستر عقله وغطاه.
{تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} : لزوال السكر عنكم ببعد شربه عن قوت الصلاة، وهذا كان قبل تحريم الخمر وسائر المسكرات.
{وَلا جُنُباً1} : الجنب: من به جنابة وللجنابة سببان جماع، أو احتلام.
{عَابِرِي2 سَبِيلٍ} : مارين بالمسجد مروراً بدون جلوس فيه.
{الْغَائِطِ} : المكان المنخفض للتغوط: أي: التبرز فيه.
{لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} : جامعتموهن.
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} : اقصدوا تراباً طاهراً.
{عَفُوّاً غَفُوراً} : عفواً: لا يؤاخذ على كل ذنب، غفوراً: كثير المغفرة لذنوب عباده التائبين إليه.
معنى الآية الكريمة:
لا شك أن لهذه الآية سبباً نزلت بمقتضاه، وهو أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه
__________
1 {ولا جُنباً} هذا معطوف على محل جملة: {حتى تَعْلَموُا} أي: لا تصلوا، وقد أجنبتم، لفظ: الجنب، لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع؛ لأنه على وزن المصدر؛ كالقرب والبعد، يقال: هو جنب، وهي جنب، وهم جنب، وهن جنب، بلا فرق.
2 يقال: عبرت الطريق. إذا قطعته من جانب إلى جانب آخر، وعبرت النهر كذلك، والمعبر: ما يعبر عليه من سفينة ونحوها، وناقة عبر أسفار، لا يزال يسافر عليها ويقطع بها الفلاة، والهاجرة: لسرعة مشيها.

حسب رواية الترمذي أقام مأدبة لبعض الأصحاب فأكلوا وشربوا وحضرت الصلاة فقاموا لها وتقدم أحدهم يصلي بهم، فقرأ بسورة الكافرون، وكان ثملان فقراً: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون، وهذا باطل قراءته بحذف حروف النفي فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ1 آمَنُوا....} أي: يا من صدقتكم بالله ورسوله، {لا تَقْرَبُوا الصَّلاة} أي: لا تدخلوا فيها، والحال أنكم سكارى من الخمر إذ كانت يومئذ حلالاً غير حرام، حتى تكون عقولكم تامة تميزون بها الخطأ من الصواب فتعلموا ما تقولون في صلاتكم. ولا تقربوا مساجد الصلاة للجلوس فيها، وأنتم جنب حتى تغتسلوا اللهم إلا من كان منكم عابر سبيل، إذ كانت طرق بعضهم إلى منازلهم على المسجد النبوي. {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} بجراحات يضرها الماء أو مرضى مرضاً لا تقدرون معه على استعمال الماء للوضوء أو الغسل، أو كنتم {عَلَى سَفَرٍ2 أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} بمضاجعهن أو مستموهن بقصد الشهوة {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} تغتسلون به إن كنتم جنباً أو تتوضأون به إن كنتم محدثين حدثاً أصغر {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} أي: اقصدوا تراباً طاهراً { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} مرة واحدة فإن ذلك مجزئ لكم عن الغسل والوضوء، فإن صح المريض أو وجد الماء فاغتسلوا أو توضأوا ولا تيمموا لانتفاء الرخصة بزوال المرض أو وجود الماء. وقوله تعالى في ختام الآية {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} يخبر تعالى عن كماله المطلق فيصف نفسه بالعفو عن عباده المؤمنين إذا خالفوا أمره، وبالمغفرة لذنوبهم إذا هم تابوا إليه، ولذا هو عز وجل لم يؤاخذهم لما صلوا وهم سكارى لم يعرفوا ما يقولون، وغفر لهم وأنزل هذا القرآن تعليماً لهم وهداية لهم.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
1- تقرير مبدأ النسخ للأحكام الشرعية في القرآن والسنة.
2- حرمة مكث3 الجنب في المسجد، وجواز العبور والاجتياز بدون مكث.
__________
1 روى أبو داود في سننه: "أنه لما نزلت أية البقرة: {يَسْألوُنَك عَنْ الخَمر والمَيِسْر} قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، ولما نزلت هذه الآية من النساء قال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، ولما نزلت آية المائدة: {فَهلْ أنْتم مُنتَهون} قال: انتهينا يا ربنا".
2 هل السفر مبيح للتيمم، وإن وجد الماء؟ الجواب: لا. وإنما ذكر السفر؛ لأن الغالب فيه أنه لا يوجد ماء. أما الحضر: فالماء فيه قلما ينقطع ولا يوجد.
3 يحرم قراءة القرآن على الجنب لحديث ابن ماجة وغيره: "لا يقرأ الجنب والحائض شيئاً من القرآن" ، وحديث الدارقطني: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء إلا أن يكون جنباً".

3- وجوب الغسل على الجنب وهو من قامت به جنابة بأن احتلم فرأى الماء، أ جامع أهله فأولج ذكره1 في فرج امرأته ولم لم ينزل ماء.
وكيفية الغسل: أن يغسل كفيه قائلاً: بسم الله ناوياً رفع الحدث الأكبر ثم يستنجي فيغسل فرجيه وما حولهما، ثم يتوضأ فيغسل كفيه ثلاثاً، ثم يتمضمض ويستنشق الماء، ويستثره ثلاثاً، ثم يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه وأذنيه مرة واحدة ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ثم يغمس كفيه في الماء ثم يخلل أصول شعر رأسه، ثم يحثو الماء على رأسه بغسله بكل حثوة، ثم يفيض الماء على شقه الأيمن يغسله، ثم على شقه الأيسر يغسله. من أعلاه إلى أسفله، ويتعهد بالماء إبطيه وكل مكان من جسمه ينبو عنه الماء كالسرة وتحت الركبتين2.
4- إذا لم يجد المرء التراب لمطر ونحوه تيمم بكل أجزاء الأرض3 من رمل وسبخة وحجارة والتيمم هو أن يضرب بكفه الأرض ثم يمسح وجهه وكفيه بهما لحديث عمار رضي الله عنه في الصحيح.
5- بيان عفو الله وغفرانه لعدم مؤاخذة من صلوا وهم سكارى.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ(44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً(45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ
__________
1 لحديث مسلم: " إذا جلس شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل" ، أما حديث مسلم: " إنما الماء من الماء" فمنسوخ بالحديث المذكور أعلاه، وعلى هذا جماهير الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة.
2 لحديث: "تحت كل شعرة جنابة اغلسوا الشعر وأنفقوا البشرة" . قال ابن عيينة: "المراد وأنفقوا البشرة: غسل الفرجين وتنظيفهما".
3 الإجماع على جوا ز التيمم بالتراب المنبت الطاهر غير المنقول ولا المغصوب. والإجماع على عدم الجواز على الذهب والفضة والياقوت والزمرد والأطعمة؛ كالخبز واللحم وغيرهما. وكذا النجاسات واختلف فيه غير ما ذكر؛ كالحجارة والسبخة والرمل وما إلى ذلك.

وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً(46)}
شرح الكلمات:
{أَلَمْ تَرَ} : ألم تبصر، أي: بقلبك، أي: تعلم.
{نَصِيباً} : حظاً وقسطاً.
{يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ} : أي: الكفر بالإيمان.
{الأعداء} : جمع عدو، وهو يقف بعيداً عنك يود ضرك ويكره نفعك.
{هَادُوا} : أي: اليهود، قيل لهم ذلك لقولهم: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} ، أي: تبنا ورجعنا.
{يُحَرِّفُونَ} : التحريف: الميل بالكلام عن معناه إلى معنى باطل للتضليل.
{الْكَلِمَ} : الكلام، وهو كلام الله تعالى في التوراة.
{وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} : أي: اسمع ما تقول لا أسمعك الله. وهذا كفر منهم صريح.
{وَطَعْناً فِي الدِّينِ} : سبهم للرسول صلى الله عليه وسلم هو الطعن الأعظم في الدين.
{وَانْظُرْنَا} : وأمهلنا حتى تسمع فتفهم.
{وَأَقْوَمَ} : أعدل وأصوب.
{لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} : طردهم من رحمته وأبعدهم من هداه بسبب كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
معنى الآيات:
روي أن هذه الآيات نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت أحد عظماء اليهود بالمدينة، كان إذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه، وقال: راعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك، ثم طعن في الإسلام وعليه فأنزل الله تعالى هذه الآيات الثلاث إلى قوله {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً} ، وهذا شرحها: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ1 الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ
__________
1 جملة: {يَشْتَروُن} في محل نصب حالية، وهي بضميمة جملة: {وأُوتوا نَصِيباً مِنَ الكِتاب} فيكون مثار العجب في نفس السامع لأن اشتراء العالم الضلالة أمر عجب بلا شك.

تَضِلُّوا السَّبِيلَ} أي: ألم ينته إلى علمك وإلى علم أصحابك ما يحملكم على التعجب: العلم بالذين أتوا نصيباً من الكتاب وهم: رفاعة بن زيد وإخوانه من اليهود، أعطوا حظاً من التوراة فعرفوا صحة الدين الإسلامي، وصدق نبيه صلى الله عليه وسلم {يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ} وهو الكفر يشترونها بالإيمان، حيث جحدوا نعوت النبي وصفاته في التوراة للإبقاء على مركزهم بين قومهم يسودون ويتفضلون، ويريدون مع ذلك أن تضلوا أيها المؤمنون السبيل سبيل الحق والرشد، وهو الإيمان بالله ورسوله والعمل بطاعتهما للإسعاد والإكمال. { وَاللَّهُ أَعْلَمُ1 بِأَعْدَائِكُمْ} الذين يودون ضركم ولا يودون نفعكم، ولذا أخبركم بهم لتعرفوهم وتجتنبوهم فتنجوا من مكرهم وتضليلهم. {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً} لكم تعتمدون عليه وتفوضون أموركم إليه {وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً} ينصركم عليهم وعلى غيرهم فاعبدوه وتوكلوا عليه. {مِنَ2 الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} أي: هم من اليهود الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، والكلام هو كلام الله تعالى في التوراة، وتحريفه بالميل به عن القصد، أو بتبديله وتغييره تضليلاً للناس وإبعاداً لهم عن الحق المطلوب منهم الإيمان به والنطق والعمل به. ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلك كفراً وعناداً {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا3 وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ4} ، أي: لا أسمعك الله {وراعنا} وهي كلمة ظاهرها أنها من المراعاة وباطنها الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ اليهود يعدونها من الرعونة يقولونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم سباً وشتماً له قبحهم الله ولعنهم وقطع دابرهم، وقوله تعالى: {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ} أي: يلوون ألسنتهم بالكلمة التي يسبون بخا حتى لا تظهر عليهم، ويطعنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا} أي: انتظرنا بدل راعنا لكان خيراً لهم وأقوم، أي: أعدل وأكثر لياقة وأدباً، ولكن لا يقولون هذا؛ لأن الله تعالى لعنهم وحرمهم من كل توفيق بسبب كفرهم فهم لا يؤمنون إلا قليلاً. أي: إيماناً لا ينفعهم لقلته فهو لا يصلح أخلاقهم ولا يطهر نفوسهم ولا يهيئهم للكمال في الدنيا ولا في الآخرة.
__________
1 جملة إعتراضية، وهي تحمل التعريض بأن إرادة اليهود تضليل المسلمين ناجمة عن عداوة وحسد للمسلمين.
2 {مِنَ الّذينَ هَادُوا} خبر لمبتدأ محذوف تقديره: من الذين هادوا، جماعة يحرفون الكلم عن مواضعه، و"من" تبعيضية.
3 قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إنهم كانوا يقولون: سمعنا قولك وعصينا أمرك".
4 وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن مرادهم من قولهم: {واسْمَع غَيرْ مُسْمع} اسمع لا سمعت".

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان مكر اليهود بالمؤمنين بالعمل على إضلالهم في عهد النبوة وإلى اليوم.
2- في كفاية الله للمؤمنين ونصرته ما يغنيهم أن يطلبوا ذلك من أحد غير ربهم عز وجل.
3- الإيمان1 القليل لا يجدي صاحبه ولا ينفعه بحال.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً(47)}
شرح الكلمات:
{أُوتُوا الْكِتَابَ} : اليهود والنصارى، والمراد بهم هنا اليهود لا غير.
{بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً} : القرآن.
{نَطْمِسَ وُجُوهاً} : نذهب آثارها بطمس الأعين وإذهاب أحداقها.
{فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} : نجعل الوجه قفا، والقفا وجهاً.
{كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} : لعنهم: مسخهم قردة خزياً لهم وعذاباً مهيناً.
{وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} : أمر الله: مأموره كائن لا محالة لأنه تعالى لا يعجزه شيء.معنى الآية الكريمة:
ما زال السياق في اليهود المجاورين للرسول صلى الله عليه وسلم، ففي هذه الآية ناداهم الله تبارك2
__________
1 شاهده قوله تعالى: {فَلا يؤمنون إلا قَليلا} هذا يصح إن كانت الجملة دالة على شيء من الإيمان، أما على رأي من يرى أن الكلام دال على نفي الإيمان بالكلية فلا دليل في الآية على أن قليل الإيمان لا ينفع.
2 قال القرطبي: قال ابن إسحاق: كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود منهم: عبد الله بن صوريا، وكعب بن أسد، وقال لهم: "يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق" . قالوا: ما نعرف ذاك يا محمد. وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر. فأنزل الله تعالى هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} .

وتعالى بعنوان العلم والمعرفة وهو نسبتهم إلى الكتاب الذي هو التوراة آمراً إياهم بالإيمان بكتابه، أي: القرآن الكريم وبمن أنزله عليه محمد صلى الله عليه وسلم، إذ الإيمان بالمنزل إيمان بالمنزل عليه ضمنا. فقال: {آمنوا} بالفرقان المصدق لما معكم من أصول الدين ونعوت الرسول والأمر بالإيمان به ونصرته خفوا إلى الإيمان واتركوا التردد من قبل أن يحل بكم ما حل ببعض أسلافكم حيث مسخوا قردة وخنازير {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً1} فنذهب حدقة أعينها وشاخص أنوفها ونُغلق أفواهها فتصبح الوجوه أقفاء، والأقفاء وجوهاً يمشون القهقراء وهو معنى قوله : { فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} أي: الذين اعتدوا منكم في السبت حيث صادوا فيه، وهو محرم عليهم فمسخهم قردة خاسئين. {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ} أي: مأموره {مَفْعُولاً} ناجزاً، لا يتخلف ولا يتأخر لأن الله تعالى لا يعجزه شيء وهو على كل شيء قدير.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- المفروض أن ذا العلم يكون أقرب إلى الهداية ، ولكن من سبقت شقوته لما يعلم الله تعالى من اختياره الشر والإصرار عليه لا ينفعه العلم، ولا يهتدي به هؤلاء اليهود الذين دعاهم الله تعالى إلى الإيمان فلم يؤمنوا.
2- وجوب تعجيل التوبة قبل نزول العذاب وحلول ما لا يحب الإنسان من عذاب ونكال.
3- قد يكون المسخ في الوجه بمسخ الأفكار والعقول فتفسد حياة المرء وتسوء، وهذا الذي حصل ليهود المدينة. فنقضوا عهودهم فهلك من هلك منهم وأجلى من أجلى نتيجة إصرارهم على الكفر وعداء الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ2 بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً}
__________
1 قال مالك رحمه الله تعالى: "كان أول إسلام كعب الأحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية: {يَا أهْل الكتاب...} إلخ. فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقري إلى بيته فأسلم مكانه، وقال: والله لقد خفت ألا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي".
2 روى الترمذي عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} "، قال هذا حديث حسن غريب.

شرح الكلمات:
{لا يَغْفِرُ} : لا يمحو ولا يترك للمؤاخذة.
{أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} : أي: يعبد معه غيره تأليها له بحبه وتعظمه وتقديم القرابين له، وصرف العبادات له كدعائه والاستعانة به والذبح والنذر له.
{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} : أي ما دون الشرك والكفر من سائر الذنوب والمعاصي التي ليست شركاً ولا كفراً.
{لِمَنْ يَشَاءُ} : أي: لمن يشاء المغفرة له من سائر المذنبين بغير الشرك والكفر.
{افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} : افترى: اختلق وكذب كباً بنسبته العبادة إلى غير الرب تعالى، والإثم: الذنب العظيم الكبير.
معنى الآية الكريمة:
يروى أنه لما نزل قول الله تعالى من سورة الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} قام رجل فقال: والشرك يا نبي الله؟ فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ1 بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، فأخبر تعالى عن نفسه بأنه لا يغفر الذنب المعروف بالشرك والكفر، وأما سائر الذنوب كبيرها وصغيرها فتحت المشيئة إن شاء غفرها لمرتكبها فلم يعذبه بها، وإن شاء آخذه بها وعذبه، وأن من يشرك به تعالى فقد اختلق الكذب العظيم إذ عبد من لا يستحق العبادة وأنه من لا حق له في التأليه فلذا هو قائل بالزور وعامل بالباطل، ومن هنا كان ذنبه عظيماً.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية:
1- عظم ذنب2 الشرك والكفر وأن كل الذنوب دونهما.
2- الشرك ذنب3 لا يغفر لمن مات بدون توبة منه.
__________
1 ومع ظهور سبب النزول فإن الآية تحمل تهديداً ووعيداً للناس شديدين يفهم ذلك من حرف التعليل، وهو: {إن الله} كأنه يقول: يا أيها الناس ادخلوا في الإسلام إن الله لا يغفر أن يشرك به.
2 وجه عظم ذنب الشرك يدرك بما يلي: أولاً: أنه ذنب لا يغفر إلا لمن تاب منه. ثانياً: إنه محبط للعمل مهما كثر وعظم لقوله تعالى: { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
3 يعرف الشرك: بأنه عبادة غير الله مع الله. ومن أنواع العبادة: التعظيم، والرغبة، والرهبة، والدعاء، والذبح، والنذر، والركوع، والسجود، والصيام، والحلف، وهو من التعظيم.

3- سائر الذنوب دون الشرك والكفر لا ييأس فاعلها من مغفرة الله تعالى له وإنما يخاف.
4- الشرك زور وفاعله قائل بالزور فاعلٌ به.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ1 بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً(49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً(50)}
شرح الكلمات:
تزكية النفس : تبرئتها من الذنوب والآثام.
{يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} : يطهر من الذنوب من يشاء من عباده بتوفيقه للعمل بما يزكي النفس، وإعانته عليه.
الفتيل : الخيط الأبيض يكون في وسط النواة، أو ما يفتله المرء بأصبعيه من الوسخ في كفه أو جسمه وهو أقل الأشياء وأتفهها.
{الْكَذِبَ} : عدم مطابقة الخير للواقع.
معنى الآيتين:
عاد السياق إلى الحديث عن أهل الكتاب فقال تعالى لرسوله والمؤمنين: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} وهو أمر يحمل على العجب والاستغراب إذ المفروض أن المرء لا يزكي نفسه حتى يزكيه غيره، فاليهود والنصارى قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} . وقالوا: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} . وقالت اليهود: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ2 إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} ، إلى غير ذلك من الدعاوي الباطلة، ولما أنكر تعالى عليهم هذا الباطل الذي يعيشون عليه فعاقهم عن الإيمان والدخول في الإسلام وأخبر تعالى أنه عز وجل هو الذي يزكي من يشاء من عباده، وذلك بتوفيقه إلى الإيمان وصالح العمال التي تزكو عليها النفس البشرية، فقال تعالى: {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي: أقل قليل فلا يزاد
__________
1 لا خلاف في أن المراد بالذين يزكون أنفسهم في هذه الآية هم اليهود.
2 ومن جملة أقوالهم في تزكية نفوسهم بأفواههم قولهم: "لا ذنب لنا وما فعلناه نهاراً يغفر لنا ليلاً"، وما فعلناه ليلاً يغفر لنا نهاراً" وقولههم: "نحن كالأطفال في عدم الذنوب". وثناء بعضهم على بعض.

في ذنوب العبد ولا ينقص من حسناته. ثم أمر الله تعالى رسوله أن يتعجب من حال هؤلاء اليهود والنصارى وهم يكذبون على الله تعالى، ويختلقون الكذب بتلك الدعاوي التي تقدمت آنفاً. وكفى بالكذب إثماً مبيناً. يغمس صاحبه في النار.
هداية الآيتين:
من هداية الايتين:
1- حرمة تزكية المرء1 نفسه بلسانه والتفاخر بذلك، إما طلباً للرئاسة، وإما تخلياً عن العبادة والطاعة بحجة أنه في غير حاجة إلى ذلك لطهارته، ورضى الله تعالى عنه.
2- الله يزكي عبده بالثناء عليه في الملأ الأعلى، ويزكيه بتوفيقه وإيمانه للعمل بما يزكي من صلاة وصدقات وسائر الطاعات المشروعة لتزكية النفس البشرية وتطهيرها.
3- عدالة الحساب والجزاء يوم القيامة لقوله تعالى: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} .
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً(51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً(52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً(53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ2 إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً(54)
__________
1 روى مسلم عن عمر بن عطاء، قال: سميت ابنتي: برة. فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسميت برة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتزكون أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم". فقالوا: بما نسميها؟. فقال: "سموها زينب". قال الدارقطني: فدل الكتاب والسنة على المنع من تزكية الإنسان نفسه. ويجري هذا المجرى ما قد كثر في هذه الديار المصرية. من نعت أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية: كزكي الدين، ومحي الدين، وما أشبه ذلك، لكن لما كثرت قبائح المسلمين بهذه الأسماء ظهر تخلف هذه النعوت عن أصلها فصارت لا تفيد شيئاً.
2 آل إبراهيم هم: ذريته من أولاد وأحفاد وما تناسل منهم؛ كداود وسليمان ومن بعدهم.

فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55)}
شرح الكلمات:
{بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} : الجبت1: اسم لكل ما عبد من دون الله وكذا الطاغون سواء كانا صنمين أو رجلين.
أهدى سبيلا : أكثر هداية في حياتهما وسلوكهما.
{نَقِيراً} : النقير: نقرة في ظهر النواة يضرب بها المثل في صغرها.
الحسد : تمني زال النعمة عن الغير والحرص على ذلك.
{وَالْحِكْمَةَ} : السداد في القول والعمل مع الفقه في أسرار التشريع الإلهي.
معنى الآيات:
روي أن جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب ذهبوا إلى مكة يحزبون الأحزاب لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نزلوا مكة قالت قريش: نسألهم فإنهم أهل كتاب عن ديننا ودين محمد أيهما خير؟ فسألوهم فقالوا لهم دينكم خير من دين محمد وأنتم أهدى منه وممن اتبعه. فأنزل الله تعالى هذه الآيات إلى قوله {عَظِيماً} . وهذا شرحها: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ2 وَالطَّاغُوتِ} ألم ينته إلى علمك أيها الرسول: أن الذين أوتوا حظاً من العلم بالتوراة يصدقون بصحة عبادة الجبت والطاغوت ويقرون عليها ويحكمون بأفضلية عبادتها على عبادة الله تعالى {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} وهم مشركوا قريش: دينكم خير من دين محمد وأنتم أهدى طريقاً في حياتكم الدينية والاجتماعية ألم يك موقف هؤلاء اليهود مثار الدهشة والاستغراب والتعجب لأهل العلم والمعرفة بالدين الحق، إذ يقرون الباطل ويصدقون به؟ {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} أولئك الهابطون في حمأة الرذيلة، البعيدون في أغوار الكفر والشر والفساد لعنهم الله فأبعدهم عن ساحة الخير والهدى، {وَمَنْ
__________
1 وقيل: الجبت: الساحر بلغة الحبشة، والطاغوت: الكاهن. عن ابن عباس وأبي جبير وأبي العالية، وقال عمر رضي الله عنه: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان. وقال مالك: الطاغوت ما عبد من دون الله. وقيل: هما كل ما عبد من دون الله أو مطاع في معصية الله. وهذا حسن وهو ما ذكرناه في التفسير.
2 أخرج أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الطرق والطيرة والعياثة من الجبت" والمراد من الطرق: الخط بخط في الأرض للبحث عن معرفة ما يحدث للإنسان. والعياثة: زجر الطير للتشاؤم والتيمن، والطيرة: التطير. وأصل الجبت: الجبس، وهو مالا خير فيه.

يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ} يا رسولنا {نَصِيراً} ينصره من الخذلان الذي وقع فيه والهزيمة الروحية التي حلت به فأصبح وهو العالم يبارك الشرك ويفضله على التوحيد.
ثم قال تعالى في الآية(53) {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا1 يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} . أي: ليس لهم نصيب من الملك كما يدعون، فالاستفهام للإنكار عليهم دعوة أن الملك يؤول إليهم، وهم لشدة بخلهم لو آل الملك لهم لما أعطوا أحداً أحقر الأشياء وأتفهها ولو مقدار نواة، وهذا ذم لهم بالبخل بعد ذمهم بلازم الجهل، وهو تفضيلهم الشرك على التوحيد.
وقوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ2 النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} أم بمعنى بل كسابقتها للإضراب –الانتقال من حال سيئة إلى أخرى، والهمزة للإنكار ينكر تعالى عليهم حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على النبوة والدولة، وهو المراد من الناس وقوله تعالى: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ} ؛ كصحف إبراهيم والتوراة والزبور والإنجيل، والحكمة التي هي السنة التي كانت لأولئك الأنبياء يتلقونها وحياً من الله تعالى، وكلها علم نافع وحكم صائب سديد، والملك العظيم هو ما كان لداود وسليمان عليهما السلام كل هذا يعرفه اليهود فلم لا يحسدون محمداً والمسلمين، والمراد من السياق ذم اليهود بالحسد كما سبق ذمهم بالبخل والجهل مع العلم.
وقوله تعالى في الآية(55): {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} يريد أن من اليهود المعاهدين للنبي صلى الله عليه وسلم من آمن بالنبي3 محمد ورسالته، وهم القليل، { وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} أي: انصرف وصرف الناس عنهم وهم الأكثرون {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} لمن كفر حسداً وصد عن سبيل الله بخلاً ومكراً، أي: حسبه جهنم ذات السعير جزاء له على الكفر والحسد والبخل، والعياذ بالله تعالى.
__________
1 إذاً هنا: ملغاة، فلم تنصب المضارع بعدها، وذلك لدخول فاء العطف عليها، لو نصب وكان في غير القرآن بها لجاز النصب. قال سيبويه: "إذاً في عوامل الأفعال بمنزلة: ظن في عوامل الأسماء، أي: تلغى ولا تعمل. إذا لم يكن الكلام معتمداً عليها".
2 الحسد: كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأنه اعتراض على الله فيما قسمه بين عباده وورد فيه أنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. قيل فيه: إنه أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي الله به في الأرض. إذ حسد إبليس آدم في السماء. وحسد قابيل هابيل في الأرض.
3 وجائز أن يكون الضمير عائداً إلى إبراهيم عليه السلام أو إلى الكتاب. وما ذكرناه في التفسير هو الحق.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الكفر بالجبت والطاغوت.
2- بيان مكر اليهود وغشهم وأنهم لا يتورعون عن الغش والكذب والتضليل.
3- ذم الحسد والبخل.
4- إيمان بعض اليهود بالإسلام، وكفر أكثرهم مع علمهم بصحة الإسلام ووجوب الإيمان به والدخول فيه.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً(56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً(57)}
شرح الكلمات:
{نُصْلِيهِمْ نَاراً1} : ندخلهم ناراً يحترقون بها.
{نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ2} : اشتوت فتهرت وتساقطت.
{لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} : ليستمر لهم العذاب مؤلماً.
{عَزِيزاً حَكِيماً} : غالباً، يعذب من يستحق العذاب.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} : تجري من خلال أشجارها وقصورها الأنهار.
{مُطَهَّرَةٌ} : من الأذى والقذى مطلقاً.
{ظِلاًّ ظَلِيلاً3} : الظل الظليل: الوارف الدائم لا حر فيه ولا برد به.
__________
1 يقال: صلاه يصليه صليا، وأصلاه إصلاء، أي: اللحم إذا شواه على النار، ويقال: فلان نضج الرأي، أي: محقه.
2 يقال: نضج الشواء، إذا بلغ حد الشي.
3 صفة مؤكدة؛ كيوم أيوم، وليل أليل، والظليل هو: السجسج الذي لا حر فيه ولا قر.

معنى الآيتين:
على ذكر الإيمان والكفر في الآية السابقة ذكر تعالى في هاتين الآيتين الوعيد والوعد الوعيد لأهل الكفر والوعد لهل الإيمان فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً} يريد يدخلهم نار جهنم يحترقون فيها ويصطلون بها {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} تهرت وسقطت بدلهم1 الله تعالى فوراً جلوداً غيرها ليتجدد ذوقهم للعذاب وإحساسهم به، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} تذييل المقصود منه إنفاذ الوعيد فيهم؛ لأن العزيز الغالب لا يعجز عن إنفاذ ما توعد به أعداءه، كما أن الحكيم في تدبيره يعذب أهل الكفر به والخروج عن طاعته، هذا ما تضمنته الآية الأولى(56) من وعيد لأهل الكفر.
وأما الآية الثانية(57) فقد تضمنت البشرى السارة لأهل الإيمان وصالح الأعمال، مع اجتناب الشرك والمعاصي فقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: بعد تركهم الشرك والمعاصي {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ2 فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} يريد نساء من الحور العين مطهرات من كل ما يؤذي أو يُخل بحسنهن وجمالهن نقيات من البول والغائض ودم الحيض. وقوله تعالى: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} وارفاً كنيناً يقيهم الحر والبرد. وحدث يوماً رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "في الجنة شجرة تسمى3 شجرة الخلد يسير الراكب في ظلها مائة سنة ما يقطع ظلها" .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الكفر والمعاصي موجبات4 للعذاب الأخروي.
2- بيان الحكمة في تبديل الجلود لأهل النار وهي أن يدوم إحساسهم بالعذاب.
3- الإيمان والعمل الصالح مع ترك الشرك والمعاصي موجبات للنعيم الأخروي.
__________
1 روي أن جلودهم تبدل في الساعة مائة مرة، وروي أن هذه الآية تليت عند عمر رضي الله عنه فقال عمر للقارئ: أعدها فأعادها عليه. وعنده كعب فقال: يا أمير المؤمنين أنا عندي تفسير لها. فذكر أنه تبدل في الساعة الواحدة مائة وعشرين مرة.
2 ذكر هذا الخلود إعظاماً للمنة، و {خالدين} منصوب على الحال المقدرة، أي: حال كون خلودهم مقدراً فيها قبل دخلوهم إياها.
3 ذكره ابن كثير في تفسير هذه الآية.
4 وذلك لأن الكفر والشرك والمعاصي التي هي ترك الواجبات وفعل المحرمات تدنس النفس فلا تصبح أهلاً لدخول الجنة لقوله تعالى: {قدْ أَفْلَح مَنْ زَكّاها وَقدْ خَابَ مَنْ دَسّاها} .

4- الجنة دار النعيم خالية من كدرات الصفو والسعادة فيها.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً(58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً(59)}
شرح الكلمات:
{أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ1} : أداء الأمانة: تسليمها إلى المؤتمن، والأمانات جمع أمانة وهي ما يؤتمن عليه المرء من قول أو عمل أو متاع.
{الْعَدْلِ2} : ضد الجور والانحراف بنقص أو زيادة.
{نِعِمَّا يَعِظُكُمْ} : نعم شيء يعظكم، أي: يأمركم به أداء الأمانات والحكم بالعدل.
{وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} : أولوا الأمر: هم الأمراء والعلماء من المسلمين.
{تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} : اختلفتم فيه كل فريق يريد أن ينتزع الشيء من يد الفريق الآخر.
{فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} : أي: إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
{وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} : أحسن عاقبة، لأن تأويل الشيء ما يؤول إليه في آخر الأمر.
معنى الآيتين:
روي أن الآية الأولى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ3 أَنْ تُؤَدُّوا4 الأَمَانَاتِ} نزلت في شأن عثمان بن
__________
1 الإجماع على وجوب رد الأمانات لأصحابها كفاراً أو مؤمنين، فجاراً أو أبراراً.
2 العدل وسط بين طرفي، فإن مال لأحد الجانبين فقد جار وظلم ولم يعدل.
3 إن هنا لمجرد الاهتمام بالخبر، إذ مثل هذا الخبر لا يتطرق إليه الشك حتى يؤكد لإزالته؛ لأنه إخبار عن إيجاد شيء لا عن وجوده فهو خبر كالإنشاء.
4 الأداء: مصدر أدى المخفف المستغنى عنه بالمضعف، أدى يؤدي تأدية. إذا أوصل الشيء إلى طلبه، ويتجوز فيه فيطلق على الاعتراف بالشيء والوفاء به، وذلك كقول الحق، وتبليغ العلم الشرعي، والمراد به هنا: إيصال الشيء إلى صاحبه.

طلحة الحجبي1، حيث كان مفتاح الكعبة عنده بوصفه سادناً2، فطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه صبيحة يوم الفتح، فصلى في البيت ركعتين وخرج، فقال العباس رضي الله عنه أعطينيه يا رسول الله، ليجمع بين السقاية والسدانة، فانزل الله تعالى هذه الآية والتي بعدها فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية على الناس، ودعا عثمان بن طلحة وأعطاه المفتاح. غير أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولذا فالآية في كل أمانة فعلى كل مؤتمن على شيء أن يحفظه ويرعاه حتى يؤديه3 إلى صاحبه، والآية تتناول حكام المسلمين أولاً بقرينة {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} الذي هو القسط، وضد الجور ومعناه: إيصال الحقوق إلى مستحقيها من أفراد الرعايا. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ4 بِهِ} يريد أن أمره تعالى أمة الإسلام حكاماً ومحكومين بأداء الأمانات والحكم بالعدل هو شيء حسن، وهو كذلك إذ قوام الحياة الكريمة هو النهوض بأداء الأمانات والحكم بالعدل وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} فيه الحث على المأمور به بإيجاد ملكة مراقبة الله تعالى في النفس، فإن من ذكر أن الله تعالى يسمع أقواله ويبصر أعماله استقام في قوله فلم يكذب وفي عمله فلم يفرط. هذا ما دلت عليه الآية الأولى(58).
أما الآية الثانية(59)، فإن الله تعالى لما أمر ولاة أمور المسلمين بأداء الأمانات التي هي حقوق الرعية، وبالحكم بينهم بالعدل أمر المؤمنين المولي عليهم بطاعته وطاعة رسوله أولاً، ثم بطاعة ولاة الأمور ثانياً، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} ، والطاعة لأولي الأمر مُقيد بما كان معروفاً للشرع، أما في غير المعروف فلا طاعة في الاختيار لحديث: "إنما الطاعة في المعروف، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" .
وقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} فهو خطاب عام للولاة والرعية، فمتى حصل خلاف في أمر من أمور الدين والدنيا وجب رد ذلك إلى كتاب الله5 وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حكما فيه وجب قبوله حلواً كان أو مراً، وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
__________
1 المؤتمن إذا لم يفرط وضاعت الأمانة منه فلا ضمان عليه إجماعاً لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا ضمان على مؤتمن" رواه الدارقطني. والعارية مؤداة أيضاً. لحديث خطبة الوداع: "العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم" أي: ضامن.
2 أصل: نعما: نعم وكتبت معها ما بعد كسر عين نعم وتسكين ميمها وإدغامها في ما: هي إما موصولة أو نكرة موصوفة أو نكرة تامة وأما الجملة بعد نعم فهي تجري حسب ما يناسب معنى "ما".
3 الحجبي: نسبة إلى حجابة البيت على غير قياس.
4 السادن: الخادم للبيت، وتسمى هذه المهنة: السدانة.
5 وذلك يستلزم الرد إلى العلماء الفقهاء إذ هم الذين يعرفون الأحكام ويحسنون استنباطها من الكتاب والسنة .

بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فيه أن الإيمان يستلزم الإذعان لقضاء الله ورسوله، وهو يفيد أن رد الأمور المتنازع فيها إلى غير الشرع قادح في إيمان المؤمن وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ، يريد ذلك الرد والرجوع بالمسائل والقضايا المختلف فيها إلى الكتاب والسنة هو خير حالاً ومآلاً، لما فيه من قطع النزاع والسير بالأمة متحدة متحابة متعاونة.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- وجوب رد الأمانات بعد المحافظة عليها.
2- وجوب العدل في الحكم وحرمة الحيف والجور فيه.
3- وجوب طاعة الله وطاعة الرسول وولاة المسلمين من حكام وعلماء1 فقهاء، لأن طاعة الرسول من طاعة الله، وطاعة الوالي من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، لحديث: "2من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقط أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أمري فقد عصاني" 3.
4- وجوب رد المتنازع فيه عقيدة أو عبادة أو قضاء إلى الكتاب والسنة ووجوب الرضا بقضائهما.
5- العاقبة الحميدة والحال الحسنة السعيدة في رد أمة الإسلام ما تنازع فيه إلى كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً(60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ
__________
1 قال سهل بن عبد الله: لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء فإن عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وأن استخفوا بهذين فسدت دنياهم وأخراهم.
2 رواه الشيخان وكذا حديث: "إنما الطاعة في المعروف" . إلخ.
3 روي في الصحيح أن عبد الله بن حذافة الأنصاري البدري، وكان به دعابة، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية فأمرهم يوماً أن يجمعوا حطباً ويوقدوا ناراً ففعلوا ثم أمرهم أن يدخلوها محتجاً عليهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني" فلم يستجيبوا له، وقالوا له: إنما أمنا وأسلمنا لننجو من النار فكيف نعذب أنفسنا بها؟ وذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف" .

اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً(61) فَكَيْفَ1 إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً(62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً(63)}
شرح الكلمات:
{يَزْعُمُونَ} : يقولون كاذبين.
{بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} : القرآن، وما أنزل من قبلك: التوراة.
{الطَّاغُوتِ} : كل ما عبد من دون الله ورضي بالعبادة، والمراد به هنا: كعب بن الأشرف اليهودي أو كاهن من كهان العرب.
{الْمُنَافِقِينَ} : جمع منافق: وهو من يبطن الكفر، ويظهر الإيمان خوفاً من المسلمين.
{يَصُدُّونَ} : يعرضون عنك ويصرفون غيرهم كذلك.
{مُصِيبَةٌ} : عقوبة بسبب كفرهم ونفاقهم.
إن يريدون : أي: ما يريدون.
{إِلا إِحْسَاناً} : أي: صلحاً بين المتخاصمين.
{وَتَوْفِيقاً} : جمعاً وتأليفاً بين المختلفين.
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ2} : أي: اصفح عنهم فلا تؤاخذهم.
{وَعِظْهُمْ} : مرهم بما ينبغي لهم ويجب عليهم.
{قَوْلاً بَلِيغاً} : كلاماً قوياً يبلغ شغاف قلوبهم لبلاغته وفصاحته.
__________
1 فكيف: خبر مبتدأ محذوف تقديره حالهم، كيف تكون حين تصيبهم مصيبة، أي: تكون عجباً لفرط حزنهم وبكاءهم وندمهم.
2 الإعراض: عدم الالتفات إلى الشيء بقصد التباعد عنه مشتق من العرض بضم العين، وهو الجانب ولعله مأخوذ من إعراض في الشيء إذ دخل فيه؛ كأصبح في الصباح فأعرض فلان عن فلان، أي: تنحى عنه جانباً، أو أعطاه عرضه مدبراً عنه.

معنى الآيات:
روي أن منافقاً ويهودياً1 اختلفا في شيء فقال اليهودي نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم لعلمه أنه يحكم بالعدل ولا يأخذ رشوة، وقال المنافق نتحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي، فتحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى لليهودي فنزلت2 فيهما هذه الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} والمراد بهذا المنافق، {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} ، والمراد به اليهودي، والاستفهام للتعجب. ألم ينته إلى علمك موقف هذين الرجلين {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} "كعب3 بن الأشرف" أو الكاهن الجهني، وقد أمرهم الله أن يكفروا به {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} ، حيث زين لهم لهم التحاكم عند الكاهن أو كعب اليهودي. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} ليحكم بينكم رأيت ياللعجب المنافقين يعرضون عنك اعراضاً هاربين من حكمك غير راضين بالتحاكم إليك لكفرهم بك وتكذيبهم لك {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} وحلت بهم بسبب ذنوبهم أيبقون معرضين عنك؟ أم ماذا؟ {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} قائلين4، ما أردنا إلا الإحسان في عملنا ذلك والتوفيق بين المتخاصمين. هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث، وأما الرابعة وهو قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} فإن الله تعالى يشير إليهم بأولئك لبعدهم في الخسة والانحطاط، فيقول: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي: من النفاق والزيغ فهم عرضة للنقمة وسوء العذاب، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} فلا تؤاخذهم5، {وَعِظْهُمْ} آمراً إياهم بتقوى الله والإسلام له ظاهراً وباطناً، مخوفاً إياهم من عاقبة سوء أفعالهم بترك التحاكم إليك وتحاكمهم إلى الطاغوت، وقل لهم في خاصة أنفسهم قولاً بليغاً ينفذ إلى قلوبهم فيحركها ويذهب عنها غفلتها علهم يرجعون.
__________
1 صيغة جمع الواردة في الآية مثل: {يُريدون أن يَتَحاكموا} تشير إلى كثرة المنافقين، ومن أمثال اليهودي والمنافق صاحبي القصة التي نزلت الآية فيها.
2 روي أن المنافق لم يرض بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب باليهودي إلى أبي بكر فحكم بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرض المنافق فذهب بخصمه اليهودي إلى عمر، فذكر له اليهودي القصة، فقال عمر للمنافق وهو يشير: أكذا هو؟ قال: نعم. قال: رويدكما حتى أخرج إليكما. فدخل وأخذ السيف ثم ضرب به المنافق حتى برد، وقال هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله. وهرب اليهودي ونزلت هذه الآية وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: "أنت الفاروق" .
3 قيل فيه: طاغوت لأنه ذو طغيان زائد في الظلم والشر والفساد.
4 هؤلاء هم: قوم القتيل المنافق جاءوا يطالبون بدية أخيهم في النفاق، وقالوا: الكثير أكثر مما ذكر في الآية، وكل أقوالهم باطلة أملاها النفاق، ولذا أمر الرسول بالإعراض عنهم.
5 أي: لا تؤاخذهم فيما يبطنونه من الكفر ما داموا لم يظهروه علناً.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إذا وُجد عالم بهما.
2- وجوب الكفر بالطاغوت أياً كان نوعه.
3- وجوب الدعوة إلى التحاكم إلى الكتاب والسنة ووجوب قبولها.
4- استحباب الإعراض عن ذوي الجهالات، ووعظهم بالقول البليغ الذي يصل إلى قلوبهم فيهزها.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً(64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما(65)}
شرح الكلمات:
{بِإِذْنِ اللَّهِ} : إذن الله: إعلامه بالشيء وأمره به.
{ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} : بالتحاكم إلى الطاغوت وتركهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} : طلبوا منه أن يغفر لهم بلفظ اللهم اغفر لنا، أو استغفروا الله.
{يُحَكِّمُوكَ} : يجعلونك حكماً بينهم ويفوضون الأمر إليك.
{فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ1} : أي: اختلفوا لاختلاط وجه الحق والصواب فيه بالخطأ والباطل.
{حَرَجاً} : ضيفاً وتحرجاً.
{مِمَّا قَضَيْتَ} : حكمت فيه.
{وَيُسَلِّمُوا} : أي: يذعنوا لقبول حكمك ويسلمون به تسليماً تاماً.
__________
1 شجر: اختلط واختلف، ومنه سمي الشجر شجراً لاختلاط أغصانه، قال طرفة:
وهم الحكام أرباب الهدى ...
وسعاة الناس في الأمر الشجر

معنى الآيتين:
بعد تقرير خطأ وضلال من أراد أن يتحاكما إلى الطاغوت، كعب بن الأشرف اليهودي، وهما: اليهودي والمنافق في الآيات السابقة أخبر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه ما أرسل رسولاً1 من رسله المئات إلا وأمر المرسل إليهم بطاعته واتباعه والتحاكم إليه وتحكيمه في كل ما يختلفون فيه، وذلك أمره وقضاؤه وتقديره فيما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن كما أخبر تعالى أن أولئك الظالمين لأنفسهم بتحاكمهم2 إلى الطاغوت وصدودهم عن التحاكم إليك أيها الرسول لو جاءوك متنصلين من خطيئتهم مستغفرين الله من ذنوبهم واستغفرت لهم أنت أيها الرسول، أي: سألت الله تعالى لهم المغفرة لو حصل منهم هذا لدل ذلك على توبتهم وتاب الله تعالى عليهم فوجدوه عز وجل {تَوَّاباً رَحِيماً} . هذا معنى الآية(64) {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} .
وأما الآية الثانية(65) {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ3 حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما} فإن الله تعالى يقول {فَلا} أي: ليس الأمر كما يزعمون، ثم يقسم تعالى فيقول: {وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} أيها الرسول، أي: يطلبون حكمك فيما اختلفوا فيه واختلط عليهم من أمورهم ثم بعد حكمك لا يجدون في صدورهم أدنى شك في صحة حكمك وعدالته، في التسليم له والرضا به وهو معنى الحرج المتبقي في قوله، {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما} .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به وينهى عنه.
2- بطلان من يزعم أن في الآية دليلاً على جواز طلب الاستغفار4 من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن
__________
1 من هذه الآية: {وما أرسلنا من رسول} مزيدة لتقوية الكلام وإفادة العموم.
2 تقدم أن الخطاب بصيغة الجمع وإن كان المتحاكمان اثنين فقط، فإن الحكم فيهم وفي غيرهم، فكل من يصدر عنه هذا النوع من الذنب فتوبته هي: ما ذكر تعالى في هذه الآية.
3 قيل أن هذه الآية: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} نزلت في الزبير والأنصاري في قضية سقي البستان، إذا اختلفا وأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: "اسقي يا زبير أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك" . أي: الأول، فقال الأنصاري: أراك تحابي ابن عمتك. فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال للزبير: "اسق ثم أحبس الماء حتى يبلغ الجدر" ، فنزلت الآية. والحديث في صحيح البخاري.
4 وذلك أنه لو كان كل مذنب لا يغفر له إلا إذا أتى الرسول صلى الله عليه وسلم واستغفر له لما تاب أحد، وللذم أن يبقى الرسول حياً ليستغفر للمذنبين بمثل هذا الذنب، ولا قائل بها ولا يعقل ولم يشرع أبداً، وكل حكاية ذكرت في هذه المسألة فهي باطلة.

قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} الآية نزلت في الرجلين اللذين أرادا التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي وإعراضهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشترط توبتهما إتيانهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفارهما الله تعالى، واستغفار الرسول لهما، وبذلك تقبل توبتهما، وإلا فلا توبة لهما، أما من عداهما فتوبته لا تتوقف على إتيانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لاستغفاره له وهذا محل إجماع بين المسلمين.
3- كل ذنب كبر أو صغر يعتبر ظلماً للنفس وتجب التوبة منه بالاستغفار والندم والعزم على عدم مراجعته بحال من الأحوال.
4- وجوب التحاكم إلى الكتاب والسنة وحرمة التحاكم إلى غيرهما.
5- وجوب الرضا1 بحكم الله ورسوله والتسليم به.
{وَلَوْ2 أَنَّا كَتَبْنَا3 عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً(66) وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً(67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً(68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ4 أُولَئِكَ رَفِيقاً(69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً(70)}
__________
1 قضى أهل العلم أن السيل إذا كان بسبب مطر فإن الأعلى يقدم على الأسفل، فيسقي من وصل إليه السيل حتى يبلغ الماء الكعبين في أرضه، ثم يرسل السيل كله إلى من تحته فيسقي، ثم يرسل إلى من تحته، وهكذا. وهو قول المالكية مأخوذ من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية الزبير والأنصاري وهو الحق.
2 لو حرف امتناع لامتناع أي امتناع شيء لامتناع غيره، إذ امتنع القتل لامتناع ا لكتب له.
3 روي أنه لما نزلت هذه الآية: {وَلو أنا كَتبْنا} قال أبو بكر الصديق: "لو أمرنا لفعلنا"، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي" .
4 "حسن" مضمن معنى التعجب، فهو كنعم المدح، أي: مدح الحسن فيه، وأولئك فاعلة، ورفيقا: منصوب على التمييز.

شرح الكلمات:
{كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} : فرضنا عليهم وأوحينا.
{أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} : أي: قتل أنفسهم.
{مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} : أي: ما فعل القتل إلا قليل1 منهم.
{مَا يُوعَظُونَ بِهِ} : أي: ما يؤمرون به وينهون عنه.
{وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} : أي: للإيمان في قلوبهم.
{وَالصِّدِّيقِينَ} : جمع صديق: وهو من غلب عليه الصدق في أقواله وأحواله لكثرة ما يصدق ويتحرى الصدق.
{وَالشُّهَدَاءِ} : جمع شهيد: من مات في المعركة ومثله من شهد بصحة الإسلام بالحجة والبرهان.
{وَالصَّالِحِينَ} : جمع صالح: من أدى حقوق الله تعالى وأدى حقوق العباد، وصلحت نفسه وصلح عمله وغلب صلاحه على فساده.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن أولئك النفر الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به فقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} أي: يقتل بعضكم بعضاً كما حصل ذلك لبني إسرائيل لما فعلوا كما أنا لو كتبنا عليهم أن يخرجوا من ديارهم مهاجرين في سبيلنا {مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ} منهم. ثم قال تعالى داعياً لهم مرغباً لهم في الهداية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} أي: ما يذكرون به ترغيباً وترهيباً من أوامر الله تعالى لهم بالطاعة والتسليم لكان ذلك خيراً في الحال والمآل، {وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} للإيمان في قلوبهم وللطاعة على جوارحهم، لأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والحسنة تنتج حسنة، والسيئة تتولد عنها سيئة. ويقول تعالى: {وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً} يريد لو أنهم استجابوا لنا وفعلوا ما أمرنا به من الطاعات، وتركوا ما نهيناهم عنه من المعاصي لأعطيناهم من لدنا أجراً يوم يلقوننا ولهديناهم في الدنيا {صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} ألا وهو الإسلام الذي هو طريق الكمال والإسعاد في الحياتين وهدايتهم إليه هي توفيقهم للسير فيه
__________
1 قرئ: {إلا قليلا} بالنصب، و {إن لا قليل} بالرفع، وقراءة الرفع مراعى فيها اللفظ وهو أولى، ولذا هي أكثر وأشهر.

وعدم الخروج عنه. هذا ما دلت عليه الآيات:(66-67-68).
أما الآية(69) وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ1 وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} فقد روى ابن جرير في تفسيره: أنها نزلت حين قال بعض2 الصحابة يا رسول الله ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا فلم نرك فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِك} الآية. وما أنعم الله تعالى عليه هو الإيمان بالله تعالى ومعرفته عز وجل ومعرفة محابه ومساخطه والتوفيق لفعل المحاب وترك المساخط هذا في الدنيا، وأما ما أنعم به عليهم في الآخرة فهو الجوار الكريم في دار النعيم. والصديقين هم الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا بكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر به والشهداء: جمع شهيد، وهو من قتل في سبيل الله. والصالحون: جمع صالح، وهو من أدى حقوق الله تعالى وحقوق عباده كاملة غير منقوصة، وقوله تعالى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً3} يريد وحسن أولئك رفقاء في الجنة يستمتعون برؤيتهم والحضور في مجالسهم، لأنهم ينزلون إليهم، ثم يعودون إلى منازلهم العالية ودرجاتهم الرفيعة، وقوله تعالى: {ذَلِكَ4 الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} يريد أن ذلك الالتقاء مع من ذكرتم لهم بفضل الله تعالى، لا بطاعتهم. وقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} أي: بأهل طاعته وأهل معصيته وبطاعة المطيعين ومعصية العاصين، ولذلك يتم الجزاء عادلاً رحيماً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- قد يكلف الله تعالى بالشاق للامتحان والابتلاء؛ كقتل النفس والهجرة من البلد ولكن لا يكلف بما لا يطاق.
2- الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعصيات.
__________
1 في هذه الآية إشارة أصرح من عبارة: على خلافة أبي بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ ذكر الله تعالى الأنبياء ثم ثنى بالصديقين، وقد أجمع المسلمون على تسمية أبي بكر بالصديق، كما أجمعوا على تسمية محمد صلى الله عليه وسلم بالنبي، فدل على تعيين خلافة أبي بكر، إذ لم يقدم عليه أحد في الذكر سوى الأنببياء.
2 من بين القائلين: ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي أُري الآذان في المنام.
3 روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من نبي يمرض إلا خُيّر بين الدنيا والآخرة" ولما كان في مرضه الذي قبض فيه أخذته بحة شديدة فسمعته يقول: "{مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم} ". الآية فعلمت أنه خير وكان يقول: "اللهم الرفيق الأعلى" ، وهو يعاني سكرات الموت، فصلى الله عليه وسلم.
4 في قوله تعالى: {ذَلِكَ الفَضْل مِنَ الله} ، رد على المعتزلة، إذ قالوا: إنما ينال العبد ما يناله بعمله، والله قدر رد ذلك الإكرام والإنعام لفضله، وهو كذلك عقلاً وشرعاً، ويلزم اعتقاداً.

5- الطاعات تثمر قوة الإيمان وتؤهل لدخول الجنان.
4- مواكبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة ثمرة من ثمار طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً(71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً(72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً(73)}
شرح الكلمات:
{خُذُوا حِذْرَكُمْ} : الحذر والحذر: الاحتراس والاستعداد لدفع المكروه بحسبه.
{فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ1} : النفور: الخروج في اندفاع وانزعاج، والثبات: جمع ثبت، وهي: الجماعة.
{لَيُبَطِّئَنَّ2} : أي: يتبطأ في الخروج فلا يخرج.
{مُصِيبَةٌ} : قتل أو جراحات وهزيمة.
{شَهِيداً} : أي: حاضراً الغزوة معهم.
{فَضْلٌ} : نصر وغنيمة.
{مَوَدَّةٌ} : صحبة ومعرفة مستلزمة للمودة3.
{فَوْزاً عَظِيماً} : نجاة من معرة التخلف عن الجهاد، والظفر بالسلامة والغنيمة.
__________
1 أصل ثبة، ثبي أو ثبوة بالباء والواو، وقد تصغر على ثبية، وهل اشتقاقها من ثبة الحوض، أي محل اجتماع الماء فيه؛ لأن الثبة: الجماعة، وثاب الماء يثوب إذا اجتمع.
2 حمل مجاهد وقتادة وابن جريج الآية على المنافقين، وحملها بعضهم على ضعفة الإيمان، وحملها على الجميع أقرب إلى الصحة والصواب، والله أعلم.
3 إذا كان الصاحب من ضعفة الإيمان فهو كذلك، وإن كان منافقاً فإن المودة هنا بمعنى: مجرد الصحبة لا غير لأن المنافق لا يحب المؤمن إلا نادراً.

معنى الآيات:
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ1 فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً2} ينادي الله تعالى عباده المؤمنين، وهم في فترة يستعدون فيها لفتح مكة وإدخاله في حظيرة الإسلام، خذوا الأهبة والاستعداد حتى لا تلاقوا عدوكم وأنتم ضعفاء، قوته أشد من قوتكم {فانفروا ثباتٍ} عصابة بعد عصابة وجماعة بعد أخرى {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} بقيادتكم المحمدية وذلك بحسب ما يتطلبه الموقف وتراه3 القيادة ثم أخبرهم وهو العليم أن منهم، أي: من عدادهم وأفراد مواطنيهم لمن والله ليبطئن عن الخروج إلى الجهاد نفسه وغيره معاً؛ لأنه لا يريد لكم نصراً لأنه منافق كافر الباطن وإن كان مسلم الظاهر ويكشف عن حال هذا النوع من الرجال الرخيص فيقول: {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ} أيها المؤمنون الصادقون {مُصِيبَةٌ} قتل أو جراح أو هزيمة قال في فرح بما أصابكم وما نجا منه: لقد أنعم الله عليَّ إذ لم أكن معهم حاضراً فيصيبني ما أصابهم، {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ} أي: نصر وغنيمة {لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} أي: معرفة ولا صلة يا ليتني متمنياً حاسداً –كنت معهم في الغزاة {فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} بالنجاة من معرة التخلف والظفر بالغنائم والعودة سالماً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب أخذ الأهبة والاستعداد التام على أمة الإسلام في السلم والحرب سواء.
2- وجوب وجود خبرة عسكرية كاملة وقيادة رشيدة مؤمنة حكيمة عليمة.
3- وجود منهزمين روحياً مبطئين حسدة بين المسلمين وهم ضعاف الإيمان فلا يؤبه لهم ولا يلتفت إليهم.
__________
1 أخذ الحذر هو توقي المكروه بالأسباب الممكنة المشروعة، وجملة: {فَانفروا ثُبات} إلخ. تفريع بذكر بعض أسباب توفي المحذور.
2 أخذ الحذر واجب لأنه سبب شرعه الله تعالى لتوقي المكروه، ولكنه لا يمنع المقدور، وأخطأت القدرية إذا قالوا: الحذر يرد القدر، ولولا أنه كذلك ما أمروا به، وهو خطأ اعتقادي، فالأسباب تؤتى طاعة لله تعالى، وأما دفع المقدور، أي: ما قدره الله على الإنسان فلابد من وقوعه، وفائدة الأخذ بالأسباب: إبعاد الخوف عن النفس وحصول شعور بالفوز والنجاة.
3 هل هذه الآية وهي متقدمة في النزول على آية التوبة: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} منسوخة بها؟. والجواب: أن فرض الجهاد على الكفاية، ولذا فلا نسخ، وإنما هذه في حال وتلك في أخرى، وهي: أن يرى الإمام النفير العام لا غير.

{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً(74) وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً(75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً(76)}
شرح الكلمات:
{سَبِيلِ اللَّهِ} : الطريق الموصلة إلى إعلاء كلمة الله تعالى بأن يعبد وحده، ولا يضطهد مسلم في دينه، ولا من أجل دينه.
{يَشْرُونَ} : يبيعون، إذ يطلق الشراء على البيع أيضاً.
{وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} : المستضعف الذي قام به عجز فاستضعفه غيره فآذاه لضعفه.
{الْقَرْيَةِ} : القرية في عرف القرآن: المدينة الكبيرة والجامعة والمراد بها هنا مكة المكرمة.
{فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} : أي: في نصرة الشرك ومساندة الظلم والعدوان ،ونشر الفساد.
معنى الآيتين:
بعد ما أمر الله تعالى عباده المؤمنين بأخذ حذرهم وهو الأهبة للقتال أمرهم أن يقاتلوا فقال: { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا بِالآخِرَةِ} أي: يبيعون الدنيا ليفوزوا بالآخرة وهم المؤمنون حقاً فيقدمون أموالهم وأرواحهم طلباً للفوز بالدار الآخرة يقاتلون من لا يؤمن بالله ولا بلقائه بعد أن يدعوه إلى الإيمان بربه والتوبة إليه، ثم أخبرهم.

أن من يقاتل استجابة لأمره تعالى فيقتل، أي: يستشهد أو يغلب وينتصر على كلا الحالين فسوف يؤتيه1 الله تعالى أجراً عظيماً، وهو النجاة من النار ودخول الجنة. هذا ما دلت عليه الآية الأولى(74).
أما الآية الثانية(75) فإن الله تعالى بعدما أمر عباده بالجهاد استحثهم على المبادرة وخوض المعركة بقوله: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ2 فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ليعبد وحده ويعز أولياءه {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ3 مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} الذين يضطهدون من قبل المشركين ويعذبون من أجل دينهم حتى صرخوا وجاروا بالدعاء إلى ربهم قائلين: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} بلى أمرنا ويكفينا ما أهمنا، {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} ينصرنا على أعدائنا، أي: شيء يمنعكم أيها المؤمنون من قتال في سبيل الله، لُيعبد وحده، وليتخلص4 المستضعفون من فتنة المشركين لهم من أجل دينهم؟
ثم في الآية الثالثة(75) أخبر تعالى عباده المؤمنين حاضاً لهم على جهاد أعدائه وأعدائهم بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لأنهم يؤمنون به وبوعده ووعيده {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} وهو الكفر5 والظلم لأنهم لا يؤمنون بالله تعالى ولا بما عنده من نعيم، ولا بما لديه من عذاب ونكال {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} وهم الكفار، ولا ترهبوهم {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ} وما زال {ضَعِيفاً} ، فلا يثبت هو وأولياؤه من الكفرة، أمام جيش الإيمان أولياء الرحمن.
__________
1 ظاهر الآية: التسوية بين من قتل شهيداً، وبين من انتصر ورجع بنفسه وهناك حديثان: أحداهما يقتضي التسوية وآخر ينفيها. فالأول: حديث أبي هريرة "تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسولي فهو علىَ ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر وغنيمة" رواه مسلم. والثاني: "ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم" والجمع بينهما أن من غزا ناوياً الأجر والغنيمة ثم غنم وسلم نقص أجره في الآخرة، فلم تكن درجته كالذي استشهد ولم يغنم، ولا كالذي نوى الأجر دون الغنيمة أيضاً. والسبب الفارق: هو اشتراك النية وعدم خلوصها.
2 الاستفهام إنكاري؛ أي ينكر عليهم قعودهم على القتال في سبيل الله، أي: لانقاذ المؤمنين من فتنة المشركين وإنقاذ أولادهم من أن يشبوا ويكبروا على أحوال الكفر جاهلين بالإيمان والإسلام.
3 قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كنت أنا وأمي من المستضعفين". وفي رواية البخاري قال: "كنت أنا وأمي ممن عذر الله وأنا من الولدان وأمي من النساء"، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت لهم فيقول: "اللهم أنجي الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة المستضعفين من المؤمنين" .
4 الإجماع على وجوب تخليص الأسرى من المسلمين بالقتال أو بالمال، ولا يحل تركهم تحت الكفر يضطهدهم ويعذبهم من أجل دينهم. وفي الحديث الصحيح: "فكوا العاني" وهو الأسير، وسمي العاني لما يعانية من آلام وأتعاب. والمسلمون اليوم أسرى تحت اليهود في فلسطين، والمسلمون تاركون لهم غير مهتمين بهم، وهو ذنب عظيم.
5 يطلق الطاغوت على ما عبد من دون الله، ويطلق على من دعا إلى عبادة غير الله؛ كالشيطان وغيره من الجن والإنس الذين يدعون إلى عبادة الأصنام والأشخاص وغيرها، وفي هذه الآية يناسب أن يكون الطاغوت هو الشيطان، لقوله: بعد أولياء الشيطان، وإطلاقنا: الطاغوت على الكفر والظلم مراعاة لحال الناس، فإن أكثرهم يقاتل نصرا للكفر الذي هو عليه أو لإبقاء ظلمه واستعلاؤه في الأرض.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فرضية القتال في سبيل الله ولأجل انقاذ المستضعفين من المؤمنين نصرة للحق وإبطالاً للباطل.
2- المقاتل في سبيل الله باع دنياه واعتاض عنها الآخرة، ولنعم البيع.
3- المجاهد يؤوب بأعظم صفقة سواء قتل، أو انتصر وغلب وهي الجنة.
4- لا يمنع المؤمنين من الجهاد خوف أعدائهم، لأن قوتهم من قوة الشيطان وكيد الشيطان ضعيف.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً(77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً(78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً(79)}
شرح الكلمات:
{كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} : أي: عن القتال وذلك قبل أن يفرض.
{كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} : فرض عليهم.

{يَخْشَوْنَ} : يخافون.
{لَوْلا أَخَّرْتَنَا} : هلا أخرتنا1.
{فَتِيلاً} : الفتيل: خيط يكو في وسط النواة.
{بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} : حصون مشيدة بالشيد، وهو الجص.
{مِنْ حَسَنَةٍ} : الحسنة: ما سر، والسيئة: ما ضر.
معنى الآيات:
روى أن بعضاً من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم طالبوا بالإذن لهم بالقتال ولم يؤذن لهم لعدم توفر أسباب القتال، فكانوا يؤمرون بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ريثما بأذن الله تعالى لرسوله بقتال المشركين، ولما شرع القتال جبن فريق منهم عن القتال وقالوا: {لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} متعللين2 بعلل واهية، فأنزل الله تعالى فيهم هاتين الآيتين(77)و(78) { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} أي: عن القتال {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ريثما يأذن الله بالقتال عندما تتوفر إمكانياته، فلما فرض القتال ونزل قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} جبنوا ولم يخرجوا للقتال، وقالوا: {لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} يريدون أن يدافعوا الأيام حتى يموتوا ولم يلقوا عدواً خوراً، فأمر تعالى الرسول أن يقول لهم: { مَتَاعُ الدُّنْيَا3 قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} فعيشكم في الدنيا مهما طابت لكم الحياة هو قليل {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} الله بفعل أمره وترك نهيه بعد الإيمان به وبرسوله، وسوف تحاسبون على أعمالكم وتجزون بها {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} لا ينقص حسنة ولا بزيادة سيئة. هذا ما تضمنته الآية الأولى.
أما الآية الثانية فقد قال تعالى لهم ولغيرهم ممن يخشون القتال ويجبنون عن الخروج للجهاد: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} ، إذ الموت طالبكم ولابد أن يدرككم، كما قال تعالى لأمثالهم: { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} ، ولو دخلتم حصوناً4 ما فيها كوة ولا نافذة
__________
1 المراد من التأخير إلى أجل قريب: هو أن يتم استعدادهم للقتال لتوفر المال والرجال والعتاد لا إلى أجل الموت فإنه غير وارد في قولههم: هذا ولا معنى له، وهل قولهم كان في أنفسهم أو صرحوا به؟ كلاهما وارد وجائز الوقوع.
2 اختلف هل هذه الآية نزلت في المؤمنين أو المنافقين؟ والصواب أنها نزلت في بعض المؤمنين ممن ضعف إيمانهم، أما كونها نزلت في اليهود فلا معنى له، وكونها شملت المنافقين فهذا حق بدليل سياق الآيات.
3 يبين قلة متاع الدنيا قوله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الدنيا كراكب قال قيلولة تحت شجرة ثم راح وتركها" .
4 تفسير لقوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} إذ البرج: البناء المرتفع والقصر العظيم. قال طرفة، يصف ناقة:
كأنها برج رمي يكففها ... بانٍ بشيد وآجرٍ وأحجار
وفي الآية رد على القدرية القائلين: المقتول لو لم يقتله عاش.

