Translate انتكوخ

الثلاثاء، 14 فبراير 2023

ج3وج4.أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري

ج3.



الكتاب أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري

الناشر : مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية
الطبعة : الخامسة، 1424هـ/2003م
مصدر الكتاب : موقع مكتبة المدينة الرقمية
http://www.raqamiya.org
[ الكتاب موافق للمطبوع ، ومعه حاشيته المسماة نهر الخير على أيسر التفاسير ] 

 الجزء السادس

{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً(148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً(149)}
شرح الكلمات:
{بِالسُّوءِ1} : ما يسوء إلى من قيل فيه أو فعل به.
{سَمِيعاً عَلِيماً} : سميعاً للأقوال عليماً بالأعمال.
{إِنْ تُبْدُوا} : تظهروا ولا تخفوا.
{تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} : أي: لا تؤاخذوا به.
معنى الآيتين:
يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء، ولازم هذا أن عباده المؤمنين يجب أن يكرهوا ما يكره ربهم ويحبوا ما يحب وهذا شرط الولاية وهي الموافقة وعدم المخالفة، ولما حرم تعالى على عباده الجهر بالسوء بأبلغ عبارة وأجمل أسلوب، استثنى المظلوم فإن له أن يجهر2 بمظلمته لدى الحاكم ليرفع عنه الظلم فقال تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ3 الْقَوْلِ إِلا مَنْ4 ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ –"وما زال"- سَمِيعاً عَلِيماً} ألا فليتق فلا يعصى بفعل السوء ولا بقوله. ثم انتدب عباده المؤمنين إلى فعل الخير في السر أو العلن، وإلى العفو عن صاحب السوء فقال: {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ5 سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} فسيكسب فاعل الخير خيراً أبداه أو أخفاه وسيعفو عن صاحب العفو حينما تزل قدمه فيجني بيده أو بلسانه ما يستوجب به المؤاخذة فيشكر الله تعالى له عفوه السابق فيعفو عنه {كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} .
__________
1 كاللسب والشتم والغيبة والنميمة، والدعاء بالشر، وألفاظ البذاءة وكلمات الفحش.
2 روى ابن جرير عن مجاهد أن رجلاً استضاف قومًا، فلم يضيفوه، أي: طلب منهم أن يطعموه فاشتكاهم فعوتب عليه، فنزلت هذه الآية: { لا يُحِبُّ...} إلخ. ودلت على إن إطعام الضيف وإيواءه ليلة واجب، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليلة الضيف واجبة". رواه أحمد.
3 {مِنَ الْقَوْلِ} في محل نصب على الحال.
4 في الآية دليل على جواز الدعاء على الظالم ممن ظلمه، وجواز رد الشتم والسب بمثله إلا أن ترك ذلك أفضل.
5 شاهده من السنة قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "ما نقص مال من صدقة، ولا زاد الله عبدًا بعفو إلا عزا، ومن تواضع لله رفعه" .

هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- حرمة الجهر بالسوء والسر به كذلك فلا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن ينطق بما يسوء إلى القلوب والنفوس إلا في حالة الشكوى وإظهار الظلم لا غير.
2- استحباب فعل الخير وسره كجهره لا ينقص أجره بالجهر ولا يزيد بالسر.
3- استحباب العفو عن المؤمن إذا بدا منه سوء، ومن يعف يعف الله عنه.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً(150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً(151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً(152)} 1
شرح الكلمات:
{وَرُسُلِهِ} : الرسل: جمع رسول وهم جم غفير، قيل: عددهم ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً2.
{سَبِيلاً} : أي: طريقاً بين الكفر والإيمان، وليس ثم إلا طريق واحد وهو الإيمان أو الكفر فمن آمن بكل الرسل فهو المؤمن، ومن آمن بالبعض وكفر بالبعض فهو الكافر كمن لم يؤمن بأحد منهم.
__________
1 المناسبة بين هذه الآيات وما سبقها ينظر إليها من حيث أن القرآن كتاب هداية للبشرية، فلذا لما ذكر حال المنافقين مبيناً لهم طريق توبتهم إن أرادوا ذلك ذكر بعض بيان حكم حرمة النطق بالسوء سرًا وجهرًا إلا ما رخص فيه ذكر حال اليهود والنصارى مبينًا كفرهم، وما أعد لهم من العذاب إن أصروا على كفرهم وضلالهم.
2 جاء ذكر هذا العدد في حديث أبي ذر الغفاري، إذ قال فيه: "قلت يا رسول الله كم كانت الأنبياء، وكم كانوا المرسلون؟ قال: كانت الأنبياء مائة ألف نبي، وأربعة وعشرون ألف نبي. وكان المرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر". والحديث ضعيف. ولما لم يوجد غيره قال به أهل العلم قديمًا وحديثًا.

{وَلَمْ يُفَرِّقُوا} : كما فرق اليهود فأمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وكما فرق النصارى آمنوا بموسى وعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم فهم لذلك كفار.
{أُجُورَهُمْ} : أجر إيمانهم برسل الله وعملهم الصالح، وهو الجنة دار النعيم.
معنى الآيات:
يخبر تعالى مقرراً حكمه على اليهود والنصارى بالكفر الحق الذي لا مرية فيه، فيقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ1 وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ} أي: بين الكفر بالبعض والإيمان بالبعض سبيلاً، أي: طريقاً يتوصلون به إلى مذهب باطل فاسد وهو التخير بين رسل الله فمن شاءوا الإيمان به آمنوا، ومن لم يشاءوا الإيمان به كفروا به ولم يؤمنوا وبهذا كفروا كفراً لا ريب فيه، ولهم بذلك العذاب المهين الذي يهانون به ويذلون جزاء كبريائهم وسوء فعالهم، قال تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} 2 فسجل عليهم الكفر ثلاث مرات: فالمرة الأولى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} . والثانية: بقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} . والثالثة، بقوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} حيث لم يقل واعتدنا لهم فأظهر في موضع الإضمار لتسجيل الكفر عليهم وللإشارة إلى علة الحكم، وهي الكفر.
هذا ما تضمنته الآية الأولى(151)، أما الآية الثانية وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا 3 بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} فإنها مقابلة في ألفاظها ومدلولها للآية قبلها، فالأولى تضمنت الحكم بالكفر على اليهود والنصارى، وبالعذاب المهين لهم، والثانية تضمنت الحكم بإيمان المسلمين بالنعيم المقيم لهم وهو ما وعدهم به ربهم بقوله: لهم ذنوبهم ورحمهم بأن أدخلهم دار كرامته في جملة أوليائه .{أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} . فغفر
__________
1 نسبهم تعالى إلى الكفر به؛ لأن إيمانهم بالله تعالى باطل، وذلك أن اليهود يصفون الله تعالى بصفات المحدثين، ونسبوا إليه الولد، وكثير من صفات تنزه الله عنها. وأن النصارى يكفيهم كفرًا قولهم: أن الله ثالث ثلاثة وهو الكفر بعينه، حسبهم بعد ذلك كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به.
2 توعدوا بالعذاب المهين مقابل ما كانوا يرتكبونه من إهانة المؤمنين وإذلالهم، والجزاء من جنس العمل: و {حقًا} في الآية: منصوب على المصدرية، أي: حقه لهم أيها السامع حقًا.
3 هذا أسلوب القرآن الكريم، فإنه بعد أن ذكر الكافرين حقًا، وبين جزاءهم ذكر المؤمنين حقًا وبين جزاءهم، وهذا أسلوب الترغيب والترهيب الذي عليه مدار الهداية والإصلاح بإذن الله تعالى.

هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- تقرير كفر اليهود والنصارى لفساد عقيدتهم وبطلان أعمالهم.
2- كفر من كذب بالله ورسوله ولو في شيء واحد مما وجب الإيمان به.
3- بطلان إيمان من يؤمن ببعض الرسل ويكفر ببعض.
4- صحة الدين الإسلامي وبطلان اليهودية1 والنصرانية حيث أوعد تعالى اليهود والنصارى بالعذاب المهين، ووعد المؤمنين بتوفية أجورهم والمغفرة والرحمة لهم.
{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً(153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً(154)}
شرح الكلمات:
{جَهْرَةً} : عياناً نشاهده ونراه بأبصارنا.
{الصَّاعِقَةُ} : صوت حاد ورجفة عنيفة صعقوا بها.
{بِظُلْمِهِمْ} : بسبب ظلمهم بطلبهم ما لا ينبغي.
{اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} : أي: إلهاً فعبدوه.
{فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ} : أي: لم يؤاخذهم به.
{سُلْطَاناً مُبِيناً} : حجة واضحة وقدرة كاملة قهر بها أعداءه.
__________
1 وسائر الأديان؛ كالمجوسية والصابئة وغيرهما من سائر الملل والنحل، إذا لا دين حق إلا الإسلام. قال الإسلام تعالى: {إنَّ الدِين عِندَ الله الإسلام} .

{وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ} : أي: جبل الطور بسيناء.
{ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} : أي: راكعون متواضعين خاشعين لله شكراً لنعمه عليهم.
{لا تَعْدُوا1} : لا تعتدوا، أي: لا تتجاوزوا ما حد لكم فيه من ترك العمل إلى العمل فيه.
{مِيثَاقاً غَلِيظاً} : عهداً مؤكداً بالأيمان.
معنى الآيتين:
لما نعى الرب تعالى على أهل الكتاب قولهم نؤمن ببعض الرسل ونكفر ببعض حيث آمن اليهود بموسى وكفروا بعيسى وآمن النصارى بعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، كما كفر به اليهود أيضاً ذكر تعالى لرسوله أن اليهود إذا سألوك أن تنزل عليهم2 كتاباً من السماء فلا تعجب من قولهم، ولا تحفل به إذ هذه سننهم وهذا دأبهم، فإنهم قد سألوا موسى قبلك أعظم من هذا، فقالوا له: أرنا الله جهرة، فأغضبوا الله تعالى، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون واتخذوا العجل إلهاً يعبدونه في غياب موسى عليهم، وكان ذلك منهم بعد مشاهداتهم البينات حيث فلق الله لهم البحر وأنجاهم وأغرق عدوهم ومع هذا فقد عفا الله عنهم، وآتى نبيهم سلطاناً مبيناً، ولم يؤثر ذلك في طباعهم هذا ما تضمنته الآية الأولى(153) وهي قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً3 فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ4 ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ5 مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً} . أما الآية الثانية(154) فقد أخبر تعالى أنه رفع فوقهم الطور تهديداً لهم ووعيداً وذلك ما امتنعوا أن يتعهدوا بالعمل بما في التوراة، فلما رفع الجبل فوقهم خافوا فتعهدوا معطين بذلك ميثاقاً غير أنهم نقضوه كما سيأتي الإخبار بذلك. هذا
__________
1 قرأ ورش: {لا تعدّوا} بتشديد الدال وهو إدغام التاء في الدال لتقاربهما في المخرج، والأصل: لا تعتدوا من الاعتداء الذي هو العدوان.
2 ذكر القرطبي بغير إسناد أن اليهود سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يصعد إلى السماء وهم يرونه، فينزل عليهم كتابًا مكتوبًا فيما يدعيه على صدقه دفعة واحدة، كما أتى موسى بالألواح تعنتًا منهم فأنزل الله تعالى الآية.
3 {جَهْرَة} نعت لمصدر محذوف تقديره: رؤية جهرة، ويصح أن يكون حالا، أي: مجاهرة بلا حجاب ساتر.
4 {بِظلمهم} : الباء سببية، أي: سبب ظلمهم، وليس المراد من ظلمهم طلب رؤية الله تعالى. إذ هذا طلبه موسى أيضاً، ولكن ظلمهم: كونهم اشترطوا لإيمانهم بموسى حتى يريهم الله جهرة.
5 العطف بثم هنا: هو للتراخي الرتبي لا لإفادة الترتيب الزمني، إذ اتخاذهم العجل كان قبل طلبهم رؤية الله جهرة، إذ المراد من البينات التي جاءتهم انفلاق البحر، وقبله آية العصا، وغيرها من التسع آيات التي أتى الله موسى عليه السلام.

معنى قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ} ، وقوله تعالى: {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} كان هذا عندما دخل يوشع بن نون فتى موسى مدينة القدس فاتحاً أوحى الله تعالى إليه أن يأمر بني إسرائيل أن يدخلوا باب المدينة خاضعين متطامنين شكراً لله تعالى على نعمة الفتح فبدل أن يطيعوا ويدخلوا الباب راكعين متطامنين دخلوه زحفاً على استاهم مكراً وعناداً والعياذ بالله. وقوله: {وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} أي: ونهيناهم عن الصيد في السبت فتعدوا نهينا وصادوا عصياناً وتمرداً، وقوله تعالى: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} أي: على أن يعملوا بما شرعنا لهم تحليلاً وتحريماً في التوراة، ومع هذا فقد عصوا وتمردوا وفسقوا، إذاً فلا غرابة في سؤالهم إياك على رسالتك وليؤمنوا بك أ تنزل عليهم كتاباً من السماء. هذا معنى قوله تعالى في الآية(154) {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} أي: لا تتجاوزا ما أحللنا لكم إلى ما حرمنا عليكم {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً1}.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- تعنت أهل الكتاب إزاء الدعوة الإسلامية وكفرهم بها على علم إنها دعوة حق.
2- بيان قبائح اليهود وخبثهم الملازم لهم طوال حياتهم.
3- نفض اليهود للعهود والمواثيق أصبح طبعاً لهم لا يفارقهم أبداً، ولذا وجب عدم الثقة في عهودهم ومواثيقهم.
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً(155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً(156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ
__________
1 كل ما ذكر في هذه الآيات هو تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتخفيفاً على نفسه، مما يلاقي من تعنت اليهود، وصلفهم، وقساوة قلوبهم ومعاملاتهم.

اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً(157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً(158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً(159)}
شرح الكلمات:
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ} : الباء سببية: أي: فبسبب نقضهم ميثاقهم، والنقض: الحل بعد الإبرام.
{بِغَيْرِ حَقٍّ} : أي: بدون موجب لقتلهم، ولا موجب لقتل الأنبياء قط.
{غُلْفٌ1} : جمع أغلف، وهو ما عليه غلاف يمنعه من وصول المعرفة والعلم إليه.
{بُهْتَاناً عَظِيماً} : البهتان: الكذب الذي يحير من قبل فيه، والمراد هنا رميهم لها بالزنى.
{وَمَا صَلَبُوهُ} : أيك لم يصلبوه، والصلب شده على خشبة وقتله عليها.
{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} : أي: وما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمن عند حضور الموت أن عيسى عبد الله ورسوله فما هو ابن زنى ولا ساحر كما يقول اليهود، ولا هو الله ولا ابن الله كما يقول النصارى.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن اليهود وبيان الجرائم التي كانت سبباً في لعنهم وذلهم، وغضب الله تعالى عليهم، وهذا تعداد تلك الجرائم الواردة في الآيات الثلاث الأولى في هذا السياق وهي:(155-156-157).
__________
1 {غُلْف} : قد يكون جمع غلاف، ومعناه حينئذ: أن قلوبهم أوعية للعلم فلا حاجة بهم إلى علم سوى ما عندهم ولا منافاة بين المعنيين في النهر وأيسر التفاسير.

1- نقضهم العهود والمواثيق وخاصة عهدهم بالعمل بها في التوراة.
2- كفرهم بآيات الله والمنزلة على عبد الله عيسى ورسوله والمنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم.
3- قتلهم الأنبياء؛ كزكريا ويحي وغيرهم وهو كثير في عهود متباينة.
4- قولهم قلوبنا غلف حتى لا يقبلوا دعوة الإسلام، وما أراد الرسول إعلامهم به وكذبهم الله تعالى في هذه الدعوى، وأخبر أن لا أغطية على قلوبهم، ولكن طبع الله تعالى عليها بسبب ذنوبهم فران عليها الران فمنعها من قبول الحق اعتقاداً وقولاً وعملاً، هذا ما تضمنته الآية الأولى، وهي قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} والباء سببية والميم صلة والأصل، فبنقضهم، أي: بسبب نقضهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم. {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً} أي: إيماناً قليلاً؛ كلإيمانهم بموسى وهارون والتوراة والزبور مثلاً.
5- كفرهم: أي: بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم أيضاً.
6- قولهم على مريم بهتاناً عظيماً1 حيث رموها بالفاحشة، وقالوا عيسى ابن مريم ابن زنى لعنهم الله.
7- قولهم متبجحين متفاخرين أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم عليه السلام وهو رسول الله، وأكذبهم الله تعالى في ذلك بقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} أي: برحل آخر ظنوه أنه هو فصلبوه وقتلوه، وأما المسيح فقد رفعه الله تعالى إليه وهو عنده في السماء كما قال تعالى في الآية (158) {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} أي: غالباً على أمره حكيماً في فعله وتدبيره.
وأما قوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} ، هذا إخبار من الله تعالى بحقيقة أخرى وهي أن الذين طوقوا منزل المسيح وهجموا عليه ليلقوا عليه القبض من أجل أن يقتلوه هؤلاء اختلفوا2 في هل الرجل الذي ألقي عليه شبه عيسى هو عيسى أو غيره إنهم لم يجزموا أبداً بأن من ألقوا عليه القبض وأخرجوه فصلبوه وقتلوه هو المسيح عليه السلام، ولذا قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ3 يَقِيناً، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ
__________
1 البهتان العظيم الذي قالوه على مريم، هو: رميهم لها بالزنى مع يوسف النجار، وهو عبد صالح.
2 ذكر القرطبي للاختلاف عدة وجوه، كلها سائغة، وما ذكرناه في التفسير أولى، من بين الوجوه قولهم: إن كان صاحبنا فأين عيسى؟ وإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟.
3 ما زال الخلاف قائمًا إلى اليوم، فالجمهور منهم يقولون: صلب عيسى وقتل وبعد ثلاثة أيام رفع. وخلاف الجمهور يقولون: لم يصلب عيسى ولم يقتل.

إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}1.
أما الآية الأخيرة في هذا السياق(159) فإن الله تعالى أخبر أنه ما من يهودي ولا نصراني يحضره الموت ويكون في انقطاع عن الدنيا إلا آمن بأن عيسى عبد الله ورسوله، وليس هو ابن زنى ولا ساحر كما يعتقد اليهود، ولا هو الله ولا ابن الله كما يعتقد النصارى، ولكن هذا الإيمان لا نيفع صاحبه لأن حصل عند معاينة الموت قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} هذا ما دلت عليه الآية الكريمة: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} أي: يشهد على كفرهم به وبما جاءهم به، ووصاهم عليه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ودين الحق الذي جاء به.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان جرائم اليهود.
2- بطلان اعتقاد النصارى في أن عيسى صلب وقتل، أما اليهود فإنهم وإن لم يقتلوا عيسى فهم مؤاخذون على قصدهم حيث صلبوا وقتلوا من ظنوه أنه عيسى عليه السلام.
3- تقرير رفع عيسى عليه السلام إلى السماء ونزوله في آخر أيام الدنيا.
4- الإيمان؛ كالتوبة عند معاينة ملك الموت لا تنفع ولا تقبل وجودها كعدمها.
{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً(160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً(161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا
__________
1 عزة الله يتنافى معها تسلط اليهود على عبده ورسوله عليسى وقتلهم له وحكمته تتجلى في رفعه إليه وإنزاله آخر أيام الدنيا.

أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً(162)}
شرح الكلمات:
{فَبِظُلْمٍ} : الباء سببية، أي: فبسبب ظلمهم.
{هَادُوا} : اليهود إذ قالوا: أنا هدنا إليك.
{طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} : هي كل ذي ظفر وشحوم البقر والغنم.
{وَأَخْذِهِمُ الرِّبا} : قبوله والتعامل به وأكله.
{الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} : أصحاب القدم الثابتة في معرفة الله وشرائعه ممن علومهم راسخة في نفوسهم ليست لنيات بل هي يقينات.
معنى الآيات:
ما زال السياق في اليهود من أهل الكتاب يبين جرائمهم ويكشف الستار عن عظائم ذنوبهم، ففي الآية الأولى(160) سجل عليهم الظلم العظيم والذي به استوجبوا عقاب الله تعالى حيث حرم عليهم طيبات كثيرة كانت حلالاً لهم، كما سجل عليهم أقبح الجرائم، وهي صدهم أنفسهم وصد غيرهم عن سبيل الله تعالى، وذلك بجحودهم الحق وتحريفهم كلام الله، وقبولهم الرشوة في إبطال الأحكام الشرعية. هذا ما تضمنته الآية الأولى، أما الثانية(161) فقد تضمنت تسجيل جرائم أخرى على اليهود وهي أولاً استباحتهم للربا1 وهو حرام، وقد نهوا عنه، وثانياً أكلهم أموال الناس بالباطل؛ كالرشوة والفتاوى الباطلة التي كانوا يأكلون بها. وأما قوله تعالى في ختام الآية: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} فهو زيادة على عاقبهم به في الدنيا أعد لمن كفر منهم ومات على كفره عذاباً أليماً موجعاً يعذبون به يوم القيامة. وأما الآية الثالثة(162) فقد نزلت في عبد الله بن سلام وبعض العلماء من يهود المدينة فذكر تعالى؛ كالاستثناء من أولئك الموصوفين بأقبح الصفات وهي صفات جرائم
__________
1 أورد القرطبي هنا سؤالاً وهو مع علمنا: أن اليهود يأكلون الربا والسحت وجميع ما حرم الله تعالى، فهل يجوز التعامل معهم؟ وأجاب بالجواز استدلالاً بقول الله تعالى: {وطَعامْ الذين أُوتوا الكِتَاب حلاً لَكُمْ} وبتعامل الرسول صلى الله عليه وسلم معهم، فقد رهن درعه عند يهودي.

اكتسبوها، وعظائم من الذنوب اقترفوها لجهلهم وعمى بصائرهم. إن الراسخين1 في العلم الثابتين فيه الذين علومهم الشرعية يقينية لا ظنية هؤلاء شأنهم في النجاة من العذاب والفوز بالنعيم في دار السلام شأن المؤمنين من هذه الأمة يؤمنون بما أنزل إليك أيها الرسول وما أنزل من قبلك، وخاصة المقيمين2 للصلاة، وكذا المؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر هؤلاء جميعاً وعدهم الله تعالى بالأجر العظيم الذي لا يقادر قدره ولا يعرف كنهه فقال تعالى: {أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- المعاصي تورث الحرمان من خير الدنيا والآخرة.
2- حرمة الصد عن الإسلام ولو بالسلوك الشائن والمعاملة الباطلة.
3- حرمة الربا وأنه موجب للعقوبة في الدنيا والآخرة .
4- حرمة أكل أموال الناس بالباطل؛ كالسرقة والغش والرشوة.
5- من أهل الكتاب صلحاء ربانيون وذلك؛ كعبد الله بن سلام وآخرين.
6- الرسوخ في العلم يأمن صاحبه الزلات والوقوع في المهلكات.
7- فضل إقام الصلاة لنصب والمقيمي الصلاة في الآية على المدح والتخصيص.
{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً(163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ
__________
1 روي أنه لما نزلت آية: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا} الآية. قالت يهود منكرة ما أخبر به تعالى عنهم: أن هذه الأشياء كانت حراماً في الأصل وأنت تحلها ولم تكن حرمت بظلمنا، فنزل: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} ، وهم: عبد الله بن سلام، وأحبار اليهود المسلمون.
2 قرأه الجمهور بنصب المقيمين على المدح، أي: وأمدح المقيمين، أو أعني المقيمين. والنصب على المدح جائز في كلام فصحاء العرب وبلغائهم، ومن ذلك قول شاعرهم:
وكل قوم أطاعوا أمر سيدهم ... إلا نميرًا أطاعت أمر غاويها

مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً(164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً(165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً(166)}
شرح الكلمات:
{إِنَّا1 أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} : الوحي2: الإعلام السريع الخفي، ووحي الله تعالى إلى أنبيائه: إعلامهم بما يريد أن يعلمهم به من أمور الدين وغيره.
{وَالأَسْبَاطِ} : أولاد يعقوب عليه السلام.
{زَبُوراً3} : الزبور: أحد الكتب الإلهية أنزله على نبيه داود عليه السلام.
{قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ} : ورد منهم في سورة الأنعام ثمانية عشر رسولاً وسبعة ذكروا في سور أخرى وهم: محمد صلى الله عليه وسلم، وهو، وشعيب، وصالح، وذو الكفل، وإدريس، وآدم.
{حُجَّةٌ} : عذر يعتذر به إلى ربهم عز وجل.
معنى الآيات:
روى أن اليهود لما سمعوا ما أنزل الله تعالى فيهم في الأية السابقة أنكروا أن يكون هذا وحيا، وقالوا لم يوح الله تعالى إلى غير موسى فرد الله تعالى قولهم بقوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ4 وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} فذكر عدداً من الأنبياء، ثم قال: ورسلاً، أي: وأرسلنا رسلاً قد قصصناهم عليك من قبل، أي: قص عليه أسماءهم وبعض5 ما جرى لهم مع أممهم وهم
__________
1 هذا التوقيت بأن تطلبه إنكار اليهود الوحي إلى نبينا صلى الله عليه وسلم كما تطلبه بهذا الخبر العظيم.
2 الوحي: مصدر وحى يحي وحيًا؛ كرمى يرمي رميًا إليه بكذا أعلمه، وأوحى يوحي إيحاء إليه بكذا أعلمه به بطريق خفي.
3 في قوله تعالى: {وآتينا داود زبورا} وهي جملة معطوفة على جملة: {إنّا أَوْحَينَا إِليِك} إشارة إلى أن الزبور كتاب، وهو كذلك. إذ هو أحد الكتب الأربعة، ولو لم يرد ذلك لعطف اسمه على من سبقه فقط، كأن يقول: وهارن وسليمان وداود.
4 قدم نوح في الذكر باعتباره أول رسول حارب الشرك، إذ لم يظهر الشرك على عهد من سبقه؛ كإدريس وشيث من قبله، فلما ظهر الشرك أرسل الله تعالى نوحًا عليه السلام، وهو نوح بن لمك بن متوشلخ، بن أخنوخ.
5 قوله: {قَصَصناهم عَليك مِنْ قَبْل} يعني في القرآن الكريم، وهم: هود وصالح وشعيب ويحي وإلياس واليسع ولوط.

يبلغون دعوة ربهم، وأرسل رسلاً لم يقصصهم عليه، وفوق ذلك أنه كلم موسى تكليماً، فأسمعه كلاماً بلا واسطة، فكيف ينكر اليهود ذلك ويزعمون أنه ما أنزل الله على بشر من شيء، وقد أرسلهم تعالى رسلاً مبشرين من آمن وعمل صالحاً بالجنة، ومنذرين من كفر وأشرك وعمل سوء بالنار وما فعل ذلك إلا لقطع حجة الناس يوم القيامة حتى لا يقولوا ربنا ما أرسلت إلينا رسولاً هذا معنى قوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} أي: بعد إرسالهم، {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً} غالباً لا يمانع في شيء أراده {حَكِيماً} في أفعاله وتدبيره، هذا بعض ما تضمنته الآيات الثلاث(163-164-165)، أما الآية الرابعة(166) وهي قوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} .
فقد روي أن يهوداً جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم وأبلغهم أنه رسول الله صدقاً وحقاً ودعاهم إلى الإيمان وبما جاء به من الدين الحق فقالوا: من يشهد لك بالرسالة إذ كانت الأنبياء توجد في وقت واحد فيشهد بعضهم لبعض، وأنت من يشهد لك فأنزل الله تعالى قوله: {لَكِنِ1 اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} يريد إنزال الكتاب إليك شهادة منه لك بالنبوة والرسالة، أنزله بعلمه بأنك أهل للاصطفاء والإرسال، وبكل ما تحتاج إليه البشرية في إكمالها وإسعادها، إذ حوى أعظم تشريع تعجز البشرية لو اجتمعت أن تأتي بمثله، أليس هذا كافياً في الشهادة لك بالنبوة والرسالة، بلى، والملائكة أيضاً يشهدون {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} فلا تطلب شهادة بعد شهادته تعالى لو كانوا يعقلون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ الوحي الإلهي.
2- أول الرسل2 نوح عليه السلام وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم.
__________
1 توضيح هذا الاستدراك الذي هو رفع ما يتوهم ثبوته أو نفيه هو إذا رفض اليهود الشهادة لك بالرسالة وطالبوا من يشهد لك. فالله يشهد لك بما أنزله إليك، والملائكة يشهدون كذلك.
2 ذكر صاحب تفسير التحرير والتنوير: الإمام محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى، عند تفسير هذه الآية تاريخ المذكورين من الرسل نقلاً عن أهل الكتاب قطعًا فللإطلاع لا غير. نذكر ذلك كما ذكره، وأما علم صحته فهو إلى الله تعالى لا غير: نوح عليه السلام ولد سنة 3974 قبل الهجرة النبوية. وإبراهيم توفى ببلدة الخليل سنة 2719 قبل الهجرة. وإسماعيل توفى بمكة سنة 2676 قبل الهجرة تقريبا. وإسحاق بن إبراهيم توفى سنة 2613 قبل الهجرة. ويعقوب إسرائيل توفى سنة 2586 قبل الهجرة. وعيسى بن مريم ولد سنة 622 قبل الهجرة، ورفع إلى السماء قبلها سنة 589. وأيوب كان بعد إبراهيم وقبل موسى في القرن الخامس عشر قبل المسيح. وهارون توفى سنة 1972 قبل الهجرة. وداود توفى سنة 1626 قبل الهجرة. وسليمان توفى سنة 1597 قبل الهجرة.

3- إثبات صفة الكلام لله تعالى.
4- بيان الحكمة في إرسال الرسل، وهي الحجة على الناس يوم القيامة.
5- شهادة الرب تبارك وتعالى والملائكة بنبوة خاتم الأنبياء ورسالته صلى الله عليه وسلم.
6- ما حواه القرآن من تشريع وما ضمه بين دفتيه من معارف وعلوم أكبر شهادة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً(167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً(168) إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً(169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً(170)}
شرح الكلمات:
{كَفَرُوا وَصَدُّوا} : كفروا: جحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصدوا: صرفوا الناس عن الإيمان به صلى الله عليه وسلم بما يبذرون من بذور الشك.
{كَفَرُوا وَظَلَمُوا} : جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وظلموا ببقائهم على جحودهم بغياً منهم وحسداً للعرب أن يكون فيهم رسول يخرجهم من الظلمات إلى النور.
{الرَّسُولُ} : هو محمد صلى الله عليه وسلم الكامل في رسالته الصادق في دعوته.
{فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ} : أي يكون إيمانكم خيراً لكم.
معنى الآيات:
بعد أن أقام الله تعالى الحجة على رسالة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بشهادته له بالرسالة وشهادة ملائكته، وشهادة القرآن لما فيه من العلوم والمعارف الإلهية بعد هذا أخبر تعالى أن الذين

كفروا وصدوا عن سبيل1 الله وهم اليهود2 قد ضلوا ضلالاً بعيداً قد يتعذر معه الرجوع إلى الحق، وهذا ما تضمنته الآية الأولى(167) كما أخبر في الآية الثانية(168) أن الذين كفروا وظلموا هم أيضاً اليهود لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً، اللهم إلا طريق جهنم، وهذا قائم على سنته في خلقه وهي أن المرء إذا كفر كفر عناد وجحود وأضاف إلى الكفر الظلم لم يبق له أي استعداد لقبول الهداية الإلهية، لم يبق له من طريق يرجى له سلوكه إلا طريق جهنم يخلد فيها خلوداً أبدياً، وقوله تعالى: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} في ختام الآية يقرر فيه أن دخول أصحاب هذه الصفات من اليهود جهنم وخلودهم فيها ليس بالأمر الصعب على الله المتعذر عليه فعله بل هو من السهل اليسير، أما الآية الأخيرة(170) فهي تتضمن إعلاناً إليهاً موجهاً إلى الناس كافة مشركين وأهل كتاب: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ3} الكامل الخاتم جاءكم بالدين الحق من ربكم فآمنوا بخ خيراً لكم، وإن أبيتم وأعرضتم إيثاراً للشر على الخير والضلال على الهدى فاعلموا أن لله ما في السموات4 والأرض خلقاً وملكاً وتصرفاً وسيجزيكم بما اخترتم من الكفر والضلال جهنم وساءت مصيراً فإنه عليم بمن استجاب لندائه فآمن وأطاع، وبمن أعرض فكفر وعصى حكيم في وضع الجزاء في موضعه اللائق به. فلا يجزي المحسن بالسوء، ولا المسيء بالإحسان.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- شر الكفر ما كان مع الصد عن سبيل اله والظلم، وهذا كفر اليهود، العياذ بالله.
2- سنة الله تعالى في أن العبد إذا أبعد في الضلال، وتوغل في الشر والفساد يتعذر عليه التوبة فيموت على ذلك ويهلك.
__________
1 صدوا عن سبيل الله بقولهم: إنا لا نجد صفة محمد في كتابنا وإنما النبوة في ولد هارون وداود، وأن في التوراة أن شرع موسى لا ينسخ.
2 اللفظ يتناول اليهود أولاً ويعم كل من كفر بالله ورسوله وصد عن سبيله الذي هو الإسلام.
3 التعريف في الرسول للعهد، إذ هو معهود بين المخاطبين معروف لهم، وكونه للعهد لا ينافي ما ذكر في التفسير من أنه الكامل في رسالته؛ كأنه فرد فيها لا نظير له.
4 إنه لم يدعكم إلى الإيمان لحاجة به إنه عزيز إنه سبحانه وتعالى يملك الكائنات كلها حيها وميتها ظاهرها وباطنها ويتصرف يها كما يشاء وهو الغني الحميد.

3- الرسالة المحمدية عامة لسار الناس أبيضهم وأصفرهم.
إثبات صفتي العلم والحكمة لله تعالى. وبموجبهما يتم الجزاء العادل الرحيم.
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً(171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً(172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً(173)}
شرح الكلمات:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} : المراد بهم1 هنا: النصارى.
{لا تَغْلُوا2 فِي دِينِكُمْ} : الغلو: تجاوز الحد للشيء، فعيسى عليه السلام عبد الله ورسوله فغلوا فيه فقالوا هو الله.
__________
1 النصارى غلوا في عيسى فتجاوزوا حد الإفراط حيث ألهوه، أي: جعلوه إلهًا وعبدوه،واليهود غلوا في التفريط في عيسى، إذ قالوا: ساحر وابن زنا والعياذ بالله.
2 الغلو مشتق من غلوة السهم، وهي منتهى اندفاعه، ويطلق الغلو في الشرع على الزيادة على المطلوب في الاعتقاد والقول والعمل.

{الْمَسِيحُ} : هو عيسى عليه السلام ولقب بالمسيح لأنه ممسوح من الذنوب، أي: لا ذنب له قط.
{وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا} : أي: قول الله تعالى له {كن} فكان –ألقاها إلى مريم: أوصلها لها وأبلغها إياها وهي قول الملائكة لها إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم.
{وَرُوحٌ مِنْهُ} : أي: عيسى كان بنفخة جبريل روح الله في كم درعها.
{وَكِيلاً} : حفيظاً وشاهداً عليماً.
{لَنْ يَسْتَنْكِفَ} : لا يرفض عبوديته لله تعالى أنفة وكبراً.
{وَيَسْتَكْبِرْ} : يرى نفسه كبيرة فوق ما طلب منه أن يقوله أو يفعله إعجاباً وغروراً.
{وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} : أي: لا يجدون يوم القيامة ولياً يتولى الدفاع عنهم ولا نصيراً ينصرهم حتى لا يدخلوا النار ويعذبوا فيها.
معنى الآيات:
ما زال السياق مع أهل الكتاب، ففي الآية الأولى(171) نادى الرب تبارك وتعالى النصارى بلقب الكتاب الذي هو الإنجيل ونهاهم عن الغلو في دينهم من التنطع والتكلف؛ كالترهب واعتزال النساء وما إلى ذلك من البدع التي حمل عليها الغلو، كما نهاهم عن قولهم على الله تبارك وتعالى غير الحق، وذلك بنسبة الولد إليه تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وأخبرهم بأن عيسى لم يكن1 أبداً غير رسول الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم2، حيث بعث إليها جبريل فبشرها بأن الله تعالى قد يهبها غلاماً زكياً، ونفخ وهو روح الله في كم درعها فكان عيسى بكلمة التكوين وهي {كن} وبسبب تلك النفخة من روح الله جبريل عليه السلام فلم يكن عيسى الله ولا ابن الله فارجعوا إلى الحق وآمنوا بالله ورسله جبريل وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، ولا تقولوا زوراً وباطلاً: الله ثالث ثلاثة آلهة3. انتهوا عن القول الكذب يكن
__________
1 لأن: إنما أداة قصر فمن هنا قصر عيسى عليه السلام على ثلاث صفات، وهي: الرسالة، والكلمة، والروح، أي: هو لم يكون غير رسول الله وكلمته وروح منه، والقصر إضافي كما هو ظاهر.
2 لم يذكر الله تعالى امرأة في القرآن باسمها العلم سوى مريم، إذ ذكرها في القرآن في نحو من ثلاثين موضعًا، وسر هذا أن العرب يتحاشون أن يذكروا أسماء نساؤهم إنما يكنون عنهن بالعرس والأهل والعائلة. وأما الإماء فيذكرونهن بأسماؤهن، لذا ذكر تعالى مريم وهي أمته باسمها العلم ثلاثين مرة.
3 قال ابن عباس رضي الله عنهما: المراد من التثليث: الله تعالى وصاحبته وابنه. والأقانيم عند بعضهم هي: الأب والابن وروح القدس. وعند بعضهم هو: الوجود والحياة والعلم.

انتهاؤكم خيراً لكم حالاً ومآلاً، إنما الله سبحانه وتعالى إله واحد له ولا ند ولا ولد. سبحانه تنزه وعلا وجل وعظم أن يكون له ولد، ولم تكن له صاحبة، ولم يكن ذا حاجة وله ما في السموات وما في الأرض خلقاً وملكاً وحكماً وتدبيراً، وكفى به سبحانه وتعالى وكيلاً شاهداً عليماً فحسبكم الله تعالى رباً وإلهاً فإنه يكفيكم كل ما يهمكم فلا تلتفتون إلى غيره ولا تطلبون سواه.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى(171)، وأما الآيتان الثانية(172) والثالثة(173) فقد أخبر تعالى أن عبده ورسوله المسيح عليه السلام لن يستنكف أبداً أن يعبد الله وينسب إليه بعنوان العبودية فيقال عبد الله ورسوله، حتى الملائكة المقربون منهم فضلاً عن غيرهم لا يستنكفون عن عبادة الله تعالى وعن لقب العبودية فهم عباد الله وملائكته، ثم توعد تعالي كل من يستنكف عن عبادته عنها من سائر الناس بأنه سيحشرهم جميعاً ويحاسبهم على أعمالهم فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات آمنوا بألوهيته تعالى وحده وعبدوه وحده بما شرع لهم من أنواع العبادات وهي الأعمال الصالحة فهؤلاء يوفيهم أجورهم كاملة ويزيدهم من فضله الحسنة بعشر أمثالها، وقد يضاعف إلى سبعمائة ضعف. وأما الذين استنكفوا واستكبروا، أي: حملتهم الأنفة والكبر على عدم قبول الحق والرجوع إليه فأصروا على الاعتقاد الباطل والعمل الفاسد فيعذبهم تعالى عذاباً أليماً، أي: موجعاً لا يجدون لهم من دونه ولياً ولا ناصراً فينتهي أمرهم إلى عذاب الخلد جزاء بما كانوا يعملون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة الغلو في الدين إذ هي من الأسباب الموجبة للابتداع1 والضلال.
2- حرمة القول على الله تعالى بدون علم مطلقاً والقول عليه بغير الحق بصورة خاصة.
3- بيان المعتقد الحق في عيسى2 عليه السلام، وأنه عبد الله ورسوله كان بكلمة الله ونفخة
__________
1 قال مطرف بن عبيد الله: والعدل حسنة بين سيئتين: الأولى: الإفراط. والثانية: التفريط. فالغلو: إفراط. والتقصير: تفريط. كلاهما مذموم. قال الشاعر:
وأوف ولا تستوف حقك كله ... وسامح فلم يستوف قط كريم
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
2 ذكر القرطبي عند تفسير هذه الآية قصة طويلة في سب فساد دين المسيح عليه السلام، وأن الذي أفسده هو بولس اليهودي ولعنا نذكرها في تفسير آية المائدة: { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} إن شاء الله تعالى.

جبريل1 عليه السلام.
4- حرمة الاستنكاف عن الحق والاستكبار عن قبوله.
5- بيان الجزاء الأخروي وهو إما نعيم وإما جحيم.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً(174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً(175)}
شرح الكلمات:
{بُرْهَانٌ} : البرهان: الحجة، والمراد به هنا: محمد2 صلى الله عليه وسلم.
{نُوراً مُبِيناً} : هو القرآن الكريم.
{وَاعْتَصَمُوا} : أي: تمسكوا بالقرآن وبما يحمله من الشرائع.
{فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ} : الجنة.
{صِرَاطاً} : طريقاً يفضي بهم إلى جوار ربهم في دار الكرامة.
معنى الآيتين:
ينادي3 الرب تبارك وتعالى سائر الناس مشركين ويهود ونصارى مخبراً إياهم قاطعاً للحجة عليهم بأنه أرسل إليهم رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهو البرهان الساطع والدليل القاطع على وجود الله تعالى وعلمه وقدرته ووجوب الإيمان به وبرسله ولزوم عبادته بطاعته وطاعة رسوله وأنه أنزل عليه كتابه شافياً كافياً هادياً نوراً مبيناً يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجه من الظلمات إلى النور. بهذا قد أعذر الله تعالى إلى الناس كافة وقطع عليهم كل معذرة
__________
1 قال أبي بن كعب رضي الله عنه: "خلق الله أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق ثم ردها إلى صلب آدم وأمسك عنده روح عيسى عليه السلام، فلما أراد خلقه أرسل ملك الروح إلى مريم فكان منه عيسى. فلذا قال: {ورُوح مِنه} ". هذا الأثر أحسن ما يقال في قوله تعالى: {ورُوح مِنه} ".
2 هذا الذي قرره ابن جرير وأن البرهان في هذه الآية هو: النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
3 هذا النداء وما بعده؛ كالفذلكة لما تقدم من دعوة أهل الكتابين إلى الدخول في الإسلام لإقامة الحجة على الجميع. إذ وجه نداءه العام لكل البشر، وهو يتناول أهل الكتابين والمشركين وغيرهم لإقامة الحجة على الجميع.

وحجة ثم هم صنفان مؤمن وكافر، فالذين آمنوا بالله رباً وإلها وبرسوله نبياً ورسولاً واعتصموا بالقرآن فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وصدقوا أنباءه والتزموا آدابه فهؤلاء سيدخلهم في رحمة1 منه وفضل وذلك بأن ينجيهم من النار ويدخهلم الجنان، وذلك هو الفوز العظيم كما قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} . وأما الذين كفروا به وبرسوله وكتابه فمصيرهم معروف وجزاءهم معلوم فلا حاجة إلى ذكره: إنه الحرمان والخسران.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الدعوة الإسلامية دعوة عامة فهي للأبيض والأصفر على حد سواء.
2- إطلاق لفظ البرهان على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بأميته وكماله الذي لا مطمع لبشري أن يساميه فيه برهان على وجود الله وعلمه ورحمته.
3- القرآن نور لما يحصل به من الإهتداء إلى سبيل النجاة وطرق السعادة والكمال.
ثمن السعادة ودخول الجنة الإيمان بالله ورسوله ولقائه والعمل الصالح وهو التمسك بالكتاب والسنة المعبر عنه بالاعتصام.
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(176)}
شرح الكلمات:
{يَسْتَفْتُونَكَ2} : يطلبون فتياك في كذا.
__________
1 الرحمة: الجنة بعد النجاة من النار. والفضل: ما ينعم به عليهم في دار السلام، وأعظمه النظر إلى وجه الكريم، وقوله تعالى: {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} أي: يهديهم إلى ما يصل بهم إلى رضاه وجواره، وهو: الإسلام، وذلك بأن يثبتهم عليه حتى الموت.
2 روي أن هذه الآية وتسمى آية الكلالة نزلت في آخر ما نزل، وسبب نزولها: أن جابر بن عبد الله مرض فعاداه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر فأغمى على عبد الله فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صب عليه من فضل وضوءه فأفاق، فقال يا رسول الله: كيف أقضي في مالي؟ وكان له تسع أخوات، فلم يرد عليه شيئاً حتى نزلت هذه الآية.

{يُفْتِيكُمْ} : يبين لكم ما أشكل عليكم من أمر الملائكة.
{الْكَلالَةِ} : أن يهلك الرجل ولا يترك ولداً ولا يترك ولد ولد، وإنما يترك أخاً أو أختاً.
الحظ : النصيب.
{أَنْ تَضِلُّوا} : كيلا تضلوا، أي: تخطئوا في قسمة التركة.
معنى الآية الكريمة:
هذه الآية تسمى آية الكلالة1، وآيات المواريث أربع: الأولى في شأن الولد والوالد: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ2} . والثانية: في شأن الزوج والزوجة: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} إلخ... وفي شأن الإخوة لأم: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} إلخ.. وهاتان الآيتان تقدمتا في أول سورة النساء. والثالثة، هي هذه: {يَسْتَفْتُونَكَ} إلخ.. وهي في شأن ميراث الأخوة والأخوات عند موت أحدهم ولم يترك ولداً ولا ولد ولد.. وهو معنى الكلالة. والرابعة: في آخر سورة الأنفال وهي في شأن ذوي الأرحام، وهي قوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} .
وهذه الآية نزلت عند سؤال بعض الصحابة رضي الله عنهم عن الكلالة، فقال تعالى: يسألونك أيها الرسول عن الكلالة. قل للسائلين: {اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} ، وهذه فتواه: إن هلك امرؤ ذكراً كان أو أنثى، وليس له ولد ولا ولد ولد وله أخت شقيقة أو لأب فلها نصف ما ترك، وهو يرثها أيضاً إن لم يكن لها ولد ولا ولد ولد. فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء، أي: ذكوراً وإناثاً فللذكر مثل حظ الأنثيين وبعد أن بين تعالى كيف يورث من مات كلالة قال مبيناً حكمة هذا البيان: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} أي: كيلا3 تضلوا في قسمة التركات فتخطئوا الحق وتجوروا في قسمة أموالكم. {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ4} فلا
__________
1 وتسمى آية الصيف لأنها نزلت في زمن الصيف، وقال عمر رضي الله عنه: "إني والله لا أدع شيئاً أهم إليّ من أمر الكلالة، وقد سألت رسول الله عنها فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها حتى طعن في جنبي أو صدري وقال: "يا عمر ألا تكفيك آية الصيف.
2 الجمهور ما عدا ابن عباس والظاهرية على أن الأخوات عصبة مع البنات، فلو هلك هالك وترك أختًا له وبنتا فإن المال بينهما نصفين، وإن ترك ثلاثًا فالمال بينهما أثلاثًا، وهكذا الأخوات عصبة مع البنات. قضى بهذا معاذ رضي الله عنه.
3 بعضهم يقدر كراهة أن تضلوا، ولما كان الحذف لازمًا للتخفيف فتقدير: كيلا، أفضل من لفظ: الكراهة. وهو ما ذكرته في التفسير ولم أذكر غيره.
4 من جملة الأشياء العليم بها: أحوالكم، وما تتطلبه حياتكم في الدنيا والآخرة، وهذا يقتضي الثقة والطمأنينة فيما شرع لكم وتنفيذه في إخلاص وحسن أداء.

يجهل شيئاً ولا يخفى عليه آخر، وكيف وقد أحاط بكل شيء علما سبحانه لا إله غيره ولا رب سواه.
هداية الآية
من هداية الآية الكريمة:
1- جواز1 سؤال من لا يعلم من يعلم للحصول على العلم المطلوب له.
2- إثبات وجود الله تعالى عليماً قديراً سميعاً بصيراً، وتقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ سؤال الأصحاب وإجابة الرب تعالى بواسطة وحيه المنزل على رسوله يقرر ذلك ويثبته.
3- بيان قسمة تركة من يورث كلالة من رجل أو امرأة؛ فالأخت الواحدة لها من أخيها نصف ما ترك، والاختان لهما الثلثان، والأخوة مع الأخوات للذكر مثل حظ الأنثيين، والأخ يرث أخته إن لم يكن لها ولد ولا ولد ولد، والإخوة والأخوات يرثون أختهم للذكر مثل حظ الأنثيين إذا لم تترك ولداً ولا ولد ولد.
__________
1 بل الواجب أن يسأل كل من لا يعلم حتى يعلم لقول الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .

سورة المائدة
...
سورة المائدة2
مدنية
وآياتها مائة وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ(1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ
__________
2 سورة المائة من آخر ما نزل من السور في القرآن وأحكامها كلها محكمة ما عدا قوله تعالى: {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ...} الآية. وهو قول الشعبي رحمه الله تعالى، وفيها أحكام لم توجد في غيرها من السور، من ذلك حكم: المنخنقة، وما بعدها {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب} ، والوضوء، وحكم السرقة.

الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(2)}
شرح الكلمات:
{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} : العقود: هي العهود التي بين العبد والرب تعالى وبين العبد وأخيه والوفاء بها: عدم نكثها والإخلال بمقتضاها.
{بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ1} : هي الإبل والبقر والغنم.
{وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} : أي: محرمون بحج أو عمرة.
{شَعَائِرَ اللَّهِ} : جمع شعيرة، وهي هنا مناسك الحج والعمرة وسائر أعلام دين الله تعالى.
{الشَّهْرَ الْحَرَامَ} : رجب وهو شهر مضر الذي كانت تعظمه.
{الْهَدْيَ} : ما يُهدى للبيت والحرم من بهيمة الأنعام.
{الْقَلائِدَ} : جمع قلادة ما يقلد الهدي، وما يتقلده الرجل من لحاء شجر الحرم ليأمن.
{آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} : قاصديه يطلبون ربح تجارة أو رضوان الله تعالى.
{وَإِذَا حَلَلْتُمْ2} : أي: من إحرامكم.
{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} : أي: لا يحملنكم بغض قوم أن تعتدوا عليهم.
{أَنْ صَدُّوكُمْ} : أي: لأجل أن صدوكم.
{الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} : البر: كل طاعة لله ورسوله. والتقوى: فعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهى عنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
__________
1 سميت البهيمة: بهيمة؛ لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعدم تمييزها وعقلها، ومنه باب مبهم، أي: مغلق، وليل بهيم: لا يميز ما فيه من الظلام. وقولهم في الشجاع من الرجال: بهمة؛ لأنه لا يدري من أين يؤتى.
2 قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} الإجماع على أن الأمر هنا للإباحة وليس للوجوب، وهذه قاعدة أصولية كل أمر بعد حظر، فهو للإباحة.

{الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} : الإثم: سائر الذنوب، والعدوان: الظلم وتجاوز الحدود.
{شَدِيدُ الْعِقَابِ} : أي: عقابه شديد لا يطاق ولا يحتمل.
معنى الآيتين:
ينادي الحق تبارك وتعالى عباده المؤمنين بعنوان الإيمان فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي: يا من آمنتم بي وبرسولي ووعدي ووعيدي {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ1} فلا تحلوها وبالعهود فلا تنكثوها، فلا تتركوا واجباً ولا ترتكبوا منهياً، ولا تحرموا حلالاً ولا تحلو حراماً أحللت لكم بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم إلا ما يتلى عليكم وهي الآتية في آية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ2...} فلا تحرموها وحرمت عليكم الصيد وأنتم حرم3 فلا تحلوه. وسلموا الأمر لي فلا تتنازعوا فيما أحل وأحرم فإني أحكم ما أريد. هذا ما تضمنته الآية الأولى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ4} .
أما الآية الثانية فقد تضمنت أحكاماً بعضها نُسخ العمل به وبعضها محكم يعمل به إلى يوم الدين، فمن المحكم والواجب العمل به تحريم شعائر الله، وهي أعلام دينه من سائر ما فرض وأوجب، ونهى وحرم. فلا تستحل بترك واجب، ولا بفعل محرم، ومن ذلك مناسك الحج والعمرة. ومن المنسوخ الشهر الحرام فإن القتال كان محرماً في الأشهر الحرم ثم نسخ بقول الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية، ومن المنسوخ أيضاً: هدي المشركين وقلائدهم والمشركون أنفسهم فلا يسمح لهم بدخول الحرم ولا يقبل منهم هدي، ولا يجيرهم من القتل تقليد أنفسهم بلحاء شجر الحرم ولو تقلدوا شجر الحرم كله. هذا معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ5 وَلا الْقَلائِدَ6 وَلا آمِّينَ
__________
1 قال الحسن: يعني عقود الدين، وهو ما عقده المرء على نفسه من بيع وشراء وإجارة كراء، ومناكحة وطلاق ومزارعة ومصالحة وتمليك وتخيير وعتق وتدبير، وكذلك ما عاهد عليه الله تعالى من نذر وسائر التكاليف الشرعية وما خرج من عقد على شريعة الله رد وحل، ولا وفاء فيه.
2 وما حرم بالسنة، وهو كل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطيور لثبوت ذلك في الصحاح.
3 أما إذا حلوا من إحرامهم فالصيد حلال، كما هو في غير الإحرام إلا ما كان من صيد الحرم فإنه حرام في الإحرام والإحلال.
4 هذه الجملة تقتضي تسليم الأمر لله، فلا اعتراض عليه فيما يحل ويحرم وهو كذلك.
5 الهدي: ما يهدى إلى الحرم، ومن خصائصه: أنه يشعر وذلك يجرح سنامه من الجهة اليمنى حتى يسيل الدم، وبذلك يعلم أنه هدي، وقال: بالإشعار كافة الفقهاء إلا أبا حنيفة، ولاموه وعنفوا عليه لتركه السنة الصحيحة في الإشعار.
6 يحرم بيع الهدي إذا أشعر وقلت لأنه أصبح كالوقف لله تعالى، ومعنى التقليد: أن يوضع في عنقه قلادة يعلم بها أنه هدي، وهذا يكون في الغنم لأنها لا تشعر.

الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً}. والمراد بالفضل: الرزق بالتجارة في الحج، والمراد بالرضوان: ما كان المشركون يطلبونه بحجهم من رضى الله ليبارك لهم في أرزاقهم ويحفظهم في حياتهم.
وقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} خطاب للمؤمنين أذن لهم في الاصطياد الذي كان محرماً وهم محرمون إذن لهم فيه بعد تحللهم من إحرامهم. وقوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} ينهي عباده المؤمنين أن يحملهم بغض قوم صدورهم يوم الحديبية عن دخول المسجد الحرام أن يعتدوا عليهم بغير ما أذن الله تعالى لهم فيه، وهو قتالهم إن قاتلوا وتركهم إن تركوا. ثم أمرهم تعالى بالتعاون على البر والتقوى، أي: على أداء الواجبات والفضائل، وترك المحرمات والرذائل، ونهاهم عن التعاون عن ضدها، فقال عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ1 وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ2 وَالْعُدْوَانِ} . ولما كانت التقوى تعم الدين كله فعلاً وتركاً أمرهم بها، فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} بالإيمان به ورسوله وبطاعتهما في الفعل والترك، وحذرهم من إهمال أمره بقوله: {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فاحذروه بلزوم التقوى.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- وجوب الوفاء بالعهود التي بين الله تعالى وبين العبد والمحافظة على العقود التي بين العبد وأخيه العبد لشمول الآية ذلك.
2- إباحة أكل لحوم الإبل والبقر والغنم إلا الميتة منها.
3- تحريم الصيد في حال الإحرام وحليته بعد التحلل من الإحرام وهو صيد البر لا البحر3.
4- وجوب احترام شعائر الدين كلها أداء لما وجب أداؤه، وتركاً لما وجب تركه.
5- حرمة الاعتداء مطلقاً على الكافر.
6- وجوب التعاون بين المؤمنين على إقامة الدين، ورحمة تعاونهم على المساس به.
__________
1 في البر، وهو فعل الخير رضا الناس وفي التقوى رضا الله، ومن جمع بين رضا الناس ورضا الله فقد جمع الخير كله وتمت سعادته في دنياه وآخرته.
2 أي: ولا تعانوا على فعل الإثم من سائر كبائر الذنوب والفواحش ولا على الظلم والاعتداء إذ كلاهما مما حرم الله تعالى.
3 لأن صيد البحر حلال في الإحرام وغيره لقوله تعالى: {وَأُحِلّ لَكمْ صَيْد البَحْر ما دُمْتم حُرما} الآية من آخر هذه السورة.

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(3)}
شرح الكلمات:
{الْمَيْتَةُ} : ما مات من بهيمة الأنعام حتف أنفه، أي: بدون تذكية1.
{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} : أي: ما ذكر عليه اسم غير اسم الله تعالى، مثل المسيح، أو الولي، أو صنم.
{وَالْمُنْخَنِقَةُ} : أي: بحبل ونحوه فماتت.
{وَالْمَوْقُوذَةُ2} : أي: المضروبة بعصا أو حجر فماتت به.
{وَالْمُتَرَدِّيَةُ} : الساقطة من عال إلى أسفل، مثل: السطح والجدار والجبل فماتت.
{وَالنَّطِيحَةُ3} : ما ماتت بسبب نطح أختها لها بقرونها أو رأسها.
{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} : أي: ما أكلها الذئب وغيره من الحيوانات المفترسة.
{إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ4} : أي: أدركتم فيه الروح مستقرة فذكيتموه5 بذبحه أو نحره.
{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} : أي: ما ذبح على الأصنام المنصوبة التي تمثل إلهاً أو زعيماً أو عظيماً، و مثلها ما ذبح على أضرحة الأولياء وقبورهم وعلى الجان.
__________
1 ومن غيرها من مأكول اللحم؛ كالضباء، والأرانب، وأنواع الصيد باستثناء ما ذكر عليه اسم الله حال صيده، فإن ما مات منه يؤكل ولو لم يزك، ولا يقال فيه ميتة.
2 يقال: وقذة، يقذة، وقذًا؛ إذا ضربه بحجر ونحوها، والوكذ: شدة الضرب.
3 فهي فعيلة بمعنى: مفعولة، فالنطيحة: هي المنطوحة.
4 ما ذبح من قفاه لا يؤكل إجماعًا، واختلف فيما إذا رفع المذكي يده قبل إنهاء الذكاة ثم ردها فورًا، الصحيح أنها تؤكل ولا خلاف في جواز أكل البعير إذا ند أو وقع في بئر فإنه كيفما ذُكي جاز أكله للحديث الصحيح.
5 الاستثناء متصل، وهو راجع على كل ما أدرك زكاته من المذكورات وفيه حياة ولا الالتفات إلى الخلاف في هذه المسألة.

{وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا} : أي: وحرم عليكم ما تحصلون عليه بالاستقسام بالأزلام ومثله ما يأخذه صاحب الكهانة والشواقة وقرعة الأنبياء، والحروز الباطلة التي فيها طلاسم وأسماء الجن والعفاريت.
{ذَلِكُمْ فِسْقٌ} : أي: ما ذكر من أكل الميتة إلى الاستقسام بالإزلام خروج عن طاعة الله تعالى ومعصية له سبحانه وتعالى.
{فَمَنِ اضْطُرَّ} : أي: من ألجأته ضرورة الجوع فخاف على نفسه الموت فلا بأس أن يأكل مما ذكر.
{فِي مَخْمَصَةٍ} : المخمصة: شدة الجوع حتى يضمر البطن لقلة الغذاء به.
{غَيْرَ مُتَجَانِفٍ} : غير مائل لإثم يريد غير راغب في المعصية بأكل ما أكل من الميتة، وذلك بأن يأكل أكثر مما يسد به رمقه ويدفع به غائلة الجوع المهلك.
معنى الآية الكريمة:
هذه الآية الكريمة هي تفسير وتفصيل لقوله تعالى في الآية الأولى من هذه السورة، وهو قوله: {إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} حيث ذكر في هذه الآية سائر المحرمات من اللحوم وهي عشر كما يلي:
الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، وما ذبح على النصب1.
وقوله تعالى: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ2} يريد ما أدركتم فيه الروح مستقرة. بحيث إذا ذبحتموه اضطرب للذبح وركض برجليه فإن هذا علامة أنه كان حياً وأنه مات بالذبح3.
وقوله: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ} يريد ولا يحل لكم الاستقسام بالأزلام، ولا أكل ما يعطى عليها وحقيقتها أنهم كانوا في الجاهلية يضعون القداح المعبر عنها بالأزلام جمع زلم وهو رمح صغير لا زج له ولا ريش فيه، يضعونها في خريطة كالكيس، وقد كتب على واحد أمرني
__________
1 ما ذبح على النصب، وما أهل لغير الله به: هما كشيء واحد إلى أن ما أهل لغير الله به غالبًا يكون مذبوحًا لغير الأصنام؛ كالأنبياء والأولياء.
2 الذكاة في لغة العرب: الذبح كقوله تعالى: {إلا ما ذَكيتم} ، أي: ذبحتم ما ذكر اسم الله عليها، وفي الحديث: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" ، والذكاة: سرعة الفطنة، والتذكية: مأخوذة من التطيب، فذكاها بمعنى: طيبها بالذبح، ومنه رائحة ذكية: أي: طيبة.
3 والذكاة تقع بكل حاد ينهر الدم، ويفري الأوداج ما عدا العظم والسن، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس السن والظفر" ، لأن السن عظم، والظفر مدى الحبشة.

ربي، وآخر: نهاني ثم يحيلها المستقسم بها في الخريطة ويخرج زلماً منها فإن وجده مكتوباً عليه: أمرني ربي، مضى في عمله سفراً أو زواجاً ، أو بيعاً أو شراء، وإن وجده مكتوباً عليه: نهاني ربي، ترك ما عزم على فعله1 فجاء الإسلام فحرم الاستقسام بالأزلام، وسن الاستخارة وهي: أن يصلي المؤمن ركعتين من غير الفريضة ويقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله فاصرفه عنى واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به، ويسمي حاجته. ويفعل أو يترك ما عزم عليه، والذي يأتيه هو الخير بإذن الله تعالى.
وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} يريد ما ذكرت لكم مما حرمت عليكم إتيانه هو الفسق فاتركوه.
وقوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} يخبر تعالى عباده المؤمنين: أن الكافرين من المشركين وغيرهم قد يئسوا من أن يردوكم عن دينكم كما كان ذلك قبل فتح مكة ودخول ثقيف وهوازن في الإسلام، وظهوركم عليهم في كل معركة دارت بينكم وبينهم إذاً فلا تخشوهم بعد الآن أن يتمكنوا من قهركم وردكم إلى الكفر واخشوني أنا بدلهم، وذلك بطاعتي وطاعة رسولي ولزوم حدودي والأخذ بسنتي في كوني حتى لا تتعرضوا لنقمتي بسلب عطائي فإن نصرتي لأهل طاعتي وإذلالي لأهل معصيتي.
وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً2} فهو إخبار منه تعالى لعباده المؤمنين بما هو إنعام عليهم منه وامتنان فأولا: إكمال الدين3 بجميع عقائده وعباداته وأحكامه وآدابه حتى قيل أن هذه الآية نزلت عشية يوم عرفة عام
__________
1 هي ثلاثة أزلام كتب على أحدها: أمرني ربي، وعلى الثاني: نهاني ربي، والثالث: مهمل لم يكتب عليه شيء ويجعلها في خريطته، فإذا خرج أمرني مضى في عمله ، وإذا خرج نهاني ترك ما أراد فعله، وإذا خرج المهمل أعاد الضرب في الخريطة، وهناك نوعان من الاستقسام غير ما ذكرنا.
2 هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...} نزلت بعرفة يوم الجمعة في حجة الوداع بعد العصر، والرسول صلى الله عليه وسلم على ناقته: العضباء، كما هو واضح في رواية مسلم في صحيحه.
3 ووجه إكمال الدين أنه كان قبل الهجرة مقصورًا على الشهادتين، والصلاة ولما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أخذ التشريع ينزل يومًا بعد يوم حتى كمل وأعلن عنه الرب تعالى في حجة الوداع بقوله: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ...} إلخ.

حجة الوداع، ولم يعش بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أحدى وثمانين ليلة ثم توفاه الله تعالى. وثانياً: إتمام نعمته تعالى عليهم فآمنهم بعد الخوف وقواهم بعد ضعف، ونصرهم وأعزهم بعد قهر وذل وسودهم وفتح البلاد لهم وأظهر دينهم، وأبعد الكفر والكفار عنهم، فعلمهم بعد جهل وهداهم بعد ضلال فهذه من النعمة التي أتمها عليهم. وثالثاً: رضاه بالإسلام ديناً لهم حيث بعث رسوله به وأنزل كتابه فيه فين عقائده وشرائعه فأبعدهم عن الأديان الباطلة؛ كاليهودية والنصرانية والمجوسية، وأغناهم عنها بما رضيه لهم ألا وهو الإسلام القائم على الاستسلام لله تعالى ظاهراً وباطناً، وذلك سلم العروج إلى الكمالات ومرقى كل الفواضل والفضائل والسعادات، فلله الحمد وله المنة.
وقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يريد تعالى من اضطر، أي: ألجأته الضرورة وهي شدة الجوع وهي المخمصة1 والمسغبة إلى أكل ما حرمت عليكم من الميتة وأنواعها فأكل فلا إثم عليه فإني غفور لعبادي المؤمنين رحيم بهم إلا أن يكون قد أكل من الميتة وأنواعها متعمداً المعصية مائلاً إليها غير مبال بتحريمي لها، فذاك الذي عصاني وتعرض لنقمتي وعذابي فإن تاب فإني غفور رحيم، وإن أصر فإن عذابي أليم شديد.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- حرمة الميتة وما ذكر معها وهي عشر من المحرمات.
2- حرمة الاستقسام بالأزلام ومثلها قرعة الأنبياء وخط الرمل والكهانة وما أشبه ذلك.
3- حرمة الذبح على القبور والقباب والنصب التذكارية وهي من الشرك.
4- جواز أكل ما أدركه المسلم حياً من الحيوان المأكول فذكاه وإن كان قد جرح أو كسر أو أشرف على الموت بأي سبب مميت2.
__________
1 المخمصة: لغة الجوع، وخلاء البطن من الطعام. والخمص: ضمور البطن، ومنه الحديث: "إن الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا" . وفي الحديث أيضًا: "خماص البطون خفاف الظهور". والخميصة: ثوب، وجمعها: خمائص، ثياب خز وصوف، وفي الحديث: "تعس عبد الخميصة ".
2 من آداب التذكية: الرفق بالحيوان، إحداد الشفرة، إن يوجهها إلى القبلة، تركها حتى تبرد قبل أن يشرع في سلخها، إحضار نية الإباحة قبل الشروع في الذبح، بأن يقول: بسم الله الله اكبر. والاعتراف بالمنة لله؛ حيث سخر لنا هذا الحيوان، ولو شاء لسلطه علينا، وأباح لنا ما لو شاء لحرمه علينا. وكل هذه الآداب جاءت في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتل، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح" . الذبح.

5- وجوب خشية الله تعالى وحرمة خشية الكفار.
6- حرمة الابتداع في الدين وحرمة التشريع المنافي للشرع الإسلامي.
7- جواز أكل الميتة للمضطر، وهو من لحقه ضرر من شدة الجوع فخاف على نفسه الهلاك على شرط أن لا يكون قاصداً المعصية مائلاً إلى الإثم.
{يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ(5)}
شرح الكلمات:
{الطَّيِّبَاتُ} : ما أذن الله تعالى في أكله وأباحه لعباده المؤمنين.
{الْجَوَارِحِ} : جمع جارحة بمعنى كاسبة تخرج بمعنى تكسب.
{مُكَلِّبِينَ1} : أي: مرسلين الجارحة على الصيد سواء كانت الجارحة كلباً أو طيراً2.
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} : ذبائح اليهود والنصارى.
{وَالْمُحْصَنَاتُ} : جمع محصنة وهي العفيفة الحرة من النساء.
__________
1 المكلب: هو معلم الكلاب، ومدربها على الصيد، ويقال للصائد: مكلب، وعليه فقوله: {مُكَلِّبين} يكون بمعنى: صائدين.
2 يكتفي في الطير بأن تطيع إذا أمرت، إذ هي دون الكلاب في الاستعداد للفهم والاستجابة، ومثلها: سباع الوحوش، فإنها دون الكلاب أيضًا، إلى أن الجمهور يشترط فيها ما يشترط في الكلاب.

{أُجُورَهُنَّ} : مهورهن وصدقاتهن.
{غَيْرَ مُسَافِحِينَ} : غير مجاهرين بالزنى.
{أَخْدَانٍ} : جمع خدن وهو الخليل والصاحب السري.
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ} : أي: يرتد عن الإيمان، فالباء بمعنى عن إذ يقال: ارتد عن كذا...
{حَبِطَ عَمَلُهُ} : بطل عمله ما قدمه من الصالحات فلا يثاب عليه.
معنى الآيتين:
ورد أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يدخل لوجود كلب صغير في البيت فقال: "إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب". فأمر النبي بعدها بقتل الكلاب، فقتلت ثم جاء بعضهم يسأل عما يحل لهم من أمة الكلاب، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {يَسْأَلونَكَ1 مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} وهي كل ما لذ وطاب مما أباحه الله تعالى ولم ينه عنه، وأحل لكم كذلك صيد ما علمتم من الجوارح وهي الكلاب الخاصة بالاصطياد والفهود والنمور والطيور؛ كالصور ونحوها. مكبلين، أي: مرسلين لها على الصيد لتمسكه لكم، {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} . أي: تؤدبون تلك الجوارح بالأدب الذي أدبكم الله تعالى به، وحد الجارحة المؤدبة أنها إذا اشليت، أي: أرسلت على الصيد ذهبت إليه وإذا زُجرت انزجرت، وإذا دعيت أجابت. وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُم 2 وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} يفيد شرطين لحلية الصيد زيادة على كون الجارحة معلمة وهما: أولاً: أن يذكر اسم الله عند إرسال الجارحة بأن يقول: بسم الله هاته مثلاً، والثاني3: أن لا تأكل الجارحة منه فإن أكلت منه فقد أمسكت لنفسها ولم تمسك لمن أرسلها، اللهم إلا إذا أدركت حية لم تمت
__________
1 ذكر القرطبي أن الآية: {يَسْألونك...} نزلت بسبب عدي بن حاتم، وزيد الخيل الذي سماه الرسول صلى الله عليه وسلم: "زيد الخير"، إذ قالا يا رسول الله: إنا قوم نصيد بالكلاب والبذاة، وإن الكلاب تأخذ البقر والحمر والظباء فمنه ما ندرك ذكاته ومنه ما نقلته فلا ندرك ذكاته، وقد حرم الله الميتة، فماذا يحل لنا؟ فنزلت الآية: {يَسْألونك..} إلخ. ولا منافاة بين ما ذكر في التفسير وبين هذا، إذ يسأل السائل فيقرأ عليه الرسول بالآية فيرى أنها نزلت فيه.
2 {مما أمْسَكْنّ عَلِيكُم} : على هنا بمعنى اللام، أي: مما أمسكن لكم ولأجلكم؛ كقولهم: سجن على كذا وضرب الصبي على قوله كذا.
3 ذكر القرطبي الإجماع على أن الكلب إذا لم يكن أسود وعلمه مسلم فيشلي إذا أشلى، ويجيب إذا دُعي، وينزجر بعد ظفره بالصيد إذا زجر وأن يكون لا يأكل من صيده الذي صاده، وأثر فيه بجرح أو تنيب وصاد به مسلم وذكر اسم الله عند ارساله أن صيده صحيح. هذه الشروط داخلة في الشرطين اللذين ذكرتهما الآية، كما في التفسير إلا اشتراط ألا يكون الكلب أسود، وهذا الشرط فيه خلاف.

ثم ذكيت فعند ذلك تحل بالتذكية لا بالاصطياد1، وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَاب} وعيد لمن لم يتق الله في أكل ما حرم أكله من الميتة وأنواعها، ومن صيد صاده غير معلم من الجوارح، أو صاده معلم ولكنه أكل منه فمات قبل التذكية. فلنتق عقوبة الله في ذلك فإن الله سريع الحساب.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى(4)، أما الآية الثانية(5) وهي قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} ، أي: في هذا اليوم الذي أكمل الله تعالى لكم فيه الدين أحل لكم ما سألتم عنه وهو سائر الطيبات، وكذا طعام الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وهم اليهود والنصارى خاصة فطعامهم، أي: ذبائحهم حل لكم، وطعامكم حل لهم، أي: لا بأس أن تطعموهم من طعامكم فإن ذلك جائز لكم ولهم. وأحل لكم أيضاً نكاح المحصنات، أي: العفائف من المؤمنات، والمحصنات من نساء الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وهن العفائف من اليهوديات والنصرانيات، على شرط إتيانهن أجورهن، أي: مهورهن حال كونكم محصنين، أي: عاقدين عليهن عقدة النكاح المتوقفة على المهر والولي والشهود وصيغة الإيجاب والقبول، لا مسافحين بإعطاء المرأة أجرة وطئها فقط بدون عقد مستوف لشروطه، ولا متخذي أيضاً بأن تنكوحهن سراً بحكم الصحبة والصداقة والمحبة إذ ذاك هو الزنى فلا يحل بأجرة ولا بغير أجرة، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ2 بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فيه إشارة إلى أن استباحة المحرمات والجرأة على ذلك قد تؤدي إلى الكفر، ومن يكفر بعد إيمانه فقد حبط عمله، أي: بطل ثواب ما عمله في إسلامه، حتى ولو راجع الإسلام فليس له إلا ما عمله بعد رجوعه إلى الإسلام، وإن مات قبل العودة إلى الإسلام فهو قطعاً في الآخرة من الخاسرين وبإلقائهم في نار جهنم خالدين فيها أبداً.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- مشروعية سؤال من لا يعلم عما ينبغي له أن يعلمه.
2- حلية الصيد إن توفرت شروطه، وهي: أن يكون الجارح معلماً وأن يذكر اسم الله تعالى عند
__________
1 قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل" دال على أن الصائد يتعين عليه أن يقصد عند إرسال الكلب والطير التذكية والإباحة إذا الأعمال بالنيات ولكل أمرء ما نوى.
2 لفظ الإيمان مصدر آمن يؤمن إيمانًا، أطلق وأريد به الإسلام؛ لأن الإسلام والإيمان متلازمان ما أسلم من لم يؤمن، وما آمن من لم يسلم، ومعنى الآية: {وَمَنْ يَرْتَدّ عَنْ الإسلام} .

إرساله وأن لا يأكل منه الجارح، ويجوز أكل ما صيد برصاص أو بآلة حادة1 بشرط ذكر اسم الله عند رميه ولو وجد ميتاً فلم يذك.
3- إباحة طعام وذبائح أهل الكتاب.
4- إباحة نكاح الكتابيات بشرط أن تكون حرة2 عفيفة، وأن يعقد عليها العقد الشرعي وهو القائم على الولي والشهود والمهر، والصيغة بأن يقول الخاطب لمن يخطبه من ولي ووكيل: زوجني فلانة. فيقول له: قد زوجتكها.
5- حرمة نكاح المتعة ونكاح الخلة والصحبة الخاصة.
6- المعاصي قد تقود إلى الكفر.
7- المرتد عن الإسلام يحبط عمله فلو راجع الإسلام لا يثاب على ما فعله قبل الردة وإن مات قبل العودة إلى الإسلام خسر نفسه وأهله يوم القيامة وذلك هو الخسران المبين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(6)
__________
1 لفظ: حادة، احتراز من غير الحادة؛ كالعصا، وعرض المعراض، والحجر، ونحوها، لحديث: "إذا ضربت بالمعراض فخرق فكله، وإن أصابه بعرض فإنه وقيذ فلا تأكله" . إذ المعراض: سهم بلا ريش غليظ الوسط يصيب بحدة وعرضة معًا، فإن أصاب بحدة جاز أكل ما أصابه، وإن أصاب بعرضة فهو كالموقوذة فلا يؤكل.
2 لأن الأمة الكافرة لا تحل للمؤمن لقول الله تعالى: {مِنْ فَتَياتِكم الْمؤمِنات} أي: لا الكافرات. الآية من سورة النساء.

وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(7)}
شرح الكلمات:
إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ : أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون1، أي: على غير وضوء.
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ : أي: بعد غسل الكفين ثلاثاً، والمضمضة والاستنشاق والاستنثار ثلاثاً ثلاثاً لبيان رسول2 الله صلى الله عليه وسلم ذلك.
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ : أي: واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين إلا أن يكون عليها خف ساتر فإنه يجوز المسح عليه دون حاجة إلى نزعه وغسل الرجلين، وذلك إن لبسه بعد وضوء ولم يمض على لبسه أكثر من يوم وليلة إن كان مقيماً، أو ثلاثة أيام إن كان مسافراً بهذا جاءت السنة3.
وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً : الجنب: من قامت به جنابة، وهي شيئان: غياب رأس الذكر في الفرج، وخروج المني بلذة في نوم أو يقظة.
فَاطَّهَّرُوا : يعني: فاغتسلوا، والغسل: هو غسل سائر الجسد بالماء.
الْغَائِطِ : كناية عن الخارج من أحد السبيلين من عذرة أو فساء أو ضراط، أو بول أو مذي.
أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ : ملامسة النساء كناية عن الجماع، كما أن من لامس امرأة ليلتذذ بها
__________
1 إن خلافًا طويلاً عريضًا ف تأويل هذه الآية، وهو يدور على هل الوضوء واجب لكل صلاة أو هو مستحب أو واجب على المحدث لا غير، ومستحب لغيره، وهل في الآية تقديم وتأخير؟ والذي عليه جمهور الأمة: أن الوضوء واجب على المحدث لا غير ومستحب لغيره، وأن تأويل الآية هو كان في التفسير، ومما ينبغي الإشارة إليه أن الوضوء والغسل والتيمم كلها كانت مشروعة قبل نزول هذه الآية، إذ ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بغير وضوء، ومشروعية التيمم نزلت في غزوة المريسيع، وكانت سنة خمس أو ست من الهجرة، وعليه فالآية شملت الطهارة بأنواعها مؤكدة لها لتبقى خالدة تتلى في كتاب الله نتعبد بتلاوتها ويعمل بمضمونها علمًا وعملاً، إذ سورة المائدة من آخر ما نزلت من القرآن كما تقدم.
2 ورد هذا في حديث عثمان في الصحيح، إذ فيه: "ثم تمضمض واستنشق واستنثر" .
3 لحديث مسلم عن علي رضي الله عنه أنه قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويومًا وليلة للمقيم. يعني في المسح على الخفين.

أو لامسها لغير قصد اللذة ووجد اللذة فقد انتقض وضوءه، ومن هذا مس الفرج باليد لأنه مظنة اللذة، لذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أفضى منكم بيده إلى فرجه فليتوضأ" .
{فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً} : اقصدوا تراباً أو حجراً أو رملاً أو سبخة مما صعد على وجه الأرض.
الحرج: المشقة والعسر والضيق.
{وَمِيثَاقَهُ} : أي: ميثاق الله تعالى، وهو عهده المؤكد، والمراد به هنا: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، إذ بها وجب الالتزام بسائر التكاليف الشرعية.
معنى الآيتين:
نادى الرب تعالى عباده المؤمنين به وبرسوله ووعده ووعيده ليأمرهم بالطهارة، إذا هم أرادوا الصلاة، وهي مناجاة العبد لربه لحديث المصلى يناجي1.2 ربه، وبين لهم الطهارة الصغرى منها وهي الوضوء، والكبرى وهي الغسل، وبين لهم ما ينوب عنها إذا تعذر وجود الماء الذي به الطهارة أو عجزوا عن استعماله، وهو التيمم فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} وحدُ الوجه طولاً من منبت الشعر أعلى الجبهة إلى منتهى الذقن أسفل الوجه وحده عرضاً من وتد الأذن اليمنى إلى وتد الأذن اليسرى {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} فيشمل الغسل الكفين والذراعين إلى بداية العضدين، فيدخل في الغسل المرفقان {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} واللفظ محتمل للكل والبعض، والسنة بينت أن الماسح يقبل بيديه ويدبر بهما فيمسح جميع رأسه، وهو أكمل وذلك ببلل يكون في كفيه، كما بينت السنة مسح الأذنين ظاهراً وباطناً بعد مسح الرأس {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ، أي: واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين، وهما العظمان النائتان عند بداية الساق، وبينت السنة رخصة المسح3 على الخفين بدلاً من غسل الرجلين، كما بينت غسل الكفين والمضمضة والاستنشاق والاستنثار، وكون
__________
1 نص الحديث: "إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه" ، وفي رواية البخاري: " إذا كان أحدكم في الصلاة فإن ربه بينه وبين القبلة" .
2 وكل ما ذكر في التفسير من صفة الوضوء والغسل والتيمم هو ثابت في الصحاح والسنن، وليس فيه ما هو ضعيف قط.
3 وضلت الرافضة فأخذوا بقراءة: {وأرجلكم} بالكسر ومسحوا أرجلهم في كل وضوء وتركوا غسل الرجلين أبدًا، والحامل لهم على ذلك أن رؤسائهم زينوا لهم ذلك وأوجبوه عليهم لعلة أن يبقوا بعيدين عن الإسلام والمسلمين ليستغلوهم ماديًا، وليعدوهم لقتال المسلمين لإعادة دولة المجوس التي يحلمون بها، وأما أهل السنة والجماعة فإنهم عملوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم فغسلوا أرجلهم؛ لأن نبيهم لم يمسح رجليه بدون خف قط، ومسحوا على الخفين كما مسح نبيهم فأخذوا بالقراءتين معًا.

الغسل ثلاثاً ثلاثاً على وجه الاستحباب، وقول بسم الله عند الشروع، أي: البدء في الوضوء. كما بينت السنة وجوب الترتيب بين الأعضاء المغسولة الأول فالأول، ووجوب الفور بحيث لا يفصل بزمن بين أعضاء الوضوء حال غسلها بل يفعلها في وقت واحد إن أمكن ذلك وأكدت وجوب النية حتى لكأنه شرط في صحة الوضوء1.
وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا 2} أي: وإن أصابت أحدكم جنابة وهي الجماع والاحتلام فمن جامع زوجته فأولج ذكره في فرجها ولو لم ينزل، أي: لم يخرج منه المني فقد أجنب، كما أن من احتلم فخرج منه مني فقد أجنب بل كل من خرج منه مني بلذة في نوم أو يقظة فقد أجنب وانقطاع دم حيض المرأة، ودم نفاسها؛ كالجنابة يجب منه الغسل، وقوله: {فَاطَّهَّرُوا} يريد فاغتسلوا وقد بينت السنة كيفية الغسل وهي: أن ينوي المرء رفع الحدث الأكبر بقلبه ويغسل كفيه قائلاً: بسم الله ويغسل فرجه وا حولهما، ثم يتوضأ الوضوء الأصغر المعروف، ثم يخلل أصول شعر رأسه ببلل يديه، ثم يغسل رأسه3 ثلاث مرات، ثم يقبض الماء على شق جسده الأيمن كله من أعلاه إلى أسفله، ثم الأيسر، ويتعاهد الأماكن التي قد ينبو عنها الماء فلا يمسها؛ كالسرة وتحت الإبطين، والرفقين وهما أصل الفخذين، وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} ذكر تعالى في هذه الجملة الكريمة نواقض الوضوء وموجب الانتقال منه إلى التيمم فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} ، فالمريض قد يعجز عن الوضوء لضعف جسمه بعدم القدرة على التحرك، وقد تكون به جراحات أو دماميل يتعذر معها استعمال الماء حيث يزداد المرض بمس الماء، وقوله: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إذ السفر مظنة عدم وجود الماء هذه موجبات الانتقال من الوضوء إلى التيمم، وقوله عز وجل: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ4 أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} .
__________
1 بعض الفقهاء يعدون النية فرضًا من فروض الوضوء، وبعضهم يعدها شرطًا، وما دام المشروط يتوقف على شرطه صحة وبطلانًا، والفرض إذا ترك بطل الوضوء فإنه خلاف لفظي لا غير.
2 {فاطهروا} : أصلها فتطهروا، فأدغمت التاء في الطاء لاتحاد مخرجيهما، ومعنى: اطهروا: اغتسلوا، وفي الحديث الصحيح: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور..." .
3 مع أذنيه ظاهرًا وباطنًا.
4 أصل الغائط: أنه المكان المنخفض، ولما كان من يريد قضاء حاجته يأتي المكان المنخفض ليستتر عن أعين الناس، أطلق لفظ الغائط على ما يحل فيه من بول وعذرة.

ذكر في الجملة الأولى نواقض الوضوء إجمالاً وهو الخارج من السبيلين من عذرة وفساء وضراط وبول ومذي كنى عنه بقوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} وهو مكان التغوط والتبول، وذكر موجب الغسل وهو الجماع، وكنى عنه بالملامسة، تعليماً لعباده المؤمنين الآداب الرفيعة في مخاطباتهم، وقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} للوضوء أو الغسل بعد أن طلبتموه فلم تجدوه فتيمموا، اقصدوا من أم الشيء إذا قصده صعيداً طيباً يريد ما صعد على وجه الأرض من أجزائها؛ كالتراب والرمل والسبخة والحجارة، وقوله: {طَيِّباً} يريد به طاهراً من النجاسة والقذر، وقوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} بين فيه كيفية التيمم، وهي أن يقصد المرء التراب الطاهر وإن تعذر ذلك فما تيسر له من أجزاء الأرض فيضرب بكفيه الأرض فيمسح بهما وجهه وكفيه طاهراً أو باطناً مرة واحدة وقوله تعالى: {مِنْهُ} أي: من ذلك الصعيد، وبهذا بين تعالى كيفية التيمم، وهي التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر1 رضي الله عنه وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} يخبر تعالى أنه يأمرنا بالطهارة بقسميها الصغرى وهي الوضوء، والكبرى وهي الغسل، وما ينوب عنهما عند العجز، وهو التيمم، ما يريد بذلك إيقاعنا في الضيق والعنت، ولكنه تعالى يريد بذلك تطهيرنا من الأحداث والذنوب، لأن الوضوء كفارة لذنب المتوضئ كما جاء بيانه في السنة2 وهو قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} أي: بهدايتكم إلى الإسلام وتعليمكم شرائعه فيعدكم بذلك لشكره وهو طاعته بالعمل بما جاء به الإسلام من الأعمال الباطنة والظاهرة، وهو معنى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (6)، أما الآية الأخيرة (7) وه قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فإنه تعالى يأمر عباده المؤمنين أن يذكروا نعمته عليهم بهدايتهم إلى الإيمان ليشكروه بالإسلام، كما يذكروا ميثاقه الذي واثقهم به، وهو العهد الذي قطعه المؤمن على نفسه لربه تعالى بالتزامه بطاعته وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم عندما تعهد أن لا إله إلا الله وأن
__________
1 إذ قال له: "إنما يكفيك أن تقول هكذا ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجه" متفق عليه. وورد أنه يضرب الأرض فيمسح وجه ثم يكررها مرة أخرى فيمسح كفيه، وورد عن ابن عمر مسحهما إلى المرفقين.
2 ورد في فضل الوضوء أحاديث صحيحة كثيرة منها: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه" ، ومنها: "ما من مسلم يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يرفع طرفه إلى السماء ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية" .

محمداً رسول الله. وأما قوله: {إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} قد قالها الصحابة بلسان الحال عندما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وقد قالها كل مسلم بلسان الحال لما شهد لله بالوحدانية وللنبي بالرسالة. وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أمر بالتقوى التي هي لزوم الشريعة والقيام بها عقيدة وعبادة وقضاء وأدباً وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} يذكرهم بعلم الله تعالى بخفايا أمورهم حتى يراقبوه ويخشوه في السر والعلن، وهذا من باب تربية الله تعالى لعباده المؤمنين لإكمالهم وإسعادهم فله الحمد وله المنة.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- الأمر بالطهارة1 وبيان كيفية الوضوء وكيفية الغسل، وكيفية التيمم2.
2- بيان الأعذار الناقلة للمؤمن من الوضوء إلى التيمم.
3- بيان موجبات الوضوء والغسل.
4- الشكر هو علة الإنعام.
5- ذكر العهود يساعد على التزامها والمحافظة عليها.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ(9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ
__________
1 في الحديث الصحيح: "الطهور شطر الإيمان" . رواه مسلم.
2 وكيفية المسح على الخفين هي: أن يبل يده بالماء ثم يمسح ظاهر رجله اليمنى، ثم يمسح ظاهر اليسرى دون باطنها. حديث علي: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه" . ويشترط في المسح أن يلبس خفيه على طهارة.

الْجَحِيمِ(10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(11)}
شرح الكلمات:
{قَوَّامِينَ لِلَّهِ} : جمع قوام، وهو كثير القيام لله تعالى بحقوقه وما وجب له تعالى، وبحقوق الغير أيضاً لا يفرط في شيء من ذلك.
{شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} : جمع شهيد بمعنى: شاهد، والقسط: العدل.
{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ} : أي: لا يحملنكم.
{شَنَآنُ} : بغض وعداوة.
العدل : خلاف الجور، وهو المساواة بلا حيف ولا جور.
{هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} : أي: العدل أقرب للتقوى من الجور.
{هَمَّ قَوْمٌ} : أرادوا وعزموا على إنفاذ إرادتهم والقوم هم يهود بني النضير.
{يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} : أي: ليقتلوا نبيكم صلى الله عليه وسلم.
{فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ} : لم يمكنهم مما أرادوه من قتل النبي صلى الله عليه وسلم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في توجيه المؤمنين وإرشادهم إلى ما يكملهم ويسعدهم1، ففي الآية (8) أمر الله تعالى المؤمنين أن يكونوا قوامين لله تعالى بسائر حقوقه عليهم من الطاعات، وأن يكونوا شهداء بالعدل لا يحيفون ولا يجورون في شيء سواه كان المشهد عليه ولياً أو عدواً، ونهاهم أن يحملهم بغض قوم أو عداوتهم على ترك العدل وقد أمروا به، ثم أمرهم بالعدل وأعلمهم أن أهل العدل هم أقرب الناس إلى التقوى2، لأن من كانت ملكة العدل
__________
1 لما ذكرهم تعالى في الآيات السابقة بنعمه العظيمة، طلب إليهم في هذه الآية أن يشكروا تلك النعم، وذلك بالوفاء له بالعهد، فقال لهم: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}.
2 المراد من التقوى: التقوى الكاملة التامة التي هي ملاك الأمر، إذ بها تتحقق لهم ولاية ربهم ما داموا مؤمنين متقين.

صفة له كان أقدر على أداء الحقوق والواجبات، وعلى ترك الظلم واجتناب المنهيات، ثم أمرهم بالتقوى مؤكداً شأنها؛ لأنها ملاك الأمر، وأعلمهم بأنه خبير بما يعملون لتزداد ملكة مراقبة الله تعالى في نفوسهم فيفوزون بالعدل والتقوى معاً، هذا ما دلت عليه الآية الأولى(8) أما الآية(9) فقد تضمنت بشرى سارة1 لهم، وهي أن ربهم قد وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالمغفرة لذنوبهم والأجر العظيم لهم وهو الجنة، وقلت بشرى سارة لهم، لأنهم هم أهل الإيمان وصالح الأعمال رضي الله عنهم وأرضاهم، أما الآية الثالثة(10) فقد تضمنت وعيداً شديداً للكافرين المكذبين بآيات الله وحججه التي أرسل بها رسله وأيدهم بها، ولازم لكذبهم وكفرهم خبث أرواحهم، ولذا فهم لا يلائمهم إلا عذاب النار فكانوا بذلك أصحاب الجحيم2 الذين لا يفارقونها أبداً، وأما الآية الرابعة(11) فقد ذكرهم تعالى بنعمة عظيمة من نعمه، هي نجاة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم من قتل أعدائه وأعدائهم وهم اليهود إذ ورد في سبب نزول هذه الآية ما خلاصته:
أن أولياء العامريين الذين قتلا خطأ من قبل مسلم حيث ظنهما كافرين فقتلهما، جاءوا يطالبون بدية قتيلهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الخلفاء الراشدون الأربعة وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين إلى بني النضير يطالبونهم بتحمل شيء من هذه الدية بموجب عقد المعاهدة، إذ من جملة موادها: تحمل أحد الطرفين معونة الطرف الآخر في مثل هذه الحالة المالية، فلما وصلوا إلى ديارهم شرق المدينة استقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحفاوة والتكريم وأجلسوه مكاناً لائقاً تحت جدار منزل من منازلهم وأفهموه أنهم يعدون الطعام والنقود، وقد خلوا ببعضهم وتأمروا على قتله صلى الله عليه وسلم، وقالوا فرصة متاحة فلا نفوتها أبداً وأمروا أحدهم أن يطلق من سطح المنزل حجر رحى كبيرة على رأس النبي صلى الله عليه وسلم فتقتله، وما زالوا يدبرون مكيدتهم حتى أوحى الله إلى رسوله بالمؤامرة الدنيئة، فقام صلى الله عليه وسلم وتبعه أصحابه ودخلوا إلى المدينة وفاتت فرصة اليهود واستوجبوا بذلك اللعن وإلغاء المعاهدة وإجلائهم من المدينة، وقصتهم في سورة الحشر، والمقصود من هذا بيان المراد من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
__________
1 لقوله تعالى: {إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} .
2 في الآية قصر إدعائي، وهو قوله تعالى: {أولئك أصْحَابْ الْجَحيِم} ، أي: لا غيرهم؛ كأنهم المتأهلون للعذاب والخلود فيه دون غيرهم، وذلك لعظم جرمهم بالكفر والتكذيب.

آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا1 إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} أي: بالقتل للنبي صلى الله عليه وسلم {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} حيث أوحى إلى رسوله ما دبره اليهود فانصرف وتركهم لم يظفروا بما أرادوا، وهو معنى: {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ2 عَنْكُمْ}.
ثم أمر الله تعالى المؤمنين بتقواه، إذ هي سلم كمالهم وسبيل نجاحهم، وهي عبارة عن امتثال أمره وأمر رسوله واجتناب نهيهما وأرشدهم إلى التوكل عليه تعالى في جميع أمورهم بقوله: {وَعَلَى3 اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب القيام بحق الله تعالى على العبد، وهو ذكره وشكره بطاعته.
2- وجوب العدل في الحكم والقول والشهادة والفعل ومع الولي والعدو سواء.
3- تأكيد الأمر بتقوى الله عز وجل.
4- الترغيب والترهيب بذكر الوعد والوعيد كما في الآيتين(9)و(10).
5- وجوب ذكر النعمة حتى يؤدى شكرها.
6- وجوب التوكل على الله تعالى والمضي في أداء ما أوجب الله تعالى.
{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ
__________
1 ولهذه الحادثة نظيرتها، فقد تعددت مؤامرات اليهود والمشركين على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ففي الحديبية حصل مثل هذا، وحادثة غورث، وعثور كذلك، إذ الكل همه فيها ببسط أيديهم بالأذى، ولكن الله كف أيديهم فله الحمد وله المنة.
2 كف اليد: كناية عن عدم القتل والقتال. وبسطها: كناية عن السوء والأذى الحاصل بها.
3 في الآية قصر حقيقي، وهو أن التوكل لا يكون إلا على الله، إذ لا كافي إلا هو سبحانه وتعالى.

جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ(12)}
شرح الكلمات:
الميثاق : العهد المؤكد بالإيمان.
{بَنِي إِسْرائيلَ} : اليهود.
{نَقِيباً1} : نقيب القوم: من ينقب عنهم ويبحث عن شؤونهم ويتولى أمورهم.
{وَعَزَّرْتُمُوهُمْ2} : أي: نصرتموهم ودافعتم عنهم معظمين لهم.
{وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ} : أي: أنفقتم في سبيله ترجون الجزاء منه تعالى على نفقاتكم في سبيله.
{لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} : أسترها ولم أوآخذكم بها.
{فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} : أخطأ طريق الهدى الذي يفلح سالكه بالفوز بالمحبوب والنجاة من المرهوب.
معنى الآية الكريمة:
لما طالب تعالى المؤمنين بالوفاء بعهودهم والالتزام بمواثيقهم ذكرهم في هذه الآية بما أخذ على بني إسرائيل من ميثاق فنقضوه فاستوجبوا خزي الدنيا وعذاب الآخرة ليكون هذا عبرة للمؤمنين حتى لا ينكثوا عهدهم ولا ينقضوا ميثاقهم كما هو إبطال لاستعظام من استعظم غدر اليهود وهمهم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ} وهو قوله إني معكم الآتي، {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً3} أي: من كل قبيلة من قبائلهم الاثنى عشرة قبيلة نقيباً يرعاهم ويفتش على أحوالهم كرئيس فيهم، وهم الذين بعثهم موسى عليه
__________
1 النقب، والنقب بفتح القاف وضمها: الطريق في الجبل. والنقيب: الأمين على القوم، وجمعه نقباء، وهو من ينقب عن أمور القوم ومصالحهم ليرعاها لهم. وقالوا النقيب أكبر من العريف، وفي البخاري: "ارجعوا حتى يرفع إلينا عرفائكم أمركم" .
2 التعزير: التعظيم. والتوقير والنصرة والدفاع عن المعزر. والتعزير في الشرع: الضرب دون الحد لرد المخالف إلى الحق وسبيل الرشاد.
3 من بين النقباء الاثنى عشر: يوشع، وكالب، وهما رجلان صالحان، والباقون هلكوا فلا خير فيهم.

السلام إلى فلسطين لتعرفوا على أحوال الكنعانيين1 قبل قتالهم. وقال الله تعالى: {إِنِّي مَعَكُمْ} ، وهذا بند الميثاق {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ} أي: وعزتي وجلالي {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي} صدقتموهم فيما جاءوكم به {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} بنصرتهم وتعظيمهم، {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} أي: زيادة على الزكاة الواجبة والعامة في الإنفاق، وفي تزكية النفس بالإيمان وصالح الأعمال {لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ2} بإذهاب آثارها من نفوسكم حتى تطيب وتطهر {وَلأُدْخِلَنَّكُمْ} بعد ذلك التطهير {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا} ، أي: من تحت أشجارها وقصورها {الأَنْهَارُ} هذا جزاء الوفاء بالميثاق {فَمَنْ كَفَرَ} فنقض وأهمل ما فيه فكفر بعده {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي: أخطأ طريق الفلاح في الدنيا والآخرة، أي: خرج عن الطريق المفضي بسالكه إلى النجاة والسعادة.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- الحث على الوفاء بالالتزامات الشرعية.
2- إبطال استغراب واستعظام من يستغرب من اليهود مكرهم ونقضهم وخبثهم ويستعظم ذلك منهم.
3- إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإنفاق في سبيل الله تعبد الله بها3 من قبل هذه الأمة.
4- وجوب تعظيم4 الرسول صلى الله عليه وسلم ونصرته في أمته ودينه.
__________
1 في الآية دليل على قبول خبر الواحد فيما يحتاج إليه من الاطلاع على حاجة من الحاجات الدينية والدنيوية، وفيها دليل على اتخاذ العين، أي: الجاسوس، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بسبسبة" عينًا في غزوة بدر بعثه لتقصي أخبار أبي سفيان. رواه مسلم.
2 هذا جواب القسم في قوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ...} إلخ. وأما قوله تعالى: {إِنيِ مَعَكم} فهو إخبار بوعد الله تعالى لبني إسرائيل، وهي معية نصرة وتأييد إن هم وفوا الله بما أخذ عليهم من عهد وميثاق وجملة: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ} جملة مستأنفة ولا علاقة لها بجملة الوعد: { إني معكم}.
3 ليس هذا من خصائص أمة الإسلام؛ لأن هذه العبادات شرعت لإسعاد وإكمال الإنسان، لذا هي مشروعة لكل الأمم لتوقف الكمال والسعادة على مثلها من مزكيات النفوس ومهذبات الأخلاق.
4 لأن مقام الرسل شريف، وكيف وهم رسول الله تعالى، ثم لولا وجوب ذلك لهم مع وجوب محبتهم لما أطاعهم من بعثوا فيهم وأرسلوا إليهم.

{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(14)}
شرح الكلمات:
نقض الميثاق : حله بعدم الالتزام بما تضمنه من أمر ونهي.
{لَعَنَّاهُمْ} : طردناهم من موجبات الرحمة ومقتضيات العز والكمال.
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ : يبدلون الكلام ويؤولون معانيه لأغراض فاسدة، والكلم من الكلام.
وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا} : تركوا قسطاً كبيراً مما ذكرهم الله تعالى به، أي: أمرهم به في كتابهم.
{خَائِنَةٍ} : خيانة أو طائفة خائنة منهم.
{فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} : أي: لا تؤاخذهم واصرف وجهك عنهم محسناً إليهم بذلك.
{إِنَّا نَصَارَى} : أي: ابتدعوها بدعة النصرانية، فقالوا: إنا نصارى.
{فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ} : الإغراء: التحريش، والمراد أوجدنا لهم أسباب الفرقة والخلاف إلى يوم القيامة بتدبيرنا الخاص فهم أعداء لبعضهم البعض أبداً.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في بيان خبث اليهود و غدرهم، فقد أخبر تعالى في هذه الآية الكريمة

(13) أن اليهود الذين أخذ الله ميثاقهم على عهد موسى عليه السلام بأن يعملوا بما في التوراة وأن يقابلوا الكنعانيين ويخرجوهم من أرض القدس وبعث منهم أثنى عشر نقيباً قد نكثوا عهدهم ونقضوا ميثاقهم، وإنه لذلك لعنهم وجعل قلوبهم قاسية فهم يحرفون الكلم عن مواضعه فقال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ1} أي: فبنقضهم ميثاقهم الذي أخذ عليهم بأن يعملوا بما في التوراة ويطيعوا رسولهم {لَعَنَّاهُمْ} أي: أبعدناهم من دائرة الرحمة وأفناء الخير والسلام {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً2} شديدة غليظة لا ترق لموعظة، ولا تلين لقبول هدى {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} فيقدمون ويؤخرون ويحذفون بعض الكلام ويؤولون معانيه لتوافق أهواءهم، ومن ذلك تأويلهم الآيات الدالة على نبوة كل من عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم في التوراة {وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} وتركوا كثيراً مما أمروا به من الشرائع والأحكام معرضين عنها متناسين لها كأنهم لم يؤمروا بها، فهل يستغرب ممن كان هذا حالهم الغدر والنقض والخيانة، ولا تزال يا رسولنا {تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ3} أي: على طائفة خائنة منهم كخيانة بني النضير {إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ} فإنهم لا يخونون؛ كعبد الله بن سلام وغيره، وبناء على هذا {فَاعْفُ 4 عَنْهُمْ} فلا تؤاخذهم بالقتل، {وَاصْفَحْ} عنهم فلا تتعرض لمكروههم فأحسن إليهم بذلك {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .
هذا ما دلت عليها الآية الأولى(13)، أما الآية الثانية(14) في هذا السياق فقد أخبر تعالى عن النصارى5 وأن حالهم كحال اليهود لا تختلف كثيراً عنهم، فقد أخذنا ميثاقهم على الإيمان بي وبرسلي وبالعمل بشرعي فتركوا متناسين كثيراً مما أخذ عليهم العهد والميثاق فيه، فكان أن أغرينا بينهم6 العداوة والبغضاء كثمرة لنقضهم الميثاق فتعصبت كل طائفة لرأيها فثارت
__________
1 الميم في قوله تعالى: {فَبِما نَقْضُهم} زائدة لتقوية الكلام وتأكيده ولفت النظر إليه ليتأمل وتفهم معانيه.
2 قرئت: {قَسْية} يقال: عام قسي، أي: شديد لا مطر فيه، فالمادة مأخوذة من الشدة والقساوة.
3 لفط: خائنة، صالح لأن يكون صفة لطائفة محذوفة كما في التفسير، وجائز أن تكون خائنة بمعنى خيانة؛ كقولهم في القيلولة: قائلة، والخيانة: هي المعصية، يحدثونها؛ كالكذب والفجور، وأصل الخيانة: عدم الوفاء بالعهد.
4 هذا حمل له صلى الله عليه وسلم على مكارم الأخلاق؛ لأن أذاهم كان منصبًا عليه صلى الله عليه وسلم، فأمره بعدم مقابلة الأذى بالأذى، بل بالعفو والصفح ليعظم مقامه أمامه ويكبر في أعينهم.
5 التعبير بلفظ: النصارى، فيه إشارتات مهمتان: الأولى: أن النصرانية بدعة ابتدعوها وليست مما شرع الله تعالى، فهو ينفي عنهم ذلك. والثانية: بما أنهم راعوا في هذه البدعة نصرة الدين والحق وأهله أخذًا من قول عيسى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} ، فقَالَ الحواريون: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} إذا لم تنصرون الحق وهو الإسلام وأهله، وهم المسلمون؟.
6 من الجائز أن يقال: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} هو عائد على اليهود والنصارى؛ لأن العداوة بينهم ثابتة، إلى أن السياق هو في النصارى فظوائفهم متعددة ومتعادية متباغضة، كما أخبر تعالى، والفرق بين العداوة والبغضاء: أن العداوة من العدوان فقد ينتج عنها أذي بالضرب أو القتل. وأما البغضاء: فهي من البغض القلبي فلا يتوقع من صاحبها أذى.

بينهم الخصومات وكثر الجدل فنشأ عن ذلك العداوات والبغضاء وستستمر إلى يوم القيامة، وسوف ينبئهم الله تعالى بما كانوا يصنعون من الباطل والشر والفساد ويجازيهم به الجزاء الموافق لخبث أرواحهم وسوء أعمالهم فإن ربك عزيز حكيم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- حرمة نقض المواثيق ونكث العهود ولا سيما ما كان بين العبد وربه.
2- الخيانة وصف لازم لأكثر اليهود فقل من سلم منهم من هذا الوصف.
3- استحباب العفو عند القدرة، وهو من خلال الصالحين.
4- حال النصارى1 لا تختلف كثيراً عن حال اليهود كأنهم شربوا من ماء واحد. وعليه فلا يستغرب منهم الشر ولا يؤمنون على سر، فهم على عداوة الإسلام والحرب عليه متعاونون متواصون.
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ(15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(16)}
شرح الكلمات:
{أَهْلَ الْكِتَابِ2} : هنا هم اليهود والنصارى معاً.
__________
1 جائز أن يكون النصارى: جمع نصارى منسوب إلى النصر، كما قالوا: شعراني، ولحياني، منسوب إلى الشعر واللحية.
2 الكتاب: اسم جنس، يصدق على الواحد والاثنين والأكثر، والمراد بأهل الكتاب: اليهود والنصارى، ونداءه لهم بعنوان الكتاب فيه معنى العيب عليهم سلوكهم الشائن وإنحرافهم الخطير حيث بعدوا عن كل خير.

{قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} : محمد صلى الله عليه وسلم.
{تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} : الكتاب: التوراة والإنجيل، وما يخفونه صفات النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبعض الأحكام، المخالفين لها يجحدونها خوف المعرة؛ كالرجم مثلاً.
{وَيَعْفُو1 عَنْ كَثِيرٍ} : لا يذكرها لكم لعدم الفائدة من ذكرها.
{نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} : النور: محمد صلى الله عليه وسلم، والكتاب: القرآن الكريم.
{إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} : الإسلام: وهو الدين الحق الذي لا نجاة إلا به. والمستقيم: الذي لا اعوجاج فيه.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في أهل الكتاب فبعد أن بين تعالى باطلهم وما هم عليه من شر وسوء دعاهم، وهو ربهم وأرحم بهم من أنفسهم إلى سبيل نجاتهم وكمالهم دعاهم إلى الإيمان رسوله وكتابه ذلك الرسول الذي ما اتبعه أحد وندم وخزي، والكتاب الذي ما ائتم به أحد وضل أو شقين فقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} أي: محمد صلى الله عليه وسلم {يُبَيِّنُ لَكُمْ} بوحينا {كَثِيراً} من مسائل الشرع والدين التي تخفونها خشية الفضيحة لأنها حق جحدتموه، وذلك كنعوت النبي الأمي وصفاته حتى لا يؤمن به الناس، وكحكم الرجم في التوراة وما إلى ذلك. {وَيَعْفُو} يترك كثيراً لم يذكر لعدم الداعي إلى ذكره يا أهل الكتاب { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ} ربكم {نُورٌ} هو رسولنا محمد2 صلى الله عليه وسلم {وَكِتَابٌ مُبِينٌ} وهو القرآن، أذ بين كل شيء من أمور الدين والدنيا وكل ما تتوقف سعادة الإنسان وكماله عليه دنيا وأخرى {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ} تعالى {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ}، وذلك بالرغبة الصادقة في الحصول على رضا الله عز وجل بواسطة فعل محابه وترك مساخطه عن كل معتقد وقول وعمل يهديه به {سُبُلَ السَّلامِ} أي: طريق السعادة والكمال، {وَيُخْرِجُهُمْ} أي: المتبعين رضوان الله {مِنَ الظُّلُمَاتِ} وهي ظلمات الكفر والشرك والشك، إلى نور الإيمان الصحيح والعبادة الصحيحة المزكية للنفس المهذبة للشعور بتوفيقه وعونه تعالى ويهديهم، أي: أولئك الراغبين حقاً في رضا الله {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ
__________
1 {يَعفو} معناه: يعرض ولا يظهر، يقال: عفا الرسم، إذا لم يظهر، فعفا عن كذا، أعرض عنه ولم يظهره
2 واللفظ صالح لأن يكون المراد بالنور: الإسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم نور الإسلام، نور إذ كل منهما يهدي إلى دار السلام في الآخرة وإلى الطهر والصفاء والكمال في دار الدنيا.

مُسْتَقِيمٍ} لا يضلون معه ولا يشقون أبداً، وهو دينه الحق الإسلام الذي لا يقبل ديناً غيره1، والذي ما اهتدى من جانبه ولا سعد ولا كمل من تركه.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- نصح الله تعالى لأهل الكتاب بدعوتهم إلى سبل السلام بالدخول في الإسلام.
2- بيان جحود اليهود والنصارى لكثير من الأحكام الشرعية ودلائل النبوة المحمدية مكراً وحسداً حتى لا يؤمن الناس بالإسلام ويدخلوا فيه.
3- اتباع السنة المحمدية يهدي صاحبه إلى سعادته وكماله.
4- القرآن حجة على الناس كافة لبيانه الحق في كل شيء.
5- طالب رضا2 الله بصدق يفوز بكل خبر وينجو من كل ضير.
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ
__________
1 شاهده قوله تعالى، من سورة آل عمران: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
2 لأنه يطلبه عن طريق الإسلام، والإسلام قائد أهله إلى النجاة من كل مرهوب، وإلى الفوز بكل محبوب مرغوب.

رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
شرح الكلمات:
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ} : لأنهم جحدوا الحق، وقالوا كذباً: الله هو المسيح بن مريم.
{الْمَسِيحُ} : لقب لعيسى بن مريم عبد الله ورسوله عليه السلام.
{مَرْيَمَ} : بنت عمران، من صلحاء بني إسرائيل، والدة عيسى عليه السلام.
{يُهْلِكَ} : يميت ويبيد.
{قَدِيرٌ} : قادر على إيجاد وإعدام كل شيء أراد إيجاده أو إعدامه.
الأحباء : واحده: حبيب، كما أن الأبناء واحده: ابن.
{عَلَى فَتْرَةٍ} : الفترة: زمن انقطاع الوحي لعدم إرسال الله تعالى رسولاً.
{بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} : البشير: المبشر بالخير، والنذير: المنذر من الشر، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر المؤمنين وينذر الكافرين.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن أهل الكتاب، ففي الآية الأولى(17) أخبر تعالى مؤكداً الخبر بالقسم المحذوف الدالة عليه اللام الواقعة في جواب القسم، فقال: {لَقَدْ كَفَرَ1 الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ2 الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} ووجه كفرهم أنهم جعلوا المخلوف المربوب هو الله الخالق الرب لكل شيء، وهو كفر من أقبح أنواع الكفر، وهذا وإن لم يكن قول أكثر النصارى فإنهم بانتمائهم إلى النصرانية وقولهم بها وانخراطهم في سلك مبادئها وتعاليمها يؤاخذون به، لأن الرضا بالكفر كفر.
__________
1 المراد من ذكر هذا الخبر: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} هو بيان كفرهم بهذه المقالة، لا أنه تقرير لضلالهم ونقضهم الميثاق.
2 هذا عائد إلى قول بعضهم: إن المسيح لاهوت ناسوت، أي: إله وإنسان. وهو خلط وخبط لا نظير لهما، وأشهر طوائفهم، وهم: اليعقوبية، والملكائية، والنسطورية، ينكرون أن يكون الله هو المسيح، ولكن يقولون: إن عيسى ابن الله، وأنه إله. وهو كذب صراح، وكفر بواح.

وقوله تعالى: { قُلْ فَمَنْ1 يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} يعلم رسوله كيف يتحج على أهل هذا الباطل فيقول له: قل لهم: فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه عليهما السلام {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} ، والجواب قطعاً: لا أحد، إذاً فكيف يكون عبد الله هو الله أو إلهاً مع الله؟ أليس هذا هو الضلال بعينه وذهاب العقول بكماله؟ ثم أخبر تعالى أنه له {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} خلقاً وتصرفاً، وأنه {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} خلقه بلا حجر عليه ولا حظر، و هو على كل شيء قدير خلق آدم من تراب بلا أب ولا أم، وخلق حواء من آدم، وخلق عيسى من مريم بلا أب، ويخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير فكون المسيح عليه السلام خلقه بكلمة كن بلا أب لا تستلزم عقلاً ولا شرعاً أن يكون هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث مع الله، كما هي عقيدة أكثر النصارى، والعجب من إصرارهم على هذا الباطل، هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الآية الثانية(18) فقد تضمنت بيان ضلال اليهود والنصارى معاً، وهو دعواهم أنهم {أَبْنَاءُ اللَّه2وَأَحِبَّاؤُهُ} ، إذ قال تعالى عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ3 أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} وهو تبجح وسفه وضلال، فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم بقوله: قل لهم يا رسولنا: {فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} فهل الأب يعذب أبناءه، والحبيب يعذب محبيه، وأنتم تقولون نعذب في النار أربعين يوماً بسب خطيئة عبادة أسلافهم العجل أربعين يوماً، كما جاء ذلك في قوله تعالى حكاية عنهم: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} ، والحقيقة أن هذا القول منكم من جملة الترهات والأباطيل التي تعيشون عليها، وأما أنتم فإنكم بشر ممن خلق الله فنسبتكم إليه تعالى نسبة مخلوق إلى خالق، وعبد إلى مالك من آمن منكم وعمل صالحاً غفر له وأكرمه، ومن كفر منكم وعمل سوء عذبه، كما هي سنته في سائر عباده، ولا اعتراض عليه فإن له ملك السموات والأرض وما بينهما وأنتم من جملة مملوكيه، وإليه المصير فسوف ترجعون إليه ويجزيكم بوصفكم إنه حكيم عليم.
هذا ما دلت عليه الآية الثانية، أما الآية الثالثة(19) فقد تضمنت إقامة الحجة على أهل
__________
1 الفاء: للعطف على جملة محذوفة متضمنة كذبهم في قولهم، والتقدير: كل كذبتم فمن يملك... إلخ.
2 التعبير بالأبوة والبنوة المنسوبة إلى الله تعالى تفيض بها التوراة والإنجيل، وهو من التحريف الذي حصل لكتابيهم، وأما قول من قال: هذه الأبوة والبنوة كانت تعني التشريف فاغتر بها المتأخرون واعتقدوا حقيقتها. هذا القول فيه مجازفة لا تقبل.
3 قال ابن عباس رضي الله عنهما: "خوف رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا من اليهود في العقاب فقالوا: لا نخاف فإننا أبناء الله وأحباؤه، فنزلت هذه الآية.

الكتاب، فقد ناداهم الرب تبارك وتعالى بقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} وأعلمهم أنه قد جاءهم رسوله محمد صلى الله عليه وسلم يبين لهم الطريق المنجي والمسعد في وقت واحد على حين فترة من1 الرسل، إذ انقطع الوحي منذ رفع عيسى إلى السماء وقد مضى على ذلك قرابة خمسمائة وسبعين سنة أرسلنا رسولنا إليكم حتى لا تقولوا معتذرين عن شرككم وكفركم وشركم وفسادكم: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ2} فها هو ذا البشير محمد3 صلى الله عليه وسلم قد جاءكم4 فآمنوا به واتبعوه تنجوا وتسعدوا، وإلا؛ فالعذاب لازم لكم، والله على تعذيبكم قدير كما هو على كل شيء قدير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- كفر من ينسب إلى الله تعالى ما هو منزه عنه من سائر النقائص.
2- بطلان دعوى اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه بالدليل العقلي.
3- نسبة المخلوقات لله تعالى لا تتجاوز كونها مخلوقة له مملوكة يتصرف فيها كما شاء ويحكم فيها بما يريد.
4- قطع عذر أهل الكتاب بإرسال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ(20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ
__________
1 الفترة: مشتقة من فتر عن عمله، يفتر فتورًا، إذا سكن. والأصل فيها الانقطاع عما كان عليه من الجد عليه. والمراد بها في الشرع: هي انقطاع ما بين الرسولين.
2 {مَن بَشِير ولا نَذِير} من زائدة وزيادتها لغرض المبالغة في نفي المجيء وتنكير بشير ونذير للتقليل، أي: ما جاءنا أقل بشير وأقل نذير.
3 روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب قالوا لليهود: يا معشر يهود اتقوا الله فإنكم والله لتعلمون أن محمدًا رسول الله ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه بصفته فقالوا: ما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بعد من بشير ولا نذير فنزلت هذه الآية.
4 قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ...} الآية. الفاء: هي الفاء الفصيحة، فقد أفصحت عن محذوف ما بعدها يكون علة له، وتقديره هنا: لا تعتذروا فقد جاءكم... إلخ.

فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ(21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ(22) قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(23)}
شرح الكلمات:
{نِعْمَةَ1 اللَّهِ عَلَيْكُمْ} : منها نجاتهم من فرعون وملائه.
{إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ2} : منهم موسى وهارون عليهما السلام.
{وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} : أي: مالكين أمر أنفسكم بعد الاستعباد الفرعوني لكم.
{الْعَالَمِينَ} : المعاصرين لهم والسابقين لهم.
{الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ} : المطهرة التي فرض الله عليكم دخولها والسكن فيها بعد طرد الكفار منها.
{وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} : أي: ترجعوا منهزمين إلى الوراء.
{قَوْماً جَبَّارِينَ} : عظام الأجسام أقوياء الأبدان يجبرون على طاعتهم من شاءوا.
{يَخَافُونَ} : مخالفة أمر الله تعالى ومعصية رسوله.
{أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا} : أي: بنعمة العصمة حيث لم يفشوا سر ما شاهدوه لما دخلوا أرض الجبارين لكشف أحوال العدو بها، وهما يوشع وكالب من النقباء الاثنى عشر.
معنى الآيات:
ما زال السياق مع أهل الكتاب، وهو هنا في اليهود خاصة، إذ قال الله تعالى لرسوله محمد
__________
1 النعمة: اسم جنس يطلق على الواحد والمتعدد؛ كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} فهو دال على العدد الذي لا يحصى.
2 أنبياء: جمع نبي، ولم يصرف لأن فيه ألف التأنيث الممدودة.

صلى الله عليه وسلم واذكر1 {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} كموسى وهارون عليهما السلام {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً2} تملكون أنفسكم لا سلطان لأمة عليكم إلا سلطان ربكم عز وجل3 {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} للسكن فيها والاستقرار بها فافتحوا باب المدينة وباغتوا العدو فإنكم تغلبون {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} أي: ولا ترجعوا إلى الوراء منهزمين فتنقلبوا بذلك خاسرين، لا أمر الله بالجهاد أطعتم، ولا المدينة المقدسة دخلتم وسكنتم، واسمع يا رسولنا جواب القوم ليزول استعظامك بكفرهم بك وهمهم بقتلك، ولتعلم أنهم قوم بهت سفلة لا خير لهم، إذ قالوا في جوابهم لنبيهم موسى عليه السلام: {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ4 وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} !! وكان سبب هذه الهزيمة الروحية ما أذاعه النقباء من أخبار مهيلة مخيفة تصف العمالقة الكنعانيين بصفات لا تكاد تتصور في العقول، اللهم إلا اثنين منهم، وهما: يوشع بن نون، وكالب بن يوحنا، وهما اللذان قال تعالى عنهما: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} أي: أمر الله تعالى {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا} فعصمهما من إفشاء سر ما رأوا من قوة الكنعانيين إلا لموسى عليه السلام قالا للقوم: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} أي: باب المدينة {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} ، وذلك لعنصر المباغتة، وهو عنصر مهم في الحروب، {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} وهاجموا القوم واقتحموا عليهم المدينة {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بما أوجب الله عليكم من جهاد وكتب لكم من الاستقرار بهذه البلاد والعيش بها، لأنها أرض5 القدس والطهر. هذا ما تضمنته الآيات الأربع، وسنسمع رد اليهود على الرجلين في الآيات التالية.
__________
1 في هذه الآيات تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلاقي من عنت وعناد له بالمدينة، لذا أعلمهم بما لاقى موسى منهم من غلظة وجفاء وتعنت وعناد.
2 روي عن الحسن وزيد ابن أسلم: "أن من كانت له دار وزوجة وخادم فهو ملك". وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص، كما في صحيح مسلم، إذ سأله رجل قائلاً: "ألسنا من فقراء المهاجرين. فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها. قال: نعم. قال: ألك منزل تسكنه؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء. قال: فإن لي خادمًا. قال: فأنت ملك".
3 سقطت هذه الآية من التفسير: {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} وهو قول موسى لقومه، وما آتاهم منه: المن والسلوى والغمام. وكون الأنبياء في بني إسرائيل في هذا المذكور تبدوا الخصوصية المذكورة في قوله: {مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} .
4 {جَبّارِين} أي: عظام الأجسام طوالها، والجبار من الناس: المتعظم الممتنع من الذل والفقر، أو هو من يجبر الناس على مراده لقوته عليهم وقهره لهم، وذكر القرطبي هنا حديثًا مسهبًا، عن عوج بن عناق، وهو حديث خرافة لما فيه من التهاويل الباطلة.
5 هي أرض فلسطين الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط وبين نهر الأردن والبحر الميت، فتنتهي إلى حماة شمالاً وغزة وحرون جنوبًا "نقلاً عن التنوير".

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بإعلامه تعالى بخبث اليهود وشدة ضعفهم ومرض قلوبهم.
2- فضح اليهود بكشف الآيات عن مخازيهم مع أنبيائهم.
3- بيان الأثر السيئ الذي تركه إذاعة النقباء للأخبار الكاذبة المهولة، وقد استعملت ألمانيا النازية هذا الأسلوب ونجحت نجاحاً كبيراً حيث اجتاحت نصف أوربا في مدة قصيرة جداً.
4- بيان سنة الله تعالى من أنه لا يخلو زمان ولا مكان من عبد صالح تقوم به الحجة على الناس.
5- فائدة عنصر المباغتة في الحرب وأنه عنصر فعال في كسب الانتصار.
{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ(24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ(25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ(26)}
شرح الكلمات:
{لَنْ نَدْخُلَهَا} : أي: المدينة1 التي أمروا بمهاجمة أهلها والدخول عليهم فيها.
{الْفَاسِقِينَ} : أي: عن أمر الله ورسوله بتركهم الجهاد جبناً وخوفاً.
{مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} : أي: تحريماً كونياً قضائياً لا شرعياً تعبدياً.
{يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} : أي: في أرض سيناء متحيرين فيها لا يدرون أين يذهبون مدة أربعين سنة.
{فَلا تَأْسَ} : أي: لا تحزن ولا تأسف.
__________
1 إليا أو أريحا لا تعدو واحدة منها عند أكثر المفسرين والمؤرخين.

معنى الآيات:
هذا هو جواب القوم على طالب الرجلين الصالحين باقتحام المدينة على العدو، إذ قالوا بكل وقاحة ودناء وخسة: {يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا} أي: المدينة {أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا} أي: ما دام أهلها فيها يدافعون عنها ولو لم يدافعوا1، {فَاذْهَبْ أَنْتَ2 وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} أهل المدينة، أما نحن ف {هَاهُنَا قَاعِدُونَ} . أي تمرد وعصيان أكثر من هذا؟ وأي جبن وخور أعظم من هذا؟ وأي سوء أدب أحط من هذا؟ وهنا قال موسى متبرئاً من القوم الفاسقين: رب: أي يا رب {إِنِّي لا أَمْلِكُ3 إِلا نَفْسِي وَأَخِي} يريد هارون {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} فطلب بهذا البراءة منهم4 ومن صنيعهم، إذ قد استوجبوا العذاب قطعاً، فأجابه ربه تعالى بقوله في الآية الثالثة(26) {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} أي: الأرض المقدسة أربعين سنة لا يدخلونها وفعلاً ما دخلوها إلا بعد مضي الفترة المذكورة "أربعين سنة" وكيف كانوا فيها؟ يتيهون5 في أرض سيناء متحيرين لا يدرون أين يذهبون ولا من أين يأتون، وعليه فلا تحزن يا رسولنا ولا تأسف على القوم الفاسقين، إذ هذا جزاؤهم من العذاب عُجل لهم فليذوقوه!!.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان جبن اليهود وسوء أدبهم مع ربهم وأنبيائهم.
2- وجوب البراءة من أهل الفسق ببغض عملهم وتركهم لنقمة الله تعالى تنزل بهم.
3- حرمة الحزن والتأسف على الفاسقين والظالمين إذا حلت بهم العقوبة الإلهية جزاء فسقهم وظلمهم لأنفسهم ولغيرهم.
__________
1 هذا الجبن والخور الذي أصاب القوم سببه: ما أذاعه النقباء فيهم، ما عدا يوشع وكالب؛ من أن العمالقة قوم جبارون، أجسامهم كذا وكذا في طولها وعرضها، وقوتهم كذا وكذا...
2 هذه العبارة تدل على جهل القوم بالله تعالى وبما يجب له من العظيم والوقار، وهي كلمة كفر إن لم يعذر صاحبها بجهل بالله تعالى وصفاته
3 ليس معنى الملك أن يملكه كعبد لا‍‍‍‍‍‍‍‍. أنه أخوه فكيف يملكه وإنما مراده: إني لا أملك إلا نفسي وأخي لا يملك لا نفسه أيضًا لا قدرة لي ولا له على بني إسرائيل.
4 أراد مفاصلتهم لما ظهر منهم من التمرد والعصيان والبعد عنهم حتى لا يصيبهما ما يصيبهم من العقاب.
5 التيه في اللغة: الحيرة. يقال: تاه يتيه تيهًا، إذا تحير، والأرض التيهاء التي لا يهتدي فيها، وتاه المرء في الأرض ذهب فيها متحيرًا لا يدري، أين يذهب أو يجيء.

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ(29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ(30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ(31)}
شرح الكلمات:
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} : وأقرأ على اليهود الذين هموا بقتلك وقتل أصحابك.
{نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ} : خبر ابني آدم هابيل وقابيل.
{قُرْبَاناً} : القربان: ما يتقرب1 به إلى الله تعالى؛ كالصلاة والصدقات.
{بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ} : مددت إليَّ يدك.
{أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ} : ترجع إلى الله يوم القيامة بإثم قتلك إياي، وإثمك في معاصيك.
{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} : شجعته على القتل وزينته حتى فعله.
{غُرَاباً} : طائراً أسود معروف يضرب به المثل في السواد2.
__________
1 قيل كان قربان قابيل: حزمة من سنبل؛ لأنه صاحب زرع فاختارها من أردئ زرعه، حيث إنه وجد فيها سنبلة طيبة ففركها وأكلها، وأما قربان هابيل: فكان كبشًا؛ لأنه صاحب غنم واختاره من أجود غنمه.
2 يقال: أسود غريب، وقال الشاعر: حتى إذا شاب الغراب أتيت أهلي.

{يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} : يستر بالتراب جسد أخيه، وقيل: فيه سوءة، لأن النظر إلي الميت تكرهه النفوس، والسوءة: ما يكره النظر إليها.
معنى الآيات:
ما زال السياق القرآني الكريم في الحديث عن يهود بني النضير الذين هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فالله تعالى يقول لرسوله: واقرأ عليهم قصة ابني آدم هابيل وقابيل ليعلموا بذلك عاقبة جريمة القتل الذي هموا به، توبيخاً لهم، وإظهاراً لموقفك الشريف منهم حيث عفوت عنهم، فلم تقتلهم بعد تمكنك منهم، وكنت معهم كخير ابني آدم، {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً1} ، أي: قرب كل منهما قرباناً لله تعالى فتقبل الله قربان2 أحدهما لأنه كان من أحسن ماله وكانت نفسه به طيبة، {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ} وهو قابيل؛ لأنه كان من أردأ ماله، ونفسه به متعلقة، فقال لأخيه هابيل لأقتلنك حسداً له –كما حسدتك اليهود وحسدوا قومك في نبوتك ورسالتك- فقال له أخوه إن عدم قبول قربانك عائد إلى نفسك لا إلى غيرك {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ3} للشرك، فلو اتقيت الشرك لتقبل منك قربانك لأن الله تعالى لا يتقبل إلا ما كان خالصاً له، وأنت أشركت نفسك وهواك في قربانك، فلم يتقبل منك. ووالله قسماً به. { لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} ، وعلل ذلك بقوله: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} ، أي: أن ألقاه بدم أرقته ظلماً. وإن أبيت إلا قتلي فإني لا أقتلك لأني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك، أي: ترجع إلى ربنا يوم القيامة بإثم قتلك إياي، وإثمك الذي فارقته في حياتك كلها، فتكون بسبب ذلك من أصحاب النار الخالدين فيها الذين لا يفارقونها أبداً، قال تعالى: {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} ، {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} أي شجعته عليه وزينته له فقتله {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ4} النادمين لأنه لم يدر ما يصنع به
__________
1 القربان: اسم جنس يطلق على الواحد، والمتعدد، إذ لكل منهما قربان وليس قربانًا واحدًا اشتراكًا فيه.
2 إن قيل كيف عرف القبول من عدمه؟ فالجواب: إن سنة الله تعالى فيمن سبق أن من قرب لله تعالى فقبله أرسل عليه نارًا من السماء فأحرقته ومن لم يتقبله لم يفعل به ذلك. ويشهد له حديث الصحيح في غنائم بني إسرائيل إذ كانت محرمة عليهم ولم تحل إلا لإمة الإسلام، إذ أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: " إن نارًا تنزل من السماء على الغنائم فتحرقها" .
3 فيه دلالة على أن قابيل لم يكن تقيًا، وقابيل في لغة بني إسرائيل بالنوب: قابين، وكذا هابيل، وقوله: {إنما يَتَقبل الله...} إلخ. مسبوق بكلام دل عليه السياق، وهو مثل قوله: لم تقتلني ولم أجني شيئًا ولا ذنب لي في قبول الله قرباني وكونه تقبل مني لا يستوجب قتلي {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} .
4 لما كان أول من سن القتل فإنه لا تقتل نفسًا ظلمًا إلا وعليه كفل منها لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم كفل من دمها؛ لأنه أول من سن القتل" . وفي الحديث الآخر: "من سن سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" .

فكان يحمله على عاتقه ويمشي به حتى عفن، وعندئذ بعث الله غراباً يبحث في الأرض، أي: ينبش الأرض برجليه ومنقاره وينشر التراب على ميت معه حتى واراه: أي بعث الله الغراب ليريه كيف يواري، أي: يستر سوءة أخيه، أي جيفته، فلما رأى قابيل ما صنع الغراب بأخيه الغراب الميت قال متندما ًمتحسراً يا ويلنا، أي: يا ويلتي احضري فهذا أوان حضورك، ثم وبخ نفسه قائلاً: {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي} ، كما وارى الغراب سوءة أخيه، وأصبح من النادمين على حمله أو على قتله وعدم دفنه وبمجرد الندم لا يكون توبة مع أن توبة القاتل عمداً لا تنجيه من النار.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية التقرب إلى الله تعالى بما يجب أن يتقرب به إليه تعالى.
2- عظم جريمة الحسد وما يترتب عليها من الآثار السيئة.
3- قبول الأعمال الصالحة يتوقف على الإخلاص فيها لله تعالى.
4- بيان أول من سن جريمة القتل، وهو قابيل، ولذا ورد: ما من نفس تقتل نفساً ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل "نصيب" ذلك بأنه أول من سن القتل.
5- مشروعية الدفن1 وبيان زمنه.
6- خير ابنى آدم المقتول ظلماً، وشرهما القاتل ظلماً2.
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ
__________
1 يستحب توسعة القبر لقوله صلى الله عليه وسلم: "احفروا وأوسعوا وأحسنوا اللحد". واللحد أفضل من الشق لقوله صلى الله عليه وسلم: "اللحد لنا والشق لغيرنا" . ويستحب لمن يضع الميت في قبره أن يقول: بسم الله وعلى ملة رسول الله، ولمن حضر الدفن أن يحثو على القبر من قبل رأسه ثلاثًا.
2 وإن قيل ما تصنع بحديث الصحيح: "إذ التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". قلت هذا الحديث فيمن يقاتل في غير حق استوجب القتل والقتال. أما من ظلم فدافع عن نفسه فقتل فهو شهيد بنص الحديث الصحيح. وكذا من بغى على المسلمين فقتاله واجب، ومن قاتله فهو مجاهد ومن قتل فهو شهيد.

جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ(32)}
شرح الكلمات:
{من أجل ذلك}: أي بسبب ذلك القتل.
}كتبنا}: أوحينا.
{أو فساد في الأرض} : بحلابه لله ورسوله والمؤمنين.
{ومن أحياها}: قدرعلى قتلها وهي مستوجبه له فتركها.
{بالبينات}: الآيات والواضحةات حاملة للشرائع والدلائل.
{لمسرفون}: مكثرون من المعاصي والذنوب.
معنى الآية الكريمة:
يقول تعالى: إنه من أجل قبح جريمة القتل وما يترتب عليها من مفاسد ومضار لا يقادر قدرها، أوحينا على بني إسرائيل لكثرة ما شاع بينهم من القتل وسفك الدماء، فقد قتلوا الأنبياء والآمرين بالقسط من الناس لأجل هذه الضراوة على القتل، فقد قتلوا رسولين: زكريا ويحي، وهموا بقتل المرسلين العظيمين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، من أجل ذلك1 شددنا2 عليهم في العقوبة، إذ من قتل منهم نفساً بغير نفس أي ظلماً وعدواناً، أو قتلها بغير فساد قامت به في الأرض، وهو حرب الله ورسوله والمؤمنين {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} بمعنى يعذب عذاب قتل الناس جميعاً يوم القيامة، {وَمَنْ أَحْيَاهَا} بأن استوجب القتل فعفا عنها وتركها لله إبقاء عليها {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ3 جَمِيعاً} يعني يُعطى أجر من أحيا الناس4 جمعياً، كل هذا شرعه الله تعالى لهم تنفيراً
__________
1 قوله: {مِنْ أَجْل ذَلِك} : تعليل لقوله: {كَتَبْنا} ومن: ابتدائية، والأجل: الجراء والسبب، وهو مصدر أجل يؤجل ويأجل بمعنى: جنى واكتسب. فلذا هو يقال في الخير كما يقال في الشر، تقول: أكرمته لأجل علمه. كما تقول: أهنته لأجل فسقه. أما الجراء في قولك: فعلت كذا من جراء كذا. فهو مأخوذ من جر إذا سبب تقول: فعليّ كذا، جرى لي كذا، أي: سببه.
2 خص بني إسرائيل بهذا دون من سبقهم من الأمم تغليظًا عليهم لجرأتهم على القتل علهم يكفون من سفك الدماء، إذ قتلوا حتى الأنبياء والآمرين بالقسط من الناس.
3 كأن للتشبيه، ومن هنا يكون معنى الكلام: كتبنا مشابهة قتل نفس بغير نفس... إلخ. بقتل الناس أجمعين، أي: في عظم الجرم ومشابهة من أحيا الناس جميًعا في عظم الأجر.
4 من أحياها: معناه: من استنقذها من الموت، بأن عفى عنها بعد تعين القصاص عليها، أو دافع عنها حتى أنقذها ممن أراد قتلها لأن الإحياء بعد الموت ليس في مقدور الإنسان وإنما قد يهم المرء بالقتل ويعفو فيكون كمن أحياها.

لهم من القتل الذي أصروا عليه، وترغيباً لهم في العفو الذي جافوه وبعدوا عنه فلم يعرفوه، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ1 رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ} يخبر تعالى عن حالهم مسلياً رسوله محمداً عما يحمله من همّ منهم، وهم الذين تآمروا على قتله أن الشر الذي لازم اليهود والفساد الذي أصبح وصفاً لازماً لهم وخاصة المؤامرات بالقتل وإيقاد نار الحروب لم يكن عن جهل وعدم معرفة منهم لا أبداً، بل جاءتهم رسلهم بالآيات البينات والشرائع القويمة والآداب الرفيعة، ولكنهم قوم بهت متمردون على الشرائع مسرفون في الشر والفساد، ولذا فإن كثيراً منهم والله لمسرفون في الشر والفساد، وبنهاية هذه الآية ومن قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} وهي الآية(11) انتهى الحديث عن اليهود المتعلق بحادثة همهم بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد ذكر تسلية لرسول الله وأصحابه، كما هو تسلية لكل مؤمن يتعرض لمكر اليهود عليهم لعائن الله.
هداية الآية
من هداية الآية:
1- تأديب الرب تعالى لبني إسرائيل، ومع الأسف لم ينتفعوا به.
2- فساد بني إسرائيل لم ينشأ عن الجهل وقلة العلم، بل كان اتباعاً للأهواء وجرياً وراء عارض الدنيا. فلذا غضب2 الله عليهم ولعنهم؛ لأنهم عالمون.
3- بالرغم من تضعيف جزاء الجريمة على اليهود، ومضاعفة أجر الحسنة لهم فإنهم أكثر الناس إسرافاً في الشر والفساد في الأرض.
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ
__________
1 هذه الجملة: تذييل لما سبق من حكم الله تعالى فيهم، حيث شرع لهم وأعلمهم بأن من يقتل نفسًا ظلمًا وعدوانًا يعتبر شرعًا كأنما قتل الناس جميعًا، ذكر فيه أنه لا عذر لهم فيما عوقبوا به، إذ لم يكونوا جاهلين لمجيئتهم رسلهم بالآيات البينات تحمل الشرائع والهدايات، ومع هذا فإن كثير منهم مسرفون في المعاصي والجرائم العظام؛ كالقتل في الأرض.
2 شاهده من القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} من الممتحنة، و {غير المغضوب عليهم} من الفاتحة.

وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(33) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(34)}
شرح الكلمات:
{يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} : بالخروج عن طاعتهما وحمل السلاح على المؤمنين وقتلهم وسلب أموالهم والاعتداء على حرماتهم.
{وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} : بإخافة الناس وقطع طرقهم وسلب أموالهم والاعتداء على أعراضهم.
{أَوْ يُصَلَّبُوا} : يشدون على أعواد الخشب ويقتلون، أو بعد أن يقتلوا.
{مِنْ خِلافٍ} : بأن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، والعكس.
{أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} : أي من أرض الإسلام.
{خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} : ذل ومهانة.
{عَذَابٌ عَظِيمٌ} : عذاب جهنم.
{أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} : أي: تتمكنوا منهم بأن فروا بعيداً ثم جاءوا مسلمين.
معنى الآيتين:
لما ذكر تعالى ما أوجبه على اليهود من شدة العقوبة وعلى جريمة القتل والفساد في الأرض كسراً لحدة جرءتهم على القتل والفساد، ذكر هنا حكم وجزاء من يحارب المسلمين ويسعى بالفساد في ديارهم فقال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ1 يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} بالكفر2 بعد الإيمان
__________
1 الجمهور على أن سبب نزول هذه الآية: {إنْمَا جَزاء...} إلخ. هو العرنيون الذين نزلوا المدينة وادعوا أنهم اجتووها، أي: أمرضهم مناخها فأمر لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها فخرجوا خارج المدينة، ولما شفوا وصحوا قتلوا الراعي ومثلوا به، وذهبوا بالإبل فلحقتهم خيل المسلمين فردتهم ونزلت هذه الآية ببيان حكم الله فيهم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فبقى هذا تشريعًا يطبق على مثلهم إلى يوم القيامة.
2 لأن العرنيين وكانوا سبعة ثلاثة من عُكل، وأربعة من عرينة كفروا بعد إيمانهم الذي أظهروا بالمدينة، ثم ادعوا أنهم استوخموا المدينة فساعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة منه بما يشفيهم، فلما شفوا وصحوا كفروا وقلتوا الراعي وساقوا الإبل، والأية عامة في المرتد وغيره، والحكم ما بين الله تعالى في هذه الآية لا غيره، وصيغة الحصر فيها إنما ظاهرة.

والقتل والسلب بعد الأمان، {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} بتخويف المسملين، وقطع طرقهم وأخذ أموالهم، والاعتداء على حرماتهم وأعراضهم، هو ما أذكره لكم لا غيره فاعلموه أنه {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} ، ومعنى: يقتلوا: واحداً بعد واحد نكاية لهم وإرهاباً وتعزيراً لغيرهم، ومعنى: يصلبوا: بعد ما يقتل الواحد منهم يشد على خشبة مدة ثلاثة أيام، ومعنى: ينفوا من الأرض: يخرجوا من دار الإسلام، أو إلى مكان ناءٍ كجزيرة في بحر أو يحبسوا حتى ينجو المسلمون من شرهم وآذاهم، ويكون ذلك الجزاء المذكور خزياً وذلاً لهم1 في الدنيا {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهو عذاب النار، وقوله تعالى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} فهذا استثناء متصل من أولئك المحاربين بأن من عجزنا عنه فلم نتمكن من القبض عليه، وبعد فترة جاءنا تائباً فإن حكمه يختلف عمن قبله، وقوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يحمل إشارة واضحة إلى تخفيف الحكم عليه، وذلك فإن كان كافراً وأسلم فإن الإسلام يجب ما قبله، فيسقط عنه كل ما ذكر في الآية من عقوبات.. وإن كان مسلماً فيسقط بالصلب ويجب عليه، رد المال الذي أخذه إن بقي في يده، وإن قتل أو فجر وطالب بإقامة الحد عليه أقيم عليه الحد، وإلا ترك لله والله غفور رحيم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان حكم الحرابة2 وحقيقتها: خروج جماعة اثنان فأكثر ويكون بأيديها سلاح ولهم شوكة، خروجهم إلى ا لصحراء بعيداً عن المدن والقرى، يشنون هجمات على المسلمين فيقتلون ويسلبون ويعتدون على الأعراض، هذه هي الحرابة وأهلها، يقال لهم: المحاربون وحكمهم ما ذكر تعالى في الآية الأولى(33).
__________
1 إن كان المحاربون مسلمين؛ فالخزي لهم هو نزول العقوبة بهم في الدنيا من القتل والصلب والنفي، وفي الآخرة ينجون من عذابها، إن تابوا قبل موتهم. وإن كان المحاربون كافرين؛ فالخزي عذاب الدنيا والعذاب العظيم لهم في الآخرة. وفرقنا بين المسلمين والكافرين؛ لأن المسلمين إقامة الحد عليهم يكفر ذنب الجريمة، للحديث الصحيح في البيعة: "فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب منها شيئًا فستره الله، فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له" . فقوله: {فَهوَ كفَارَة له} دليل على سقوط عذاب الآخرة بالحد.
2 الجمهور على أن اللص كالمحارب يناشد بالله تعالى أن يكف وينصرف وإن أبى يُقاتل ويقتل، ومن قتله اللص فهو في الجنة، وإن قتل اللص فهو النار، لحديث الصحيح، عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أرأيت يا رسول الله إن جاء يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطيه مالك". قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله". قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد". قال: فإن قتلته؟ قال: "فهو في النار" .

2- الإمام مخير في إنزال العقوبة التي يرى أنها مناسبة1 لاستتباب الأمن، إن قلنا أو في الآية للتخيير، وإلا فمن قتل وأخذ المال وأخاف الناس قتل وصلب، ومن قتل ولم يأخذ مالاً قتل، ومن قتل وأخذ مالاً قطعت2 يده ورجله من خلاف فتقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، ومن لم يقتل ولم يأخذ مالاً يُنفى3.
3- من تاب من المحاربين قبل التمكن منه يعفى عنه إلا أن يكون بيده مال سلبه فإنه يرده على ذنوبه أو يطلب بنفسه إقامة الحد عليه فيجاب لذلك.
4- عظم عفو الله ورحمته بعباده لمغفرته لمن تاب ورحمته له.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ(37)}
شرح الكلمات:
{اتَّقُوا اللَّهَ} : خافوا عذابه فامتثلوا أمره وأمر رسوله واجتنبوا نهيهما.
{وَابْتَغُوا} : اطلبوا.
__________
1 هذا مذهب الجمهور من الأئمة، وهو أرفق وأصلح وأكثر تمثيلاً للآية وانسجامًا معها.
2 مذهب الجمهور، وهو الحق لا تقطع يد المحارب إلا في مال تقطع فيه يد السارق، وهو زنة: ربع دينار ذهب فأكثر.
3 إن تعذر النفي فالسجن يقوم مقامه، إذ هو نفي من ظاهر الأرض إلى باطنها. كما قال الشاعر:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجان يومًا لحاجة ...
عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا

{الْوَسِيلَةَ1} : تقربوا إليه بفعل محابه وترك مساخطه تظفروا بالقرب2 منه.
{وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} : أنفسكم بحملها على أن تتعلم وتعمل وتعليم، وأعداءه بدعوتهم إلى الإسلام وقتالهم على ذلك.
{تُفْلِحُونَ} : تنجون من النار وتدخلون الجنة.
{عَذَابٌ مُقِيمٌ} : دائم لا يبرح ولا يزول.
معنى الآيتين:
ينادي الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين به وبرسوله ووعده ووعيده ليرشدهم إلى ما ينجيهم من العذاب فيجتنبوه، وإلى ما يدنيهم من الرحمة فيعملوه فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ3 الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ومعنى اتقوا الله خافوا عذابه فأطيعوه بفعل أوامره وأوامر رسوله واجتناب نواهيهما فإن عذاب الله لا يتقى إلا بالتقوى. ومعنى { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} : اطلبوا إليه القربة، أي: تقربوا إليه بفعل ما يحب وترك ما يكره تفوزوا بالقرب منه. ومعنى {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} : جاهدوا أنفسكم في طاعته، والشيطان في معصيته، والكفار في الإسلام إليه والدخول في دينه باذلين كل ما في وسعكم من جهد وطاقة. هذا ما دلت عليه الأية الأولى(35)، أما الآية الثانية(36) وهي قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ} فإنها علة لما دعت إليه الآية الأولى من الأمر بالتقوى وطلب القرب من الله تعالى وذلك بالإيمان وصالح الأعمال، لأن العذاب الذي أمروا باتقائه بالتقوى عذاب لا يطاق أبداً ناهيكم أن الذين كفروا {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ4 جَمِيعاً} من مال صامت وناطق {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} وقبل منهم
__________
1 الوسيلة: لغة: القربة، والجمع: قرب، وهي فيعلة، بمعنى: مفعولة، أي: متقرب بها. من توسل إلى فلان تقرب إليه بكذا. وشاهده من قول العرب، قول عنترة:
إن الرجال لهم إليك وسيلة ... أن يأخذوك تكحلي وتخضبي
والوسيلة: تجمع على وسائل، ومنه قول القائل:
إذ غفل الواشون عدنا لوصلنا ... وعاد التصافي بيننا والوسائل
2 فكل قربة: هي وسيلة تقرب من رضا الله والزلفى إليه. وعليه فكل الأعمال الصالحة هي وسيلة، وفي الحديث الصحيح: "ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما أفترضت عليه" .
3 تقديم الجار والمجرور على المفعول والمطلوب، في قوله تعالى: {وَابْتَغوُا إلَيه الوَسِيلة} مؤذن بتوحيد الله تعالى بالعبادات التي يتقرب بها إليه فلا يصح صرف شيء منها إلى غيره مهما كان.
4 أي: لو ثبت لهم ما في الأرض ومثله معه أيضًا لأجل الافتداء به لا لأجل أن يكنزوه في وجوه الإنفاق المحبوبة لهم لافتدوا به ولكن أنى يكون لهم ذلك.

فداء لأنفسهم من ذلك العذاب لقدموه سخية به نفوسهم، إنه عذاب أليم موجع أشد الوجع ومؤلم أشد الألم إنهم يتمنون بكل قلوبهم أن يخرجوا من النار {وَمَا هُمْ1 بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} دائم لا يبرح ولا يزول.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب تقوى الله عز وجل وطلب القربة إليه والجهاد في سبيله.
2- مشروعية التوسل إلى الله تعالى بالإيمان وصالح2 الأعمال.
3- عظم عذاب يوم القيامة وشدته غير المتناهية.
4- لا فدية يوم القيامة ولا شفاعة تنفع الكافر فيخرج بها من النار.
5- حسن التعليل للأمر والنهي بما يشجع على الامتثال والترك.
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(40)}
شرح الكلمات:
{وَالسَّارِقُ} : الذي أخذ مالاً من حرز خفية يقدر بربع دينار فأكثر.
{وَالسَّارِقَةُ} : التي أخذت مالاً من حرز خفية يقدر بربع دينار فأكثر.
__________
1 ذكر القرطبي: أن يزيد الفقير قال: قيل لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما: إنكم يا أصحاب محمد تقولون أن قومًا يخرجون من النار والله تعالى يقول: {ومَا همُ ْ بِخَارِجين مِنْها} . فقال جابر: إنكم تجعلون العام خاصًا، والخاص عامًا. إنما هذه في الكفار خاصة. فقرئت الآية كلها من أولها إلى آخرها فإذا هي في الكفار خاصة.
2 لذا وجب معرفة محاب الله تعالى ومكارهه من الاعتقادات والأقوال والأعمال والصفات ليتوسل بها إلى الله تعالى، فعلاً وتركًا للحصول على رضاه والفوز بالجنة والنجاة من النار.

{فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} : أي: اقطعوا من سرق منهما يده من الكوع.
{نَكَالاً} : عقوبة من1 الله تجعل غيره ينكل أن يسرق.
{عَزِيزٌ حَكِيمٌ} : عزيز: غالب لا يحال بينه وبين مراده، حكيم: في تدبيره وقضائه.
{بَعْدِ ظُلْمِهِ} : بعد ظلمه لنفسه بمعصية الله تعالى بأخذ أموال الناس.
{وَأَصْلَحَ} : أي: نفسه بتزكيتها بالتوبة والعمل الصالح.
{فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} : أي: يقبل توبته، ويغفر له ويرحمه إن شاء.
{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} : خلقاً وملكاً وتدبيراً.
{يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} : أي: تعذيبه لأنه مات عاصياً لأمره كافراً بحقه.
{وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} : ممن تاب من ذنبه وأناب إليه سبحانه وتعالى.
معنى الآيات:
يخبر تعالى مقرراً حكماً من2 أحكام شرعه، وهو أن الذي يسرق مالاً يقدر بربع دينار فأكثر من حرز مثله3 خفية وهو عاقل بالغ، ورفع إلى الحاكم، والسارقة كذلك فالحكم أن تقطع يد السارق اليمنى من الكوع، وكذا يد السارقة مجازاة لهما على ظلمهما بالاعتداء على أموال غيرهما، {نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} أي: عقوبة من الله تعالى لهما تجعل غيرهما لا يقدم على أخذ أموال الناس بطريق السرقة المحرمة، {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} غالب على أمره حكيم في قضائه وحكمه. هذا معنى قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ4 وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} 5 من الإثم {نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
وقوله تعالى في الآية الثانية(39) {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ} أي: تاب من السرقة بعد
__________
1 هل يكون غرم مع القطع؟ مالك يرى: إن وجد المال عنده أخذ وإن كان موسرًا أخذ من ماله، وإن معسرًا يكتفي بالقطع،وهذا أرحم وأحكم. وتعلق يد السارق في عنقه لحديث الترمذي وأبي داود والنسائي.
2 لما ذكر تعالى حكم المحاربين ذكر حكم السارق والسارقة وما ذكر بينها من دعوة المؤمنين إلى التقوى والتقرب إلى الله تعالى للحصول على رضاه هو من باب تنويع الأسلوب وتلوين الكلام إذهابًا للسآمة والملل عن القارئ والسامع.
3 السارق عن العرب: هو من جاء مستترًا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له، فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس ومستلب ومنتهب، فإن تمنع بما أخذ فهو غاصب.
4 قرئ: والسارق: بالنصب على تقدير: اقطعوا السارق والسارقة. وقرئ: بالرفع، وهو أشهر، والإعراب فيما فرض عليكم: السارق والسارقة فاقطعوا, وأحسن من أن يكون السارق والسارقة مبتدأ، وجملة: فاقطعوا، خبر.
5 أول سارق قطعت يده في الإسلام، هو: الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف. وأول سارقة في الإسلام هي: مرة بنت سفيان المخزومية.

أن ظلم نفسه بذلك {وَأَصْلَحَ} نفسه بالتوبة، ومن ذلك رد المال المسروق {فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} ؛ لأنه تعالى غفور للتائبين رحيم بالمؤمنين، وقوله تعالى في الآية الثالثة (40) {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} يخاطب تعالى رسوله وكل من هو أهل للتلقي والفهم من الله تعالى فيقول مقرراً المخاطب: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ، والجواب: بلى، وإذاً فالحكم له تعالى لا ينازع فيه، فلذا هو يعذب ويقطع يد السارق والسارقة ويغفر لمن تاب من السرقة وأصلح. وهو {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان حكم حد السرقة، وهو قطع يد السارق والسارقة .
2- بيان أن التائب من السراق إذا اصلح يتوب الله عليه، أي: يقبل توبته.
3- إذا لم يرفع السارق إلى الحاكم تصح توبته ولو لم تقطع يده، وإن رفع فلا توبة له إلا بالقطع، فإذا قطعت يده خرج من ذنبه كأن لم يذنب.
4- وجوب التسليم لقضاء الله تعالى والرضا بحكمه لأنه عزيز حكيم.
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا
__________
1 الإجماع على أن الوالد لا تقطع يده إذا سرق مال ولده، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" واختلف في العكس. والراجح: أنه لا قطع عليه. وهل تقطع اليد في السفر؟ وفي دار الحرب خلاف: مالك يرى: إقامة الحدود في دار الحرب. واليد تقطع من الرسخ، والرجل من المفصل، ولا قطع على الصبي والمجنون والعبد إن سرق من مال سيده، ولا السيد من مال عبده.

وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ(43)}
شرح الكلمات:
{لا يَحْزُنْكَ} : الحزن: ألم نفسي يسببه خوف فوات محبوب.
{يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} : بمعنى: يسرعون فيه إذ ما خرجوا منه كلما سنحت فرصة للكفر أظهروه.
{قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ} : هؤلاء هم المنافقون.
{وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} : أي: اليهود.
{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} : أي: كثيرو الاستماع للكذب.
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} : يبدلون الكلام ويغيرونه ليوافق أهواءهم.
{إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} : أي: أعطيتم.
{فِتْنَتَهُ} : أي: ضلالة لما سبق له من موجبات الضلال.
{أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} : من الكفر والنفاق.
{خِزْيٌ} : ذل.

{أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} : كثيروا الأكل للحرام؛ كالرشوة والربا.
{أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} : أي: لا تحكم بينهم.
{بِالْقِسْطِ} : أي: بالعدل.
{وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} : أي: صدقاً وحقاً وإن ادعوه نطقاً.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ1 لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إلى قوله: {عَذَابٌ عَظِيمٌ} في نهاية الآية نزل تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتخفيفاً مما كان يجده صلى الله عليه وسلم من ألم نفسي من جراء ما يسمع ويرى من المنافقين واليهود فناداه ربه تعالى بعنوان الرسالة التي كذب بها المنافقون واليهود معاً: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} الحق، لينهاه عن الحزن الذي يضاعف ألمه: {لا يَحْزُنْكَ} حال الذين {يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} بتكذيبك فإنهم ما خرجوا من الكفر، بل هم فيه منغمسون، فإذا سمعت منهم قول الكفر لا تحفل به حتى لا يسبب لك حزناً في نفسك. {مِنَ الَّذِينَ2 قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} أي: لا يحزنك كذلك حال اليهود الذين يكذبون بنبؤتك ويجحدون رسالتك، {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} سماعون ليهود آخرين لم يأتوك؛ كيهود خيبر وفدك، أي: كثيروا السمع للكذب الذي يقوله أحبارهم لما فيه من الإساءة إليك سماعون لأهمل قوم آخرين ينقلون إليهم أخبارك كوسائط، وهم لم يأتوك، وهم يهود خيبر إذ أوعزوا إليهم أن يسألوا لهم النبي صلى الله عليه وسلم عن حد الزنى {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} ، أي: يغيرون حكم الله الذي تضمنه الكلام، يقولون لهم إن أفتاكم في الزانين المحصنين بالجلد والتحميم بالفحم، فاقبلوا ذلك وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا قبول ذلك. هذا معنى تعالى في هذه الآية: { وكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} ، وقال تعالى لرسوله: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ
__________
1 هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، خاطبه ربه بعنوان الرسالة تشريفًا له وتعطيمًا وإشعارًا له بعدم داعي الحزن، إذ من كان في مقامه لا يحزن مهما كانت المصائب، والآية نزلت في حادثة زنا اليهوديين، إذ روى في الصحيحين، أن جابرًا قال: زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة، أن سلوا محمدًا عن ذلك، فإن أمركم بالجلد فخذوه، وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه. فسألوه. فدعا ابن صوريا، وكان عالمهم، وكان أعور. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنشدك الله كيف تجدون حد الزنا في كتابكم"؟ فقال ابن صوريا: فأما إذ نشادتني الله فإنا نجد في التوراة: النظر: زنية، والاعتناق: زنية، والقبلة: زنية. فإن شهد أربعة بأنهم رأوا ذكره في فرجها. مثل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هو ذاك" .
2 من: بيانية، أي: بينت أن المسارعين في الكفر: هم من المنافقين.

فِتْنَتَهُ} أي: إضلاله عن الحق لما اقترف ن عظائم الذنوب وكبائر الأثام {فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} إذا أراد الله إضلاله، إذاً فلا يحزنك مسارعتهم في الكفر، {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} من الحسد والشرك والنفاق لسوابق الشر التي كانت لهم فحالت دون قبول الإيمان ولاحق، {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} أي: ذل وعار، {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} جزاء كفرهم وبغيهم. هذا ما دلت عليه الآية(41)، أما الآية الثانية(42) فقد تضمنت وصف أولئك اليهود بصفة كثرة استماع الكذب مضافاً إليه كثرة أكلهم للسحت، وهو المال الحرام أشد حرمة؛ كالرشوة والربا1، فقال تعالى عنهم: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ2 فَإِنْ جَاءُوكَ} أي: للتحاكم عندك فأنت مخير بين أن تحكم بحكم الله3. أو تعرض عنهم وتتركهم لأحبارهم يحكمون بينهم كما شاءوا وإن تعرض عنهم فلم تحكم بينهم لن يضروك شيئاً، أي: من الضرر ولو قل، لأن الله تعالى وليك وناصرك، وإن حكمت بينهم فاحكم بينهم بالقسط أي: العدل، لأن الله تبارك وتعالى يحب ذلك فافعله لأجله إنه يحب القسط والمقسطين، وقوله تعالى في الآية الثالثة(43): {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} . أي: إنه مما يتعجب منه أن يحكموك فتحكم بينهم برجم الزناة، وعندهم التوراة فيها نفس الحكم فرفضوه معرضين عنه اتباعاً لأهوائهم، {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} لا بك ولا بحكمك ولا بحكم التوراة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استحباب ترك الحزن باجتناب أسبابه ومثيراته.
2- حرمة سماع الكذب لغير حاجة تدعو إلى ذلك.
3- حرمة تحريف الكلام وتشويهه للإفساد.
__________
1 الرشوة مشتقة من الرشى الذي هو الحبل الذي يستخرج به الماء من البئر بضميمة الدلو، وعليه فكل مال أعطى لحاكم ليؤخذ به الراشي حق امرء فهو رشوة وسحت محرمان بلا خلاف. وكذا ما يدفعه الواسطة لحاكم ليسقط عنه حقًا وجب عليه فهو رشوة. أما ما كان ليدفع به عن نفسه أو ماله أو عرضه أو دينه فلا يحرم، وليس هو من الرشوة، قال السمرقندي الفقيه، وبهذا نأخذ.
2 أصل السحت: الهلاك، والشدة. قال تعالى: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} ، وقال الفرزدق:
وعض زمانٍ يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتًا أو مجلف
وسمي المال الحرام كالربا والرشوة: سحتًا؛ لأنه يسحت الطاعات ويبطل ثوابها، ويسحت البركة ويزيلها.
3 يرى مالك والشافعي أن اليهود إذا رفعوا للإمام قضية دم أو مال أو عرض حكم بينهم بما أنزل الله، وإن كان ما رفعوه لا يتعلق بالمال أو الدم أو العرض تركهم معرضًا عنهم، وأبي حنيفة يرى الحكم بينهم مطلقًا.

4- الحاكم المسلم مخير في الحكم بين أهل الكتاب إن شاء حكم بينهم وإن شاء أحالهم على علمائهم.
5- وجوب العدل في الحكم ولو كان المحكوم عليه غير مسلم.
6- تقرير كفر1 اليهود وعدم إيمانهم.
{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ(44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ(46) وَلْيَحْكُمْ
__________
1 قالت العلماء: إن من طلب غير حكم الله تعالى من حيث لم يرض به فهو كافر، وهذه حالة اليهود وحال أكثر المسلمين اليوم حيث لم يرضوا بحكم الله تعالى وحكموا شرائع الباطل وقوانين الكفر.

أَهْلُ الأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(47)}
شرح الكلمات:
{التَّوْرَاةَ} : كتاب موسى عليه السلام.
{هُدىً وَنُورٌ} : الهدى: ما يوصل إلى المقصود، والنور: ما يهدي السائر إلى غرضه.
{هَادُوا} : اليهود.
{وَالرَّبَّانِيُّونَ} : جمع رباني: العالم المربي الحكيم.
{وَالأَحْبَارُ1} : جمع حبر: العالم من أهل الكتاب.
{وَكَتَبْنَا} : فرضنا عليهم وأوحينا.
{قِصَاصٌ} : مساواة.
{وَقَفَّيْنَا} : أتبعناهم بعيسى بن مريم.
{الْفَاسِقُونَ} : الخارجون عن طاعة الله ورسله.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث على بني إسرائيل، إذ قال تعالى مخبراً عما أتى بنى إسرائيل: { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} هدى من كل ضلالة ونور مبين للأحكام مُخرج من ظلمات الجهل {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} من بني إسرائيل {النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} لله قلوبهم ووجوههم فانقادوا لله ظاهراً وباطناً، {لِلَّذِينَ هَادُوا}2، ويحكم بها الربانيون من أهل العلم والحكمة من بني إسرائيل {بِمَا اسْتُحْفِظُوا} بسبب استحفاظ الله تعالى إياهم كتابه التوراة فلا يبدلونه ولا يغيرون فيه، {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} بأحقيته وسلامته من النقص والزيادة بخلافكم أيها اليهود، فقد حرفتم الكلم عن مواضعه وتركتم الحكم به فما لكم؟ فأظهروا الحق من نعت محمد صلى الله عليه وسلم والأمر بالإيمان به، ومن ثبوت الرجم وإنفاذه في الزناة ولا تخشوا
__________
1 قالوا: الحَبر بالفتح: العالم بتحبير الكلام والعلم وتحسينه.
2 قد تكون اللام هنا بمعنى على، أي: على الذين هادوا، وقد تكون على بابها، ويكون لفظ: عليهم، محذوفًا، أي: يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا. وعليهم فحذف: "عليهم".

الناس في ذلك واخشوا الله تعالى فهو أحق أن يخشى، ولا تشتروا بآيات الله التي هي أحكامه فتعطلوها مقابل ثمن قليل تأخذونه ممن تجاملونهم وتداهنونهم على حساب دين الله وكتابه. { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 1 فكيف ترضون بالكفر بدل الإيمان.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى(44)، أما الآية الثانية(45): {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ2} فقد أخبر تعالى أنه فرض على بني إسرائيل في التوراة القود في النفس والقصاص في الجراحات؛ فالنفس تقتل بالنفس، العين تفقأ بالعين3 والأنف يجدع بالأنف، والأذن4 تقطع بالأذن والسن تكسر إن كسرت5 بالسن، وتقلع به إن قلع، والجروح6 بمثلها قصاص ومساواة، وأخبر تعالى: أن من تصدق على الجاني بالعفو عنه وعدم المؤاخذة فإن ذلك يكون كفارة لذنوبه7، وإن لم يتصدق عليه واقتص منه يكون ذلك كفارة لجنايته بشرط وذلك بأن يقدم نفسه للقصاص تائباً، أي: نادماً على فعله مستغفراً ربه. وقوله تعالى في ختام الآية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، وذلك بأن قتل غير القاتل أو قتل بالواحد اثنين أو فقأ بالعين عينين، كما كان بنو النضير يعاملون به قريظة بدعوى الشرف عليهم.
هذا ما دلت عليه الآية الثالثة(46) وهي قوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} فقد أخبر تعالى أنه أتبع أولئك الأنبياء السابقين من بني إسرائيل عيسى بن مريم عليه السلام، أي: أرسله بعدهم مباشرة {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} لم ينكرها أو يتجاهلها، {وَآتَيْنَاهُ الأِنْجِيلَ} ، أي: وأعطيناه الإنجيل وحياً أوحيناه إليه، وهو كتاب مقدس أنزله الله تعالى عليه فيه، أي: في الإنجيل هدى من الضلال ونور لبيان الأحكام من الحلال
__________
1 القول الذي لا خلاف فيه: هو أن المسلم لا يكفر لمجرد عدم حكمه بما أنزل الله تعالى، وإنما يفسق ويصبح في عداد الفاسقين من أمة الإسلام. أما الكفر فلا يكفر ولا يكفر إلا بشرط أن ينكر هداية القرآن وصلاحيته ويعرض عنه مستخفًا به مفضلاً عليه غيره.
2 الذي عليه أكثر الفقهاء: أن المسلم لا يقتل بالذمي. لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون تتكافأ دمائهم وهم يدُ على من سواهم ولا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده" رواه أبو داود والترمذي.
3 لا خلاف أن في العينين دية، وفي العين الواحدة نصف دية، وفي عين الأعور دية كاملة، وفي الأنف إذا جدع الدية كاملة.
4 الدية في ذهاب السمع، إما مع بقاء السمع ففيه حكومة.
5 في السن خمس من الإبل لحديث الصحيح في ذلك.
6 وفي الشفتين الدية، وفي الواحدة نصف الدية، وفي اللسان إذا قطع الدية.
7 اختلف في دية المرأة الأكثرون على أن أصبعها كأصبع الرجل وسنها كسنه، وموضوحتها كموضوحته، ومنقلتها كمنقلته، فإذا بلغت ثلث الدية كانت على النصف من دية الرجل. وقالت طائفة: دية المرأة فيما ذكر على النصف من دية الرجل.

والحرام، {وَمُصَدِّقاً} ، أي: الإنجيل لما قبله من التوراة، أي: مقرراً أحكامها مثبتاً لها إلا ما نسخه الله تعالى منها بالإنجيل، {وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} أي: يجد فيه أهل التقوى الهداية الكافية للسير في طريقهم إلى الله تعالى والموعظة التامة للاتعاظ بها في الحياة. هذا ما دلت عليه الآية الثالثة، أما الآية(47) وهي قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} أي: وقلنا ليحكم أهل الإنجيل، يريد وأمرنا أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه من الأحكام، وأخبرناهم أن من {لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} عن أمره الخارجون عن طاعته وقد يكون الفسق ظلماً وكفراً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب خشية الله بأداء ما أوجب وترك ما حرم.
2- كفر من جحد أحكام الله فعطلها أو تلاعب بها فحكم بالبعض دون البعض.
3- وجوب1 القود في النفس والقصاص في الجراحات؛ لأن ما كتب على بني إسرائيل كتب على هذه الأمة.
4- من الظلم أن يعتدى في القصاص بأن يقتل الواحد اثنان أو يقتل غير القاتل أو يفقأ بالعين الواحدة عينان مثلاً، وهو كفر مع الاستحلال وظلم في نفس الوقت.
5- مشروعية القصاص في الإنجيل وإلزام أهله بتطبيقه وتقرير فسقهم إن عطلوا تلك الأحكام وهم مؤمنون بها.
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا
__________
1 إلا إن يرضى الملظلوم بالدية فإنه يعطاها على نحو ما تقدم آنفًا.

آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ(49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(50)}
شرح الكلمات:
{الْكِتَابَ} : القرآن الكريم.
{مِنَ الْكِتَابِ} : اسم جنس بمعنى الكتب السابقة قبله؛ كالتوراة والإنجيل.
{وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} : حاكماً عليه، أي: محققاً للحق الذي فيه، مبطلاً للباطل الذي التصق به.
{شِرْعَةً1 وَمِنْهَاجاً} : شريعة تعملون بها وسبيلاً تسلكونه لسعادتكم وكمالكم من سنن الهدى.
{أُمَّةً وَاحِدَةً} : لا اختلاف بينكم في عقيدة ولا في عبادة ولا قضاء.
{فَاسْتَبِقُوا} : أي: بادروا فعل الخيرات ليفوز السابقون.
{أَنْ يَفْتِنُوكَ} : يضلوك عن الحق.
{فَإِنْ تَوَلَّوْا} : أعرضوا عن قبول الحق الذي دعوتهم إليه وأردت حكمهم به.
{حكم الجاهلية} : هو ما عليه أهل الجاهلية من الأحكام القبلية التي لا تقوم على وحي الله تعالى وإنما على الآراء والأهواء.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى إنزاله التوراة وأن فيها الهدى والنور وذكر الإنجيل وأنه أيضاً فيه الهدى والنور ناسب ذكر القرآن الكريم، فقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} ، أي: القرآن {بِالْحَقِّ} متلبساً به لا يفارقه الحق والصدق لخلوه من الزيادة والنقصان حال كونه {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} من
__________
1 أصل الشريعة في اللغة: الطريقة التي يتوصل بها إلى الماء، وهي هنا: ما شرع الله لعباده من الدين الشامل من العقائد والعبادات والأحكام القضائية يتوصل بها إلى سعادة الدارين.

الكتب السابقة، ومهيمناً1 عليها حفيظاً حاكماً، فالحق ما أحقه منها والباطل ما أبطله منها. وعليه {فَاحْكُمْ} يا رسولنا بين اليهود والمتحاكمين إليك {بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} إليك بقتل القاتل ورجم الزاني لا كما يريد اليهود {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} في ذلك وترك ما جاءك من الحق، واعلم أنا جعلنا لكل أمة شرعة ومنهاجاً، أي: شرعاً وسبيلاً خاصاً يسلكونه في إسعادهم وإكمالهم، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} على شريعة واحدة لا تختلف في قضاياها وأحكامها لفعل، ولكن نوع الشرائع فأوجب وأحل ونهى وحرم في شريعة ولم يفعل ذلك في شريعة أخرى من أجل أن يبتليكم فيما أعطاكم وأنزل عليكم ليتبين المطيع من العاصي والمهتدي من الضال، وعليه فهلم {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ2} أي: بادروا الأعمال الصالحة، وليجتهد كل واحد أن يكن سابقاً، فإن مرجعكم إليه تعالى {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} ، ثم يجزيكم الخير بمثله والشر إن شاء كذلك. هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الآية الثانية (49) فقد أمر الله تعالى فيها رسوله ونهاه وحذره وأعلمه وندد بأعدائه أمره أن يحكم بين من يتحاكمون إليه بما أنزل عليه من القرآن فقال: {وَأَنِ احْكُمْ3 بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، ونهاه أن يتبع أهواء اليهود فقال: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} وحذره من أن يتبع بعض آرائهم فيترك بعض ما أنزل عليه ولا يعمل به ويعمل بما اقترحوه عليه فقال: {وَاحْذَرْهُمْ4 أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} وأعلمه أن اليهود إن تولوا، أي: أعرضوا عن قبول حكمه وهو الحكم الحق العادل فإنما يريد الله تعالى أن ينزل بهم عقوبة نتيجة ما قارفوا من الذنوب، وما ارتكبوا من الخطايا فقال: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ5 بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} . وندد بأعدائه حيث أخبر أن أكثرهم فاسقون، أي: عصاة خارجون عن طاعة الله تعالى ورسله، فقال: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} . فسلاه بذلك وهون عليه ما قد يجده
__________
1 فسر: {مهيمنًا} بعال مرتفع عليه وبمؤتمن عليه، ويعود اللفظان إلى ما فسرناه به؛ لأن المرتفع العالي هو الحاكم. والمؤتمن هو الحافظ.
2 فيه دليل على تقديم الواجبات وعدم تأخيرها لاسيما الصلوات الخمس، وخالف أبو حنيفة في الصلاة، والآية حجة عليه.
3 هل هذه الآية ناسخة للتخيير السابق، أو لا نسخ ويقدر بعدها جملة –إن شئت- لتقدم ذكر التخيير وما تقدم من توجيه في آية: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} ، يحدد معنى هذه الآية.
4 روى ابن إسحاق عن ابن عباس أن قومًا من الأحبار اجتمعوا، منهم: ابن صوريا، وكعب، وشاس، وقالوا: إذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فإنما هو بشر، فأتوه وقالوا: قد عرفت يا محمد إنا أحبار اليهود وإن اتبعناك لم يحالفنا أحد من اليهود، وإن بيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك فاقض لنا عليهم حتى نؤمن بك. فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية.
5 وقد أصابهم فأجلوا من الحجاز وقتل بنو قريظة وضربت عليهم الجزية في ديار الإسلام.

من ألم تمرد اليهود والمنافقين وإعراضهم عن الحق الذي جاءهم به ودعاهم إليه. هذا ما دلت عليه الآية الثانية، أما الآية الثالثة(50) فقد أنكر تعالى فيها على اليهود طلبهم حكم أهل الجاهلية حيث لا وحي ولا تشريع إلهي وإنما العادات والأهواء والشهوات معرضين عن حكم الكتاب والسنة حيث العدل والرحمة، فقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ1 يَبْغُون}َ . ثم أخبر تعالى نافياً أن يكون هناك حكم أعدل أو أرحم من حكم الله تعالى للمؤمنين به الموقنين بعدله تعالى ورحمته فقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ2 مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ؟.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الحكم وفي كل القضايا بالكتاب والسنة.
2- لا يحوز تحكيم أية شريعة أو قانون غير الوحي الإلهي الكتاب والسنة.
3- التحذير من اتباع أهواء الناس خشية الإضلال عن الحق.
4- بيان الحكمة من اختلاف الشرائع، وهو الابتلاء.
5- أكثر المصائب في الدنيا ناتجة عن بعض الذنوب.
6- حكم الشريعة الإسلامية أحسن الأحكام عدلاً ورحمة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ(52)
__________
1 {أفحكم} منصوب بيبغون، أي: أيبغون حكم الجاهلية، إذ أهل الجاهلية من العرب يجعلون حكم الشريف خلاف حكم الوضيع. واليهود يقيمون الحدود على الضعفاء والفقراء دون الأقوياء والأغنياء.
2 الاستفهام إنكاري، أي: ينكر أن يكون هناك حكم أحسن من الله تعالى.

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ(53)}
شرح الكلمات:
{آمَنُوا} : صدقوا بالله ورسوله ووعد الله ووعيده.
{أَوْلِيَاءَ} : لكم توالونهم بالنصرة والمحبة.
{بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} : أي: اليهودي ولي أخيه اليهودي، والنصراني ولي أخيه النصراني.
{الظَّالِمِينَ} : الذين يوالون أعداء الله ورسوله ويتركون موالاة الله ورسوله والمؤمنين.
{مَرَضٌ} : نفاق وشك وشرك.
{يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} : أي: في البقاء على موالاتهم، أي: موالاة اليهود والنصارى.
{دَائِرَةٌ1} : تدور علينا من جدب، أو انتهاء أمر الإسلام.
{بِالْفَتْحِ} : نصر المؤمنين على الكافرين والقضاء لهم بذلك؛ كفتح مكة.
{جَهْدَ2 أَيْمَانِهِمْ} : أقصاها وأبلغها.
{حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} : بطلت وفسدت فلم ينتفعوا منها بشيء؛ لأنها ما كانت لله تعالى.
معنى الآيات:
ورد في سبب نزول هذه الآية عن عبادة بن الصامت الأنصاري، وعبد الله بن أبي كان لكل منهما حلفاء من يهود المدينة، ولما انتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون في بدر اغتاظ اليهود وأعلنوا سوء نياتهم فتبرأ عبادة بن الصامت من حلفائه ورضي بموالاة الله ورسوله والمؤمنين وأبي بن أبي، ذلك وقال بعض ما جاء في هذه الآيات فأنزل الله تعالى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} أي: لكم من دون المؤمنين، وقوله تعالى: {بَعْضُهُمْ
__________
1 الدائرة: اسم فاعل من دار يدو فهو دائر، إذا عكس سيره فالدائرة تغير الحال، وغلبت في الخير والشر، أي: من خير إلى شر. ودوائر الدهر: نوبه ودوله.
2 حقيقة الجهد: التعب والمشقة، ومنتهى الطاقة، والمراد به في الآية: آكد الإيمان وأغلظها، وفعل الجهد: جهد؛ كمنع يجهد كيمنع جهداً كمنع.

أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} تعليل لتحريم موالاتهم1، لأن اليهودي ولي لليهودي والنصراني ولي للنصراني على المسلمين فكيف تجوز إذاً موالاتهم، وكيف يصدقون أيضاً فيها فهل من المعقول أن يحبك النصراني ويكره أخاه، وهل ينصرك على أخيه؟ وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} أي: أيها المؤمنون {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ2} . لأنه بحكم موالاتهم سيكون حرباً على الله ورسوله والمؤمنين، وبذلك يصبح منهم قطعاً وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} جملة تعليلية تفيد أن من والى اليهود والنصارى من المؤمنين أصبح مثلهم فيحرم هداية الله تعالى لأن الله لا يهدي القوم الظالمين. والظلم وضع الشيء في غير محله، وهذا الموالي لليهود قد ظلم بوضع الموالاة في غير محلها حيث عادى الله ورسوله والمؤمنين ووالى اليهود والنصارى أعداء الله ورسوله والمؤمنين. هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الآية الثانية(52) فقد تضمنت بعض ما قال ابن أبي مبرراً موقفه المخزي وهو الإبقاء على موالاته لليهود، إذ قال تعالى لرسوله وهو يخبره بحالهم: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} كابن أبي، والمرض مرض النفاق {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} أي: في موالاتهم ولم يقل يسارعون إليهم لأنهم ما خرجوا من دائرة موالاتهم حتى يعودوا إليها بل هم في داخلها يسارعون، يقولون كالمعتذرين {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} من تقلب الأحوال فنجد أنفسنا مع أحلافنا ننتفع بهم. وقوله تعالى: { فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} وعسى من الله تعبد تحقيق الوقوع، فهي بشرى لرسول الله والمؤمنين بقرب النصر والفتح3 {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِه4 فَيُصْبِحُوا} أي: أولئك الموالون لليهود {عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ} من النفاق وبغض المؤمنين وحب الكافرين {نَادِمِينَ} حيث لا ينفعهم ندم. هذا ما تضمنته الآية الثانية، أما الآية الثالثة(53) وهي قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} عندما يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده فيه نصرة المؤمنين وهزيمة الكافرين، ويصبح المنافقون نادمين، يقول المؤمنون مشيرين إلى المنافقين: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّه} أغلظ الإيمان {إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} لأنها لم تكن لله {فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} .
__________
1 الموالاة حقيقتها: المودة والنصرة، فمن والى اليهود والنصارى فأحبهم ونصرهم على المسلمين لازمه أن أبغض المؤمنين وخذلهم، وبهذا يصبح كافرًا.
2 هذا الحكم باقٍ إلى يوم القيامة، وهو حرمة موالاة الكافرين، ومن والاهم تحرم موالاته كما تحرم موالاتهم ووجبت له النار كما وجبت لهم.
3 قال ابن عباس رضي الله عنهما: أتى الله بالفتح فقتلت مقاتلة بني قريضة، وسبيت ذراريهم، وأجلى بنو النضير.
4 فسر الحسن قوله تعالى: {أو أمر منْ عِنده} بأنه إظهار أمر المنافقين والإخبار بأسمائهم، والأمر بقتلهم، وهو تفسير عظيم عليه نور.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة موالاة اليهود والنصارى1 وسائر الكافرين.
2- موالاة الكافر على المؤمن تعتبر ردة عن الإسلام.
3- موالاة الكافرين ناجمة عن ضعف الإيمان، فلذا تؤدى إلى الكفر.
4- عاقبة النفاق سيئة ونهاية الكفر مريرة.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ(56)}
شرح الكلمات:
{مَنْ يَرْتَدَّ2} : أي: يرجع إلى الكفر بعد إيمانه.
{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} : أرقاء عليهم رحماء بهم.
{أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ3} : أشداء غلاظ عليهم.
{لَوْمَةَ لائِمٍ} : عذل عاذل.
{حِزْبَ اللَّهِ} : أنصار الله تعالى.
__________
1 لا يعد موالاة استعمال اليهودي أو النصراني في عمل تجاري أو عمراني أو مهني، إذا دعت الحاجة إليه، ولا يصح اسبتطانهم ولا الاستعانة بهم في الجهاد.
2 قرئ: {يرتد} بالفتح وهي قراءة أهل المدينة والشام.
3 قال ابن عباس: هم للمؤمنين كالوالد للولد،والسيد للعبد، وهم في الغلظة على الكفار؛ كالسبع على فريسته.

معنى الآيات:
هذه الآية الكريمة (54): {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} تضمنت خبراً من أخبار الغيب التي يخبر بها القرآن فتتم طبق ما أخبر به فتكون آية أنه كلام الله حقاً وأن المنزل على رسوله صدقاً، فقد أخبر تعالى أنه من يرتد من المؤمنين سوف يأتي الله عز وجل بخير منه ممن يحبون الله ويحبهم الله تعالى رحماء بالمؤمنين أشداء على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لوم من يلوم، ولا عتاب من يعتب عليهم. وما إن مات الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ارتد فئات1 من أجلاف العراف ومنعوا الزكاة وقاتلهم أبو بكر مع الصحابة رضوان الله عليهم حتى أخضعوهم للإسلام وحسن إسلامهم فكان أبو بكر وأصحابه ممن وصف الله تعالى يحبون الله ويحبهم الله يجاهدون في سبيله ولا يخافون لومة لائم، وقد روي بل وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية وتلاها صلى الله عليه وسلم وأبو موسى الأشعري أمامه فأشار إليه وقال قوم هذا، وفعلاً بعد وفاة الرسول جاء الأشعريون وظهرت الآية وتمت المعجزة وصدق الله العظيم. وقوله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ} الإشارة إلى ما أولى2 أولئك المؤمنين من أبي بكر الصديق والصحابة والأشعريين من تلك الصفات الجليلة من حب الله والرقة والرأفة على المؤمنين والشدة على الكافرين، والجهاد في سبيل الله، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أي: واسع الفضل عليم بمن يستحقه. هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الثانية3 (55) فقد تضمنت طمأنة الرب تعالى لعباده بن الصامت وعبد الله بن سلام ومن تبرأ من حلف اليهود ووالى الله ورسوله فأخبرهم تعالى أنه هو وليهم ورسوله والذين آمنوا {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ4} أي: خاشعون متطامنون، وأما ولاية اليهود والنصارى فلا خير لهم فيها وهم منها براء فقصرهم تعالى على ولايته وولاية رسوله والمؤمنين الصادقين، وفي الآية الثالثة أخبرهم تعالى أن من يتول الله ورسوله والذين آمنوا ينصره الله ويكفه ما يهمه، لأنه أصبح من حزب الله، وحزب الله أي أولياؤه وأنصاره هم الغالبون، هذا ما دلت عليه الآية الكريمة وهي قوله
__________
1 قال ابن إسحاق لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب إلى ثلاثة مساجد: مسجد المدينة، ومسجد مكة، ومسجد جؤاثي. جؤاثي: اسم حصن بالبحرين، وكان المرتدون على قسمين: قسم منعوا الزكاة واعترفوا بباقي الشريعة، وقسم نبذوا الشريعة.
2 أي: ما وهبهم وأعطاهم من الصفات الحميدة الجليلة.
3 هي قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا...} إلخ.
4 يروى أن عليًا رضي الله عنه كان يصلي نافلة في المسجد فسأله أحد فرمى إليه بالخاتم وهو يصلي فاستدل الفقهاء بهذا أن العمل اليسير لا يبطل الصلاة.

تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ1 اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} .
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إخبار القرآن الكريم بالغيب وصدقه في ذلك فكان آية أنه كلام الله.
2- فضيلة أبي بكر والصحابة والأشعريين قوم أبي موسى الأشعري وهم من أهل اليمن.
3- فضل حب الله والتواضع للمؤمنين وإظهار العزة على الكافرين، وفضل الجهاد في سبيل الله وقول الحق والثبات عليه وعدم المبالاة بمن يلوم ويعذل في ذلك.
4- فضيلة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والخشوع والتواضع.
5- ولاية الله ورسوله والمؤمنين الصادقين توجب لصاحبها النصر والغلبة على أعدائه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ(58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ(59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ2 بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ(60)}
__________
1 الحزب: الصنف من الناس، وأصله من النائبة مأخوذ من قولهم: حزبه كذا، أي: نابه؛ كأن المحتزبين مجتمعون اجتماع أهل النائبة عليها.
2 روى أنه لما نزلت أية: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ...} إلخ. قال المسلمون لهم يا أخوة القردة والخنازير نكسوا رؤسهم افتضاحا، وفيهم يقول الشاعر:
فلعنة الله على اليهود ...
إن اليهود أخوة القرود

شرح الكلمات:
{هُزُواً وَلَعِباً} : الهزء: ما يُهزأ به ويسخر منه. واللعب: ما يعلب به.
{أُوتُوا الْكِتَابَ} : هم اليهود في هذا السياق.
{وَالْكُفَّارَ} : المشركون.
{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} : أذنتم بها.
{هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} : أي: ما تنقمون منا، ومعنى تنقمون هنا تنكرون منا وتعيبون علينا.
{مَثُوبَةً} : جزاء.
{فَاسِقُونَ} : خارجون عن طاعة الله تعالى بالكفر والمعاصي.
{الْقِرَدَةَ} : جمع قرد حيوان معروف مجبول على التقليد والمحاكاة.
{وَالْخَنَازِيرَ} : جمع خنزير حيوان خبيث معروف محرم الأكل.
{شَرٌّ مَكَاناً} : أي: منزلة يوم القيامة في نار جهنم.
معنى الآيات:
مازال السياق في تحذير المؤمنين من موالاة اليهود وأعداء الله ورسوله، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالإسلام ديناً {لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ} الإسلامي {هُزُواً} شيئاً يهزءون به، ولعباً، أي: شيئاً يلعبون به {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} يعني اليهود، والكفار1، وهم المنافقون والمشركون {أولياء} أنصاراً وأحلافاً2 {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في ذلك، أي: في اتخاذهم أولياء {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} صادقين في إيمانكم فإن حب الله ورسوله والمؤمنين يتنافى معه حب أعداء الله ورسوله والمؤمنين. هذا ما دلت عليه الآية الأولى(57)، أما الآية الثانية(58) فقد تضمنت إخبار الله تعالى بما يؤكد وجوب معاداة من يتخذ دين المؤمنين هزواً ولعباً وهم أولئك الذين إذا سمعوا الآذان ينادى3 للصلاة اتخذوه هزواً ولعباً، فهذا يقول ما هذا الصوت وآخر يقول
__________
1 قرئ: والكفار بالجر، وقرئ: بالنصب، قال مكي: لولا اتفاق الجماعة على قراءة النصب لاخترت قراءة الجر لقوته في الإعراب، وفي التفسير والقرب من المعطوف عليه.
2 هذه الآية فيها دليل على عدم جواز التأييد والاستنصار بالمشركين، وقد روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الخروج إلى أحد جاء قوم من اليهود فقالوا: نسير معك. فقال صلى الله عليه وسلم: "إنا لا نستعين على أمرنا بالمشركين" .
3 لم يكن بمكة الآذان وإنما كان ينادي للصلاة باللفظ: "الصلاة جامعة" ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرفت القبلة إلى الكعبة أمر بالآذان، وبقيت: "الصلاة جامعة" والأمر بعرض، ولما همهم أمر الآذان رأى عبد الله بن زيد الأنصاري الآذان في المنام، وكذا رآه عمر.

هذا نهيق حمار، قبح الله قولهم وأقمأهم. فقال تعالى عنهم: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ1 إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} . حقاً إنهم لا يعقلون، فلو كانوا يعقلون الكلام لكان النداء إلى الصلاة من أطيب ما يسمع العقلاء لأنه نداء إلى الطهر والصفاء وإلى الخير والمحبة والألفة، نداء إلى ذكر الله وعبادته، ولكن القوم كما أخبر تعالى عنهم: {لا يَعْقِلُونَ} شأنهم شأن البهائم والبهائم أفضل منهم. هذا ما دلت عليه الآية الثانية، أما الآية الثالثة(59) فقد تضمنت تعليم الله تعالى لرسوله أن يقول لأولئك اليهود والكفرة الفجرة: يا أهل الكتاب إنكم بمعاداتكم لنا وحربكم علنيا ما تنقمون منا أي ما تكرهون منا ولا تعيبون علينا إلا إيماننا بالله وما أنزل علينا من هذا القرآن الكريم وما أنزل من قبل من التوراة والإنجيل، وكون أكثركم فاسقين فهل مثل هذا ينكر من صاحبه ويعاب عليه؟ اللهم لا، ولكنكم قوم لا تعقلون، هذا معنى قوله تعالى في هذه الآية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} ، أما الآية الرابعة في هذا السياق (60) فقد تضمنت تعليم الله لرسوله كيف يرد على أولئك اليهود إخوان القردة والخنازير قولهم: لا نعلم ديناً شراً من دينكم، وذلك أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: بمن تؤمن؟ فقال: أؤمن بالله وبما أنزل إلينا وما أنزل على موسى وما أنزل على عيسى، فلما قال هذا، قالوا: لا نعلم ديناً شراً من دينكم بغضاً لعيسى عليه السلام وكرهاً له، فأنزل الله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً} أي: ثواباً وجزاء {عِنْدَ اللَّهِ} أنه {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} إذ مسخ طائفة منهم قردة، وأخرى خنازير على عهد داود عليه السلام، وقوله: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ2} أي: وجعل منهم من عبد الطاغوت وهو الشيطان، و ذلك بطاعته والانقياد لما يجلبه عليه ويزينه له من الشر والفساد، إنه أنتم يا معشر يهود، إنكم لشر مكاناً يوم القيامة وأضل سبيلاً اليوم في هذه الحياة الدنيا.
__________
1 الآذان فرض في المدن والقرى، وسن لجماعة تطلب غيرها ومستحب لمن لا يطلب غيره، والسفر والحضر سواء إلا أنه في السفر أعظم أجرًا لحديث الموطأ: "لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة" . وهذا الثواب عام لمن أذن في السفر والحضر والإقامة سنة مؤكدة لكل صلاة، ومن أذن أقام ولو أقام غير المؤذن جازت.
2 قرئ: هذا اللفظ: {عبد الطاغوت} بعدة قراءات، منها: {عبد} اسما؛ كفضل، و {عبد الطاغوت} أي: جمع عبد، وعبد الطاغوت: جمع عابد؛ كشاهد وشهد.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة اتخاذ اليهود والنصارى والمشركين أولياء لا سيما أهل الظلم منهم.
2- سوء أخلاق اليهود وفساد عقولهم.
3- شعور اليهود بفسقهم وبعد ضلالهم جعلهم يعملون على إضلال المسلمين.
4- تقرير وجود مسخ في اليهود قردة وخنازير.
5- اليهود شر الناس مكاناً يوم القيامة, وأضل الناس في هذه الدنيا.
{وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ(61) وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(62) لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(63)}
شرح الكلمات:
{يَكْتُمُونَ} : أي: يضمرون في نفوسهم ويخفونه فيها.
{فِي الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} : الإثم: كل ضار وفاسد وهو ما حرمه الله تعالى من اعتقاد أو قول أو عمل، والعدوان، والعدوان: الظلم.
{السُّحْتَ} : المال الحرام؛ كالرشوة والربا، وما يأخذونه من مال مقابل تحريف الكلم وتأويله.
{الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} : الربانيون هنا العباد المربون؛ كمشايخ1 التصوف عندنا. والأحبار: العلماء.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في فضح اليهود وبيان خبثهم زيادة في التنفير من موالاتهم فأخبر
__________
1 مشايخ الطرق –والحق يقال- لقد ربوا كثيرًا من الجهال على الإيمان والتقوى ولكن لعدم علمهم بالكتاب والسنة ضلوا وأضلوا في المجالات كثيرة، وخاصة في العقيدة. لذا لا يجوز إقرارهم ولا التربي على أيديهم.

تعالى في الآية الأولى عن منافقيهم فقال: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ1} يريد: غشوكم في مجالسكم، {قَالُوا آمَنَّا} وما آمنوا ولكنهم ينافقون لا غير فقد دخلوا بالكفر2 في قلوبهم وخرجوا به, {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} من الكفر والكيد لكم. هذا معنى قوله تعالى في الآية الأولى(61) {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} ، وأما الآية الثانية(62) فقد أخبر تعالى رسوله أنهم لكثرة ما يرتكبون من الذنوب ويغشون من المعاصي ترى كثيراً منهم3 يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت علناً لا يستترون به ولا يخفونه ثم ذمهم الله تعالى ذلك وقبح فعلهم فقال: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وفي الآية الأخيرة: أنكر على عبادهم وعلمائهم سكوتهم عن جرائم عوامهم ورضوا بها مصانعة لهم ومداهنة ، فقال تعالى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ4 الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} أي: لم لا ينهونهم عن قولهم الإثم، أي: الكذب، وأكلهم السحت. الرشوة والربا، ثم ذم تعالى سكوت العلماء عنهم بقوله: {لَبِئْسَ5 مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} أي: وعزتي وجلالي لبئس صنيع هؤلاء من صنيع حيث أصبح السكوت المتعمد لمنافع خاصة يحصلون عليها صنعة لهم أتقنوها وحذقوها. والعياذ بالله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجود منافقين من اليهود على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
2- بيان استهتار اليهود وعدم مبالاتهم بارتكابهم الجرائم علانية.
3- قبح سكوت العلماء على المنكر وإغضائهم على فاعليه، ولذا قال كثير من السلف في هذه الآية أشد آية وأخطرها على العلماء.
__________
1 هذا الآيات معطوفة على قوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} السابقة، وخص بهذه الصفات: منافقوا اليهود، وهم من جملة: من اتخذوا الدين هزوا ولعبا.
2 أي: أنهم ما أمنوا قط، ولم يخالط الإيمان قلوبهم طرفة عين، فهم دخلوا كافرين وخرجوا كافرين.
3 الرؤيا هنا: بصرية، والخطاب عام لكل من يسمع ويرى، والمعنى: أن حالهم لا تخفى على أحد ذي بصر.
4 قال ابن عباس رضي الله عنه: ما في القرآن آية أشد توبيخًا من هذه الآية. { لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} ، والآية وإن نزلت في يهود المدينة، فقد ذكرت النصارى لأن حالهم سواء. والآية تنطبق اليوم على علماء المسلمين حيث تركوا الأمر والنهي، والعياذ بالله تعالى من عاقبة ذلك. فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده" . الترمذي وصححه. ولولا هنا: أداة تحظيظ، والمراد: توبيخ علماؤهم وعابديهم على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
5 قال الزجاج: اللام في قوله تعالى: {لبئس} للقسم والتأكيد.

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ(64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ(65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ(66)}
شرح الكلمات:
{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ1} : يريدون أنه تعالى ضيق عليهم الرزق ولم يوسع عليهم.
{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} : دعاء عليهم بأن يحرموا الإنفاق في الخير وفيما ينفعهم.
{وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} : طردوا من رحمة الله بسبب وصفهم الرب تعالى بالبخل.
{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} : لا كما قالوا لعنهم الله: يد الله مغلولة، أي: ممسكة عن الإنفاق.
{طُغْيَاناً} : تجاوزاً لحد الاعتدال في قولهم الكاذب وعملهم الفاسد.
{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ} : أي: بين اليهود والنصارى.
{أَوْقَدُوا نَاراً} : أي: نار الفتنة والتحريش والإغراء والعداوات للحرب.
__________
1 القائل: فنحاص اليهودي عليه لعائن الله وهو يعنى: بمغلولة: بخيلة لا تنفق، وهو كاذب، بل يمين الله ملأى لا يغيظها نفقة سحاء الليل والنهار: "أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه" حديث الشيخين.

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَاب}ِ : اليهود والنصارى.
{مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} : كناية عن بسط الرزق عليهم.
{أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} : معتدلة لا غالبة مفرطة، ولا جافية مفرطة.
معنى الآيات:
يحبر تعالى عن كفر اليهود وجرأتهم على الله تعالى بباطل القول وسيء العمل، فيقول: {وَقَالَتِ1 الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} يريدون أنه تعالى أمسك عنهم الرزق وضيقه عليهم، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} هو دعاء عليهم بأن لا يوفقوا للإنفاق فيما ينفعهم {ولعنوا بما قالوا} . ولعنهم تعالى ولعنهم كل صالح في الأرض والسماء بسبب قولهم الخبيث الفاسد. وأكذبهم تعالى في قولهم {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} فقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} كما قال عنه رسوله في الصحيح: "يمين الله سحاء2 تنفق الليل والنهار" ثم أخبر تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ليسله ويخفف عنه ما يجد في نفسه من جراء كفر اليهود وخبثهم فقال: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ} أي: من اليهود {مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} من الآيات التي تبين خبثهم وتكشف النقاب عن سوء أفعالهم المخزية لهم. { طُغْيَاناً وَكُفْراً} أي: إبعاداً في الظلم والشر وكفراً بتكذيبك وتكذيب ما أنزل إليك وذلك دفعاً للحق ليبرروا باطلهم وما هم عليه من الاعتقاد الفاسد والعمل السيء، ثم أخبر تعالى رسوله بتدبيره فيهم انتقاماً منهم فقال عز وجل من قائل: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ3 وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي: أن العداوة بين اليهود والنصارى لا تنتهي إلى يوم القيامة، ثم أخبر عن اليهود أنهم {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ} وذلك بالتحريش بين الأفراد والجماعات وحتى الشعوب والأمم، وبالإغراء، وقالة السوء، {أَطْفَأَهَا اللَّه} تعالى فلم يفلحوا فيما أرادوه، وقد أذلهم الله على يد رسوله والمؤمنين وأخزاهم وعن دار الإيمان أجلاهم وأخبر تعالى أنهم يسعون دائماً وأبداً في الأرض بالفساد، فلذا أبغضهم الله وغضب عليهم، لأنه تعالى لا يحب المفسدين، هذا ما دلت عليه الآية الأولى(64)، أما الآية الثانية(65) وهي قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ} من يهود ونصارى {آمَنُوا} بالله ورسوله وبما
__________
1 إنه وإن القائل: فنحاص بن عازوراء فإن رضي اليهود بمقالته سلكهم في سلكه واعتبروا كلهم قائلون، إذ الرضى بالكفر كفر.
2 هذا اللفظ معنى للحديث لا لفظه، وقد تقدم قريبًا لفظه كما في الصحيحين.
3 الكلام صالح لأن يكون: {بينهم} المراد بهم اليهود أنفسهم كقوله تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} ، وأن يكون المراد بين اليهود والنصارى لتقدم ذكرهم معًا في قوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} ، والواقع شاهد.

جاء من الدين الحق وعملوا به، {وَاتَّقَوْا} الكفر والشرك وكبائر الذنوب الفواحش، لكفر الله عنهم سيئآتهم فلم يؤاخذهم ولم يفضحهم بها ولأدخلهم جنات النعيم. وهذا وعد الله تعالى اليهود والنصارى فلو أنهم آمنوا واتقوا لأنجزه لهم قطعاً. وهو لا يخلف الميعاد.
أما الآية الأخيرة(66) في هذا السياق فهي تتضمن وعداً إلهياً آخر وهو أن اليهود والنصارى لو أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ومن ذلك القرآن الكريم، ومعنى أقاموا ذلك آمنوا بالعقائد الصحيحة الواردة في تلك الكتب وعملوا بالشرائع السليمة والآداب الرفيعة والأخلاق الفاضلة التي تضمنتها تلك الكتب لو فعلوا ذلك لبسط الله تعالى عليهم الرزق وأسبغ عليهم النعم ولأصبحوا في خيرات وبركات تحوطهم من كل جانب هذا ما وعدهم الله به. ثم أخبر تعالى عن واقعهم المرير فقال: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} لم تغل ولم تحف فلم تقل في عيسى أنه ابن الله ولا هو ابن زنى، ولكن قالت عبد الله ورسوله، ولذا لما جاء النبي الأمي بشارة عيسى1 عليه السلام آمنوا به وصدقوا بما جاء به من الهدى والدين الحق وهم عبد الله بن سلام وبعض اليهود، والنجاشي من النصارى وخلق كثير لا يحصون عداً. وكثير من أهل الكتاب ساء2، أي: قبح ما يعلمون من أعمال الكفر والشرك والشر والفساد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- أقبح وصف الله تعالى بما لا يليق بجلاله وكماله.
2- ثبوت صفة اليدين لله تعالى ووجوب الإيمان بها على مراد الله تعالى، وعلى ما يليق بجلاله وكماله.
3- تقرير ما هو موجود بين اليهود والنصارى من عداوة وبغضاء3 وهو من تدبير الله تعالى.
4- سعى اليهود الدائم في الفساد في الأرض فقد ضربوا البشرية بالذهب المادي الإلحادي الشيوعي، وضربوها أيضاً بالإباحة ومكائد الماسونية.
__________
1 بشارة عيسى بدل من النبي الأمي، وقلنا: بشارة عيسى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى عليهم السلام" .
2 أي: بئس: شيء عملوه، إذ كذبوا الرسل وحرفوا الكتب وأكلوا السحت.
3 وإن قيل: إن التعاون القائم اليوم بين اليهود والنصارى يرد ما في الآية، قلنا: إن اليهود احتالوا على النصارى فضربوهم بالإلحاد، فلما قضي على العقيدة الدينية فيهم أصبحوا سخرة لهم يتحكمون فيهم، وبذلك فرضوا عليهم حبهم وعدم عداوتهم.

5- وعد الله لأهل الكتاب على ما كانوا عليه لو آمنوا واتقوا لأدخلهم الجنة.
6- وعده تعالى لأهل الكتاب ببسط الرزق وسعته لو أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم، أي: لو أنهم أخذوا بما في التوراة والإنجيل من دعوتهم إلى الإيمان بالنبي الأمي والدخول في الإسلام لحصل لهم ذلك كما حصل للمسلمين طيلة ثلاثة قرون وزيادة. وما زال العرض كما هو1 لكل الأمم والشعوب أيضاً.
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(69)}
شرح الكلمات:
{الرَّسُولُ} : ذكر من بني آدم أوحي إليه شرع وأمر بتبليغه وهو هنا محمد صلى الله عليه وسلم.
{بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ2} : من التوحيد والشرائع والأحكام.
{يَعْصِمُكَ} : يحفظك حفظاً لا يصل إليك معه أحد بسوء.
__________
1 الوعد: هو ما عرضه الله تعالى عليهم، وهو في قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا...} الآية.
2 روى مسلم عن مسروق عن عائشة أنها قالت: من حدثك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا من الوحي فقد كذب، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ...} الآية.

{فَلا تَأْسَ} : لا تأسف ولا تحزن.
{هَادُوا} : اليهود.
{وَالصَّابِئُونَ} : جمع صابئ، وهم فرقة من أهل الكتاب.
معنى الآيات:
في الآية الأولى(67) ينادي الرب تبارك وتعالى رسوله معظماً له بقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} المبجل ليأمره بإبلاغ ما أوحاه إليه من العقائد والشرائع والأحكام فيقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} . ويقول له: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ} أي: إن قصرت في شيء لم تبلغه لأي اعتبار من الاعتبارات {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} أي: فكأنك لم تبلغ1 شيئاً، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ2 مِنَ النَّاسِ} أي: يمنعك من أن يمسوك بشيء من الأذى، ولذا فلا عذر لك في ترك إبلاغ أي شيء سواء كان مما يتعلق بأهل الكتاب أو بغيرهم، ولذا فلم يكتم رسول الله شيئاَ مما أمر بإبلاغه البتة. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} تقرير لوعده تعالى بعصمة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ هو تعالى لا يوفق الكافرين لما يريدون ويرغبون فيه من أذية رسوله صلى الله عليه وسلم، ولما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم: " لا تحرسوني فإن الله قد عصمني" هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الآية الثانية(68) وهي قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ 3 رَبِّكُمْ} لقد تقدم هذا السياق وأعيد هنا تقريراً له وتأكيداً وهو إعلام من الله تعالى أن اليهود والنصارى ليسوا على شيء من الدين الحق ولا من ولاية الله تعالى حتى يقيموا ما أمروا به وما نهوا عنه وما انتدبوا إليه من الخيرات والصالحات مما جاء في التوراة والإنجيل والقرآن أيضاً. وقوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} هذا إخبار من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن كثيراً من اليهود والنصارى يزيدهم ما يوحي الله تعالى إلى رسوله وما ينزله عليه في كتابه من أخبار
__________
1 في الآية رد على الرافضة القائلين: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا مما أمر بإبلاغه تقية وكذبوا ورب الكعبة قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: لو كان في إمكان الرسول أن يكتم شيئًا لكتم: {عَبَسَ وَتَولّى} إذ هي عتاب له صلى الله عليه وسلم.
2 روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال: " ليت رجلاً صالحًا من أصحابي يحرسني الليلة" قالت: فبينما كذلك سمعنا خشخشة سلاح فقال: "من هذا" قال سعد بن أبي وقاص. فقال له: "ما جاء بك" فقال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه . فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف ونزلت هذه الآية.
3 قال ابن عباس رضي الله عنهما: جاء جماعة من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ألست تقر أن التوراة حق من عند الله. قال: "بلى" فقالوا: إنا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها. فنزلت الآية: { لستم على شيء...} إلخ.

أهل الكتاب مما هو بيان لذنوبهم وضلالهم. ومما هو أمر لهم بالإيمان بالنبي الأمي واتباعه على الدين الحق الذي ارسل به يزيدهم ذلك طغياناً، أي: علواً وعتواً وكفراً فوق كفرهم. ولذا فلا تأس، أي: لا تحزن1 على عدم إيمانهم بك وبما جئت به لأنهم قوم كافرون. أما الآية الثالثة(69) وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ2 هَادُوا وَالصَّابِئُونَ3 وَالنَّصَارَى} فالذين آمنوا هم المسلمون، واليهود والنصارى والصابئون وهم فرقة منهم هم أهل الكتاب فجميع هذه الطوائف من آمن منهم الإيمان الحق بالله وباليوم الآخر وأتى بلازم الإيمان وهو التقوى وهي ترك الشرك والمعاصي أفعالاً وتروكاً فلا خوف عليه في الدنيا ولا في البرزخ ولا يوم القيامة ولا حزن يلحقه في الحيوات الثلاث وعد الله حقاً {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} !.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب البلاغ على الرسل ونهوض رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الواجب على أكمل وجه وأتمه.
2- عصمة الرسول المطلقة.
3- كفر أهل الكتاب إلا من آمن منهم بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم واتبع ما جاء به من الدين الحق.
4- أهل العناد والمكابرة لا تزيدهم الأدلة والبراهين إلا عتواً ونفوراً وطغياناً وكفراً.
5- العبرة بالإيمان والعمل الصالح وترك الشرك و المعاصي لا بالإنتساب إلى دين من الأديان.
{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا
__________
1 في هذا الإرشاد الإلهي تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وليس بنهي عن الحزن إذ لا يقدر المرء على دفع الحزن وإنما يقدر على ترك مثيراته، فإنه متى ترك العرض لها لم يوجد في نفسه حزن.
2 في ذكر المؤمنين، وهم: المسلمون، مع اليهود، والصائبين، والنصارى، إشارة أبلغ من عبارة، وهي: أن العبرة ليست بالأنساب ولا الانتساب ولا بزمان أو مكان. وإنما النجاة من النار ودخول الجنة متوقفان على الإيمان الصحيح بالله واليوم الآخر والعمل الصالح الذي جاء به كتاب الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
3 اختلف في إعراب {والصابئون} على أقوال نكتفي بقول منها: وهو أن تكون مبتدأ وخبرها محذوف تقديره: والصابئون كذلك على حد قول الشاعر:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب
أي: كذلك، وتقدير الكلام: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} والصابئون كذلك.

لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ(70) وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ(71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ(72)}
شرح الكلمات:
الميثاق : العهد المؤكد باليمين.
{بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ} : بما لا يحبونه ولا تميل إليه أنفسهم المريضة.
{فَرِيقاً كَذَّبُوا} : أي: كذبوا طائفة من الرسل وقتلوا طائفة أخرى.
{أَلا1 تَكُونَ فِتْنَةٌ} : أي: أن لا يبتلوا بذنوبهم بالشدائد والمحن.
{فَعَمُوا وَصَمُّوا} : عموا عن العبر، وصموا عن سماع المواعظ.
{مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ} : أي: يشرك بالله غيره تعالى من سائر الكائنات فيعبده مع الله بأي نوع من أنواع العبادات.
{حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} : حكم بمنعه من دخولها أبداً إلا أن يتوب من الشرك.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن أهل الكتاب فقد أقسم تعالى على أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل، وذلك في التوراة بأن يعبدوا الله وحده بما شرع لهم فيطيعوه في أمره ونهيه وأرسل
__________
1 إن: هي المخففة من الثقيلة، وحسبانهم ذلك هو الذي جعلهم يواصلون جرائمهم، ولم يرتدعوا عنها.

إليهم رسله1 تترا كلما جاءهم2 رسول بما لا يوافق أهواءهم3 كذبوه فيما جاءهم به ودعاهم إليه. أو قتلوه. وحسبوا أن لا يؤاخذوا بذنوبهم فعموا عن الحق صموا عن سماع المواعظ فابتلاهم ربهم وسلط عليهم من سامهم سوء العذاب، ثم تاب الله عليهم فتابوا واستقام أمرهم وصلحت أحوالهم ثم عموا وصموا مرة أخرى إلا قليلاً منهم فسلط عليهم من سامهم4 سوء العذاب أيضاً، وهاهم أولاء في عمى وصمم والله بصير بما يعملون وسوف ينزل بهم بأساه إن لم يتوبوا فيؤمنوا بالله ورسوله ويدينوا بالدين الحق الذي هو الإسلام.
هذا ما تضمنته الآيتان الأولى والثانية(70-71)، أما الآية الثالثة(72) وهو قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ5 الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ6 ابْنُ مَرْيَمَ} فقد أخبر تعالى مقرراً حكمه بالكفر على من افترى عليه وعلى رسوله فادعى أن الله جل جلاله وعظم سلطانه هو المسيح بن مريم تعالى الله أن يكون عبداً من عباده، وحاشا عيسى عبد الله ورسوله أن يرضى أن يقال له أنت الله. وكيف وهو القائل: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} فهل مثل هذا القول يصدر عمن يدعي أنه الله أو ابن الله؟ سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان تاريخ بني إسرائيل، والكشف عن مختبئات جرائمهم من الكفر والقتل.
2- إكرام الله تعالى لبني إسرائيل ولطفه بهم مع تمردهم عليه ورفض ميثاقه وقتل أنبيائه وتكذيبهم، والمكر بهم.
__________
1 كموسى، وهارون، ومن جاء بعدهم، وداود، وسليمان، وزكريا، ويحي، وعيسى عليهم السلام.
2 كلما: نصبت على الظرفية، وهي لاستغراق الزمان الذي أتت فيه الرسل وأشربت معنى الشرطية، فكان العامل فيها بمنزلة الجواب.
3 {أهوائهم} جمع: هوى، وهو المحبوب، وفعله: هوي يهوى؛ كرضي يرضى، إذا أحب ومالته نفسه إلى ملابسة شيء.
4 إشارة إلى تاريخ بني إسرائيل، فقد استقام أمرهم وقامت دولتهم في فلسطين على عهد يوشع بن نون فتى موسى، ثم دالت دولتهم بجرائمهم على عهد البابليين ثم اجتمعت كلمتهم وقامت دولتهم على عهد داود وسليمان، ثم دالت دولتهم بجرائمهم التي نعاها الله تعالى عليهم في هذه الآية على يد الرومان.
5 هذا استئناف ابتدائي لابطال باطل النصارى بعد إبطال باطل اليهود، فالمناسبة جد قوية لأنهما خصم الإسلام والمسلمين.
6 هذا قول اليعقوبية، وهم: فرقة من النصارى، لأنهم قالوا: باتحاد الابن والأب؛ فكأن المسيح هو الله في اعتقادهم الباطل الفاسد.

3- تقرير كفر النصارى بقولهم المسيح هو الله.
4- تقرير عبودية عيسى عليه السلام لربه تعالى.
5- تحريم الجنة على من لقي ربه وهو يشرك به سواه.
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(76)}
شرح الكلمات:
{ثَالِثُ ثَلاثَةٍ1} : الثلاثة: هي الأب والابن وروح القدس: وكلها إله واحد.
{خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} : مضت قبله رسل كثيرون.
{وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} : أي: مريم كانت صديقة كثيرة الصدق في قولها وعملها.
{أَنَّى يُؤْفَكُونَ} : أي: كيف يصرفون عن الحق وقد ظهر واضحاً.
معنى الآيات
مازال السياق في بيان كفر النصارى، ففي السياق الأول ورد كفر من قالوا إن الله هو المسيح بن مريم، وفي هذا السياق كفر من قالوا إن الله ثالث ثلاثة، إذ قال تعالى في هذه
__________
1 أي: أحد ثلاثة، وهو قول الملكانية، والنصطورية، واليعقوبية، ولا يقولون: ثلاثة آلهة، ويتمنعون من ذلك، وهو لازمهم.

الآية(73) {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} يعنون الأب والابن وروح القدس، وبعضهم يقول الأب والابن والأم، والثلاثة إله واحد فأكذبهم تعالى في قيلهم هذا، فقال رداً باطلهم، {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي: وليس الأمر كما يكذبون، وإنما الله إله واحد، وأما جبريل فأحد ملائكته، وعيسى عبده ورسوله، ومريم أمته، فالكل عبد الله وحده الذي لا إله غيره ولا رب سواه. ثم قال تعالى متوعداً هؤلاء الكفرة الكذبة: { وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا1 مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، فأقسم تعالى أنهم إن لم ينتهوا عن قولهم الباطل وهو كفر ليمسنهم عذاب أليم موجع غاية الإيجاع. ثم لكمال رحمته عز وجل دعاهم في الآية الثانية(74) إلى التوبة ليتوب عليهم ويغفر لهم وهو الغفور الرحيم، فقال عز وجل: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ} بترك هذا الكفر والباطل ويستغفرون الله منه، والله غفور للتائبين رحيم بالمؤمنين، وفي الآية الثالثة(75) أخبر تعالى معلماً رسوله الاحتجاج على باطل النصارى، فقال: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ2} فلم يكن رباً ولا إلهاً وإنما هو رسول مفضل قد خلت من قبله رسل مفضلون كثيرون وأمه مريم لم تكن أيضاً إلهاً كما يزعمون، وإنما هي امرأة من نساء بني إسرائيل صديقة3 كثيرة الصدق في حياتها لا تعرف الكذب ولا الباطل وأنها وولدها عيسى عليهما السلام بشران كسائر البشر يدل على ذلك أنهما يأكلان الطعام4 احتياجاً إليه لأن بنيتهما لا تقوم إلا عليه فهل أكل الطعام افتقاراً إليه، ثم يفرز فضلاته، يصلح أن يكون إلهاً. اللهم لا. وهنا قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: انظر يا رسولنا كيف نبين لهم الآيات الدالة بوضوح على بطلان كفرهم، ثم انظر كيف يؤفكون5 عن الحق، أي: كيف يصرفون عنه وهو واضح بين. وفي الآية الأخيرة(76) أمر رسوله أن يقول لأولئك المأفوكين عن الحق المصروفين عن دلائله لا ينظرون فيها أمره أن يقول لهم موبخاً لهم: {أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
__________
1 الآية نص في أن من يقول بقول النصارى كافر مستوجب للعذاب الأليم.
2 فيه قصر موصوف على صفة أي، قصر عيسى على الرسالة لا يتجاوزها إلى الألوهية، ولذا فهو قصر قلب لرد اعتقاد النصارى في أنه الله.
3 صديقة: كثيرة الصدق في قولها وعملها، وفي تصديقها بآيات ربها، وفي تصديقها لابنها، وقد ناداها ساعة ولادته وفي رضاعه، وهل هي مع الصديقية نبية؟ في نداء الملائكة لها ما يرجح نبوتها، والله أعلم.
4 إن من يأكل الطعام وولدته امرأة كيف لا يكون مخلوقًا مربوبًا محدثًا كسائر المخلوقين لم يستطع دفع هذا نصراني مهما أوتى من العلم إلى أنهم يهربون من مواجهة الحق فيقولون تضليلاً لعقولهم وخداعًا لنفوسهم إنه يأكل الطعام بناسوته لا بلاهوته، ومعناه: أن الإنسان اختلط بالإله، وهذه هي الحلولية الباطلة الفاسدة عقلاً وشرعاً وواقعا.
5 يقال: أفكه يأفكه أفكًا، إذا صرفه صرفًا، وهو من باب ضرب.

اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} وهو عيسى وأمه، وتتركون عبادة من يملك ذلك، وهو الله السميع العليم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إبطال التثليث في عقيدة النصارى وتقرير التوحيد.
2- إبراء عيسى ووالدته عليهما السلام من دعوى الألوهية للناس.
3- فتح باب التوبة في وجه النصارى لو أنهم يتوبون.
4- تقرير بشرية عيسى ومريم عليهما السلام بدليل احتياجهما إلى الطعام بنيتهما، ومن كان مفتقراً لا تصح ألوهيته عقلاً وشرعاً.
5- ذم كل من يعبد غير الله إذ كل الخلائق مفتقرة لا تملك لنفسها ولا لعابدها ضراً ولا نفعاً، لا تسمع دعاء من يدعوها، ولا تعلم عن حاله شيئاً، والله وحده السميع لأقوال كل عباده العليم بسائر أحوالهم وأعمالهم، فهو المعبود بحق وما عداه باطل.
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ(77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ(78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(79) تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ(80)

وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(81)}
شرح الكلمات:
{لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ1} : الغلو: الإفراط في الشيء ومجاوزة الحد فيه، فمثلاً أمرنا بغسل اليدين في الوضوء إلى المرفقين فغسلهما إلى الكتفين غلو، أمرنا بتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم فدعاؤه غلو في الدين.
{أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا} : جمع هوى، وصاحب الهوى هو الذي يعتقد ويقول ويعمل بما يهواه لا بما قامت به الحجة وأقره الدليل من دين الله تعالى.
{وَأَضَلُّوا كَثِيراً} : أي: أضلوا عدداً كثيراً من الناس بأهوائهم وأباطيلهم.
{عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ2} : سواء السبيل: وسط الطريق العدل لا ميل فيه إلى يمين ولا إلى يسار.
{لُعِنَ} : دعى عليهم باللعنة التي هي الإبعاد من الخير والرحمة وموجباتها.
{بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} : أي: بسبب عصيانهم لرسلهم، واعتدائهم في دينهم.
{لا يَتَنَاهَوْنَ} : أي: لا نهي بعضهم بعضاً عن ترك المنكر.
{لَبِئْسَ3 مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} : قبح عملهم من عمل وهو تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
{يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} : يوادونهم ويتعاونون معهم دن المؤمنين.
{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ} : أي: لو كانوا صادقين في إيمانهم بالله والنبي محمد صلى الله عليه وسلم ما اتخذوا المشركين في مكة والمدينة من المنافقين أولياء.
معنى الآيات:
مازال السياق في الحديث عن أهل الكتاب يهوداً ونصارى فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} يا رسولنا: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} ، والمراد بهم هنا النصاري: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ
__________
1 الغلو: مصدر غلا يغلو غلوًا في الأمر، إذا جاوز حده المعروف.
2 سواء السبيل هنا المراد به: الإسلام؛ لأنهم ضلوا في دينهم قبل مجيء الإسلام ثم ضلوا عن الإسلام بعد مجيئه.
3 اللام: لام القسم، جيئ بها لتدل عليه، وتؤكد الذم بصورة فظيعة.

غَيْرَ الْحَقِّ} ، أي: لا تتشددوا في غير ما هو حق شرعه الله تعالى لكم، فتبتدعون البدع وتتغالوا في التمسك بها والدفاع عنها، التشدد محمود في الحق الذي أمر الله به اعتقاداً وقولاً وعملاً لا في المحدثات الباطلة، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وهم اليهود، إذ قالوا في عيسى وأمه بأهوائهم فقالوا في عيسى ساحر، وقالوا في أمه بغي وأضلوا كثيراً من الناس بأهوائهم المتولدة عن شهواتهم، وضلوا، أي: وهم اليوم ضالون بعيدون عن جادة الحق والعدل في عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم. هذا ما تضمنته الآية الأولى (77)، أما الآيات بعد فقد أخبر تعالى في الآية الثانية أن بني إسرائيل لعن منهم الذين كفروا على لسان كل من داود في الزبور، وعلى لسان عيسى بن مريم في الإنجيل وعلى لسان محمد صلى الله عليه و سلم في القرآن فقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ1 بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ} . فقد مسخ منهم طائفة قردة، {وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} حيث مسخ منهم خنازير كما لعنوا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم في غير آية من القرآن الكريم، وهذا اللعن هو إبعاد من كل خير ورحمة ومن موجبات ذلك في الدنيا والآخرة سببه ما ذكر تعالى بقوله: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} . أي: بسبب عصيانهم لله تعالى ورسله بترك الواجبات وفعل المحرمات، واعتدائهم في الدين بالغلو والابتداع، وبقتل الأنبياء والصالحين منهم: وأخبر تعالى في الآية الثالثة بذكر نوع عصيانهم واعتدائهم الذي لعنوا بسببه فقال: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ2 فَعَلُوهُ} . أي: كانوا عندما استوجبوا اللعن يفعلون المنكر العظيم ولا ينهى بعضهم بعضاً كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده" . فلما فعلوا ذلك ضرب الله على قلوبهم بعضهم ببعض ثم قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الذين كفروا –إلى قوله- فاسقون" . ثم قال: "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ثم لتأخذن على ليد الظالم ولتأطرنه (تعطفنه) على الحق أطرأ ولتقسرنه على الحق قسراً أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم3" وفي آخر الآية قبح الله تعالى
__________
1 في الآية دليل على جواز لعن الكافر، وإن كان من أولاد الأنبياء، وإن شرف النسب لا يمنع إطلاق اللعنة في حقه: "قرطبي".
2 نقل القرطبي عن ابن عطية رحمهما الله تعالى: أن الإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه وآمن الضرر على نفسه، وعلى غيره من المسلمين، فإن خاف فينكر بقلبه، ويهجر صاحب المنكر ولا يخالطه.
3 أخرجه أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

عملهم فقال: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ} ، أي: اليهود في المدينة يتولون الذين كفروا يعني من المشركين والمنافقين في مكة والمدينة يصاحبونهم ويوادونهم وينصرونهم وهم يعلمون أنهم كفار تحرم موالاتهم في دينهم وكتابهم، ثم قبح تعالى عملهم فقال: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} نتيجة ما حملتهم عليه من الشر والكفر والفساد، وهو سخط الله تعالى عليهم وخلودهم في العذاب من موتهم إلى مالا نهاية له فقال تعالى: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ1 سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} لا يخرجون منه أبداً. ثم زاد تعالى تقرير كفرهم وباطلهم وشرهم وفسادهم فقال: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} كما يجب الإيمان به وبالنبي محمد وبما جاء به من الهدى ودين الحق وما أنزل إليه من القرآن والآيات البينات ما اتخذوا الكفار المشركين والمنافقين أولياء، ولكن علة ذلك أنهم فاسقون إلا قليلاً منهم، والفاسق عن أمر الله الخارج عن طاعته لا يقف في الفساد عند حد أبداً، هذا معنى قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ2 أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ3}.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة الغلو والابتداع في الدين، واتباع أهل الأهواء.
2- العصيان والاعتداء ينتجان لصاحبهما الحرمان والخسران.
3- حرمة السكوت عن المنكر ووخامة عاقبته على المجتمع.
4- حرمة موالاة أهل الكفر والشر والفساد.
5- موالاة أهل الكفر بالمودة والنصرة دون المؤمنين آية الكفر وعلامته في صاحبه.
__________
1 أن: في موضع رفع على الابتداء، والتقدير: لبئس ما قدمت لهم أنفسهم، وهو سخط الله عليهم.
2 في الآية دليل واضح على أن من اتخذ الكافر وليًا لا يكون مؤمنًا، إذ يجره ذلك الولاء إلى قول ما يقول، وفعل ما يفعل، وحتى اعتقاد ما يعتقد، وبذلك يكفر مثله. وشاهده من الحديث: "من تشبه بقوم فهو منهم" .
3 أي: كافرون، إذ فسقوا عند دين الله وخرجوا عنه باليهودية الباطلة، وخرجوا عن الإسلام بالنفاق. فهم كفرة منافقون يهود ملعونون.

المجلد الثاني
تابع سورة المائدة
...
الجُزء السابع
* لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ(86)
شرح الكلمات:
عداوة1 : العداوة: بغض نفسي تجعل صاحبها بعيداً ممن يعاديه فلا يصله بخير، ولا يقربه بمودة، وقد تحمله على إرادة الشر بالعدو.
مودة: المودة: حب نفسي يجعل صاحبه يتقرب إلى من يوده بالخير ودفع الشر.
قسيسين : جمع قسيس: وهو الرئيس الديني لعلمه عند النصارى.
ورهباناً: الرهبان: جمع راهب: مشتق من الرهبة وهو الرجل في النصارى يتبتل وينقطع للعبادة في دير أو صومعة.
ما أنزل إلى الرسول : الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ومما أنزل إليه آيات القرآن الكريم الدالة على تشريف عيسى ووالدته مريم عليهما السلام، وأن عيسى عبدالله
__________
1 {عداوة} منصوب على التمييز مبيّنا لنسبة أشد وكذا مودّة.

الشاهدين : جمع شاهد: من شهد لله بالوحدانية وللنبي محمد بالرسالة واستقام على ذلك.
الصالحين : جمع صالح: وهو من أدّى حقوق الله تعالى كاملة من الإيمان به وشكره على نعمه بطاعته، وأدّى حقوق الناس كاملة من الإحسان إليهم، وكف الأذى عنهم.
فأثابهم الله بما قالوا : جزاهم بما قالوا من الإيمان ووُفِّقوا له من العمل جنات تجري من تحتها الأنهار.
معنى الآيات:
يخبر تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بعداوة كل من اليهود والمشركين للمؤمنين وأنهم أشد عداوة من غيرهم، فيقول {لتجدن1 أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا} أما اليهود فلما توارثوه خَلفاً عن سلف من إنكار الحق. والوقوف في وجه دعاته، إضافة إلى أن أملهم في إعادة مجدهم ودولتهم يتعارض مع الدعوة الإسلامية وأما المشركون فلجهلهم وإسرافهم في المحرمات وما ألفوه لطول العهد من الخرافات والشرك والضلالات. كما أخبر تعالى أن النصارى هم أقرب مودة للذين آمنوا فقال: {ولتجدن أقربهم2 مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى} وعلل تعالى لهذا القرب من المودة بقوله: {ذلك ...} أي كان ذلك بسبب أن منهم قسِّيسين3 ورهباناً فالقسيسون علماء بالكتاب رؤساء دينّيون غالباً ما يؤثرون العدل والرحمة والخير على الظلم والقسوة والشر والرهبان لانقطاعهم عن الدنيا وعدم رغبتهم فيها ويدل عليه قوله: {وأنهم لا يستكبرون} عن الحق وقبوله والقول به ولذا لما عمت المادية المجتمعات النصرانّية، وانتشر فيها الإلحاد والإباحية قلّت تلك المودة للمؤمنين إن لم تكن قد انقطعت. أما توله تعالى: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم
__________
1 اللام في {لتجدن} لام القسم. وهذه الآيات الأربع كالفذلكة لما سبق من الآيات في أهل الكتاب.
2 هذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه إذ هاجر إليه المؤمنون الهجرة الأولى والثانية هروبا من اضطهاد المشركين وأذاهم، ولما بعثت قريش عمرو بن العاص وعبدالله بن ربيعة بهدايا تطالب برد المهاجرين إليها دعا النجاشي الرهبان والقسس وأسمعهم جعفر بن أبي طالب سورة مريم فبكوا حتى فاضت أعينهم من الدمع فنزلت هذه الآية.
3 جمع قسّ ويجمع على قساوسة، والرهبان جمع راهب كراكب وركبان وفعله رهب يرهب رهباً ورهبا ورهبة إذا خاف والرهبانية والترهب التعبّد في صومعة أو دير.