فإن الموت يدخلها عليكم ويقبض أرواحكم، ولما ذكر تعالى جبنهم وخوفهم ذكر تعالى سوء فهمهم وفساد ذوقهم فقال: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} يعني أنه إذا أصابهم خير من غنيمة أ خصب ورخاء، قالوا: {هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} لا شكراً لله وإنما لا يريدون أن ينسبوا إلى رسول الله شيئاً من خير كان ببركته وحسن قيادته، وإن تصبهم سيئة فقر أو مرض أو هزيمة يقولون: {هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ1} ، أي: أنت السبب فيها. قال تعالى لرسوله: قل لهم {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الحسنة والسيئة، هو الخالق والواضع السنن لوجودها وحصولها. ثم عليهم في نفسياتهم الهابطة، فقال: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} هذا ما دلت عليه الآية الثانية.
أما الآية الثالثة والأخيرة في هذا السياق، وهي قوله تعالى: { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ2 مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ3} الآية، فإن الله تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم فيخبره بأن الحسنة من الله تعالى، إذ هو الآمر بقولها أو فعلها وموجد أسبابها الموفق للحصول عليها، أما السيئة فمن النفس، إذ هي التي تأمر بها، وتباشرها مخالفة فيها أمر الله أو نهيه، فلذا لا يصح نسبتها إلى الله تعالى. وقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} يُسلي به رسوله عما يلاقيه من أذى الناس وما يصادفه من سوء أخلاق بعضهم؛ كالذين ينسبون إليه السيئة تطيراً به فيخبره بأن مهمته أداء الرسالة، وقد أداها والله شاهد على ذلك ويجزيك عليه بما أنت أهله وسيجزي من رد رسالتك وخرج عن طاعتك وكفى بالله شهيداً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- قبح الاستعجال والجبن وسوء عاقبتهما.
2- الآخرة خير لمن اتقى من الدنيا4.
__________
1 لقد شارك يهود في هذا القول، فقد روى أنهم لما نزل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً، قالوا: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا، ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه!!.
2 إن الخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم فهو عام في كل إنسان لاسيما المؤمن، أو هو من باب: إياك أعني، واسمعي يا جارة، وكونه خاصاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، ومعناه عام هو الصحيح.
3 زاد بعضهم جملة: وإنا كتبا عليك، وهي ليست قرآناً إجماعاً، وإنما هي تفسير من بعض الصحابة، ولا التفات لمن طعن في القرآن بمثل هذه الزيادة التفسيرية.
4 وما أحسن ما قيل في معنى الآية شعراً:
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له ... من الله في دار ا لمقام نصيب
فإن تعجب الدنيا رجالاً فإنها ...
متاع قليل والزوال قريب

3- لا مفر من الموت ولا مهرب منه بحال1 من الأحوال.
4- الخير والشر كلاهما بتقدير الله تعالى.
5- الحسنة من الله والسيئة من النفس، إذ الحسنة أمر الله بأسبابها بعد أن أوجدها وأعان عليها، وأبعد الموانع عنها، والسيئة من النفس؛ لأن الله نهى عنها وتوعد على فعلها، ولم يوفق إليها ولم يعن عليها فهي من النفس2 لا من الله تعالى.
{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً(80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً(81) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً(82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً(83)}
شرح الكلمات:
{حَفِيظاً} : تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها.
{طَاعَةٌ} : أي: أمرنا طاعة لك.
{بَرَزُوا} : خرجوا.
__________
1 قال زهير بن سلمة:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلّم
2 قال قتادة: رواية لا يصيب رجلاً خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر، وفي الحديث الصحيح: "والذي نفسه بيده لا يصيب هم ولا حزن ولا نصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه بها من خطاياه" فهو دال على حديث قتادة الضعيف.

{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ} : تدبر القرآن، قراءة الآية أو الآيات وإعادتها المرة بعد المرة ليفقه مراد الله تعالى منها.
{أَذَاعُوا بِهِ} : أفشوه معلنينه للناس.
{يَسْتَنْبِطُونَهُ} : يستخرجون معناه الصحيح.
معنى الآيات:
في قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ1} إنذار إلى الناس كافة في أن من لم يطع الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم ما أطاع الله تعالى، إن أمر الرسول من أمر الله ونهيه من نهي الله تعالى فلا عذر لأحد في عدم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: {وَمَنْ تَوَلَّى} أي: عن طاعتك فيما تأمر به وتنهى عنه، فدعه ولا تلتفت إليه إذ لم نرسلك لتحصي عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتجزيهم بها، إن عليك إلا البلاغ، وقد بلغت فاعذرت. وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} أي: ويقول أولئك المنافقون المنطيرون بك السيئو الفهم لما تقول: طاعة أي: أمرنا طاعة لك، أي: ليس لنا ما نقول إذا قلت ولا ما نأمر به إذا أمرت، فنحن مطيعون لك {فَإِذَا بَرَزُوا} أي: خرجوا من مجلسك بدل طائفة منهم غير الذي تقول واعتزموه دون الذي وافقوا عليه أمامك، وفي مجلسك، والله تعالى يكتب بواسطة ملائكته الكرام الكاتبين ما يبيتونه2 من الشر والباطل. وعليه {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ولا تبال بهم {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} فهو حسبك وكافيك ما يبيتونه من الشر لك.
وقوله تعالى في الآية الثانية(82) {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ3 الْقُرْآنَ} يؤتيهم بإعراضهم وجهلهم وسوء فهمهم، إذ لو تدبروا القرآن وهو يُتلى عليهم وسمعوه صباح مساء لعرفوا أن الرسول حق وأن ما جاء به حق فآمنوا وأسلموا وحسن إسلامهم، وانتهى نفاقهم الذي أفسد قلوبهم وعفن آرائهم، إن تدبر القرآن بالتأمل فيه وتكرار آياته مرة بعد أخرى يهدي إلى معرفة الحق
__________
1 مصداقه في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: " من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعصي الأمير فقد عصاني ".
2 بيتوا: زوروا وبدلوا، إن التبييت: هو تدبر الأمر بالليل حيث اتساع الوقت والفراغ من العمل وقلة العيون، وبيتوا العدو: أتوه ليلاً، قال الشاعر:
أجمعوا أمرهم بليل فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
3 في هذه الآية: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} مع آية سورة القتال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} دليل على وجوب تدبر القرآن لفهم معانيه، لاعتقاد الحق والعمل به، وفيه رد على من زعم أنه لا يؤخذ من القرآن إلا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسيره، ودليل على وجوب النظر والاستدلال وإبطال التقليد.

من الباطل وأقرب ما يفهمونه لو تدبروا القرآن كلام الله تعالى وليس كلام بشر، إذ لو كان كلام بشر لوجد فيه التناقض والاختلاف والتضاد، ولكنه كلام خالق البشر، فلذا هو متسق الكلم متآلف الألفاظ والمعاني محكم الآي هادٍ إلى الإسعاد والكمال، فهو بذلك كلام الله حقاً ومن شرف بإنزاله عليه رسول حق ولا معنى أبداً للكفر بعد هذا والإصرار عليه، ومنافقة المسلمين فيه. هذا معنى قوله تعالى: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} .
وقوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} وهي الآية الرابعة(83) فإن الله تعالى يخبر عن أولئك المرضى بمرض النفاق ناعياً عليهم إرجافهم وهزائمهم المعنوية فيقول {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ} أي: إذا وصل من سرايا الجهاد خبر بنصر أو هزيمة سارعوا بإفشائه وإذاعته، وذلك عائد إلى مرض قلوبهم لأن الخبر وأطلق عليه لفظ الأمر؛ لأن حالة الحرب غير حالة السلم إذا كان بالنصر المعبر عنه بالأمن فهم يعلنونه حسداً أو طمعاً، وإذا كان بالهزيمة المعبر عنها بالخوف يعلنونه فزعاً وخوفاً؛ لأنهم جبناء كما تقدم وصفهم، قال تعالى في تعليمهم وتعليم غيرهم ما ينبغي أن يكون عليه المجاهدون في حال الحرب. {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ} القائد الأعلى، {وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ} وهم أمراء السرايا المجاهدة {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ1} أي: لاستخرجوا سر الخبر وعرفوا ما يترتب عليه فإن كان نافعاً أذاعوه، وإن كان ضاراً أخوفه. ثم قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أيها المؤمنون {لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ2} في قبول تلك الإشاعات المغرضة والإذاعات المثبطة {إِلا قَلِيلاً} منكم من ذوي الآراء الصائبة والحصافة العقلية، إذ مثلهم لا تثيرهم الدعاوى، ولا تغيرهم الأراجيف، ككبار الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم أجمعين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يطاع لذاته وإنما يطاع لذات الله عز وجل.
__________
1 الاستنباط مأخوذ من: استنبط الماء، إذا استخرجه من الأرض، والنبط: الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر أو ما يحفر. وسمي النبط نبطاً؛ لأنهم يستخرجون ما في الأرض، والاستنباط لغة الاستخراج، وفي هذه الآية دليل على الاجتهاد.
2 ما فسرنا به الآية أصح مما فسرت به، ولا التفات إلى ما أورد القرطبي من آراء عدة لا طائل تحتها.

2- وجوب تدبر القرآن لتقوية الإيمان1.
3- آية أن القرآن وحي الله وكلامه سلامته من التناقض والتضاد في الألفاظ والمعاني.
4- تقرير مبدأ أن أخبار الحرب لا تذاع إلا من قبل القيادة العليا حتى لا يقع الاضطراب في صفوف المجاهدين والأمة كذلك.
5- أكثر الناس يتأثرون بما يسمعون إلا القليل من ذوي الحصافة العقلية والوعي السياسي.
{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً(84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً(85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً(86)}
شرح الكلمات:
{وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} : حثهم على الجهاد وحرضهم على القتال.
{بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : قوتهم الحربية.
روَأَشَدُّ تَنْكِيلاً} : أقوى تنكيلاً، والتنكيل: ضرب الظالم بقوة حتى يكون عبرة لمثله فينكل عن الظلم.
الشفاعة2 : الوساطة في الخير أو في الشر فإن كانت في الخير فهي الحسنة وإن كانت في الشر فهي السيئة.
__________
1 واستنباط الأحكام واستخراج أنواع الهدايات فيه، إذ هو كتاب هداية للمؤمنين به، يهتدون إلى ما يكملهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة.
2 الشفاعة من الشفع، وهو الزوج ضد الفرد، وسميت شفاعة؛ لأن الشفيع يصير مع المشفوع له شفعاً، أي: زوجاً، والشفعة: ضم ملك إلى ملك.

{كِفْلٌ مِنْهَا} : نصيب منها.
{مُقِيتاً1} : مقتدراً عليه وشاهداً عليه حافظاً له.
{بِتَحِيَّةٍ} : تحية الإسلام، هي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
{أَوْ رُدُّوهَا} : أي: يقول: وعليكم السلام.
{حَسِيباً} : محاسباً على العمل مجازياً به خيراً كان أو شراً.
معنى الآيات:
ما زال السياق في السياسة الحربية، ففي هذه الآية: {فَقَاتِلْ2 فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} يأمر تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقاتل المشركين لأجل إعلاء كلمة الله تعالى بأن يعبد وحده وينتهي اضطهاد المشركين للمؤمنين وهو المراد من قوله {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وقوله: {لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ3} أي: لا يكلفك ربك إلا نفسك وحدها، أما من عداك فليس عليك تكليفه، ولكن حرض المؤمنين على القتال معك فحثهم على ذلك ورغبهم فيه. وقوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، وهذا وعد من عند الله تعالى بأن يكف بأس الذين كفروا فيسلط عليهم رسوله والمؤمنين فيبددوا قوتهم ويهزموهم فلا يبقى لهم بأس ولا قوة وقد فعل4، وله الحمد والمنة، وهو تعالى {أَشَدُّ بَأْساً} م كل ذي بأس {وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً} من غيره بالظالمين من أعدائه.
هذا ما دلت عليه الآية(84)، أما الآية(85) وهي قوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً} فهو إخبار منه تعالى بأن من يشفع شفاعة حسنة بأن يضم صوته مع مطالب بحق أو يضم نفسه إلى سرية تقاتل في سبيل الله، أو يتوسط لأحد في قضاء حاجته فإن للشافع
__________
1 شاهده قول الزبير بن عبد الملطب:
وذي صغن كففت النفس عنه ... وكنت على مساءته مقيتاً
أي: مقتدراً
2 هذه الفاء هي الفصيحة، والتقدير: إذا كان الأمر كما علمت من وجود المثبطين والخائفين والمرجوفين فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك.
3 في الآية دليل على شجاعة الرسول صلى الله عليه وسلم الخارقة للعادة، إذ كلفه الله به على انفراد وأمره بتحريض المؤمنين على القتال، ومعنى هذا: أنه أمره بالجهاد ولو كان وحده، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "والله لأقاتلهنم حتى تنفرد سالفتي" ، أي: حتى أموت. وتحريض المؤمنين هو أمرهم بالقتال وحثهم عليه لا على سبيل الإلزام، كما ألزم به هو صلى الله عليه وسلم.
4 فلم يقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دانت الجزيرة كلها بالإسلام، ولم يمض أكثر من ربع قرن حتى دخلت دولتا: الفرس والروم في الإسلام؛ لأن "عسى" من الله تعالى تفيد وجوب الوقوع.

قسطاً من الأجر والمثوبة، كما أن {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً} بأن يؤيد باطلاً أو يتوسط في فعل شر أو ترك معروف يكون عليه نصيب من الوزر، لأن الله تعالى على كل شيء مقتدر وحفيظ عليم. هذا ما دلت عليه الآية المذكورة.
أما الآية الأخيرة(86) فإن الله تعالى يأمر عباده المؤمنين بأن يردوا تحية من يحييهم بأحسن منها فإن لم يكن بأحسن فبالمثل، فمن قال: السلام عليكم، فليقل الراد: وعليكم السلام ورحمة الله، ومن قال: السلام عليكم ورحمة الله. فليرد عليه: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً1} فيه تطمين للمؤمنين على أن الله تعالى يثيبهم على إحسانهم ويجزيهم به.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم بدليل أنه كلف بالقتال وحده وفعل.
2- ليس من حق الحاكم أن يجند المواطنين تجنيداً إجبارياً، وإنما عليه أن يحضهم على التجنيد ويرغبهم فيه بوسائل الترغيب.
3- فضل الشفاعة في الخير، وقبح الشفاعة في الشر2.
4- تأكيد سنة التحية، ووجوب ردها بأحسن أو بمثل3.
5- تقرير ما جاء في السنة بأن السلام عليكم: يعطي عليها المسلم عشر حسنات ورحمة الله: عشر حسنات. وبركاته: عشر كذلك.
{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ
__________
1 حسيب، هنا: بمعنى محاسب، وحفيظ فلا يضيع حسنات العبد.
2 شاهده من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "اشفعوا تؤجروا" ، وليقضي الله على لسان نبيه ما أحب.
3 في الآية سنية إلقاء السلام ووجوب رده وقد بينت السنة أن القليل يسلم على الكثير، والقائم على القاعد، والراكب على الماشي، وأن الراد يكون بزيادة: ورحمة الله وبركاته. وأنه لا يسلم على المرأة الصغيرة خشية الفتنة. وأن المصلي إن سلم عليه رد السلام بالإشارة إن شاء الله.

أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً(88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً(89) إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً(90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً(91)}
شرح الكلمات:
{لا إِلَهَ إِلا هُوَ1} : لا معبود بحق إلا هو.
{فِئَتَيْنِ2} : جماعتين الواحدة فئة، أي: جماعة.
{أَرْكَسَهُمْ} : الارتكاس: التحول من حال حسنة إلى حال سيئة؛ كالكفر بعد الإيمان، أو الغدر بعد الأمان وهو المراد هنا.
{سَبِيلاً} : أي: طريقاً إلى هدايتهم.
__________
1 اسم الجلالة: {الله} مبتدأ، و{لا إله إلا الله} جملة معترضة، وجملة القسم واقعة موقع الخبر.
2 الفئة: الطائفة، اشتق لفظها من الفيء الذي هو الرجوع، إذ أفرادها يرجع بعضهم إلى بعض، وأصلها فيء، فحذفت الياء من وسطها لكثرة الاستعمال فصارت: فئة، بعد زيادة هاء التأنيث عوضاً عن الياء المحذوفة.

{وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} : الولي: من يلي أمرك، والنصير: من ينصرك على عدوك.
{يَصِلُونَ} : أي: يتصلون بهم بموجب عقد معاهدة بينهم.
{مِيثَاقٌ} : عهد.
{حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} : ضاقت.
{السَّلَمَ} : الاستسلام والانقياد.
{الْفِتْنَةِ} : الشرك.
{ثَقِفْتُمُوهُمْ} : وجدتموهم متمكنين منهم.
{ سُلْطَاناً مُبِيناً} :حجة بين على جواز قتالهم.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى الآيات قبل هذه أنه تعالى المقيت والحسيب، أي: القادر على الحساب والجزاء، أخبر عز وجل أنه الله الذي لا إله إلا هو، أي: المعبود دون سواه لربوبيته على خلقه، إذ الإله الحق ما كان رباً خالقاً رازقاً مدبراً بيده كل شيء وإليه مصير كل شيء، وأنه جامع1 الناس ليوم لا ريب في إتيانه وهو يوم القيامة.
هذا ما دلت عليه الآية الكريمة: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} ، ولما كان هذا خبراً يتضمن وعداً ووعيداً أكد تعالى إنجازه، فقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} اللهم إنه لا أحد أصدق منك.
أما الآيات الأربع الباقية، وهي(88) و(89)و(90) و(91) فقد نزلت لسبب معين وتعالج مسائل حربية معينة، أما السبب الذي نزلت فيه فهو اختلاف المؤمنين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في طائفة من المنافقين أظهروا الإسلام وهم ضليعون في موالاة الكافرين، وقد يكونون في مكة2، وقد يكونون في المدينة، فرأى بعض الأصحاب أن من الحزم الضرب على أيديهم وإنهاء نفاقهم، ورأى آخرون تركهم والصبر عليهم ما داموا يدعون الإيمان لعلهم
__________
1 قوله تعالى: {ليجمعنكم} جواب قسم، وهذا الجمع دلالة اللفظ أنه في القبور تحت الأرض ليبعثهم يوم القيامة، وقد تكون {إلى} صلة، ويكون الجمع هو جمع يوم القيامة.
2 السياق الكريم صالح لأن تكون الفئتان المختلف فيهما من مكة أو من المدينة، وقد ورد في الصحيح اختلاف المؤمنين في ابن أبي، ومن وافقه، ورجع من أحد دون قتال حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما يفني الكير خبث الحديد" كما ورد في غير الصحيح: أن جماعة في مكة تكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين، وأبوا أن يهاجروا فاختلف في شأنهم المؤمنون، ولا مانع من أن تعنى الآيات منافقي المدينة، ومنافقي مكة. إذ الخلاف وقع في كل منافقي مكة ومنافقي المدينة، ويرجح هذا الرأي صحة الخبر الأول وذكر الهجرة في الثاني.

بمرور الأيام يتوبون. فلما اختلفا واشتد الخلاف في شأنهم أنزل الله تعالى هذه الآيات فقال: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ1 بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ2 أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} ومعنى الآية، أي: شيء صيركم في شأن المنافقين فئتين؟ والله تعالى قد أركسهم في الكفر بسبب ما كسبوه من الذنوب العظام. أتريدون أيها المسلمون أن تهدوا من أضل الله، وهل يقدر أحد على هداية من أضله الله؟ وكيف، ومن يضلل الله حسب سنته في إضلال البشر لا يوجد له هادٍ، ولا سبيل لهدايته بحال من الأحوال.
ثم أخبر تعالى عن نفسية أولئك المنافقين المختلف فيهم فقال وهي الآية الثالثة(89) {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} أي: أحبوا من قلوبهم كفركم لتكونوا مثلهم، وفيه لازم وهو انتهاء الإسلام، وظهور الكفر وانتصاره.
ومن هنا قال تعالى محرماً موالاتهم إلى أن يهاجروا فقال: {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} تعولون عليهم في نصرتكم على إخوانهم في الكفر. ظاهر هذا السياق أن هؤلاء المنافقين هم بمكة وهو كذلك. وقوله تعالى: {حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ3} ، لأن الهجرة إلى المدينة تقطع صلاتهم بدار الكفر فيفتر عزمهم ويراجعوا الصدق في إيمانهم فيؤمنوا فإن هاجروا ثم تولوا عن الإيمان الصحيح إلى النفاق الكفر فأعلنوا الحرب عليهم {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} ؛ لأنهم بارتكاسهم لا خير فيهم ولا يعول عليهم.
ثم في الآية(90) استثنى لهم الرب تعالى صنفين من المنافقين المذكورين فلا يأخذونهم أسرى ولا يقاتلونهم، الصنف الأول الذين ذكرهم تعالى بقوله {إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ} أي: يلجأون {إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ4 مِيثَاقٌ} فبحكم استجارتهم بهم طالبين الأمان منهم فأمنوهم أنتم حتى لا تنقضوا عهدكم. والصنف الثاني قوم ضاقت صدورهم بقتالكم،
__________
1 جملة: {والله أرْكَسَهم} حالية.
2 الاستفهام إنكاري، وهو دال على جملة محذوفة تقديرها: أنهم قد أضلهم الله.
3 الهجرة: هجرتان، هي لمنافقي المدينة. الخروج إلى الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهجرة لمنافقي مكة، وهي إلى المدينة للإقامة بها. والهجرة أنواع: منها ترك المعاصي، لحديث: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ورسوله" ومنها هجرة الفساق وأهل البدع ليتوبوا من ذنوبهم.
4 قد اختلف في هؤلاء الذين بينهم وبين المؤمنين ميثاق وما دامت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فلا طائل تحت معرفتهم الآن، إذ العبرة أن في الآية دليل على جواز الموادعة بين أهل الحرب والمسلمين للضرورة.