تفيض1 من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين} فالمعنيُّ بها من أسلم من النصارى بمجرد أن تُلي عليهم القرآن وسمعوه كأصحمة النجاشى وجماعة كثيرة ومعنى قولهم {فاكتبنا مع الشاهدين} أنهم بعد ما سمعوا القرآن تأثروا به فبكوا من أجل ما عرفوا من الحق وسألوا الله تعالى أن يكتبهم مع الشاهدين ليكونوا معهم في الجنة، والشاهدون هم الذين شهدوا لله تعالى بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، وأطاعوا الله ورسوله من هذه الأمة وقولهم: (ومالنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا2 مع القوم الصالحين} فإن معناه: أي شيء يمنعنا من الإيمان بالله رباً وإلهاً واحداً لا شريك له ولا ولد ولا والد. وبما جاء من الحق في توحيده تعالى ونبّوة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ومن الطمع في أن يدخلنا ربنا الجنة مع الصالحين من هذه الأمة. ولما قالوا هذا أخبرهم تعالى أنه أثابهم به {جنات3 تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها}، وأخبر تعالى أن ذلك الجزاء الذي جزاهم به هو {جزاء المحسنين} وهم الذين أحسنوا القول والعمل مع سلامة عقائدهم، وطهارة أرواحهم حيث لم يتلوثوا بالشرك والمعاصي ثم أخبر تعالى بأن الذين كفروا4 بالله إلهاً واحداً وبرسوله نبياً ورسولاً، وكذبوا بآياته القرآنية أولئك البعداء هم أصحاب5 الجحيم الذين لا يفارقونها أبداً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عظم عداوة اليهود والمشركين للإسلام والمسلمين.
2- قرب النصارى الصادقين في نصرانيتهم من المسلمين.
3- فضيلة التواضع، وقبح الكبر.
__________
1 تفيض أعينهم من الدمع أي بالدمع: وحروف الجرّ تتناوب قال امرؤ القيس:
ففاضت دموع العين مني صبابة ... على النحر حتى بَلَّ دمعي مِحملي
أي غلاف السيف.
2 في الكلام إضمار أي: ونطمع أن يدخلنا ربنا الجنة مع القوم الصالحين، وهم امّة محمد صلى الله عليه وسلم الصادقين الصالحين.
3 دل هذا الجزاء الحسن على إخلاص إيمانهم وصدق مقالهم إذ به أجاب الله سؤالهم وحقق طمعهم ورجاءهم وهكذا كل من خلص إيمانه وصدق يقينه يكون ثوابه الجنة.
4 في هذا احتراس إذ ما كل النصارى آمنوا لما سمعوا القرآن وبكوا وسألوا الله في صدقٍ وآمنوا وعملوا الصالحات فأثابهم الله الجنة، لا بل منهم الذين كفروا وكذبوا وهم الأكثرون فجزاؤهم الجحيم يلازمونها أبداً لظلمة قلوبهم وخبث نفوسهم.
5 يقال: نار جحمة على وزن نجمة أي: شديدة اللهب قال شاعر الحماسة الطائي:
نحن حبسنا بني جديلة في ...
نار من الحرب جحمةِ الضرَم

4- فضل هذه الأمة وكرامتها على الأمم قبلها.
5- فضل الكتابي إذا أسلم. وحسن إسلامه.
6- بيان مصير الكافرين والمكذبين وهو خلودهم في نار جهنم.
7- استعمال القرآن أسلوب الترغيب والترهيب بذكره الوعيد بعد الوعد.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(87) وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ(88) لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(89)
شرح الكلمات:
لا تحرموا : التحريم: المنع أي لا تمتنعوا.
مما أحل الله لكم: أي ما أباحه لكم وأذن لكم فيه من نكاح وطعام وشراب.
حلالاً طيباً: مباحاً غير مستقذر ولا مستخبث.
لا يؤاخذكم الله باللغو: لا يعاقبكم الله باللغو الذي هو ما كان بغير قصد اليمين.
عقدتم الأيمان : عزمتم عليها بقلوبكم بأن تفعلوا أو لا تفعلوا.
من أوسط : أغلبه ولا هو من أعلاه، ولا هو من أدناه.
أهليكم: من زوجة وولد.

تحرير رقبة: عتقها من الرق القائم بها.
يبين الله لكم آياته : المتضمنة لأحكام دينه من واجب وحلال وحرام.
معنى الآيات:
الآيتان الأولى (87) والثانية (88) نزلتا في بعض1 الصحابة منهم عبدالله بن مسعود وعثمان بن مظعون وغيرهما كانوا قد حضروا موعظة وعظهم إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم فزهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة. وعزموا على التبتل والانقطاع عن الدنيا فأتوا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وسألوها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيامه فكأنهم تقالّوا ذلك فقال أحدهم: أنا لا آتي النساء، وقال آخر: أنا أصوم لا أفطر الدهر كله وقال آخر: أنا أقوم فلا أنام، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب الناس، وقال: "ما بال أقوام يقولون كذا وكذا وإني وأنا رسول الله لآكل اللحم، وأصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" ونزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات2 ما أحل الله لكم} من طعام وشراب ونساء، {ولا تعتدوا} بمجاوزة3 ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم فإن الله تعالى ربكم {لا يحب المعتدين} {وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً} أما الحرام فلا يكون رزقاً لكم، {واتقوا الله} أي خافوه بترك الغلوّ والتنطع المفضى بكم إلى الترهب ولا رهبانية في الإسلام. {الذي أنتم به مؤمنون} أي رباً يشرع فيحلل ويحرم، وإلهاً يطاع ويعبد، هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية أما الآية الثالثة وهي قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} فقد نزلت لما قال أولئك الرهط من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم: "لقد حلفنا على ما عزمنا عليه من التبتل فماذا نصنع بأيماننا" فبين لهم تعالى ما يجب عليهم في أيمانهم لما حنثوا فيها بعدولهم عما حلفوا عليه فقال: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} وهو ما لا قصد للحلف فيه وإنما جرى لفظ اليمين على اللسان فقط نحو: لا والله أو بلى والله، ومثله أن
__________
1 أخرج البخاري عن أنس قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته فلمّا أخبروا كأنّما تقالّوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له من ذنبه ما تقدّم وما تأخّر، فقال أحدهم أمّا أنا فإني أصلي الليل أبداً وقال آخر أمّا أنا فأصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر أمّا أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج أبداً فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما واللَّه إنّي لأخشاكم للَّه واتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني".
2 قالت العلماء هذه الآية وما شابهها والأحاديث الواردة في معناها تردّ على غلاة المترهبين وأهل البطالة من المتصوفين، وقال الطبري لا يجوز لمسلم تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من الطيبات.
3 إذا حرّم العبد على نفسه شيئاً لا يحرم عليه إلاّ امرأته فإنّها تحرم عليه بالطلاق.

يحلف على الشيء يظنه كذا فيظهر على خلاف ما ظن، {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} أي قصدتموها عازمين1 عليها، فمن حنث بعد الحلف فالواجب في حقه خروجاً من الإثم كفَّارة وهي {إطعام عشرة مساكين} لكل مسكين نصف صاع أي مدَّان2 من أعدل {ما تطعمون أهليكم} ما هو بالأجود الغالي، ولا بالأردأ الرخيص، {أو كسوتهم} كقميص وعمامة، أو إزار ورداء، {أو تحرير رقبة} أي عتق رقبة مؤمنة ذكراً كان أو أنثى صغيرة أو كبيرة فهذه الثلاثة المؤمن مخيّر في التكفير بأيها شاء، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام مفرقة أو متتابعة كما شاء هذا معنى قوله تعالى {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام}، وقوله {ذلك كفارة أيمانكم} أي هذا الذي بين لكم هو ما تكفِّرون به ما علق بنفوسكم من إثم الحنث. وقوله {واحفظوا أيمانكم3} أي لا تكثروا الحلف فتحنثوا فتأثموا فتجب عليكم الكفارة لذلك. وقوله تعالى: { كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون} معناه مثل هذا التبيين الذي بينه لكم في مسألة الحنث في اليمين والكفارة له يبين لكم آياته المتضمنة لشرائعه وأعلام دينه ليعدكم بذلك لشكره بطاعته بفعل ما يأمركم به وترك ما ينهاكم عنه، فله الحمد والمنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة تحريم ما أباح الله، كحرمة تحليل ما حرم الله عز وجل.
2- بيان مدى حرص الصحابة على طاعة الله خوفاً من عقابه وطمعاً في إنعامه.
3- حرمة الغلو في الدين والتنطع فيه.
4- بيان كفارة اليمين بالتفصيل.
__________
1 هذا إذا لم يستثن بأن يقول إلاّ أن يشاء الله أمّا من استثنى فلا كفارة عليه إذ لا إثم مع الاستثناء ولابد للاستثناء من النطق يقول: إلاّ أن يشاء الله ولا يتم إلاّ بتحريك لسانه وشفتيه.
2 وفي الآية وجه آخر ذكره القرطبي وهو أن يبادر إلى إخراج الكفارة إذا حنث وهذا حفظها من النسيان ظاهر.
3 قال العلماء: الأيمان أربعة: يمينان يكفر فيهما إذا حنث ويمينان لا كفارة فيهما فالأوّلان أن يقول: والله لأفعلن كذا ثم يحنث والثاني أن يقول: والله لا أفعل كذا ويحنث، واللّذان لا كفارة فيهما: الأولى: لغو اليمين وهو أن يحلف على الشيء يظنه كذا فيظهر خلافه، والثانية: أن يجري على لسانه الحلف وهو غير قاصد نحو: لا والله، بلى والله، والخامسة: اليمين الغموس، وهو أن يحلف متعمّداً الكذب وكفّارتها التوبة لا غير وان كفّر مع التوبة فحسن.

5-كراهة الإكثار من الحلف. وحرمة الحلف1 بغير الله تعالى مطلقاً.
6- استحباب حنث من2 حلف على ترك مندوب أو فعل مكروه، وتكفيره على ذلك أما إذا حلف أن يترك واجباً أو يأتي محرماً فإن حنثه واجب وعيه الكفارة.
7- الأيمان ثلاثة3: لغو: يمين لا كفارة لها إذ لا إثم فيها، الغموس4: وهي أن يحلف متعمداً الكذب ولا كفارة لها إلا التوبة، اليمين المكفَّرة: وهي التي يتعمد فيها المؤمن الحلف ويقصده ليفعل أو لا يفعل ثم يحنث فهذه التي ذكر تعالى كفارتها وبينها.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ (91) وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ(92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(93)
__________
1 لحديث الترمذي: "من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر" وحديث الصحيح: "ألا إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت"..
2 لقوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه".
3 هذا العدد مجمل وقد تقدم تفصيله وأنّ الأيمان خمسة.
4 أخرج البخاري "أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله إعرابي قائلاً يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله قال ثمّ ماذا؟ قال: عقوق الوالدين. قال: ثمّ ماذا؟ قال اليمين الغموس. قلت وما اليمين الغموس؟ قال: التي يقتطع بها مال امرىء مسلم هو فيها كاذب".

شرح الكلمات:
الخمر والميسر : الخمر1: كل مسكر كيفما كانت مادته وقلّت أو كثرت، والميسر: القمار. 2
والأنصاب : الأنصاب: جمع نصب. ما ينصب للتقرب به إلى الله أو التبرك به، أو لتعظيمه كتماثيل الرؤساء والزعماء في العهد الحديث.
الأزلام : جمع زلم: وهي عيدان يستقسمون بها في الجاهلية لمعرفة الخير من الشر والربح من الخسارة، ومثلها قرعة الأنبياء، وخط الرمل، والحساب بالمسبحة.
رجس : الرجس: المستقذر حساً كان أو معنى، إذ المحرمات كلها خبيثة وإن لم تكن مستقذرة.
من عمل الشيطان : أي مما يزينّه للناس ويحببه إليهم ويرغبهم فيه ليضلهم.
فاجتنبوه: اتركوه جانباً فلا تقبلوا عليه بقلوبكم وابتعدوا عنه بأبدانكم.
تفلحون : تكملون وتسعدون في دنياكم وآخرتكم.
ويصدكم: أي يصرفكم.
فهل أنتم منتهون: أي انتهوا فالاستفهام للأمر لا للإستخبار.
جناح فيما طعموا : أي إثم فيما شربوا من الخمر وأكلوا من الميسر قبل تحريم ذلك.
معنى الآيات:
لما نهى الله تعالى المؤمنين عن تحريم ما أحل الله تعالى لهم بَيَّنَ لَهُم ما حرَّمه عليهم ودعاهم إلى تركه واجتنابه لضرره بهم، وإفساده لقلوبهم وأرواحهم فقال تعالى : {يا أيها الذين3 آمنوا} أي يا من صدقتم بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً اعلموا {إنما الخمر والميسر
__________
1 صحَّ عن عمر رضي الله عنه أنه خطب يوماً فقال: "أيّها الناس ألا إنّه قد نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة: من العنب والتمر، والعسل والحنطة والشعير" والخمر ما خامر العقل أي: ستره وغطّاه فأصبح المرء يهذي ويقول الخطأ والصواب.
2 ما دامت علّة التحريم في الخمر والميسر هي إثارة العداوة بين إخوة الإيمان، والصدّ وهو الإلهاء عن ذكر الله وعن الصلاة فإن كل ما ينشأ عنه إثارة العداوة والصدّ عن الذكر والصلاة فهو حرام.
3 هذه الآية نزلت بعد وقعة أحد وكانت في السنة الثالثة من الهجرة أي في آخرها ولكنها وقعت هنا في سورة المائدة بعد نزولها وهذه الآية هي الناسخة لإباحة الخمر ويروى في سبب نزولها أن ملاحاة كانت بين سعد بن أبي وقاص ورجل من الأنصار سببها شرب خمر في ضيافة لهم.

والأنصاب1 والأزلام رجس} أي سخط وقذر مما يدعو إليه الشيطان ويزيّنه للنفوس ويحسنه لها لترغب فيه، وهو يهدف من وراء ذلك إلى إثارة العداوة والبغضاء بين المسلمين الذين هم كالجسم الواحد. وإلى صدهم عن ذكر الله الذي هو عصمتهم وعن الصلاة التي هي معراجهم إلى الله ربهم، وآمرتهم بالمعروف وناهيتهم عن المنكر، ثم أمرهم بأبلغ أمر وأنفذه إلى قلوبهم لخطورة هذه المحرمات الأربع وعظيم أثرها في الفرد والمجتمع بالشر والفساد فقال: {فهل أنتم منتهون2؟!} وأمرهم بطاعته وطاعة رسوله وحذرهم من مغبة المعصية وآثارها السيئة فقال {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا} مغبة ذلك ثم أعلمهم أنهم إن تولوا عن الحق بعدما عرفوه فالرسول لا يضيره توليهم، إذ ما عليه إلا البلاغ المبين وقد بلّغ وأما هم فإن جزاءهم على توليهم سيكون جزاء الكافرين وهو الخلود في العذاب المهين. هذا معنى قوله: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأحذروا فإن توليتم فاعلموا3 أنما على رسولنا البلاغ المبين} وقوله تعالى في الآية الأخيرة (93) {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا4 وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين} فقد نزلت لقول بعض الأصحاب5 لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله ما بال الذين ماتوا من إخواننا وهم يشربون الخمر ويلعبون الميسر؟" أي كيف حالهم فهل يؤاخذون أو يعفى عنهم فأنزل الله تعالى هذه الآية فأعلم أنهم ليس عليهم جناح أي إثم أو مؤاخذة فيما شربوا وأكلوا قبل نزول التحريم بشرط أن يكونوا قد اتقوا الله في محارمه وآمنوا به وبشرائعه، وعملوا الصالحات استجابة لأمره وتقرباً إليه. فكان رفع الحرج عليهم مقيداً بما ذكر. وقوله: {ثم اتقوا...} كما لا جناح6 على الأحياء فيما طعموا وشربوا قبل التحريم
__________
1 ذكر الأنصاب والأزلام مع الخمر والميسر المقصود منه تأكيد التحريم وتقويته نظراً لما ألفته النفوس منهما، والمراد من تحريم الأنصاب تحريم عبادتها وصنعها، وبيعها
2 هذه الصيغة تستعمل للحث على الفعل إذا المأمور بدا عليه التراخي أو عدم الاهتمام مما أمر بفعله أو تركه. والفاء في { فهل أنتم} تفريع عن قوله: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم..} الآية، والمأمور بالانتهاء عنه هو الخمر والميسر فلذا يقدّر عنهما بعد {منتهون}.
3 {فاعلموا} جواب الشرط أي فإن توليتم عن طاعة الله والرسول فاعلموا أن توليكم لا يضر الرسول شيئا إنما على الرسول البلاغ وقد بلّغكم.
4 جملة: {ثم اتقوا وآمنوا} تأكيد لفظي لجملة: {إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات}.
5 يروى أن القائل: أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو سؤال إشفاق ورحمة على من مات وهو يشرب هذا المحرم.
6 الجناح، الإثم المترتب عن الجنح الذي هو الميل إلى المعصية وعدم الطاعة.

وبشرط الإيمان، والعمل الصالح والتقوى لسائر المحارم، ودوام الإيمان والتقوى والإحسان في ذلك بالإخلاص فيه لله تعالى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة الخمر والقمار، وتعظيم الأنصاب والاستقسام بالأزلام.
2- وجوب الانتهاء من تعاطي هذه المحرمات فوراً وقول انتهينا يا ربنا كما قال عمر رضي الله عنه.
3- بيان علة تحريم شرب الخمر ولعب الميسر وهي إثارة العداوة والبغضاء بين الشاربين واللاعبين والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهما قوام حياة المسلم الروحية.
4- وجوب طاعة الله والرسول والحذر من معصيتهما.
5- وجوب التقوى حتى الموت ووجوب الإحسان في المعتقد والقول والعمل.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ(94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ(95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(96)

شرح الكلمات:
ليبلونكم : ليختبرونكم.
الصيد1 : ما يصاد. 2
تناله أيديكم3 : كبيض الطير وفراخه.
ورماحكم : جمع رمح، وما ينال به هو الحيوان على اختلافه.
ليعلم القه من يخافه بالغيب : : ليظهر الله تعالى بذلك الاختبار من يخافه بالغيب فلا يصيد.
فمن اعتدى (بعد التحريم): بأن صاد بعد ما بلغه التحريم.
وأنتم حرم: جمع حرام والحرام: المُحرم لحج أو عمرة ويقال رجل حرام وامرأة حرام.
من النعم: النعم: الإبل والبقر والغنم.
ذوا عدل منكم : أي صاحبا عدالة من أهل العلم.
وبال أمره : ثقل جزاء ذنبه حيث صاد والصيد حرام.
وللسيارة : المسافرين يتزوّدون به في سفرهم. وطعام البحر ما يقذف به إلى الساحل.
معنى الآيات:
ينادي الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين ليعلمهم مؤكداً خبره بأنه يبلوهم اختباراً لهم ليظهر4 المطيع من العاصي فقال: {يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب} فحرم عليهم تعالى الصيد وهم حرم ثم ابتلاهم بوجوده بين أيديهم بحيث تناله أيديهم ورماحهم بكل يسر وسهولة على نحو ما ابتلى به بني إسرائيل في تحريم الصيد يوم السبت فكان السمك يأتيهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا يأتيهم كذلك بلاهم ربهم بما كانوا يفسقون بيد أن المسلمين استجابوا لربهم
__________
1 أُذن للمحرم ولمن في الحرم في قتل ما يؤذي كالحية والعقرب، والغراب والفأرة وكل ما يؤذي كالأسد والنمر والذئب والفهد لقوله صلى الله عليه وسلم: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحدأة".
2 الصيد مصدر صاد بصيد صيداً وأطلق المصدر على اسم المفعول: المصيد فقالوا: صيدٌ.
3 قوله: {تناله أيديكم} يريد صغار الصيد، وفراخه وبيضه. {ورماحكم} هو كبار الصيد الذي لا يؤخذ باليد ولكن بآلة الصيد.
4 أي ليظهر ذلك لهم إقامة للحجة عليهم أما هو سبحانه وتعالى فعلمه بذلك أزلي سابق.

وامتثلوا أمره، على خلاف بني إسرائيل فإنهم عصوا وصادوا فمسخهم قردة خاسئين. وقوله تعالى {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}، أي فمن صاد بعد هذا التحريم فله عذاب أليم هذا ما دلت عليه الآية الأولى (94). أما الآية الثانية (95) وهي قوله تعالى: {يا أيها1 الذين آمنوا لا تقتلوا2 الصيد وأنتم حرم} فأكد لهم تحريم الصيد وبين لهم ما يترتب على ذلك من جزاء فقال {ومن قتله منكم متعمداً} فالحكم الواجب على من قتله جزاءً {مثل ما قتل من النعم} وهى الإبل والبقر والغنم {يحكم به ذوا عدل منكم} فالعدلان ينظران إلى الصيد وما يشبهه من النعم فالنعامة تشبه الجمل وبقرة الوحش تشبه البقرة، والغزال يشبه التيس وهكذا فإن شاء3 من وجب عليه بعير أو بقرة أو تيس أن يسوقه إلى مكة الفقراء الحرم فليفعل وأن شاء اشترى بثمنه طعاماً وتصدق به، وإن شاء صام بدل كل نصف صاع يوماً لقوله تعالى: {هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما} وقوله تعالى: {ليذوق وبال أمره} أي ثقل جزاء مخالفته وقوله تعالى: {عفا الله عما سلف} أي ترك مؤاخذتكم على ما مضى، وأما مستقبلاً فإنه تعالى يقول: {ومن عاد فينتقم4 الله منه والله عزيز ذو انتقام} ومعناه أنه يعاقبه على معصيته ولا يحول دون مراده تعالى حائل ألا فاتقوه واحذروا الصيد وأنتم حرم، هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الثالثة (96) فقد أخبر تعالى بعد أن حرم على المؤمنين الصيد وهم حرم وواجب الجزاء على من صاد. أخبر أنه امتناناً منه عليهم أحل لهم صيد البحر أي ما يصيدونه من البحر وهم حرم كما أحل لهم طعامه وهو ما يقذفه البحر من حيوانات5 ميتة على ساحله {متاعا لكم وللسيارة} وهم المسافرون يتزودون به في سفرهم ويحرم عليهم صيد البر ما داموا حرماً، وأمرهم بتقواه أي بالخوف من عقوبته فيلزموا طاعته بفعل ما أوجب وترك ما حرم، وذكرهم بحشرهم جميعاً إليه يوم القيامة للحساب والجزاء فقال: {واتقوا الله الذي إليه تحشرون}.
__________
1 روي أن أبا اليسر عمرو بن مالك الأنصاري قتل حمار وحش وهو محرم بعمرة عام الحديبية فنزلت هذه الآية.
2 القتل لغة: إفاتة الروح وهو أنواع منها النحر، والذبح، والخنق، والرضخ وشبهه.
3 قالت العلماء: ما يجزىء من الصيد شيئان دواب وطير فيجزىء ما كان من الدواب بنظيره في الخلقة والصورة ففي النعامة بدنه والطير: القيمة إلا الحمام ففيه شاة.
4 الجمهور أنّ مَنْ صاد ودفع الجزاء ثمّ صاد كلما صاد لزمه الفداء، وبعض أهل العلم يرى أنه لا يحكم عليه بشيء ويترك لله تعالى ويقال له: ينتقم الله منك.
5 مذهب مالك حلية ميتة البحر مطلقا لحديث: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وحديث العنبر.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ابتلاء الله تعالى لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية بكثرة الصيد بين أيديهم. وحرم عليهم صيده فامتثلوا أمر الله تعالى ولم يصيدوا فكانوا خيراً من بني إسرائيل وأفضل منهم على عهد أنبيائهم.
2- تحريم الصيد على المحرم إلا صيد البحر فإنّه مباح له.
3- بيان جزاء من صاد وهو محرم وأنه جزاء مثل ما قتل من النعم.
4- وجوب التحكيم فيما صاده المحرم، ولا يصح أن يكفر الصائد بنفسه.
5- صيد الحرم حرام على الحرام من الناس والحلال.
جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(97) اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(98) مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ(99) قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(100)
شرح الكلمات:
الكعبة : الكعبة كل بناء مربع والمراد بها هنا بيت الله الحرام.
قياماً للناس: يقوم به أمر دينهم بالحج إليه والاعتمار ودنياهم بأمن داخله وجبي ثمرات كل شيء إليه.

الشهر الحرام: أي المحرم والمراد به الأشهر الحرم الأربعة رجب والقعدة والحجة ومحرم.
الهدي : ما يهدى إلى البيت من أنواع الهدايا.
والقلائد : جمع قلادة ما يقلده البعير أو البقرة المهدى إلى الحرم.
البلاغ: بلاغ ما أمره بإبلاغه.
ما تبدون وما تكتمون : أي ما تظهرون وما تخفون.
الخبيث: مقابل الطيب وهو الحرام وهو عام في المحسوسات والمعقولات.
أولي الألباب: أصحاب العقول.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {جعل1 الله الكعبة البيت الحرام2 قياماً للناس} المراد من الناس العرب في جاهليتهم قبل الإسلام ومعنى قياماً: أن مصالحهم قائمة على وجود البيت يحج ويعتمر يأمن الآتي إليه والداخل في حرمه، وكذا الشهر3 الحرام وهي أربعة أشهر القعدة والحجة ومحرم ورجب4، وكذا الهدي وهو ما يهدى إلى الحرم من الأنعام، وكذا القلائد جمع قلادة وهي ما يقلده الهدي إشعاراً بأنه مهدى إلى الحرم، وكذا ما يقلده الذاهب إلى الحرم نفسه من لِحَاءَ5 شجر الحرم إعلاماً بأنه آت من الحرم أو ذاهب إليه فهذه الأربعة البيت الحرام والشهر الحرام والهدى والقلائد كانت تقوم مقام السلطان بين العرب فتحقق الأمن والرخاء في ديارهم وخاصة سكان الحرم من قبائل قريش فهذا من تدبير الله تعالى لعباده وهو دال على علمه وقدرته وحكمته ورحمته ولذا قال تعالى: {ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم} أي حقق ذلك الأمن والرخاء في وقت لا دولة لكم فيه ولا نظام ليعلمكم أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض من سائر الكائنات وشتى
__________
1 الله الذي أوجد الكعبة إذ أمر خليله ببنائها فبناها هذا الإيجاد الأخير أمّا الأول فكان على عهد آدم عليه السلام، وجعل هنا بمعني صيرها كذلك أي قياماً للناس الذين هم العرب.
2 قياماً وقيما وهما من ذوات الواو فقلبت الواو ياء لأن أصل الفعل قام يقوم قواماً،، وقياماً.
3 الشهر: اسم جنس ولذا أريد به هنا الأشهر الحرم الأربعة.
4 يقال له رجب الأصم لأنه لا يسمع فيه قعقعة السلاح ويقال: رجب مضر لأن مضر كانت تعظّمه أكثر من غيره، والأصب حيث يصب فيه الخير صبَّاً.
5 لِحاء ككِساء : قشر الشجر.

المخلوقات لا يخفى عليه من أمرها شيء، وأنه بكل شيء عليم فهو الإله الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه فاعبدوه، وتوكلوا عليه واتركوا عبادة غيره والنظر إلى سواه، وإن لم تفعلوا فسوف يعاقبكم بذلك أشد العقوبة وأقساها فإنه عز وجل شديد العقاب فاعلموا ذلك واتقوه.
هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (97) والثانية (98) أما الآية الثالثة (99) فقد أكدت مضمون قوله تعالى في الآية الثانية {اعلموا أن الله شديد العقاب} وهو وعيد شديد فقال تعالى {ما على الرسول إلا البلاغ} 1 وقد بلَّغ، فأنذر وأعذر، وبقي الأمر إليكم إن أنبتم إلى ربكم وأطعتموه فإنه يغفر لكم ويرحمكم لأنه غفور رحيم، وإن أعرضتم وعصيتم فإنه يعلم ذلك منكم ويؤاخذكم به ويعاقبكم عليه وهو شديد العقاب وقوله {والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} وعد ووعيد لأن علمه تعالى بالظواهر والبواطن يترتب عليه الجزاء فإن كان العمل خيراً كان الجزاء خيراً وإن كان العمل شراً كان الجزاء كذلك.
هذا مضمون الآية الثالثة أما الرابعة (100) فإنه تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم قل للناس أيها الناس أنه {لا يستوي الخبيث2} من المعتقدات والأقوال والأعمال والرجال والأموال3، {والطيّب} منها، ولو أعجبتكم4 أي سرتكم كثرة الخبيث فإن العبرة ليست بالكثرة والقلة وإنما هي بالطيب النافع غير الضار ولو كان قليلاً، وعليه {فاتقوا الله يا أولي الألباب} أي خافوه فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه رجاء حصول الفلاح لكم بالنجاة من المرهوب والحصول على المرغوب المحبوب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان عظيم تدبير الله تعالى لخلقه، إذ أمّن مصالح قريش والعرب فأوجد لهم أمناً
__________
1 أي ليس عليه هداية الناس ولا التوفيق ولا الثواب. وأصل البلاغ: البلوغ وهو الوصول، بلغ المكان يبلغه وصل إليه، وأبلغه الشيء أوصله إليه فعلى الرسول إبلاغ أمر الله ونهيه وأخباره إلى عباده بأسلوب بلاغي يصل به إلى نفوسهم في أطيب لفظ وأحسنه.
2 الخبيث لا يساوي الطيب مقداراً ولا انفاقاً ومكاناً ولا ذهاباً فالطيب يأخذ جهة اليمين، والخبيث يأخذ ذات الشمال، والطيّب والطيّبون في الجنة، والخبيث والخبثاء في النار.
3 قالت العلماء: في قوله: {لا يستوي الخبيث} الآية دليل على أنّ البيع الفاسد يفسخ ويرد الثمن على المبتاع وشاهده من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ".
4 الخطاب في قوله {ولو أعجبك كثرة الخبيث} الخطاب صالح لكل من هو أهل للخطاب والانتفاع به من عقلاء هذه الأمة ولذا قلت في التفسير ولو أعجبتكم ولم أقل: أعجبتك.

واستقراراً وتبع ذلك هناءة عيش وطيب حياة بما ألقى في قلوب عباده من احترام وتعظيم للبيت الحرام والشهر الحرام، والهدي والقلائد، الأمر الذي لا يقدر عليه إلا الله.
2- بيان مسئولية الرسول أزاء الناس وأنها البلاغ لا غير وقد بلغ صلى الله عليه وسلم.
3- تقرير الحكمة القائلة العبرة بالكيف لا بالكم فمؤمن واحد أنفع من عشرة كفرة ودرهم حلال خير من عشرة حرام وركعتان متقبلتان خير من عشرة لا تقبل.
4- الأمر بالتقوى رجاء فلاح المتقين. 1
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ(104)
شرح الكلمات:
إن تبد لكم: تظهر لكم تضركم.
__________
1 من الأحناف من يمنع الحبس، والوقف تعلّقاً واستدلالاً بهذه الآية وهو محجوج بإجماع الصحابة لحديث عمر في الصحيح إذ قال له الرسول صلى الله عليه وسلم "احبس الأصل وسبّل الثمرة".
2 وذلك إذا نتجت خمسة أبطن فإن كان الخامس ذكراً نحروه فأكله الرجال والنساء وإن كان أنثى بحروا أذنها أي شقوها وكانت حراماً على النساء لحمها ولبنها، والسائبة، بعير يسيب بنذر ينذره أحدهم للآلهة إن حصل له كذا سيّب كذا وتترك فلا تمنع من رعي ولا ماء ولا يركبها أحد.

عفا الله عنها : سكت عنها فلم يذكرها أو لم يؤاخذكم بها.
سألها قوم : طلبها غيركم من الأمم السابقة.
ما جعل الله : أي ما شرع.
بحيرة ولا سائبة : البحيرة: الناقة تبحر أذنها أي تشق، والسائبة: الناقة تسيّب.
ولا وصيلة ولا حام: الوصيلة: الناقة يكون أول إنتاجها أنثى، والحام: الجمل يحمى ظهره للآلهة.
ما أنزل الله: من الحق والخير.
ما وجدنا عليه آباءنا: من الباطل والضلال.
معنى الآيات:
لقد أكثر بعض الصحابة من سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تضايق منهم فقام خطيباً فيهم وقال: "لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم". . فقام رجل يدعى عبدالله بن حذافة كان إذا تلامى مع رجل دعاه إلى غير أبيه فقال من أبي يا رسول الله؟ فقال: أبوك حذافة، وقال أبو هريرة: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ولو قلت نعم، لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم" فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء1 إن تبد لكم تسؤكم} أي تظهر لكم جواباً لسؤالكم يحصل لكم بها ما يسؤكم ويضركم، {وإن2 تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم} أي يبينها رسولنا لكم. أما أن تسألوا عنها قبل نزول القرآن بها فذلك مالا ينبغي لكم لأنه من باب إحفاء رسول الله وأذيته ثم قال تعالى لهم: {عفا الله عنها} أي لم يؤاخذكم بما سألتم {والله غفور حليم}، فتوبوا إليه يتب3 عليكم واستغفروه يغفر لكم ويرحمكم فإنه غفور رحيم. وقوله تعالى: {قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين} أي قد سأل أسئلتكم التنطعية
__________
1 ممنوع من الصرف لأنّه مشبه بحمراء. في الآية دليل على كراهة السؤال لغير حاجة وفي صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرّم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعاً وهات، وكره لكم ثلاثاً: قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال".
2 إن قيل: ما وجه أنه تعالى نهاهم عن السؤال ثم أذن لهم بقوله: {وإن تسألوا عنها..} الخ؟ الجواب: إن تسألوا عن غيرها مما دعت الحاجة إليه، ففي الكلام حذف مضاف كما قدّمناه فتأمله.
3 بعد انقطاع الوحي أمن الناس من نزول ما قد يسوء ومع هذا فإن سؤال التنطع والتعنت مكروه دائماً وفي الحديث الصحيح: "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه".

المحرجة هذه قوم من قبلكم {فأصبحوا بها كافرين1} ، لأنهم كلفوا ما لم يطيقوا وشق عليهم جزاء تعنتهم في أسئلتهم لأنبيائهم فتركوا العمل بها فكفروا. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (101) والثانية (102) وأما الثالثة (103) فقد قال تعالى: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} ومن الجائز أن يكون هناك من يسأل الرسول عن البحيرة وما بعدها فأنزل الله تعالى قوله: {ما جعل الله من بحيرة} أي ما بحر الله بحيرة ولا سيب سائبة ولا وصل وصيلة ولا حَمَى حَامِياً، ولكن الذين كفروا هم الذين فعلوا ذلك افتراء على الله وكذباً عليه {وأكثرهم لا يعقلون} ، ولو عقلوا ما افتروا على الله وابتدعوا وشرعوا من أنفسهم ونسبوا ذلك إلى الله تعالى، وأول من سيب السوائب وغير دين إسماعيل عليه السلام عمرو بن لحي الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجرُّ قصَبه في النار أي أمعاءه في جهنم. هذا ما تضمنته الآية الثالثة أما الرابعة (104) فقد أخبر تعالى أن المشركين المفترين على الله الكذب بما ابتدعوه من الشرك إذ قيل لهم {تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول} ليبين لكم كذبكم وباطلكم في بحر البحائر وتسييب السوائب، يرفضون الرجوع إلى الحق ويقولون: {حسبنا} أي يكفينا {ما وجدنا عليه آباؤنا} فلسنا في حاجة إلى غيره فرد تعالى عليهم منكراً عليهم قولهم الفاسد {أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً} أي يتبعونهم ويحتجون بباطلهم ولو كان أولئك الآباء جهالاً حمقاً لا يعقلون شيئاً من الحق، {ولا يهتدون} إلى خير أو معروف.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- كراهية الإلحاف في السؤال والتقعر في الأسئلة والتنطع فيها.
2- حرمة الابتداع في الدين وأنه سبب وجود الشرك في الناس.
3- وجوب رد المختلف فيه إلى الكتاب والسنة والرضا بحكمهما.
4- حرمة تقليد الجهال واتباعهم في أباطيلهم.
__________
1 من أمثلة ذلك: سؤال قوم صالح الناقة، وقوم عيسى المائدة، وفي الآية تحذير للمؤمنين أن يقعوا فيما وقع فيه غيرهم فيهلكوا كما هلكوا. وفي صحيح مسلم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرْم عن المسلمين فحرم من أجل مسألته".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(105)
شرح الكلمات:
آمنوا : صدقوا الله ورسوله واستجابوا لهما بفعل المأمور وترك المنهي.
عليكم أنفسكم1 : ألزموا أنفسكم هدايتها وإصلاحها.
إذا اهتديتم : إلى معرفة الحق ولزوم طريقه.
إلى الله مرجعكم جميعا : ضلاّلاً ومهتدين.
فينبئكم: يخبركم بأعمالكم ويجازيكم بها.
معنى الآية الكريمة :
ينادي الله تعالى عباده المؤمنين فيقول : {يا أيها الذين آمنوا} أي صدقوا بالله ورسوله ووعد الله ووعيده {عليكم أنفسكم2} ألزموها الهداية والطهارة بالإيمان والعمل الصالح وإبعادها عن الشرك والمعاصي، {لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}: أي أن ضلال غيركم غير ضار بكم إن كنتم مهتدين إذ لا تزر وازرة وزر أخرى، كل نفس تجزى بما كسبت لا بما كسب غيرها ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها إلا أن من الاهتداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن ترك المؤمنون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعتبرون مهتدين إذ بالسكوت عن المنكر يكثر وينتشر ويؤذِّي حتماً إلى أن يضلّ المؤمنون فيفقدون هدايتهم ولذا قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه خطيباً يوماً فقال: "يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية: {يا أيها الذين3 آمنوا عليكم أنفسكم4.. الخ} وإنكم تضعونها5 على غير
__________
1 وإن قيل في معنى احفظوا أنفسكم من الوقوع في المعاصي لكان وجيهاً لأنّ عليكم اسم فعل بمعنى احفظ كذا.
2 في الآية التحذير مما وقع فيه مَنْ تقدّم ذكرهم من التقليد الأعمى والابتداع المضر المهلك وهو وجه المناسبة بين هذه الآية وما سبقها من الآيات.
3 قيل هذه الآية هي الوحيدة التي جمعت بين الناسخ والمنسوخ، فالناسخ فيها قوله: {إذا اهتديتم} والمنسوخ هو {عليكم أنفسكم} إذ من اهتدى لا يضره من ضل ولا تتم الهداية إلا بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
4 أنفسكم منصوب على الإغراء الدال عليه اسم الفعل عليكم.
5 ورد بدل تضعونها... إلخ : وتتأوّلونها على غير تأويلها.

موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب" وقوله تعالى: {إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون} فيه وعد ووعيد، وعد لمن أطاع الله ورسوله، ووعيد لمن عصاهما.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب إصلاح المؤمن نفسه وتطهيرها من آثار الشرك والمعاصي وذلك بالإيمان والعمل الصالح.
2- ضلال الناس لا يضر المؤمن إذا أمرهم بالمعروف1 ونهاهم عن المنكر.
3 تقرير مبدأ البعث الآخر.
4- للعمل أكبر الأثر في سعادة الإنسان أو شقائه.
يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ(106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ(107) ذَلِكَ
__________
1 قالت العلماء: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتعيّن متى رُجي القبول والتغيير فإن كان هناك عدم رجاء فلا يجب الأمر والنهي. وكذا يسقط إذا خاف ضرراً يلحقه لا يقوى عليه أو يلحق غيره من المسلمين.

أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ1 (108)
شرح الكلمات:
شهادة بينكم : الشهادة: قول صادر عن علم حاصل بالبصر أو البصيرة، وبينكم: أي شهادة بعضكم على بعض.
إن أنتم ضربتم في الأرض : أي بأن كنتم مسافرين.
من بعد الصلاة : صلاة العصر.
إن ارتبتم : شككتم في سلامة قولهما وعدالته.
فإن عثر : أي وقف على خيانة منهما فيما عهد به إليهما حفظه.
أدنى : أقرب.
على وجهها2 : أي صحيحة كما هي لا نقص فيها ولا زيادة.
الفاسقين : الذين لم يلتزموا بطاعة الله ورسوله في الأمر والنهي.
معنى الآيات:
ما زال السياق في إرشاد المؤمنين وتعليمهم وهدايتهم إلى ما يكملهم ويسعدهم ففي هذه الآيات الثلاث (106)، (107)، (108) ينادي الله تعالى عباده المؤمنين فيقول: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذ حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم} أي ليشهد اثنان {ذوا عدل منكم } أي من المسلمين على وصية أحدكم إذا حضرته الوفاة، أو ليشهد اثنان من غيركم أي من غير المسلمين {إن أنتم ضربتم في الأرض} أي كنتم مسافرين ولم يوجد مع من حضره الموت في السفر إلا كافر، فإن ارتبتم في صدق خبرهما وصحة
__________
1 هذه الآية نزلت فيما ذهب إليه أكثر المفسرين: في تميم الداري وعدي بن بداء إذ روى البخاري وغيره أن تميم الداري وابن بداء كانا يختلفان إلى مكة فخرج معهما: فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس فيها مسلم فأوحى إليهما فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاماً (إناء) من فضة مخوصاً بالذهب فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما كتمتما ولا أطلعتما" ثم وجد الجام بمكة فقالوا اشتريناه من عدي وتميم فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أنّ هذا الحام للسهمي ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا قال: فأخذوا الجام وفيهم نزلت هذه الآية.
"لفظ الدار قطني"والظاهر أن استحلاف الرسول صلى الله عليه وسلم لهما: كان بعد نزول الآية مبيّنة طريق الحكم في هذه القضية فاتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم بينهم بما في الآية نصّاً وروحاً والله أعلم.
2 أي غير مشوّه بالتغيير والتبديل والنقص والزيادة، والتعبير بالوجه شائع يقال: جاء بالشيء الفلاني على وجهه أي: من كمال أحواله.

شهادتهما فاحبسوهما أي أوقفوهما بعد صلاة العصر في المسجد ليحلفا لكم فيقسمان بالله فيقولان والله لا نشتري بأيماننا ثمناً قليلاً، ولو كان المقسم عليه أو المشهود عليه ذا قربى أي قرابة، {ولا نكتم شهادة الله، إنا إذاً} أي إذا كتمنا شهادة الله {لمن الآثمين} {فإن عثر على أنهما استحقا إثماً} أي وإن وجد أن الذين حضرا الوصية وحلفا على صدقهما فيما وصاهما به من حضره الموت إن وجد عندهما خيانة أو كذب فيما حلفا عليه، {فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان} 1 فيقسمان بالله قائلين والله: لشهادتنا أحق من شهادتهما أي لأيماننا أصدق وأصح من أيمانهما، {وما اعتدينا} أي عليهما باتهام باطل، إذ لو فعلنا ذلك لكنا من الظالمين، فإذا حلفا هذه اليمين استحقا ما حلفا عليه ورد إلى ورثة الميت ما كان قد أخفاه وجحده شاهدا الوصية عند الموت، قال تعالى: {ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها} أي أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة عادلة لا حيف فيها ولا جور وقوله {أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم}، أي وأقرب إلى أن يخافوا أن ترد أيمانهم فلا يكذبوا خوف الفضيحة، وقوله تعالى: {واتقوا الله} أي خافوه أيها المؤمنون فلا تخرجوا عن طاعته، {واسمعوا} ما تؤمرون به واستجيبوا لله فيه، فإن الله لا يهدي إلى سبيل الخير والكمال الفاسقين الخارجين عن طاعته، فاحذروا الفسق واجتنبوه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
ا- مشروعية الوصية في الحضر والسفر معاً، والحث عليها والترغيب فيها.
2- وجوب الإشهاد على الوصية.
3- يجوز شهادة غير المسلم2 على الوصية إذا تعذر وجود مسلم3.
4 - استحباب الحلف بعد صلاة العصر تغليظاً في شأن اليمين.
__________
1 واحد الأوليان: الأولى بمعنى الأجدر والأحق، وعرفا باللاّم العهدية لأنه معهود للمخاطب ذهنا، والأوليان: الأحقّان بالشهادة لقرابتهما من الميت، قال أهل العلم إن هذه الآية في غاية الصعوبة إعراباً ونظما وحكما.
2 هذا بناء على أن الآية غير منسوخة وهو قول الأقلية كأحمد بن حنبل رحمة الله تعالى وهو الراجح والآية دلالتها قوية عليه، وأما التخوف من قوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} فلا داعي إليه مع وجود ضرورة السفر وانعدام وجود المسلم، كما لا محذور من تحليف الشاهد إذا حامت حوله ريبة أو شك في عدالته لاسيما في ظروف تقل فيها العدالة لفساد أحوال الناس. ولهذا ذهبت في تفسير الآية على أنها محكمة والعمل بها جائر.
3 وممن قال بعدم نسخ هذه الآية وأنها محكمة والعمل بها من الصحابة: أبو موسى الأشعري وقضى بها، وعبدالله بن قيس، وعبدالله بن عباس، ومن التابعين سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي وغيرهم، ومن الأئمة إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحم الله الجميع.

5- مشروعية تحليف الشهود إذا ارتاب القاضي فيهم أو شك في صدقهم.
يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ(109) إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ(110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ(111)
شرح الكلمات:
يوم1 يجمع الله الرسل : أي اذكر يوم يجمع الله الرسل وذلك ليوم القيامة.
الغيوب: جمع غيب: وهو ما غاب عن العيون فلا يدرك بالحواس.
أيدتك : قويتك ونصرتك.
بروح القدس : جبريل عليه السلام.
المهد: سرير الطفل الرضيع.
__________
1 وجه اتصال هذه الآية بسابق
تها ظاهر، إذ أمرهم تعالى في الآية الأولى بالتقوى والسمع والطاعة لأوامره ونواهيه، وذكّرهم في هذه الآية بأهوال يوم القيامة ليكرر ذلك حافزاً لهم على التقوى مقوّيا لهم على السمع والطاعة.

الكهل : من تجاوز سن الشباب أي ثلاثين سنة.
الكتاب : الخط والكتابة.
والحكمة : فهم أسرار الشرع، والإصابة في الأمور كلها.
تخلق كهيئة الطير: أي توجد وتقدر هيئة كصورة الطير.
الأكمه والأبرص: الأكمه: من ولد أعمى، والأبرص: من به مرض البرص.
تخرج الموتى : أي أحياء من قبورهم.
كففت : أي منعت.
الحواريون: جمع حواري: وهو صادق الحب في السر والعلن.
معنى الآيات:
يحذر الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين من أهوال البعث الآخر يوم يجمع1 الرسل عليهم السلام ويسألهم وهو أعلم بهم: {فيقول: ماذا أجبتم؟} أطاعتكم أممكم أم عصتكم؟ فيرتج عليهم ويذهلون ويفوضون الأمر إليه تعالى ويقولون: {لا علم لنا2: انك أنت علام الغيوب}، إذا كان هذا حال الرسل فكيف بمن دونهم من الناس ويخص عيسى عليه السلام من بين الرسل بالكلام في هذا الموقف العظيم، لأن أمتين كبيرتين غوت فيه وضلت اليهود ادعوا أنه ساحر وابن زنى، والنصارى ادعوا أنه الله وابن الله، فخاطبه الله تعالى وهم يسمعون: {يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك} فأنت عبدي ورسولي وأمك أمتي، وذكر له أنواع نعمه عليه فقال: {إذ أيدتك3 بروح القدس}، جبريل عليه السلام {تكلم الناس في المهد} وأنت طفل. إذ قال وهو في مهده {إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبياً، وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً} وقوله {وكهلاً} أي وتكلمهم وأنت كهل أيضاً وفيه بشرى لمريم أن ولدها يكبر ولا يموت صغيراً وقد كلم الناس وهو شاب وسيعود إلى الأرض ويكلم الناس وهو كهل ويعدد نعمه عليه
__________
1 {يومَ} منصوب على الظرفية معمول لـ اسمعوا لفعل محذوف يقدّر بـ اذكروا، أو اسمعوا، أو احذروا.
2 أي: لا علم لنا بباطن ما أجاب به أممنا، وشهد له حديث الصحيح: "يرد على أقوام الحوض فيختلجون فأقول: أمتي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك".
3 أي: قويتك مأخوذ من الأيد الذي هو القوة ومنه قوله تعالى: {والسماء بنيناها بأيد}.

فيقول: {وإذ علمتك الكتاب والحكمة}، فكنت تكتب الخط وتقول وتعمل بالحكمة، وعلمتك التوراة كتاب موسى عليه السلام والإنجيل الذي أوحاه إليه {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني} فيكون طيراً بإذني أي اذكر لما طالبك بنو إسرائيل بآية على نبوتك فقالوا لك اخلق لنا طيراً فأخذت طيناً وجعلته على صورة طائر وذلك بإذني لك ونفخت فيه بإذني فكان طائراً، واذكر أيضاً {إذ تبرىء الأكمة} وهو الأعمى الذي لا عينين له، {والأبرص بإذني} أي بعوني لك وإقداري لك على ذلك {وإذ تخرج الموتى} من قبورهم أحياء فقد أحيا عليه السلام عدداً من الأموات بإذن الله تعالى ثم قال بنو إسرائيل أحيي لنا سام بن نوح فوقف على قبره وناداه فقام حياً من قبره وهم ينظرون، واذكر {إذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات1} فكذبوك وهموا بقتلك وصلبك، {فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين}. واذكر {إذ أوحيت إلى الحواريين2} على لسانك {أن آمنوا بي وبرسولي} أي بك يا عيسى {قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون} أي منقادون مطيعون لما تأمرنا به من طاعة ربنا وطاعتك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- شدة هول يوم القيامة وصعوبة الموقف حتى إن الرسل ليذهلون.
2- وجوب الاستعداد لذلك اليوم بتقوى الله تعالى.
3- توبيخ اليهود والنصارى بتفريط اليهود في عيسى وغلو النصارى فيه.
4- بيان إكرام الله تعالى لعيسى وما حباه به من الفضل والإنعام.
5- ثبوت معجزات عيسى عليه السلام وتقريرها.
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم
__________
1 أي : الدلالات والمعجزات وهي المذكورة في هذه الآيات من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى.
2 الوحي يكون بمعنى الإلهام لغير الرسول أمّا الرسول فطرق الوحي إليهم جاءت في آخر سورة الشورى.

مُّؤْمِنِينَ(112) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ(113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(114) قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ(115)
شرح الكلمات:
هل يستطيع: هل يطيع ويرضى.
مائدة من السماء : المائدة: الخوان وما يوضع عليه أو الطعام والمراد بها هنا الطعام.
وتطمئن قلوبنا : أي تسكن بزيادة اليقين فيها.
ونكون عليها من الشاهدين : أي نشهد أنها نزلت من السماء.
عيداً : أي يوماً يعود علينا كل عام نذكر الله تعالى فيه ونشكره.
وآية منك: علامة منك على قدرتك ورحمتك، ونبوة نبيك.
فمن يكفر بعد منكم: : فمن يكفر بعد نزول المائدة منكم أيها السائلون للمائدة.
أحداً من العالمين: أي من الناس أجمعين.
معنى الآيات:
يقول تعالى لعبده ورسوله عيسى واذكر {إذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون}، {إذ قال الحواريون}: {هل يستطيع1 ربك أن ينزل
__________
1 اضطربت نفوس المؤمنين في توجيه هذه العبارة: {هل يستطيع ربك..} كيف يقول هذا أنصار الله الحواريون وهو دالّ دلالة واضحة على جهل بالله تعالى وعدم معرفة الأدب مع نبيّه عيسى عليه السلام، فمن قائل: أنّ يستطيع بمعنى: يطيع أي: هل يطيعك ربّك في هذا؟ ومن قائل: إن قراءة (هل يستطيع) بالتاء، وربك معمول أي: هل تقدر على سؤال ربّك أن ينزل الخ ومن قائل إنّ هذا كان منهم في أوّل أمرهم قبل أن يتعلموا، ومن قائل: أن هذا صدر ممن كان مع الحواريين ولم يكن من الحواريين، وما ذكرته في التفسير أولى لانسجامه مع السياق إذ قول عيسى لهم: اتقوا الله، وقولهم: ونعلم أن قد صدقتنا دال على جهلهم بالله ومقام عيسى عليه السلام، وقد يكون أصحاب هذا القول ليسوا من فضلاء الحواريين ولكن كالذين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم:اجعل لنا ذات أنواط وكالذين قالوا لموسى عليه السلام: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة والله أعلم.

علينا مائدة من السماء؟} ولما كان قولهم هذا دالاً على شك في نفوسهم وعدم يقين في قدرة ربهم قال لهم عيسى عليه السلام {اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} فلا تقولوا مثل هذا القول. فاعتذروا عن قيلهم الباطل {قالوا: نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا، ونعلم أن قد صدقتنا، ونكون عليها من الشاهدين} أنها نزلت من السماء بسؤالك ربك ذلك وهنا قال عيسى عليه السلام داعياً ربه ضارعاً إليه {اللهم} أي يا الله {ربنا أنزل علينا مائدة من السماء، تكون لنا عيداً لأولنا}) أي للموجودين الآن منا {وآخرنا} أي ولمن يأتون بعدنا، {وآية منك}، أي وتكون آية منك أي علامة على وحدانيتك وعظيم قدرتك، وعلى صدقي في إرسالك لي رسولاً إلى بني إسرائيل، {وارزقنا} وأدم علينا رزقك وفضلك {وأنت خير الرازقين}، فأجابه تعالى قائلا: {إني منزلها عليكم}، وحقاً قد أنزلها1، {فمن يكفر بعد منكم} يا بني إسرائيل السائلين المائدة بأن ينكر توحيدي أو رسالة رسولي، أو عظيم قدرتي {فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين} ، ولذا مسخ من كفروا منهم قردة وخنازير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- جفاء اليهود وغطرستهم وسوء أدبهم مع أنبيائهم إذ قالوا لموسى {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون} وقالوا لعيسى {هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء}.
2- في قول عيسى لهم {اتقوا الله} دال على أنهم قالوا الباطل كما أن قولهم : {ونعلم أن قد صدقتنا} دال على شكهم وارتيابهم.
3- مشروعية الأعياد الدينية لعبادة الله بالصلاة والذكر شكراً لله تعالى وفي الإسلام عيدان: الأضحى والفطر.
4- من أشد الناس عذاباً يوم القيامة آل فرعون والمنافقون ومن كفر من أهل المائدة.
__________
1 روى الترمذي عن عمار بن ياسر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً".

وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ(116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(117) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(118) قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(119) لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(120)
شرح الكلمات:
إلهين : معبودين يعبدان من دوني.
سبحانك : تنزيهاً لك وتقديساً.
ما يكون لي: ما ينبغي لي ولا يتأتى لي ذلك.
شهيداً: رقيباً.
الرقيب : الحفيظ.
إن تعذبهم : أي بنارك فإنهم عبادك تفعل بهم ما تشاء.
وإن تغفر لهم : أي تستر عليهم وترحمهم بأن تدخلهم جنتك.
العزيز الحكيم: العزيز: الغالب الذي لا يحال بينه وبين مراده، الحكيم: الذي يضع كل شيء في موضعه فيدخل المشرك النار، والموحد الجنة.

الصادقين : جمع صادق: وهو من صدق ربه في عبادته وحده.
ورضوا عنه : لأنه أثابهم بأعمالهم جنات تجرى من تحتها الأنهار.
على كل شيء قدير : أي على فعل أي شيء تعلقت به إرادته وأراد فعله فإنه يفعله ولا يعجزه بحال من الأحوال.
معنى الآيات:
يقول الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم واذكر لقومك {إذ قال الله1} تعالى يوم يجمع الرسل ويسألهم ماذا أجبتم، ويسأل عيسى بمفرده توبيخاً للنصارى على شركهم {يا عيسى بن مريم أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين} أي معبودين يقرره بذلك فينفي عيسى ذلك على الفور ويقول منزهاً ربه تعالى مقدساً {سبحانك2 ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق}، ويؤكد تفصيه مما وجه إليه توبيخاً لقومه: {إن كنت قلته فقد علمته} يا ربي، إنك {تعلم ما في نفسي} فكيف بقولي وعملي، وأنا {لا أعلم ما في نفسك} إلا أن تعلمني شيئاً، لأنك {أنت علام الغيوب} { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به} أن أقوله لهم وهو {اعبدوا الله ربي وربكم، وكنت عليهم شهيداً3} أي رقيباً {فلما توفيتني } برفعي إليك {كنت أنت الرقيب عليهم} ترقب أعمالهم وتحفظها لهم لتجزيهم بها. {وأنت على كل شيء شهيد} رقيب وحفيظ. {إن تعذبهم} أي من مات منهم على الشرك بأن تصليه نارك فأنت على ذلك قدير، {وإن تغفر لهم} أي لمن مات على التوحيد فتدخله جنتك فإنه لذلك أهل فإنك أنت العزيز الغالب على أمره الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه فلا ينعم من أشرك به ولا يعذب من أطاعه ووحده. فأجابه الرب تبارك وتعالى قائلا: {هذا يوم4 ينفع الصادقين صدقهم}: صدقوا الله تعالى في إيمانهم به فعبدوه وحده لا شريك له ولم يشركوا
__________
1 هذا مثل أتى أمر الله أتى بصيغة الماضي لتحقق الوقوع وكذلك هناك {إذ قال} فهو بمعنى يقول: اذكر إذ يقول الله يا عيسى .. الخ.
2 أخرج الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال: "تلقى عيسى حجته ولقَّاه الله في قوله: {وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأميّ إلهين من دون الله} قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلقاه الله: {سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} الآية.
3 شهيداً: أي رقيباً أراعي أحوالهم وأدعوهم إلى العمل بطاعتك وأنهاهم عن مخالفتك.
4 قال الله {هذا يوم ينفع الصادقين...} الخ كلام مستأنف ختم به الحديث عما يقع يوم يجمع الله الرسل فذكر ثواب الصادقين وهو الجنة ورضوان الله وهو الفوز العظيم.

سواه. ونفعه لهم أن أُدْخِلُوا به جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها لا يخرجون منها أبداً، مع رضى الله تعالى عنهم ورضاهم عنه بما أنعم به عليهم من نعيم لا يفنى ولا يبيد، {ذلك الفوز العظيم} إّنه النّجاة من النار ودخول الجنات. وفي الآية الأخيرة (120) يخبر تعالى أن له {ملك1 السموات والأرض وما فيهن} من سائر المخلوقات والكائنات خلقاً وملكاً وتصرفاً يفعل فيها ما يشاء فيرحم ويعذب {وهو على كل شيء قدير2} لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- توبيخ النصارى في عرصات القيامة على تأليه عيسى ووالدته عليهما السلام.
2- براءة عيسى عليه السلام مِنْ مشركي النصارى وأهل الكتاب.
3- تعذيب المشركين وتنعيم الموحدين قائم على مبدأ الحكمة الإلهية.
4- فضيلة الصدق وأنه نافع في الدنيا والآخرة، وفي الحديث: "عليكم بالصدق3 فإنه يدعو إلى البر وأن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً".
5- سؤال غير الله شيئاً ضرب من الباطل والشرك، لأن غير الله لا يملك شيئاً، ومن لا يملك كيف يعطي ومن أين يعطي؟
__________
1 في هذه الآية البرهنة الصحيحة على ألوهية الله تعالى وربوبيته للعالمين وإبطال دعوى النصارى في تأليه عيسى وأمّه عليهما السلام.
2 فما تعلقت إرادته بشيء فأراده إلا كان كما أراد من سائر الممكنات.
3 أخرجه غير واحد من أصحاب الصحاح والسنن.

سورة الأنعام
...
سورة الأنعام1
مكية
وآياتها خمس وستون ومائة
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ(1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ(2) وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ(3)
شرح الكلمات:
الحمد2 : الثناء باللسان على المحمود بصفات الجمال والجلال.
خلق :أنشأ وأوجد.
يعدلون : يسوون به غيره فيعبدونه معه.
الأجل: الوقت المحدد لعمل ما من الأعمال يتم فيه أو ينتهي فيه، والأجل الأول أجل كل إنسان، والثاني أجل الدنيا.
تمترون : تشكُّون في البعث الآخر والجزاء: كما تشكون في وجوب توحيده بعبادته وحده دون غيره.
وهو الله في السموات : أي معبود في السموات وفي الأرض.
__________
1 روى الطبراني عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نزلت عليّ سورة الأنعام جملة واحدة وشيّعها سبعون ألفاً من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد، وسميت بالأنعام لذكر لفظ الأنعام فيها ست مرّات نزلت بمكة ليلاً".
2 الحمد لله: تفيد استغراق المحامد لله تعالى إذ ال للاستغراق واللاّم للاستحقاق فجميع المحامد مستحقة لله تعالى، والقصر في الحمد لله قصر إضافي دال على إبطال حمد المشركين لآلهتهم الباطلة.

ما تكسبون .: أي من خير وشر، وصلاح فساد.
معنى الآيات:
يخبر تعالى بأنه المستحق للحمد كله وهو الوصف بالجلال والجمال والثناء بهما عليه وضمن ذلك يأمر عباده أن يحمدوه كأنما قال قولوا الحمد لله، ثم ذكر تعالى موجبات حمده دون غيره فقال: {الذي خلق السموات1 والأرض2 وجعل الظلمات والنور} فالذي أوجد السموات والأرض وما فيهما وما بينهما من سائر المخلوقات وجعل الظلمات3 والنور وهما من أقوى عناصر الحياة هو المستحق للحمد والثناء لا غيره ومع هذا فالذين كفروا من الناس يعدلون به أصناماً وأوثاناً ومخلوقات فيعبدونها معه يا للعجب!!
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (1) أما الآية الثانية (2) فإنه تعالى يخاطب المشركين موبخاً لهم على جهلهم مندداً بباطلهم فيقول: {هو الذي خلقكم من4 طين} لأن آدم أباهم خلقه من طين ثم تناسلوا منه فباعتبار أصلهم هم مخلوقون من طين ثم الغذاء الذي هو عنصر حياتهم من طين، ثم قضى لكلٍ أجلاً وهو عمره المحدد له وقضى أجل الحياة كلها الذي تنتهي فيه وهو مسمى عنده معروف له لا يعرفه غيره ولا يطلع عليه سواه ولحكم عالية أخفاه، ثم أنتم أيها المشركون الجهلة تشكُّون في وجوب توحيده، وقدرته على إحيائكم بعد موتكم5 لحسابكم ومجازاتكم على كسبكم خيره وشره، حسنه وسيئه، وفي الآية الثالثة (3) يخبر تعالى أنه هو الله المعبود بحق في السموات6 وفي الأرض لا إله غيره ولا رب سواه {يعلم
__________
1 {الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور} هاتان الجملتان هما مقتضيات الحمد لله وموجباته له تعالى، إذ من أوجد الكون كلّه وهو جواهر وإعراض، فالجواهر السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، والأعراض الظلمة والنور هو المستحق للعبادة دون غيره فأبطل بهذا عبادة الأجسام كالأصنام والملائكة والأنبياء، وعبادة الأعراض كالظلمة والنور إلها المانوية.
2 الأرض: اسم جنس، فالمراد بالأرض: الأرضون السبع كالنور اسم جنس والمراد به كل نور.
3 من رشاقة الكلم جعل خلق للأجسام وجعل للأعراض في قوله: {خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور}.
4 قال القرطبي هل في هذه الآية دليل على أنّ الجواهر من جنس واحد؟ الجواب: نعم لأنّه إذا جاز أن ينقلب الطين إنساناً حياً قادراً عليماً جاز أن ينقلب إلى كل حال من أحوال الجواهر إذ صح انقلاب الجماد إلى حيوان بدلالة هذه الآية.
5 ذكره تعالى أصل خلق الناس من طين فيه إشارة إلى الردّ على منكري البعث المحتجين على عدم إمكان الحياة الآخرة بكونهم بعد الموت يصيرون ترابا، وجهلوا أن صيرورتهم إلى تراب هو دليل إعادتهم إلى خلقهم من جديد إذ عادوا إلى أصل خلقهم ليعودوا إلى حياة أكمل من حياتهم الأولى.
6 قال القرطبي في تفسير هذه الآية: {وهو الله في السموات وفي الأرض} أي: وهو الله المعظّم والمعبود في السموات وفي الأرض كما تقول: زيد الخليفة في الشرق والغرب أي حكمه.

سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون} من خير وشر فهو تعالى فوق عرشه بائن من خلقه ويعلم سر عباده وجهرهم ويعلم أعمالهم وما يكتسبون بجوارحهم يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، لذا وجبت الرغبة فيما عنده من خير، والرهبة مما لديه من عذاب، ويحصل ذلك لهم بالإنابة إليه وعبادته والتوكل عليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب حمد الله تعالى والثناء عليه بما هو أهله.
2- لا يصح حمد أحد بدون ما يوجد لديه من صفات الكمال ما يحمد عليه.
3- التعجب من حال من يسوون المخلوقات بالخالق عز وجل في العبادة.
4- التعجب من حال من يرى عجائب صنع الله ومظاهر قدرته ثم ينكر البعث والحياة الآخرة.
5- صفة العلم لله تعالى وأنه تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء يعلم السر وأخفى.
وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيات رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ(4) فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ(5) أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ(6)

شرح الكلمات:
من آية : المراد بالآية هنا آيات القرآن الكريم الدالة على توحيد الله تعالى والإيمان برسوله ولقائه يوم القيامة.
معرضين : غير ملتفتين إليها ولا مفكرين فيها.
الحق : الحق هنا هو النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الدين الحق.
أنباء : أخبار ما كانوا به يستهزئون وهو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
من قرن: أي أهل قرن من الأمم السابقة، والقرن مائة سنة.
مكنا لهم في الأرض : أعطيناهم من القوة المادية ما لم نعط هؤلاء المشركين.
مدراراً : مطراً متواصلاً غزيراً.
بذنوبهم: أي بسبب ذنوبهم وهي معصية الله ورسله.
وأنشأنا: خلقنا بعد إهلاك الأولين أهل قرن آخرين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن أولئك الذين يعدلون بربهم غيره من مخلوقاته فيقول تعالى عنهم: وما تأتيهم1 من آية من آيات ربهم التي2 يوحيها إلى رسوله ويضمها كتابه القرآن الكريم، إلا قابلوها بالإعراض التام، وعدم الالتفات إلى ما تحمله من هدى ونور، وسبب ذلك أنهم قد كذبوا بالحق لما جاءهم وهو الرسول وما معه من الهدى، وبناء على ذلك {فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون} وقد استهزأوا بالوعيد وسينزل بهم العذاب الذي كذبوا به واستهزأوا، وأول عذاب نزل بهم هزيمتهم يوم بدر، ثم القحط سبع سنين، ومن مات منهم على الشرك فسوف يعذب في نار جهنم أبداً، ويقال لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تستهزئون وقوله تعالى: {ألم يروا كم أهلكنا من3 قبلهم من قرن} أي كثيراً من أهل القرون
__________
1 {من آية من آيات ربهم} من الأولى لاستغراق الجنس، ومن الثانية للتبعيض.
2 وجائز أن يراد بالآية أيضاً المعجزة كانشقاق القمر ونحوها.
3 القرد: الأمّة من الناس، وا لجمع: قرون قال الشاعر:
إذا ذهب القرن الذي كنت فيهم ... وخُلِّفْتَ في قرن فأنت غريب.
فالقرن: كل عالم في عصره مأخوذ من الاقتران أي عالم مقترن بعضهم ببعض وفي الحديث: "خير الناس قرني.." ويطلق القرن على المائة سنة، إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بر بشر "تعيش قرناً" فعاش مائة سنة وقرن الشاة معروف.

الماضية مكن الله تعالى لهم في الأرض من الدولة والسلطان والمال والرجال ما لم يمكن لهؤلاء المشركين من كفار قريش، وأرسل على أولئك الذين مكن لهم السماء1 مدراراً بغزير2 المطر وجعل لهم في أرضهم الأنهار تجري من تحت أشجارهم وقصورهم، فلما أنكروا توحيدي وكذبوا رسولي، وعصوا أمري {فأهلكناهم بذنويهم} ، لا ظلماً منا ولكن بظلمهم هم لأنفسهم، وأوجدنا بعدهم قوماً آخرين، وكان ذلك علينا يسيراً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التكذيب بالحق هو سبب الإعراض عنه فلو آمنوا به لأقبلوا عليه.
2- الاستهزاء والسخرية بالدين من موجبات العذاب وقرب وقوعه.
3- العبرة بهلاك الماضين، ومصارع الظالمين.
4- هلاك الأمم كان بسبب ذنوبهم، فما من مصيبة إلا بذنب3.
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ(7) وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ(8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ(9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ(10)
__________
1 {وأرسلنا السماء عليهم مدرارا} عبر عن المطر بالسماء لأنّه منها ينزل قال الشاعر:
إذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناها وإن كانوا غضابا
2مدرارا : بناء دال على الكثرة نحو امرأة مذكار إذا كثر أولادها الذكور وهم مشتق من درّت الشاة إذا أقبل لبنها على الحالب لها بكثرة.
3 شاهده من القرآن الكريم : قول تعالى : {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}.

قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(11)
شرح الكلمات:
قرطاساً: القرطاس: ما يكتب عليه جلداً أو كاغداً.
لمسوه بأيديهم : مسوه بأصابعهم ليتأكدوا منه.
ملك : الملك أحد الملائكة.
لقضي الأمر: أي أهلكوا وانتهت حياتهم.
لا ينظرون : لا يمهلون.
ولو جعلناه ملكاً: ولو جعلنا الرسول إليهم ملكاً لإنكارهم البشر.
لبسنا: خلطنا عليهم.
استهزىء: سخر وتهكم واستخف.
حاق بهم : نزل بهم العذاب وأحاط بهم فأهلكوا.
معنى الآيات
مازال السياق في شأن العادلين بربهم أصنامهم التي يعبدونها ويزعمون أنها تشفع لهم عند الله يقول تعالى: {ولو نزلنا عليك} أيها الرسول {كتاباً} أي مكتوباً في ورق جلد أو كاغد ورأوه منزلاً من السماء1 ولمسوه بأيديهم ولمسوه بأصابعهم ما آمنوا ولقالوا: {إن هذا إلا سحر مبين}. أي سحر واضح سحركم به محمد صلى الله عليه وسلم وإلا كيف ينزل الكتاب من السماء، {وقالوا: لولا أنزل2 عليه ملك} أي هلا أنزل عليه، لم لا ينزل عليه ملك يساعده ويصدقه بأنه نبي الله ورسوله، فقال تعالى: {ولو أنزلنا ملكاً}، وليس من شأن الله أن ينزل الملائكة ولو أنزل ملكاً فكذبوه لأهلكهم، إذ الملائكة لا تنزل إلا لإحقاق الحق وعليه فلو نزل ملك لقضي أمرهم بإهلاكهم وقطع دابرهم وهذا ما لا يريده الله تعالى لهم. وقوله : {ثم لا ينظرون} أي لا يمهلون ولو ساعة ليتوبوا أو يعتذروا مثلاً. وقوله تعالى: {ولو
__________
1 قال ابن عباس: كتاباً معلقّاً بين السماء والأرض يشاهدونه. أمّا إنزال الوحي فهو حاصل وأبوا أن يؤمنوا به.
2 هذا اقتراح منهم حملهم عليه الكبر والعناد.

جعلناه ملكاً} أي الرسول ملكاً لقالوا كيف نفهم عن الملك ونحن1 بشر فيطالبون بأن يكون بشراً وهكذا كما قال تعالى: {ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً، وللبسنا عليهم} خلطنا وشبهنا ما يخلطون على أنفسهم ويشبهون. ثم أخبر تعالى رسوله مسلياً له قائلاً {ولقد استهزئ2 برسل من قبلك} كما استهزيء بك فاصبر، فقد حاق بالمستهزئين ما كانوا به يستهزئون، كانوا إذا خوفهم الرسل عذاب الله سخروا منهم واستخفوا بهم وبالعذاب الذي خوفوهم به، ثم أمر الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول لأولئك المستهزئين بما يعدهم من عذاب ربهم وهم أكابر مجرمي قريش: {قل سيروا3 في الأرض} جنوباً لتقفوا على ديار عاد أو شمالاً لتقفوا على ديار ثمود، أو غرباً لتقفوا على بحيرة لوط فتعرفوا {كيف كان عاقبة المكذبين} من أمثالكم لعلكم تحققون من طغيانكم وتكذيبكم فيسهل عليكم الرجوع.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الآيات بمعنى المعجزات والخوارق لا تستلزم الإيمان بل قد تكون سبباً للكفر والعناد، ولذا لم يستجب الله لقريش ولم يعط رسوله ما طالبوه به هن الآيات.
2- إنكار رسالة البشر عام في كل الأمم وقالوا ما هذا إلا بشر مثلكم في آيات كثيرة في حين أن إرسال الملائكة لا يتم معه هدف لعدم قدرة الإنسان على التلقي عن الملائكة والتفاهم معهم، ولو أنزل الله ملكاً رسولاً لقالوا نريده بشراً مثلنا ولحصل الخلط واللبس بذلك.
3- الاستهزاء بالرسل والدعاة سنة بشرية لا تكاد تتخلف ولذا وجب على الرسل والدعاة الصبر على ذلك.
4- عاقبة التكذيب والاستهزاء هلاك المكذبين المستهزئين.
5- مشروعية زيارة القبور للوقوف4 على مصير الإنسان ومآل أمره فإن في ذلك ما يخفف شهوة
__________
1 لأنّ سنة الله تعالى في التفاهم أن تكون بين متجانسين كإنسان مع إنسان أو حيوان مع حيوان أمّا ملك مع إنسان أو إنسان مع حيوان فلا لا.
2 في هذه الآية تعزية للرسول صلى الله عليه وسلم وتسلية له ليصبر على ما يلاقيه من قومه من سخرية واستهزاء وعناد ومكابرة.
3 قال القرطبي: هذا السفر مندوب إليه إذا كان على سبيل الاعتبار بآثار من خلا من الأمم وأهل الديار، وأقول على شرط أن يدخلوا تلك الديار باكين أو متباكين لا ضاحكين غافلين لاهين بأنواع الطعام والشراب.
4 أخذاً من قول تعالى في الآية: {قل سيروا في الأرض} وشاهده من السنة قوله صلى الله عليه وسلم في السنة الصحيحة: "كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة".

الدنيا والنهم فيها والتكالب عليها وهو سبب الظلم والفساد.
قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ(12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(13) قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ(14) قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(15) مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ(16)
شرح الكلمات:
كتب على نفسه الرحمة : أي أوجب على نفسه رحمة خلقه.
لا ريب فيه : لا شك في مجيئه وحصوله في أجله المحدد له.
خسروا أنفسهم : حيث لوثوها بأوضار الشرك والمعاصي فلم ينتفعوا بها.
وله ما سكن في الليل والنهار: أي ما استقر فيها من ساكن ومتحرك أي له كل شيء.
ولياً: أحبه وأنصره واطلب نصرته ومحبته وولايته.
من يصرف عنه : أي من العذاب بمعنى يبعد عنه.
الفوز المبين : أي الواضح إذ النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم.
معنى الآيات:
مازال السياق في الحديث مع العادلين بربهم غيره من أهل الشرك فيقول تعالى لرسوله

سلهم قائلاً: {لمن1 ما في السموات والأرض} خلقاً وإيجاداً أو ملكاً وتصرفاً وتدبيراً، واسبقهم إلى الجواب فقل لله، إذ ليس لهم من جواب إلا هذا: {لله}، أي هو الله الذي {كتب2 على نفسه الرحمة} قضى بها وأوجبها على نفسه، ومظاهرها متجلية في الناس: إنهم يكفرونه ويعصونه وهو يطعمهم ويسقيهم ويكلؤهم ويحفظهم، وما حمدوه قط. ومن مظاهر رحمته جمعه الناس ليوم القيامة ليحاسبهم ويجزيهم بعملهم الحسنة بعشر أمثالها أما السيئة فبسيئة مثلها فقط وهو ما دل عليه قوله: {ليجمعنكم3 إلى يوم القيامة لا ريب فيه} أي الكائن الآتي بلا ريب ولا شك، وقوله تعالى: {الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون} يخبر تعالى أنَّ الذين كتب خسرانهم أزلاً في كتاب المقادير فهم لذلك لا يؤمنون رما كتب أزلاً لعلم تام بموقفهم هذا الذي هم وافقوه من الكفر والعناد والشرك والشر والفساد، بذلك استوجبوا الخسران هذا ما دلت عليه الآية الأولى (12) أما الآية الثانية (13) {وله ما سكن في الليل والنهار} وهذا تقرير بأنه رب كل شيء والمالك لكل شيء إذ ما هناك إلا ساكن ومتحرك وهو رب الجميع، وهو السميع لأحوال عباده وسائر مخلوقاته العليم بأفعالهم الظاهرة والباطنة ولذا لأ يسأل عما يفعل ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ومن هنا وجب اللجأ إليه والتوكل عليه، والانقياد لأمره ونهيه. وقوله تعالى في الآية الثالثة (14) {قل أغير4 الله أتخذ ولياً فاطر السموات والأرض وهو يُطْعِم ولا يُطْعَم} يأمر تعالى رسوله أن يرد على المشركين المطالبين منه أن يوافقهم على شركهم ويعبد معهم آلهتهم فيقول: أفغير الله فاطر السموات والأرض الذي يطعم غيره لافتقاره إليه، ولا يطعم5 لغناه المطلق أغيره تعالى أتخذ ولياً أعبده كما اتخذتم أنتم أيها المشركون أولياء تعبدونهم. إن هذا لن يكون أبداً كما أمره ربه تعالى أن يقول في صراحة ووضوح، {إني أمرت أن أكون أول من أسلم} أي وجهه لله، وأقبل عليه يعبده
__________
1 هذا حجاج مع المشركين آخر: قل لهم لمن ما في السموات والأرض؟ فإن قالوا: لمن هو؟ قل: لله، ولكن لا يقولون إلاّ الله، لمعرفتهم أن غير الله لا يخلق ولا يرزق ولا يملك.
2 ولذا لم يعاجلهم بالعقوبة التي يقتضيها كفرهم وعنادهم، روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله لمّا خلق الخلق كتب كتاباً عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي".
3 اللاّم: للقسم أي: وعزتي وجلالي ليجمعنكم في يوم القيامة الذي كذّبتم به وهو لا شك فيه.
4 الاستفهام إنكاري وقدم المفعول الأول: {أغير الله} لأنّه هو المقصود بالإنكار.
5 أي يرزُق ولا يُرزق كقوله تعالى: {ما أريد منهم من رزق ولها أريد أن يطعمون} وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير {وهو يُطعم ولا يطعم} بفتح العين أي إنّه يُطعم عباده بالرزق وهو لا يطعم لاستحالة احتياجه إلى الغذاء كما يحتاجه المخلوقون من عباده.