وقتال قومهم فهؤلاء الذين يلم يستسيغوا قتالكم ولا قتال قومهم إن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم فلا تأخذوهم ولا تقتلوهم واصبروا عليهم، إذ لو شاء الله تعالى لسلطهم عليكم فلقاتلوكم هذا الصنف هو المعنى بقوله تعالى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} فما دام الله تعالى قد كفهم عنكم فكفوا أنتم عنهم. هذا معنى قوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} . أي: المسالمة والمهادنة {فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً1}. لأخذهم وقتالهم. هذا وهناك صنف آخر ذكر تعالى حكم معاملته في الآية الخامسة والأخيرة(91)، وهي قوله تعالى: ستجدون قوماً آخرين2 غير الصنفين السابقين { يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ3} فهم إذاً يلعبون على الحبلين كما يقال {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ} أي: إلى الشرك {أُرْكِسُوا فِيهَا} أي: وقعوا فيها منتكسين، إذ هم منافقون، إذ كانوا معكم عبدوا الله وحده، وإذا كانوا مع قومهم عبدوا الأوثان لمجرد دعوة يدعونها يلبون فيرتدون إلى الشرك، وهو معنى قوله تعالى: {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} ، وقوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} أي: إن لم يعتزلوا قتالكم ويلقوا إليكم السلام، وهو الإذعان والانقياد لكم، ويكفوا أيديهم فعلاً عن قتالكم {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} أي: حجة واضحة على جواز أخذهم وقتلهم حيثما تمكنتم منهم وعلى أي حال. هذا ما دلت عليه الآيات الخمس مع العلم أن الكف عن قتال المشركين قد نسخ بآيات براءة إلا أن لإمام المسلمين أن يأخذ بهذا النظام عند الحاجة إليه فإنه نظام رباني ما أخذ به أحد وخاب أو خسر، ولكن خارج جزيرة العرب إذ لا ينبغي أن يجتمع فيها دينان.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب توحيد الله تعالى في عبادته.
2- الإيمان بالبعث والجزاء.
__________
1 {سبيلا} : أي: إذناً بقتالهم بعد أن أمركم بقتال غيرهم، حيث وجدتموهم ممكنين منهم.
2 {سَتَجِدوُن} الوجدان هنا، بمعنى الإطلاع والعثور، أي: ستطلعون على قوم آخرين وصفهم كذا أو كذا.
3 أي: لا هم لهم إلا حظوظ أنفسهم، ولا سعي لهم إلا في خويصيتهم، فهم يظهرون المودة للمسلمين ليأمنوهم ويظهروها لقومهم ليؤمنوا أيضاً، قيل: هم غطفان وبنو أسد، قبل أن يحسن إسلامهم، وبنو عبد الدار بمكة أيضاً. إذ كانوا يأتون المدينة مظهرين الإسلام، ثم إذا عادوا إلى مكة عبدوا الأصنام.

3- خطة حكيمة لمعاملة المنافقين بحسب الظروف والأحوال.
4- تقرير النسخ في القرآن.
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً(92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً(93)}
شرح الكلمات:
{إِلا خَطَأً} : أي: إلا قتلاً خطأ، وهو أن لا يتعمد قتله؛ كأن يرمي صيداً فيصيب إنساناً.
{رَقَبَةٍ} : أي: مملوك عبداً كان أو أمة 1.
{مُسَلَّمَةٌ} : مؤداة وافية2.
{إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} : أي: يتصدقوا بها على القاتل فلا يطالبوا بها ولا يأخذوها منه.
__________
1 لابد أن تكون الرقبة مؤمنة، وهل يجب أن تكون بالغة؟ إذ الإيمان يتم بالبلوغ، والذي عليه مالك: أنها تجزئ إذا كانت سليمة الأعضاء ولو لم تكن بالغة، وهو الراجح.
2 لقد بينت السنة أن دية الخطأ على العاقلة ولا خلاف فيها.

{مِيثَاقٌ} : عهداً مؤكد بالأيمان.
{مُتَعَمِّداً} : مريداً قتله وهو ظالم له.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى في الآيات السابقة قتال المنافقين متى يجوز ومتى لا يجوز ناسب ذكر قتل المؤمن الصادق في إيمانه خطأ وعمداً وبيان حكم ذلك، فذكر تعالى في الآية الأولى(92) أنه لا ينبغي1 لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا في حال الخطأ، أما في حال العمد فلا يكون ذلك منه ولا يتأتى له وهو مؤمن؛ لن الإيمان نور يكشف عن مدى قبح جريمة قتل المؤمن وما وراءها من غضب الله تعالى وعذابه فلا يقدم على ذلك اللهم إلا في حال الخطأ، فهذا وارد وواقع، وحكم من قتل خطأ أن يعتق رقبة ذكراً كانت أو أنثى مؤمنة وأن يدفع الدية لأولياء القتيل إلا أن يتصدقوا بها فلا يطالبوا بها ولا يقبلونها والدية مائة من2 الإبل، أو ألف دينار ذهب، أو اثنا عشر ألف درهم فضة. هذا معنى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً3 إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ4 إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} فإن كان القتيل مؤمناً ولكن من قوم هم عدو للمسلمين محاربين، فالواجب على القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير، إذ لا تعطى الدية لعدو يستعين بها على حرب المسلمين وإن كان القتيل من قوم كافرين وهو مؤمن أو كافر ولكن بيننا وبين قومه معاهدة، على القاتل تحرير رقبة ودية مسلمة إلى أهله، فمن لم يجد الرقبة فصيام شهرين متتابعين، فذلك توبته لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً5 مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} عليماً بما يحقق المصلحة لعباده
__________
1 فالنفي في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً} ليس نفي الفعل حتى يقال: ما نفاه الله لا يجوز وجوده، وإنما هو نفي الحال والشأن لا الفعل، فليتأمل.
2 ومن الغنم: ألف شاة، وهل الإبل تخمس خلاف، ومذهب الشافعي ومالك أنها تخمس؛ فعشرون حقه، وعشرون جزعه، وعشرون بنات مخاص، وعشرون بنات لبون، وعشرون بنو لبون ذكور. وتغلظ دية العمد، بأن يكون أربعون منها في بطونها أولاده، وشبه العمد: ما كان بأداة لا تقتل عادة؛ كالعصا ونحوها لحديث: "ألا أن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها" .
3 قيل: نزلت هذه الآية في عياش ابن أبي ربيعة، إذ قتل الحارث بن زيد العامري، لإحنة كانت بينهما، وكان الحارث قد أسلم، ولم يعلم عياش بإسلامه فكان قتله خطأ، وقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} أي: فعليه تحرير رقبة.
4 أكثر أهل العلم: أن دية المرأة على نصف دية الرجل، وإن دية الجنين إذا سقط حياً دية كاملة، وإذا سقط ميتاً فديته غرة عبد أو أمة، ومعنى: غرة: أن يكون أبيض لا أسود فيقوم العبد وتعطي قيمته دية.
5 {تَوبة} منصوب على المصدر، أي: تاب الله عليه توبة، أي: مشروعية الكفارة في قتل الخطأ كانت توبة من الله على العبد القاتل خطأ. وعلة الكفارة أنه لم يتحرز ولم يتحفظ فلذا وقع منه القتل، فكان لابد من مكفر لما لحقه من الإثم بالتفريط، أما القاتل عمداً فلا كفارة تجزئه. وهل له من توبة؟ عليه أن يتون، ومن توبته أن يعتق أو يتصدق ويصوم رجاء أن يتوب الله عليه.

حكيماً في تشريعه فلا يشرع إلا ما كان نافعاً ومحققاً غير ضار، ومحققاً للخير في الحال والمآل.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الآية الثانية(93) فإنها بينت حكم من قتل مؤمناً عمداً عدواناً، وهو أن الكفارة لا تغني عنه شيئاً لما قضى الله تعالى له باللعن والخلود في جهنم إذ قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} إلا أن الدية أو القصاص لازمان ما لم يعف أولياء الدم فإن عفوا عن القصاص ورضوا بالدية أعطوها وإن طالبوا بالقصاص اقتصوا، إذ هذا حقهم وأما حق الله تعالى: فإن القتيل عبده خلقه ليعبده، فمن قتله، فالله تعالى رب العبد خصمه وقد توعده بأشد العقوبات وأفظعها، والعياذ بالله تعالى وذلك حقه قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} .
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان أن المؤمن الحق لا يقع منه القتل العمد للمؤمن.
2- بيان جزاء القتل الخطأ وهو تحرير رقبة ودية مسلمة إلى أهله.
3- إذا كان القتيل مؤمناً وكان من قوم كافرين محاربين، فالجزاء تحرير رقبة ولا دية.
4- إذا كان القتيل من قوم بين المسلمين مثياق، فالواجب الدية وتحرير رقبة.
5- من لم يجد الرقبة صام شهرين متتابعين1.
6- القتل العمد العدوان يجب له أحد شيئين: القصاص. أو الدية حسب رغبة أولياء الدم وإن عفوا فلهم ذلك وأجرهم على الله تعالى، وعذاب الآخرة وعيد إن شاء الله أنجزه وإن شاء عفا عنه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ
__________
1 يسقط التتابع بالمرض والحيض، لا بالسفر. ومعنى التتابع: ألا يستأنف من أفطر لمرض، وإنما يبني على ما صامه ويواصل حتى يكمل الشهرين.

عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً(94)}
شرح الكلمات:
{إِذَا ضَرَبْتُمْ} : خرجتم تضربون الأرض بأرجلكم غزاة ومسافرين.
{فَتَبَيَّنُوا} : فتثبتوا حتى لا تقتلوا مسلماً تحسبونه كافراً.
{السَّلامَ1} : الاستسلام والانقياد.
{تَبْتَغُونَ} : تطلبون.
{فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} : بالهداية فاهتديتم وأصبحتم مسلمين.
معنى الآية الكريمة:
روي أن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا فلقوا رجلاً يسوق غنماً من بني سليم، فلما رآهم سلم عليهم قائلاً: السلام عليكم. فقالوا له: ما قلتها إلا تقية لتحفظ نفسك ومالك وقتلوه2. فنزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يريد خرجتم مسافرين للغزو والجهاد {فَتَبَيَّنُوا} ممن تلقونهم في طريقكم هل هم مسلمون فتكفوا عنهم، أو كافرين فتقاتلوهم {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ} أعلن إسلامه لكم بالشهادة أو بالسلام {لَسْتَ مُؤْمِناً} فتكذبونه في دعواه الإسلام لتنالوا منه: { تَبْتَغُونَ} بذلك {عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا3} أي: متاعها الزائل فإن كان قصدكم الغنيمة فإن عند الله مغانم كثيرة فأطيعوه وأخلصوا له النية والعمل يرزقكم ويغنمكم خير ما تأملون وترجون وقوله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} أي: مثل هذا الرجل الذي قتلتموه رغبة في غنمه كنتم تستخفون بإيمانكم خوفاً من قومكم {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} بأن أظهر دينه ونصركم فلم تعودوا تخفون دينكم. وعليه فتبينوا
__________
1 السلم: بكسر السين، والسلم: بفتح السين واللام، والسلام واحد. والسلم بالكسر هنا أولى؛ لأنه بمعنى: الانقياد والطاعة.
2 روى أن النبي صلى الله عليه وسلم حمل ديته إلى أهله ورد غنمه وهو كذلك.
3 مي متاع الدنيا: عرضاً؛ لأنه عارض زائل، ويطلق العرض بفتح الراء على الدراهم والدنانير، وبإسكان الراء على المتاع من أثاث وغيره، فلذا كل عرض بإسكان الراء، عرض بفتحها ولا ينعكس، وفي الحديث الصحيح: "ليس الغني عن كثرة العرض، إنما الغني غني النفس" . رواه مسلم.

مستقبلاً، ولا تقتلوا أحداً حتى تتأكدوا من كفره1 وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} تذييل يحمل الوعد والوعيد، الوعد لمن أطاع، والوعيد لمن عصى، إذ لازم كونه تعالى خبيراً بالأعمال أنه يحاسب عليه ويجزي بها، وهو على كل شيء قدير.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- مشروعية السير في سبيل الله غزواً وجهاداً2.
2- وجوب التثبت والتبين في الأمور التي يترتب على الخطأ فيها ضرر بالغ.
3- ذم الرغبة في الدنيا لا سيما إذا كانت تتعارض مع التقوى.
4- الاتعاظ بحال الغير والاعتبار بالأحداث المماثلة.
{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً(95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً(96)}
شرح الكلمات:
{أُولِي الضَّرَرِ} : هم العميان والعرج والمرضى.
{دَرَجَةً} : منزلة عالية في الجنة.
{الْحُسْنَى} : الجنة.
__________
1 لأن قتل النفس عظيم، ولذا لما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بمن قتل: من قال لا إله إلا الله ظاناً أنه قالها تقيه، قال: "هلا شققت عن قلبه" ، قاله ثلاثاً. ولذا لو أن كافراً صلى معنا ولم يقل: لا إله إلا الله لم نقتله حتى نطلب إليه قولها، فإن قالها وإلا قتل حينئذ، هذا الكافر المحارب لا المعاهد والمستئمن.
2 بل فضيلة السير في سبيل الله سواء للجهاد أو لطلب علم أو صلة رحم أو حج أو عمرة أو إبلاغ دعوة وتعليم علم، أو زيارة مؤمن لما ورد في ذلك من الأجر العظيم.

معنى الآيتين:
روى أن ابن أم مكتوم رضي الله تعالى عنه لما نزلت هذه الآية بهذه الصيغة: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ...} الآية. أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف وأنا أعمى يا رسول الله فما برح حتى نزلت {غَيْرُ أُولِي1 الضَّرَرِ} فأدخلت بين جملتي {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ...} ، ومعنى الآية: إن الله تعالى ينفي أن يستوي في الأجر والمنزلة عنده تعالى من يجاهد بماله ونفسه ومن لا يجاهد بخلاً بماله. وضناً بنفسه، واستثنى تعالى أولي الأعذار من مرض ونحوه فإن لهم أجر المجاهدين وإن لم يجاهدوا لحسن نياتهم، وعدم استطاعتهم، فلذا قال: {وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} التي هي: الجنة، وقوله: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} أي: فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين لعذر درجة، وإن كان الجميع لهم الجنة، وهي الحسنى. وقوله تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ} لغير عذر {أَجْراً عَظِيماً} وهو الدرجات2 العالية مع المغفرة والرحمة، وذلك لأن الله تعالى كان أزلاً وأبداً غفوراً رحيما، ولذا غفر لهم ورحمهم، اللهم اغفر لنا وارحمنا معهم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان فضل المجاهدين على غيرهم من المؤمنين الذين لا يجاهدون.
2- أصحاب الأعذار الشرعية ينالون أجر المجاهدين إن كانت لهم رغبة في الجهاد ولم يقدروا عليه لما قام بهم من3 أعذار وللمجاهدين فعلاً درجة تخصهم دون ذوي الأعذار.
__________
1 قرئ: {غير} بالرفع على أنه نعت للـ {قاعدون} ، وقرئ: بالنصب على الإستثناء، ويصح أيضاً على الحال.
2 روي في الصحاح أن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، وقال صلى الله عليه وسلم: "من رمى بسهم فله أجره درجة". فقال رجل يا رسول الله: وما الدرجة. قال: "إما إنها ليست بعتبة بابك ما بين الدرجتين مائة عام" .
3 روى البخاري تعليقاً، وغير و احد أن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قفل عائداَ من إحدى غزواته، قال: "إن بالمدينة رجالاً ما قطعتم وادياً ولا سرتم مسيرا إلا كانوا معكم، أولئك قوم حبسهم العذر" .

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً(97) إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً(98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً(99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً(100)}
شرح الكلمات:
{تَوَفَّاهُمُ} : تفيض أرواحهم عند نهاية آجالهم.
{ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ1} : بتركهم الهجرة وقد وجبت عليهم.
{فِيمَ كُنْتُمْ} : في أي شيء كنتم من دينكم؟
{مَصِيراً} : مأوى ومسكناً.
{حِيلَةً} : قدرة على التحول.
{مُرَاغَماً} : مكاناً وداراً لهجرته يرغم ويذل به من كان يؤذيه في داره.
{وَسَعَةً} : في رزقه.
{وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} : وجب أجره في هجرته على الله تعالى.
معنى الآيات:
لما كانت الهجرة من آثار الجهاد ناسب ذكر القاعدين عنها لضرورة ولغير ضرورة فذكر
__________
1 ظلم النفس: أن يفعل العبد فعلاً يؤول إلى مضرته، فهو بذلك ظالم لنفسه، والمراد به هنا: ترك الهجرة إذ يترتب عليها ترك العبادة فتخبث النفس، وذلك ظلم لها.

تعالى في هذه الآيات الهجرة وأحكامها، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ1 الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} حيث تركوا الهجرة ومكثوا في دار الهون يضطهدهم العدو ويمنعهم من دينهم ويحول بينهم وبين عبادة ربهم. هؤلاء الظالمون لأنفسهم تقول لهم الملائكة عند قبض أرواحهم {فِيمَ كُنْتُمْ2} ؟ تسألهم هذا السؤال؛ لأن أرواحهم مدساة مظلمة لأنها لم تزك على الصالحات، فيقولون متعذرين: {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} فلم نتمكن من تطهير أرواحنا بالإيمان وصالح الأعمال، فترد عليهم الملائكة قولهم: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} وتعبدوا ربكم؟ ثم يعلن الله عن الحكم فيهم بقوله: {فَأُولَئِكَ} البعداء {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} وساءت جهنم مصيراً يصيرون إليه ومأوى ينزلون فيه. ثم استثنى تعالى أصحاب الأعذار كما استثناهم في القعود عن الجهاد في الآيات قبل هذه فقال عز من قائل: {إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ3 مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ} ، واستضعاف الرجال يكون بالعلل4، والنساء والولدان بالضعف الملازم لهم، هؤلاء الذين لا يستطيعون حيلة، أي: لا قدرة لهم على التحول والانتقال لضعفهم، {وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} إلى دار الهجرة لعدم خبرتهم بالدروب والمسالك فطمعهم تعالى ورجاهم بقوله: {فَأُولَئِكَ} المذكورون {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} فلا يؤاخذهم ويغفر لهم بعض ما قصروا فيه ويرجمهم لضعفهم وكان الله غفوراً رحيماً.
هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث.
أما الآية الرابعة(100) فقد أخبر تعالى فيها أن من يهاجر في سبيله تعالى لا في سبيل دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها يجد بإذن الله تعالى في الأرض مذهباً يذهب إليه وداراً ينزل بها ورزقاً واسعاً يراغم به عدوه الذي اضطهده حتى هاجر من بلاده، فقال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} ثم أخبر تعالى أن من خرج مهاجراً
__________
1 روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على محمد صلى الله عليه وسلم، يأتي السهم فيرمي به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ..} الآية.
2 الاستفهام للتوبيخ والتقريع.
3 قال ابن عباس: "كنت أنا وأمي من عنى الله بهذه الآية". وأم ابن عباس هي: لبابة، وتكنى أم الفضل، وهي أخت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضي الله عنهما.
4 وهي الزمانة، وتكون بالعرج والعمي والشلل ونحوها.

في سبيل الله، أي: لأجل عبادته ونصرة دينه ثم مات في طريق هجرته وإن لم يصل إلى دار الهجرة فقد وجب أجره على الله تعالى، وسيوفاه كاملاً غير منقوص، ويغفر الله تعالى له ما كان من تقصير سابق ويرحمه فيدخله جنته. إذ قال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ1 بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الهجرة2 عندما يحال بين المؤمن وعبادة ربه تعالى إذ لم يخلق إلا لها.
2- ترك الهجرة كبيرة من كبائر الذنوب يستوجب صاحبها دخول النار.
3- أصحاب الأعذار كما سقط عنهم واجب الجهاد يسقط عنهم واجب الهجرة.
4- فضل الهجرة في سبيل الله تعالى.
5- من مات في طريق هجرته أعطى أجر المهاجر كاملاً غير منقوص وهو الجنة.
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً(01) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ
__________
1 روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي تعالى عنهما: "أن ضمرة بن جندب خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزلت هذه الآية: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيته} .
2 الهجرة: هي الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وهي فريضة من فرائض الإسلام، وهي هجر متعددة، منها: الهجرة من بلاد البدعة، قال مالك: "لا يحل لمؤمن أن يقيم بأرض يسب فيها السلف الصالح"، ومنها: الخروج من أرض غلب عليها الحرام، إذ طلب الحلال فريضة، ومنها: أن يؤذى المسلم في دينه أو عرضه أو ماله، ومنها: الخوف من المرض ما لم يكن طاعوناً فإنه يحرم الفرار منه، ومنها: ألا يكون في بلده من يعرف أحكام الشريعة فيها جر لطلب ذلك.

كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً(102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً(103) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً(104)}
شرح الكلمات:
{ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} : أي: مسافرين مسافة قصر، وهي: أربعة برد، أي: ثمانية وأربعون ميلاً.
{أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} : بأن تصلوا الظهرين ركعتين ركعتين، والعشاء ركعتين لطولها.
{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ} : هذا خرج مخرج الغالب، فليس الخوف بشرط في القصر وإنما الشرط السفر1.
{حِذْرَهُمْ} : الحيطة والأهبة لما عسى أن يحدث من العدو.
{أَسْلِحَتِكُمْ} : جمع سلاح ما يقاتل به من أنواع الأسلحة.
{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} : أي: لا تضييق عليكم ولا حرج في وضع الأسلحة للضرورة.
__________
1 من أحكام صلاة السفر: أن المسافر لا يشرع في التقصير حتى يتجاوز مباني المدينة التي يسكنها، وأن المسافر إذا صلى وراء مقيم يتم معه، وأن المسافر إذا أم غيره قصر والمقيم يتم، وأنه يشرع له الجمع بين الظهرين، والعشاءين تقديماً أو تأخيراً.

{قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} : أديتموها وفرغتم منها.
{فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} : أي: ذهب الخوف فحصلت الطمأنينة بالأمن.
{كِتَاباً مَوْقُوتاً} : فرضاً ذات وقت معين تؤدى فيه لا تتقدمه ولا تتأخر عنه.
{وَلا تَهِنُوا} : أي: لا تضعفوا.
{تَأْلَمُونَ} : تتألمون.
معنى الآيات:
بمناسبة الهجرة والسفر من لوازمها ذكر تعالى رخصة قصر الصلاة في السفر وذلك بتقصير الرباعية إلى ركعتين فقال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} أي: سرتم فيها1 مسافرين {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي: حرج وإثم في {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وبينت السنة أن المسافر يقصر ولو أمن فهذا القيد غالي فقط، وقال تعالى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} تذييل أريد به تقرير عداوة الكفار للمؤمنين، فلذا شرع لهم هذه الرخصة.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى(101)، أما الآيتان بعدها فقد بينت صلاة الخوف وصورتها: أن ينقسم الجيش قسمين قسم يقف تجاه العدو وقسم يصلي مع القائد ركعة، ويقف الإمام مكانه فيتمون لأنفسهم ركعة، ويسلمون ويقفون تجاه العدو، ويأتي القسم الذي كان واقفاً تجاه العدو فيصلي بهم الإمام القائد ركعة ويسلم ويتمون لأنفسهم ركعة ويسلمون، وفي كلا الحالين هم آخذون أسلحتهم لا يضعونها على الأرض خشية أن يميل عليهم العدو وهم عزل فيكبدهم خسائر فادحة، هذا معنى قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ2 فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ
__________
1 اختلف في المسافة التي تقصر فيها الصلاة والجمهور على أنها أربعة برد، واختلفوا في مسافة الميل الذي هو جزء البريد، فالذي رجحه علماء المالكية، هو أن الميل ألفا ذراعاً، وعليه فمسافة القصر ثمانية وأربعون ميلاً، أي: كيلو متر، وهذا قول وسط بين قول من قال لا يقصر في أقل من سبعين ميلاً، وبين من قال كل سفر تقصر فيه الصلاة طال أو قصر ولو كان ثلاثة أميال.
2 شذ أبو يوسف الحنفي فقال: "صلاة الخوف لا تصلى إلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناظراً إلى قوله تعالى: {وإذا كُنتَ فيهم} ، وعليه ما لم يكن فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تصلى صلاة الخوف. ورد هذا علماء السلف والخلف وقالوا: بمشروعية صلاة الخوف ما وجد خوف.

وَرَائِكُمْ} يريد الطائفة الواقعة تجاه العدو لتحميهم منه {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ1 أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} ، وقوله تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ2 فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} سبق هذا الكلام لبيان علة الصلاة طائفة بعد أخرى والأمر بالأخذ بالحذر وحمل الأسلحة في الصلاة، ومن هنا رخص تعالى لهم إن كانوا مرضى وبهم جراحات أو كان هناك مطر فيشق عليهم حمل السلاح أن يضعوا أسلحتهم فقال عز وجل: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ3} ، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} تذييل لكلام محذوف ودل عليه السياق قد يكون تقديره فإن الكفار فجرة لا يؤمن جانبهم، ولذا أعد الله لهم عذاباً مهيناً، وإنما وضع الظاهر مكان المضمر إشارة إلى علة الشر والفساد التي هي الكفر.
وقوله تعالى في آية(103) {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا4 اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} فإنه تعالى يأمر المؤمنين بذكره في كل الأحيان لا سيما في وقت لقاء العدو لما في ذلك من القوة الروحية التي تقهر القوى المادية وتهزمها، فلا يكتفي المجاهدون بذكر الله في الصلاة فقط بل إذا قضوا الصلاة لا يتركون ذكر الله في كل حال وقوله تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} يريد إذا ذهب الخوف وحل الأمن واطمأنت النفوس أقيموا الصلاة بحدودها وشرائطها وأركانها تامة كاملة، لا تخفيف فيها كما كانت في حال الخوف إذ قد تصلي ركعة واحد، وقد تصلي إيماء وإشارة فقط وذلك إذا التحم المجاهدون بأعدائهم. وقوله: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} تعليل للأمر بإقام الصلاة فأخبر أن الصلاة مفروضة على المؤمنين وأنها موقوتة بأوقات لا تؤدى إلا فيها.
وقوله تعالى في آية(104) {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} أي: لا تضعفوا في طلب العدو
__________
1 قد اختلفت الروايات في صلاة الخوف، واختلف لذلك العلماء، إذ صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف أربعاً وعشرين مرة. قال الإمام أحمد وهو إمام أهل الحديث: لا أعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث صحيح ثابت، وهو صحاح ثابتة، فعلى أي حديث صلى منها المصلي صلاة الخوف أجزأه إن شاء الله. وذهب مالك إلى حديث سهل بن أبي حثمة، وهو الذي ذكرته في التفسير فهو واضح سهل.
2 الأمتعة: جمع متاع؛ كالأثاث والعروض وماله علاقة بالسلاح في حالة الحرب.
3 في طلب الحذر التشريع للأمة بأن تأخذ بأسباب النصر ولا تهملها بحال، فإن الله تعالى ربط المسببات بأسبابها، فمن طلب النصر عليه بإعداد ما يمكنه من العدد والعتاد.
4 يرى جمهور المفسرين أن هذا الذكر المطلوب يكون بعد صلاة الخوف، كقوله تعالى: { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} تقوية للقلوب وتوسلاً لحصول النصر على العدو المرهوب.

لإنزال الهزيمة به. ولا تتعللوا في عدم طلبهم بأنكم تألمون لجراحتكم {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ} من النصر والمثوبة العظيمة {مَا لا يَرْجُونَ} فأنتم أحق بالصبر والجلد والمطالبة بقتالهم حتى النصر عليهم، وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} فيه تشجيع للمؤمنين على مواصلة الجهاد، لأن علمهم بأن الله تعالى عليم بأحوالهم والظروف الملابسة لهم وحكيم في شرعه بالأمر والنهي لهم يطمئنهم على حسن العافية لهم بالنصر على أعدائهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية صلاة القصر، وهي رخصة1 أكدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وعمله فأصبحت سنة مؤكدة لا ينبغي تركها.
2- مشروعية صلاة الخوف وبيان كيفيتها.
3- تأكد صلاة الجماعة بحيث لا تترك حتى في ساعة الخوف والقتال.
4- استحباب ذكر الله تعالى بعد الصلاة وعلى كل حال من قيام وقعود واضطجاع.
5- ةتقرير فريضة الصلاة ووجوب أدائها في أوقاتها الموقوتة لها.
6- حرمة الوهن والضعف إزاء حرب العدو والاستعانة على قتاله بذكر الله ورجائه.
{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً(105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً(106) وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً(107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ
__________
1 كونها رخصه دل عليه قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: "تلك صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" ، هذا وقد اختلف العلماء اختلافاً كبيراً هل القصر واجب أم سنة؟ فمن قال بالوجوب: استدل بحديث عائشة: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين"، ومن قال بالسنية وهم الجمهور ووهنوا حديثها لمخالفتها له. حيث كانت تتم في السفر وذهب بعضهم إلى أن المسافر مخير بين القصر والإتمام. والراجح أنها سنة مؤكدة وذلك لكون النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك القصر في أسفاره أبداً.

مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً(108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً(109)}
شرح الكلمات:
{بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} : أي: بما علمكه بواسطة الوحي.
{خَصِيماً} : أي: مخاصماً بالغاً في الخصومة مبلغاً عظيماً.
{تُجَادِلْ} : تخاصم.
{يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} : يحاولون خيانة أنفسهم.
{يَسْتَخْفُونَ} : يطلبون إخفاء أنفسهم عن الناس.
{وَهُوَ مَعَهُمْ} : بعلمه تعالى وقدرته.
{يُبَيِّتُونَ} : يدبرون الأمر في خفاء ومكر وخديعة.
{وَكِيلاً} : الوكيل: من ينوب عن آخر في تحقيق غرض من الأغراض.
معنى الآيات:
روي أن هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق وإخوته1، وكان قد سرق درعاً من دار جارٍ له يقال له قتادة وودعها عند يهودي، يقال له: يزيد بن السمين، ولما اتهم طعمة وخاف هو وإخوته المعرة رموا بها اليهودي، وقالوا هو السارق، وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلفوا على براءة أخيهم فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بقطع يد اليهودي لشهادة بني أبيرق عليه وإذا بالآيات تنزل ببراءة اليهودي وإدانة طعمة، ولما افتضح طعمة وكان منافقاً أعلن عن ردته وهرب إلى مكة المكرمة ونقب جدار منزل ليسرق فسقط عليه الجدار فمات تحته كافراً.. وهذا تفسير لآيات قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} أي: القرآن، أيها الرسول {لِتَحْكُمَ بَيْنَ2
__________
1 هم ثلاثة أنفار: بشر، وبشير، ومبشر. يقال لهم: بنو أبيرق.
2 يشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن حجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما أقتطع له قطعة من نار" .

النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ1 اللَّهُ} أي: بما أعلمك وعرفك به لا بمجرد رأي رآه غيرك من الخائنين وعاتبه ربه تعالى بقوله: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} أي: مجادلاً عنهم، فوصم تعالى بني أبيرق بالخيانة، لأنهم خانوا أنفسهم بدفعهم التهمة عنهم بأيمانهم الكاذبة. {وَاسْتَغْفِرِ2 اللَّهَ} من أجل ما هممت به من عقوبة اليهودي، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} فيغفر لك ما هممت به ويرحمك {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} حيث اتهموا اليهودي كذباً وزوراً، {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} كطعمة بن أبيرق { يَسْتَخْفُونَ3 مِنَ النَّاسِ} حياء منهم، {وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} ولا يستحيون منه، وهو تعالى معهم في الوقت الذي كانوا يدبرون كيف يخرجون من التهمة بإلصاقها باليهودي البريء، وعزموا أن يحلفوا على براءة أخيهم واتهام اليهودي هذا القول مما لا يرضاه الله تعالى.. وقوله عز وجل: {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} فما قام به طعمة من سرقة الدرع ووضعها لدى اليهودي ثم اتهامهم اليهودي، وحلفهم على براءة أخيهم كل ذلك جرى تحت علم الله تعالى، والله به محيط، فسبحانه من إله عظيم. وقوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ} أي: يا هؤلاء {جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} هذا الخطاب موجه إلى الذين وقفوا إلى جنب بني أبيرق يدفعون عنهم التهمة فعاتبهم الله تعالى بقوله: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ} ، اليوم في هذه الحياة الدنيا لتدفعوا عنهم تهمة السرقة {فَمَنْ4 يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} يتولى الدفاع عنهم في يوم لا تملك فيه نفس لنفس شيئاً والأمر كله لله فتضمنت الآية تقريعاً شديداً لا يقف أحد بعد موقفاً مخزياً كهذا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
2- لا يجوز الوقوف إلى جنب الخونة الظالمين نصرة لهم
__________
1 {بِمَا أَرَاك الله} معناه: على قوانين الشرع، إما بوحي ونص، أو بنظر جار على سنن الوحي.
2 فيه إرشاد للأمة وتعليم لها، إذ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقارف ذنباً، وكل ما في الأمر أنه هم على ظن منه، ودفع الله عنه ما هم به بنزول الآية، أو استغفاره لما هم به، هو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين.
3 أي: يستترون.
4 الاستفهام للإنكار والتوبيخ والتقريع.

3- وجوب الاستغفار من الذنب كبيراً كان أو صغيراً.
4- وجوب بغض الخوان الأثيم أياً كان.
5- استحباب الوعظ والتذكير بأحوال يوم القيامة.
{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً(110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً(111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً(112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً(113)}
شرح الكلمات:
{سُوءاً} : السوء: ما يسيء إلى النفس أو إلى الغير.
{أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} : ظلم النفس: بغشيان الذنوب وارتكاب الخطايا.
{إِثْماً} : الإثم: ما كان ضاراً بالنفس فاسداً.
{بَرِيئاً} : البريء: من لم يجن جناية قد اتهم بها.
{احْتَمَلَ بُهْتَاناً} : تحمل بهتاناً: وهو الكذب المحير لمن رمي به.
{الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} : الكتاب: القرآن والحكمة السنة.
معنى الآيات:
هذا السياق معطوف على سابقه في حادثة طعمة بن أبيرق، وهو يحمل الرحمة الإلهية لأولئك الذين تورطوا في الوقوف إلى جنب الخائن ابن أبيرق فأخبرهم تعالى أن من يعمل

سوءاً يؤذي به غيره أو يظلم نفسه بارتكاب ذنب من الذنوب ثم يتوب إلى الله تعالى باستغفاره والإنابة إليه يتب الله تعالى عليه ويقبل توبته وهو معنى قوله تعالى في الآية(110) {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ1 يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} يغفر له ويرحمه.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً} أي: ذنباً من الذنوب صغيرها وكبيرها {فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} إذ هي التي تتدسى به وتؤاخذ بمقتضاه إن لم يغفر لها. ولا يؤاخذ به غيرها وكان الله عليماً، أي: بذنوب عباده حكيماً، أي: في مجازاتهم بذنوبهم فلا يؤاخذ نفساً بغير ما اكتسب ويترك نفساً قد اكتسبت(112) يخبر تعالى أن من يرتكب خطيئة ضد أحد، أو يكسب إثماً ويرمي به أحداًً بريئاً منه قد تحمل تبعة عظيمة قد تصليه نار جهنم وهو معنى قوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ2 بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} .
وفي الآية(113) يواجه الله تعالى رسوله بالخطاب ممتنا ًعليه بما حباه به من الفضل والرحمة فيقول: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} ، والمراد بالطائفة التي ذكر الله تعالى هم بنو أبيرق أخوة طعمة وقوله: { وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ3} ، فهو كما قال عز وجل ضلالهم عائد عليهم أما الرسول فلن يضره ذلك وقوله تعالى: { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} امتنان من الله تعالى على رسوله بأنه أنزل عليه القرآن أعظم الكتب وأهداها وعلمه الحكمة وهي ما كشف له من أسرار الكتاب الكريم، وما أوحى إليه من العلوم والمعارف التي كلها نور وهدى مبين، وعلمه من المعارف الربانية ما لم يكن يعلم قبل ذلك وبهذا كان فضله على رسوله عظيماً، فلله الحمد والمنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ التوبة تجب ما قبلها، ومن تاب تاب الله عليه.
2- عظم ذنب من يكذب على البرآء، ويتهم الأمناء بالخيانة.
__________
1 المراد بالاستغفار: التوبة وطلب العفو من الله تعالى عما مضى من الذنوب قبل التوبة.
2 أي: ينسبه إليه.
3 إذ نتائج الضلال وعوائده وهي الخسران عائدة عليهم لا على الرسول صلى الله عليه وسلم.

3- تأثير الكلام على النفوس حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كاد يضلله بنو أبيرق فيبرئ الخائن ويدين البريء إلا أن الله عصمه.
4- عاقبة الظلم عائدة على الظالم.
{لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً(114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً(115)}
شرح الكلمات:
{نَجْوَاهُمْ1} : النجوى: المسارة بالكلام، وجواهم: أحاديثهم التي يسرها بعضهم إلى بعض.
{أَوْ مَعْرُوفٍ2} : المعروف: ما عرفه الشرع فأباحه، أو استحبه أو أوجبه.
{ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} : أي: طلباً لمرضاة الله، أي: للحصول على رضا الله عز وجل.
{نُؤْتِيهِ} : نعطيه والأجر العظيم: الجنة وما فيها من نعيم مقيم.
{يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} : يحاده ويقاطعه ويعاديه. كمن يقف في شق، والآخر في شق.
{ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} : أي: يخرج عن إجماع المسلمين.
{نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} : نخذله فتتركه وما تولاه من الباطل والشر والضلال حتى: يهلك فيه.
__________
1 النجوى: مشتقة من نجوت الشيء، أنجوه، إذا خلصته وأفردته، والنجوي من الأرض ما ارتفع منها دون ما حواليه، ومن ناجى أحداً فقد خلصه وأفرده له. وتسمى الجماعة: نجوى نحوهم، عدل. قال تعالى: {وإذْ هُم نَجْوى} .
2 المعروف لفظ يعم جميع ألفاظ البر، أمر الله تعالى في كتابه فقال: {خُذْ العُفوْ وأمر بالعُرف} أي: المعروف. قال الحطيئة:

ونصله نار جهنم : أي: ندخله النار ونحرقه فيها.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في بني أبيرق ففي الآية الأولى(114) يخبر تعالى أنه لا خير في كثير من أولئك المتناجين ولا في نجواهم لنفاقهم وسوء طواياهم اللهم إلا في نجوى أمر أصحابها بصدقة تعطى لمحتاج إليها من المسلمين، أو معروف1 استحبه الشارع أو أوجبه من البر والإحسان أو إصلاح بين الناس للإبقاء على الألفة والمودة بين المسلمين. ثم أخبر تعالى أن من يفعل ذلك المذكور من الصدقة والمعروف والإصلاح2 بين الناس طلباً لمرضاة الله تعالى فسوف يثيبه بأحسن الثواب ألا وهو الجنة دار السلام إذ لا أجر أعظم من أجر يكون الجنة.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الثانية(115) فإن الله تعالى يتوعد أمثال طعمة بن أبيرق، فيقول جل ذكره: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} أي: يخالفه ويعاديه {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} أي: من بعد ما عرف أنه رسول الله حقاً جاء بالهدى ودين الحق، ثم هو مع معاداته للرسول يخرج من جماعة المسلمين ويتبع غير سبيلهم3 هذا الشقي الخاسر {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} أي: نتركه لكفره وضلاله خذلاناً له في الدنيا ثم نصله نار جهنم يحترف فيها، وبئس المصير جهنم يصير إليها المرء ويخلد فيها.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- حرمة تناجي اثنين دون الثالث لثبوت ذلك في السنة.
2- الاجتماعات السرية لا خير فيها إلا اجماعاً كان لجمع صدقة، أو لأمر بمعروف أو إصلاح بين متنازعين من المسلمين مختلفين.
3- حرمة الخروج عن أهل السنة والجماعة، واتباع الفرق الضالة التي لا تمثل الإسلام إلا في دوائر ضيقة كالروافض ونحوهم.
__________
1 قيل لحكيم ما أعظم المصائب؟ قال: أن تقدر على المعروف فلا تصنعه، حتى يفوت، وقال في هذا المعنى الشاعر:
إذا هبت رياحك فاغتنمها ... فإن لكل خافقة سكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها ... فما تدري السكون متى يكون
2 ورد في إصلاح ذات البين الكثير من الأحاديث، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟" قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إصلاح ذات البين" رواه الترمذي وصححه وقال: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً" .
3 هذه الآية هي دليل حرمة الخروج على جماعة المسلمين، روي أن الشافعي طلب دليلاً على صحة الإجماع، فقرئ القرآن مرات حتى عثر على هذه الآية، وقرر أنها دليل الإجماع، وهو كذلك.

{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً(116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَاناً مَرِيداً(117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً(118) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً(119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُوراً(120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً(121)}
شرح الكلمات:
{أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} : أن يعبد معه غيره من مخلوقاته بأي عبادة كانت.
{إِنْ يَدْعُونَ} : أي: ما يدعون.
{إِلا إِنَاثاً} : جمع أنثى لأن الآلهة مؤنثة، أو أمواتاً لأن الميت يطلق عليه لفظ أنثى بجامع عدم النفع.
{مَرِيداً} : بمعنى ما رد على الشر والإغواء للفساد.
{نَصِيباً مَفْرُوضاً} : حظاً معيناً. أو حصة معلومة.
{فَلَيُبَتِّكُنَّ1} : فليقطعن.
{خَلْقَ اللَّهِ} : مخلوق الله: أي: ما خلقه الله تعالى.
{الشَّيْطَانُ} : الخبيث الماكر الداعي إلى الشر سواء كان جنياً أو إنسياً.
__________
1 البتك: القطع، يقال: سيف باتك.