بما شرع له، ونهاني أن أكون من المشركين بقوله: {ولا تكونن من المشركين} الذين يعبدون مع الله غيره من مخلوقاته وأمره في الآية (15) أن يقول للمشركين الراغبين في تركه التوحيد: {إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم1} وهو عذاب يوم القيامة. انه عذاب أليم لا يطاق من يصرف2 عنه يومئذ فقد رحمه أي أدخله الجنة والنجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم كما قال تعالى {فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز} نعم فاز وأي فوز أكبر من الخلود من العذاب ودخول في دار السلام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عموم رحمة الله تعالى.
2- تقرير مبدأ الشقاوة والسعادة في الأزل قبل خلق الخلق.
3- الله رب كل شيء ومليكه.
4- تحريم ولاية غير الله، وتحريم الشرك به تعالى.
5- بيان الفوز الأخروي وهو النجاة من العذاب ودخول الجنة.
وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ(17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ(19)
__________
1 قوله: {إن عصيت ربي} عوضا عن اسم الجلالة (الله) فيه إيماء وإشارة إلى أن عصيان الرب قبيح قبحاً أشد من عصيان المعبود، لأن الربّ هو المليك المربي المتولي الحافظ الولي فعصيان من يربّي ويرزق قبيح جداً.
2 أي : من يصرف الله عنه العذاب يوم القيامة فقد رحمه فأدخله جنّته بعد أن نجّاه من النار.

شرح الكلمات:
يمسسك : يصبك.
بضر : الضر: ما يؤلم الجسم أو النفس كالمرض والحزن.
بخير: الخير: كل ما يسعد الجسم أو الروح.
القاهر : الغالب المذل المعز.
شهادة: الشهادة: إخبار العالم بالشيء عنه بما لا يخالفه.
لأنذركم به: لأخوفكم بما فيه من وعيد الله لأهل عداوته.
إله واحد : معبود واحد لأنه رب واحد، إذ لا يعبد إلا الرب الخالق الرازق المدبر.
معنى الآيات :
ما زال السياق في توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم وتقوية موقفه من أولئك العادلين بربهم المشركين به فيقول له ربه تعالى: {وإن يمسسك الله بضر1 فلا كاشف له إلا هو} أي إن أصابك الله بما يضرك في بدنك فلا كاشف له عنك بإنجائك منه إلا هو. {وإن يمسسك بخير} أي وإن يردك بخير فلا2 راد له {فهو على كل شيء قدير}، والخطاب وإن كان موجهاً للرسول صلى الله عليه وسلم فإنه عام في كل أحد فلا كاشف للضر إلا هو، ولا راد لفضله أحد، ومع كل أحد، وقوله تعالى في الآية الثانية (18) {وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير} تقرير لربوييته المستلزمة لألوهيته فقهره لكل أحد، وسلطانه على كل أحد مع علو كلمته وعلمه بكل شيء موجب لألوهيته وطاعته وطلب ولايته، وبطلان ولاية غيره وعبادة سواه وقوله تعالى في الآية الثالثة (19) {قل الله شهيد بيني وبينكم} نزلت لما قال المشركون بمكة للرسول صلى الله عليه وسلم إئتنا بمن يشهد لك بالنبوة فإن أهل الكتاب أنكروها فأمره ربه تعالى أن يقول لهم رداً عليهم: أي شيء أكبر شهادة؟ ولما كان لا جواب لهم إلا أن يقولوا الله أمره أن يجيب به: {قل الله شهيد بيني وبينكم}. فشهادة الله تعالى لي بالنبوة إيحاؤه إليّ بهذا القرآن الذي أنذركم به، وأنذر
__________
1 الضر: هو ما يؤلم الإنسان وهو من الشر المنافي للإنسان ويقابله النفع وهو من الخير الملائم للإنسان ولذا فالضر هنا أعم من المرض إذ يتناوله وغيره من سائر ما يضر الإنسان.
2 شاهده حديث ابن عباس عند الترمذي وهو صحيح إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا غلام إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفّت الصحف".

كل من بلغه وسمع به بأن من بلغه1 ولم يؤمن به ويعمل بما جاء فيه من العقائد والعبادات والشرائع فإنه خاسر لنفسه يوم القيامة. ثم أمره أن ينكر عليهم الشرك بقوله: أئنكم2 لتشهدون مع الله آلهة أخرى، وذلك بإيمانكم بها وعبادتكم لها أما أنا فلا أعترف بها بل أنكرها فضلاً عن أن أشهد بها. ثم أمره بعد إنكار آلهة المشركين أن يقرر ألوهيته الله وحده وأن يتبرأ من آلهتهم المدعاة فقال له قل: {إنما هو إله واحد، وإنني بريء مما تشركون}3.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب اللجأ إلى الله تعالى دون غيره من سائر خلقه إذ لا يكشف الضر4 إلا هو.
2- شهادة الله تعالى لرسوله بالنبوة وما أنزل عليه من القرآن وما أعطاه من المعجزات.
3- نذارة الرسول بلغت كل من بلغه القرآن الكريم إلى يوم الدين.
4- تقرير مبدأ التوحيد لا إله إلا الله، ووجوب البراءة من الشرك.
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ(20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآياتهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(22) ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ(23) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ(24)
__________
1 في البخاري: "بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" وقال مقاتل: من بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له، وقال القرطبي: من بلغه القرآن فكأنما خد رأي محمداً صلى الله عليه وسلم وسمع منه.
2 الاستفهام للتوبيخ والتقريع مع الإنكار لشهادتهم الباطلة وذلك بتأليههم الأصنام، والأحجار جهلا وعنادا.
3 أي من الشرك والشركاء معاً.
4 آية (يونس) في هذا الباب عظيمة إذ قال مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم: {" ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك، فإن فعلت فانك إذا من الظالمين، وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم"}.

شرح الكلمات:
الذين آتيناهم الكتاب: علماء اليهود والنصارى.
يعرفونه: يعرفون محمداً نبياً لله ورسولاً له.
افترى على الله كذباً: اختلق الكذب وزوّره في نفسه وقال.
لا يفلح الظالمون : لا ينجون من عذاب الله يوم القيامة.
أين شركاؤكم : استفهام توبيخي لهم.
تزعمون: تدعون أنهم شركاء يشفعون لكم عند الله.
وضل عنهم: غاب عنهم ولم يحضرهم ما كانوا يكذبونه.
معنى الآيات::
قوله تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب} أي علماء اليهود والنصارى {يعرفونه} أي النبي محمداً صلى الله عليه وسلم أنه نبي الله ورسوله وأن القرآن كتاب الله أوحاه إليه يعرفونه بما ثبت من أخباره ونعوته معرفة كمعرفة أبنائهم، رد الله تعالى بهذا على العرب الذين قالوا: لو كنت نبياً لشهد لك بذلك أهل الكتاب ثم أخبر تعالى أن الذين1 خسروا أنفسهم في قضاء الله وحكمه الأزلي لا يؤمنون، وإن علموا ذلك في كتبهم وفهموه واقتنعوا به، فهذا سر عدم إيمانهم، فلن يكون إذا عدم إيمانهم حجة ودليلاً على النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأن غير نبي ولا رسول هذا ما دلت عليه الآية الأولى (20) وفي الآية الثانية نداء الله تعالى يكلٍّ من مشركي العرب وكفار أهل الكتاب بقوله {ومن2 أظلم ممن افترى على الله كذبا} وهم المشركون بزعمهم أن الأصنام تشفع لهم عند الله ولذا عبدوها، أو كذبوا بآياته وهم أهل الكتاب، وأخبر أن الجميع في موقفهم المعادي للتوحيد والإسلام ظالمون، وإن الظالمون لا يفلحون فحكم بخسران الجميع إلا من آمن منهم وعبد الله ووحده وكان من المسلمين وقوله تعالى في الآية الثالثة (22) {ويوم نحشرهم3 جميعاً} مشركين وأهل كتاب أي لا يفلحون في الدنيا ولا يوم
__________
1 {والذين خسروا أنفسهم} في موضع النعت أو البدلية من قوله: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه}.
2 {ومن أظلم} الاستفهام للنفي والتقريع أي لا أحد أعظم ظلماً ممن افترى على الله الكذب أو كذّب بآياته التي هي الآيات القرآنية والمعجزات النبوية.
3 الظرف معمول لفعل محذوف تقديره: واذكر لقومك الوقت الذي يجري فيه الاستنطاق والاستجواب وكيف يكون موقف هؤلاء المشركين الظالمين.

نحشرهم وهو يوم القيامة لأنهم ظالمون، ثم أخبر تعالى بمناسبة ذكر يوم القيامة أنه يسأل المشركين منهم فيقول لهم: {أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون} أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم؟ ثم لم تكن نتيجة هذه الفتنة أي الاختبار إلا قولهم: {والله ربنا ما كنا1 مشركين} ، يكذبون هذا الكذب لأنهم رأوا أن المشركين لا يغفر لهم ولا ينجون من النار.ثم أمر الله رسوله أن يتعجب من موقفهم هذا المخزي لهم فقال له: {أنظر كيف كذبوا على2 أنفسهم} أما ربهم فهو عليم بهم {وضل عنهم} أي غاب فلم يروه. {ما كانوا يفترون} أي يكذبون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لم يمنع أهل الكتاب من الدخول في الإسلام إلا إيثار الدنيا على الآخرة.
2- سببان في عظم الجريمة الكاذب على الله المفتري والمكذب الجاحد به وبكتاب وبنبيه.
3- تقرير عدم فلاح الظالمين في الحياتين.
4- الشرك لا يغفر لصاحبه إذا لم يتب منه قبل موته.
وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي أذانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إذا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ(25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(26) وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيات رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(27)
__________
1 تبرّؤا من الشرك وانتفوا منه لما رأوا من تجاوز الله ومغفرته للموحدين، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يغفر الله تعالى لأهل الإخلاص ذنوبهم ولا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره فإذا رأى المشركون ذلك قالوا: إن ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر الشرك فتعالوا نقول: والله ربّنا ما كنا مشركين.
2 وجه كذبهم: أنهم كانوا يقولون في الأصنام تشفع لنا عند الله وتقرّبنا إليه زلفى. ففي هذا الموقف غاب عنهم الكذب والافتراء وواجهوا الحقيقة المرّة كما هي.

بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(28) وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ(29)
شرح الكلمات:
أكنة: جمع كنان ما يكن فيه الشيء كالغطاء.
وقراً: ثقلاً وصمماً فهم لا يسمعون.
يجادلونك : يخاصمونك.
أساطير الأولين: جمع أسطورة: ما يكتب ويحكى من أخبار السابقين.
وينأون عنه: أي ويبعدون عنه.
بل بدا لهم : بل ظهر لهم.
إن هي إلا حياتنا : ما هي إلا حياتنا.
مبعوثين : بعد الموت أحياء كما كنا قبل أن نموت.
معنى الآيات:
مازال السياق في الحديث عن أولئك العادلين بربهم المشركين به سواه فيخبر تعالى عن بعضهم فيقول {ومنهم من يستمع إليك} حال قراءتك القرآن ولكنه لا يعيه قلبه ولا يفقه ما فيه من أسرار وحكم تجعله يعرف الحق ويؤمن به، وذلك لما جعلنا حسب سنتنا في خلقنا من أكنة1 على قلوبهم أي أغطية،، ومن2 وقر أي ثقل وصمم في آذانهم، فلذا هم يستمعون ولا يسمعون، ولا يفقهون وتلك الأغطية وذلك الصمم هما نتيجة ما يحملونه من بغض للنبي صلى الله عليه وسلم وكره لما جاء به من التوحيد، ولذا فهم لو يرون كل آية مما يطالبون به من المعجزات كإحياء الموتى ونزول الملائكة عياناً لا يؤمنون بها لأنهم لا يريدون أن يؤمنوا ولذا قال تعالى:
__________
1 الأكنة: جمع كنان كأسنة جمع سنان، والأعنة جمع عنان، والكنّة: امرأة الأب لأنّها في كنّه، وكذا امرأة الابن والأخ.
2 يقال: وقرت أذنه توقر وقرا، إذا صمت، والنخلة موقر وموقرة إذا كانت ذات ثمر كثير.

{وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك} أي في شأن التوحيد وآلهتهم {يقول الذين كفروا1 إن هذا} أي ما هذا {إلا أساطير الأولين}، أمليت عليك أو طلبت كتابتها فأنت تقصها، وليس لك من نبوة ولا وحي ولا رسالة. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (25) أما باقي الآيات فإن الثانية (26) تضمنت إخبار الله تعالى عنهم بأنهم ينهون الناس عن الإيمان بالنبي وبما جاء به وعن متابعته والدخول في دينه، وينأون هم بأنفسهم أي يبعدون عنه فلا إيمان ولا متابعة. وهذه شر الصفات يصفهم الله تعالى بها وهي البعد عن الحق والخير، وأمر الناس بالبعد عن عنهما ونهيهم عن قربههما ولذا قال تعالى: {وإن يهلكون إلا2 أنفسهم} بهذا الموقف الشائن المعادى للرسول والتوحيد، وما يشعرون بذلك إذ لو شعروا لكفوا، والذي أفقدهم الشعور هو حب الباطل والشر الذي حملهم على عداوة الرسول وما جاء به من عبادة الله وتوحيده وها هم أولاً قد حشروا في جهنم، والله تعالى يقول للرسول: {ولو ترى إذ وقفوا3 على النار} ولا بد لهم من دخولها والاصطلاء بحرها والاحتراق بلهبها، فقالوا وهم في وسطها {يا ليتنا نرد} إلى الحياة الدنيا {ولا نكذب بآيات ربنا، ونكون من المؤمنين }، وما هم والله بصادقين وإنما هي تمنيات حمل عليها الإشفاق من العذاب والخوف من نار جهنم، والفضيحة حين ظهر لهم4 ما كانوا يخفون في الدنيا من جرائم وفواحش وهم يغشونها الليل والنهار قال تعالى وهو العليم الخبير: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} ، وصدق الله لو ردوا لعادوا وفي الآية الأخيرة (29) يسجل الله تعالى عليهم سبب بلائهم ومحنتهم، وإقدامهم في تلك الجرأة الغريبة على الشرك ومحاربة التوحيد، ومحاربة الموحدين بالضرب والقتل والتعذيب إنه كفرهم بالبعث والجزاء إذ قالوا ما أخبر تعالى به عنهم: {إن هي إلا 5حياتنا الدنيا، وما نحن بمبعوثين}.
__________
1 قال ابن عباس: قالوا للنضر بن الحارث ما يقول محمد؟ قال: أرى تحريك شفتيه وما يقول إلاّ أساطير الأوّلين مثل ما أحدّثكم أنا عن القرون الماضية إذ كان النضر صاحب قصص سمعها من ديار العجم إذ كان سافر إليها للتجارة، والأساطير: جمع أسطار وأسطورة نحو: أحاديث وأحدوثة ومعنى الأساطير: ما كتب وسطر من أخبار الأولين وهو ترّهاتهم وأباطيلهم.
2 {وإن يهلكون} أي: ما يهلكون فإن بمعنى: ما النافية.
3 أي: وهم على الصراط وهي تحتهم أو وقفوا بقربها وهم يعاينونها، وجواب لو محذوف تقديره: لرأيت منظراً هائلاً ونحوه.
4 قوله تعالى {وبدا لهم ما كانوا يخفون من قبل} أي في دار الدنيا من الكفر والتكذيب والعناد وجائز أن يكون ظهر لهم صدق ما كانوا يعلمون أنّه حق من أمر الدين والتوحيد ولكن يخفونه في أنفسهم حتى لا يعلم ذلك إخوانهم في الكفر واتباعهم في الشرك.
5 هذا سبب شقائهم هو إنكارهم للبعث والجزاء ومغالطة أنفسهم بأنه لا حياة إلاّ الحياة الدنيا.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله تعالى في أن العبد إذا كره أحداً وأبغضه وتعالى في ذلك يصبح لا يسمع ما يقول له، ولا يفهم معنى ما يسمع منه.
2- شر دعاة الشر من يعرض عن الهدى ويأمر بالإعراض عنه، وينهى من يقبل عليه.
3- سبب الشر في الأرض الكفر بالله، وإنكار البعث والجزاء الآخر.
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ(30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إذا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ(31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(32)
شرح الكلمات:
وقفوا على ربهم: جيء بهم ووقفوا على قضائه وحكمه تعالى فيهم.
بلى وربنا: أي إنه للحق والله.
خسر الذين كذبوا: أي خسروا أنفسهم في جهنم.
الساعة بغتة: ساعة: البعث ليوم القيامة وبغتة: أي فجأة.
يا حسرتنا: الحسرة: التندم والتحسر على ما فات ينادون حسرتهم زيادة في التألم والتحزن.
أوزارهم: أحمال ذنوبهم إذ الوزر الحمل الثقيل.
لعب ولهو: اللعب: العمل الذي لا يجلب درهماً للمعاش، ولا حسنة للمعاد.
واللهو:.ما يشغل الإنسان عما يعنيه مما يكسبه خيراً أو يدفع عنه ضيراً.

معنى الآيات:
لقول تعالى لرسوله: ولو ترى1 إذ وقف أولئك لمنكرون للبعث القائلون {إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين}، لو تراهم وقد حبسوا لقضاء الله وحكمه فيهم وقيل لهم وهم يشاهدون أهوال القيامة وما فيها من حساب وجزاء وعذاب {أليس2 هذا بالحق} أي الذي كنتم تكذبون فيسارعون بالإجابة قائلين {بلى، وربنا}، فيحلفون بالله تعالى تأكيداً لصحة جوابهم فيقال لهم3: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} لا ظلماً منا ولكن بسبب كفركم إذ الكفر منع من طاعة الله ورسوله، والنفس لا تطهر إلا على تلك الطاعة، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (30) أما الآية الثانية (31) فقد أعلن تعالى عن خسارة صفقة الكافرين الذين باعوا الإيمان بالكفر والتوحيد بالشرك، والطاعة بالمعاصي فقال تعالى: {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله4} أي بالحياة بعد الموت وهذا هو سبب المحنة والكارثة {حتى إذا جاءتهم الساعة} ساعة فناء هذه الحياة وإقبال الحياة الآخرة {بغتة} أي فجأة لم يكونوا يفكرون فيها لكفرهم بها، وعندئذ صاحوا بأعلى أصواتههم معلنين عن تندمهم {يا حسرتنا5 على ما فرطنا} أي في صفقتنا حيث اشترينا الكفر بالإيمان والشرك بالتوحيد قال تعالى: {وهم يحملون أوزارهم} من الجائز أن تصور لهم أعمالهم من الكفر والشرك والظلم والشر والفساد في صورة رجل قبيح أشوه فيحملونه على ظهورهم في عرصات القيامة وقد ورد به خبر. ولذا قال تعالى: {ألا ساء ما يزرون} أي قبح ما يحملونه! وفي الآية (32) الأخيرة يخبر تعالى مذكراً واعظاً ناصحاً فيقول يا عباد الله: {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو} فانتبهوا فلا تغتروا بما فيها من ملذات فإن نعيمها إلى زوال ما شأنها إلا شأن من يلعب أو يلهو، ثم لا يحصل على طائل من لعبة6 ولهوه، أما الدار الآخرة فإنها خير ولكن للذين يتقون الشرك والشر
__________
1 جواب لو محذوف تقديره: لعَظم شأن الوقوف.
2 الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي: أليس هذا البعث كائنا موجوداً.
3 جائز أن يكون القائل: الله تعالى، وجائز أن تكون الملائكة وهو أولى لأنهم ليسوا أهلا لأن يكلّمهم الربّ تبارك وتعالى.
4 أي بالبعث بعد الموت والجزاء على العمل في الدنيا هذا كقوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان" في الصحيح، إلاّ أنه لا مانع من حمل اللفظ على ظاهره لأنّ لقاء الله كائن حقاً وكيف وهو الذي يفصل بينهم في ساحة فصل القضاء.
5 أي: يا حسرتنا احضري فهذا أوان حضورك، والحسرة: الندم الشديد، والتلهف والنداء للتندّم والتعجب من حالهم وما حلّ بهم.
6 هي كما قال الحكيم:
ألا إنّما الدنيا كأحلام نائم ... وما خير عيش لا يكون بدائم
تأمّل إذا ما نلت بالأمس لذّة ...
فأفنيتها هل أنت إلا كحالم

والمعاصي، فما لكم مقبلين غلى الفاني معرضين عن الباقي {أفلا تعقلون؟!}
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ البعث والجزاء بذكر صور ومشاهد له.
2- قبح الذنوب وأنها أسوأ حمل يحمله صاحبها يوم القيامة.
3- حكم الله تعالى بالخسران على من كذب بلقائه فلم يؤمن ولم يعمل صالحا.
4- الساعة لا تأتي إلا بغتة، ولا ينافي ذلك ظهور علاماتها، لأن الزمن ما بين العلامة والعلامة لا يعرف مقداره.
5- نصيحة القرآن للعقلاء بأن لا يغتروا بالحياة الدنيا. ويهملوا شأن الآخرة وهي خير للمتقين.
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيات اللّهِ يَجْحَدُونَ(33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ(34) وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ(35)
شرح الكلمات:
ليحزنك : أي لوقعك في الحزن الذي هو ألم النفس من جراء فقد ما تحب من هدايتهم أو من أجل ما تسمع منهم من كلم الباطل كتكذيبك وأذيتك.

فإنهم لا يكذبونك: أي لا ينسبونك إلى الكذب في بواطنهم ومجالسهم السرية لعلمهم اليقيني أنك صادق.
كذبت رسل : أي كذبتهم أقوامهم وأممهم كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام.
ولا مبدل لكلمات الله: التي تحمل وعده بنصر أوليائه وإهلاك أعدائه.
من نبإ المرسلين: أي أخبارهم في دعواتهم مع أممهم.
تبتغي نفقاً: تطلب سرباً تحت الأرض.
أو سلماً في السماء : أي مصعداً تصعد به إلى السماء.
بآية : أي خارقة من خوارق العادات وهي المعجزات.
فلا تكونن من الجاهلين : أي فلا تقف موقف الجاهلين بتدبير الله في خلقه.
معنى الآيات:
هذه الآيات من تربية الله تعالى لرسوله وإرشاده لما يشد من عزمه ويزيد في ثباته على دعوة الحق التي أناط به بلاغها وبيانها فقال له تعالى: {قد نعلم1 أنه} أي الحال والشأن، {ليحزنك الذي يقولون} أي الكلام الذي يقولون لك وهو تكذيبك واتهامك بالسحر، والتقول على الله، وما إلى ذلك مما هو إساءة لك وفي الحقيقة إنهم لا يكذبونك2 لما يعلمون من صدقك وهم يلقبونك قبل إنبائك لهم وإرسالك بالأمين ولكن الظالمين هذا شأنهم فهم يرمون الرجل بالكذب وهم يعلمون أنه صادق ويقرون هذا في مجالسهم الخاصة، ولكن كي يتوصلوا إلى تحقيق أهدافهم في الإبقاء على عاداتهم وما ألفوا من عبادة أوثانهم يقولون بألسنتهم من نسبتك إلى الكذب وهم يعلمون أنك صادق3 غير كاذب فإذا عرفت هذا فلا تحزن لقولهم.
__________
1 قد نعلم إنه: كسرت إن في إنه لدخول اللام في {ليحزنك} ولولاها لفتحت نحو أنه يحزنك.
2 روي أن أبا جهل وجماعة معه من رجالات قريش مرّوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد ما نكذّبك وإنّك عندنا لصادق ولكن نكذّب ما جئت به. وهذه الآية شاهد لصحة هذه الرواية، ومعنى يكذّبونك ينسبونك إلى الكذب ويردون قولك.
3 روى ابن اسحق وغبره أنّ الأخنس بن شريق أتى أبا جهل فقال له: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد إذ كانوا يأتون دار محمد وهو يصلي بالليل يستمعون القرآن فإذا طلع النهار تفرّقوا قال ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منّا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك نحن هذه والله لا نؤمن أبداً ولا نصدقه فقام الأخنس وتركه.

هذا أولاً وثانياً فقد كذبت رسل من قبلك وأوذوا كما كُذبت أنت وأوذيت، وصبروا حتى أتاهم نصرنا فاصبر أنت حتى يأتيك النصر فإنه لا مبدل لكلمات الله التي تحمل وعده لأوليائه ووعيده لأعدائه، ولقد جاءك في هذا الكتاب الذي أوحينا إليك من نبأ المرسلين وأخبارهم ما يكون عوناً لك على الصبر حتى النصر فاصبر، وثالثاً {إن كان كبر1 عليك إعراضهم} عن دعوتك وعدم إيمانهم بها حتى تأتيهم بآية تلجئهم إلى الإيمان بك وبرسالتك كما يطلبون منك ويُلِحُّون عليك وهم كاذبون فإن استطعت أن تطلب لهم آية من تحت الأرض أو من السماء فافعل، وهذا ما لا تطيقه ولا تستطيعه لأنه فوق طاقتك فلا تكلف به وإذا فما عليك إلا بالصبر هذا معنى قوله تعالى: {وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض} أي2 سرباً، {أو سلماً في السماء} أي مصعداً {فتأتيهم بآية} أي فافعل، وما أنت بقادر فاصبر إذا ورابعاً إن الله قادر على أن يجمعهم كلهم على الإيمان بك وبرسالتك والدخول في دينك، ولكنه لم يشأ ذلك لحكم عالية فلا تطلب أنت مالا يريده ربك، فإنك إن فعلت كنت من الجاهلين3، ولا نريد لك ذلك4.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ثبوت بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم ولذا هو يحزن لفوت محبوب كما يحزن البشر لذلك.
2- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر حتى يأتيه موعود ربه بالنصر.
3- بيان سنة الله في الأمم السابقة.
4- إرشاد الرب تعالى رسوله إلى خير المقامات وأكمل الحالات بإبعاده عن ساحة الجاهلين.
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ(36) وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ
__________
1 {كَبُرَ} ثقل فشق عليه تحمله لثقله.
2 أي نفقاً كالأنفاق المعروفة اليوم تحت الأرض، والسلّم: الدرج وهو ما يرقى عليه وسمي السلم من السلامة.
3 ولا يليق بمثلك مثله وهذا كلّه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتعزية وحمل له على الصبر وهو لكلّ داعٍ إلى الله تعالى يواجه التكذيب والتعذيب إلى يوم الدين.
4 جائز أن يكون المعنى: من الجهل الذي هو ضد العلم، والجهل الذي هو ضد الحلم ويناسب الأوّل قوله {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} والثاني قوله: {وإن كان كبر عليك إعراضهم..} الآية.

قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(37) وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ(38) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآياتنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(39)
شرح الكلمات:
إنما يستجيب: أي لدعوة الحق التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيؤمن ويهتدي.
يبعثهم الله : أي يوم القيامة.
لولا نزل عليه آية : هلا أداة تحضيض لا لولا الشرطية.
آية من ربه : آية: خارقة تكون علامة على صدقه.
لا يعلمون : أي ما يترتب على إيتائها مع عدم الإيمان بعدها من هلاك ودمار.
من دابة : الدابة كل ما يدب على الأرض من إنسان وحيوان.
في الكتاب : كتاب المقادير أم الكتاب اللوح المحفوظ.
صم وبكم في الظلمات: صم: لا يسمعون وبكم: لا ينطقون في الظلمات لا يبصرون.
صراط مستقيم : هو الدين الإسلامي المفضي بالآخذ به إلى سعادة الدارين.
معنى الآيات:
بعدما سلى الرب تعالى رسوله في الآيات السابقة وحمله على الصبر أعلمه هنا بحقيقة علمية تساعده على الثبات والصبر فأعلمه أن الذين يستجيبون لدعوته صلى الله عليه وسلم هم الذين يسمعون لأن حاسة السمع عندهم سليمة ما أصابها ما يخل بأداء وظيفتها من كره الحق

وبغض أهله والداعين إليه فهؤلاء هم الذين يستجيبون لأنهم أحياء أما الأموات فإنهم لا يسمعون ولذا فهم لا يستجيبون ولكن سيبعثهم الله يوم القيامة أحياء ثم يرجع الجميع إليه من استجاب، لحياة قلبه، ومن لم يستجب لموت قلبه ويجزيهم بما عملوا الجزاء الأوفى وهو على كل شيء قدير، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (36) أما الآية الثانية (37) فقد أخبر تعالى رسوله بقولهم {لولا نزل عليه آية} ، وعلمه أن يقول لهم {إن الله قادر على أن ينزل آية} وهي الخارقة كإحياء الموتى أو تسيير الجبال أو إنزال الملائكة يشاهدونهم عياناً، ولكن لم ينزلها لحكم عالية وتدبير حكيم، {ولكن أكثرهم لا يعلمون} الحكمة في1 ذلك، ولو علموا أنها إذا نزلت كانت نهاية حياتهم لما سألوها. هذا ما تضمنته الآية الثانية أما الآية الثالثة (38) وهي قوله تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير2 بجناحيه إلا أمم أمثالكم} سيقت هذه الآية لبيان كمال الله تعالى وشمول علمه وعظيم قدرته، وسعة تدبيره تدليلاً على أنه تعالى قادر على إنزال الآيات، ولكن منع ذلك حكمته تعالى في تدبير خلقه فما من دابة تدب في الأرض ولا طائر يطير في السماء إلا أمم مثل الأمة3 الإنسانية مفتقرة إلى الله تعالى في خلقها ورزقها وتدبير حياتها، والله وحده القائم عليها، وفوق ذلك إحصاء عملها عليها ثم بعثها يوم القيامة ومحاسبتها ومجازاتها، وكل ذلك حواه كتاب المقادير وهو يقع في كل ساعة ولا يخرج شيء عما كتب في كتاب المقادير، اللوح المحفوظ {ما فرطنا في الكتاب من شيء} فهل يعقل مع هذا أن يعجز الله تعالى عن إنزال آية، وكل مخلوقاته دالة على قدرته وعلمه ووحدانيته، ووجوب عبادته وفق مرضاته، وقوله {ثم إلى ربهم يحشرون}4 كل دابة وكل طائر يموت أحب أم كره، ويبعث5 أحب أم كره، والله وحده مميته ومحييه ومحاسبه ومجازيه، {ثم إلى ربهم يحشرون} ، ومن هنا كان المكذبون بآيات الله {صم وبكم
__________
1 قال القرطبي: القول بحشر البهائم هو الصحيح، والبهائم وإن كان القلم لا يجري عليها في الأحكام ولكن فيما بينها تؤاخذ به، وروي عن أبي ذرّ قال، انتطحت شاتان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أبا ذر أتدري فيما انتطحتا. قلت: لا، قال: لكن الله تعالى يدري وسيفضي بينهم".
2 من الحكمة في عدم إنزال الآية أنه لو أنزلها ما آمنوا بها، فاستوجبوا الهلاك فأهلكهم، ولكنّه يريد الإبقاء عليهم ليخرج من أصلابهم مؤمنين يعبدونه ويوحدونه.
3 ذكر الجناحين للتأكيد من جهة، وإزالة الإبهام من جهة أخرى لأن العرب تطلق لفظ الطيران على غير الطائر فتقول للرجل، طر في حاجتي أي أسرع في قضائها وطائر الإنسان ما قسم الله له أزلاً قال تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه}.
4 وهذه المثلية بين الإنسان وبين دواب الأرض وطائر السماء تقتضي ألا يظلم الإنسان الحيوان ولا يؤذيه ولا يتجاوز ما أمر به نحوه، ووجه المثلية في كون كل من الإنسان والحيوان يسبح الله تعالى ويدل على قدرته وعلمه وحكمته.
5 قيل في {يحشرون} أنّ حشرها الموت وهو مروي عن ابن عباس قال: موت البهائم: حشرها وروي عن مجاهد والضحاك أيضاً، وقيل حشرها: هو بعثها يوم القيامة حيّة وهذا أصح لحديث: "إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة".

في الظلمات1} أموات غير أحياء إذ الأحياء يسمعون وينطقون ويبصرون وهؤلاء صم بكم في الظلمات فهم أموات غير أحياء وما يشعرون. وأخيراً أعلم تعالى عباده أن هدايتهم كإضلالهم بيده فمن شاء هداه ومن شاء أضله، وعليه فمن أراد الهداية فليطلبها في صدق من الله جل جلاله وعظم سلطانه ومن رغب عنها فلن يعطاها.
هداية الآيات
من بداية الآيات:
1- الإيمان بالله ورسوله ولقائه حياة والكفر بذلك موت فالمؤمن حي والكافر ميت.
2- سبب تأخر الآيات علم الله تعالى بأنهم لو أعطاهم الآيات ما آمنوا وبذلك يستوجبون العذاب.
3- تعدد الأمم2 في الأرض وتعدد أجناسها والكل خاضع لتدبير الله تعالى مربوب له.
4- تقرير ركن القضاء والقدر وإثباته في أم الكتاب.
قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ(41) وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ(42) فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(43) فَلَمَّا
__________
1 إنها ظلمات الكفر والشرك والمعاصي وما ينتج عن ذلك من القلق والحيرة واضطراب النفس، والخوف، والهمّ.
2 روى ابن كثير بسنده عن الحافظ أبي يعلى عن جابر بن عبدالله أن الجراد لم يُرَفي سنة من سِني عمر رضي الله عنه التي ولي فيها فسأل عنه فلم يخبر بشيء فاغتم لذلك فأرسل راكباً إلى كذا وآخر إلى الشام، وآخر إلى العراق يسأل هل رؤي من الجراد شيء أو لا؟ قال فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد فألقاها بين يديه فلما رآها كبّر ثلاثاً ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خلق الله عز وجل ألف أمّة منها ستمائة في البحر وأربعمائة في البرّ وأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد فإذا هلكت تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه. هذه الرواية ذكر بعض أهل العلم بطلانها.

نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإذا هُم مُّبْلِسُونَ(44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(45)
شرح الكلمات:
أرأيتكم : أخبروني.
الساعة : يوم القيامة.
يكشف : يزيل ويبعد وينجي.
البأساء والضراء: البأساء: الشدائد من الحروب والأمراض، والضراء: الضر.
يتضرعون: يتذللون في الدعاء خاضعون.
بغتة: فجأة وعل حين غفلة.
مبلسون : آيسون قنطون متحسرون حزنون.
دابر القوم : آخرهم أي أهلكوا من أولهم إلى آخرهم.
الحمد لله: الثناء بالجميل والشكر لله دون سواه.
معنى الآيات:
مازال السياق في طلب هداية أولئك المشركين العادلين بربهم أصناماً وأحجاراً، فيقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قل يا رسولنا لأولئك الذين يعدلون بنا الأصنام {أرأيتكم1} أي أخبروني، {إن أتاكم عذاب الله} اليوم انتقاماً منكم، {أو أتتكم الساعة} وفيها عذاب يوم القيامة، {أغير الله تدعون} ليقيكم العذاب ويصرفه عنكم {إن كنتم صادقين} في أن آلهتكم تنفع وتضره تقي السوء وتجلب الخير؟ والجواب معلوم أنكم لا تدعونها ليأسكم من إجابتها بل الله2 وحده هو الذي تدعونه فيكشف ما تدعونه له إن شاء، وتنسون عندها ما تشركون به من الأصنام فلا تدعونها ليأسكم من إجابتها لضعفها وحقارتها.
__________
1 قال القرطبي: هذه الآية في محاجة المشركين ممن اعترف أنّ له صانعاً أي: أنتم عند الشدائد ترجعون إلى الله تعالى وسترجعون إليه يوم القيامة أيضاً، فلم تصرّون على الشرك في حال الرفاهية؟! وكانوا يعبدون الأصنام ويدعون الله في صرف العذاب.
2 {بل إيّاه تدعون} بل: للإضراب، إضراب عن الأوّل وهو دعاء غير الله تعالى وإيجاب للثاني وهو دعاء الله عز وجل.

هذا ما تضمنته الآيتان الأولى (40) والثانية (41) وأما الآيات الأربع بعدهما فإن الله تعالى يخبر رسوله بقوله {ولقد أرسلنا إلى أمم1 من قبلك} أي أرسلنا رسلاً من قبلك إلى أممهم فأمروهم بالإيمان والتوحيد والعبادة فكفروا وعصوا فأخذناهم بالشدائد من حروب ومجاعات وأمراض لعلهم يتضرعون إلينا فيرجعون إلى الإيمان بعد الكفر والتوحيد بعد الشرك والطاعة بعد العصيان ولما لم يفعلوا وبخهم تعالى بقوله: {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا2} أي فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا إلينا {ولكن} حصل العكس حيث {قست قلوبهم وزين لهم الشيطان} أي حسن لهم {ما كانوا يعملون} من الشرك والمعاصي. وهنا لما نسوا ما ذكرتهم به رسلهم فتركوا العمل به معرضين عنه غير ملتفتين إليه فتح الله تعالى عليهم أبواب كل شيء من3 الخيرات حتى إذا فرحوا بذلك4 وسكنوا إليه واطمأنوا ولم يبق بينهم من هو أهل للنجاة. قال تعالى {أخذناهم بغتة} أي فجأة بعذاب من أنواع العذاب الشديدة {فإذا هم مبلسون}5 آيسون من الخلاص متحسرون {فقطع دابر6 القوم الذين ظلموا} أي استؤصلوا بالعذاب عن آخرهم. وانتهى أمرهم {والحمد لله رب العالمين} ناصر أوليائه ومهلك أعدائه فاذكر هذا لقومك يا رسولنا لعلهم يثوبون إلى رشدهم ويعودون إلى الحق الذي تدعوهم إليه وهم معرضون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- من غريب أحوال الإنسان المشرك أنه في حال الشدة الحقيقية يدعو الله وحده ولا يدعو معه الآلهة الباطلة التي كان في حال الرخاء والعافية يدعوها.
__________
1 أي أرسلنا رسلاً. فرسلاً مضمر وهناك إضمار آخر تقديره: فكذّبوهم فأهلكناهم.
2 يتضرعون: يدعون الله ويتذلّلون له، إذ التضرع مأخوذ من الرضاعة التي هي الذلة، يقال: ضرع إليه فهو ضارع أي: متذلل.
3 أبواب كل شيء كان مغلقاً عنهم وهو استدراج لهم وقد تطول مدّة الاستدراج والإمهال عشرين سنة فأكثر.
4 روى أحمد عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون}.
5 قالوا: المبلس: هو الباهت الحزين الآيس من الخير لشدة ما نزل به من سوء الحال قال العجاج.
يا صاح هل تعرف رسما مكرساً ... قال نعم أعرفه وأبلسا
المكرّس: الذي به الكرس وهو أبوال الإبل وأبعارها.
6 الدابر: الآخر يقال: دبر القوم يدبرهم دبراً إذا كان آخرهم. ومعناه أخذهم أجمعين إذ آخر من يؤخذ هو من كان خلف القوم وآخرهم.

2- بيان سنة الله تعالى في إهلاك الأمم.
3- إذا رأيت الأمة قد فسقت عن أمر ربها ورسوله فعوقبت فلم تتعظ بالعقوبة واستمرت على فسقها وبسط الله تعالى لها في الرزق وأغدق علبها الخيرات فاعلم أنها قد استدرجت للهلاك وأنها هالكة لا محالة.
4- شؤم الظلم هلاك الظالمين.
5- الإرشاد إلى حمد الله تعالى عند نهاية كل عمل، وعاقبة كل أمر.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ(46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ(47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(48) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآياتنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ(49)
شرح الكلمات:
أرأيتم: أخبروني وفي هذه الصيغة نوع من التعجب.
أخذ سمعكم وأبصاركم: أي أصمكم وأعماكم.
وختم على قلوبكم: جعلها لا تعي ولا تفهم.
نصرف الآيات : ننوع الأساليب لزيادة البيان والإيضاح.
يصدفون: يعرضون.
بغتة أو جهرة: بغتة: بدون إعلام ولا علامة سابقة، والجهرة: ما كان بإعلام وعلامة تدل عليه.
هل يهلك : أي ما يهلك.

معنى الآيات:
ما زال السياق في دعوة العادلين بريهم الأصنام والأوثان إلى التوحيد فقال تعالى لنبيه يلقنه الحجج التي تبطل باطل المشركين {قل أرأيتم} أي أخبروني يا قوم {إن أخذ الله1 سمعكم} وجعلكم صماً لا تسمعون وأخذ {أبصاركم} فكنتم عمياً لا تبصرون {وختم على قلوبكم} أي طبع عليها فأصبحتم لا تعقلون ولا تفهمون. أي إله غير الله يأتيكم بالذي أخذ الله منكم؟ والجواب لا أحد، إذاً فكيف تتركون عبادة من يملك سمعكم وأبصاركم وقلوبكم ويملك كل شيء فيكم وعندكم، وتعبدون مالا يملك من ذلكم من شيء؟ أي ضلال أبعد من هذا الضلال! ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {انظر} يا رسولنا {كيف2 نصرف الآيات}.
أي ننوع أساليبها زيادة في بيانها لإظهار الحجة بها {ثم هم يصدفون} أي يعرضون عادلين بربهم مالا يملك نفعاً ولا ضراً ثم أمره في الآية الثانية (47) أن يقول لهم وقد أقام الحجة عليهم في الآية الأولى (46) قل لهم {أرأيتكم} أي أخبروني3 {إن أتاكم عذاب الله} وقد استوجبتموه بصدوفكم عن الحق وإعراضكم عنه {بغتة4} أي فجأة بدون سابق علامة، {أو جهرة} بعلامة تقدمته تنذركم به أخبروني من يهلك منا ومنكم؟ {هل يهلك إلا القوم الظالمون}5 بصرف العبادة إلى هن لا يستحقها وترك من وجبت له وهو الله الذي لا إله إلا هو ثم عزى الرحمن جل جلاله رسوله بقوله: {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين6 ومنذرين } أي ما نكلفهم بغير حمل البشارة بالنجاة ودخول الجنة لمن آمن وعمل صالحاً والنذارة لمن كفر وعمل سوءاً، فقال تعالى: {فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} {والذين
__________
1 الأخذ: انتزاع الشيء، وتناوله من مقره وهو هنا بمعنى السلب والإعدام.
2 هذا التعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من عدم تأثرهم بما عاينوا من الآيات الباهرة، أي: انظر كيف نكررها ونلونها من أسلوب إلى آخر تارة نوردها بمقدمات عقلية وأخرى بأسلوب الترغيب والترهيب، والتنبيه والتذكير.
3 وهذا تبكيت آخر غير الأول لهم.
4 وفُسّر بغتة وجهرة بليلا ونهارا والكل صالح وصحيح.
5 الاستفهام في قوله: {هل يهلك.. } الخ للتقرير وحصر الهلاك في أهل الظلم تسجيلا عليهم الظلم وإيذاناً بأن هلاكهم كان سبب ظلمهم الذي هو وضعهم الشرك موضع التوحيد والكفر موضع الإيمان.
6 {مبشرين ومنذرين} حالان مقدرتان من المرسلين أي ما نرسلهم إلاّ مقدرين تبشيرهم وإنذارهم وفيهما معنى التعليل للإرسال والتبشير: الأصل فيه الإخبار بالأمر السار، والإنذار: الإخبار بالخبر الضار دنيويا أو أخرويا. والمراد هنا لكل من البشارة والنذارة نعيم الآخرة وعذابها.

كذبوا بآياتنا} التي نرسل نجا المرسلين فلم يؤمنوا ولا يعملوا صالحا {يمسهم العذاب} 1 عذاب النار {بما كانوا يفسقون} بسبب فسقهم عن طاعتنا وطاعة رسلنا الفسق الذي أثمره لهم التكذيب بالآيات، إذ لو آمنوا بآيات الله لما فسقوا عن طاعته وطاعة رسوله فشؤمهم في تكذيبهم، وذلك جزاؤهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- افتقار العبد إلى الله في سمعه وبصره وقلبه وفي كل حياته موجب عليه عبادة الله وحده دون سواه.
2- هلاك الظالمين لا مناص منه عاجلاً أو آجلاً.
3- بيان مهمة الرسل وهي البشارة لمن أطاع والنذارة من عصى والهداية والخيرات على الله تعالى.
4- الفسق عن طاعة الله ورسوله ثمرة التكذيب، والطاعة ثمرة الإيمان.
قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ(50) وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(51) وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ
__________
1 أي : العذاب الذي أنذروا به وهو عاجل كعذاب الدنيا أو آجل وهو عذاب الآخرة.

عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ(52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ(53)
شرح الكلمات:
خزائن: جمع خزانة أو خزينة ما يخزن فيه الشيء ويحفظ.
الغيب: ما غاب عن العيون وكان محصلاً في الصدور وهو نوعان غيب حقيقي وغيب إضافي والحقيقي مالا يعلمه إلا الله تعالى، والإضافي ما يعلمه أحد ويجهله آخر.
أنذر به : خوّف به أي بالقرآن.
الغداة: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، والعشي من صلاة العصر إلى غروب الشمس.
فتطردهم: أي تبعدهم من مجلسك.
فتنا: ابتلينا بعضهم ببعض الغني بالفقير، والشريف بالوضيع.
من الله علينا: أي أعطاهم الفضل فهداهم إلى الإسلام في دوننا.
بالشاكرين: المستوجبين لفضل الله ومنته بسبب إيمانهم وصالح أعمالهم.
معنى الآيات:
مازال السياق مع العادلين بربهم الأصنام المنكرين للنبوة المحمدية فأمر الله تعالي رسوله أن يقول لهم: {لا أقول لكم عندي خزائن الله1} أي خزائن الأرزاق {ولا أعلم الغيب} أي ولا أقول لكم إني أعلم الغيب، {ولا أقول لكم إني ملك} من الملائكة ما أنا إلا عبد رسول أتبع ما يوحي2 إليّ ربي فأقول وأعمل بموجب وحيه إليّ. ثم قال له اسألهم قائلاً {هل
__________
1 هذا ردّ على المشركين في اقتراحاتهم المتعددة المتنوعة فأمر تعالى رسوله أن يرد عليهم بأنه لا يملك خزائن الله التي فيها الأرزاق حتى يعطيهم ما يطلبون ويقترحون، ولا هو يعلم الغيب حتى يخبرهم بموعد العذاب الذي ينتظرهم، ولا هو ملك يقدر على مالا يقدر عليه البشر، وإنما هو بشر يوحى إليه الخبر من ربّه فيخبر به ويعمل به ليس غير.
2 هذا غير ناف لاجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم وكثيرا ما يجتهد وقد يقيس على المنصوص عنه، ولكنه لا يقرّ على غير الحق وما يرضي الرب عز وجل.

يستوي الأعمى1 والبصير؟} والجواب لا، فكذلك لا يستوي المؤمن والكافر، والمهدي والضال {أفلا تتفكرون} أي مالكم لا تتفكرون فتهتدوا للحق وتعرفوا سبيل النجاة. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (50) أما الآية الثانية (51) فإن الله تعالى يأمر رسوله أن ينذر بالقرآن المؤمنين العاصين فقال {وأنذر2 به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم} يوم القيامة وهم مذنبون، وليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع3 فهؤلاء ينفعهم إنذارك بالقرآن أما الكفرة المكذبون فهم كالأموات لا يستجيبون وهذا كقوله تعالى من سورة ق {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} فهؤلاء إن أنذرتهم يرجى لهم أن يتقوا معاصي الله ومعاصيك أيها الرسول وهو معنى قوله تعالى: {لعلهم يتقون}. هذا ما تضمنته الآية الثانية (51) أما الآية الثالثة (52) وهي قوله تعالى {ولا تطرد4 للذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، يريدون وجهه} فإن بعض المشركين في مكة اقترحوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعد من مجلسه فقراء المؤمنين كبلال وعمار وصهيب حتى يجلسوا إليه ويسمعوا عنه فهمَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفعل رجاء هداية أولئك المشركين فنهاه الله تعالى عن ذلك بقوله {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} في صلاة الصبح، وصلاة العصر، يريدون وجه الله ليرضى عنهم ويقربهم ويجعلهم من أهل ولايته وكرامته، ومبالغة في الزجر عن هذا الهم قال تعالى: {ما عليك من حسابهم من شيء} أي ما أنت بمسؤول عن خطاياهم إن كانت لهم خطايا، ولا هم بمسئولين عنك فلم تطردهم إذاً؟ {فتطردهم5 فتكون من الظالمين} أي فلا تفعل، ولم يفعل صلى الله عليه وسلم وصبر عليهم وحبس نفسه معهم وفي الآية الأخيرة (53) يقول تعالى: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض}6
__________
1 في هذا الخطاب الاستفهامي إيماء إلى المفارقة التامة الحاصلة من المؤمنين والكافرين، وأن الكافرين عمي والمؤمنين بصراء، والمؤمنون مهتدون، والكافرون ضالّون، فما لهم لا يتفكرون لعلهم يخرجون من ظلمة كفرهم.
2 وأنذر به أي: بالقرآن وقيل بيوم القيامة، وكونه القرآن أولى وأصح لقوله تعالى: {فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد}.
3 في الآية دليل على إبطال شفاعة الأصنام لعابديها، والأولياء للمشركين ممن يذبحون لهم وينذرون كما فيها إبطال لزعم أهل الكتاب القائلين نحن أبناء الله وأحباؤه فسوف يشفع لنا الأب، إذ شرط صحة الشفاعة يوم القيامة أن يأذن الله لمن يشفع وأن يرضى بنجاة المشفوع له.
4 روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع فحدّث نفسه فأنزل الله عز وجل: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم... } الآية.
5 في الآية دليل على عدم جواز تعظيم الرجل لجاهه وثوبه وعدم احتقار الرجل لخموله ورثاثة ثوبه.
6 الفتنة: الاختبار أي: عاملناهم معاملة المختبر لهم فأغنينا بعضا وأفقرنا بعضا واللاّم في قوله تعالى: {ليقولوا} هي لام العاقبة أي: ليقول أغنياء وأشراف المشركين مشيرين إلى فقراء المؤمنين: أهؤلاء من الله عليهم بأن وفقهم لإصابة الحق دوننا، ونحن الرؤساء وهم العبيد.

أي هكذا ابتلينا بعضهم ببعض هذا غني وذاك فقير، وهذا وضيع وذاك شريف، وهذا قوي وذاك ضعيف ليؤول الأمر ويقول الأغنياء الشرفاء للفقراء الضعفاء من المؤمنين استخفافاً بهم واحتقاراً لهم: أهؤلاء الذين من الله عليهم بيننا بالهداية والرشد قال تعالى: {أليس الله بأعلم بالشاكرين}. بلى فالشاكرون هم المستحقون لإنعام الله بكل خير وأما الكافرون فلا يعطون ولا يزادون لكفرهم النعم، وعدم شكرهم لها.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم.
2- تقرير مبدأ أن الرسول لا يعلم الغيب، وأنه لا يتصرف في شيء من الكون.
3- نفي مساواة المؤمن والكافر إذ المؤمن مبصر والكافر أعمى.
4- استحباب مجالسة أهل الفاقة وأهل التقوى والإيمان.
5- بيان الحكمة في وجود أغنياء وفقراء وأشراف ووضعاء، وأقوياء وضعفاء وهي الاختبار.
6- الشاكرون مستوجبون لزيادة النعم، والكافرون مستوجبون لنقصانها وذهابها.
وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ1 رَّحِيمٌ(54) وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ(55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ
__________
1 قرئ {فأنه غفور} بالفتح أنّه وقرئ بكسرها على الاستئناف، أمّا على الفتح ففي توجيهه رأيان، الأوّل أن يكون في موضع رفع على الابتداء كأنّه قال: فله أنه غفور رحيم أي: فله غفران الله، والثاني: أن يضم مبتدأ تكون أنّ وما وعملت فيه خبره، فأمره غفران الله له، وهذا الأخير أولى من الأول.

أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ(56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ(58) قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ(58)
شرح الكلمات:
سلام عليكم: دعاء بالسلامة من كل مكروه، وهي تحية المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة في الجنة.
كتب ربكم على نفسه الرحمة: أي أوجب الرحمة على نفسه فلذا لا يعذب إلا بعد الإنذار، ويقبل توبة من تاب.
سوءاً: أي ذنباً أساء به إلى نفسه.
بجهالة : الجهالة أنواع منها: عدم تقدير عاقبة الذنب، ونسيان عظمة الرب.
تستبين: تتضح وتظهر.
نهيت : أي نهاني ربي أي زجرني عن عبادة أصنامكم.
تدعون : تعبدون.
بينة : البينة: الحجة الواضحة العقلية الموجبة للحكم بالفعل أو الترك.
إن الحكم : أي ما الحكم إلا لله.
يقص الحق : أي يخبر بالحق.
خير الفاصلين : الفصل في الشيء: القضاء والحكم فيه، والفاصل في القضية: الحاكم فيها ومنهيها.
معنى الآيات:
يرشد الله تبارك وتعالى رسوله إلى الطريقة المثلى في الدعوة إليه، بعد أن نهاه عن الطريقة التي هم بها وهي طرد المؤمنين من مجلسه ليجلس الكافرون رجاء هدايتهم فقال تعالى:

{وإذا جاءك الذين1 يؤمنون بآياتنا} أي يصدقون بنبوتك وكتابك وما جئت به من الدين الحق فهؤلاء رحب بهم وقل2 سلام عليكم ومهما كانت ذنوبهم التي ارتكبوها، وأخبرهم أن ربهم تعالى قد كتب3 على نفسه الرحمة فلا يخافون ذنوبهم بعد توبتهم وإنابتهم إلى ربهم بالإيمان به وتوطين النفس على طاعته، {أنه من عمل منكم سوءً4 بجهالة ثم تاب من بعده} أي أقلع عن الذنب نادماً مستغفراً، وأصلح نفسه بالصالحات فإن ربه غفور رحيم فسيغفر له ويرحمه. هكذا يستقبل كل عبد جاء مؤمناً مستفتياً يسأل عن طريق النجاة يستقبل بالبشر والطلاقة والتحية والسلام لا بالعنف والتقريع والتوبيخ. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (54) أما الآية الثانية (55) فإنه تعالى بعد أن نهى رسوله عن الاستجابة لاقتراح المشركين المتكبرين، وعن طرد المؤمنين وعن حكمته في وجود أغنياء وفقراء وأقوياء وضعفاء في الناس وعن الطريقة المثلى في استقبال التائبين المستفتين بعد هذا كله قال تعالى: {وكذلك نفصل الآيات} أي مثل هذا التفصيل نفصل الآيات مستقبلاً لبيان الهداية الإلهية ليهتدي من أراد الله له الهداية وقد طلبها ورغب فيها، ولتستبين5 وتتضح سبيل المجرمين، فلا تُتبع وَيَنْهى عن اتباعها، لأنها طريق الهلاك والدمار. هذا ما أفادته الآية الثانية أما الآيات الثالثة والرابعة والخامسة في هذا السياق فهي تحمل الهداية الإلهية للرسول صلى الله عليه وسلم في طريق دعوته إلى ربه فكل آية من تلك الآيات مفتتحة بكلمة (قل) أي قل أيها الرسول لأولئك المشركين الذين يدعونك إلى موافقتهم على شركهم وعبادة غيري معهم {أني نهيت} أي نهاني ربي أن أعبد ما تدعون6 من الأصنام والأوثان، وقل لهم: لا أتبع أهواءكم في عبادة غير الله تعالى الموروثة لكم عن آبائكم الضلال مثلكم إني إن فعلت أكون قد
__________
1 روي عن الفضل بن عباس قول: جاء قوم من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا إنّا قد أصبنا من الذنوب فاستغفر لنا فأعرض عنهم فنزلت الآية، وروي عن أنس بن مالك مثله.
2 أي: سلمكم الله في دينكم وأنفسكم، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال: "الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام ".
3 كتب: بمعنى أوجب ذلك على نفسه بفضله ورحمته، وكتبه في اللوح المحفوظ فالكتابة على بابها إذاً.
4 {سوءا} أي خطيئة من غير إرادة تحدي شرع الله وانتهاك حرماته وإنما ضعفاً منه وعدم قدرة على التغلب على طبعه وشهوته وميل هواه.
5 قرىء: {ليستبين} بالياء والتاء فقراءة التاء يكون الخطاب فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي: ولتستبين يا رسولنا سبيل المجرمين، وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته، وإذا بان سبيل المجرمين فقد بان سبيل المؤمنين وقراءة الياء ليستبين سبيل المجرمين، فسبيل مرفوع على الفاعلية.
6 أطلق لفظ الدعاء وأريد به العبادة، لأنّ الدعاء هو العبادة ومخها أيضاً لما في الدعاء من مظاهر العبودية لله تعالى ومظاهر أسمائه وصفاته عز وجل.

ضللت1 إذاً وما أنا من المهتدين إلى سبل الفوز والفلاح. وقل :{إني على بينة من ربي} أي على علم يقيني من وجوب الإيمان بالله ووجوب توحيده وطاعته ووجوب الدعوة إلى ذلك، وكذبتم أنتم بهذا كله وبالعذاب إذ أنذرتكم به وأنا ما عندي ما تستعجلون به من العذاب، ولو كان عندي لحل بكم وانتهى أمركم، ولكن الحكم لله ليس لأحد غيره وقد قص عليكم أخبار السابقين المطالبين2 رسلهم بالعذاب ورأيتم كيف حل بهم العذاب، {والله يقص3 الحق وهو خير الفاصلين} فإذا أراد أن يحكم بيني وبينكم فإنه نعم الحكم والعدل وهو خير الحاكمين. وقل لهم يا رسولنا {لو أن عندي ما تستعجلون به} من العذاب {لقضي الأمر بيني وبينكم} بتدمير الظالم منا، {والله أعلم بالظالمين}، ولا يهلك غيرهم لأنهم المستوجبون للعذاب بظلمهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الرفق والتلطف بالمستفتين وعدم الشدة والغلظة عليهم.
2- إتباع أهواء أهل الأهواء والباطل يضل ويهلك.
3- على المسلم الداعي إلى ربه أن يكون على علم كاف بالله تعالى وبتوحيده ووعده ووعيده وأحكام شرعه.
4- وجوب الصبر والتحمل مما يلقاه الداعي من أهل الزيغ والضلال من الاقتراحات الفاسدة.
وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ(59)
__________
1 قرئ {ضلَلِت} بفتح اللام وكسرها، وهما لغتان، فضلِلت: بكسر اللام لغة تميم، والفتح لغة الحجاز، وهي أفصح.
2 إذ أكثر أمم الوصل قالوا لرسلهم فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قالتها عاد لنبيها هود وقالها قوم نوح لنوح عليه السلام.
3 أي: يقص القصص الحق، قال القرطبي بهذا استدل من منع المجاز في القرآن، وقرئ نقض بالضاد من القضاء ويدل عليه قوله بعد: {وهو خير الفاصلين} الفصل: القضاء والحكم.

وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ(61)ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ(62)
شرح الكلمات:
مفاتح الغيب: المفاتح: جمع1 مفتح بفتح الميم أي المخزن.
البر والبحر: البر ضد البحر، وهو اليابس من الأرض، والبحر ما يغمره الماء منها.
ورقة: واحدة الورق والورق للشجر كالسعف للنخل.
حبة: واحدة الحب من ذرة أو بر أو شعير أو غيرها.
ولا رطب : الرطب ضد اليابس من كل شيء.
في كتاب مبين: أي في اللوح المحفوظ كتاب المقادير.
يتوفاكم بالليل: أي ينيمكم باستتار الأرواح وحجبها عن الحياة كالموت.
جرحتم: أي كسبتم بجوارحكم من خير وشر.
ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى: أي يوقظكم لتواصلوا العمل إلى نهاية الأجل المسمى لكل.
حفظة : الكرام الكاتبين.
رسلنا: ملك الموت وأعوانه.
__________
1 المفتاح والجمع مفاتيح، والمفتح: عبارة عن كل ما يحل مغلقاً محسوساً كالقفل للباب، أو معقولاً كالنظر. وفي الحديث: "إنّ من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر".

معنى الآيات:
لما ذكر تعالى في نهاية الآية السابقة أنه أعلم بالظالمين المستحقين للعقوبة أخبر عز وجل أن الأمر كما قال ودليل ذلك أنه عالم الغيب والشهادة، إذ {عنده مفاتح الغيب1} أي خزائن الغيب وهو الغيب الذي استأثر بعلمه فلا يعلمه سواه2 ويعلم ما في البر والبحر وهذا من عالم الشهادة، إضافة إلى ذلك أن كل شيء كان أو يكون من أحداث العالم قد حواه كتاب له اسمه اللوح المحفوظ، وهو ما دل عليه قوله: {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب3 ولا يابس إلا في كتاب مبين} وما كتبه قبل وجوده فقد علمه إذاً فهو عالم الغيب والشهادة أحصى كل شيء عدداً وأحاط بكل شيء علماً، فكيف إذاً لا يعبد ولا يرغب فيه ولا يرهب منه وأين هو في كماله وجلاله من أولئك الأموات من أصنام وأوثان.؟؟ هذا ما دلت عليه الآية الأولى (59) وأما الآية الثانية (65) فقد قررت ما دلت عليه الآية قبلها من قدرة الله وعلمه وحكمته فقال تعالى مخبراً عن نفسه {وهو الذي يتوفاكم4 بالليل} حال نومكم إذ روح النائم تقبض ما دام نائماً ثم ترسل إليه عند إرادة الله بعثه من نومه أي يقظته، وقوله {ثم يبعثكم فيه} أي في النهار المقابل لليل، وعلة هذا أن يقضى ويتم الأجل الذي حدده تعالى للإنسان يعيشه وهو مدة عمره طالت أو قصرت، وهو معنى قوله {ثم يبعثكم فيه ليُقضى أجل مسمى} وقوله تعالى {ثم إليه مرجعكم} لا محالة وذلك بعد نهاية الأجل، {ثم ينبئكم} بعلمه {بما كنتم تعملون} من خير وشر ويجازيكم بذلك وهو خير الفاصلين. وفي الآية الثالثة يخبر تعالى عن نفسه أيضاً تقريراً لعظيم سلطانه الموجب له بالعبادة والرغبة والرهبة إذ قال مخبراً عن نفسه {وهو القاهر فوق عباده}، ذو القهر التام
__________
1 روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلاّ الله: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله" ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "من أتى عرّافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة" والعرّاف الحازي والمنجم الذي يدعي علم الغيب، والمهنة: العرافة، وصاحبها عَرّاف. وفي مسلم عن عائشة أنها قالت سأل رسول الله أناس عن الكهانة فقال: "ليست بشيء. فقالوا يا رسول الله انهم يحدّثون أحياناً بشيء فيكون حقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الكلمة الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليّه قرّ الدجاجة فيخلطون معها مائة كذبة".
2 روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله}.
3 يطلق لفظ الرطب على الماء وما ينبت والحيّ، ولسان المؤمن، واليابس على ضد ذلك كالياس والتراب ومالا ينبت، ولسان الكافر لأنّه لا يذكر الله تعالى.
4 التوفي: استيفاء الشيء، وتوفي الميت: استوفى عدد أيام عمره، والنائم كأنه استوفى حركاته في اليقظة، والوفاة: الموت، واستوفى دينه: أخذه كاملاً.

والسلطان الكامل على الخلق أجمعين {ويرسل عليكم} أيها الناس {حفظة1} بالليل والنهار يكتبون أعمالكم وتحفظ لكم لتجزوا بها {حتى إذا جاء أحدكم الموت} لانقضاء أجله {توفته رسلنا} ملك الموت وأعوانه، {وهم لا يفرطون} أي لا يضيعون ولا يقصرون وأخيراً يقول تعالى مخبراً بالأمر العظيم إنه الوقوف بين يدي الرب تعالى المولى الحق الذي يجب أن يعبد دون سواه، وقد كفره أكثر الناس وعصوه، وفسقوا عن أمره وتركوا طاعته وأدهى من ذلك عبدوا غيره من مخلوقاته فكيف يكون حسابهم والحكم عليهم؟ والله يقول: {ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين2}.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان مظاهر القدرة والعلم والحكمة لله تعالى.
2- استئثار الله تعالى بعلم الغيب.
3- كتاب المقادير حوى كل شيء حتى سقوط الورقة من الشجرة وعلم الله بذلك.
4- صحة إطلاق الوفاة على النوم، وبهذا فسر قوله تعالى لعيسى إني متوفيك.
5 - تقرير مبدأ المعاد والحساب والجزاء.
قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ(63)قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ(64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم
__________
1 الحفظة : جمع حافظ كالكتبة جمع كاتب، والمراد هنا: الملائكة الكرام الكاتبون وهم أربعة: ملكان بالليل، وملكان بالنهار، وخامس لا يفارق أبداً.
2 {أسرع الحاسبين} أي: لا يحتاج إلى فكرة وروية ولا عقد يدٍ.

بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ(65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ(66) لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(67)
شرح الكلمات:
ينجيكم: يخلصكم مما تخافون.
تضرعاً وخفية : التضرع: الدعاء بتذلل وخفية بدون جهر بالدعاء.
من هذه : أي الهلكة.
من الشاكرين : المعترفين بفضلك الحامدين لك على فعلك.
كرب : الكرب: الشدّة الموجبة للحزن وألم الجسم والنفس.
تشركون : أي به تعالى بدعائهم أصنامهم وتقربهم إليها بالذبائح.
من فوقكم: كالصواعق ونحوها.
من تحت أرجلكم: كالزلزال والخسف ونحوها.
أو يلبسكم شيعاً : أي يخلط عليكم أمركم فتختلفون شيعاً وأحزاباً.
ويذيق بعضكم بأس بعض: أي يقتل بعضكم بعضاً فتذيق كل طائفة الأخرى ألم الحرب.
يفقهون : معاني ما نقول لهم.
وكذب به قومك : أي قريش.
الوكيل: صن يوكل إليه الشيء أو الأمر يدبره.
لكل نبأ مستقر: المستقر: موضع الاستقرار والنبأ: الخبر العظيم.
معنى الآيات:
ما زال السياق مع المشركين العادلين بربهم فيقول الله تعالى لرسوله قل لهم: {من ينجيكم من ظلمات البر1 والبحر} إذا ضل أحدكم طريقه في الصحراء ودخل عليه ظلام الليل، أو
__________
1 ظلمات البر والبحر: كناية عن شدائدهما، يقال: يوم مظلم أي: شديد، وتقول العرب: يوم ذو كواكب وأنشد سيبويه.
بني أسد هل تعلمون بلادنا ... إذا كان يوم ذو كواكب أشنعاً
وجمع الظلمات لتعددها إذ هي ظلمة البر وظلمة البحر وظلمة الليل وظلمة الغيم.

ركب البحر فغشيته ظلمة السحاب والليل والبحر واضطربت نفسه من الخوف يدعو من؟ إنه يدعو الله وحده لعلمه أنه لا ينجيه إلا هو يدعوه ويتضرع إليه جهراً وسراً قائلاً وعزتك لئن أنجيتنا من هذه الهلكة التي حاقت بنا لنكونن من الشاكرين لك. ثم إذا نجاكم استجابة لدعائكم وأمنتم المخاوف عدتم فجأة إلى الشرك به بدعاء غيره. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (63) {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية، لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين}، وفي الآية الثانية (64) يأمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم جواباً لقوله من ينجيكم :{الله ينجيكم منها1} أي من تلك الحالة التي اضطربت لها نفوسكم وخشيتم فيها الهلاك وينجيكم أيضاً من كل كرب2، ثم مع هذا يا للعجب أنتم تشركون3 به تعالى أصنامكم. قل لهم يا رسولنا أن الله الذي ينجيكم من كل كرب هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من السماء فوقكم4، أو من الأرض تحتكم، أو يخلط عليكم أمركم فتتنازعوا فتختلفوا فتصبحوا شيعاً وطوائف وفرقاً متعادية يقتل بعضكم بعضاً، فيذيق بعضكم بأس بعض، ثم قال الله تعالى لرسوله انظر يا رسولنا كيف نفصل الآيات بتنويع الكلام وتوضيح معانيه رجاء أن يفقهوا معنى ما نقول لهم فيهتدوا إلى الحق فيؤمنوا بالله وحده ويؤمنوا بلقائه وبرسوله وما جاء به فيكملوا ويسعدوا وفي الآية (65) يخبر تعالى بواقع القوم: أنهم كذبوا بهذا القرآن وما أخبرهم به من الوعيد الشديد وهو الحق الذي ليس بباطل ولا يأتيه الباطل، ويأمر رسوله أن يقول لهم بعد تكذيبهم له {لست عليكم بوكيل} فأخاف من تبعة عدم إيمانكم وتوحيدكم {لكل نبأ مستقر5} وقد أنبأتكم بالعذاب على تكذيبكم وشرككم {وسوف تعلمون} ذلك يوم يحل بكم وقد استقر نبأه يوم بدر والحمد لله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا برهان أعظم على بطلان الشرك من أن المشركين يخلصون الدعاء لله تعالى في الشدة.
__________
1 قرئ: {ينجّيكم} بالتشديد، و {ينجيكم} بالتخفيف، والمعنى واحد والفعل: يقال نجّاه من كذا وأنجاه من كذا.
2 الكرب: الغمّ يأخذ النفس ويقال فيه: رجل مكروب، والكربة مأخوذة منه.
3 هذه الجملة تحمل لهم التقريع والتوبيخ أي: ومع هذا الإنجاء الذي يحصل لكم من ربكم إذا أنتم مشركون يا للوقاحة والدناءة، وإلاّ فهم مشركون من قبل.
4 من فوقكم كالحجارة، والطوفان والصواعق ومن تحتكم كالخسف والرجفة.
5 {لكل نبأ} أي: خبر مستقر أي وقت يقع فيه مضمونه فلا يتقدّم ولا يتأخر.

2- لا منجى من الشدائد ولا منقذ من الكروب إلا الله سبحانه وتعالى.
3- التحذير من الاختلاف المفضي1 إلى الانقسام والتكتل.
4- {لكل نبأ مستقر} . أجري مجرى المثل ، وكذا {سوف تعلمون}.
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ(70)
شرح الكلمات:
يخوضون في آياتنا : يتكلمون في القرآن طعناً فيه ونقداً له ولما جاء فيه.
فأعرض عنهم : قم محتجاً على صنيعهم الباطل، غير ملتفت إليهم.
بعد الذكرى : أي بعد التذكر.
__________
1 يحسن ذكر شاهد عظيم على معنى هذه الآية: {ويلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض} روى مسلم عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الله زوى لي الأرض (أي جمعها) فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمّتي ألاّ يهلكهم بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإنّ ربي قال لي يا محمد: إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمّتك ألا أهلكهم بسنة عامة وألا أسلط عليهم عدوَّاً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضاً".

ولكن ذكرى : أي موعظة لهم.
وذر الذين : أي اترك الكافرين.
لعبأ ولهوا : كونه لعباً لأنه لا يجنون منه فائدة قط، وكونه لهواً لأنهم يتلهون به وشغلهم عن الدين الحق الذي يكملهم ويسعدهم.
أن تبسل نفس: أي تسلم فتؤخذ فتحبس في جهنم.
كل عدل: العدل هنا: الفداء.
أبسلو: حبسوا في جنهم بما كسبوا من الشرك والمعاصي.
من حميم : الحميم الماء الشديد الحرارة الذي لا يطاق.
وعذاب أليم: أي شديد الألم والإيجاع وهو عذاب النار.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث مع أولئك العادلين المكذبين في!قول الله تعالى لرسوله {وإذا رأيت1 الذين يخوضون في آياتنا} يستهزئون بالآيات القرآنية ويسخرون مما دلت عليه من التوحيد والعذاب للكافرين {فأعرض عنهم} أي فصد عنهم وانصرف {حتى يخوضوا في حديث غيره} وإن أنساك الشيطان نهينا هذا فجلست ثم ذكرت فقم ولا تقعد مع القوم الظالمين،وقوله تعالى: {وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء} أي وليس على المؤمنين المتقين أنت وأصحابك يا رسولنا من تبعة ولا مسئولية ولكن إذا خاضوا في الباطل فقوموا ليكون ذلك ذكرى لهم فيكفون عن الخوض في آيات الله تعالى. وهذا كان بمكة قبل قوة الإسلام، ونزل بالمدينة النهي عن الجلوس مع الكافرين والمنافقين إذا خاضوا في آيات الله ومن جلس معهم يكون مثلهم وهو أمر عظيم قال تعالى: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم} هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية.
__________
1 الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأمته داخلة معه في هذا فمتى حصل لمؤمن أو مؤمنة مثل هذا تعيّن عليه أن يقوم احتجاجا وعدم رضا، وفي الآية دليل على أنّ مجالسة أهل الكبائر لا تجوز لاسيما في حال تلبسهم بالكبيرة، وهذه أقوال السلف في هذه المسألة قال ابن خويز منداد: من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر مؤمنا كان أو كافراً قال القرطبي: منع أصحابنا الدخول على أرض العدو ودخول كنائسهم ومجالسة الكفار وأهل البدع وألا تعتقد مودّتهم ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم. قال الفضيل بن عياض من أحبّ صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإيمان من قلبه.

أما الثالثة (70) فإن الله تعالى يأمر رسوله أن يترك الذين اتخذوا دينهم الحق الذي جاءهم به رسول الحق لعباً ولهواً يلعبون به أو يسخرون منه ويستهزئون به وغرتهم الحياة الدنيا قال تعالى: {وذر الذين اتخذوا دينهم1 لعباً ولهواً وغرتهم الحياة الدنيا} اتركهم فلا يهمك أمرهم وفي هذا تهديد لهم على ما هم عليه من الكفر والسخرية والاستهزاء، وقد أخبر تعالى في سورة الحجر أنه كفاه أمرهم إذ قال {إنا كفيناك المستهزئين} ، وقوله تعالى {وذكر به} أي بالقرآن {أن تبسل نفس} أي كي لا تبسل2 {بما كسبت} أي كي لا تسلم نفس للعذاب بما كسبت من الشرك والمعاصي، {ليس لها} يوم تسلم للعذاب {من دون الله ولي} يتولى خلاصها، {ولا شفيع} يشفع لها فينجيها من عذاب النار {وإن تعدل كل3 عدل لا يؤخذ منها} أي وإن تقدم ما أمكنها حتى ولو كان ملء الأرض ذهباً فداء لها لما نفعها ذلك ولما نجت من النار، ثم قال تعالى: {أولئك الذين أبلسوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم} أبلسوا: أسْلِمُوا وأخذوا إلى جهنم بما كسبوا من الذنوب والآثام لهم في جهنم شراب من ماء حميم حار وعذاب موجع اليم. وذلك بسبب كفرهم بالله وآياته ورسوله حيث نتج عن ذلك خبث أرواحهم فما أصبح يلائم وصفهم إلا عذاب النار قال تعالى من هذه السورة سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة الجلوس في مجالس يسخر فيها من الإسلام وشرائعه وأحكامه وأهله.
2- وجوب القيام احتجاجاً من أي مجلس يعصى فيه الله ورسوله.
3- مشروعية الإعراض في حال الضعف عن المستهزئين بالإسلام الذين غرتهم الحياة الدنيا من أهل القوة والسلطان وحسب المؤمن أن يعرض عنهم فلا يفرح بهم ولا يضحك لهم.
__________
1 اختلف في الدين الذي اتخذه المشركون لهوا ولعباً، والظاهر أنّه الإسلام الذي جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم به إذ لا دين لله سواه وبعث الله تعالى إليهم رسوله به فهو دينهم ومع الأسف رفضوه واتخذوه لهوا ولعبا يسخرون ويستهزئوا به.
2 قال القرطبي تبسل أي ترتهن وتسلم للهلكة عن مجاهد وقتادة والحسن وعكرمة والإبسال تسليم المرء للهلاك. قال الشاعر:
وابسالي بنيِّ بغير جرم ... بعوناه ولا بدم مراق
ومعنى بعوناه جنيناه. والشاهد في قوله وإبسالي بني حيث أسلم بنيه للهلاك.
3 العدل الفداء أو الفدية.

4- وجوب التذكير بالقرآن وخاصة المؤمنين الذين يرجى توبتهم.
5- من مات على كفره لم ينج من النار إذ لا يجد فداء ولا شفيعاً يخلصه من النار بحال.
قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(71) وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(73)
شرح الكلمات:
أندعوا : : أي نعبد.
ما لا ينفعنا ولا يضرنا: أي ما لا يقدر على نفعنا ولا على ضرنا لو أراد ذلك لنا.
ونرد على أعقابنا : أي نرجع كفاراً بعد أن كنا مؤمنين.
استهوته الشياطين : أي أضلته في الأرض فهوى فيها تائه حيران لا يدري أين يذهب.
واتقوه: أي اتقوا الله بتوحيده في عبادته وترك معصيته.
ويوم يقول كن فيكون : أي في يوم القيامة.
الصور : بوق كالقرن ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام.
الحكيم: في أفعاله الخبير بأحوال عباده.

معنى الآيات:
يدل السياق على أن عرضا من المشركين كان لبعض المؤمنين لأن يعبدوا معهم آلهتهم فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم عرضهم الرخيص منكراً عليهم ذلك أشد الإنكار {قل أندعوا من دون الله}، الاستفهام للإنكار، {ما لا ينفعنا} إن عبدناه، {ولا يضرنا} إن تركنا عبادته وبذلك نصبح وقد رددنا على أعقابنا1 من التوحيد إلى الشرك بعد إذ هدانا الله إلى الإيمان به ومعرفته ومعرفة دينه، ويكون حالنا كحال من أضلته الشياطين في الصحراء فتاه فيها فلا يدرى أين يذهب ولا أين يجيئ، {وله أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا} وهو لا يقدر على إجابتهم ولا الإتيان إليهم لشدة ما فعل استهواء2 الشياطين في عقله. ثم أمره أن يقول أيضاً قل إن الهدى الحق الذي لا ضلال ولا خسران فيه هدى الله الذي هدانا إليه ألا إنه الإسلام، وقد أمرنا ربنا أن نسلم3 له قلوبنا ووجوهنا لأنه رب العالمين فأسلمنا، كما أمرنا أن نقيم الصلاة فأقمناها وأن نتقيه فاتقيناه وأعلمنا أنا سنحشر إليه يوم القيامة فصدقناه في ذلك نم هدانا فلن نرجع بعد إلى الضلالة. هذا ما تضمنته الآيتان الأولى والثانية أما الثالثة (73) فقد تضمنت تمجيد الرب بذكر مظاهر قدرته وعلمه وعدله فقال تعالى: {وهو} أي الله رب العالمين الذي أمرنا أن نسلم له فأسلمنا {الذي خلق السموات والأرض بالحق4} فلم يخلقهما عبثاً وباطلاً بل خلقهما ليذكر فيهما ويشكر، ويوم يقول لما أراد إيجاده أو إعدامه أو تبديله كن فهو يكون كما أراد في قوله الحق دائماً {وله الملك يوم5 ينفخ في الصور}6 نفخة الفناء فلا يبقى شيء إلا هو الواحد القهار فيقول جل ذكره {لمن الملك اليوم} فلا
__________
1 أي نرجع من الهدي إلى الضلال. والأعقاب جمع عقب وهي مؤنثه فتصغر على عقبيه. ويقال رجع على عقبيه إذا أدبر وأصابه من العاقبة والعقبى من ذلك عقب الرجل ومنه العقوبة لأنها تالية للترتيب وتكون نسبية.
2 استهوته بمعنى استغوته وزينت له هواه ودعته إليه فهو إذا من هوى يهوى من هوى النفس وليس هو يهوى إلى الشيء إذا أسرع إليه والحيران هو الذي لا يهتدي لجهله.
3 الآية وأمرنا لنسلم ومعناها أمرنا بأن نسلم تقول العرب أمرتك لتذهب وبأن تذهب بمعنى واحد واللامات أربع: لام الجر، لام الابتداء، لام التوكيد، ولام الأمر.
4 قال القرطبي: ومعنى {بالحق} أي بكلمة الحق يعني قوله {كن} وهو كما قال إلا أن القول أن بالحق بمعنى بحِكْمَةٍ أي لم يخلقها لهواً أو لعباً هذا أوضح وأهم كما هو في التفسير.
5 من أخطاء الناس قول من قال الصور جمع صورة ومعناه ينفخ في الصور فتتم الحياة وهذا يتنافى مع الأحاديث الصحاح ومع سياق الآية. إذ قال ثم نفخ فيه أخرى أي مرة أخرى ولم يقل فيها أي في الصور فأين معنى الصورة هنا؟
6 الصور القرن والنافخ فيه إسرافيل عليه السلام والمراد بالنفخة هنا نفخة الفناء والنفخة التالية لها نفخة البعث وهناك نفخة الصعقة وهم في ساحة القضاء ونفخة رابعة وهي التي يقومون فيها لفصل القضاء.

يجيبه أحد فيجيب نفسه بنفسه قائلا: {لله الواحد القهار} {عالم الغيب والشهادة} أي يعلم ما غاب في خزائن الغيب عن كل أحد، ويعلم الشهادة والحضور لا يخفي عليه أحد وهو الحكيم في تصرفاته وسائر أفعاله وتدابيره لمخلوقاته الخبير ببواطن الأمور وظواهرها لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء بهذا كان المعبود الحق الذي لا يجوز أن يعبد سواه بأي عبادة من العبادات التي شرعها سبحانه وتعالى ليُعْبَد بها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- قبح الردة وسوء عاقبتها.
2- حرمة إجابة أهل الباطل لما يدعون إليه من الباطل.
3- لا هدى إلا هدى الله تعالى أي لا دين إلا الإسلام.
4- وجوب الإسلام لله تعالى وإقامة الصلاة واتقاء الله تعالى بفعل المأمور وترك المنهي.
5- تقرير المعاد والحساب والجزاء.
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ(74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ(75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ(76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ(77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ(78)

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(79)
شرح الكلمات:
إبراهيم: هو إبراهيم خليل الرحمن بن آزر من أولاد سام بن نوح عليه السلام.
أصناماً : جمع صنم تمثال من حجر.
آلهة : جمع إله بمعنى المعبود.
في ضلال: عدول عن طريق الحق.
ملكوت : مُلك.
جن عليه الليل : أظلم.
فلما أفل : أي غاب.
بازغاً : طالعاً والبزوغ الطلوع.
الضالين : العادلين عن طريق الحق إلى طريق الباطل.
وجهت وجهي : أقبلت بقلبي على ربي وأعرضت عما سواه.
حنيفاً: مائلاً عن الضلال إلى الهدى.
معنى الآيات:
مازال السياق في بيان الهدى للعادلين بربهم أصناماً يعبدونها لعلهم يهتدون فقال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر}1 أي واذكر لهم قول إبراهيم لأبيه آزر: {أتتخذ أصناماً آلهة} 2 أي أتجعل تماثيل من حجارة آلهة. أرباباً تعبدها أنت وقومك {إني أراك} يا أبت {وقومك في ضلال مبين3} عن طريق الحق الذي ينجو ويفلح سالكه هذا ما دلت عليه الآية الأولى (74) أما الآية الثانية (75) فإن الله تعالى يقول : {وكذلك نُري إبراهيم4
__________
1 قيل لآزر اسم آخر هو تارح فيكون كيعقوب له اسم يعقوب وإسرائيل أما من قال آزر عمه فخلط وخبط حملهم عليه عدم اطاقتهم أن يكون والد رسول في النار وهو غاية الجهل بأسرار الشرع وحكمه وآزر بالرفع على تقدير النداء أي يا آزر.
2 الاستفهام للإنكار وأصناماً مفعول أول وآلهة مفعول ثان لأن اتخذ تنصب مفعولين كعلم.
3 كان قوم إبراهيم صابئين يعبدون الكواكب ويصورون لها أصناماً وهي ديانة الكلدانيين قوم إبراهيم وكانوا يعبدونها توسلاً وتقرباً بها إلى الله تعالى ولذا فهم مشركون وليسوا ملاحدة.
4 نُري هو بمعنى أرينا الماضي.

ملكوت1 السموات} والأرض أي كما أريناه الحق في بطلان عبادة أبيه للأصنام نريه أيضاً مظاهر قدرتنا وعلمنا وحكمنا الموجبة لألوهيتنا في ملك السموات والأرض، ليكون بذلك من جملة الموقنين، واليقين من أعلى مراتب الأيمان. هذا ما دلت عليه الآية الثانية وفي الثالثة (76) فصّل الله تعالى ما أجمله في قوله {نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض} فقال تعالى: {فلما جن عليه الليل} أي أظلم {رأى كوكبا} قد يكون الزهرة {قال هذا ربي2 فلما أفل} أي غاب الكوكب {قال لا أحب الآفلين}، {فلما رأى القمر3 بازغاً} أي طالعاً {قال هذا ربي، فلما أفل} أي غاب {قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين} ، في معرفة ربهم الحق. {فلما رأى الشمس بازغة} أي طالعة {قال هذا ربي4 هذا أكبر} يعني من الكوكب والقمر {فلما أفلت5} أي غابت بدخول الليل {قال يا قوم إني بريء مما تشركون}. هكذا واجه إبراهيم قومه عبدة الكواكب التي تمثلها أصنام منحوتة واجههم بالحقيقة التي أراد أن يصل إليها معهم وهي إبطال عبادة غير الله تعالى فقال {إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً} لا كما توجهون أنتم وجوهكم لأصنام نحتموها بأيديكم وعبدتموها بأهوائكم لا بأمر ربكم، وأعلن براءته في وضوح وصراحة: فقال: {وما أنا من المشركين}6.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- إنكار الشرك على أهله، وعدم إقرارهم ولو كانوا أقرب الناس إلى المرء.
2- فضل الله تعالى وتفضله على من يشاء بالهداية الموصلة إلى أعلى درجاتها.
__________
1 الملكوت الملك زيدت فيه الواو والتاء للمبالغة في الصفة، ومثله الرغبوت والرهبوت والجبروت من الرغبة والرهبة والجبر قيل كشف له تعالى عن السموات والأرض حتى رأى العرش وأسفل الأرضين.
2 قوله هذا ربي في المواضع كلها في السياق ليس هو على ظاهره أبداً. بل هو تدرج بهم إلى الوصول إلى الحقيقة وهو إنه لا إله إلا الله فقوله: هذا ربي أي على قولكم أو زعمكم وهو كقوله تعالى أين شركائي كما زعمتم أو على قولكم وإلا فالله تعالى يعلم أنه لا شريك له أبداً أو هو على حذف حرف الاستفهام أي أهو ربي؟ نحو أفإن مت فهم الخالدون أي أفهم الخالدون؟.
3 بزغ القمر إذا بدأ في الطلوع وأصل البزغ الشق فالقمر يشق الظلام بنوره ومن بزغ البيطار الدابة إذا أسال دمها. ومنه البزاغ وهو ما يسيل من الفم.
4 هذا ربي أي هذا الطالع ربي وإلاّ فالشمس مؤنثة وقد قال فيها بازغة.
5 أفل يأفل أفولاً إذا غاب.
6 في أنا ثلاث لغات أنّ وأنه، وأنا وهي متعينة في الوقف (أنا).

3- مطلب اليقين وأنه من أشرف المطالب وأعزها، ويتم بالتفكر والنظر في الآيات.
4- الاستدلال بالحدوث على وجود الصانع الحكيم وهو الله عز وجل.
5- سنة التدرج في التربية والتعليم.
6- وجوب البراءة من الشرك وأهله.
وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ(80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(81) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ(82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(83)
شرح الكلمات:
حاجه قومه : جادلوه وحاولوا غلبة بالحجة، والحجة : البينة والدليل القوي.
أتحآجّوني في الله : أتجادلونني في توحيد الله وقد هداني إليه، فكيف أتركه وأنا منه على بينة.
سلطاناً : حجة وبرهاناً.

الأمن1 : خلاف الخوف.
ولم يلبسوا إيمانهم بظلم: أي لم يخلطوا إيمانهم بشرك.
معنى الآيات:
لما أقام إبراهيم الدليل على بطلان عبادة غير الله تعالى وتبرأ من الشرك والمشركين حاجه قومه في ذلك فقال منكراً عليهم ذلك: {أتحاجوني2 في الله وقد هدان} أي كيف يصح منكم جدال لي في توحيد الله وعبادته، وترك عبادة ما سواه من الآلهة المدعاة وهي لم تخلق شيئاً ولم تنفع ولم تضر، ومع هذا فقد هداني إلى معرفته وتوحيده وأصبحت على بينة منه سبحانه وتعالى، هذا ما دل عليه قوله تعالى: {وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان}. ولا شك أنهم لما تبرأ من آلهتهم خوفوه بها وذكروا له أنها قد تصيبه بمكروه3 فرد ذلك عليهم قائلاً: {ولا أخاف ما تشركون به} من آلهة أن تصيبني بأذى، {إلا أن يشاء ربي4 شيئاً} فإنه يكون قطعاً ففد {وسع ربي كل شيء علماً}، ثم وبخهم قائلا {أفلا تتذكرون} فتذكروا ما أنتم عليه هو الباطل، وأن ما أدعوكم إليه هو الحق، ثم رد القول عليهم قائلاً {وكيف أخاف ما أشركتم} وهي أصنام جامدة لا تنفع ولا تضر لعجزها وحقارتها وضعفها، ولا تخافون أنتم الرب الحق الله الذي لا اله إلا هو المحيي المميت الفعال لما يريد، وقد أشركتم به أصناماً ما أنزل عليكم في عبادتها حجة ولا برهاناً تحتجون به على عبادتها معه سبحانه وتعالى. ثم قال لهم استخلاصاً للحجة وانتزاعا لها منهم فأي الفريقين أحق بالأمن من الخوف: أنا الموحد للرب، أم أنتم المشركون به؟ والجواب معروف وهو من يعبد رباً واحداً أحق بالأمن ممن يعبد آلهة شتى جمادات لا تسمع ولا تبصر. وحكم الله تعالى بينهم وفصل فقال: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم5 بظلم} أي ولم يخلطوا إيمانهم بشرك، {أولئك لهم
__________
1 روي إنهم قالوا له أما تخاف أن تخبلك آلهتنا لسبك إياها؟
2 قرأ نافع بتخفيف نون أتحاجونني وثقلها غيره وتخفيفها مبني على حذف النون الثانية تخفيفاً ومن ثقلها فقد ادغمها في نون الرفع.
3 أخرج ابن كثير عن ابن مردويه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أُعطي فشكر ومنع فصبر. وأذنب فاستغفر وظلم فغفر وسكت فقلنا يا رسول الله ماله؟ قال أولئك لهم الأمن وهم مهتدون.
4 قال هذا احتياطاً منه للتوحيد إذ من الجائز أن بعثر في حجر أو تشوكه شوكة أو يمرض بسبب وآخر فيقولون هذه آلهتنا قد أصابتك لأنك تسبها فهذا وجه الاستثناء هنا.
5 روي في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه لما نزلت {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم}.

الأمن} أي في الدنيا والآخرة {وهم مهتدون} في حياتهم إلى طريق سعادتهم وكمالهم وهو الإسلام الصحيح ثم قال تعالى: {وتلك1 حجتنا آتيناها إبراهيم عل قومه} إشارة إلى ما سبق من محاجة إبراهيم قومه ودحض باطلهم وإقامة الحجة عليهم. وقوله {نرفع درجات من نشاء} تقرير لما فضَّل به إبراهيم على غيره من الإيمان واليقين والعلم المبين. ثم علل تعالى لذلك بقوله: {إن ربك حكيم عليم}. حكيم في تدبيره عليم بخلقه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية جدال المبطلين والمشركين لإقامة الحجة عليهم علهم يهتدون.
2- بيان ضلال عقول أهل الشرك في كل زمان ومكان.
3- التعجب من حال مذنب لا يخاف عاقبة ذنوبه.
4- أحق العباد بالأمن من الخوف من آمن بالله ولم يشرك به شيئاً.
5- تقرير معنى {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور}.
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ(85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ(86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(87)
__________
1 ما هي تلك الحجة؟ هل هي جميع احتياجاته التي حاجهم بها فغلبهم وهذا هو الظاهر، وقيل هي قوله لهم : أما تخاف أن تخبلك آلهتنا لسبك إياها: قال لهم أفلا تخافون أنتم منها إذ سويتم بين الصغير والكبير في العبادة والتعظيم فيغضب الكبير فيخبلكم.

شرح الكلمات:
وهبنا له : أعطيناه تكرماً منا وإفضالا.
اسحق ويعقوب : إسحاق بن إبراهيم الخليل ويعقوب ولد إسحاق ويلقب بإسرائيل.
كلا هدينا : أي كل واحد منهما هداه إلى صراطه المستقيم.
ومن ذريته: أي ذرية إبراهيم.
داود وسليمان: داود الوالد وسليمان الولد وكل منهما ملك ورسول.
وزكريا ويحيى: زكريا الوالد ويحيى الولد وكل منهما كان نبياً رسولا.
على العالمين: أي عالمي زمانهم لا على الإطلاق، لأن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء.
ومن ذرياتهم: أي من بعض الآباء والذرية والإخوة لا الجميع.
اجتبيناهم : اخترناهم للنبوة والرسالة وهديناهم إلى الإسلام.
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى ما آتى إبراهيم خليله من قوة الحجة والغلبة على أعدائه ذكر منَّة أخرى منَّ بها عليه وهي أنه1 وهبه اسحق ويعقوب بعد كبر سنه، اسحق الولد ويعقوب الحفيد وأنه تعالى هدى كلاً منهم الوالد والولد والحفيد، كما أخبر تعالى أنه هدى من قبلهم نوحاً، وهدى من ذريته2 أي إبراهيم، وإن كان الكل من ذرية نوح، أي هدى من ذرية إبراهيم داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون3، وأشار تعالى إلى أنهم كانوا محسنين، فجزاهم جزاء المحسنين والإحسان هو الإخلاص في العمل وأداؤه على الوجه الذي يرضي الرب تبارك وتعالى مع الإحسان العام لسائر المخلوقات بما يخالف الإساءة إليهم في القول والعمل. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (84) وأما الآية الثانية (85) فقد ذكر تعالى أنه هدى كذلك إلى حمل رسالته والدعوة إليه والقيام بواجباته وتكاليف شرعه كلاً من زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، وأخبر أن كل واحد منهم كان من الصالحين الذين يؤدون حقوق الله كاملة وحقوق
__________
1 أي جزاء صبره وحجاجه وبذله نفسه في سبيل نصرّة دين ربه كافأه الله عز وجل بأن وهبه من الذرية الصالحة.
2 يصح عود الضمير على نوح كما يصح عوده على إبراهيم قاله غير واحد من أهل التفسير لأن ذكرها قد مرّ معاً.
3 قال ابن عباس: هؤلاء الأنبياء جميعاً مضافون إلى ذرية إبراهيم وإن كان منهم من لم تلحقه ولادة من جهته لا من جهة الأب ولا الأم لأن لوطاً ابن أخ إبراهيم وعُدَّ عيسى من ذريته وهو ابن البنت من هنا ذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن من وقف وقفاً على ولده وولد ولده دخل فيه ولد بناته لأن لفظ الولد يشمل الذكر والأنثى كما يشمل عيسى عليه السلام وهو ولد البنت لا غير.

عباده كذلك كاملة غير ناقصة وكانت المجموعة الأولى داود وسليمان ومن ذكر بعدهما الصفة الغالبة عليهم الإحسان لأنه كان فيهم ملك وسلطان ودولة، والمجموعة الثانية وهي زكريا ويحيى وعيسى وإلياس الصفة الغالية عليهم الصلاح لأنهم كانوا أهل زهد في الدنيا وأعراضها، والمجموعة الثالثة والأخيرة في الآية الثالثة (86) وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط لم يغلب عليهم وصف مما وصف به المجموعتان الأولى والثانية، لأنهم وسط بين المجموعتين، فذكر تعالى أن كل واحد منهم فضله على عالمي زمانه، وكفى بذلك شرفاً وكرماً وخيراً. وأما الآية الأخيرة (87) فإن الله تعالى يقول فيها، ومن آباء المذكورين من الأنبياء ومن ذرياتهم1 وإخوانهم هديناهم أيضاً وإن لم نذكر أسماءهم فهم كثير هديناهم إلى ما هدينا إليه آباءهم من الحق والدين الخالص الذي لا شائبة شرك فيه، واجتبينا2 الجميع اخترناهم للنبوة والرسالة3 {وهديناهم إلى صراط مستقيم} وهو الدين الإسلامي.
هداية الآيات
هن هداية الآيات:
1- سعة فضل الله.
2 خير ما يعطى المرء في هذه الحياة الهداية إلى صراط مستقيم.
3- فضيلة كل من الإحسان والصلاح.
4- لا منافاة بين الملك والنبوة أو الإمارة والصلاح.
5- فضيلة الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة.
ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ
__________
1 من للتبعيض أي هدى بعض أبنائهم وبعض ذرياتهم ولم يهد كل أب وكل ولد.
2 الاجتباء مشتق من جبيت الماء في الحوض جمعته فالاجتباء اختيار الشخص وضمه إلى خاصتك من الناس، والجبا مقصور مصدر جبيت الماء والجابية الحوض.
3 ذكر تعالى في هذه الآيات ثمانية عشر رسولاً وبقى سبعة ذكروا في سورٍ أخرى وهم إدريس وهود وصالح وشعيب وذو الكفل وآدم عليهم السلام وقد نظمهم البعض في ثلاثة أبيات من الشعر هي:
حتم على كل ذي التكليف معرفة ... بأنبياء على التفصيل قد عرفوا
في تلك حجتنا منهم ثمانية ... من بعد عشر ويبقى سبعة وهم
إدريس هود شعيب صالح وكذا ...
ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا

يَعْمَلُونَ(88) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ(89) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ(90)
شرح الكلمات:
هدى الله : الهدى ضد الضلال، وهدى الله ما يهدى إليه من أحب من عباده وهو الإيمان والاستقامة.
حبط عنهم ما كانوا يعملون : أي بطلت أعمالهم فلم يثابوا عليها بقليل ولا كثير.
الحكم : الفهم للكتاب مع الإصابة في الأمور والسداد فيها.
يكفر بها هؤلاء : يجحد بها أي بدعوتك الإسلامية هؤلاء: أي أهل مكة.
قوما ليسوا بها بكافرين : هم المهاجرون والأنصار بالمدينة النبوية.
اقتده: اقتد : أي اتبع وزيدت الهاء للسكت.
عليه أجراً : أي على إبلاغ دعوة الإسلام ثمناً مقابل الإبلاغ.
ذكرى: الذكرى : ما يذكر به الغافل والناسي فيتعظ.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر ما وهب الله تعالى لمن شاء من عباده من هدايات وكمالات لا يقدر على عطائها إلا هو فقال ذلك في الآية الأولى (88) ذلك المشار إليه ما وهبه أولئك الرسل الثمانية عشر رسولاً وهداهم إليه من النبوة والدين الحق هو هدى الله يهدي به من يشاء من عباده. وقوله تعالى: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون1} يقرر به حقيقة علمية، وهي أنّ الشرك محبط للعمل فإن أولئك الرسل على كمالهم وعلو درجاتهم لو أشركوا بربهم سواه فعبدوا معه غيره لبطل كل عمل عملوه، وهذا من باب الافتراض، وإلا فالرسل معصومون
__________
1 حبوط العمل بطلانه وقد عصم الله تعالى أنبياءه من الشرك فلذا لم تحبط ولم تبطل أعمالهم.

ولكن ليكون هذا عظة وعبرة للناس. هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الثانية (89) فقد أشاد الله تعالى بأولئك الرسل السابقي الذكر مخبراً أنهم هم الذين آتاهم الكتاب وهي صحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داوود وإنجيل عيسى والحكم1 وهو الفهم والإصابة والسداد في الأمور كلها. ثم قال تعالى فإن يكفر بهذه الآيات القرآنية وما تحمله من شرائع وأحكام وهداية الإسلام {إن يكفر بها هؤلاء} من أهل مكة {فقد وكلنا بها قوماً} من قبل وهم الرسل المذكورون في هذا السياق وقوماً هم موجودون وهم المهاجرون والأنصار من أهل المدينة، ومن يأتي بعد من سائر البلاد والأقطار وقوله تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم2 اقتده}، يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بأولئك الأنبياء المرسلين3 في كمالاتهم كلها حتى يجمع صلى الله عليه وسلم كل كمال فيهم فيصبح بذلك أكملهم على الإطلاق. وكذلك كان، وقوله تعالى في ختام الآية الكريمة: {قل لا أسألكم عليه4 أجراً} يأمره تعالى أن يقول لأولئك العادلين بربهم الأصنام والأوثان المكذبين بنبوته وكتابه: ما أسألكم على القرآن الذي أمرت أن أقرأه عليكم لهدايتكم أجراً أي مالاً مقابل تبليغه إياكم {إن هو إلا ذكرى للعالمين} أي ما القرآن إلا موعظة للعالمين يتعظون بها إن هم القوا أسماعهم وتجردوا من أهوائهم وأرادوا الهداية ورغبوا فيها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الشرك محبط للعمل كالردة والعياذ بالله تعالى.
2- فضل الكتاب الكريم والسنة النبوية.
3- وجوب الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم وأهل العلم والصلاح من هذه الأمة.
4- حرمة أخذ الأجرة على تبليغ الدعوة الإسلامية.
__________
1 قال القرطبي: والحكم العلم والفقه وهو كذلك إلا أن ما في التفسير أوسع وأولى بالاعتماد عليه.
2 قال القرطبي: الإقتداء طلب موافقة الغير في فعله. وقال: قد احتج بعض العلماء بهذه الآية علي وجوب إتباع شرائع الأنبياء فيما عدم فيه النص واستدلوا بحديث مسلم في حادثة الرُبيع إذ أمر الرسول بكسر سنها محتجاً بآية {والسن بالسن} وهو من أحكام بني إسرائيل ولم يوجد في القرآن غيره.
3 روى البخاري عن العوام قال سألت مجاهداً عن سجدة {ص} فقال سألت ابن عباس عن سجدة {ص} فقال أو تقرأ {ومن ذريته داوود وسليمان} إلى قوله {أولئك هدى الله فبهداهم اقتده} وكان داوود عليه السلام ممن أمر نبيكم عليه السلام بالإقتداء بهم.
4 أي جعلا على القرآن.

5- القرآن الكريم ذكرى لكل من يقرأه أو يستمع إليه وهو شهيد حاضر القلب.
وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ1 قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ(91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ(92)
شرح الكلمات:
وما قدروا الله حق قدره: ما عظموه التعظيم اللائق به ولا عرفوه حق معرفته.
على بشر : أي إنسان من بني آدم.
الكتاب الذي جاء به موسى: التوراة.
قراطيس : جمع قرطاس: وهو ما يكتب عليه من ورق وغيره.
تبدونها: تظهرونها.
قل الله: هذا جواب: من أنزل الكتاب؟
ذرهم : اتركهم.
في خوضهم: أي ما يخوضون فيه من الباطل.
مبارك: أي مبارك فيه فخبره لا ينقطع، وبركته لا تزول.
أم القرى : مكة المكرمة.
يحافظون: يؤدونها بطهارة في أوقاتها المحددة لها في جماعة المؤمنين.
معنى الآيتين:
ما زال السياق مع العادلين بربهم أصنامهم وأوثانهم فقد أنكر تعالى عليهم إنكارهم للوحي
__________
1 فسرت الآية على قراءة يجعلونه بالياء وكذلك يبدون ويخفون أما على قراءة تجعلون بالتاء فإن الخطاب يكون لليهود والسورة مكية فلذا رجح ابن جرير قراءة الياء.

الإلهي وتكذيبهم بالقرآن الكريم إذ قالوا: {ما أنزل الله على بشر من شيء}، ومن هنا قال تعالى {وما قدروا الله حق قدره} أي ما عظموه كما ينبغي تعظيمه لما قالوا: {ما أنزل الله على بشر من شيء}1، ولقن رسوله الحجة فقال له قل لهم: {من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً} يستضاء به في معرفة الطريق إلى الله تعالى وهدى يهتدى به إلى ذلك وهو التوراة جعلها اليهود قراطيس يبدون بعضها ويخفون بعضها حسب أهوائهم وأطماعهم، وقوله: {وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم} أي وعلمكم الله بهذا القرآن من الحقائق العلمية كتوحيد الله تعالى وأسمائه وصفاته، والدار الآخرة وما فيها من نعيم مقيم، وعذاب أليم، ثم أمر الرسول أن يجيب عن السؤال الذي وجهه إليهم تبكيتاً: {قل الله } أي الذي أنزل التوراة على موسى هو الله. {ثم ذرهم} أي اتركهم {في خوضهم} أي في الباطل {يلعبون}2 حيث لا يحصلون من ذلك الخوض في الباطل على أي فائدة تعود عليهم فهم كاللاعبين من الأطفال. هذا ما تضمنته الآية الأولى (91) أما الآية الثانية (92) فقد تضمنت أولاً الرد على قول من قال: {ما أنزل الله على بشر من شيء} أي كيف يقال ما أنزل الله على بشر من شيء وهذا القرآن بين أيديهم يتلى عليهم أنزله الله مباركاً لا ينتهي خيره ولا يقل نفعه، مصدقاً لما سبقه من الكتب كالتوراة والإنجيل أنزلناه ليؤمنوا به، {ولتنذر أم القرى3} أي أهلها {ومن حولها} من المدن والقرى القريبة والبعيدة لينذرهم عاقبة الكفر والضلال فإنها الخسران التام والهلاك الكامل، وثانياً الإخبار بأن الذين يؤمنون بالآخرة أي بالحياة في الدار الآخرة يؤمنون4 بهذا القرآن، وهم على صلاتهم يحافظون وذلك مصداق إيمانهم وثمرته التي يجنيها المؤمنون الصادقون.
__________
1 بيان ذلك أنهم لما قالوا ما أنزل الله من شيء كانوا قد نسبوا إلى الله تعالى أنه لا يقيم الحجة على عباده ولا يأمرهم بما فيه صلاحهم ولا ينهاهم عما فيه خسرانهم وبهذا ما قدروا الله حق قدره وما آمنوا أنه على كل شيء قدير.
2 أي لاعبين لأنها حال من قوله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون إذ لو لم يكن حالاً لجزم في وجوب الطلب الذي هو ذرهم.
3 أم القرى: مكة المكرمة.
4 يريد إتباع محمد صلى الله عليه وسلم.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- كل من كذب الله تعالى أو أشرك به أو وصفه بوصف لا يليق بجلاله فإنه لم يقدر الله حق قدره1.
2- بيان تلاعب اليهود بكتاب الله في إبداء بعض أخباره وأحكامه وإخفاء بعض آخر وهو تصرف ناتج من الهوى واتباع الشهوات وإيثار الدنيا على الآخرة.
3- بيان فضل الله على العرب بإنزال هذا الكتاب العظيم عليهم بلغتهم لهدايتهم.
4- تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم كيفية الحجاج والرد على المجادلين والكاذبين.
5- بيان علة ونزول الكتاب وهي الإيمان به وإنذار المكذبين والمشركين.
6- الإيمان بالآخرة سبب لكل خير، والكفر به سبب لكل باطل وشر.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ(93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ(94)
شرح الكلمات :
افترى على الله كذباً : اختلق على الله كذباً قال عليه ما لم يقل، أو نسب له ما هو منه
__________
1 أي لم يعرفه حق معرفته ولم يعرف جلاله وعظمته ولا رحمته وحكمته فلهذا قال ما قال من الباطل وهو نفيه إنزال الوحي الإلهي على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

براء.
أوحي إلي : الوحي: الإعلام السريع الخفي بواسطة الملك وبغيره.
غمرات الموت : شدائده عند نزع الروح.
باسطوا أيديهم: للضرب وإخراج الروح.
عذاب الهون : أي عذاب الذل والمهانة.
فرادى: واحداً واحداً ليس مع أحدكم مال ولا رجال.
ما خولناكم : ما أعطيناكم من مال ومتاع.
وراء ظهوركم : أي في دار الدنيا.
وضل عنكم : أي غاب.
تزعمون : تدعون كاذبين.
معنى الآيات:
مازال السياق مع المشركين والمفترين الكاذبين على الله تعالى بإتخاذ الأنداد والشركاء فقال تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً} بأن أدَّعى1 أن الله نبأه وأنه نبيه ورسوله كما ادعى سعد2 بن أبي سرح بمكة ومسيلمة3 في بني حنيفة بنجد والعنسى باليمن: اللهم لا أحد هو أظلم منه، وممن قال أوحى إلىّ شيء من عند الله، ولم يوح إليه شيء وممن قال: {سأنزل مثل ما أنزل الله} من الوحي والقرآن،ثم قال تعالى لرسوله: {ولو نرى} يا رسولنا {إذ الظالمون في غمرات الموت} أي في شدائد سكرات الموت، {والملائكة} ملك الموت وأعوانه {باسطوا أيديهم} بالضرب وإخراج الروح، وهم يقولون لأولئك المحتضرين تعجيزاً
__________
1 قال القرطبي: ومن هذا النمط أي المدعي للوحي ولم يوح إليه من أعرض عن الفقه والسنن وما كان عليه السلف من السنن فيقول وقع في خاطري كذا أو أخبرني قلبي بكذا أو أخبرني قلبي عن ربي فيحكمون بما وقع في قلوبهم ويغلب عليهم من خواطرهم ويزعمون أن ذلك لصفائها من الأكدار وخلوها عن الأغيار فتنجلي لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية فيستغنون بذلك عن أحكام الشرع ويقولون هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأغبياء والعامة وهي زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب.
2 أدعى عبد الله بن سعد الوحي لما كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى ولقد خلقنا الإنسان إلى قوله ثم أنشأناه خلقاً آخر فأعجبه تفصيل خلق الله تعالى للإنسان قال فتبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت فشك عبدالله بن سعد حينئذ وارتد ولحق بالمشركين وأسلم عام الفتح وحسن إسلامه بشفاعة عثمان له إذ كان أخاً له من الرضاعة وهو فاتح أفريقيا ودعا ربه أن يموت وهو يصلي فمات في صلاة الصبح.
3 كانوا يسمونه رحمان اليمامة والعنسي هو الأسود العنسي ومنهم سجاح امرأة مسيلمة قال ابن عباس وقتادة نزلت هذه الآية في مسيلمة.

وتعذيباً لهم: {أخرجوا1 أنفسكم2، اليوم تجزون عذاب الهون} بسبب استكباركم3 في الأرض بغير الحق إذ الحامل للعذرة وأصله نطفة قذرة، ونهايته جيفة قذرة، استكباره في الأرض حقاً إنه استكبار باطل لا يصح من فاعله بحال من الأحوال. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (93) أما الآية الثانية (94) فإن الله تعالى يخبر عن حال المشركين المستكبرين يوم القيامة حيث يقول لهم {لقد جئتمونا فرادى4} أي واحد واحداً {كما خلقناكم} حفاة5 عراة غُزْلاً {وتركتم ما خولناكم} أي ما وهبناكم من مال وولد {وراء ظهوركم} أي في دار6 الدنيا، {وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء، وأنتم كاذبون في زعمكم مبطلون في اعتقادكم {لقد نقطع بينكم} أي انحل حبل الولاء بينكم، {وضل عنكم ما كنتم تزعمون} أي ما كنتم تكذبون به في الدنيا.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- قبح الكذب على الله تعالى في أي شكل، وأن صاحبه لا أظلم منه قط.
2- تقرير عذاب القبر، وسكرات الموت وشدتها، وفي الحديث: أن للموت سكرات.
3- قبح الاستكبار وعظم جرمه.
4- تقرير عقيدة البعث الآخر والجزاء على الكسب في الدنيا.
5- انعدام الشفعاء يوم القيامة إلا ما قضت السنة الصحيحة من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم والعلماء والشهداء بشروط هي: أن يأذن الله للشافع أن يشفع وأن يرضى عن المشفوع له.
إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ
__________
1 الغمرة الشدة وأصلها من غمر الشيء إذا غطاه ومنه غمر الماء.
2 يقال لهم هذا توبيخاً لهم وتقريعاً أي خلصوها من هذا العذاب إن أمكنكم.
3 تستكبرون أي تتعظمون وتأنفون من قول الحق الذي هو توحيد الله تعالى وعبادته بما شرع لعباده المؤمنين.
4 هذا يوم القيامة يوم يحشرون إلى ربهم، وفرادى في موضع نصب على الحال.
5 روي أن عائشة رضي الله عنها قرأت قول الله تعالى {ولقد جئتمونا فرادى... الخ} فقالت يا رسول الله واسوأتاه الرجال والنساء يحشرون جميعاً ينظر بعضهم إلى سوءة بعض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شُغل بعضهم عن بعض.
6 ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأثنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس.

الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(95) فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(97) وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ(98) وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(99)
شرح الكلمات:
فالق الحب والنوى : شاق الحب كحب البر ليخرج منه الزرع، والنوى واحده نواة وشقها ليخرج منها الفسيلة (النخلة الصغيرة).
يخرج الحي من الميت : الدجاجة من البيضة.
ومخرج الميت من الحي: : البيضة من الدجاجة.
فأنى تؤفكون: كيف تصرفون عن توحيد الله الذي هذه قدرته إلى عبادة الجمادات.
فالق الإصباح : الإصباح: بمعنى الصبح وفلقه: شقه ليتفجر منه النور والضياء.

سكنا : يسكن فيه الناس ويخلدون للراحة.
حسباناً : أي حسابا بهما تعرف الأوقات الأيام والليالي والشهور والسنون.
تقدير العزيز العليم : إيجاد وتنظيم العزيز الغالب على أمره العليم بأحوال وأفعال عباده.
لتهتدوا بها : أي ليهتدي بها المسافرون في معرفة طرقهم في البر والبحر.
من نفس واحدة : هي آدم أبو البشر عليه السلام.
فمستقر : أي في الأرحام.
ومستودع: أي في أصلاب الرجال.
يفقهون : أسرار ألأشياء وعلل الأفعال فيهتدوا لما هو حق وخير.
خضراً: هو أول ما يخرج من الزرع ويقال له القصيل الأخضر.
متراكبا: أي بعضه فوق بعض وهو ظاهر في السنبلة.
طلع النخل : زهرها.
قنوان: واحده قنو وهو العِذْق وهو العُرْجون بلغة أهل المغرب.
مشتبهاً وغير متشابه : في اللون وغير مشتبه في الطعم.
وينعه: أي نضجه واستوائه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان الدليل على وجوب توحيد الله تعالى وبطلان عبادة غيره فقال تعالى واصفاً نفسه بأفعاله العظيمة الحكيمة التي تثبت ربوبيته وتقرر ألوهيته وتبطل ربوبية وألوهية غيره مما زعم المشركون أنها أرباب لهم وآلهة: {إن الله فالق الحب والنوى} أي هو الذي يفلق الحب ويخرج منه الزرع لا غيره وهو الذي يفلق النوى، ويخرج منه الشجر والنخل لا غيره فهو الإله الحق إذا وما عداه باطل، وقال: {يخرج الحيّ من الميت} فيخرج الزرع الحيّ من الحب الميت {ويخرج الميت1 من الحيّ} فيخرج الحب من الزرع الحيّ، والنخلة والشجرة من النواة الميتة ثم يقول: {ذلكم الله} أي المستحق للإلهية أي العبادة وحده {فأنى
__________
1 أي يخرج النطفة الميتة من الحي وهو الإنسان ويخرج الإنسان الحي من النطفة الميتة.

تؤفكون} أي فكيف يا للعجب تصرفون عن عبادته وتأليهه إلى تأليه وعبادة غيره. ويقول: {فالق، الإصباح1} أي هو الله الذي يفلق ظلام الليل فيخرج منه ضياء النهار {وجعل الليل سكناً} : أي ظرف سكن وسكون وراحة تسكن فيه الأحياء من تعب النهار والعمل فيه ليستريحوا، وقوله: {والشمس والقمر2 حسباناً} أي وجعل الشمس والقمر يدوران في فلكيهما بحساب تقدير لا يقدر عليه إلا هو، وبذلك يعرف الناس الأوقات وما يتوقف عليها من عبادات وأعمال وآجال وحقوق ثم يشير إلى فعله ذلك فيقول: {ذلك تقدير العزيز} الغالب على أمره {العليم} بسائر خلقه وأحوالهم وحاجاتهم وقد فعل ذلك لأجلهم فكيف إذاً لا يستحق عبادتهم وتأليههم؟ عجباً لحال بني آدم ما أضلهم؟!
ويقول تعالى في الآية الثالثة (97) {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر} هذه منة أخرى من مننه على الناس ومظهراً آخر من مظاهر قدرته حيث جعل لنا النجوم لمهتدي به مسافرونا في البر والبحر حتى لا يضلوا طريقهم فيهلكوا فهي نعمة لا يقدر على الإنعام بها إلا الله، فلم إذاً يكفر به ويعبد سواه؟ وقوله: {قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون} يخبر به تعالى على نعمة أخرى وهي تفصيله تعالى للآيات وإظهارها لينتفع بها العلماء الذين يميزون بنور العلم بين الحق والباطل والضار والنافع ويقول في الآية الرابعة (98) {وهو الذي أنشأكم -أي خلقكم- من نفس واحدة} هي آدم عليه السلام، فبعضكم مستقر في الأرحام وبعضنا3 مستودع في الأصلاب وهو مظهر من مظاهر إنعامه وقدرته ولطفه وإحسانه، ويختم الآية بقوله {قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون} لتقوم لهم الحجة على ألوهيته تعالى دون ألوهية ما عداه من سائر المخلوقات لفهمهم أسرار الكلام وعلل الحديث ومغزاه.
ويقول في الآية (99) {وهو الذي أنزل من السماء ماءً} وهو ماء المطر ويقول {فأخرجنا
__________
1 الإصباح مصدر أصبح يصبح إصباحاً أي يخرج النور من الظلام إذ نور الفجر يشق ظلمة الليل ويخرج عنها الصبح والإصباح أول النهار ويجمع الإصباح على أصباح بفتح الهمزة وقرىء به.
2 حسباناً أي بحساب يتعلق به مصالح العباد، والحسبان جمع حساب مثل شهاب وشهبان أي جعل الله سير الشمس والقمر بحساب ولا يزيد ولا ينقص ويطلق الحسبان على النار كما في قوله تعالى ويرسل عليها حسباناً من السماء أي ناراً.
3 قال عبدالله بن مسعود لها مستقر في الرحم ومستودع في الأرض التي تموت فيها وهذا على قراءة مستقر بفتح القاف بمعنى لها مستقر وأكثر المفسرين على ما جاء في التفسير أن المستقر ما كان في الرحم والمستودع ما كان في الصلب قال سعيد بن جبير قال لي ابن عباس هل تزوجت فقلت لا. قال فإن الله عز وجل يستخرج من ظهرك ما استودعه فيه. أما قوله تعالى {ولكم في الأرض مستقر ومستودع إلي حين} ف المستقر هو القبر مودع فيه الإنسان إلى يوم القيامة.

به نبات كل شيء} أي ينبت أي قابل للإنبات من سائر الزروع والنباتات ويقول فأخرجنا من ذلك النبات خضراً وهو1 القصيل للقمح والشعير، ومن الخضر2 يخرج حباً متراكباً في سنابله، ويقول عز وجل: {ومن النخْل من طلعها قنوان دانية} أي ويخرج بإذن الله تعالى من طلع النخل قنوان جمع قنو العذق دانية متدلية وقريبة لا يتكلف مشقة كبيرة من أراد جنيها والحصول عليها3 وقوله {وجنات من أعناب} يقول وأخرجنا به بساتين من نخيل وأعناب، وأخرجنا به كذلك الزيتون والرمان حال كونه مشتبهاً في اللون وغير متشابه في الطعم، كلوا من ثمره إذا أثمر وينعه ينبت لديكم ذلك التشابه وعدمه، وختم الآية بقوله: إن في ذلكم المذكور كله {لآيات} علامات ظاهرات تدل على وجوب ألوهية الله تعالى وبطلان ألوهية غيره {لقوم يؤمنون} لأنهم أحياء يفعلون ويفكرون ويفهمون أما غيرهم من أهل الكفر فهم أموات القلوب لما ران عليها من أوضار الشرك والمعاصي فهم لا يعقلون ولا يفقهون فأنى لهم أن يجدوا في تلك الآيات ما يدلهم على توحيد الله عز وجل؟
هداية الآيات
هن هداية الآيات:
1- الله خالق كل شيء فهو رب كل شيء ولذا وجب أن يؤله وحده دون ما سواه.
2- تقرير قدرة الله على كل شيء وعلمه بكل شيء وحكمته في كل شيء.
3- فائدة خلق النجوم وهي الاهتداء بها في السير في الليل في البر والبحر.
4- يتم إدراك ظواهر الأمور وبواطنها بالعقل.
5- يتم إدراك أسرار الأشياء بالفقه.
6- الإيمان بمثابة الحياة، والكفر بمثابة الموت في إدراك الأمور.
وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
__________
1 خضر بمعنى أخضر كمطرة بمعنى ماطرة ومنه قولهم: أرنها نمرة أركها مطر أي أرني سحابة كأنها نمرة في شكلها أركها ماطرة يتصبب منها الماء الغزير.
2 قال ابن عباس رضي الله عنه يريد القمح والشعير والسلت والذرة والأرز وسائر الحبوب.
3 هذا قصار النخل إذ يجنى ثمارها لمدة عشر سنوات والمرء يتناول منها بيديه هو واقف عندها وبعد ذلك ترتفع وتطول فيرقى إليها.

يَصِفُونَ(100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(101) ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(102) لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ(103)
شرح الكلمات:
شركاء : جمع شريك في عبادته تعالى.
الجن : عالم كعالم الإنس إلا أنهم أجسام خفية لا ترى لنا إلا إذا تشكلت بما يُرى.
وخرقوا : اختنقوا وافتاتوا.
يصفون : من صفات العجز بنسبة الولد والشريك إليه.
بديع السموات والأرض : مبدع خلقهما حيث أوجدهما على غير مثال سابق.
أنى يكون له ولد : أي كيف يكون له ولد؟ كما يقول المبطلون.
ولم تكن له صاحبة : أي زوجة.
لا تدركه الأبصار: لا تراه في الدنيا، ولا تحيط به في الآخرة.
وهو يدرك الأبصار : أي محيط علمه بها.
وهو اللطيف: الذي ينفذ علمه إلى بواطن الأمور وخفايا الأسرار فلا يحجبه شيء.
معنى الآيات:
لقد جاء في الآيات السابقة من الأدلة والبراهين العقلية ما يبهر العقول ويذلها لقبول التوحيد، وأنه لا إله إلا الله، ولا رب سواه، ولكن مع هذا فقد جعل الجاهلون لله من

الجن شركاء فأطاعوهم فيما زينوا لهم من عبادة الأصنام والأوثان، وهذا ما أخبر به تعالى في هذه الآية الكريمة (100) إذ قال {وجعلوا لله شركاء الجن1 وخلقهم2 وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون} ومعنى الآية وجعل العادلون بربهم الأصنام والجن شركاء لله في عبادته، وذلك بطاعتهم فيما زينوا لهم من عبادة الأصنام، والحال أنه قد خلقهم فالكل مخلوق له العابد والمعبود من الجن والأصنام، وزادوا في ضلالهم شوطاً آخر حيث اختلقوا له البنين والبنات وهذا كله من تزيين الشياطين لهم وإلا فأي معنى في أن يكون لخالق العالم كله بما فيه الإنس والجن والملائكة أبناء وبنات. هذا ما عناه تعالى بقوله: {وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون} فنزه الرب تبارك وتعالى نفسه عما وصفوه به كذباً بحتاً وتخرّصاً كاملاً من أن له بنين وبنات وليس لهم على ذلك أي دليل علمي لا عقلي ولا نقلي، وقد شارك في هذا الباطل العرب المشركون حيث قالوا الملائكة بنات الله، واليهود حيث قالوا عزير ابن الله، والنصارى إذ قالوا المسيح ابن الله، تعالى الله عما يقول المبطلون. هذا ما تضمنته الآية الأولى أما الآية الثانية (101) فقد تضمنت إقامة الدليل الذي لا يرد على بطلان هذه الفرية المنكرة فرية نسبة الولد لله سبحانه وتعالى، فقال تعالى : {بديع السموات والأرض} أي خالقهما على غير مثال سابق {أنى3 يكون له ولد ولم تكن له صاحبة} أي يا للعجب كيف يكون لله ولد ولم تكن له زوجة إذ التوالد يكون بين ذكر وأنثى لحاجة إليه لحفظ النوع وكثرة النسل لعمارة الأرض بل ولعبادة الرب تعالى بذكره وشكره، أما الرب تعالى فهو خالق كل شيء ورب كل شيء فأي معنى لاتخاذ ولد له، لولا تزيين الشياطين للباطل حتى يقبله أولياؤهم من الإنس، وقوله تعالى: {وهو بكل شيء عليم} دليل آخر على بطلان ما خرق أولئك الحمقى لله من ولد، إذ لو كان لله ولد لعلمه وكيف لا، وهو بكل شيء عليم. هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الثالثة (102)
__________
1 صور اتخاذهم الجن شركاء ثلاث الأولى: أنهم أطاعوا الجن فجعلوهم بطاعتهم لهم شركاء لله إذ المطاع الحق هو الله تعالى:
والثانية: قولهم الملائكة بنات الله مع عبادتهم لهم فذلك معنى جعلوا لله شركاء الجن لأن الملائكة لا يرون كالجن قال تعالى {وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا} فسمى الملائكة جناً لاجتنابهم واستتارهم عن عيون الناس والثالثة: أن الزنادقة قالوا الله خالق الماء والنور والدواب والأنعام وإبليس خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب.
2 قوله تعالى وخلقهم يصح عود الضمير فيه على العادلين كما في التفسير ويصح عوده على الجن الذين اتخذوهم شركاء لله يعبدونهم معه.
3 أي من أين يكون له ولد والولد لا يكون إلاّ من صاحبة أي زوجة.

وهي قوله تعالى: {ذلكم الله ربكم لا اله إلا هو خالق كل شيء1} أي ذلكم الله الذي هو بديع السموات والأرض والخالق لكل شيء والعليم بكل شيء هو ربكم الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه ولا تشركوا به سواه. وإنه لكفيل برزقكم وحفظكم ومجازاتكم على أعمالكم وهو على كل شيء قدير. والآية الأخيرة في السياق الكريم (153) يقرر تعالى حقيقة كبرى وهى أن الله تعالى مباين لخلقه في ذاته وصفاته ليس كمثله شيء فكيف يشرك به وكيف لكون له ولد، وهو لا تدركه الأبصار2 وهو يدركها وهو اللطيف3 الذي ينفذ علمه وقدرته في كل ذرات الكون علويِّه وسفليِّه الخبير بكل خلقه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وهو العزيز الحكيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- أن من الإنس من عبد الجن بطاعتهم وقبول ما يأمرونهم به ويزينونه لهم.
2- تنزه الرب تعالى عن الشريك والصاحبة والولد 3- مباينة الرب تبارك وتعالى لخلقه.
4- استحالة رؤية الرب في الدنيا4، وجوازها في الآخرة لأوليائه في دار كرامته.
قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ(104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ
__________
1 هذا أكبر برهان على بطلان نسبة الولد له تعالى إذ كل شيء خلقه فهل من خلق شيئاً يقال لمن خلقه ولده؟ لو صح هذا لقالوا لكل من صنع شيئاً هو أبو والمصنوع ولده ولا قائل بهذا البتة.
2 لا تدركه الأبصار بمعنى لا تحيط به ولذا يراه أولياؤه في الجنة رؤية بصرية فينظرون إلى وجهه الكريم وأما رؤيته تعالى فمتعذرة في الحياة الدنيا إذ طلبها موسى ولم ينلها لعجز الإنسان عن رؤية الله تعالى بهذه الأبصار المحدودة القدرة والطاقة.
3 روي في الصحيحين ما يفيد تعذر رؤية الله في الدنيا لضعف الإنسان فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، يرفع الله عمك النهار قبل الليل، وعمل الليل قبل النهار حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".
4 وفسر اللطيف بالرفيق بعباده واللطيف من أسماء الله تعالى. ولذا هو يلطف بعباده. كما هو للطفه لا يدرك بالكيفية،واللطيف في الأجسام الذي يدخل في كل شيء.

الْمُشْرِكِينَ(106) وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ(107)
شرح الكلمات:
بصائر من ربكم: البصائر جمع بصيرة: والمراد بها هنا الآيات المعرفة بالحق المثبتة له بطريق الحجج العقلية فهي في قوة العين المبصرة لصاحبها.
حفيظ: وكيل مسئول.
نصرف الآيات: نجريها في مجاري مختلفة تبياناً للحق وتوضيحاً للهدى المطلوب.
وليقولوا درست : أي تعلمت وقرأت لا وحياً أوحي إليك.
وأعرض عن المشركين : أي لا تلتفت إليهم وامضِ في طريق دعوتك.
ولو شاء الله ما أشركوا: أي لو شاء أن يحول بينهم وبين الشرك حتى لا يشركوا لَفَعَل وما أشركوا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في طلب هداية المشركين وبيان الطريق لهم ففي هذه الآية يقول {قد جاءكم} أي أيها الناس {بصائر من1 ربكم} وهي آيات القرآن الموضحة لطريق النجاة {فمن أبصر} بها وهي كالعين المبصرة {فلنفسه} إبصاره إذ هو الذي ينجو ويسعد { ومن عمي} فلم يبصر فعلى نفسه عماه إذ هي التي تهلك وتشقى وقل لهم يا رسولنا {ما أنا عليكم بحفيظ} أي بوكيل مسئول عن هدايتكم، وفي الآية الثانية (105) يقول تعالى: {وكذلك2 نصرف الآيات} أي بنحو ما صرفناها من قبل في هذا القرآن نصرفها كذلك لهداية مريدي الهداية والراغبين3 فيها أما غيرهم فسيقولون درست4 وتعلمت من غيرك حتى يحرموا الإيمان
__________
1 قد جاءكم بصائر أي حجج وبينات ووصفها بالمجيء لتضخيم شأنها واكباره.
2 كذلك الكاف في محل نصب أي مثل أي نصرف الآيات: مثل ذلك التصريف.
3 وهم المذكورون في الآية ولنبيننه لقوم يعلمون.
4 قرىء دَارست أي ذاكرت أهل الكتاب وتعلمت عنهم ولم يوح إليك شيء واللام في قوله وليقولوا درست هي لام العاقبة كما يقال كتب فلان هذا الكتاب لحتفه، وفي القرآن {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا}.

بك وبرسالتك والعياذ بالله تعالى، وفي الآية الثالثة (106) يأمر الله تعالى رسوله باتباع ما يوحى إليه من الحق والهدى، والإعراض عن المشركين المعاندين الذين يقولون درست حتى لا يأخذوا بما آتيتهم به ودعوتهم إليه من آيات القرآن الكريم إذ قال تعالى له: {اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين1} ، وفي الآية الرابعة (107) يسلي الرب تعالى رسوله ويخفف عنه آلام إعراض المشركين عن دعوته ومحاربته فيها فيقول له: {ولو شاء الله ما أشركوا}2 أي لو يشاء الله عدم إشراكهم لما قدروا على أن يشركوا إذا فلا تحزن عليهم، هذا أولاً، وثانياً {وما جعلناك عليهم حفيظاً} تراقبهم وتحصي عليهم أعمالهم وتجازيهم بها، وما أرسلناك عليهم وكيلا تتولى هدايتهم بما فوق طاقتك {إن عليك إلا البلاغ} وقد بلغت إذاً فلا أسى ولا أسف!!
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- آيات القرآن بصائر من يأخذ بها يبصر طريق الرشاد وينجو ويسعد.
2- ينتفع بتصريف الآيات وما تحمله من هدايات العالمون لا الجاهلون وذلك لقوله تعالى في الآية الثانية (105) {ولنبينه لقوم يعلمون}.
3- بيان الحكمة في تصريف الآيات وهي هداية من شاء الله هدايته.
4- وجوب اتباع الوحي المتمثل في الكتاب والسنة النبوية.
5- بيان بطلان مذهب القدرية "نفاة القدر".
وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(108) وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ
__________
1 هذا منسوخ بآية الجهاد.
2 في الآية دليل على إبطال مذهب القدرية وهم نفاة القدر والزاعمون أن أفعال العباد لم تقدر عليهم وإنما هم الخالقون لهَا بدون إذن الله وإرادته.

لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ(109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(110)
شرح الكلمات:
ولا تسبوا : ولا تشتموا آلهة المشركين حتى لا يسبوا الله تعالى.
عدواً : ظلماً.
زينا لكل أمة عملهم: حسناه لهم خيراً كان أو شراً حتى فعلوه.
جهد أيمانهم : أي غاية اجتهادهم في حلفهم بالله.
آية: معجزة كإحياء الموتى ونحوها.
وما يشعركم: وما يدريكم
ونذرهم : نتركهم.
يعمهون : حيارى يترددون.
معنى الآيات:
عندما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبح يصدع بالدعوة جهراً بعد ما كانت سراً أخذ بعض أصحابه يسبون أوثان المشركين، فغضب لذلك المشركون وأخذوا يسبون الله تعالى إله المؤمنين وربهم فنهاهم تعالى عن ذلك أي عن سب آلهة المشركين بقوله: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله} أي لا تسبوا آلهتهم {فيسبوا1 الله عدواً2} أي ظلماً واعتداء بغير علم، إذ لو علموا جلال الله وكماله لما سبوه، وقوله تعالى: {وكذلك زينا لكل أمة عملهم} بيان منه تعالى لسنته في خلقه وهي أن المرء إذا أحب شيئاً ورغب فيه وواصل ذلك الحب وتلك الرغبة يصبح زيناً له ولو كان في الواقع شيئاً ويراه حسناً وإن كان في حقيقة الأمر
__________
1 قال ابن عباس رضي الله عنهما: قالت كفار قريش لأبي طالب إما أن تنهى محمداً وأصحابه عن سب آلهتنا والغضّ منها وإما أن نسب إلهه ونهجوه. فنزلت الآية وهذا الحكم باق إلى نهاية الحياة فإن كان سب المؤمن الكافر يؤدي إلى سب الله تعالى أو رسوله فلا يحل للمؤمن أن يسب الكافر أو دينه.
2 وقرىء عُدوا بضم العين والدال ومعنى القراءتين واحد وهو الجهل والاعتداء الذي هو الظلم.

قبيحاً، ومن هنا كان دفاع المشركين عن آلهتهم الباطلة من هذا الباب فلذا لم يرضوا أن تسب لهم وهددوا الرسول والمؤمنين بأنهم لو سبوا آلهتهم لسبوا لهم آلهتهم وهو الله تعالى، وقوله تعالى {ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون} يخبر تعالى أن مرجع الناس المزين لهم أعمالهم خيرها وشرها ورجوعهم بعد نهاية حياتهم إلى الله ربهم فيخبرهم بأعمالهم ويطلعهم عليها ويجزيهم بها الخير بالخير والشر بالشر. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (108) وأما الآيتان الثانية (109) والثالثة (110) فقد أخبر تعالى أن المشركين أقسموا1 بالله أبلغ إيمانهم وأقصاها أنهم إذا جاءتهم آية كتحويل جبل الصفا إلى ذهب آمنوا عن آخرهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته واتبعوه على دينه الذي جاء به، قال هذا رؤساء المشركين، والله يعلم أنهم إذا جاءتهم الآية لا يؤمنون، فأمر رسوله أن يرد عليهم قائلاً: {إنما الآيات عند الله} هو الذي يأتي بها إن شاء أما أنا فلا أملك ذلك. إلا أن المؤمنين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم رغبوا في مجيء الآية حتى يؤمن المشركون وينتهي الصراع الدائر بين الفريقين فقال تعالى لهم: {وما يشعركم2} أيها المؤمنون {أنها إذا جاءت3 لا يؤمنون} أي وما يدريكم أن الآية لو جاءت لا يؤمن بها المشركون؟ وبين علة عدم إيمانهم فقال: {ونقلب أفئدتهم } فلا تعي ولا تفهم {وأبصارهم} فلا ترى ولا تبصر. فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا بالقرآن أول مرة لما دعوا إلى الإيمان به {ونذرهم في طغيانهم يعمهون} أي ونتركهم في شركهم وظلمهم حيارى يترددون لا يعرفون الحق من الباطل ولا الهداية من الضلال.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة قول أو فعل ما يتسبب4 عنه يسب الله ورسوله.
2- بيان سنة الله في تزيين الأعمال لأصحابها خيراً كانت أو شراً.
3- بيان أن الهداية بيد الله تعالى وأن المعجزات قد لا يؤمن عليها من شاهدها.
__________
1 في هذا دليل الموادعة والأخذ بمبدأ سد الذرائع.
2 كان المشركون يحلفون بآلهتهم، وإذا حلفوا بالله كان ذلك أقصى أيمانهم وأشدها. وهنا مسألة لو قال المرء الأيمان تلزمه ثم حنث فإن عليه إطعام ثلاثين مسكيناً لأن أقل الجمع ثلاثة، وإن لم يكن له مال صام تسعة أيام..
3 الإشعار مصدر أشعره إذا أعلمه بأمر من شأنه أن يخفى ويدق.
4 قرئت إنها بكسر الهمزة على الاستئناف فيكون الكلام قد انتهى عند قوله وما يشعركم ويكون المعنى وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت ثم قال إنها إذا جاءت لا يؤمنون. فذكر علة عدم إيمانهم بقوله ونقلب أفئدتهم وأبصارهم.

الجزء الثامن
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ(111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ(113)
شرح الكلمات:
الملائكة: أجسام نورانية يعمرون السموات عباد مكرمون لا يعصون الله تعالى ويفعلون ما يؤمرون لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة.
الموتى : جمع ميت: من فارقته الحياة أي خرجت منه روحه.
حشرنا : جمعنا.
قبلا : معاينة
يجهلون : عظمة الله وقدرته وتدبيره وحكمته.
شياطين : جمع شيطان: وهو من خبث وتمرد من الجن والإنس.
يوحي بعضهم: يعلم بطريق سريع خفي بعضهم بعضاً.
زخرف القول : الكذب المحسن والمزين.
غروراً: للتغرير بالإنسان.
يفترون: يكذبون.
ولتصغى إليه : تميل إليه.
وليقترفوا: وليرتكبوا الذنوب والمعاصي.

معنى الآيات:
ما زال السياق في أولئك العادلين بربهم المطالبين بالآيات الكونية ليؤمنوا إذا شاهدوها فأخبر تعالى في هذه الآيات أنه لو نزل إليهم الملائكة من1 السماء وأحيى لهم الموتى فكلموهم وقالوا لهم لا إله إلا الله محمد رسول الله، وحشر علمهم كل شيء2 أمامهم يعاينونه معاينة أو تأتيهم المخلوقات قبيلاً بعد قبيل وهم يشاهدونهم ويقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، ما كانوا ليؤمنوا بك ويصدقوك ويؤمنوا بما جئت به إلا أن يشاء3 الله ذلك منهم. ولكن أكثر أولئك العادلين بربهم الأصنام والأوثان يجهلون أن الهداية بيد الله تعالى وليست بأيديهم كما يزعمون وأنهم لو رأوا الآيات آمنوا.
هذا ما دلت عليه الآية (111) أما الآية الثانية (112) فإن الله تعالى يقول وكما كان لك يا رسولنا من هؤلاء العادلين أعداء يجادلونك ويحاربونك جعلنا لكل نبي أرسلناه أعداء يجادلونه ويحاربونه {شياطين4 الإنس والجن يوحي5 بعضهم إلى بعض زخرف القول} أي القول المزين بالباطل المحسن بالكذب {غرورا} أي للتغرير والتضليل، {ولو شاء ربك} أيها الرسول عدم فعل ذلك الإيحاء والوسواس {ما فعلوه} إذا {فذرهم} أي اتركهم {وما يفترون} من الكفر والكذب والباطل.
هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الآية الثالثة (113) وهي قوله تعالى: {ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون} هذه الآية بجملها الأربع معطوفة على قوله {زخرف القول غرورا} إذ إيحاء شياطين الجن والإنس6 كان
__________
1 فرأوهم عياناً.
2 أي شيئاً سألوه وطلبوه.
3 الاستثناء منفصل فهو بمعنى لكن إن شاء الله إيمانهم آمنوا والآية تحمل التسلية والعزاء له صلى الله عليه وسلم.
4 شياطين الإنس والجن بدل من قوله عدوّا ويصح أن يكون نعتاً أيضاً.
5 يوحي بمعنى يلقى إليه الباطل المزين بطريق الوسواس فيفهم عنه إذ الإيحاء الإعلام السريع الخفي وشاهده من السنة قوله صلى الله عليه وسلم "ما منكم من أحد إلاّ قد وكل به قرينه من الجن، قيل ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلاّ أن الله أعانني عليه فأسلم".
6 روي عن مالك بن دينار أنه قال: شياطين الإنس أشد من شياطين الجن، وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عياناً. ويشهد لهذا ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع امرأة تنشد:
إن النساء رياحين خلقن لكم ... وكلكم يشتهي شم الرياحين
فأجابها عمر رضي الله عنه قائلاً:
إن النساء شياطين خلقن لنا ...
نعوذ بالله من شر الشياطين

للغرور أي ليغتر به المشركون، {ولتصغى إليه } أي تميل {أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة} وهم المشركون العادلون بريهم {وليرضوه} ويقتنعوا به لأنه مموه لهم مزين، ونتيجة لذلك التغرير والميل إليه وهو باطل والرضا به والإقناع بفائدته فهم يقترفون من أنواع الكفر وضروب الشرك والمعاصي والإجرام ما يقترفون!.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أبداً، وبهذا تقررت ربوبيته وألوهيته للأولين والآخرين.
2- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وكل داع إلى الله تعالى بإعلامه أنه ما من نبي ولا داع إلا وله أعداء من الجن والإنس يحاربونه حتى ينصره الله عليهم.
3- التحذير من التمويه والتغرير فإن أمضى سلاح للشياطين هو التزيين والتغرير.
4- القلوب الفارغة من الإيمان بالله ووعده وعيده في الدار الآخرة أكثر القلوب ميلاً إلى الباطل والشر والفساد.
أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ(114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(115) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ(116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(117)

شرح الكلمات:
أبتغي : أطلب.
حكماً: الحكم الحاكم ومن يتحاكم إليه الناس.
أنزل إليكم الكتاب: أي أنزله لأجلكم لتهتدوا به فتكْمُلُوا عليه وتسعدوا.
مفصلاً : مبيناً لا خفاء فيه ولا غموض.
والذين آتيناهم الكتاب: أي علماء اليهود والنصارى.
الممترين : الشاكين، إذ الامتراء الشك.
صدقاً وعدلاً: صدقاً في الأخبار فكل ما أخبر به القرآن هو صدق، وعدلاً في الأحكام فليس في القرآن حكم جور وظلم أبداً بل كل أحكامه عادلة.
لا مبدل لكلماته: أي لا مغير لها لا بالزيادة والنقصان، ولا بالتقديم والتأخير.
السميع العليم : السميع لأقوال العباد العليم بأعمالهم ونياتهم وسيجزيهم بذلك.
سبيل الله: الإسلام إذ هو المفضي بالمسلم إلى رضوان الله تعالى والكرامة في جواره.
يخرصون : يكذبون الكذب الناتج عن الحزر والتخمين.
من يضل : بمن يضل.
بالمهتدين: في سيرهم إلى رضوان الله باتباع الإسلام الذي هو سبيل الله.
معنى الآيات:
ما زال السياق مع العادلين بربهم الأصنام والأوثان لقد كان المراد في طلبهم الآية الحكم بها على صحة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أنه نبي الله وأن القران كلام الله وأنه لا إله إلا الله، ولم يكن هذا منهم إلا من قبيل ما توسوس به الشياطين لهم وتزينه لهم تغريراً بهم وليواصلوا ذنوبهم فلا يؤمنون ولا يتوبون، ومن هنا أنزل تعال قوله: {أفغير الله أبتغي1 حكماً}. وهو تعليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوله للمشركين أأميل إلى باطلكم وأقتنع به فغير الله أطلب حكماً بيني
__________
1 أفغير منصوب بأبتغي أي آبتغى غير الله؟ وكلما منصوب على الحال أو التمييز المبين لمبهم الابتغاء.

وبينكم في دعواكم أني غير رسول وأن ما جئت به ليس وحياً من الله؟ ينكر صلى الله عليه وسلم تحكيم غير ربه تعالى وعلى ماذا يكون الحكم والله هو الذي أنزل إليهم الكتاب مفصلاً فأي آية تغلب القرآن وهو آلاف الآيات هذا أولاً وثانياً هل الكتاب من قبلهم وهم علماء اليهود والنصارى مقرون ومعترفون بأن ما ينفيه المشركون هو حق لا مرية فيه إذاً فامض أيها الرسول في طريق دعوتك:لا تكونن لسن الممترين فإنك عما قريب تظهر على المشركين، لقد تمت كلمة1 ربك أي في هذا القرآن الذي أوحي إليك صدقاً في كل ما تحمله من أخبار ومن ذلك نصرك وهزيمة أعدائك، وعدلاً في أحكامها التي تحملها، ولا يستطيع أحد تبديلها بتغيير2 لها بإخلاف وعدٍ ولا بإبطال حكم، وربك هو السميع لأقوال عباده العليم بمقاصدهم وأفعالهم فما أقدره وأضعفهم فلذا لن يكون إلا مراده ويبطل جميع إراداتهم. واعلم يا رسولنا أنك {إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} أي لو أنك تسمع لهم وتأخذ بآرائهم وتستجيب لاقتراحاتهم لأضلوك قطعاً عن سبيل الله، والعلة أن أكثرهم لا بصيرة له ولا علم حق لديه وكل ما يقولونه هو هوى نفس، وَوسواس شيطان. إنهم ما يتبعون إلا أقوال الظن وما هم فيما يقولون إلا خارصون3 كاذبون. وحسبك علم ربك بهم فإنه تعالى هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين:
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة وبطلان التحاكم إلى غير الوحي الإلهي.
2- تقرير صحة الدعوة الإسلامية بأمرين الأول: القرآن الكريم، الثاني: شهادة أهل الكتاب ممن أسلموا كعبد الله بن سلام القرظي وأصحمة النجاشي وغيرهم.
3- ميزة القرآن الكريم: أن أخباره كلها صدق وأحكامه كلها عدل.
4- وعود الله تعالى لا تتخلف أبداً، ولا تتبدل بتقديم ولا تأخير.
5- اتباع أكثر الناس يؤدي إلى الضلال فلذا لا يتبع إلا أهل العلم الراسخون فيه لقوله
__________
1 قرأ أهل الكوفة كلمة بالإفراد وقرأها الباقون بالجمع كلمات قال ابن عباس رضي الله عنه في كلمات ربك هي مواعيده تعالى.
2 كما لا يستطيع أحد تبديل كلماتها وحروفها في القرآن الكريم كما بدلت التوراة والإنجيل بتحريف الكلمات وتغييرها.
3 من هذا قيل لمن يقدر كمية التمر في النخل خراص لأنه يقول بدون علم بقيني- وإنما بالحدس والتخمين وأجازه الشارع للضرورة إليه.

تعالى : { ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون}.
فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ(118) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ(119) وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ(120) وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ(121)
شرح الكلمات:
مما ذكر اسم الله عليه : أي قيل عند ذبحه أو نحره بسم الله والله أكبر.
فصل لكم ما حرم عليكم: أي بين لكم ما حرم عليكم مما أحل لكم وذلك في سورة النحل.
إلا ما اضطررتم إليه : أي ألجأتكم الضرورة وهي خوف الضرر من الجوع.
المعتدين: المتجاوزين الحلال إلى الحرام، والحق إلى الباطل.
ذروا ظاهر الإثم: اتركوا: الإثم الظاهر والباطن وهو كل ضار فاسد قبيح .
يقترفون : يكسبون الآثام والذنوب.
وإنه لفسق: أي الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه. فسق عن طاعة الله تعالى.
إلى أوليائهم ليجادلوكم: أي من الإنس ليخاصموكم في ترك الأكل من الميتة.
لمشركون: حيث أحلوا لكم ما حرم عليكم فاعتقدتم حله فكنتم

بذلك عابديهم وعبادة غير الله تعالى شرك.
معنى الآيات:
مما أوحى به شياطين الجن إلى إخوانهم من شياطين الإنس أن قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: كيف تأكلون ما تقتلونه أنتم وتمتنعون عن أكل ما يقتله الله؟ فأنزل الله تعالى قوله {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين1}. فأمر المؤمنين بعدم الاستجابة لما يقوله المشركون، وقال {وما لكم2 ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه} أي: أي شيء يمنعكم من الأكل مما ذكر اسم الله عليه؟ {وقد فصل3 لكم} أي بين لكم غاية التبيين {ما حرم عليكم} من المطاعم {إلا ما اضطررتم إليه} أي ألجأتكم الضرورة إليه كمن خاف على نفسه الهلاك من شدة الجوع فإنه يأكل مما حرم في حال الإختيار. ثم أعلمهم أن كثيراً من الناس يضلون غيرهم بأهوائهم4 بغير علم فيحلون ويحرمون بدون علم وهم في ذلك ظلمة معتدون لأن التحريم والتحليل من حق الرب تعالى لا من حق أي أحد من الناس وتوعدهم بما دل عليه قوله: {إن ربك هو أعلم بالمعتدين} ولازمه أنه سيجازيهم باعتدائهم وظلمهم بما يستحقون من العذاب على اعتدائهم على حق الله تعالى في التشريع بالتحليل والتحريم. وقوله تعالى في الآية الثالثة: (120) {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} يأمر تعالى عباده بترك ظاهر الإثم كالزنى العلني وسائر المعاصي، وباطن الإثم كالزنى السري وسائر الذنوب الخفية وهو شامل لأعمال القلوب وهي باطنة وأعمال الجوارح وهي ظاهرة، لأن الإثم كل ضار فاسد قبيح كالشرك، والزنى وغيرهما من سائر المحرمات.
ثم توعد الذين لا يمتثلون أمره تعالى بترك ظاهر الإثم وباطنه بقوله. {إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون} أي سيجزيهم يوم القيامة بما اكتسبه من الذنوب والآثام ولا ينجو إلا من تاب منهم وصحت توبته وفي الآية الأخيرة في هذا السياق (121) يقول تعالى ناهياً عباده عن الأكل مما لم يذكر اسم الله تعالى عليه من ذبائح المشركين
__________
1 هذه الآية نص في مشروعية التسمية عند الذبح وعند الأكل والشرب.
2 أي ما المانع لكم من أكل ما سميتم عليه ربكم وإن قتلتموه بأيديكم؟
3 بين تعالى ذلك في آخر سورة النحل المكية وأمّا البيان التام فهو في سورة المائدة المتأخرة في النزول عن النحل والأنعام معاً.
4 إذ قال المشركون للرسول والمؤمنين ما ذبح الله بسكينه خير مما ذبحتم أنتم بسكاكينكم.

والمجوس فقال: {ولا تأكلوا1 مما لم يذكر اسم الله عليه2} وأخبر أن الأكل مما لم يذكر اسم الله تعالى عليه وهو ذبائح المشركين والمجوس فسق خروج عن طاعة الرب تعالى وهو مقتضي للكفر لما فيه من الرضا بذكر اسم الآلهة التي تعبد من دون الله تعالى، ثم أخبرهم تعالى بأن الشياطين وهم المردة من الجن يوحون إلى الأخباث من الإنس من أوليائهم الذين استجابوا لهم في عبادة الأوثان يوحون إليهم بمثل قولهم: كيف تحرمون ما قتل الله وتحلون ما قتلتم أنتم؟ ليجادلوكم بذلك، ويحذر تعالى المؤمنين من طاعتهم وقبول وسواسهم فيقول {وإن أطعتموهم} فأكلتم ذبائحهم أو تركتم أكل ما ذبحتم أنتم وقد ذكرتم عليه اسم الله، {إنكم لمشركون3} لأنكم استجبتم لما تأمر به الشياطين تاركين ما يأمر به رب العالمين.
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
1- حِلُّ أكل من ذبائح المسلمين.
2- وجوب ذكر اسم الله على بهيمة الأنعام عند تذكيتها .
3- حرمة إتباع الأهواء ووجوب إتباع العلماء.
4- وجوب ترك الإثم ظاهراً كان أو باطناً وسواء كان من أعمال القلوب أو أعمال الجوارح.
5- حرمة الأكل من ذبائح المشركين والمجوس والملاحدة البلاشفة الشيوعيين.
6- اعتقاد حل طاعة الشياطين شرك والعياذ بالله تعالى.
أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ
__________
1 روى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} قال: خاصمهم المشركون فقالوا: ما ذبح الله فلا تأكلوه، وما ذبحتم أنتم أكلتموه فقال الله سبحانه {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه}.
2 إن هذا اللفظ الوارد على سبب معين لا يمنع العموم إذ القاعدة الأصولية أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ومن هنا تعين معرفة ما يلي: أولاً: وجوب التسمية عند الذبح والنحر. ثانياً: إن ترك المسلم التسمية سهواً أكلت ذبيحته، ثالثاً: إن تركها عمدا لم تؤكل ذبيحته، رابعاً: قال بعض الفقهاء ترك المسلم التسمية عمداً لا يحرم ذبيحته إلا أن يكون تركها مستخفاً بها.
3 الآية دليل على أن من استحل شيئاً مما حرم الله تعالى صار به مشركاً وقد حرَّم الله سبحانه الميتة نصاً فإذا قبل تحليلها من غيره فقد أشرك. وقال ابن العربي إنما يكون المؤمن بطاعة المشرك مشركاً إذا أطاعه في الاعتقاد. أما إن أطاعه في الفعل وعقيدته سليمة مستمر على التوحيد والتصديق فهو عاص غير كافر.

زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(123) وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ(124)
شرح الكلمات:
ميتاً: الميت فاقد الروح، والمراد روح الإيمان.
أحييناه : جعلناه حياً بروح الإيمان.
مثله: صفته ونعته امرؤ في الظلمات ليس بخارج منها.
قرية : مدينة كبيرة.
ليمكروا فيها: بفعل المنكرات والدعوة إلى ارتكابها بأسلوب الخديعة والاحتيال.
وما يمكرون إلا بأنفسهم : لأن عاقبة المكر تعود على الماكر نفسه لآية {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله}.
وإذا جاءتهم آية : أي من القرآن الكريم تدعوهم إلى الحق.
صغار: الصغار: الذل والهران.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في حرب العادلين بربهم الأصنام الذين يزين لهم الشيطان تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم فقال تعالى: {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} أي أطاعة هذا العبد الذي كان ميتاً بالشرك والكفر فأحييناه بالإيمان والتوحيد وهو عمر بن الخطاب أو عمار بن ياسر كطاعة من مثله رجل في الظلمات ظلمات الشرك

والكفر والمعاصي ليس بخارج من تلك الظلمات وهو أبو جهل1 والجواب لا، إذاً كيف أطاع المشركون أبا جهل وعصوا عمر رضي الله عنه والجواب: أن الكافرين لظلمة نفوسهم وإتباع أهوائهم لا عقول لهم زُين لهم عملهم الباطل حسب سنة الله تعالى في أن من أحب شيئاً وغالى في حبه على غير هدى ولا بصيرة يصبح في نظره زيّناً وهو شيْن وحسناً وهو قبيح، فلذا قال تعالى: {وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها2 ليمكروا فيها} فيهلكوا أيضاً. وقوله: {وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون} هو كما قال: قوله الحق وله الملك، فالماكر من أكابر المجرمين حيث أفسدوا عقائد الناس وأخلاقهم وصرفوهم عن الهدى بزخرف القول والاحتيال والخداع، هم في الواقع يمكرون بأنفسهم إذ سوف تحل بهم العقوبة في الدنيا وفي الآخرة، إذ لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ولكنهم لا يشعرون أي لا يدرون3 ولا يعلمون أنهم يمكرون بأنفسهم، وقوله تعالى في الآية الثالثة (124) {وإذا جاءتهم4 آية..} أي حجة عقلية مما تحمله آيات القرآن تدعوهم إلى تصديق الرسول والإيمان بما جاء به ويدعو إليه من التوحيد بدل أن يؤمنوا {قالوا لن نؤمن حتى نؤتى5 مثل ما أوتي رسل الله } أي من المعجزات كعصا موسى وطير عيسى الذي نفخ فيه فكان طائراً بإذن الله فرد الله تعالى عليهم هذا العلو والتكبر قائلاً: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} فإنه يجعلها في القلوب المشرقة والنفوس الزكية، لا في القلوب المظلمة والنفوس الخبيثة، وقوله تعالى {سيصيب الذين أجرموا} على أنفسهم بالشرك والمعاصي وعلى غيرهم حيث أفسدوا قلوبهم وعقولهم، {صغار6}: أي ذل وهوان {عند الله} يوم يلقونه {وعذاب شديد} قاس لا يطاق {بما كانوا يمكرون}: أي بالناس بتضليلهم وإفساد قلوبهم وعقولهم بالشرك والمعاصي التي كانوا
__________
1 الآية عامة في كل كافر ومؤمن والموت قد يطلق أيضاً على الجهل. فالجاهل ميت وحياته بالعلم كما قال الشاعر:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... فأجسامهم قبل القبور قبور
وإن امرؤاً لم يحيى بالعلم ميت ... فليس له حتى النشور نشور
2 في الآية تقديم وتأخير. الأصل جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها والأكابر جمع أكبر وهم الرؤساء والعظماء وخصوا بالذكر لأنهم أقدر على الفساد والإفساد من عامة الناس.
3 وذلك لفرط جهلهم لا يعلمون أن وبال مكرهم عائد عليهم.
4 في الآية شيء من بيان جهلهم وعملهم.
5 هذه مقالة بعضهم قال الوليد بن المغيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك لأني أكبر سناً وأكثر منك مالاً. وقال أبو جهل: والله لا نرضى به أبداً ولا نتبعه إلاَّ أن يأتينا وحي كما يأتيه.
6 الصغار من الصغر ضد الكبر كأن الذل يُصغر إلى المرء نفسَه والفعل صغر يصغر من باب نَصر، وصغِر يصغر من باب علم يعلم. والمصدر الصغر بفتح الصاد والغين معاً والصغار الاسم واسم الفاعل صاغر وهو الراضي بالضيم.

يجرئونهم عليها ويغرونهم بها.
هداية الآيات:
من هداية الآيات :
1- الإيمان حياة، والكفر موت، المؤمن يعيش في نور والكافر في ظلمات.
2- بيان سنة الله تعالى في تزيين الأعمال القبيحة.
3- قل ما تخلو مدينة من مجرمين يمكرون فيها.
4- عاقبة المكر عائدة على الماكر نفسه.
5- بيان تعنت المشركين في مكة على عهد نزول القرآن.
6- الرسالة توهب لا تكتسب.
7- بيان عقوبة أهل الإجرام في الأرض
فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ(125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ(126) لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(127) وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ(128)

شرح الكلمات:
شرح صدره: شرح الصدر توسعته لقبول الحق وتحمل الوارد عليه من أنوار الإيمان وعلامة ذلك: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله.
حرجاً: ضيقاً لا يتسع لقبول الحق، ولا لنور الإيمان.
كأنما يصعد : يصعب عليه قبول الإيمان حتى كأنه يتكلف الصعود إلى السماء.
الرجس: النجس وما لا خير فيه كالشيطان.
فصلنا الآيات: بيناها وأوضحناها غاية البيان والتوضيح.
يذكرون: يذكرون فيتعظون.
دار السلام : الجنة، والسلام اسم من أسماء الله تعالى فهي مضافة إلى الله تعالى.
استكثرتم: أي من إضلال الإنس وإغوائهم.
استمتع بعضنا ببعض: انتفع كل منَّا بصاحبه أي تبادلنا المنافع بيننا حتى الموت.
أجلنا الذي أجلت لنا : أي الوقت الذي وقت لنا وهو أجل موتنا فمتنا.
مثواكم: مأواكم ومقر بقائكم وإقامتكم.
حكيم عليم: حكيم في وضع كل شيء في موضعه فلا يخلد أهل الإيمان في النار، ولا يخرج أهل الكفر منها، عليم بأهل الإيمان وأهل الكفران.
معنى الآيات:
بعد ذلك البيان والتفصيل لطريق الهداية في الآيات من أول السورة إلى قوله تعالى حكاية عن المدعوين إلى الحق العادلين به الأصنام إذ قالوا: {لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله}.
أعلم تعالى عباده أن الهداية بيده وأن الإضلال كذلك يهدي من يشاء برحمته ويضل من يشاء بعدله، وأن لكل من الهداية والإضلال سنناً تتبع في ذلك فمن طلب الهداية ورغب

فيها صادقاً علم تعالى ذلك منه وسهل له طرقها وهيأ له أسبابها، ومن ذلك أنه يشرح1 صدره لقبول الإيمان وأنواره فيؤمن ويسلم ويحسن فيكمل ويسعد، ومن طلب الغواية ورغب فيها صادقاً علم الله تعالى ذلك منه فهيأ له أسبابها وفتح له بابها فجعل صدره ضيقاً2 حرجاً لا يتسع لقبول الإيمان وحلول أنواره فيه حتى لكأنه يتكلف الصعود إلى السماء وما هو بقادر هذه سنته في الهداية والإضلال، وقوله تعالى {كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون} أي كذلك الفعل في الهداية والإضلال يجعل الله الرجس3 أي يلقي بكل ما لا خير فيه على قلوبهم من الكبر والحسد والشرك والكفر والشيطان لقبول المحل لكل ذلك نتيجة خلوه من الإيمان بالله ولقائه.
وقوله تعالى {وهذا صراط ربك مستقيماً} يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم مشيراً إلى ما بينه من الهدى وهذا طريق ربك مستقيماً فاسلكه والزمه فإنه يفضي بك إلى كرامة ربك وجواره في جنات النعيم. وقوله: {قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون} يمتن تعالى وله الحمد والمنة بما أنعم به على هذه الأمة من تفصيل الآيات حججاً وبراهين وشرائع ليهتدي طالبوا الهدى المشار إليهم بقوله {لقوم يذكرون} فيذكرون فيؤمنون ويعملون فيكملون ويسعدون في دار السلام إذ قال تعالى {لهم4 دار السلام عند ربهم وهو وليهم} أي متوليهم بالنصر والتأييد في الدنيا والإنعام والتكريم في الآخرة {بما كانوا يعملون} من الصالحات.
هذا ما دلت عليه الآيات الأولى والثانية والثالثة أما الآية الرابعة (128) فقد تضمنت عرضاً سريعاً ليوم القيامة الذي هو ظرف للجزاء على العمل في دار الدنيا فقال تعالى : {ويوم يحشرهم جميعاً}5 إنسهم وجنهم ويقول سبحانه وتعالى {يا معشر الجن قد استكثرتم6 من الإنس} أي في إغوائهم وإضلالهم، {وقال أولياؤهم من الإنس} أي الذين كانوا
__________
1 الشرح أصله التوسعة وشرح الأمر بيّنه وأوضحه ومنه تشريح اللحم والشريحة منه القطعة. وشرح الصدر لقبول الحق توسعته لتقُّبل ما يلقى إليه من الهدى وفي الحديث الصحيح "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين".
2 الحرج والحرج بالفتح والكسر قراءتان وهو الضيق وكل ضيق حرج والحرجة الغيضة والجمع حروج وحرجات وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الحرج موضع الشجر الملتف فقلب الكافر لضيقه لا تصل إليه المعرفة كما لا تصل الشاة إلى الشجر الملتف أو تدخل رأسها بين الشجر فيصعب عليها إخراجه فتقع في حرج، والحرج الإثم.
3 أصل الرجس في اللغة النتن وقال مجاهد: الرجس ما لا خير فيه فكما يجعل صدر الكافر ضيقاً لا يقبل الهدى يجعل عليه الرجس فيقبل كل خبيث نتن من الأقوال والاعتقادات.
4 دار السلام الجنة والسلام هو الله فدار السلام كبيت الله وهناك معنى آخر وهو أنها دار السلامة من كل أذى ومكروه وآفة.
5 نُصب الظرف بفعل محذوف تقديره يقول يوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن الخ.
6 حذف لفظ الاستمتاع إيجازاً لدلالة السياق وحرف الجر عليه أي قد استكثرتم من الاستمتاع من الإنس.

يوالونهم على الفساد والشر والشرك والكفر {ربنا} أي يا ربنا {استمتع بعضنا ببعض} أي كل منا تمتع بخدمة الآخر له وانتفع بها، يريدون أن الشياطين زينت لهم الشهوات وحسنت لهم القبائح وأغرتهم بالمفاسد فهذا انتفاعهم منهم وأما الجن فقد انتفعوا من الإنس بطاعتهم والاستجابة لهم حيث خبثوا خبثهم وضلوا ضلالهم. وقولهم {وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا} أي واستمر ذلك منا إلى أن انتهينا إلى أجلنا الذي أجلته لنا وهو نهاية الحياة الدنيا وها نحن بين يديك، كأنهم يعتذرون بقولهم هذا فرد الله تبارك وتعالى عليهم بإصدار حكمه فيهم قائلاً: {النار مثواكم1 خالدين فيها إلا ما شاء الله} ومعنى مثواكم: مقامكم الذي تقيمون فيه أبداً.
ومعنى قوله {إلا ما شاء الله} هو استثناء2 لبيان إرادة الله المطلقة التي لا يقيدها شيء، إذ لو شاء أن يخرجهم من النار لأخرجهم أي ليس هو بعاجز عن ذلك، ومن الجائز أن يكون هذا الاستثناء المراد به من كان منهم من أهل التوحيد ودخل النار بالفسق والفجور وكبير الذنوب بإغواء الشياطين له فإنه يخرج من النار بإيمانه، ويكون معنى (ما) (من) أي إلا من شاء الله. والله أعلم بمراده، وقوله في ختام الآية، {إن ربك حكيم عليم}، ومن مظاهر حكمنه وعلمه إدخال أهل الكفر والمعاصي النار أجمعين الإنس والجن سواء.
هداية الآيات
من هداية الآيات :.
1- بيان سنة الله تعالى في الهداية والإضلال.
2- بيان صعوبة وشدة ما يعاني الكافر إذا عرض عليه الإيمان.
3- القلوب الكافرة يلقى فيها كل ما لا خير فيه من الشهوات والشبهات وتكون مقراً للشيطان.
4- فضيلة الذكر المنتج للتذكر الذي هو الاتعاظ فالعمل.
5- ثبوت التعاون بين أخباث الإنس والجن على الشر والفساد.
6- إرادة الله مطلقة يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فلا يؤثر فيها شيء.
__________
1 المثوى المقام أي النار موضع مقامكم.
2 ذكر المفسرون أقوالاً كثيرة في هذا الاستثناء وما ذكرته في التفسير أحسن ما يؤول به هذا الاستثناء الإلهي في هذه الآية وفي آية هود.

وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ(129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ(130) ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ(131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ(132)
شرح الكلمات:
نولي بعض الظالمين بعضاً : أي نجعل بعضهم أولياء بعض بجامع كسبهم الشر والفساد.
بما كانوا يكسبون : أي من الظلم والشر والفساد.
ألم يأتكم رسل منكم: الاستفهام للتوبيخ والرسل جمع رسول من أوحى الله تعالى إليه شرعه وأمره بإبلاغه للناس، هذا من الإنس أما من الجن فهم من يتلقون عن الرسل من الإنس ويبلغون ذلك إخوانهم من الجن، ويقال لهم النُّذُر.
يقصون عليكم آياتي : يخبرونكم بما فيها من الحجج متتبعين ذلك حتى لا يتركوا شيئاً إلا بلغوكم إياه وعرفوكم به.
وينذرونكم لقاء يومكم : أي يخوفونكم بما في يومكم هذا وهو يوم القيامة من العذاب والشقاء.
وأهلها غافلون: لم تبلغهم دعوة تعرفهم بربهم وطاعته، ومالهم عليها من جزاء..

معنى الآيات:
قوله تعالى: {وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون} إخبار منه تعالى بسنته في أهل الظلم وهي أن يجعل بعضهم أولياء بعض بمعنى يتولاه بالنصرة والمودة بسبب الكسب السيئ الذي يكسبونه على نحو موالاة شياطين الإنس للجن فالجامع بينهم الخبث والشر وهؤلاء الجامع بينهم الظلم والعدوان، ولا مانع من حمل هذا اللفظ على تسليط الظالمين بعضهم على بعض على حد: ولا ظالم إلا سيبتلى بأظلم1. كما أنه تعالى سيوالي يوم القيامة إدخالهم النار فريقاً بعد فريق وكل هذا حق وصالح لدلالة اللفظ عليه.
وقوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس} إخبار منه تعالى بأنه يوم القيامة ينادي الجن والإنس موبخاً لهم فيقول: {ألم يأتكم رسل منكم2 يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا} أي ألم يأتكم رسل من جنسكم تفهمون عنهم ويفهمون عنكم {يقصون عليكم آياتي} أي يتلونها عليكم ويخبرونكم بما تحمله آياتي من حجج وبراهين لتؤمنوا بي وتعبدوني وحدي دون سائر مخلوقاتي، وينذرونكم أي يخوفونكم، لقاء يومكم هذا الذي أنتم الآن فيه وهو يوم القيامة والعرض على الله تعالى. وما يتم فيه من جزاء على الأعمال خيرها وشرها وأن الكافرين هم أصحاب النار. فأجابوا قائلين: شهدنا على أنفسنا- وقد سبق أن غرتهم3 الحياة الدنيا فواصلوا الكفر والفسق والظلم- {وشهدوا على أنفسهم4 أنهم كانوا كافرين}.
هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية أما الثالثة (131) فقد تضمنت الإشارة إلى علة إرسال الرسل إلى الإنس والجن إذ قال تعالى {ذلك5 أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم6
__________
1 في هذا المعنى قول الشاعر:
وما من يد إلا يد الله فوقها ... ولا ظالم إلاَّ سيبلى بظالم
2قوله منكم فيه تغليب الأثر على الجن في الخطاب كما يغلب المذكر على المؤنث إذ الرسل من الإنس لا غير ومن الجن نذر ينذرونهم بما يتلقونه عن الرسل من الإنس كما قال تعالى {فلما قُضي ولوّا إلى قومهم منذرين} وشاهد آخر في قوله تعالى {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} ، المراد البحر الملح فقط وفي وصف الرسل بلفظ منكم زيادة في إقامة الحجة عليهم.
3 غرتهم إذ عجلت لهم طيباتهم فيها فانفردوا بزخارفها وزينتها وطول العمر فيها.
4 قال مقاتل هذا معنى شهدت عليهم الجوارح بالشرك.
5 ذلك في موضع رفع أي الأمر ذلك وإن مخففة من الثقيلة أي المشددة واسمها ضمير الشأن محذوف وذلك لأن هذا الخبر له شأن يجدر أن يعرف والتقدير الأمر ذلك لأنه- أي الشأن- لم يكن ربك مهلك القرى بظلم الخ.
6 الباء في بظلم سببية أي بسبب ظلمهم وجملة وأهلها غافلون حالية.

وأهلها غافلون} أي ذلك الإرسال كان لأجل أنه تعالى لم يكن من شأنه ولا مقتضى حكمته أنه يهلك أهل القرى بظلم منه وما ربك بظلام للعبيد ولا بظلم منهم وهو الشرك والمعاصي وأهلها غافلون لم يؤمروا ولم ينهوا، ولم يعلموا بعاقبة الظلم وما يحل بأهله من عذاب.
وفي الآية الأخيرة (132) أخبر تعالى أن لكل عامل1 من خير أو شر درجات من عمله إن كان العمل صالحاً فهي درجات في الجنة، وإن كان العمل سيئاً فاسداً فهي دركات في النار، وهذا يتم حسب علم الله تعالى بعمل كل عامل وهو ما دل عليه قوله، {وما ربك بغافل عما يعملون}.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله تعالى في أن الأعمال هي سبب الموالاة بين الإنس والجن فذو العمل الصالح يوالي أهل الصلاح، وذو العمل الفاسد يوالي أهل الفساد.
2- التحذير من الاغترار بالحياة الدنيا.
3- بيان العلة في إرسال الرسل وهي إقامة الحجة على الناس، وعدم إهلاكهم قبل الإرسال إليهم.
4- الأعمال بحسبها يتم الجزاء فالصالحات تكسب الدرجات، والظلمات تكسب الدركات.
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ(133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ(134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
__________
1 لكل عامل أي من الإنس والجن.

مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(135)
شرح الكلمات:
الغني: عن كل ما سواه، فغناه تعالى ذاتي ليس بمكتسب كغنى غيره.
ذو الرحمة : صاحب الرحمة العامة التي تشمل سائر مخلوقاته والخاصة بالمؤمنين من عباده.
ويستخلف : أي ينشىء خلقاً آخر يخلفون الناس في الدنيا.
إن ما توعدون لآت: إن ما وعد الله تعالى به عباده من نعيم أو جحيم لآت لا محالة.
على مكانتكم : أي على ما أنتم متمكنين منه من حال صالحة أو فاسدة.
عاقبة الدار: أي الدار الدنيا وهي سعادة الآخرة القائمة على الإيمان والعمل الصالح.
إنه لا يفلح الظالمون: أي لا يفوز الظالمون بالنجاة من النار ودخول الجنان لأن ظلمهم يوبقهم في الآخر.
معنى الآيات:
بعد تلك الدعوة إلى عبادة الله تعالى وتوحيده فيها وبيان جزاء من أقام بها، ومن ضيعها في الدار الآخرة.
خاطب الرب تبارك وتعالى رسوله قائلاً: {وربك الغني1 ذو الرحمة} أي ربك الذي أمر عباده بطاعته ونهاهم عن معصيته هو الغني عنهم وليس في حاجة إليهم، بل هم الفقراء إليه المحتاجون إلى فضله، ورحمته قد شملتهم أولهم وآخرهم ولم تضق عن أحد منهم، ليعلم أولئك العادلون بربهم الأصنام والأوثان أنه تعالى قادر على إذهابهم بإهلاكهم بالمرة، والإتيان بقوم آخرين أطوع لله تعالى منهم، وأكثر استجابة له منهم: {إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين} وليعلموا أن ما يوعدونه من البعث والحساب والجزاء لآت لا محالة وما أنتم بمعجزين الله تعالى ولا فائتينه بحال
__________
1 الغني هو الذي لا يحتاج إلى غيره وكل غنى من الخلق غناه إضافي غير حقيقي أما غنى الله تعالى فهو حقيقي فقوله وربك الغني أي الغني المطلق الذي لا يشاركه فيه غيره ولذا كان في الصيغة قصر الغنى الحق عليه تعالى.

ولذا سوف يجزي كلاً بعمله خيراً كان أو شراً وهو على ذلك قدير.
هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية أما الآية الثالثة (135) فقد تضمنت أمر الله تعالى للرسول أن يقول للمشركين من قومه وهم كفار قريش بمكة {اعملوا1 على مكانتكم} ما دمتم مصرين على الكفر والشرك {إني عامل} على مكانتي فسوف2 تعلمون من تكون له عاقبة دار3 الدنيا وهي الجنة دار السلام أنا أم أنتم مع العلم أن الظالمين لا يفلحون بالنجاة من النار ودخول الجنان، ولا شك أنكم أنتم الظالمون بكفركم بالله تعالى وشرككم به.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير غنى الله تعالى المطلق عن سائر خلقه.
2- بيان قدرة الله تعالى على إذهاب الخلق كلهم والإتيان بآخرين غيرهم.
3- صدق وعد الله تعالى وعدم تخلفه.
4- تهديد المشركين بالعذاب إن هم أصروا على الشرك والكفر والذي دل عليه قوله {اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار} الدنيا {إنه لا يفلح الظالمون}.
وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ
__________
1 هذا الأمر للتهديد، والمكانة هي المكان كالدارة والدار والمراد بها الحال التي عليها الإنسان من قوة أو ضعف أو خير أو شر أو إصلاح أو إفساد.
2 الجملة تحمل التهديد الشديد وهي تشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم واثق من نصره وحسن عاقبته وهو كذلك إذ الله تعالى الذي بيده الأمر هو الذي أمره أن يعلن عن هذا التهديد.
3 العاقبة لغة آخر الأمر وأثر عمل العامل، فعاقبة كل شيء هي ما ينجلي عنه الشيء من نتيجة وأثر وتأنيث العافية بالنظر إلى تأويلها بالحالة والحالة مؤنثة.

سَاء مَا يَحْكُمُونَ(136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(137) وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ(138) وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ(139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ(140)
شرح الكلمات:
مما ذرأ: ما خلق.
من الحرث والأنعام : الحرث كل ما يحرث له الأرض من الزروع، والأنعام: الإبل والبقر والغنم.
نصيباً : حظاً وقدراً معيناً.
لشركائنا : شركاؤهم أوثانهم التي أشركوها في عبادة الخالق عز وجل.

ساء ما يحكمون: قبح حكمهم في ذلك إذ آثروا أوثانهم على الله.
ليردوهم : اللام لام العاقبة ومعنى يردوهم: يهلكوهم.
وليلبسوا : ليخلطوا عليهم دينهم.
حجر: أي ممنوعة على غير من لم يأذنوا له في أكلها.
حرمت ظهورها : أي لا يركبونها ولا يحملون عليها.
افتراء على الله : أي كذباً على الله عز وجل.
على أزواجنا: أي إناثنا.
وإن يكن ميتة: أي إن ولد ما في بطن الحيوان ميتاً فهم فيه شركاء الذكور والإناث سواء.
سفهاً بغير علم : حمقاً وطيشاً وعدم رشد وذلك لجهلهم.
معنى الآيات:
مازال السياق في التنديد بأفعال العادلين بربهم أصنامهم وأوثانهم فأخبر تعالى عما كانوا يبتدعونه من البدع ويشرعون من الشرائع بدون علم ولا هدى ولا كتاب مبين فقال تعالى عنهم {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً1} أي جعل أولئك العادلون بربهم لله تعالى مما خلق من الزرع والأنعام نصيباً أي قسماً كما جعلوا للآلهة التي يؤلهونها مع الله سبحانه وتعالى نصيباً، {فقالوا هذا لله بزعمهم2، وهذا لشركائنا} . وقوله تعالى: {بزعمهم} لأنه سبحانه وتعالى ما طلب منهم ذلك ولا شرعه لهم وإنما هم يكذبون على الله تعالى ثم إذا أنبت أو أنتج ما جعلوه لله، ولم ينبت أو ينتج ما جعلوه للشركاء حولوه إلى الشركاء بدعوى أنها فقيرة وأن الله غني، وإذا حصل العكس لم يحولوا ما جعلوه للآلهة لله بنفس الحجة وهي أن الشركاء فقراء، والله غني.
هذا معنى قوله تعالى: {فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم} وهو تحيز ممقوت وتحكم فاسد فلذا قبح تعالى ذلك عليهم فقال {ساء
__________
1 في الكلام أيجاز إذ حذف منه المقابل وهو وجعلوا لآلهتهم نصيباً وحذفه كان لدلالة ما بعده عليه.
2 الزعم بفتح الزاي وقد تضم وتكسر أيضاً لغات والفتح أشهر والزعم الكذب قال شريح القاضي رحمه الله تعالى إن لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا وقد كذب المشركون فيما جعلوه لله تعالى حيث لم يشرع ذلك لهم وإنما هم مفتاتون.

ما يحكمون} أي بئس الحكم حكمهم هذا وقبح صنيعاً، صنيعهم هذا، وما جعلوه لله ينفقون على الضيفان والفقراء، وما جعلوه للشركاء ينفقونه على السدنة والمقيمين على الأصنام والأوثان.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الثانية (137) وهي قوله تعالى {وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم} يريد وكذلك التحكم الباطل والإدعاء الكاذب في جعل لله شيئاً مما ذرأ من الحرث والأنعام، ثم عدم العدل بين الله تعالى وبين شركائهم زين لكثير من المشركين شركاؤهم وهم شياطينهم من الجن والإنس قتل أولادهم كالمؤودة من البنات خوف العار، وكقتل الأولاد الصغار خوف الفقر، أو لنذرها للآلهة1، وفعل الشياطين ذلك من أجل أن يردوهم أي يهلكوهم، ويلبسوا عليهم دينهم2 الحق أن يخلطوه لهم بالشرك، وهو معنى قوله تعالى {ليردوهم3 وليلبسوا عليهم دينهم} وقوله تعالى: {ولو شاء الله ما فعلوه} هو كما قال إذ لو أراد تعالى منعهم من ذلك لمنعهم4 وهو على كل شيء قدير، إذاً فذرهم أيها الرسول وما يفترون من الكذب في هذا التشريع الجاهلي الباطل القبيح.
هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الثالثة (138) وهي قوله تعالى: {وقالوا هذه أنعام وحرث حجر5 لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم، وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه}.
فقد تضمنت هذه الآية ثلاثة ضروب من تشريع الجاهلية وأباطيلهم:
الأول : تحريمهم بعض الأنعام والحرث وجعلها لله وللآلهة التي يعبدونها مع الله.
الثاني : أنعام أي إبل حرموا ركوبها كالسائبة والحام.
الثالث : إبلٌ لا يذكرون اسم الله عليها فلا يحجون عليها ولا يذكرون اسم الله عليها إن ركبوها بحال ولا إن حملوا عليها.
__________
1 كما نذر عبد المطلب ولده عبدالله للآلهة، ثم فداه بمائة من الإبل.
2 فإن قيل: وهل كان لهم دين حق؟ الجواب: نعم كان لهم دين حق وهو ما جاءهم به إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام وبطول الزمان وفتنة الشيطان فسد عليهم.
3 اللام هنا لام العاقبة والصيرورة.
4 في هذا رد على القدرية وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتخفيف عليه.
5 في لفظ حجر الفتح والضم والكسر ومعناه المنع وسمي العقل حجراً لأنه يمنع من قول وفعل القبيح وحجر القاضي على المفلس منعه من التصرف في المال وهو مشتق من الحرج بالكسر وهي لغة في الحرج الذي هو الضيق والإثم.

وقوله تعالى في ختام الآية {افتراء عليه} أي كذباً على الله تعالى لأنه تعالى ما حرم ذلك عليهم وإنما حرموه هم بأنفسهم وقالوا حرمه الله علينا، ولذا توعدهم الله تعالى على كذبهم هذا بقوله: {سيجزيهم بما كانوا يفترون} أي سيثيبهم الثواب الملائم لكذبهم وهو العذاب الأخروي.
هذا ما دلت عليه الآية الثالثة أما الآية الرابعة (139) {وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، وإن يكن ميتاً فهم فيه شركاء} فقد تضمنت تشريعاً آخر باطلاً اختلقوه بأنفسهم وزعموا أن الله شرعه لهم وهو أنهم حرموا ما في بطون بعض الأنعام على الإناث، وجعلوها حلالاً للذكور خالصة لهم دون النساء فلا يشرب النساء من ألبانها ولا يأكلن لحوم أجنتها إن ذبحوها ولا ينتفعن بها بحال، اللهم إلا أن ولد الجنين ميتاً فإنهم لا يحرمونه على النساء ولا يخصون به الذكور فيحل أكله للنساء والرجال معاً، ولذا توعدهم تعالى بقوله {سيجزيهم وصفهم1 إنه حكيم عليم} أي سيثيبهم على هذا الكذب بما يستحقون من العذاب إنه حكيم في قضائه عليم2 بعباده.
هذا ما دلت عليه الآية الرابعة أما الخامسة (140) فقد أخبر تعالى بخسران أولئك المشرعين وضلالهم وعدم هدايتهم بقوله {قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً} أي جهلاً {بغير3 علم، وحرموا ما رزقهم الله} مما سبق ذكره {افتراءً على الله} كذباً {قد ضلوا! وما كانوا مهتدين}.
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
1- حرمة الابتداع في الدين والتشريع المنافي لشرع الله تعالى وإن لم ينسب إلى الله تعالى.
2- ما ينذره الجهال اليوم من نذور للأولياء وإعطائهم شيئاً من الأنعام والحرث والشجر هو من عمل المشركين زينه الشيطان لجهال المسلمين.
3- حرمة قتل النفس لأي سبب كان وتحديد النسل اليوم وإلزام الأمة به من بعض
__________
1 أي كذبهم وقيل في الوصف كذب لأنهم وصفوا بعض الأجنة بالحرمة وبعضاً آخر بالحلية وهو كقوله تعالى من سورة النحل {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم هذا حلال وهذا حرام}.
2 قال القرطبي في الآية دليل على أن العالم ينبغي له أن يتعلم قول مخالفه وإن لم يأخذ به حتى يعرف فساد قوله ويعلم كيف يرد عليه لأن الله تعالى علّم نبيه وأصحابه قول من خالفهم في زمانهم ليعرفوا فساد قولهم.
3 في الآية دليل واضح على حرمة القول بدون علم وكذا الاعتقاد والعمل فلا يحل لأحد أن يعتقد أو بقول أو يعمل بدون علم شرعي قد تمكن من معرفته.

الحكام من عمل أهل الجاهلية الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم كقتل البنات خشية العار والأولاد خشية الفقر.
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ(141) وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ(142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(143) وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(144)

شرح الكلمات:
أنشأ جنات : خلق جنات جمع جنة وهي البستان.
معروشات: ما يعمل له العريش من العنب، وما لا يعرش له من سائر الأشجار.
مختلفاً أكله: أي ثمره الذي يأكل منه.
متشابهاً: في الورق وغير متشابه في الحب والطعم.
حقه: ما وجب فيه من الزكاة.
يوم حصاده : يوم حصاده إن كان حباً وجذاذه إن كان نخلاً.
ولا تسرفوا :في إخراجه:أي بأن لا تبقوا لعيالكم منه شيئاً.
حمولة : الحمولة ما يحمل عليها من الإبل.
وفرشا : الفرش الصغار من الحيوان.
خطوات الشيطان : مسالكه في التحريم والتحليل للإضلال والغواية.
أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين: أنثى الضأن وأنثى الماعز ذكراً كان أو أنثى.
نبئوني بعلم : خبروني بأيهما حرم بعلم صحيح لا بوسواس الشياطين.
أم كنتم شهداء: أي حاضرين وقت تحريمه تعالى ذلك عليهم إن كان قد حرمه كما تزعمون.
معنى الآيات:
لما توعد الحق تبارك وتعالى المفترين عليه حيث حرموا وحللوا ما شاءوا ونسبوا ذلك إليه افتراء عليه تعالى، وما فعلوه ذلك إلا لجهلهم بالله تعالى وعدم معرفتهم بعلمه وقدرته وإلا لما اتخذوا له أنداداً من الأحجار وقالوا: شركاؤنا، وشفعاؤنا عند الله. ذكر تعالى في هذه الآيات الأربع ظاهر قدرته وعلمه وحكمته وأمره ونهيه وحجاجه في إبطال تحريم المشركين ما أحل الله لعباده فقال تعالى: {وهو الذي أنشأ جنات1} أي بساتين وحدائق من العنب
__________
1 الجنّات: جمع جنة وهي البستان وسمي البستان جنة لأنه لكثرة أشجاره يجن أي يستر الكائن فيه، وسمي الجنين في البطن جنيناً لاجتنانه واستتاره ببطن أمه.

معروشات1 أي محمول شجرها على العروش التي توضع للعنب ليرتفع فوقها وغير معروشات أي غير معرش لها، وأنشأ النخل والزرع مختلفاً ثمره وطعمه، وأنشأ الزيتون والرمان متشابهاً في الورق، وغير متشابه في الحب والطعم أيضاً. وأذن تعالى في أكله وأباحه وهو مالكه وخالقه فقال: {كلوا من ثمره إذا أثمر} أي نضج بعض النضج وأمر بإخراج الواجب فيه وهو الزكاة فقال {وآتوا حقه يوم2 حصاده} أي بعد درسه وتصفيته إذ لا يعطى السنبل، ونهى عن الإسراف وهو تجاوز الحد في إخراج الزكاة غلوا حتى لا يبقوا لمن يعولون ما يكفيهم، فقال: {ولا تسرفوا إنه لا يحب3 المسرفين} وأنشأ من الأنعام: الإبل والبقر والغنم {حمولة} وهي ما يحمل عليها لكبرها {وفرشاً} وهي الصغار التي لا يحمل عليهما، وأذن مرة أخرى في الأكل مما رزقهم سبحانه وتعالى من الحبوب والثمار واللحوم وشرب الألبان، فقال: {كلوا مما رزقكم الله} ونهى عن اتباع مسالك الشيطان في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم فقال: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} وعلل للنهي فقال: {إنه لكم عدو مبين} ومن عرف عدوه اتقاه ولو بالبعد عنه، وأنشأ {ثمانية أزواج من الضأن اثنين}.
وهما الكبش والنعجة، {ومن المعز اثنين} وهما التيس والعنزة، وأمر رسوله أن يحاج المفترين في التحريم والتحليل فقال له {قل} يا رسولنا لهم {آلذكرين4 حرم } الله عليكم {أم الأنثيين أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين} أي النعجة والعنزة {نبؤني بعلم إن كنتم صادقين} فإن قلتم حرم الذكرين فلازم ذلك جميع الذكور حرام، وإن قلتم حرم الأنثيين
فلازمه أن جميع الإناث حرام وإن قلتم حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين فكل ما ولد منهما حرام ذكراً كان أو أنثى فكيف إذا حرمتم البعض وحللتم البعض فبأي علم أخذتم نبوئوني به إن كنتم صادقين وقوله تعالى {ومن الإبل اثنين} وهما الناقة والجمل، {ومن البقر اثنين} وهما الثور والبقرة {قل آلذكرين5 حرم أم الأنثيين أمّا اشتملت عليه أرحام 6
__________
1 وقيل المعروشات: ما يعني به من الشجر على اختلافه، وغير المعروشات وهو شجر البوادي والجبال وما في التفسير أولى لقوته ودلالة اللفظ عليه.
2 كان قبل فريضة الزكاة يتعين على عن حصد أو جد ثمره وأتاه المساكين أن يعطيهم شيئاً مما بين يديه قل أو كثر ولما فرضت الزكاة وحددت مقاديرها خصص هذا بها حيث بُين الحق المجمل هنا.
3 في الآية دليل حرمة الإسراف وهو محرم في كل شيء وهو الخروج عن حد الاعتدال والقصد.
4 الاستفهام للإنكار أي ينكر عليهم أن يكون الله حرم ذلك.
5 إبطال لما حرموا من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي.
6 إبطال لقولهم: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا.

الأنثيين} ، فهل حرم الذكرين أو الأنثين هذه الأزواج الأربعة فإن حرم الذكرين فسائر الذكور محرمة، وإن حرم الأنثيين فسائر الإناث محرمة، أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين وحينئذ يكون كل مولود منهما محرماً ذكراً كان أو أنثى، وبهذا تبين أنكم كاذبون على الله مفترون فالله تعالى لم يحرم من هذه الأزواج الثمانية شيئاً، وإنما حرم الميتة، وما لم يذكر اسم الله عليه.
وقوله تعالى {أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله} بهذا التحريم فهو تبكيت لهم وتقريع، إذ لم يحرم الله تعالى هذا الذي حرموه، ولم يوصهم بذلك ولم يكونوا حال الوصية حضورا، وإنما هو الافتراء والكذب على الله تعالى.
وأخيراً سجل عليهم أنهم كذبة ظالمون مضلون وخيرهم بغير علم، وأنهم لا يستحقون الهداية فقال عز وجل: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل1 الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين}.
هداية الآيات.
من هداية الآيات :
1- إباحة أكل التمر والعنب والرمان والزيتون.
2- وجوب الزكاة في الزيتون والتمر والحبوب إذا بلغت النصاب وهو خمسة أوسق والوسق ستون صاعاً، والصاع أربع حفنات.
3- جواز الأكل من الثمر قبل جذاذه وإخراج الزكاة2 منه.
4- حرمة الإسراف في المال بأن ينفقه فيما لا يعنى، أو ينفقه كله ولم يترك لأهله شيئاً.
5- إباحة أكل بهيمة الأنعام وهي ثمانية أزواج، ضأن3 وماعز، وإبل وبقر وكلها ذكر وأنثى.
6- إبطال تشريع الجاهلية في التحريم والتحليل، فالحلال ما أحله الله ورسول والحرام
__________
1 يدخل في هذه الخطاب دخولاً أولياً عمرو بن لحىّ أذ هو أول من جلب الأصنام للحجاز ويدخل فيه كذلك أول من سيب السوائب الخ..
2 الضأن من ذوات الصوف والمعز من ذوات الشعر.
3 اختلف في زكاة التين والراجح أنه إذا بلغ خمسة أوسق بعد يبسه يزكى لأنه يدخر ويقتات واختلف في الخرص للثمر والعنب والجمهور على جوازه للحديث الوارد في ذلك وهو "وإنما كان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخرص لكي تحصى الزكاة قل أن تؤكل الثمار وتفرق". رواه الدار قطني.

ما حرمه الله رسوله.
7- جواز الجدال والحجاج لإحقاق الحق أو إبطال الباطل.
8- لا أظلم ممن يكذب على الله تعالى، فيشرع لعباده ما لم يشرع لهم.
قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ(146) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ(147)
شرح الكلمات:
محرماً على طاعم يطعمه: محظوراً ممنوعاً على آكل يأكله.
ميتة أو دماً مسفوحاً: الميتة: ما مات دون تزكية، والدم المسفوح؟ المصبوب صباً لا المختلط باللحم والعظام.
رجس: نجس وقذر قبيح محرم.
أو فسقا أهل لغير الله به : الفسق الخروج عن طاعة الله والمراد ما ذبح ولم يذكر اسم الله عليه وإنما ذكر عليه اسم الأصنام أو غيرها، والإهلال

رفع الصوت باسم المذبوح له.
فمن اضطر غير باغٍ ولا عاد : اضطر: ألجأته الضرورة وهي خوف الهلاك، والباغ الظالم، والعادي: المعتدي المجاوز للحد.
هادوا : اليهود.
ذي ظفر : صاحب ظفر وهو الحيوان الذي لا يفرق1 أصابعه كالإبل والنعام.
ما حملت ظهورها أو الحوايا : أي الشحم العالق بالظهر، والحوايا2: المباعر والمصارين والأمعاء.
أو ما اختلط بعظم : أي عفى لهم عن الشحم المختلط بالعظم كما عفي عن الحوايا والعالق بالظهر.
ببغيهم : أي بسبب ظلمهم.
ولا يرد بأسه : بطشه وعذابه.
معنى الآيات:
مازال السياق في الحجاج مع أولئك المحرمين ما لم يحرم الله ففي أولى هذه الآيات يأمر الله تعالى رسوله أن يقول للذين يحرمون افتراءً على الله ما لم يحرم {لا أجد فيما أوحي إلي}- وأنا رسول الله- {محرماً} أي شيئاً محرماً {على طاعم يطعمه} أي آكل يأكله اللهم {إلا أن يكون ميتة} وهي ما مات من الحيوان حتف أنفه أي لم يذك الذكاة الشرعية، {أو دماً مسفوحاً} أي مصبوباً صباً لا الدم المختلط بالعظم واللحم كالكبد والطحال، {أو لحم خنزير فإنه} أي لحم الخنزير {رجس} أي نجس قذر حرام، (أو فسقاً3 أهل لغير الله به} أي ما ذبح ولم يذكر اسم الله عليه أو ذكر اسم الأصنام عليه فهو فسق أي خروج عن طاعة الرب الذي أمر من أراد ذبح بهيمة أن يذكر عليها اسمه ليحل له أكلها.
__________
1 في ذي الظفر تفاسير أرجحها ما في التفسير وهو ما ليس بمنفرج الأصابع وقيل الإبل خاصة، وقيل كل ذي حافر من الدواب.
2 واحد الحوايا حاوية. وحويّة والمراد بها ما تَحوَّى من الأمعاء واستدار منها.
3 تقدير الكلام أو أن يكون المراد أكل ما أهل لغير الله به فصار فسقاً لذلك إذ الذبح لغير الله شرك وخروج من الدين، والفسق يطلق على التفصي من طاعة الله تعالى وطاعة رسوله.

هذا معنى قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي1 إلي مجرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به}.
وقوله تعالى {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} أي غير ظالم بأكل الميتة وما ذكر معها وذلك بأن يأكلها تلذذاً بها لا دفعاً لغائلة الموت وهو كاره لأكلها {ولا عاد} أي غير متجاوز القدر الذي أبيح له وهو ما يدفع به غائلة الموت عن نفسه {فإن ربك غفور رحيم} ومن مظاهر مغفرته ورحمته أنه أذن للمضطر بالأكل مما هو حرام في الضرورة.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (145) أما الآية الثانية فبعد أن بين تعالى أنه لم يحرم على المؤمنين غير ما ذكر من الميتة وما ذكر بعدها أخبر أنه حرم على اليهود أكل كل ذي ظفر وهو ما ليس له أصابع مفرقة مثل الإبل والنعام والبط والإوز ومن البقر والغنم حرم عليهم شحومهما وهو الشحم اللاصق بالكرش والكلى، وأباح لهم من الشحوم ما حملته البقرة أو الشاة على ظهرها، وما كان لاصقاً بالماعز وهي الحوايا جمع حاوية وكذا الشحم المختلط بالعظام كشحم اللية، وشحم الجانب والأذن والعين وما إلى ذلك.
هذا ما تضمنه قوله تعالى من الآية الثانية {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم} ثم أخبر تعالى بأن هذا التحريم عليهم كان عقوبة لهم بسبب ظلمهم وإجرامهم فقال {ذلك جزيناهم ببغيهم2} أي ذلك التحريم منا عليهم كان جزاء ظلمهم، وقوله {وإنا لصادقون} فيما أخبرنا به عنهم، وهم الكاذبون إذ قالوا إنما حرم هذا على إسرائيل ونحن أتباع له أما نحن فلم يحرم علينا شيء وإنهم لكاذبون. وقوله تعالى {فإن كذبوك } 3 أي اليهود فيما أخبرت به عنهم {فقل} لهم {ربكم ذو رحمة واسعة4} ولذا لم يعاجلكم بالعقوبة وقد كذبتموه وكذبتم رسوله وافتريتم على رسله، ولكن ليس معنى ذلك أنكم نجوتم من
__________
1 هل هذه الآية منسوخة بآية المائدة؟ اختلف في ذلك والراجح أنها غير منسوخة إذ هي خبر والأخبار لا تنسخ وآية المائدة ذكرت المنخنقة وما بعدها وهي داخلة في حكم الميتة، وما ذبح على النصب داخل في وما أهل به لغير الله إذاً فالآية محكمة.
2 من بغيهم قتلهم الأنبياء وأكل الربا وتبرج النساء واستحلال المحرمات بالحيل والفتاوى الفاسدة.
3 قيل إن المراد بالمكذبين المشركون، وقيل اليهود وكلاهما مكذب وكافر واللفظ يصدق عليهما معاً.
4 من مظاهر رحمته أنه يحلم على العصاة وينظرهم ويمهلهم لعلهم يتوبون فعدم تعجيله العقوبة هو دليل رحمته الواسعة.

العذاب فإن بأس الله لا يرد عن القوم المجرمين1 من أمثالكم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة الميتة وأنواعها في سورة المائدة وهي المنخنقة والموقوذة، والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، وحرمة الدم المسفوح، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، وما ذبح على النصب وحرم بالسنة الحمر2 الأهلية والبغال، وكل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور.
2- قد يُحْرم العبد بالذنوب من كثير من الطيبات كما حصل لليهود.
3- إمهال الله تعالى المجرمين لا يدل على عدم عقوبتهم فإن بأس الله لا يرد عن القوم المجرمين
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ(148) قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ(149)قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ
__________
1 في الآية وعيد وتهديد وهو صالح لأن ينزل في الدنيا وفي الآخرة إذ العلة هي الإجرام وهو قائم فهم متوكلون فيه ولذا لابد من العقوبة ما لم تحصل توبة صادقة.
2 ذكر القرطبي أن علة تحريم الحمار قد تكون حاجة الناس للحمل عليه والركوب وذكر علة أخرى وهي كونه نجساً وذكر عن الترمذي في نوادر الأصول أن الحمار أظهر جوهره الخبيث حيث نزا على ذكره وتلوّط فسمى لذلك رجساً وليس في الدواب من يعمل عمل قوم لوط إلا الحمار والخنزير.

لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(150)
شرح الكلمات:
أشركوا: أي جعلوا لله شركاء له يعبدونهم معه.
ولا حرمنا من شيء : أي مما حرموه من البحائر والسوائب والوصائل والحامات.
ذاقوا بأسنا : أي عذابنا.
تخرصون: تكذبون.
الحجة البالغة : الدليل القاطع للدعاوي الباطلة.
هلم شهداءكم : أي أحضروهم.
يعدلون: أي به غيره من الأصنام وسائر المعبودات الباطلة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في رد ترهات وأباطيل العادلين بربهم المشركين في ألوهيته سواه فذكر تعالى في الآيتين (148) و(149) شبهة للمشركين يتخذونها مبرراً لشركهم وباطلهم وهي قولهم: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا1 ولا حرمنا من شيء2} يريدون أن عدم مؤاخذة الله تعالى لنا ونحن نشرك به ونحرم ما نحرمه دليل على رضا الله بذلك3 وإلا لمنعنا منه وحال دون فعلنا له، فرد الله تعالى هذه الشبهة وأبطلها بقوله: {كذلك كذب الذين من قبلهم4 حتى ذاقوا بأسنا} أي مثل هذا التكذيب الصادر من هؤلاء العادلين بربهم من كفار قريش ومشركيها كذب الذين من قبلهم من الأمم، وما زالوا على تكذيبهم حتى أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فلو كان تعالى راضياً بشركهم وشرهم وباطلهم لما أخذهم فإمهال الله تعالى للناس لعلهم يتوبون ليس دليلاً على رضاه بالشرك والشر، والحجة أنه متى انتهت فترة الإمهال نزل بالمكذبين العذاب.
__________
1 إلى اليوم والغافلون من المسلمين يحتجون بما احتج به المشركون الأولون ويقولون لو شاء الله أن نصلي لصلينا ولو شاء الله أن نترك المحرم لتركناه وهو احتجاج باطل لا وزن له.
2 أي من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
3 قولهم هذا دال على جهل مركب منهم بالله تعالى وحكمته وتدبيره وهذا ناتج عن كفرهم وعدم إيمانهم بالله وكتابه ورسوله، فالله أوجد العبادة في هذه الحياة ليبتليهم يجزيهم لا أن يجبرهم على ما يحب نهم.
4 في قوله كذلك كذب الذين من قبلهم دلالة على أن المشركين لم يريدوا من قولهم لو شاء الله ما أشركنا إلا رد قول الرسول وتكذيبه فيما جاء به ويدعوهم إليه حتى لكأن كلامهم هذا من باب كلمة حق أريد بها باطل.

وقوله تعالى {قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا} يأمر الله تعالى رسوله أن يقول للمذنبين العادلين بربهم {هل عندكم من علم فتخرجوه } أي ليس لديكم علم على ما تدعونه فتخرجوه لنا، {إن تتبعون1 إلا الظن} أي ما تتبعون في دعاويكم الباطلة إلا الظن، {وإن أنتم إلا تخرصون} أي وما أنتم إلا تخرصون أي تقولون بالحزر والخرص فتكذبون، وقوله تعالى {قل فلله2 الحجة البالغة} أي يعلم رسوله أن يقول لهم بعد أن دحض شبهتهم وأبطلها إن لم تكن لكم حجة فلله الحجة البالغة، ومع هذا {فلو شاء} هدايتكم {لهداكم أجمعين} وهو على ذلك قدير، وإنما حكمه في عباده وسنته فيهم أن يكلفهم اختباراً لهم ويوضح الطريق لهم ويقيم الحجة عليهم، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فعليها.
هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية وأما الآية الثالثة (150) وهي قوله تعالى: {قل هلم شهداءكم3 الذين يشهدون أن الله حرم هذا} أي الذين حرمتموه فإنهم لا يستطيعون أن يأتوا بهم "{فإن شهدوا فلا نشهد معهم}" وإن فرضنا أنهم يأتون بشهداء باطل يشهدون4 فلا تقرهم أنت أبها الرسول على باطلهم بل بين لهم بطلان ما ادعوه، فإنهم لا يتبعون في دعاويهم إلا الأهواء، وعليه {لا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا، والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون} ، وقد جمع هؤلاء المشركون كل هذه العظائم من الذنوب التكذيب بآيات الله، وعدم الإيمان بالآخرة، والشرك بربهم فكيف يجوز اتباعهم وهم مجرمون ضالون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بطلان الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي والاستمرار فيها.
2- لا حجة إلا في قام على أساس العلم الصحيح.
3- الحكمة في عدم هداية الخلق كلهم مع قدرة الله تعالى على ذلك هو التكليف
__________
1 إن في الموضعين نافيه بمعنى (ما) كما هي في التفسير.
2 فالله الفاء هنا هي الفاء الفصيحة إذ هي مفصحة عن كلام سابق ترتب عليه ما بعدها ترتب الجزاء على الشرط تقديره هنا فإن كان قولكم لمجرد إتباع الظن والخرص والحزر ولا علم لكم فلله تعالى الحجة البالغة التي تصل إلى الحقيقة وتؤكدها وتبطل ما عداها.
3 الأمر هنا للتعجيز والشهداء جمع شهيد بمعنى شاهد.
4 أي كذبهم واعلم بأنهم شهداء زور فقوله تعالى فلا تشهد معهم معناه كذبهم ولا تقرهم فإنهم شهداء زور لا غير.

والابتلاء .
4 – مشروعية الشهادة وحضور الشهود.
5- عدم إقرار شهادة الباطل وحرمة السكوت عنها.
6 – حرمة اتباع أصحاب الأهواء الذين كذبوا بآيات الله.
قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(151) وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(153)
شرح الكلمات :
اتل : اقرأ.

من إملاق : من فقر.
الفواحش: جمع فاحشة كل ما قبح واشتد قبحه كالزنى والبخل.
حرم الله : أي حرم قتلها وهي كل نفس إلا نفس الكافر المحارب.
إلا بالحق : وهو النفس بالنفس وزنى المحصن، والردة.
بالتي هي أحسن: أي بالخصلة التي هي أحسن.
أشده: الاحتلام مع سلامة العقل.
بالقسط: أي بالعدل.
إلا وسعها: طاقتها وما تتسع له.
تذكرون: تذكرون فتتعظون.
السبل: جمع سبيل وهي الطريق.
معنى الآيات:
ما زال السياق في إبطال باطل العادلين بربهم المتخذين له شركاء الذين يحرمون بأهوائهم ما لم يحرمه الله تعالى عليهم فقد أمر تعالى رسوله في هذه الآيات الثلاث أن يقول لهم: {1تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} لا ما حرمتموه أنتم بأهوائكم وزينه لكم شركاؤكم. ففي الآية الأولى جاء تحريم خمسة أمور وهي: الشرك، وعقوق الوالدين، وقتل الأولاد، وارتكاب الفواحش، وقتل النفس فقال تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم2 ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئاً} فأن تفسيرية3، ولا ناهية وهذا أول محرم وهو الشرك بالله تعالى، {وبالوالدين إحسانا}، وهذا أمر إذ التقدير وأحسنوا بالوالدين إحساناً، والأمر بالشيء نهي عن ضده فالأمر بالإحسان يقتضي تحريم الإساءة والإساءة إلى الوالدين هي عقوقهما، فكان عقوق الوالدين محرماً داخلاً ضمن المحرمات المذكورة في هذه الآيات الثلاث. {ولا تقتلوا
__________
1 أي أقبلوا وتقدموا وما موصولة بمعنى الذي حرم ربكم عليكم وفي الآية دليل على وجوب بيان المحرمات للأمة حتى تتجنبها، والعلماء منوط بهم ذلك.
2 هذه الآيات الثلاثة: قل تعالوا أتل إلى قوله تتقون تضمنت عشراً من الوصايا قال ابن عباس هي محكمات وأجمعت الشرائع الإلهية على تقريرها والعمل بها.
3 أي فسرت المحرم وهو الشرك بالله تعالى، وهو أول المحرمات وقدم لأنه أخطرها وأضرها بالإنسان.

أولادكم1 من إملاق نحن نرزقكم وإياهم} فهذا المحرم الثالث وهو قتل الأولاد من الإملاق الذي هو الفقر وهذا السبب غير معتبر إذ لا يجوز قتل الأولاد بحال من الأحوال وإنما ذكر لأن المشركين كانوا يقتلون أطفالهم لأجله وقوله تعالى {نحن نرزقكم وإياهم} تعليل للنهي عن قتل الأولاد من الفقر إذ مادام الله تعالى يرزقكم أنتم أيها الآباء ويرزق ابناءكم فلم تقتلونهم؟ وفي الجملة بشارة للأب الفقر بأن الله تعالى سيرزقه هو وأطفاله فليصبر وليرج، ولا يقتل أطفاله. وقوله تعالى: {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن }. هذا الأمر الرابع مما حرم الله تعالى، وهو فعل الفاحشة التي هي الزنى وسواء ما كان منه ظاهراً أو باطناً والتحريم شامل لكل خصلة قبيحة قد اشتد قبحها وفحش فأصبح فاحشة قولاً كانت أو فعلاً أو اعتقاداً، وقوله: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق2} هذا هو المحرم الخامس وهو قتل النفس التي حرم الله قتلها وهي كل نفس ما عدا نفس المحارب فإنها مباحة للقتل، والحق الذي تقتل به النفس المحرمة واحد من ثلاثة وهي القود والقصاص فمن قتل نفساً متعمداً جاز قتله بها قصاصاً. والزنى بعد الإحصان فمن زنى وهو محصن وجب قتله رجماً بالحجارة كفارة له، والردة عن الإسلام، وقد بينت هذه الحقوق السنة فقد قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: "لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة" وقوله تعالى في ختام الآية {لعلكم تعقلون} أي ليعدكم بترك هذه المحرمات الخمس لأن تكونوا في عداد العقلاء، لأن من يشرك بربه صنماً أو يسيء إلى أبويه أو يقتل أولاده أو يفجر بنساء الناس أو يقتلهم، لا يعتبر عاقلاً أبداً إذ لو كان له عقل ما أقدم على هذه العظائم من الذنوب والآثام.
وفي الآية الثانية وهي قوله تعالى {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده3، وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها، وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان
__________
1 استدل بهذه الآية من قال بتحريم العزل ومثله اليوم استعمال الحبوب لمنع الحمل والجمهور على الجواز للضرورة فقط لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في العزل: "ذلك الوأد الخفي" فإنه ان لم يدل على التحريم دل على الكراهية.
2 قوله تعالى إلا بالحق يخرج به نفس الكافر المحارب فقط فهي التي تقتل بحق الحرب والكفر، وما عداها فكل نفس محرمة القتل ولذا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم نفس الكافر المعاهد والذمّي بقول من قتل معاهداً في غير كنهه أي في غير الحقيقة التي توجب قتله كنقضه المعاهدة مثلاً. حرم الله عليه الجنة، والحق الذي تقتل به النفس المحرمة القتل هو قتل النفس. وزنى المحصن والردة والخروج عن إمام المسلمين والمفارقة للجماعة.
3 قيل الأشد مفرد لا جمع له بمنزلة الآنك أي الرصاص. وقيل واحده شدّ نحو فلس وافلس، وهو مأخوذ من شد النهار إذا ارتفع.

ذا قربى، وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} ففي هذه الآية جاء تحريم أربعة أمور هي: كل مال اليتيم، والتطفيف في الوزن، والجور في الأقوال والأحكام، ونكث العهد. فقوله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم} أي بما ينقصه أو يفسده إلا بالحالة التي هي أحسن له نماءً وحفظاً وقوله {حتى يبلغ أشده} بيان لزمن اليتم وهو من ولادته وفوت والده إلى أن يبلغ زمن الأشد وهو البلوغ، والبلوغ يعرف بالاحتلام أو نبات شعر العانة، وفي الجارية بالحيض أو الحمل، وببلوغ الثامنة عشرة من العمر وعلى شرط أن يبلغ اليتيم1 عاقلاً فإن كان غير عاقل يبقى في كفالة كافله، وقوله تعالى: {وأوفوا الكيل2 والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها} أمر بتوفية الكيل والوزن، والأمر بالشيء نهي عن ضده، وبذا حرم بخس الكيل والوزن والتطفيف فيهما وقوله {بالقسط} أي بالعدل بحيث لا يزيد ولا ينقص، وقوله {لا نكلف نفساً إلا وسعها} أي طاقتها رفعاً للحرج عن المسلم في الكيل والوزن إذا هو نقص أو زاد بغير عمد ولا تساهل.
وقوله تعالى {وإذا قلتم فاعدلوا3 ولو كان ذا قربى} هذا المحرم الثالث وهو قول الزور وشهادة الزور، إذ الأمر بالعدل في القول ولو كان المقول له أو فيه قريباً نهى عن ضده وهو الجور في القول.
وقوله تعالى {وبعهد4 الله أوفوا} متضمن للمحرم الرابع وهو نكث العهد وخلف الوعد، إذ الأمر بالوفاء بالعهود نهي عن نكثها وعدم الوفاء بها، وقوله تعالى {ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} إشارة إلى ما تضمنته هذه الآية الثانية مما حرم تعالى على عباده، وقوله {لعلكم تذكرون} أي ليعدكم بذلك لأن تذكروا فتتعظوا فتجتنبوا ما حرم عليكم. وقوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} هذه هي الآية الثالثة من آيات الوصايا العشر5 وقد تضمنت
__________
1 لأن الرشد لا يكون إلا مع العقل والله يقول فإن آنستم منهم رشداً والرشد مقابل السفه وهو إساءة التصرف فيما اسند إليه من مال وغيره.
2 رد في التطفيف وعيد شديد قال تعالى ويل للمطففين، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم "ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق.
3 الأمر بالعدل في القول يتناول الأحكام والشهادات.
4 هذا الوفاء عام في كل ما عهد الله تعالى به إلى عباده من سائر الفرائض والواجبات وسائر التكاليف كما يتضمن العهود التي تكون بين الإنسان وأخيه الإنسان.
5 هذه الوصايا العشر موجودة في أول التوراة ومع الأسف أضاعها اليهود لشقائهم.

الأمر بالتزام الإسلام عقائداً وعبادات وأحكاماً وأخلاقاً وآداباً، كما تضمنت النهي عن إتباع غيره من سائر الملل والنحل المعبر عنها بالسبل، ومادام الأمر بالتزام الإسلام يتضمن النهي عن ترك الإسلام فقد تضمنت الآية تحريماً ألا وهو ترك الإسلام وإتباع غيره هذا الذي حرم الله تعالى على عباده لا ما حرمه المشركون بأهوائهم وتزيين شركائهم وقوله تعالى : {ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} إشارة إلى التزام الإسلام وترك ما عداه ليعدكم بذلك للتقوى وهي اتقاء غضب الرب تعالى وعذابه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- هذه الوصايا العشر عليها مدار الإسلام وسعادة الإنسان في الدارين كان عبدالله بن مسعود يقول فيها "من سره أن ينظر إلى وصية رسول الله التي عليها خاتمه فليقرأ الآيات الثلاث من آخر سورة الأنعام: {قل تعالوا.... تتقون}.
2- حرمة الشرك وحقوق الوالدين وقتل الأولاد والزنى واللواط وكل قبيح من قول أو عمل أو اعتقاد وقتل النفس إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وبخس الكيل والوزن، وقول الزور وشهادة الزور، ونكث العهد وخلف الوعد. والردة عن الإسلام، وإتباع المذاهب الباطلة والطرق الضالة.
3- كمال المعقل باجتناب المحرمات الخمس الأولى.
4- الحصول على ملكة المراقبة باجتناب المحرمات الأربع الثانية.
5- النجاة من النار والخزي والعار في الدارين بالتزام الإسلام حتى الموت والبراءة من غيره من سائر المذاهب1 والملل والطرق.
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء
__________
1 روى الدارمي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطاً ثم قال هذا سبيل الله ثم خط خطوطاً عن يمينه وخطوطا عن يساره ثم قال هذه سبلٌ على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها. ثم قرأ هذه الآية قل هذه سبيلي. وهذه صورة تقريبية.

رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ(154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(155) أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ(156) أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ(157)
شرح الكلمات:
الكتاب : التوراة.
وتفصيلاً لكل شيء : تحتاج إليه أمة بني إسرائيل في عقائدها وعباداتها وفضائلها وأحكامها.
وهذا كتاب أنزلناه: القرآن الكريم.
مبارك: خيريته ونفعه وبركته دائمة.
على طائفتين من قبلنا: اليهود والنصارى.
عن دراستهم : أي قراءتهم لكتبهم لأنها بلسانهم ونحن لا نفهم ذلك.
وصدف عنها : أعرض عنها ولم يلتفت إليها.
سوء العذاب: أي سيء العذاب وهو أشده.
معنى الآيات:
هذا الكلام متصل بما قبله، فثم1 حرف عطف والمعطوف عليه هو قل تعالوا أتل الآيات أي ثم قل يا رسولنا آتى ربي موسي الكتاب تماماً لنعمه {على الذي أحسن} طاعة ربه وهو
__________
1 قال الزجاج: ثم ها هنا للعطف على معنى التلاوة، فالمعنى اتل ما حرم ربكم عليكم. ثم أتل عليكم ما آتى الله موسى الخ. فهي إذاً لعطف الجُمل وما كان لعطف الجمل فلا يراعى فيه تراخي الزمان.

موسى عليه السلام، {وتفصيلاً لكل شيء} مما تحتاج إليه أمة بني إسرائيل في عقائدها، وعباداتها وأحكامها العامة والخاصة {وهدي} يتبينون به الحق والصواب، {ورحمة} لهم في دنياهم لما يحمله من الدعوة إلى العدل والخير رجاء أن يوقنوا بلقاء ربهم.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى وهي قوله تعالى: {ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن وتفصيلاً لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم1} أي بني إسرائيل {يؤمنون} فيعملون الصالحات ويتخلون عن المفاسد والشرور لما تجلبه لهم من غضب الله تعالى وعذابه.
أما الآية الثانية (155) فقد أشاد الله تعالى بالقرآن الكريم ممتناً بإنزاله وما أودع فيه من البركة التي ينالها كل من يؤمن به ويعمل به ويتلوه تعبداً وتقرباً وتعلماً.
هذا معنى قوله تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك} وقوله {فاتبعوه2....} أمر للعباد بإتباع ما جاء في القرآن الكريم من عقائد وعبادات وشرائع وأحكام فإن من اتبعه قاده إلى السعادة والكمال في الحياتين، وقوله {واتقوا3 لعلكم ترحمون} أي اتقوا ترك العمل به ليعدكم ذلك الذي هو متابعة القرآن والتقوى للرحمة فترحمون في الدنيا والآخرة.
وأما الآية الثالثة وهي قوله تعالى: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين} فمعناها: إن الله تعالى أنزل الكتاب على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأمره بتلاوته وإبلاغه الناس لئلا يقول الكافرون من العرب إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا اليهود والنصارى والمراد بالكتاب التوراة والإنجيل، {وإن كنا عن دراستهم لغافلين} إذ لم نعرف لغتهم، ولم نعرف ما يقرأونه في كتابهم، فتقوم الحجة لكم علينا فقطعاً لهذه الحجة أنزلنا الكتاب.
وقوله تعالى في الآية الرابعة: {أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة} كما قطع تعالى عذرهم بإنزال كتابه الكريم لو قالوا يوم القيامة إنما أنزل الكتاب على اليهود والنصارى ونحن لم ينزل إلينا شيء فلذا ما عرفنا ربنا ولا عرفنا محابه ومكارهه فنطيعه بفعل محابه وترك مكارهه، قطع كذلك عذرهم لو قالوا
__________
1 أي رجاء أن يؤمنوا بلقاء ربهم.
2 أي اعملوا بما فيه متتبعين ما فيه من أوامر ونوه تفعلون الأمر وتتركون النهي.
3 أي اتقوا تحريفه وتبديله كما فعلت اليهود.

لو أنا أنزل علينا الكتاب الهادي إلى الحق المعرف بالهدى لكنا أهدى من اليهود والنصارى الذين أوتوا الكتاب قبلنا، فقال تعالى {فقد جاءكم بينة من ربكم} وهو القرآن الكريم ورسوله المبلغ له {وهدى ورحمة} أي وجاءكم الهدى والرحمة يحملهما القرآن الكريم، فأي حجة بقيت لكم تحتجون بها عند الله يوم القيامة إنكم إن لم تقبلوا هذه البينة وما تحمله من هدى ورحمة فقد كذبتم بآيات الله وصدفتم عنها ولا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها، وسيجزيكم بما يجزي به المكذبين بآيات الله الصادفين عنها.
هذا ما دلت عليه الآية الرابعة (157) {أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم} أي كراهية أن تقولوا. (فقد جاءكم1 بينة من ربكم وهدى2 ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون}.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان منة الله تعالى على موسى عليه السلام والثناء عليه لإحسانه.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء يوم القيامة.
- الإشادة بالقرآن الكريم، وما أودع الله فيه من البركة والهدى والرحمة والخير.
4- قطع حجة المشركين بإنزال الله تعالى كتابه وإرسال رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
5- التنديد3 بالظلم، وبيان جزاء الظالمين المكذبين بآيات الله المعرضين عنها.
هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ
__________
1 أي بطل عذركم بمجيء النبي الأمي صلى الله عليه وسلم لكم وهو البيّنة وسمي بينة لكماله الخلقي والخلقي ولما معه من العلوم والمعارف الإلهية وهو أميّ لا يقرأ ولا يكتب.
2 الهدى والرحمة المراد بهما ما في القرآن الكريم من هدى ورحمة للمؤمنين بقرينة. فمن أظلم ممن كذب بآيات الله.
3 وفي الحديث الصحيح: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة". وفي آخر الظلم يذر الديار بلا قع أي فقراً خالية.

إِنَّا مُنتَظِرُونَ(158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ(159)مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(160)
شرح الكلمات:
بعض آيات ربك : أي علامات الساعة منها طلوع الشمس من مغربها.
كسبت في إيمانها خيراً: من الطاعات والقربات.
فرقوا دينهم .: جعلوه طرائق ومذاهب تتعادى.
وكانوا شيعاً : طوائف وأحزاباً.
من جاء بالحسنة : أي أتى يوم القيامة بالحسنة التي هي الإيمان بالله والإقرار بوحدانيته والعمل بطاعته وطاعة رسوله.
ومن جاء بالسيئة: أي بالشرك بالله ومعاصيه.
معنى الآيات:
بعد ذكر الحجج وإنزال الآيات التي هي أكبر بينة على صحة التوحيد وبطلان الشرك، والعادلون بربهم الأصنام مازالوا في موقفهم المعادي للحق ودعوته ورسوله فأنزل الله تعالى قوله: {هل ينظرون.... } أ ي ما ينتظرون {إلا أن تأتيهم الملائكة} لقبض أرواحهم، {أو يأتي ربك} يوم القيامة لفضل القضاء، {أو يأتي بعض آيات ربك} الدالة على قرب الساعة كطلوع الشمس من مغربها، إن موقف الإصرار على التكذيب هو موقف المنتظر لما ذكر تعالى من الملائكة ومجيء الرب تعالى أو مجيء علامات الساعة للفناء. وقوله تعالى {يوم يأتي بعض آيات1 ربك} الدالة على قرب الساعة وهي طلوع الشمس من
__________
1 الآيات بمعنى العلامات الدالة على قرب الساعة الكبرى منها عشر جاءت في حديث مسلم إذ روى عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة فقال صلى الله عليه وسلم : لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات. طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج وخروج عيسى بن مريم، وخروج الدجال وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب. وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق أو تحشر الناس تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا.

مغربها إيذاناً بقرب ساعة الفناء في هذه الحال يخبر تعالى أن نفساً لم تكن آمنت قبل ظهوره هذه الآية لو آمنت بعد ظهورها لا يقبل منها إيمانها ولا تنتفع به لأنه أصبح إيماناً اضطرارياً لا اختيارياً، كما أن نفساً آمنت به قبل الآية، ولكن لم نكسب في إيمانها خيراً وأرادت أن تكسب الخير فإن ذلك لا ينفعها فلا تثاب عليه، لأن باب التوبة مفتوح إلى هذا اليوم وهو يوم1 طلوع الشمس من مغربها فإنه يغلق.
وقوله تعالى {قل انتظروا إنا منتظرون} يأمر الله رسوله أن يقول لأولئك العادلين بربهم المصرين على الشرك والتكذيب: مادمتم منتظرين انتظروا إنا منتظرون ساعة هلاككم فإنها آتية لا محالة.
هذا ما تضمنته الآية الأولى (158) أما الآيتان بعدها فإن الله تعالى أخبر رسوله بأن الذين فرقوا دينهم2 وكانوا شيعاً أي طوائف وأحزاباً وفرقاً مختلفة كاليهود والنصارى، ومن يبتدع من هذه الأمة بدعاً فيتابع عليها فيصبحون فرقاً وجماعات ومذاهب مختلفة متطاحنة متحاربة هؤلاء {لست منهم في شيء} أي أنت بريء منهم، وهم منك بريئون، وإنما أمرهم إلى الله تعالى هو الذي يتولى جزاءهم فإنه سيجمعهم يوم القيامة ثم ينبنهم بما كانوا يعملون من الشر والخير {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها، وهم لا يظلمون} من قبلنا فلا ننقص المحسن منهم حسنة من حسناته، ولا نضيف إلى سيئآته سيئة ما عملها، هذا حكم الله فيهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- إثبات صفة الإتيان في عرصات القيامة للرب تبارك وتعالى لفصل القضاء.
2- تقرير أشراط الساعة وإن طلوع الشمس منها وأنها متى ظهرت أغلق باب التوبة.
3- حرمة الفرقة في الدين وأن اليهود والنصارى فرقوا دينهم وأن أمة الإسلام أصابتها الفرقة كذلك بل وهي أكثر لحديث وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة.
__________
1 روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا رآها الناس آمن من عليها فذلك {حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل}.
2 قرىء فارقوا دينهم أي تركوه وتخلوا عنه وقراءة الجمهور فرقوا بالتضعيف حيث أصبح لكل فرقة اعتقاد وعمل خاص لها ومن فرَّق فقد فارق أحب أم كره.

4- براءة الرسول صلى الله عليه وسلم ممن فرقوا دينهم وترك الأمر لله يحكم بينهم بحكمه العادل.
5- مضاعفة الحسنات ، وعدم مضاعفة السيئات عدل من الله ورحمة.
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(161) قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ(163) قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (165)
شرح الكلمات:
قيماً1: أي مستقيماً.
ملة إبراهيم : أي دين إبراهيم وهو الإسلام.
حنيفاً: مائلاً عن الضلالة إلى الهدى.
ونسكي : ذبحي تقرباً إلى الله تعالى.
ومحياي : حياتي.
أبغي رباً: أطلب رباً إلهاً معبوداً أعبده.
ولا تزر وازرة : أي لا تحمل نفس وازرة أي آثمة.
وزر أخرى: أي إثم نفس أخرى.
__________
1 قيماً مصدر على وزن شِبَع وصف به المنصوب وهو ديناً ومعناه مستقيماً لا عوج فيه وهو الإسلام.

خلائف الأرض: أي يخلف بعضكم بعضاً جيل يموت وآخر يحيا إلى نهاية الحياة.
ليبلوكم فيما آتاكم: أي ليختبركم فيما أعطاكم من الصحة والمرض والمال والفقر والعلم والجهل.
معنى الآيات:
في هذه الآيات وهي خاتمة هذه السورة التي بلغت آياتها بضعاً وستين ومائة آية وكانت كلها في الحجاج مع العادلين بربهم وبيان طريق الهدى لهم لعلهم يؤمنون فيوحدون ويسلمون. في هذه الآيات أمر الله رسوله أن يعلن عن مفاصلته لأولئك المشركين فقال له {قل إن صلاتي ونسكي1} أي ما أذبحه تقرباً إلى ربي، {ومحياي} أي ما آتيه في حياتي {ومماتي} أي ما أموت عليه من2 الطاعات والصالحات {لله رب العالمين} وحده {لا شريك له وبذلك أمرت} أي أمرني ربي سبحانه وتعالى، {وأنا أول المسلمين} لا يسبقني أحد أبداً. كما أمره أن ينكر على المشركين دعوتهم إليه صلى الله عليه وسلم لأن يعبد معهم آلهتهم، ليعبدوا معه إلهه وقال : {قل أغير الله أبغي رباً} أي أطلب إلهاً، {وهو رب كل شيء} أي ما من كائن في هذه الحياة إلا والله ربه أي خالقه ورازقه، وحافظه، وأعلمه أنه لا تكسب نفس
من خير إلا وهو لها، ولا تكسب من شر إلا عليها، وأنه {ولا تزر وازرة وزر أخرى} أي لا تحمل نفس مذنبة ذنب نفس مذنبة أخرى، وأن مرد الجميع إلى الله تعالى {ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} أي ويقضي بينكم فينجو من ينجو ويهلك من يهلك، كما أخبره أن يقول: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} أي يخلف بعضكم بعضاً هذا يموت فيورث، وهذا الوارث يموت فيورث، وقوله {ورفع بعضكم فوق بعض درجات} أي هذا غني وهذا فقير، هذا صحيح وهذا ضرير هذا عالم وذاك جاهل، ثم علل تعالى لتدبيره فينا بقوله {ليبلوكم} أي يختبركم فيما آتاكم ليرى الشاكر ويرى الكافر ولازم الابتلاء النجاح أو الخيبة فلذا قال {إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} فيعذب الكافر ويغفر ويرحم الشاكر.
هداية الآيات:
__________
1 قيل المراد من الصلاة هنا صلاة العيد لمناسبة النسك وهو الذبح تقرباً وقيل صلاة نافلة والعموم أولى. وكذا النسك يطلق على الذبح تقرباً وهو مراد ها ويطلق على سائر العبادات من الفرائض والنوافل لأن النسك هو التعبد.
2 وقال القرطبي في الآية وما أوصى به بعد وفاتي وهو حسن ويشهد له قوله تعالى ونكتب ما قدموا وآثارهم.

من هداية الآيات.
1- ملة إبراهيم عليه السلام هي الإسلام.
2- مشروعية قول {إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} في القيام للصلاة1.
3- لا يصح طلب رب غير الله تعالى لأنه رب كل شيء.
4- عدالة الله تعالى تتجلى يوم القيامة.
5- عدالة الجزاء يوم القيامة.
6- تفاوت الناس في الغنى والفقر والصحة والمرض، والبر والفجور وفي كل شيء مظهر من مظاهر تدبير الله تعالى في خلقه. ينتفع به الذاكرون من غير أصحاب الغفلة والنسيان.
__________
1 لحديث مسلم عن عليّ بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أقام الصلاة قال وجهت وجهي لله فاطر السموات ... الخ الآية وفيه دعاء ذكره القرطبي عند تفسير هذه الآية.

سورة الأعراف
...
سورة الأعراف
مكية1
وآياتها خمس ومائتا آية
بسم الله الرحمن الرحيم
المص(1) كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ(2) اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ(3) وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ(4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(5)
__________
1 إلاّ قوله تعالى: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر} إلى قوله {وإذ نتقنا الجبل فوقهم .}. فإنها مدنيات.