{وَيُمَنِّيهِمْ} : يجعلهم يتمنون كذا وكذا ليلهيهم عن العمل الصالح.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ1 بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} إخبار منه تعالى عن طعمة بن أبيرق بأنه لا يغفر له وذلك لموته على الشرك، أما إخوته الذين لم يموتوا مشركين فإن أمرهم إلى الله تعالى إن شاء غفر لهم وإن شاء آخذهم كسائر مرتكبي الذنوب غير الشرك والفكر. وقوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} أي: ضل عن طريق النجاة والسعادة ببعده عن الحق بعداً كبيراً وذلك بإشراكه بربه تعالى غيره من مخلوقاته.
وقوله تعالى {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثاً} هذا بيان لقبح الشرك وسوء حال أهله، فأخبر تعالى أن المشركين ما يعبدون إلا أمواتاً لا يسمعون ولا يبصرون ولا ينطقون ولا يعقلون. إذ أوثانهم ميتة وكل ميت فهو مؤنث زيادة على أن أسماءها مؤنثة كاللات والعزى ومناة ونائلة، كما هم في واقع الأمر يدعون شيطاناً مريداً، إذ هو الذي دعاهم إلى عبادة الأصنام فعبدوها فهم إذاً عابدون للشيطان في باطن الأمر لا الأوثان، ولذا قال تعالى: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَاناً مَرِيداً2} لعنه الله وأبلسه عن إبائه السجود لآدم، {وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً3} أي: عدداً كبيراً منهم يعبدونني ولا يعبدونك وهم معلومون معروفون بمعصيتهم إياك، وطاعتهم لي. وواصل العدو تبجحه قائلاً: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ} يريد عن طريق الهدى {وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ} يريد أعوقهم عن طاعتك بالأماني الكاذبة بأنهم لا يلقون عذاباً أو أنه سيغفر لهم. {وَلآمُرَنَّهُمْ} فيطيعوني {فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ4} أي: ليجعلون لآلهتهم نصيباً مما رزقنهم ويعلمونها بقطع آذانها لتعرف أنها للآلهة؛ كالبحائر والسوائب التي يجعلونها للآلهة، {وَلآمُرَنَّهُمْ} أيضاً فيطيعونني فيغيرون خلق الله بالبدع
__________
1 في هذه الآية رد على الخوارج الذين يكفرون بالذنب دون الشرك، ويوجبون الخلود في النار لمن مات على كبيرة، قال علي رضي الله عنه: "ما في القرآن أحب إلي من هذه: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} " رواه الترمذي.
2 أطلق الدعاء وأريد به العبادة، وهو إطلاق شائع في القرآن الكريم؛ لأن الدعاء هو العبادة. إذ طاعتهم للشيطان عبادة في حد ذاتها، إذا المطاع في معصية الله معبود، قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}، أي: ألهة، وذلك لما أطاعوهم في معصية الله تعالى.
3 قيل: كان نصيبه من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، لحديث مسلم: "أبعث بعث النار فيقول وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين" . المخاطب: آدم عليه السلام.
4 أجاز الجمهور خصاء الغنم لفائدة اللحم، وحرموا خصاء غيرها، وخاصة الآدمي، وأجازوا الوسم في غير الوجه للحيوان ليعرف به، وهو كذلك. أما الوشم: فحرام للأحاديث الصحاح فيه.

والشرك، والمعاصي كالوشم والخصي. هذا ما قاله الشيطان ذكره تعالى لنا فله الحمد. ثم قال تعالى {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً} لأن من والى الشيطان عادى الرحمن، ومن عادى الرحمن تم له والله أعظم الخسران يدل على ذلك قوله تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} فيعقوهم عن طلب النجاة والسعادة {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُوراً} إذ هو لا يملك من الأمر شيئاً فكيف يحقق لهم نجاة أو سعادة إذاً؟.
وهذا حكم الله تعالى يعلن في صراحة ووضوح فليسمعوه: {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً} أي: معدلاً أو مهرباً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- سائر الذنوب كبائرها وصغائرها قد يغفرها الله تعالى لمن شاء إلا الشرك فلا يغفر لصاحبه.
2- عبدة الأصنام والأوهام والشهوات والأهواء هم في الباطن عبدة الشيطان إذ هو الذي أمرهم فأطاعوه.
3- من مظاهر طاعة الشيطان المعاصي كبيرها وصغيرها إذ هو الذي أمر بها وأطيع فيها.
4- حرمة الوشم والوسم والخصاء إلا ما أذن فيه الشارع1.
5- سلاح الشيطان العدة الكاذبة والأمنية الباطلة، والزينة الخادعة.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً(122)}
شرح الكلمات:
{آمَنُوا} : صدقوا بالله ورسوله2.
{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} : الطاعات إذ كل طاعة لله ورسوله هي عمل صالح.
__________
1 أذن الشارع في وسم الماشية، ولكن في غير الوجه، كما أذن وخصي الغنم ضائنًا أو ما عزًا لمصلحة إصلاح لحومها.
2 وصدقوا بكل ما أخبر الله به ورسوله في شأن الغيب؛ كالملائكة، والبعث، والجزاء في الدار الآخرة.

{قِيلاً1} : أي: قولاً.
معنى الآية الكريمة:
لما بين تعالى جزاء الشرك والمشركين عبدة الشيطان بين في2 هذه الآية جزاء التوحيد والموحدين عبيد الرحمن عز وجل، وأنه تعالى سيدخلهم بعد موتهم جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار وأن خلودهم مقدر فيها بإذن الله ربهم فلا يخرجون منها أبداً وعدهم ربهم بهذا وعد الصدق، وليس هناك من هو أصدق وعداً ولا قولاً من الله تعالى.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- الإيمان الصادق والعمل الصحيح الصالح هما مفتاح الجنة وسبب3 دخولها.
2- صدق وعد الله تعالى، وصدق قوله عز وجل.
3- وجوب صدق الوعد من العبد لأن خلف الوعد من النفاق لحديث4: "وإذا واعد أخلف" .
4- وجوب صدق القول والحديث لأن الكذب من النفاق لحديث وإذا حدث كذب.
{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً(123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً(124) وَمَنْ
__________
1 القيل، والقول، والقال: بمعنى واحد.
2 هذا من منهج القرآن الخاص به، وهو الجمع بين الترهيب والترغيب؛ لأنه كتاب هداية وتربية فلذا يجمع بين الوعد والوعيد، وذكر الشيء وضده.
3 لأنه بالإيمان والعمل الصالح تزكو النفس البشرية وتطهر، وإذا زكت وطهرت تأهلت لدخول الجنة؛ إذ هي دار الأبرار ودار المتقين.
4 رواه البخاري وغيره: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا واعد أخلف، وإذا أؤتمن خان" .

أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً(125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً(126)}
شرح الكلمات:
{بِأَمَانِيِّكُمْ} : جمع أمنية: وهي ما يقدره المرء في نفسه ويشتهيه مما يتعذر غالباً تحقيقه.
{أَهْلِ الْكِتَابِ} : اليهود والنصارى.
{سُوءاً} : كل ما يسيء من الذنوب والخطايا.
{وَلِيّاً} : يتولى أمره فيدفع عنه المكروه.
{نَقِيراً} : النقير: نقرة في ظهر النواة.
{مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} : عبادة الله وحده لا شريك له بما شرعه الله تعالى.
{خَلِيلاً} : الخليل: المحب الذي تخلل حبه مسالك النفس فهو أكبر من الحبيب.
{مُحِيطاً} : علماً وقدرة إذ الكون كله تحت قهره ومدار بقدرته وعلمه.
معنى الآيات:
روي أن هذه الآية نزلت1 لما تلاحى مسلم ويهودي وتفاخرا، فزعم اليهودي أن نبيهم وكتابهم ودينهم وجد قبل كتاب ونبي المسلمين ودينهم فهم أفضل، ورد عليه المسلم بما هو الحق فحكم الله تعالى بينهما بقوله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} أيها المسلمون {وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} من يهود ونصارى، أي: ليس الأمر والشأن بالأماني العذاب، وإنما الأمر والشأن في هذه القضية أنه سنة الله تعالى في تأثير الكسب الإرادي على النفس بالتزكية أو التدسية فمن عمل2 سوءاً من الشرك والمعاصي، كمن عمل صالحاً من التوحيد والطاعات يجز بحسبه،
__________
1 روي أيضاً عن قتادة أنه قال: تفاخرا و المؤمنون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أحق بالله منكم. وقال المؤمنون: نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على سائر الكتب. فنزلت، ولا تعارض بين الرأيين.
2 هذه الآية عامة في الكافر والمؤمن، ويؤكد عمومها رواية مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت وبلغت من المسلمين مبلغًا، قال: "قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها، والشوكة يشاكها" ، ويفسرها لنا أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم في رواية أحمد لأبي بكر، وقد قال لما نزلت كيف الفلاح يا رسول الله، بعد هذه الآية؟ فكل سوء عملناه جزينا به. "غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟" قال: بلى. قال: "فهو مما تجزون" .

فالسوء يخبث النفس فيحرمها من مجاورة الأبرار والتوحيد والعمل الصالح يزكيها فيؤهلها لمجاورة الأبرار، ويبعدها عن مجاورة الفجار. وقوله تعالى: {وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} لأن سنن الله؛ كأحكامه لا يقدر أحد على تغييرها أو تبديلها بل تمضي كما هي فلا ينفع صاحب السوء أحد، ولا يضر صاحب الحسنات آخر. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} فإنه تقرير لسنته تعالى في تأثير الكسب على النفس والجزاء بحسب حال النفس زكاة وطهراً وتدسية وخبثاً، فإنه من يعمل الصالحات وهو مؤمن تطهر نفسه ذكراً كان أو أنثى ويتأهل بذلك لدخول الجنة، ولا يظلم مقدار نقير فضلاً عما هو أكثر وأكبر وقوله تعالى: {وَمَنْ1 أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} إشادة منه تعالى وتفضيل للدين الإسلامي على سائر الأديان غذ هو قائم على أساس إسلام الوجه2 لله وكل الجوارح تابعة له تدور في فلك طاعة الله تعالى مع الإحسان الكامل، وهو إتقان العبادة وأداؤها على نحو ما شرعها الله تعالى واتباع ملة إبراهيم بعبادة الله تعالى وحده والكفر بما سواه من سائر الآلهة. وقوله {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} فيه زيادة تقرير فضل الإسلام الذي هو دين إبراهيم الذي اتخذه ربه خليلاً وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً} زيادة على أنه إخبار بسعة ملك الله تعالى وسعة علمه وقدرته وفضله فإنه رفع لما قد يتوهم من خلة إبراهيم أن الله تعالى مفتقر إلى إبراهيم أو له حاجة إليه، فأخبر تعالى أن له ما في السموات والأرض خلقاً وملكاً، وإبراهيم في جملة ذلك فكيف يفتقر إليه أو يحتاج إلى مثله وهو رب كل شيء وملكه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ما عند الله لا ينال بالتمني ولكن بالإيمان والعمل الصالح أو التقوى والصبر والإحسان.
2- الجزاء أثر طبيعي للعمل وهو معنى {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
__________
1 الاستفهام إنكاري، أي: ينكر أن يوجد من هو أحسن ديناً منه.
2 أفادت هذه الآية حكماً عظيمًا، وهو أنه: لا يصح عمل بدونه أبدًا. وهو الإخلاص والمتابعة، وهو أن يكون العمل خالصًا لله، وأن يكون صوابًا، أي: وفق ما شرع الله تعالى في كتابه، وعلى لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ}.
3- فضل الإسلام على سائر الأديان.
4- شرف إبراهيم عليه السلام باتخاذه ربه1 خليلاً.
5- غنى الله تعالى عن سائر مخلوقاته، وافتقار سائر مخلوقاته إليه عز وجل.
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً(127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً(128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً(129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاً مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً(130)}
__________
1 وقد شرف بالخلة محمد صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم خطبهم أخر خطبة، فقال: "أما بعد أيها الناس: فلو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً، لاتخذت أبا بكر ابن أبي قحافة خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله" .

شرح الكلمات:
{وَيَسْتَفْتُونَكَ1} : يطلبون منك الفتيا في شأن النساء وميراثهن.
{وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} : يقرأ عليكم في القرآن.
{مَا كُتِبَ لَهُنَّ} : ما فرض لهن من المهور والميراث.
{بِالْقِسْطِ} : بالعدل.
{نُشُوزاً} : ترفعاً وعدم طاعة.
{وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ} : جلبت النفوس على الشح فلا يفارقها أبداً.
{فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} : فتركتوها كالمعلقة ما هي بالمزوجة ولا المطلقة.
{مِنْ سَعَتِهِ} : من رزقه الواسع.
{وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} : واسع الفضل حكيماً يعطي فضله حسب علمه وحكمته.
معنى الآيات:
هذه الآيات الأربع كل آية منها تحمل حكماً شرعياً خاصاً فالأولى(127) نزلت إجابة لتساؤلات من بعض الأصحاب حول حقوق النساء ما لهن وما عليهن لن العرف الذي كان سائداً في الجاهلية كان يمنع النساء والأطفال من الميراث بالمر، وكان اليتامى لا يراعى لهم جانب ولا يحفظ لهم حق كامل، فلذا نزلت الآيات الأولى من هذه السورة وقررت حق المرأة والطفل في الإرث وحضت على المحافظة على مال اليتيم وكثرت التساؤلات لعل قرآناً ينزل إجابة لهم حيث اضطربت نفوسهم لما نزل فنزلت هذه الآية الكريمة تردهم إلى ما في أول السورة وأنه الحكم النهائي في القضية فلا مراجعة بعد هذه، فقال تعالى وهو يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ } أي: وما زالوا يستفتونك في النساء، أي: في شأن مالهن وما عليهن من حقوق؛ كالإرث والمهر وما إلى ذلك. قل لهم أيها الرسول {اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} وقد أفتاكم فيهن وبين لكم مالهن وما عليهن. وقوله تعالى: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} أي: وما يتلى عليكم في يتامى النساء في أول السورة كافٍ لا تحتاجون معه إلى من يفتيكم أيضاً، إذ بين لكم أن من كانت تحته يتيمة دميمة لا يرغب في نكاحها فليعطها مالها وليزوجها غيره وليتزوج هو من
__________
1 روى أشهب عن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل فلا يجيب حتى ينزل عليه الوحي.

شاء، ولا يحل له أن يحبسها في بيته لأجل مالها، وإن كانت جميلة وأراد أن يتزوجها فليعطها مهر مثيلاتها ولا يبخسها حقها من مهرها شيئاً. وقوله: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} أي: وقد أفتاكم بما يتلى عليكم من الآيات في أول السورة في المستضعفين من الولدان حيث قد أعطاهم حقهم وافياً في آية {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} الآية.
فلم هذه المراجعات والاستفتاءات؟ وقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} أي: وما تلى عليكم في أول السورة كان آمراً إياكم بالقسط لليتامى والعدل في أموالهم فارجعوا إليه في قوله: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} ، وقوله تعالى في ختام الآية {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً} حث لهم على فعل الخير بالإحسان إلى الضعيفين المرأة واليتيم زيادة على توفيتهما حقوقهما وعدم المساس بها. هذا ما دلت عليه الآية الكريمة: {وَيَسْتَفْتُونَكَ...} إلخ.
أما الآية الثانية(128) {وَإِنِ امْرَأَةٌ1 خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ2 إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} فقد تضمنت حكماً عادلاً رحيماً وإرشاداً ربانياً سديداً وهو أن الزوجة إذا توقعت من زوجها نشوزاً، أي: ترفعاً أو إعراضاً عنها، وذلك لكبر سنها أو لقلة جمالها، وقد تزوج غيرها في هذا الحال في الإمكان أن تجري مع زوجها صلحاً يحفظ لها بقاءها في بيتها عزيزة محترمة فتتنازل له عن بعض حقها في الفراش وعن بعض ما كان واجباً لها وهذا خير لها من الفراق. ولذا قال تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} وقوله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ3} يريد أن الشح ملازم للنفس البشرية لا يفارقها والمرأة كالرجل في هذا إلا أن المرأة أضمن وأشح بنصيبها في الفراش وبباقي حقها من زوجها. إذاً فليراع الزوج هذا، ولذا قال تعالى: { وَإِنْ تُحْسِنُوا} أيها الأزواج إلى نسائكم {وَتَتَّقُوا} الله تعالى
__________
1 خافت، أي: توقعت وليس بمعنى تيقنت.
2 روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} ، قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها، يريد أن يفارقها، فتقول له: أجعلك من شأني في حل. فنزلت هذه الآية. كما روي أن الآية نزلت في سودة أم المؤمنين لما أسنت، أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلقها فآثرت الكون معه. فقالت له: امسكني واجعل يومي لعائشة. ففعل صلى الله عليه وسلم، وماتت وهي من أزواجه. رواه الترمذي. قالوا في الفرق بين النشوز والإعراض: أن النشوز هو: التباعد عنها. وأن الإعراض: أن لا يكلمها ولا يأنس بها.
3 الشح: هو البخل، ومنه الحديث: "أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى" ، غير أن الشح يطلق على حرص النفس على الحقوق وقلة التسامح فيها.

فيهن فلا تحرمون مالهن من حق في الفراش وغيره فإن الله تعالى يجزيكم بالإحسان إحساناً وبالخير خيراً فإنه تعالى {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} .
هذا ما دلت عليه الآية(128) وأما الآية الثالثة(129) وهي قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ1 فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} فقد تضمنت حقيقة كبرى وهي عجز الزوج عن العدل بين زوجاته اللائي في عصمته، فمهما حرص على العدل وتوخاه فإنه لن يصل إلى منتهاه أبداً، والمراد بالعدل هنا في الحب والجماع. أما في القسمة والكساء والغذاء والعشرة بالمعروف فهذا مستطاع له، ولما علم تعالى هذا من عبده رخص له في ذلك ولم يؤاخذه بميلة النفس، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم هذا قسمي2 فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" والمحرم على الزوج هو الميل3 الكامل إلى إحدى زوجاته عن باقيهن، لأن ذلك يؤدي أن تبقى المؤمنة في وضع لا هي متزوجة تتمنع بالحقوق الزوجية ولا هي مطلقة يمكنها أن تتزوج من رجل آخر تسعد بحقوقها معه، وهذا معنى قوله تعالى: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} ، وقوله تعالى: {وَإِنْ تُصْلِحُوا} أي: أيها الأزواج في أعمالكم وفي القسم بين زوجاتكم وتتقوا الله تعالى في ذلك فلا تميلوا كل الميل، ولا تجوروا فيما تطيقون العدل فيه فإنه تعالى يغفر لكم ما عجزتم عن القيام به لضعفكم ويرحمكم في دنياكم وأخراكم لأن الله تعالى كان وما زال عفواً للتائبين رحيما ًبالمؤمنين.
هذا ما دلت عليه الآية الثالثة، أما الآية الرابعة(130) وهي قوله تعالى: { وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاً مِنْ سَعَتِهِ4 وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} فإن الله تعالى يعد الزوجين الذين لم يوفقا للإصلاح بينهما لشح كل منهما بماله وعدم التنازل عن شيء من ذلك يعدهما ربهما إن هم تفرقا بالمعروف أن يغني كلا من سعته، وهو الواسع الحكيم. فالمرأة يرزقها زوجاً خيراً من زوجها الذي فارقته، والرجل يرزقه كذلك امرأة خيراً ممن فارقها لتعذر الصلح بينهما.
__________
1 هذا دال على أن المحبة أمر قهري، يعجز الإنسان عن جلبها، كما يعجز عن دفعها، وإن كانت لها أسباب لا يملك توفيرها، فلذا عفي عن هذا الحب القهري وجوداً وعدمًا.
2 رواه أبو داود بإسناد صحيح، ورواه غيره. والمراد بقوله: "فيما تملك ولا أملك". القلب؛ لأن القلوب بيد الله يقبلها كيف يشاء.
3 ورد في ذنب الميل إلى إحدى الزوجات وعيد شديد، وذلك فيما رواه أحمد وأصحاب السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من كانت له امرأتان فمال إحداهما جاء يوم القيامة وإحدى شقيه ساقط" .
4 هناك إشارة إلى أن هذا الوعد الإلهي مشروط بمحاولة الصلح أولاً فإن لم يتم وتفرقا على طاعة الله تعالى، أنجز الله تعالى لهما ما وعد.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ إرث النساء والأطفال، والمحافظة على مال اليتامى وحرمة أكلها.
2- استحباب الصلح بين الزوجين عند تعذر البقاء مع بعضهما إلا به.
3- تعذر العدل بين الزوجين في الحب والوطء استلزم عدم المؤاخذة به واكتفى الشارع بالعدل في الفراش، والطعام والشراب والكسوة والمعاشرة بالمعروف.
4- الترغيب في الإصلاح والتقوى وفعل الخيرات.
5- الفرقة بين الزوجين إن كانت على مبدأ الإصلاح والتقوى أعقبت خيراً عاجلاً آجلاً.
{وَلِلَّهِ1 مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً(131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً(132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً(133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً(134)}
__________
1 إن قيل ما وجه تكرار جملة: {لله مَا في السمَواتْ ومَا في الأرض} ثلاث مرات؟ فالجواب: أنه تعالى لما ذكر أن الزوجين إذا تفرقا بعد مصالحة، وعلى تقوى يغنيهما الله. برهن على ذلك بأن له ما في السموات وما في الأرض، ومن كان كذلك قهو قادر على إغنائهما، ولما وصى عباده بتقواه وهي طاعته بفعل الأمر وترك النهي، أعلم أنه قادر على عقوبة من عصاه، وأنه لم يوص بالتقوى لحاجة به، إنه يملك ما في السموات وما في الأرض، ومن كان كذلك فلا حاجة به إلى أحد، ولما ذكر غناه وحمده دلل عليهما بأن له ما في السموات ما في الأرض وأنه الحفيظ لعباده المدبر لهم.

شرح الكلمات:
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} : أي: خلقاً وملكاً وتصرفاً وتدبيراً.
{وَصَّيْنَا} : عهدنا إليهم بذلك أي: التقوى.
{أُوتُوا الْكِتَابَ} : اليهود والنصارى.
الوكيل : من يفوض إليه الأمر كله ويقوم بتدبيره على أحسن الوجوه.
{ثَوَابُ الدُّنْيَا} : جزاء العمل لها.
ثواب الآخرة : جزاء العمل لها، وهو الجنة.
{سَمِيعاً بَصِيراً} : سمعياً: لأقوال العباد بصيراً: بأعمالهم وسيجزيهم بها خيراً أو شراً.
معنى الآيتين:
لما وعد تبارك وتعالى كلا من الزوجين المتفرقين بالإغناء عن صاحبه ذكر أنه يملك ما في السموات وما في الأرض، ولذا فهو قادر على إنائهما لسعة ملكه وعظيم فضله، ثم واجه بالخطاب الكريم الأمة جمعاً ومن بينها بني أبيرق فقال: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يريد من اليهود والنصارى وغيرهم أوصاهم بتقواه عز وجل فلا يقدموا على مشاقته ولا يخرجوا عن طاعته بترك ما أوجب أو بفعل ما حرم، ثم أعلمهم أنهم وإن كفروا كما كفر طعمة وارتد فإن ذلك غير ضائره شيئاً، لأنه ذو الغنى والحمد، وكيف وله جميع ما في السموات وما في الأرض من كائنات ومخلوقات وهو ربها ومالكها والمتصرف فيها.
هذا ما تضمنته الآية الأولى(131)، أما الآية الثانية(132) فقد كرر تعالى فيها الإعلان عن استحقاقه الحمد والغنى، وذلك لملكه جميع ما في السموات وما في الأرض ولقيوميته عليهما، وكفى به تعالى حافظاً ووكيلاً. وفي الآية الثالثة(133) يخبر تعالى أنه قادر على إذهاب كافة الجنس البشري واستبداله بغيره وهو على كل ذلك قدير، فقال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ1 وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} وذلك لعظيم قدرته وكفاية وكالته. وفي الآية الرابعة والأخيرة في هذا السياق(134) يقول تعالى مرغباً عباده فيما عنده من خير الدنيا والآخرة من كان يريد
__________
1 الآية تحمل تخويفاً إيما تخويف لكل من يقصر في واجبه من أمير، ومأمور، وعالم، وجاهل، وغني، وفقير، إذ لكل واجبات يجب أن يقوم بها كل بحسب ما طولب به وفرض عليه. فالأمير عليه العدل، والعالم أن يعلم، والجاهل أن يتعلم، وهكذا.

بعمله ثواب1 الدنيا {فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} فلم يقصر العبد عمله على ثواب الدنيا، وهو يعلم أن ثواب الآخرة عند الله أيضاً، فليطلب الثوابين معاً من الله تعالى، وذلك بالإيمان والتقوى والإحسان، وسيجزيه تعالى بعمله ولا ينقصه له وذلك لعلمه تعالى وقدرته، {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً2} ، ومن كان كذلك فلا يخاف معه ضياع الأعمال.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الوصية بالتقوى، وذلك بترك الشرك والمعاصي بعد الإيمان وعمل الصالحات.
2- غنى الله تعالى عن سائر خلقه.
3- قدرة الله تعالى على إذهاب الناس كلهم والإتيان بغيرهم.
4- وجوب الإخلاص في العمل لله تعالى وحرمة طلب الآخرة بطلب الدنيا.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً(135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً(136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا
__________
1 في هذه الآية إرشاد عظيم للعباد، لقد علم تعالى أن الإنسان بحكم وجوده في هذه الحياة ورغبته في السعادة فيها، هو يعمل لها جهده غافلاً عن الحياة الآخرة التي هي أعظم لبقاءها وكبر شأنها، فلفت نظره إليها معلمًا إياه أنه لديه تعالى ثواب كل من الحياتين، فليطلب ذلك منه بالإيمان به، وطاعته كما طلب الدنيا بالأعمال الموصلة إلى تحقيق السعادة فيها، وفوق ذلك أن ثواب العملين بديه تعالى لا بيد غيره.
2 هذا التذييل يربي ملكة مراقبة الله تعالى، إذ من علم أن الله سميع لأقواله عليم بأعماله. راقبه واتقاه.

ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً(137)}
شرح الكلمات:
{قَوَّامِينَ} : جمع قوام: وهو كثير القيام بالعدل.
{بِالْقِسْطِ} : بالعدل وهو الاستقامة والتسوية بين الخصوم.
{شُهَدَاءَ} : جمع شهيد: بمعنى شاهد.
{الْهَوَى} : ميل النفس إلى الشيء ورغبتها فيه.
{تَلْوُوا} : أي: ألسنتكم باللفظ تحريفاً له حتى لا تتم الشهادة على وجهها.
{تُعْرِضُوا} : تتركوا الشهادة أو بعض كلماتها ليبطل الحكم.
معنى الآيات:
قوله تعالى في هذه الآية(135): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} أي: بالعدل {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} إذ بشهادتكم ينتقل الحق من شخص إلى آخر حيث أقامكم الله ربكم شهداء له في الأرض تؤدى بواسطتكم الحقوق إلى أهلها، وبناء على هذا فأقيموا الشهادة لله ولو شهادتكم على أنفسكم1 أو والديكم أو أقرب الناس إليكم وسواء كان المشهود عليه غنياً أو فقيراً فلا يحملنكم غنى الغنى ولا فقر الفقير على تحريف الشهادة أو كتمانها، فالله تعالى ربهمها أولى بهما وهو يعطي ويمنع بشهادتكم فأقيموها وحسبكم ذلك واعلموا أنكم إن تلووا2 ألسنتكم بالشهادة تحريفاً لها وخروجاً بها عن أداء ما يترتب عليها أو تعرضوا عنها فتتركوها أو تتركوا بعض كلماتها فيفسد معناها ويبطل مفعولها فإن الله بعملكم ذلك وبغيره خبير وسوف يجزيكم به فيعاقبكم في الدنيا أو في الآخرة ألا فاحذروا.
هذه الآية الكريمة يدخل فيها دخولاً أولياً من شهدوا لأبناء أبيرق بالإسلام والصلاح كما هي
__________
1 القاعدة العامة منذ عهد بعيد: أن القريب لا يشهد لقريبه، ولكن يشهد عليه. فلا يشهد الأب لابنه، ولا الابن لأبيه، لوجود تهمة المحاباة للقرابة، وكذا لا يجوز شهادة على عدوه، وهذا مذهب عامة الفقهاء، وحتى الخادم في البيت لا يجوز شهادته لأهل البيت، إذ قد يحابيهم لمنفعته.
2 وفسر ابن عباس: {تلووا} بقوله: هو في الخصمين يجلسان بين يدي القاضي فيكون لي القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر، فللي على هذا هو مطل الكلام وجره حتى يفوت فصل القضاء وإنفاذه للذي يميل القاضي عليه، ويشهد لهذا الحديث: "لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته" . ولا تنافي بين تفسير ابن عباس وما ذكرناه في التفسير.

خطاب للمؤمنين إلى يوم القيامة وهي أعظم آية في هذا الباب فليتق الله المؤمنون في شهاداتهم.
أما الآية الثانية(136): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ} فهي في خطاب أهل الكتاب خاصة وفي سائر المؤمنين عامة، فالمؤمنون تدعوهم إلى تقوية إيمانهم ليبلغوا فيه مستوى اليقين، أما أهل الكتاب فهي دعوة لهم للإيمان الصحيح، لأن إيمانهم الذي هم عليه غير سليم، فلذا دعوا إلى الإيمان الصحيح فقيل لهم: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} محمد {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} وهو القرآن الكريم، {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} وهو التوراة والإنجيل، لأن اليهود لا يؤمنون بالإنجيل، ثم أخبرهم محذراً لهم أن {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ} طريق الهدى والسعادة {ضَلالا بَعِيداً} لا ترجى هدايته، وعليه فسوف يهلك ويخسر خسراناً أبدياً.
ثم أخبرهم تعالى في الآية بعد هذه(137) مقرراً الحكم بالخسران الذي تضمنته الآية قبلها فقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا1} بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكتابه وبما جاء به {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ} أي: لم يكن في سنة الله أن يغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً ينجون به ويسعدون فيه ألا فليحذر اليهود والنصارى هذا وليذكروه، وإلا فالخلود في نار جهنم لازم لهم ولا يهلك على الله إلا هالك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب العدل في القضاء والشهادة.
2- حرمة شهادة الزور وحرمة التخلي2 عن الشهادة لمن تعينت عليه.
3- وجوب الاستمرار على الإيمان وتقويته حتى الموت عليه.
4- بيان أركان الإيمان وهي الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر3.
__________
1 في هذه الآية: أن الكافر إذا آمن غفر له كفره، وإذا ارتد يؤاخذ بكفره الأول والأخير سواء. وشاهده حديث مسلم: إذ قال أناس: يا رسول الله أتأخذنا بما عملنا في الجاهلية. قال: "أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها، ومن أساء –كفر- أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام " . وفي رواية: "ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخير" .
2 شاهده من السنة قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر" قلنا بلى يا رسول الله. قال: "الشرك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، وقال: "ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور" وما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت. أو كما قال.
3 وبقي ركن: وهو القضاء والقدر، جاء ذكره في قوله تعالى من سورة القمر : {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} .

5- المرتد يستتاب ثلاثة أيام وإلا قتل كفراً أخذاً من قوله: {ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} .
{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً(138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً(139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً(140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً(141)}
شرح الكلمات:
{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ} : البشارة: الخير الذي تتأثر به بشرة من يلقى عليه خيراً كان أو شراً. والمنافق: من يبطن الكفر ويظهر الإيمان تقية ليحفظ دمه وماله.
{أَوْلِيَاءَ} : يوالونهم محبة ونصرة لهم على المؤمنين.
{الْعِزَّةَ} : الغلبة والمنعة.
{وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} : يذكونها استخفافاً بها وإنكاراً وجحوداً لها.
{يَخُوضُوا} : يتكلموا في موضوع آخر من موضوعات الكلام.
{مِثْلُهُمْ} : أي: في الكفر والإثم.
{يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} : ينتظرون متى يحصل لكم انهزام أو إنكسار: فيعلنون عن كفرهم.
{نَصِيبٌ} : أي: من النصر وعبر عنه بالنصيب القليل لأن انتصارهم على المؤمنين نادر.

{نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} : أي: نستول عليكم ونمنعكم من المؤمنين إن قاتلوكم.
{سَبِيلاً} : أي: طريقاً إلى إذلالهم واستعبادهم والتسلط عليهم.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} يأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر المنافقين بلفظ البشارة؛ لأن المخبر به يسوء وجوههم وهو العذاب الأليم، وقد يكون في الدنيا بالذل والمهانة والقتل، وأما في الآخرة فهو أسوأ العذاب وأشده، وهو لازم لهم لخبث نفوسهم وظلمة أرواحهم، ثم وصفهم تعالى بأخس صفاتهم وشرها فقال: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ1 مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فيعطون محبتهم ونصرتهم وولاءهم للكافرين ويمنعون ذلك المؤمنين وذلك لأن قلوبهم كافرة آثمة لم يدخلها إيمان ولم يُنرها عمل الإسلام، ثم وبخهم تعالى ناعياً عليهم جهلهم فقال: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} أي: يطلبون العزة، أي: المنعة والغلبة من الكافرين أجهلوا أم عموا فلم يعرفوا أن {الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} فمن أعزه الله عز ومن أذله ذل، والعزة تطلب الإيمان وصالح الأعمال لا بالكفر والشر والفساد. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى(138) والثانية(139).
أما الآية الرابعة(140) فإن الله تعالى يؤدب المؤمنين فيذكرهم بما أنزل عليهم في سورة الأنعام حيث نهاهم عن مجالسة أهل الباطل إذا خاضوا في الطعن في آيات الله ودينه فقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} هذا الأدب أخذ الله تعالى به رسوله والمؤمنين، وهم في مكة قبل الهجرة لأن سورة الأنعام مكية ولما هاجروا إلى المدينة، وبدأ النفاق وأصبح للمنافقين مجالس خاصة ينتقدون فيها المؤمنين ويخوضون فيها في آيات الله تعالى استهزاء وسخرية ذكر الله تعالى المؤمنين بما أنزل عليهم في مكة فقال: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ2 اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ3 حَتَّى
__________
1 في الآية دليل على حرمة موالاة الكافرين وأنها من صفات المنافقين، ومن مظاهر الموالاة المحرمة الاستعانة بهم على أمور الدين وعلى أذية المسلمين. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لحق به مشرك ليقاتل معه، فقال له: "ارجع فإنا لا نستعين بمشرك" . في الصحيح.
2 أوقع السماع على الآيات، والمراد سماع الكفر، والاستهزاء بها، كما يقال: سمعت فلانًا يلام، أي: سمعت اللوم فيه.
3 قوله: {في حديث غيره} أي: في غير الكفر والاستهزاء بالآيات.

يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً} أي: إذا رضيتم بالجلوس معهم، وهم يخوضون في آيات الله {مِثْلُهُمْ} في الإثم والجريمة1، والجزاء أيضاً، {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} فهل ترضون أن تكونوا معهم في جهنم، وإن قلتم لا إذا فلا تجالسوهم. ثم ذكر تعالى وصفاً آخر للمنافقين يحمل التنفير منهم والكراهية والبغض لهم فقال: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} أي: ينتظرون بكم الدوائر ويتحينون الفرص {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ} أي: نصر وغنيمة قالوا: {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} فأشركونا في الغنيمة، {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} في النصر، قالوا لهم: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ2 عَلَيْكُمْ} أي: نستول عليكم {وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أن يقاتلوكم، فأعطونا مما غنمتم، وهكذا المنافقون يمسكون العصا من الوسط، فأي جانب غلب كانوا معه. ألا لعنة الله على المنافقين وما على المؤمنين إلا الصبر لأن مشكلة المنافقين عويصة الحل، فالله يحكم بينهم يوم القيامة. أما الكافرون الظاهرون فلن يجعل الله تعالى لهم على المؤمنين سبيلاً لا لاستئصالهم وإبادتهم، ولا لاذلالهم والتسلط عليهم ما داموا مؤمنين صادقين في إيمانهم3. وهذا ما ختم الله تعالى به الآية الكريمة إذ قال: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين.
2- الباعث للناس على اتخاذ الكافرين أولياء هو الرغبة في العزة ورفع المذلة وهذا باطل، فالعزة لله ولا تطلب إلا منه تعالى بالإيمان واتباع منهجه.
3- حرمة مجالسة أهل الباطل إذا كانوا يخوضون في آيات الله نقداً واستهزاء وسخرية.
4- الرضا بالكفر كفر، والرضا بالإثم إثم.
5- تكفل الله تعالى بعزة المؤمنين الصادقين ومنعتهم فلا يسلط عليهم أعداءه
__________
1 في الآية دليل على حرمة الجلوس في مجالس المعاصي وغشيان الذنوب إلى أن ينكر ذلك على أصحابها؛ لأن الرضا بالمعصية معيصية، بل الرضا بالكفر كفر بالإجماع. ويدخل في هذا مجالس أرباب الأهواء وأصحاب البدع، والآية محكمة لا نسخ فيها.
2 أصل الاستحواذ: الحوط، يقال: حاذه يحذه حوذًا، إذ أحاطه، فمعنى: استحوذ: أحاط واستولى وغلب.
3 يشهد لهذا حديث مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: "إني سألت ربي ألا يهلكها –أي: أمته- بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضاً" . وهو معنى قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} .

فيستأصلونهم، أو يذلونهم ويتحكمون فيهم.
{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً(142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً(143)}
شرح الكلمات:
{يُخَادِعُونَ اللَّهَ} : بإظهارهم ما يحب وهو الإيمان والطاعات، وإخفائهم الكفر والمعاصي.
{وَهُوَ خَادِعُهُمْ} : بالستر عليهم وعدم فضيحتهم، وبعدم إنزال العقوبة بهم.
{يُرَاؤُونَ} : أي: يظهرون الطاعات للمؤمنين كأنهم مؤمنون وما هم بمؤمنين.
{مُذَبْذَبِينَ} : أي: يترددون بين المؤمنين والكافرين فأي جانب عز كانوا معه.
معنى الآيتين:
يخبر تعالى أن المنافقين في سلوكهم الخاص يخادعون الله تعالى بإظهارهم الإيمان به وبرسوله وهم غير مؤمنين إذ الخداع أن تري من تخادعه ما يحبه منك وتستر عليه ما يكرهه والله تعالى عاملهم بالمثل فهو تعالى أراهم ما يحبونه وستر عليهم ما يكرهونه منه وهو العذاب1 المعد لهم عاجلاً أو آجلاً، كما أخبر تعالى إذا قاموا إلى أداء الصلاة قاموا كسالى2 متباطئين؛ لأنهم لا يؤمنون بالثواب الأخروي، فلذا هم يراءون بالأعمال الصالحة المؤمنين حتى لا يتهمونهم بالكفر، كما أنهم لا يذكرون الله تعالى إلا ذكراً قليلاً في الصلاة3 وخارج الصلاة،
__________
1 قال الحسن البصري في الآية: يعطي كل إنسان من مؤمن ومنافق نورًا يوم القيامة، فيفرح المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا فإذا جاءوا إلى السراط طفأ نور كل منافق. فسر به قوله تعالى: {وَهوَ خَادعهم} ، وما ذكرناه في التفسير أولى، وإن كان هذا حاصل لقوله تعالى: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} .
2 شاهده من السنة قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: "إن أثقل صلاة على المنافقين العتمة –العشاء- والصبح" ؛ لأن الصلاة تقعان في الظلام، ولأن العتمة يكون المرء فيها تعبًا مرهقًا من أعمال النهار، وأما الصبح فإن غلبة النوم أشد على العبد، ولولا الخوف من السيف ما شاهدوا الصلاتين.
3 روى مالك في الموطأ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تلك صلاة المنافقين –ثلاثًا- يجلس أحدهم يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان أو على قرني شيطان قام فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلا ". وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود ". صححه الترمذي.

وذلك لعدم إيمانهم بالله تعالى وعدم حبهم له كما أخبر عنهم بأنهم مذبذبون بين الكفر والإيمان والمؤمنين والكافرين فلا إلى الإيمان والمؤمنين يسكنون، ولا إلى الكفر والمنافقين يسكنون فهم في تردد وحسرة دائمون، وهذه حال من يضله الله فإن من يضلل الله لا يوجد لهدايته سبيل.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان صفات المنافقين1.
2- قبح الرياء وذم المرائين.
3- ذم ترك الذكر والتقليل منه لأمر الله تعالى بالإكثار منه في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} .
4- ذم الحيرة والتردد في الأمور كلها.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً(144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا(145) إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً(146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً(147)}
شرح الكلمات:
{سُلْطَاناً مُبِيناً} : حجة واضحة لتعذيبكم.
__________
1 وفي صحيح مسلم وصف بحال المنافقين في تذبذبهم وحيرتهم، إذ قال صلى الله عليه وسلم: "مثل المنافق؛ كمثل الشاة العائرة –المترددة بين قطيعين من الغنم- بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه أخرى" .

{الدَّرْكِ الأَسْفَلِ} : الدرك: كالطابق، والدركة كالدرجة.
{وَأَصْلَحُوا} : ما كانوا قد أفسدوه من العقائد والأعمال.
{وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} : تمسكوا بدينه وتوكلوا عليه.
{وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} : تخلوا عن النفاق والشرك.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في إرشاد الله تعالى المؤمنين إلى ما يعزهم ويكملهم ويسعدهم ففي هذه الآية(144) يناديهم تعالى بعنوان الإيمان، وهو الروح الذي به الحياة وينهاهم عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ومعنى اتخاذهم أولياء موادتهم ومناصرتهم والثقة فيهم والركون إليهم والتعاون معهم، ولما كان الأمر ذا خطورة كاملة عليهم هددهم تعالى بقوله: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً1} فيتخلى عنكم ويسلط عليكم أعداءه الكافرين فيستأصلوكم، أو يقهروكم ويستذلوكم ويتحكموا فيكم. ثم حذرهم من النفاق أن يتسرب إلى قلوبهم فأسمعهم حكمه العادل في المنافقين الذين هم رؤوس الفتنة بينهم فقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ2 الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} ، فأسفل طبقة في جهنم هي مأوى المنافقين يوم3 القيامة، ولن يوجد لهم ولي ولا نصير أبداً ثم رحمة بعباده تبارك وتعالى يفتح باب التوبة للمنافقين على مصراعيه ويقوله لهم: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} إلى ربهم فآمنوا به وبرسوله حق الإيمان {وَأَصْلَحُوا} أعمالهم {وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} ونفضوا أيديهم من أيدي الكافرين، {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} فلم يبقوا يراءون أحداً بأعمالهم. فأولئك الذين ارتفعوا إلى هذا المستوى من الكمال هم مع المؤمنين جزاؤهم واحد، وسوف يؤتي الله المؤمنين أجراً عظيماً وهو كرامة الدنيا وسعادة الآخرة.
__________
1 قال القرطبي في تفسيره: {سلطاناً مبينًا} أي: في تعذيبه إياكم وبإقامة الحجة عليكم إذ قد نهاكم.
2 الدرك بالإسكان والفتح، والنار سبع دركات، يقال فيمن تعالى وارتفع: درجة، وفيما سفل ونزل: دركة. والدركات: هي كالتالي: جهنم، ثم لظي، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. وقد تسمى جميعها باسم الطبقة الأولى: جهنم.
3 روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: أن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون تصديق ذلك في كتاب الله تعالى، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} ، وقال في أصحاب المائدة: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} ، وقال في آل فرعون: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}.

وأخيراً في الآية(147) يقرر تعالى غناه عن خلقه وتنزهه عن الرغبة في حب الانتقام فإن عبده مهما جنى وأساء، وكفر وظلم إذا تاب وأصلح فآمن وشكر. لا يعذبه أدنى عذاب إذا لا حاجة إلى تعذيب عباده فقال عز وجل هو يخاطب عباده {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} لا يضيع المعروف عنده. لقد شكر لبغي1 سفيهاً كلباً عطشان فغفر لها وأدخلها الجنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين.
2- إذا عصى المؤمنون ربهم فاتخذوا الكافرين أولياء سلط الله عليهم أعداءهم فساموهم الخسف.
3- التوبة تجب ما قبلها حتى إن التائب من ذنبه كمن لا ذنب له ومهما كان الذنب الذي غشيه.
4- لا يعذب الله تعالى المؤمن الشاكر لا في الدنيا ولا في الآخرة، فالإيمان والشكر أمان الإنسان.
__________
1 هذا مقتبس من حديث الصحيحين، ونصه: روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقى فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له" والشاهد في فضل الشكر والإيمان.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج11. أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري

ج11. أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري سورة التغابن مكية إلا آخرها فمدني وآياتها ث...