شرح الكلمات:
المص: هذه أحد الحروف المقطعة ويقرأ هكذا: ألف لآم ميم صَادْ. والله أعلم بمراده بها.
كتاب : أي هذا كتاب.
حرج: ضيق.
وذكرى : تذكرة بها يذكرون الله وما عنده وما لديه فيقبلون على طاعته.
أولياء: رؤساؤهم في الشرك.
ما تذكرون : أي تتعظون فترجعون إلى الحق.
وكم من قرية : أي كثيراً من القرى.
بأسنا بياتا: عذابنا ليلاً وهم نائمون.
أو هم قائلون : أي نائمون بالقيلولة وهم مستريحون.
فما كان دعواهم : أي دعاؤهم إلا قولهم إنا كنا ظالمين.
معنى الآيات:
{المص} في هذه الحروف إشارة إلى أن هذا القرآن تألف من مثل هذه الحروف المقطعة وقد عجزتم عن تأليف مثله فظهر بذلك أنه كلام الله ووحيه إلى رسوله فآمنوا به وقوله {كتاب} أي هذا كتاب {أنزل إليك}1 يا رسولنا {فلا يكن في صدرك حرج منه} أي ضيق منه {لتنذر به } قومك عواقب شركهم وضلالهم، وتذكر به المؤمنين منهم ذكرى وقل لهم {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم} من الهدى والنور، {ولا تتبعوا من دونه} أي من غيره {أولياء}2 لا يأمرونهم إلا بالشرك والشر والفساد، وهم رؤساء الضلال في قريش {قليلاً ما يذكرون} أي تتعظون فترجعون إلى الحق الذي جانبتموه {وكم3 من قرية} أي وكثيرا من القرى أهلكنا أهلها لما جانبوا الحق ولازموا الباطل {فجاءها4 بأسنا5} أي عذابنا الشديد
__________
1 جملة: {أنزل إليك} يصح إعرابها في محل نعت لكتاب ويصح إعرابها في محل نصب حالاً من هذا كتاب نحو :(هذا بعلي شيخا) وإن لم يقدر لفظ هذا تعرب جملة حينئذٍ في محل رفع خبر كتاب، ويكون التنكير في كتاب للتعظيم وهو كالوصف فيسوغ الابتداء به وان كان نكرة نحو قولهم: شرٌ أهو ذا ناب.
2 قالت العلماء: كل من رضي مذهبا فأهل ذلك المذهب أولياؤه، ومنع أولياء من الصرف لأنّ فيه ألف التأنيث.
3 كم: للتكثير كما أنّ ذلك للتقليل وهي في موضع رفع على الابتداء، والخبر جملة أهلكناها، والتقدير: وكثير من القرى أهلكناها.
4 {فجاءها} في حرف الفاء هنا إشكال لأنّ الإهلاك قد تمّ فما معنى مجيء البأس حينئذ؟ وعليه فليكن تقدير الكلام: وكم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا.
5 البأس: العذاب الآتي على النفس.

{بياتاً أو هم قائلون} أي ليلاً أو نهاراً، فما كان دعاءهم1 يومئذ إلا قولهم: يا ويلنا إنا كنا ظالمين فاعترفوا بذنبهم، ولكن هيهات إن ينفعهم الاعتراف بعد معاينة العذاب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- القرآن الكريم هو مصدر نذارة الرسول صلى الله عليه وسلم وبشارته بما حواه من الوعد والوعيد، والذكرى والبشرى.
2- وجوب إتباع الوحي، وحرمة إتباع ما يدعو إليه أصحاب الأهواء والمبتدعة.
3- الاعتبار بما حل بالأمم الظالمة من خراب ودمار.
4- لا تنفع التوبة عند معاينة الموت أو العذاب.
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ(6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ(7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ(9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ(10)
شرح الكلمات:
أرسل إليهم : هم الأمم والأقوام.
فلنقصن عليهم بعلم : فلنخبرنهم بأعمالهم متتبعين لها فلا نترك منها شيئاً.
وما كنا غائبين: أي عنهم أيام كانوا يعملون.
الوزن يومئذ الحق: أي العدل.
فمن ثقلت موازينه: أي بالحسنات فأولئك هم المفلحون بدخول الجنة.
خسروا أنفسهم : بدخولهم النار والاصطلاء بها أبداً.
معايش: جمع معيشة بمعنى العيش الذي يعيشه الإنسان.
__________
1 الدعاء والدعوى بمعنى واحد ومنه: وآخر دعواهم أي: دعائهم.

قليلاً ما تشكرون : أي شكراً قليلاً والشكر ذكر النعمة للمنعم1 وطاعته بفعل محابه وترك مكارهه.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {فلنسألن الذين أرسل2 إليهم ولنسألن المرسلين3 فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين} يخبر تعالى أنه إذا جمع الخلائق لفصل القضاء مؤكداً الخبر بالقسم أنه يسأل كل أمة أو جماعة أو فرد أرسل إليهم رسله يسألهم عن مدى إجابتهم دعوة رسله إليهم، فهل آمنوا بما جاءتهم به الرسل، وأطاعوهم فيما بلغوهم من التوحيد والعبادة والطاعة والانقياد، كما يسأل الرسل أيضاً هل بلغوا ما ائتمنهم عليه من رسالته المتضمنة أمر عباده بالإيمان به وتوحيده وطاعته في أمره ونهيه، ثم يقصُّ تعالى على الجميع بعلمه كل ما كان منهم من ظاهر الأعمال وباطنها، ولا يستطيعون إخفاء شيء أبداً، ولم يكن سؤاله لهم أولاً، إلا من باب إقامة الحجة وإظهار عدالته سبحانه وتعالى فيهم، ولتوبيخ من يستحق التوبيخ منهم، وهذا معنى قوله تعالى: {فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين} عنهم حينما كانوا في الدنيا يعملون فكل أعمالهم كانت مكشوفة ظاهرة له تعالى ولا يخفي عليه منها شيء وهو السميع البصير.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (6) والثانية (7) أما الآيتان الثالثة والرابعة فقد أخبر تعالى أنه بعد سؤالهم وتعريفهم بأعمالهم ينصب الميزان وتوزن4 لهم أعمالهم فمن ثقلت موازين حسناته أفلح بالنجاة من النار ودخول الجنة دار السلام ومن خفَّت لقلة حسناته وكثرة سيئاته5 خسر نفسه بإلقائه في جهنم ليخلد في عذاب أبدي، وعلل تعالى لهذا الخسران في جهنم
__________
1 وحده والثناء بها عليه.
2 في الآية دليل على أن الكفار يحاسبون وإن لم توزن أعمالهم لقوله تعالى {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} فمحاسبتهم لإظهار العدالة الإلهية لا لأن لهم أعمالاً صالحة يجزون بها والله أعلم.
3 ويشهد لهذه المساءلة قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام يسأل عن رعيته، والرجل يسأل عن أهله، والمرأة تسأل عن بيت زوجها، والعبد يسأل عن مال سيده".
4 هنا زلت أقدام المعتزلة فأوّلوا الوزن للأعمال والميزان وقالوا: الأعراض لا توزن ولو اتبعوا لأوّلوا الميزان بالصراط والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد، والشياطين والجنّ على الأخلاق المذمومة، والملائكة على القوى المحمودة وهكذا حتى لا يبقى للدين حقيقة والعياذ بالله من فساد القلوب والعقول ومن الجري وراء فلسفة الإغريق واليونان.
5 ورد في السنة الصحيحة إن الأعراض تحوّل إلى أجسام وتوزن كما في حديث: أنّ البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة وكأنهما غمامتان. الحديث، كما توزن صحائف الأعمال لحديث: "فطاشت السجلات وثقلت البطاقة" وحديث: "يؤتى بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة" وبهذا تقرر أن الأعمال توزن وتوزن محالها وفاعلوها والله على ذلك قدير.

بقوله {بما كانوا بآياتنا يظلمون} : أي يكذبون ويجحدون، وأطلق الظلم وأريد به التكذيب والجحود لأمرين هما:
أولاً: اكتفاء بحرف الجر الباء إذ لا تدخل على ظلم ولكن على كذب أو جحد يقال كذب به وجحد به ولا يقال ظلم به ولكن ظلمه وهذا من باب التضمين وهو سائغ في لغة العرب التي نزل بها القرآن.
وثانياً : أنهم بدل أن يؤمنوا بالآيات وهي واضحات كذبوا بها فكانوا كأنهم ظلموا الآيات ظلماً حيث لم يؤمنوا بها وهي بينات.
هذا ما دلت عليه الآيتان أما الآية الخامسة (10) فقد تضمنت امتنان الله تعالى على عباده، وكان المفروض أن يشكروا نعمه عليهم بالإيمان به وتوحيده وطاعته، ولكن الذي حصل هو عدم الشكر من أكثرهم قال تعالى {ولقد مكناكم في الأرض} حيث جعلهم متمكنين في الحياة عليها يتصرفون فيها ويمشون في مناكبها، وقوله {وجعلنا لكم فيها معايش} 1 هذه نعمة أخرى وهي أن جعل لهم فيها معايش وأرزاقاً يطلبونها فيها ويحصلون عليها وعليها قامت حياتهم، وقوله {قليلاً ما تشكرون} أي لا تشكرون إلا شكراً يسيراً لا يكاد يذكر.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والسؤال والحساب ووزن الأعمال يوم القيامة.
2- صعوبة الموقف حيث تسأل الأمم والرسل عليهم السلام كذلك.
3- الفلاح والخسران مبنيان على الكسب في الدنيا فمن كسب خيراً نجا، ومن كسب شراً هلك.
4- وجوب شكر النعم بالإيمان والطاعة لله ورسوله.
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ
__________
1 المعايش: جمع معيشة، والمعيشة: ما يتوصل به إلى العيش الذي هو الحياة من المطاعم والمشارب. والتمكين في الأرض: معناه جعلها قارة ممهدة لا تضطرب ولا تتحرك فيفسد ما عليها.

لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ(11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ(12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ(13) قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ(16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ(18)
شرح الكلمات:
خلقناكم ثم صورناكم : أي خلقنا أباكم آدم أي قدرناه من الطين ثم صورناه على الصورة البشرية الكريمة التي ورثها بنوه من بعده إلى نهاية الوجود الإنساني.
فسجدوا : أي سجود تحية لآدم عليه السلام.
إبليس: أبو الشياطين من الجن وكنيته أبو مرة، وهو الشيطان الرجيم.
فاهبط منها : أي من الجنة.
من الصاغرين : جمع صاغر الذليل المهان.
فبما أغويتني: أي فبسبب إضلالك لي.
مذموماً مدحوراً : ممقوتاً مذموماً مطروداً.
معنى الآيات:
مازال السياق في تعداد أنعم الله تعالى على عباده تلك النعم الموجبة لشكره تعالى بالإيمان

به وطاعته فقال تعالى {ولقد خلقناكم ثم صورناكم1} أي خلقنا أباكم آدم من طين ثم صورناه بالصورة البشرية التي ورثها بنوه عنه، {ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} وفي هذا إنعام آخر وهو تكريم أبيكم آدم بأمر الملائكة بالسجود له تحية له وتعظيما {فسجدوا إلا إبليس2 لم يكن من الساجدين} أي أبى وامتنع أن يسجد، فسأله ربه تعالى قائلاً : {ما منعك ألا تسجد3 إذ أمرتك} أي: أي شيء جعلك لا تسجد فأجاب إبليس قائلاً: {أنا خير منه خلقتني من نار، وخلقته من طين } فأنا أشرف منه فكيف أسجد له، ولم لكن إبليس مصيباً في هذه القياس4 الفاسد أولاً: ليست النار أشرف من الطين بل الطين أكثر نفعاً وأقل ضرراً، والنار كلها ضرر، وما فيها من نفع ليس بشيء إلى جانب الضرر وثانياً: إن الذي أمره بالسجود هو الرب الذي تجب طاعته سواء كان المسجود له فاضلاً أو مفضولاً، وهنا أمره الرب تعالى أن يهبط من الجنة فقال {اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين} أي الذليلين الحقيرين، ولما وقع إبليس في ورطته، وعرف سبب هلكته وهو عدم سجوده لآدم قال للرب تبارك وتعالى {انظرني} أي أمهلني لا تمتني {إلى يوم يبعثون} فأجابه الرب بقوله {إلى يوم الوقت المعلوم} وهو فناء هذه الدنيا فقط وذلك قبل البعث، جاء هذا الجواب في سورة الحجر وهنا قال {إنك من المنظرين} ومراد إبليس في الإمهال التمكن من إفساد أكبر عدد من بني آدم انتقاماً منهم إذ كان آدم هو السبب في طرده من الرحمة، ولما أجابه الرب إلى طلبه قال: {فبما أغويتني} أي أضللتني {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} يريد آدم وذريته، والمراد من الصراط الإسلام إذ هو الطريق المستقيم والموصل بالسالك له إلى رضوان الله تعالى {ثم لآتينهم من بين أيديهم5 ومن خلفهم وعن
__________
1 ويصح أن يقال: خلقناكم نطفاً ثم صورناكم، وما في التفسير أولى بالآية وأصح بدليل قوله: {ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم}.
2 استثناء من غير الجنس إذ إبليس من الجنّ ولم يكن من الملائكة.
3 {ما منعك} ما: في موضع رفع بالابتداء فهي اسم استفهام والتقدير أي شيء منعك من السجود، وأن المصدرية مدغمة في لا الزائدة بدليل عدم زيادتها في {ص} إذ قال: {ما منعك أن تسجد} أي: من السجود لآدم.
4 قال ابن عباس والحسن: أوّل من قاس إبليس فأخطأ القياس، فمن قاس الدين برأيه قرنه الله تعالى مع إبليس. قال العلماء: من جوهر الطين الرزانة والسكون والوقار والأناة ولهذا تاب آدم، ومن جوهر النار الخفة والحدة والطيش والارتفاع ولذا لم يتب إبليس.
5 معناه: لأصدنّهم عن الحق، وأرغبهم في الدنيا وأشككهم في الآخرة وهذا غاية الضلال، وقال بعضهم: المراد من قوله: {من بين أيديهم} من دنياهم {ومن خلفهم} من آخرتهم، {وعن أيمانهم} يعني حسناتهم {وعن شمائلهم} يعني سيئاتهم.

أيمانهم وعن شمائلهم} يريد يحيط بهم فيمنعهم سلوك الصراط المستقيم حتى لا ينجوا ويهلكوا كما هلك هو زاده الله هلاكاً، وقوله {ولا تجد أكثرهم شاكرين} هذا قول إبليس للرب تعالى، ولا تجد أكثر أولاد آدم الذي أضللتني بسببه شاكرين لك بالإيمان والتوحيد والطاعات.
وهنا أعاد الله أمره بطرد اللعين فقال {اخرج منها} أي من الجنة {مذموماً مدحوراً} أي ممقوتاً مطروداً (لمن تبعك1 منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين} أي فبعزتي لأملأن جهنم منك وممن اتبعك منهم أجمعين.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- خطر الكبر على الإنسان.
2- ضرر القياس2 الفاسد.
3- خطر إبليس وذريته على بني آدم، والنجاة منهم بذكر الله تعالى وشكره.
4- الشكر هو الإيمان والطاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ(19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ(20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ(21) فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا
__________
1 اللام في {لمن} موطئة للقسم، واللام في {لأملأنّ} في جواب القسم والتقدير: وعزتي من تبعك منهم لأملأن جهنم منك ومنهم أجمعين.
2 القياس من الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة مشروع محمود لأنّه اعتصام بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وإنّما المذموم المحرّم: القياس على غير أصل من هذه الأصول الثلاثة: الكتاب، السنة، الإجماع، وهذا علي ابن أبي طالب لما قال له أبو بكر رضي الله عنهما أقيلوني بيعتي فقال عليّ: والله لا نقيلك ولا نستقيلك رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم على دنيانا أفلا نرضاك لديننا فقاس الإمامة على الصلاة لله، وقاس أبو بكر الزكاة على الصلاة.

يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ(22)
شرح الكلمات :
وزوجك : هي حواء التي خلقها الله تعالى من ضلع آدم الأيسر.
الجنة : دار السلام التي دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج.
في الظالمين : أي لأنفسهم.
فوسوس: الوسوسة: الصوت الخفي، وسوسة1 الشيطان لابن آدم إلقاء معانٍ فاسدة ضارة في صدره مزينة ليعتقدها أو يقول بها أو يعمل.
ليبدي2 لهما ما ووري: ليظهر لهما ما ستر عنهما من عوراتهما.
وقاسمهما : حلف لكل واحد منهما.
فدلاهما بغرور : أي أدناهما شيئاً فشيئاً بخداعه وتغريره حتى أكلا من الشجرة.
وطفقا يخصفان : وجعلا يشدان عليهما من ورق الجنة ليسترا عوراتهما.
معنى الآيات:
ولما طرد الرحمن إبليس من الجنة نادى آدم قائلاً له {يا آدم اسكن أنت وزوجك} أي حواء {الجنة فكلا من حيث شئتما} يعنى من ثمارها وخيراتها، {ولا تقربا هذه الشجرة} أشار لهما إلى شجرة من أشجار الجنة معينة، ونهاهما عن الأكل منها، وعلمهما أنهما إذا أكلا منها كانا من الظالمين المستوجبين للعقاب، واستغل إبليس هذه الفرصة التي أتيحت له فوسوس3 لهما مزيناً لهما الأكل من الشجرة قائلاً لهما {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن
__________
1 الوسواس اسم للشيطان أيضاً قال تعالى: {من شر الوسواس الخناس}.
2 اللام: لام العاقبة والصيرورة.
3 ذهب الأولون مذاهب في تحديد كيفية اتصال إبليس بآدم وحوارهما في الجنة وهو خارج منها حتى وسوس لهما فأكلا من الشجرة التي لم يأذن الله تعالى لهما في الأكل منها إلا أن المخترعات الحديثة بيّنت لنا كيفية ذلك الاتصال وبيانه: ان الإنسان في نفسه قابلية لتلقي الوسواس أشبه ما تكون بجهاز اللاسلكي بواسطتها يتم الاتصال بين الإنسان وعدّوه إبليس وذريته.

تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} {وقاسمهما} أي حلف لهما أنه ناصح1 لهما وليس بغاش لهما، {فدلاهما بغرور} وخداع حتى أكلا {فلما ذاقا الشجرة بدت...} أي ظهرت لهما سوءاتهما2 حيث انحسر النور3 الذي كان يغطيهما، فجعلا يشدان من ورق الجنة على أنفسهما ليستر عوراتهما، وهو معنى قوله تعالى {وطفقا يخصفا عليهما من ورق الجنة} وعندئذ ناداهما ربهما سبحانه وتعالى، قائلاً: ألم أنهكما عن هذه الشجرة وهو استفهام تأديب وتأنيب، {وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين} فكيف قبلتما نصحه وهو عدوكما.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- سلاح إبليس الذي يحارب به ابن آدم هو الوسوسة والتزيين لا غير.
2- تقرير عداوة الشيطان للإنسان.
3- النهي يقتضي التحريم إلا أن توجد قرينة تصرف عنه إلى الكراهة.
4- وجوب ستر العورة من الرجال والنساء سواء.
5- جواز الاقسام بالله تعالى، ولكن لا يحلف إلا صادقاً.
قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(23) قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ(25)
شرح الكلمات:
ظلمنا أنفسنا: أي بأكلهما من الشجرة.
الخاسرين: الذين خسروا دخول الجنة والعيش فيها.
__________
1 قال قتادة: حلف لهما بالله أنه خلق قبلهما وأنه أعلم منهما وحلف أنه ناصح لهما فانغرا به، على حد قول العلماء: مَنْ خدعنا بالله انخدعنا له.
2 سُمي الفرجان سوأتين وعورة لأن السوءة مشتقة مما يسيء إلى النفس بالألم والعورة هي كل ما استحيي من كشفه.
3 روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: تقلّص النور الذي كان لباسهما فصار أظفاراً في الأيدي والأرجل. والله أعلم.

مستقر: مكان استقرار وإقامة..
متاع إلى حين : تمتع بالحياة إلى حين انقضاء آجالكم.
معنى الآيات:
مازال السياق في الحديث عن آدم عليه السلام، أنه لما ذاق آدم وحواء الشجرة وبدت لهما سؤاتهما وعاتبهما ربهما على ذلك قالا معلنين عن توبتهما: {ربنا ظلمنا أنفسنا1} أي بذوق الشجرة {وإن لم تغفر لنا} أي خطيئتنا هذه {لنكونن من الخاسرين} أي الهالكين، وتابا فتاب الله تعالى عليهما وقال لهم اهبطوا إلى الأرض إذ لم تعد الجنة في السماء داراً لهما بعد ارتكاب المعصية، إن إبليس عصا بامتناعه عن السجود لآدم، وآدم وحواء بأكلهما من الشجرة وقوله {بعضكم لبعض عدو} أي اهبطوا إلى الأرض2 حال كون بعضكم لبعض عدواً، إبليس وذريته عدو لآدم ونبيه، وآدم وبنوه عدو لإبليس وذريته، {ولكم في الأرض مستقر}، أي مقام استقرار، {ومتاع إلى حين} أي تمتع بالحياة إلى حين انقضاء الآجال وقوله تعالى {فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون}3 يريد من الأرض التي أهبطهم إليها وهي هذه الأرض التي يعيش عليها بنو آدم، والمراد من الخروج، الخروج من القبور إلى البعث والنشور.
هداية الآيات:
من هداية الآيات :
1- قول آدم وحواء: {ربنا ظلمنا أنفسنا.. } الآية هو الكلمة التي ألقاها تعالى إلى آدم فتلقاها عنه فتاب عليه بها.
2- شرط التوبة الاعتراف بالذنب وذلك بالاستغفار أي طلب المغفرة.
3- شؤم الخطيئة كان سبب طرد إبليس من الرحمة، وإخراج آدم من الجنة.
4- لا تَتِمُّ حياةٌ للإنسان على غير الأرض، ولا يدفن بعد موته في غيرها لدلالة آية {فيها تَحْيَوْن وفيها تموتون ومنها تُخْرجون}.
__________
1 أي: يا ربنا، حذف حرف النداء لقربه منهما سبحانه وتعالى إذ يُنادى بحرف النداء البعيد.
2 قال ابن كثير: لو كان في تعيين الأماكن التي هبط فيها آدم وحواء وإبليس فائدة تعود على المكلّفين في دينهم أو دنياهم لذكرها الله تعالى.
3 أي: للحساب والجزاء على الكسب في الدنيا من خير وشرّ.

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(26) يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ(27) وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ(28)
شرح الكلمات:
وريشاً1: لباس الزينة والحاجة.
يواري سوءاتكم : يستر عوراتكم.
لباس التقوى .: خير في حفظ العورات والأجسام والعقول والأخلاق.
من آيات الله : دلائل قدرته.
لا يفتننكم: أي لا يصرفنكم عن طاعة الله الموجبة لرضاه ومجاورته في الملكوت الأعلى.
أبويكم : آدم وحواء.
قبيله: جنوده من الجن.
فاحشه: خصلة قبيحة شديدة القبح كالطواف بالبيت عراة.
__________
1 الريش للطائر ما يستر جسمه، وللإنسان اللّباس وجمعه رياش وهو ما كان فاخراً من أنواع الألبسة.

معنى الآيات:
قوله تعالى {يا بني1 آدم قد نزلنا2 عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً} هذا النداء الكريم المقصود منه تذكير للمشركين من قريش بنعم الله وقدرته عليهم لعلهم يذكرون فيؤمنون ويسلمون بترك الشرك والمعاصي، من نعمه عليهم أن أنزل عليهم لباساً يوارون به سوءاتهم، {وريشاً} لباساً يتجملون به، في أعيادهم ومناسباتهم، ثم أخبر تعالى أن لباس التقوى خير لصاحبه من لباس الثياب، لأن المتقي عبد ملتزم بطاعة الله ورسوله، والله ورسوله يأمران بستر العورات، ودفع الغائلات، والمحافظة على الكرامات، ويأمران بالحياء، والعفة وحسن السمت ونظافة الجسم والثياب فأين لباس الثياب مجردة عن التقوى3 من هذه؟؟.
وقوله تعالى {ذلك من آيات الله} أي من دلائل قدرته الموجبة للإيمان به وطاعته، وقوله {لعلهم يذكرون} أي رجاء أن يذكروا هذه النعم فيشكروا بالإيمان والطاعة.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (26) وفي الآية الثانية (27) ناداهم مرة ثانية فقال {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما4 سوءاتهما} يحذرهم من إغواء الشيطان لهم مذكراً إياهم بما صنع مع أبويهما من إخراجهما5 من الجنة بعد نزعه لباسهما عنهما فانكشفت سوءاتهما الأمر الذي سبب إخراجهما من دار السلام، منبهاً لهم على خطورة العدو من حيث أنه يراهم هو وجنوده، وهم لا يرونهم. ثم أخبر تعالى أنه جعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون، وذلك حسب سنته في خلقه، فالشياطين يمثلون قمة الشر والخبث فالذين لا يؤمنون قلوبهم مظلمة لانعدام نور الإيمان فيها فهي متهيئة
__________
1 ابتداء الخطاب بالنداء الحكمة منه ليقع إقبال المنادين على ما بعد النداء بكل قلوبهم.
2 إنزال اللّباس من السماء يعود لأمور منها: أن آدم أوّل من ستر عورته بورق التين من شجر الجنة ومنها أنّ آدم نزل مكسواًّ وورث عنه أولاده ذلك، ومنها أن الماء الذي به النبات ومنه يتخذ اللباس كالقطن مثلاً نزل من السماء وحتى ذوات الصوف والوبر حياتها متوقفة على ماء السماء.
3 قال الشاعر في لباس التقوى ما يلي:
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى ... تقلب عريانا وإن كان كاسيا
وخير لباس المرء طاعة ربه ... ولا خير فيمن كان لله عاصيا
4في هذه الآية دليل على حرص الشيطان على أن يكشف الآدمي عورته لما يسبق ذلك من الفسق والفجور الذين يرغب الشيطان في إيقاع الآدمي فيهما.
5 تكاد تكون هذه سنة بشرية لا تتخلّف إذ ما من أمّة تبرج نساؤها فكشفن محاسنهن وأبدين عوراتهن إلاّ أسرع إليها الهلاك بزوال الملك وذهاب السلطان.

لقبول الشياطين وقبول ما يوسوسون به ويوحونه من أنواع المفاسد والشرور كالشرك والمعاصي على اختلافها، وبذلك تتم الولاية بين الشياطين والكافرين، وكبرهان على هذا الولاء بينهم أن المشركين إذا فعلوا فاحشة خصلة ذميمة قبيحة شديدة القبح ونهوا عنها احتجوا على فعلهم بأنهم وجدوا آباءهم يفعلونها، وأن الله تعالى أمرهم بها وهي حجة باطلة لما يلي:
أولاً: فعل آبائهم ليس ديناً ولا شرعاً.
ثانياً : حاشا لله تعالى الحكيم العليم أن يأمر بالفواحش إنما يأمر بالفواحش الذين يأتونها وهم الشياطين وأولياؤهم من الإنس ولهذا رد الله تعالى عليهم بقوله: { إن الله لا يأمر بالفحشاء} ووبخهم معنفاً إياهم بقوله: {أتقولون على الله ما لا تعلمون}.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التذكير بنعم الله تعالى المقتضي للشكر عك ذلك بالإيمان والتقوى1.
2- التحذير من الشيطان وفتنته لاسيما وأنه يرى الإنسان والإنسان لا يراه.
3- القلوب الكافرة هي الآثمة، وكذلك تتم الولاية بين الشياطين والكافرين.
4- قبح الفواحش وحرمتها.
5- بطلان الاحتجاج بفعل الناس إذ لا حجة إلا في الوحي الإلهي.
6- تنزه الرب تعالى عن الرضا بالفواحش فضلاً عن الأمر بها.
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ(29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ(30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ(31)
__________
1 الإيمان والتقوى بهما تحصل ولاية الرب للعبد، قال تعالى :{ألا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون}.

شرح الكلمات:
القسط1 : العدل في القول والحكمة والعمل.
أقيموا وجوهكم : أي أخلصوا العبادة لله واستقبلوا بيته.
كما بدأكم تعودون: كما بدأ خلقكم أول مرة يعيدكم بعد الموت أحياء.
أولياء من دون الله : يوالونهم محبة ونصرة وطاعة، من غير الله تعالى.
زينتكم: أي البسوا ثيابكم عند الدخول في الصلاة.
ولا تسرفوا : في أكل ولا شرب، والإسراف مجاوزة الحد المطلوب في كل شيء.
معنى الآيات:
مازال السياق قي بيان أخطاء مشركي قريش فقد قالوا في الآيات السابقة محتجين على فعلهم الفواحش بأنهم وجدوا آباءهم على ذلك وأن الله تعالى أمرهم بها وأكذبهم الله تعالى في ذلك وقال في هذه الآية (29) {قل} يا رسولنا {أمر ربي بالقسط} الذي هو العدل وهو الإيمان بالله ورسوله وتوحيد الله تعالى في عبادته، وليس هو الشرك بالله وفعل الفواحش، والكذب على الله تعالى بأنه حلل كذا وهو لم يحلل، وحرم كذا وهو لم يحرم، وقوله تعالى {وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد} أي وقل لهم يا رسولنا أقيموا وجوهكم عند كل مسجد2 أي أخلصوا لله العبادة، واستقبلوا بيته الحرام، {وادعوه} سبحانه وتعالى {مخلصين له الدين} أي ادعوه وحده ولا تدعوا معه أحداً قوله: {كما بدأكم تعودون} يذكرهم بالدار الآخرة والحياة الثانية، فإن من آمن بالحياة بعد الموت والجزاء على كسبه خيراً أو شراً أمكنه أن يستقيم على العدل والخير طوال الحياة وقوله {فريقاً3 هدى، وفريقاً حق عليهم الضلالة4} بيان لعدله وحكمته ومظاهر قدرته فهو المبديء والمعيد والهادي والمضل، له الملك المطلق والحكم
__________
1 القسط: العدل، وهو وسط بين الشرك والإلحاد. ولذا قال ابن عباس: القسط: لا إله إلاّ الله أي: بأن يعبد الله وحده.
2 أي: في كل موضع للصلاة من سائر بقاع الأرض إذ موضع السجود هو المسجد وإقامة الرجوه بالذات معناه أن لا يلتفت بقلبه ولا بوجهه إلى غير الله تعالى وهو إخلاص العبادة لله عز وجل.
3 {فريقاً} نصب على الحال من الضمير في تعودون أي: حال كونكم فريقين فريقاً مهدياً سعيداً، وفريقاً وجبت عليه الضلالة فجاء الموقف ضالاً شقياً، وقال القرطبي: من ابتدأ الله خلقه للضلالة صيّره للضلالة ومن ابتدأ الله خلقه على الهدى صيّره إلى الهدى، وشاهد قوله هذا آدم وإبليس فآدم مخلوق للهداية وإبليس للضلالة.
4 اخرج مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كانت المرأة في الجاهلية تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول:
من يعيرني تطوافأ تجعله على فرجها وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ...
وما بدا منه فلا أحله

الأوحد، فكيف يعدل به أصنام وأوثان هدى فريقاً من عباده فاهتدوا، وأضل آخرين فضلوا ولكن بسبب رغبتهم عن الهداية وموالاتهم لأهل الغواية، {إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله} فضلوا ضلالاً بعيداً {ويحسبون} لتوغلهم في الظلام والضلال {أنهم مهتدون}.
وقوله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} أي : البسوا ثيابكم عند الطواف1 بالبيت فلا تطوفوا عراة، وعند الصلاة فلا تصلوا وأنتم مكشوفوا العورات كما يفعل المشركون المتخذون الشياطين أولياء فأضلتهم حتى زينت لهم الفواحش قولاً وفعلاً واعتقاداً. وقوله: {كلوا واشربوا ولا تسرفوا2} أي كلوا مما أحل الله لكم واشربوا، ولا تسرفوا بتحريم ما أحل الله، وشرع ما لم يشرع لكم فالزموا العدل، فإنه تعالى لا يحب المسرفين فاطلبوا حبه بالعدل، واجتنبوا بغضه بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
من هداية الآيات:
1- وجوب العدل في القول وفي الحكم.
2- وجوب إخلاص العبادة صلاةً كانت أو دعاءً لله تعالى.
3- ثبوت القدر.
4- وجوب ستر العورة في الصلاة.
5- حرمة الإسراف في الأكل والشرب وفي كل شيء.
__________
1 هذه الآية الكريمة أصل من أصول الدواء، إذ أمرت بالأكل والشرب وهما قوام الحياة وحرمت الإسراف فيهما وهو سبب كافة الأمراض إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفَسِهِ" وشاهد آخر أنه كان لهارون الرشيد طبيب نصراني قال لعلي بن الحسين: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان علم أديان وعلم أبدان فقال له علي: قد جمع الله الطب كلّه في نصف آية من كتابنا فقال له ما هي؟ قال: قوله عز وجل {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا}.
2 روي أن سمرة بن جندب رضي الله عنه سأل عن ابنه فقيل له: بشم البارحة؟ قال: بشم؟ قالوا: نعم قال: أما إنه لو مات ما صليت عليه، وقال العلماء: من الإسراف: الأكل بعد الشبع، وقال لقمان لابنه: يا بني لا تأكل شبعاً فوق شبع فإنك إن تنبذه للكلب خير من أن تأكله.

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ(33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ(34)
شرح الكلمات :
من حرم زينة الله: التحريم: المنع، والزينة. ما يتزين به من ثياب وغيرها.
والطيبات : جمع طيب وهو الحلال غير المستخبث.
خالصة : لا يشاركهم فيها الكفار لأنهم في النار.
الفواحش: جمع فاحشة والمراد بها هنا الزنى واللواط السري كالعلني.
والإثم : كل ضار قبيح من الخمر وغيرها من سائر الذنوب.
والبغي بغير الحق: الظلم بغير قصاص ومعاقبة بالمثل.
وأن تشركوا: أي الشرك بالله وهو عبادة غير الله تعالى.
السلطان: الحجة التي تثبت بها الحقوق المختلف فيها أو المتنازع عليها.
أجل : وقت محدد تنتهي إليه.
معنى الآيات:
لما حرم المشركون الطواف بالبيت بالثياب وطافوا بالبيت عراة بدعوى أنهم لا يطوفون بثياب عصوا الله تعالى فيها، أنكر تعالى ذلك عليهم بقوله: {قل من حرم1 زينة الله التي
__________
1 الزينة: هنا الملبس الحسن من غير ما حرّم كالذهب والحرير على الرجال ويطلق لفظ الزينة أيضاً على مطلق اللباس ولو لم يكن حسناً.

أخرج لعباده والطيبات من الرزق1} كلحوم ما حرموه من السوائب، فالاستفهام في قوله {قل من حرم زينة الله} للإنكار. ومعنى أخرجها: أنه أخرج النبات من الأرض كالقطن والكتان ومعادن الحديد لأن الدروع من الحديد، وقوله تعالى: {قل هي للذين2 آمنوا في الحياة الدنيا} بالأصالة، لأن المؤمنين علماء فيحسنون العمل والإنتاج والصناعة، والكفار تبع هم في ذلك لجهلهم وكسلهم وعدم بصيرتهم، {خالصة3 يوم القيامة} أي هي خالصة للمؤمنين يوم القيامة لا يشاركهم فيها الكفار ولأنهم في دار الشقاء النار والعياذ بالله تعالى وقوله تعالى {كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون} أي كهذا التفصيل والبيان الذي بيناه وفصلناه في هذه الآيات وما زلنا نفصل ونبين ما ننزل من آيات القرآن الكريم لقوم يعلمون أما غيرهم من أهل الجهل والضلال فإنهم لا ينتفعون بذلك لأنهم محجوبون بظلمة الكفر والشرك ودخان الأهواء والشهوات والشبهات.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (32) أما الآية الثانية (33) فقد تضمنت بيان أصول المحرمات وأمهات الذنوب وهي: الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم: وهو سائر المعاصي بترك الواجب أو فعل الحرام والبغي: وهو الاستطالة على الناس والاعتداء عليهم بهضم حقوقهم وأخذ أموالهم وضرب أجسامهم وذلك بغير حق أوجب ذلك الاعتداء وسوغه كأن يعتدي الشخص فيقتص منه ويعاقب بمثل ما جنى وظلم، والشرك بالله تعالى بعبادة غيره، والقول على الله تعالى بدون علم منه وذلك كشرع ما لم يشرع، بتحريم ما لم يحرم، وإيجاب ما لم يوجب.
هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الثالثة والأخيرة في هذا السياق (34) فقد أخبر تعالى فيها أن لكل أمة أجلاً محدداً أي وقتاً معيناً يتم هلاكها فيه لا تتقدمه بساعة ولا تتأخر عنه بأخرى. وفي هذا إشارة أفصح من عبارة وهي أن هلاك الأمم والجماعات والأفراد يتم بسبب
__________
1 الطيبات: اسم عام لكل ما طاب كسباً وطعماً وقد أكل الرسول صلى الله عليه وسلم اللحم والعسل والحلوى والبطيخ والرطب، وإنما الذي يكره الإكثار منها والتكلف في شرائها وإعدادها، وعمر لم ينكر الطيبات وإنما أنكر الكثرة منها، فكاد يرى عدم الجمع بين الطيبات ويكتفي بنوع واحد.
2 في الآية دليل على التجمل بأحسن الثياب وخاصة في الأعياد والجمع وزيارة الإخوان ومقابلة الوفود، وليس من السنة لبس المرقعات والفوط وليس معنى: {ولباس التقوى}: أنه لباس الخشن والمرقعات أبداً وإنما هو تقوى الله بامتثال الأمر واجتناب النهي، وقد تقدم معناها، وفي الحديث الصحيح: "إن الله جميل يحب الجمال".
3 قرىء: {خالصةٌ} بالرفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي خالصة، وقرىء {خالصة} بالنصب على الحال أي: ثابتة لهم في الدنيا حال كونها خالصة لهم يوم القيامة.

انحرافهم عن منهج الحياة، كالمرء يهلك بشرب السم، وبإلقاء نفسه من شاهق، أو إشعال النار في جسمه كذلك ارتكاب أمهات الذنوب وأصول المفاسد التي ذكر تعالى في قوله {قل إنما حرم ربي الفواحش.....} من شأنها أن تودي بحياة مرتكبيها لا محالة ما لم يتوبوا منها وتصلح حالهم بالعودة إلى منهج الحياة الذي وضع الله في الإيمان والتوحيد والطاعة لله ورسوله بفعل كل أمر وترك كل نهي.
هداية الآيات
هن هداية الآيات :
1- الإنكار الشديد على من يحرم ما أحل الله من الطيبات كبعض المتنطعين1.
2- المستلذات من الطعام والشراب والمزينات من الثياب وغيرها المؤمنون أولى بها من غيرهم لأنهم يحسنون العمل، ويبذلون الجهد لاستخراجها والانتفاع بها. بخلاف أهل الجهالات فإنهم عمي لا يبصرون ومقعدون لا يتحركون. وإن قيل العكس هو الصحيح فإن أمم الكفر وأوربا وأمريكا هي التي تقدمت صناعياً وتمتعت بما يتمتع به المؤمنون؟ فالجواب: أن المؤمنين صرفوا عن العلم والعمل وأقعدوا عن الإنتاج والاختراع بإفساد أعدائهم لهم عقولهم وعقائدهم، فعوقوهم عن العمل مكراً بهم وخداعاً لهم. والدليل أن المؤمنين لما كانوا كاملين في إيمانهم كانوا أرقى الأمم وأكملها حضارة وطهارة وقوة وإنتاجاً مع أن الآية تقول {... لقوم يعلمون} فإذا حل الجهل محل العلم فلا إنتاج ولا اختراع ولا حضارة.
3- بيان أصول المفاسد وهي الفواحش وما ذكر بعدها إلى {.....وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}.
4 - ذكرت هذه المفاسد بطريق التدلي آخرها أخطرها وهكذا أخفها أولها.
5- أجل2 الأمم كأجل الأفراد يتم الهلاك عند انتظام المرض كامل الأمة أو أكثر أفرادها كما يهلك الفرد عندما يستشري المرض في كامل جسمه.
__________
1 روى النسائي بسند صحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده" وقال البخاري عن ابن عباس: "كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان، سرف، ومخيلة.
2 الأجل: هو الوقت الموقت، فأجل الموت هو: وقت الموت وأجل الدَّين هو وقت حلوله وكل شيء وقِّت به شيء فهو أجل له.

يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(35) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(36)
شرح الكلمات:
إما يأتينكم: أصل إما إن –الشرطية- وما زائدة لتقوية الكلام أدغمت فيها (إن) فصارت إما.
يقصون1 عليكم آياتي: يتلونها عليكم آية بعد آية مبينين لكم ما دلت عليه من أحكام الله وشرائعه، ووعده ووعيده.
فمن اتقى: أي الشرك فلم يشرك وأصلح نفسه بالأعمال الصالحة.
فلا خوف عليهم : في الدنيا والآخرة.
ولا يحزنون : على ما تركوا وراءهم أو فاتهم الحصول عليه من أمور الدنيا.
معنى الآيتين :
هذا النداء جائز أن يكون نداءً عاماً لكل بني آدم كما هو ظاهر اللفظ وأن البشرية كلها نوديت به على ألسنة رسلها، وجائز أن يكون خاصاً بمشركي العرب وأن يكون المراد من الرسل محمد صلى الله عليه وسلم ذكر بصيغة الجمع تعظيماً وتكريماً له، وما نوديت إليه البشرية أو مشركوا العرب هو إخبار الله تعالى لهم بأن من جاءه رسول من جنسه يتلو عليه آيات ربه وهي تحمل العلم بالله وصفاته وبيان محابه ومساخطه، فمن اتقى الله فترك الشرك به، وأصلح ما أفسده قبل العلم من نفسه وخلقه وعقله وذلك بالإيمان والعمل الصالح فهؤلاء في حكم الله أنه {لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} في الحياتين2 معاً، أما الذين كذبوا بآيات الله التي جاءت
__________
1 القصص: هو إتباع الحديث بعضه بعضا.
2 أمّا في البرزخ وفي يوم القيامة فالأمر ظاهر لا خلاف في أنهم لا يخافون ولا يحزنون ولكن في الحياة الدنيا يصيبهم الخوف والحزن، ولكن خوفهم وحزنهم لا يكاد يذكر مع خوف وحزن أهل الكفر والشرك.

الرسل بها وقصتها عليهم واستكبروا1 عن العمل بها كما استكبروا عن الإيمان بها، فأولئك البعداء من كل خير {أصحاب النار} أي أهلها {هم فيها خالدون} لا يخرجون منها بحال من الأحوال.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- قطع حجة بني آدم بإرسال الرسل إليهم.
2- أول ما يبدأ به في باب التقوى الشرك بأن يتخلى عنه الإنسان المؤمنين أولاً.
3- الإصلاح يكون بالأعمال الصالحة التي شرعها الله مزكية للنفوس مطهرة لها.
4- التكذيب كالاستكبار كلاهما مانع من التقوى والعمل الصالح. ولذا أصحابهما هم أصحاب النار.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ(37) قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ(38) وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ(39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ
__________
1 الاستكبار: المبالغة في التكبّر وضمن مع الاستكبار الإعراض، والمعنى: واستكبروا فأعرضوا عنها.

بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ(40) لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ(41)
شرح الكلمات:
فمن أظلم : الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ولذا المشرك ظالم لأنه وضع العبادة في غير موضعها حيث عبد بها من لا يستحقها.
نصيبهم: ما قدر لهم في كتاب المقادير.
رسلنا : المراد بهم ملك الموت وأعوانه.
قالوا ضلوا عنا: غابوا عنا فلم نرهم ولم نجدهم.
في أمم : أي في جملة أمم.
اداركو : أي تداركوا ولحق بعضهم بعضا حتى دخلوها كلهم.
أخراهم لأولاهم : الأتباع قالوا للرؤساء في الضلالة وهم المتبوعون.
تكسبون : من الظلم والشر والفساد.
يلج الجمل في سم الخياط: أي يدخل الجمل في ثقب الإبرة.
المجرمين : الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها بالشرك والمعاصي.
مهاد: فراش يمتهدونه من النار.
غواش : أغشية يتغطون بها من النار كذلك.
معنى الآيات:
يخبر تعالى بأنه لا أظلم ولا أجهل ولا أضل ممن يفترى على الله الكذب فيقول اتخذ ولداً أو أمر بالفواحش، أو حرم كذا وهو لم يحرم، أو كذب بآياته التي جاءت بها رسله فجحدها وعاند في ذلك وكابر، فهؤلاء المفترون المكذبون يخبر تعالى أنه {ينالهم نصيبهم من الكتاب}

أي ما كتب لهم في اللوح المحفوظ من خير وشر وسعادة أو شقاء1 {حتى2 إذا جاءتهم رسلنا} أي ملك الموت وأعوانه {يتوفونهم} يقولون لهم {أين ما كنتم تدعون من دون الله} أي تعبدون من أولياء؟ فيجيبون قائلين: {ضلوا عنا} أي غابوا فلم نرهم. قال تعالى: {وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } ويوم القيامة يقال لهم {ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس} في النار، فيدخلون {كلما دخلت أمة لعنت أختها} فلعن المشركون بعضهم بعضاً، واليهود والنصارى كذلك، {حتى إذا اداركوا فيها جميعاً} أي تلاحقوا وتم دخولهم النار أخذوا يشتكون {قالت أخراهم لأولاهم ربنا} أي يا ربنا {هؤلاء أضلونا} عن صراطك فلم نعبدك {فأتهم عذاباً ضعفاً} أي مضاعفاً {من النار}، فأجابهم الله تعالى بقوله {لكل ضعف} لكل واحدة منكم ضعف من العذاب {ولكن لا تعلمون}، إذ الدار دار عذاب فهو يتضاعف على كل من فيها، وحينئذ {قالت أولاهم لأخراهم ما كان لكم علينا من3 فضل، فذوقوا4 العذاب بما كنتم تكسبون} أي من الشرك والافتراء على الله والتكذيب بآياته، ومجانبة طاعته وطاعة رسوله.
هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث أما الآيتان الرابعة والخامسة فإن الرابعة قررت حكماً عظيماً وهو أن الذين كذبوا بآيات الله واستكبروا5 عنها فلم يؤمنوا ولم يعملوا الصالحات وعاشوا عاد الشرك والشر والفساد هؤلاء إذا مات أحدهم وعرجت الملائكة بروحه إلى السماء لا تفتح له أبوب السماء6، ويكون مآلهم النار كما قال تعالى {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط} فعلق دخولهم الجنة على مستحيل وهو دخول الجمل في ثقب الإبرة، والمعلق عاد مستحيل مستحيل. قال تعالى: {وكذلك نجزي المجرمين} على أنفسهم حيث أفسدوها بالشرك والمعاصي. هذا ما تضمنته الآية الرابعة، وهي قوله تعالى: {إن الذين
__________
1 أي: في الدنيا لا في الآخرة فهم أصحاب النار هم فيها خالدون ولا سعادة مع دخول النار.
2 حتى هنا: ابتدائية وليست غائية إذ هي بداية خبر المكذبين المستكبرين المعرضين. قال سيبويه: حتى، وإمّا، وألاَّ لا يُمَلْن لأنهن حروف وكتبت حتى بالياء لأنها أشبهت سكرى وحبلى.
3 {مِنْ} زائدة لتأكيد نفي الفضل.
4 الذوق هنا: مستعمل للإهانة والتشفي والباء في {بما كنتم تكسبون} سببية.
5 جملة: {إنّ الدين} الخ مستأنفة استئنافاً ابتدائياً سيقت لتحقيق خلود الفريقين في النار معاً والفريقان هما أولاهما وأخراهما في الآية إذ كلا الفريقين كان مكذباً مستكبراً.
6 القول بأنّ قوله تعالى: {لا تفتح لهم أبواب السماء}: كلمة جامعة لمعنى الحرمان من الجزاءات الإلهية قول باطل لأنّه تأويل يبطل به ما أخبر تعالى به من أنّ للسماء أبواب إذ أيّ مانع إن يكون للسماء أبواب لا يدخل معها ملك ولا جني ولا إنسان إلا بإذن ولكل بناء أبواب بحسبه.

كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط1 وكذلك نجزي المجرم}2.
أما الخامسة فقد تضمنت الخبر التالي: {لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش} أمم أغطية من النار وكما جزى تعالى هؤلاء المكذبين المستكبرين والمجرمين يجزي بعدله الظالمين لأنفسهم حيث لوثوها وخبثوها بأوضار الذنوب والآثام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- شر الظلم ما كان كذباً على الله وتكذيباَ بشرائعه.
2- تقرير فتنة القبر3 وعذابه.
3- لعن أهل النار بعضهم بعضاً حنقاً على بعضهم بعضاً إذ كان كل واحد سبباً في عذاب الآخرة.
4- بيان جزاء المكذبين بآيات الله والمستكبرين عنها وهو الحرمان من دخول الجنة وكذلك المجرمون والظالمون.
وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(43)
__________
1 الخياط : أي المخيط.
2 الإجرام: فعل الجرم، وأجرم إذا فعل الجرم وهو: الذنب والذنب: هو ما يفسد الروح وينجسها، فأجرم معناه: أفسد.
3 أخرج ابن كثير في تفسيره عن أبي داود حديثاً طويلاً أشتمل على بيان قبض روح العبد والعروج بها إلى السماء ثم العودة بها إلى القبر وما يجري في القبر من فتنة وما يتم للعبد الصالح من سعادة وللكافر من شقاوة فليُرجع إليه.

شرح الكلمات:
إلا وسعها: طاقتها وما تتحمله وتقدر عليه من العمل.
ونزعنا : أي أقلعنا وأخرجنا.
من غل: أي من حقد وعداوة.
هدانا لهذا: أي للعمل الصالح في الدنيا الذي هذا جزاؤه وهو الجنة.
بما كنتم تعملون: أي بسبب أعمالكم الصالحة من صلاة وصيام وصدقات وجهاد.
معنى الآيتين:
لما ذكر تعالى جزاء أهل التكذيب والاستكبار عن الإيمان والعمل الصالح وكان شقاءً وحرماناً ذكر جزاء أهل الإيمان والعمل الصالح فقال : {والذين آمنوا وعملوا الصالحات}، ولما كان العمل منه الشاق الذي لا يطاق ومنه السهل الذي يقدر عليه قال: {لا نكلف نفساً إلا وسعها} أي ما تقدر عليه من العمل ويكون في استطاعتها، ثم أخبر عن المؤمنين العاملين للصالحات فقال {أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون}. كما أخبر في الآية الثانية أنه طهرهم باطناً فنزع ما في صدورهم من غل1 على بعضهم بعضاً، وأن الأنهار تجري من تحت قصورهم، وأنهم قالوا شاكرين نعم الله عليهم: {الحمد لله الذي هدانا لهذا} أي لعمل صالح هذا جزاؤه أي الجنة وما فيها من نعيم مقيم، وقرروا حقيقة وهي أن هدايتهم التي كان جزاؤها الجنة لم يكونوا ليحصلوا عليها لولا أن الله تعالى هو الذي هداهم فقالوا: {وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}2 ثم قالوا والله {لقد جاءت رسل ربنا بالحق} فهاهم أهل الكفر والمعاصي في النار، وها نحن أهل الإيمان والطاعات في نعيم الجنة فصدقت الرسل فيما أخبرت به من وعد ووعيد، وناداهم ربهم سبحانه وتعالى: {أن تلكم الجنة أورثتموها3 بما كنتم تعملون} فيزداد بذلك نعيمهم وتعظم سعادتهم.
__________
1 الغل: الحقد الكامن في الصدر أي: أذهبنا- في الجنة- ما كان في قلوبهم من الغل في الدنيا ولذا فلا يكون لهم من تحاسد في الجنة على تفاوت درجاتهم في العلو والارتفاع. وقال علي رضي الله عنه: فينا والله أهل بدر نزلت: {ونزعنا ما في صدورهم من غل}.
2 روى النسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول لولا أن الله هداني فيكون له شكراً، وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول لو أن الله هداني فيكون له حسرة".
3 روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل" وعليه فالباء في قوله: {بما كنتم تعملون} سببية وليست باء العرض إذ أعمال العبد لا تعادل موضع سوط في الجنة فالعمل مورث بفضل الله تعالى ورحمته.

هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- الإيمان والعمل الصالح موجبان لدخول الجنة مقتض للكرامة في الدارين.
2- لا مشقة لا تحتمل في الدين الصحيح الذي جاءت به الرسل إلا ما كان عقوبة.
3- لا عداوة ولا حسد في الجنة.
4- الهداية هبة من الله فلا تطلب إلا منه، ولا يحصل عليها إلا بطلبها منه تعالى.
5- صدقت الرسل فيما أخْبَرَتْ به من شأن الغيب وغيره.
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ(44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ(45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ(46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
شرح الكلمات:
فأذن مؤذن: أي أعلن بأعلى صوته أن لعنة الله على الظالمين.
لعنة الله : أي أمره بطرد الظالمين من الرحمة إلى العذاب.
يصدون عن سبيل الله: سبيل الله هي الإسلام والصد: الصرف فهم صرفوا أنفسهم وصرفوا غيرهم.
ويبغونها عوجاً : يطلبون الشريعة أن تميل مع ميولهم وشهواتهم فتخدم أغراضهم.
وبينهما حجاب . أي باب أهل الجنة وأهل النار حاجز فاصل وهو سور الأعراف.
وعلى الأعراف: سور بين الجنة والنار قال تعالى من سورة الحديد {فضرب بينهم بسور}.

يعرفون كلاً بسيماهم : أي كل من أهل الجنة وأهل النار بعلاماتهم.
صرفت أبصارهم : أي نظروا إلى الجهة التي فيها أصحاب النار.
معنى الآيات:
مازال السياق في الحديث عن أصحاب الجنة وأصحاب النار فيخبر تعالى أن أصحاب الجنة نادوا أصحاب النار قائلين لهم إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا به هن الجنة ونعيمها حقاً، فهل1 وجدتم أنتم ما وعدكم ربكم من النار وعذابها حقاً؟ فأجابوهم: نعم2 إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، وهنا أذن مؤذن قائلاً: لعنة3 الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله التي هي الإسلام الموصل إلى رضا الله تعالى والجنة، ويبغونها عوجاً أي يريدون سبيل الله معوجة تدور معهم حيث داروا في شرورهم ومفاسدهم، وشهواتهم وأهوائهم، وهم بالآخرة كافرون أيضاً فهؤلاء يلعنونهم: لعنة الله على الظالمين الذين تلك صفاتهم قال تعالى في الآية الثالثة: {وبينهما} أي بين أهل الجنة وأهل النار {حجاب} فاصل أي حاجز وهو مكان على مرتفع، وعليه رجال من بني آدم استوت سيئاتهم وحسناتهم فحبسوا هناك حتى يقضي بين أهل الموقف فيحكم فيهم بدخولهم الجنة إن شاء الله تعالى.
وقوله: {يعرفون كلاً بسيماهم} أي يعرفون أهل الجنة بسيماهم وهي بياض الوجوه ونضرة النعيم، ويعرفون أهل النار بسواد الوجوه وزرقة العيون.
{ونادوا أصحاب الجنة} أي نادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة قائلين: سلام عليكم يتطمعون بذلك كما قال تعالى {لم يدخلوها وهم يطمعون. وإذا صرفت أبصارهم تلقاء4 أصحاب النار} أي نظروا إلى جهة أهل النار فرأوا أهلها مسودة وجوههم زرق أعينهم يكتنفهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، رفعوا أصواتهم قائلين: {ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين} أي أهل النار لأنهم دخلوها بظلمهم والعياذ بالله.
__________
1 هذا سؤال توبيخ وتعيير لا استفهام واستخبار.
2 في نعم لغات: فتح النون والعين نعم وكسر العين للفرق بينها وبين النعم التي هي الإبل والبقر والغنم، وهي حرف إجابة وتكون للعدة والتصديق فمثال العدة نحو: أيقوم زيد؟ فتقول: نعم أي لله بقيامه ومثال التصديق قولك: هل جاء زيد؟ فتقول: نعم فتصدقه في مجيئه.
3 يروى أن طاووسا دخل على هشام بن عبد الملك فقال له: اتق الله واحذر يوم الأذان فقال: وما يوم الأذان؟ قال: قوله تعالى: {فأذّن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين} فصعق هشام فقال طاووس: هذا ذلٌ الصفة فكيف ذل المعاينة.
4 قال أهل اللغة: لم يأت مصدر على تِفعال سوى حرفين: تِلقاء وتبيان. وما عداهما فبالفتح نحو تَسيار وتَذكار وتَهمام، أما الأسماء فكثرة نحو تِمثال ومِفتاح ومِصباح ومِعراج.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجود اتصال كامل بين أهل الجنة وأهل النار متى أراد أحدهم ذلك بحيث إذا أراد من في الجنة أن ينظر إلى من في النار ويخاطبه تم له ذلك.
2- يجوز إطلاق لفظ الوعد على الوعيد للمشاكلة أو التهكم كما في هذه الآيات.
3- التنديد بالصد عن سبيل الله، والظلم والكفر بالآخرة وهي أسباب الشقاء في الدار الآخرة.
4- تقرير مبدأ ثقل الحسنات ينجي وخفتها تردي، ومن استوت حسناته وسيئاته ينجو آخر من ينجو من دخول النار.
5- مشروعية الطمع إذا كان مقتضاه موجوداً.
وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ(48) أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ(49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ(50) الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ(51)
شرح الكلمات:
بسيماهم : السيما العلامة الدالة على من هي فيه.
جمعكم: أي للمال وللرجال كالجيوش.

أهؤلاء : إشارة إلى ضعفاء المسلمين وهم في الجنة.
أو مما رزقكم الله: أي من الطعام والشراب.
حرمهما : منعهما.
معنى الآيات:
مازال السياق في الحديث عن أصحاب الجنة وأصحاب النار قال تعالى: {ونادى أصحاب الأعراف رجالاً} أي من أهل النار يعرفونهم بسيماهم التي هي سيما أصحاب النار من سواد الوجوه وزرقة العيون نادوهم قائلين: {ما أغنى عنكم جمعكم} أي للأموال والرجال للحروب والقتال، كما لم يغن عنكم استكباركم عن الحق وترفعكم عن قبوله وها أنتم في أشد ألوان العذاب، ثم يشيرون لهم إلى ضعفة المسلمين الذين يسخرون منهم في الدنيا ويضربونهم ويهينونهم1 {أهؤلاء الذين أقسمتم} أي حلفتم {لا ينالهم الله برحمة2} ثم يقال لأصحاب الأعراف {ادخلوا3 الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون }.
وفي الآية الثالثة يقول تعالى مخبراً عن أصحاب النار وأصحاب الجنة {ونادى أصحاب النار أصحاب4 الجنة أن أفيضوا علينا من الماء}5 وذلك لشدة عطشهم {أو مما رزقكم الله} أي من الطعام وذلك لشدة جوعهم فيقال لهم: {إن الله حرمهما} أي شراب الجنة وطعامها {على الكافرين} فلا ينالوهما بحال من الأحوال.
ثم وصف الكافرين ليعرض جرائمهم التي اقتضت حرمانهم وعذابهم ليكون ذلك عظة وعبرة للكفار من قريش ومن سائر الناس فقال وهو ما تضمنته الآية الرابعة {الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون} أي نتركهم في عذابهم كما تركوا يومهم هذا فلم يعملوا له من الإيمان والصالحات، وبسبب جحودهم لآياتنا الداعية إلى الإيمان وصالح الأعمال.
__________
1 كبلال وعمار وصهيب وخباب وغبرهم من سائر ضعفة المؤمنين في كل أمة من الأمم التي وجد فيها مؤمنون مستضعفون.
2 جعل إيواء الله تعالى إياهم بدار رحمته التي هي الجنة بمنزلة النيل الذي هو حصول الأمر المحبوب المطلوب.
3 اختلف في القائل. والراجح أنه الله تعالى، وذلك بعد استقرار أهل الجنة فيها وأهل النار في النار ولم يبق إلا أصحاب الأعراف فيقول لهم الرب تبارك وتعالى: {ادخلوا الجنة}.
4 روي عن ابن عباس أنه قال: لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار في الفرج بعد اليأس فقالوا: يا رب إنّ لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم، فنظروا إليهم وإلى ما هم فيه من النعيم فعرفوهم.. فينادي الرجل أخاه أو قريبه قد احترقتُ فأغثني فيقول له إن الله حرّمهما على الكافرين.
5 في الآية دليل على أفضلية صدقة الماء، وفي الحديث: "أي الصدقة أعجب إليك؟ قال: الماء" وليس أدل من حديث الذي سقى كلباً عطشان فشكر الله له فغفر له.

هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- عدم إغناء المال والرجال أيَّ إغناء لمن مات كافراً مشركاً من أهل الظلم والفساد.
2- بشرى الضعفة من المسلمين بدخول الجنة وسعادتهم فيها.
3- تحريم اتخاذ شيء من الدين لهواً ولعباً.
4- التحذير من الاغترار بالدنيا حتى ينسى العبد آخرته فلم يعد لها ما ينفعه فيها من الإيمان وصالح الأعمال.
وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(52) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ(53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(54)
شرح الكلمات:
ولقد جئناهم : أي أهل أولاً ثم سائر الناس.
بكتاب: القرآن العظيم.
فصلناه على علم : بيناه على علم منَّا فبيّنا حلاله وحرامه ووعده ووعيده وقصصه ومواعظه وأمثاله.

تأويله: تأويل ما جاء في الكتاب من وعد ووعيد أي عاقبة ما أنذروا به.
وضل عنهم : أي ذهب ولم يعثروا عليه.
في ستة أيام : هي الأحد إلى الجمعة.
يغشي الليل النهار : يغطي كل واحد منهما الآخر عند مجيئه.
حثيثاً: سريعاً بلا انقطاع.
مسخرات : مذللات.
ألا: أداة استفتاح وتنبيه (بمنزلة ألو للهاتف).
له الخلق والأمر : أي له المخلوقات والتصرف فيها وحده لا شريك له.
تبارك: أي عظمت قدرته، وجلت عن الحصر خيراته وبركاته.
العالمين: كل ما سوى الله تعالى فهو عالم أي علامة على خالقه وإلهه الحق.
معنى الآيات:
بعد ذلك العرض لأحوال الناس يوم القيامة ومشاهد النعيم والجحيم أخبر تعالى أنه جاء قريشاً لأجل هدايتهم بكتاب عظيم هو القرآن الكريم وفصّله تفصيلاً فبين التوحيد ودلائله، والشرك وعوامله، والطاعة وآثارها الحسنة والمعصية وآثارها السيئة في الحال والمآل وجعل الكتاب هدى أي هادياً ورحمة يهتدي به المؤمنون وبه يرحمون.
هذا ما تضمنته الآية الأولى (52) وهي قوله تعالى: {ولقد جئناهم بكتاب فصَّلناه على علم1 هدىً2 ورحمةً لقوم يؤمنون} وأما الآية الثانية (53) فقد استبطأ الحق تعالى فيها إيمان أهل مكة الذين جاءهم بالكتاب المفصّل المبيَّن فقال: {هل يَنْظُرون} أي ما ينظرون {إلاّ تأويله} أي عاقبة ما أخبر به القرآن من القيامة وأهوالها، والنار وعذابها، وعندئذ يؤمنون، وهل ينفع يومئذ الإيمان؟ وهاهم أولاء يقولون {يوم يأتي تأويله} وينكشف الغطاء عما وعد به، {يقول الذين نسوه من قبل} أي قبل وقوعه، وذلك في الحياة الدنيا، نسوه فلم يعملوا بما ينجيهم فيه من العذاب يقولون: {قد جاءت رسل ربنا بالحق} اعترفوا بما
__________
1 أي: مناً به، فلم يقع فيه سهو ولا غلط وحاشاه تعالى أن يسهو أو يغلط.
2 {هدى ورحمة} منصوبان على الحال، ويصح فيهما الرفع والخفض فالرفع على الابتداء أي: هو هدى ورحمة، والخفض على النعت لكتاب أي: ذي هداية ورحمة، وخُص المؤمنون بالهدى والرحمة لأنهم أحياء، وأمّا الكافرون فهم أموات.

كانوا به يجحدون ويكذبون ثم يتمنون ما لا يتحقَّق لهم أبداً فيقولون: {فهل1 لنا من شفعاء فيشفعوا لنا؟ أو نردُّ} إلى الدنيا {فنعمل غير الذي كنا نعمل} من الشرك والشر والفساد. وتذهب تمنياتهم أدراج الرياح، ولم يرُعْهُمْ إلا الإعلان التالي: {قد خسروا2 أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون} ، خسروا أنفسهم في جهنم، وضاع منهم كلَّ أمل وغاب عنهم ما كانوا يفترون من أنَّ آلهتهم وأولياءهم يشفعون لهم فينجونهم من النار ويدخلونهم الجنة.
وفي الآية الأخيرة يقول تعالى لأولئك المتباطئين في إيمانهم {إنَّ ربَّكم} الذي يُحبُّ أن تعبدوه وتدعوه وتتقربوا إليه وتطيعوه {اللهُ الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يُغْشِي اللّيْلَ النَّهار يطلبه3 حثيثاً والشمس والقمرَ والنجّومَ مسخراتٍ بأمره} هذا هو ربكم الحق وإلهكم الذي لا إله لكم غيره، ولا ربَّ لكم سواه، أمّا الأصنام والأوثان فلن تكون ربّاً ولا إلهاً لأحد أبداً لأنّها مخلوقة غير خالقة وعاجزة عن نفع نفسها، ودفع الضّر عنها فكيف بغيرها؟ إنّ ربّكم ومعبودكم الحقّ الذي له4 الخلق كلّه ملكاً وتصرفاً وله الأمر وحده يتصرف كيف يشاء في الملكوت كله. علويّه وسفليّه فتبارك الله رب العالمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- لا ينفع الإيمان عند معاينة الموت والعذاب كما لا ينفع يوم القيامة.
2- يحسن التثبت في الأمر والتأني عند العمل وترك العجلة، فالله قادرٌ على خلق السمَّوات والأرض في ساعة ولكن خلقها في ستة5 أيام بمقدار أيام الدّنيا تعليماً وإرشاداً إلى التثبت في الأمور والتأني فيها.
3- صفة من صفات الرب تعالى التي يجب الإيمان بها ويحرم تأويلها أو تكييفها وهي
__________
1 { فهل لنا من شفعاء} ؟ الاستفهام مشوب بالتمني.
2 خسران النفس أكبر خسران إذ هو آخر ما يخسر، فإنّ مَنْ خسر نفسه فقد خسر كل شيء قال تعالى : {قل إنّ الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة} ومعنى: خسران المس: عدم الانتفاع بها.
3 أي: يطلبه طلباً حثيثاً أي سريعاً، إذ الحث: الإعجال والسرعة.
4 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح وحمد نفسه فقد كفر وحبط عمله" أخرجه ابن كثير نقلاً عن ابن جرير. وقال ابن عيينة: فرَّق الله بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما لقد كفر إذ قال: { ألا له الخلق والأمر} فالخلق غير الأمر فمن قال: الأمر مخلوق فقد كفر.
5 أصل ستة: سدسة فأرادوا إدغام الدال في السين فالتقيا عند مخرج التاء فغلبت عليها فصارت ستة ولذا تصغر على سديسة وتجمع على أسداس، والجمع والتصغير يردّان الأسماء إلى أصولها، ويقال: جاء فلان سادس ستة.

استواؤه تعالى على عرشه. 1
4- انحصار الخلق كلّ الخلق فيه تعالى فلا خالق إلا هو، والأمر كذلك فلا آمر ولا ناهي غيره. هنا قال عمر: من بقي له شيء فليطلبه إذ لم يبق شيء ما دام الخلق والأمر كلاهما لله.
ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ(55) وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ(56)
شرح الكلمات:
ادعوا ربكم : سلوه حوائجكم الدنيوية والأخروية فإنّه ربّكم فلا تستحيوا من سؤاله.
تضرعاً وخفية : أي حال كونكم ضارعين متذللين مخفي الدعاء غير رافعين أصواتكم به.
المعتدين: أي في الدعاء وغيره والاعتداء في الدعاء أن يسأل الله ما لم تجر سنته بإعطائه أو إيجاده أو تغييره كأن يسأل أن يكون نبياً أو أن يرد طفلاً أو صغيراً، أو يرفع صوته بالدعاء.
ولا تفسدوا في الأرض: أي بالشرك والمعاصي بعد إصلاحها بالتوحيد والطاعات.
المحسنين : الذين يحسنون أعمالهم ونياتهم، بمراقبتهم الله تعالى في كل أحوالهم.
معنى الآيات:
ما عرّف تعالى عباده بنفسه وأنه ربهم الحق وإلههم، وأنه الخالق الآمر المتصرف بيده كل شيء أمرهم إرشاداً لهم أن يدعوه، وبين لهم الحال التي يدعونه عليها، ليستجيب لهم
__________
1 من أحسن ما يؤثر في مسألة الاستواء قول مالك رحمه الله تعالى إذ قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عن هذا بدعة، ويروى مثله عن أم سلمة رضي الله عنها.

فقال: {ادعوا ربكم تضرعاً1} أي تذللاً وخشوعاً {وخفية} 2 أي سراً لا جهراً، ونهاهم عن الاعتداء في الدعاء حيث أعلمهم أنه لا يحب المعتدين، والاعتداء في الدعاء أي يُدْعَى غير الله تعالى أو يدعى معه غيره، ومنه طلب ذوات الأسباب بدون إعداد أسبابها، أو سؤال ما لم تجر سنة الله به كسؤال المرء أن يكون نبياً أو يرد من كهولته إلى شبابه أو من شبابه إلى طفولته.
ثم بعد هذا الإرشاد والتوجيه إلى ما يكملهم ويسعدهم نهاهم عن الفساد في الأرض بعد أن أصلحها تعالى والفساد في الأرض يكون بالشرك والمعاصي، والمعاصي تشمل سائر المحرمات كقتل الناس وغصب أموالهم وإفساد زروعهم وإفساد عقولهم بالسحر والمخدرات وأعراضهم بالزنى والموبقات. ومرة أخرى يحضهم على دعائه لأن الدعاء هو العبادة وفي الحديث الصحيح "الدعاء هو العبادة" فقال: ادعوا ربكم أي سلوه حاجاتكم حال كونكم في دعائكم خائفين من عذابه طامعين راجين رحمته وبين لهم أن رحمته قريب3 من المحسنين الذين يحسنون نيّاتهم وأعمالهم ومن ذلك الدعاء فمن أحسن الدعاء ظفر بالإجابة، فثواب المحسنين قريب الحصول بخلاف المسيئين فإنه لا يستجاب لهم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- وجوب دعاء الله تعالى فإن الدعاء هو العبادة.
2- بيان آداب الدعاء وهو: أن يكون الداعي ضارعاً متذللاً، وأن يخفي دعاءه فلا يجهر به، وأن يكون حال الدعاء خائفاً طامعاً4، وأن لا يعتدي في الدعاء بدعاء غير الله تعالى أو سؤال ما لم تجر سنة الله بإعطائه.
3- حرمة الإفساد في الأرض بالشرك والمعاصي بعد أن أصلحها الله تعالى بالإسلام.
4- الترغيب في الإحسان مطلقاً خاصاً وعاماً حيث أن الله تعالى يحب أهله.
__________
1 اختلف في رفع اليدين في الدعاء والأكثرون على استحبابه لفعله صلى الله عليه وسلم.
2 روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي".
3 عدم تأنيث قريب مع أنه خبر عن مؤنث، تكلم فيه كثيراً وأحسن ما قيل في مثله أن لفظ قريب وبعيد إذا أطلق على النسب تعيّن التذكير والتأنيث بحسب المخبر عنه نحو: زيد قريب عمر، وعائشة قريبة بكر مثلا، وما كان لغير النسب جاز تذكيره وتأنيثه قال تعالى: {وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً} وقال: {وما هي من الظالمين ببعيد} فذكّر في الموضعين مع أنّ الوصف عائد على مؤنث.
4 ويصح نصب خوفاً وطمعاً مفعولين لأجله أي ادعوه لأجل الخوف منه والطمع فيه، ونصبهما على الحال كما في التفسير حسن أيضاً.

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ(58)
شرح الكلمات:
الرياح: جمع ريح وهو الهواء المتحرك.
بشيراً1 : جمع بشير أي مبشرات بقرب نزول المطر، قرىء نشراً أي تنشر السحاب للأمطار.
رحمته : أي رحمة الله تعالى وهي المطر.
أقلت سحاباً ثقالاً : أي حملت سحاباً ثقالاً مشبعاً ببخار الماء.
ميت : لا نبات به ولا عب ولا كلأ.
كذلك نخرج الموتى : أي كذلك نحيي الموتى ونخرجهم من قبورهم أحياء.
تذكرون: تذكرون فتؤمنون بالبعث والجزاء.
الطيب : أي الطيب التربة.
خبث : أي خبثت تربته بأن كانت سبخة.
إلا نَكِداً: أي إلا عسراً.
نصرف الآيات: أي ننوعها ونخالف بين أساليبها ونذكر في بعضها ما لم نذكره في بعضها للهداية والتعليم.
لقوم يشكرون : لأنهم هم الذين ينتفعون بالنعم بشكرها بصرفها في محاب الله تعالى.
__________
1 كرسل جمع رسول، وسكّن بشراً للتخفيف كما تسكن السين في رُسُل فيقال: رُسْل على وزن فُعْل.

معنى الآيتين:
مازال السياق الكريم في بيان مظاهر القدرة الربانية والرحمة الإلهية الموجبة لعبادته تعالى وحده دون سواه قال تعالى {وهو الذي يرسل الرياح بشراً} وهو أي ربكم الحق الذي لا إله إلا هو وبشراً أي مبشرات1 ونشراً أي تنشر الرياح تحمل السحب الثقال ليسقي الأرض الميتة فتحيا بالزروع والنباتات لتأكلوا وترعوا أنعامكم، وبمثل هذا التدبير ني إنزال المطر وإحياء الأرض بعد موتها يحييكم بعد موتكم فيخرجكم من قبوركم أحياء ليحاسبكم على كسبكم في هذه الدار ويجزيكم به الخير بالخير والشر بمثله جزاء عادلاً لا ظلم فيه وهذا الفعل الدال على القدرة والرحمة ولطف التدبير يُريكموه فترونه بأبصاركم لعلكم به تذكرون أن القادر على إحياء موات الأرض قادر على إحياء موات الأجسام فتؤمنوا بلقاء ربكم وتوقنوا به فتعملوا بمقتضى ما يسعدكم ولا يشقيكم فيه.
هذا ما تضمنته الآية الأولى (57) {وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته} أي المطر {حتى إذا أقلَّت} أي حملت {سحاباً ثقالاً} أي ببخار الماء {سقناه} بقدرتنا ولطف تدبيرنا {لبلد ميت2} لا حياة به لا نبات ولا زرع، ولا عشب {فأنزلنا به} أي بالسحاب {الماء} العذب الفرات، {فأخرجنا به من كل الثمرات} المختلفة الألوان والروائح والطعوم {كذلك نخرج الموتى} كهذا الإخراج للنبات من الأرض الميتة نخرج الموتى3 من قبورهم وعملنا هذا نسمعكم إياه ونريكموه بأبصاركم رجاء أن تذكروا فتذكروا أن القادر على إحياء الأرض قادر على إحياء الموتى رحمة منا بكم وإحساناً منا إليكم.
أما الآية الثانية (58) فقد تضمنت مثلاً ضربه الله تعالى للعبد المؤمن والكافر إثر بيان قدرته على إحياء الناس بعد موتهم فقال تعالى: {والبلد الطيب} أي طيب التربة {يخرج نباته بإذن ربه} وذلك بعد إنزال المطر به، وهذا مثل العبد المؤمن ذي القلب الحي الطيب إذا سمع ما ينزل من الآيات يزداد إيمانه وتكثر أعماله الصالحة {والذي خبث} أي والبلد الذي تربته خبيثة سبخة أو حمأة عندما ينزل به المطر لا يخرج نباته إلا نكداً4 عسراً قليلاً غير
__________
1 قرىء {بُشرا} بضم الباء، وقرئ {نشرا} بالنون المضمومة، وهما قراءتان سبعيتان وفسرت الكلمتان بحسب ما تدلان عليه فتأمل، وفيهما قراءات أخرى من حيث الحركات كضم الباء مع الشين، وبشرى بالألف المقصورة.
2 البلد والبلدة بمعنى ويجمع على بلاد وبلدان.
3 روى مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم يرسل الله أو قال: ينزل الله مطراً كأنّه الطلّ فتنبت منه أجساد الناس، ثم قال:أيها الناس هلموا إلى ربكم وقفوهم إنهم مسؤولون" الحديث.
4 النكد: العسر الممتنع من إعطاء الخير من الناس، وشبه به البلد الخبيث التربة كذات الحجارة أو السبخة.

صالح وهذا مثل الكافر عندما يسمع الآيات القرآنية لا يقبل عليها ولا ينتفع بها في خُلقه ولا سلوكه فلا يعمل خيراً ولا يترك شراً.
وقوله تعالى: {كذلك نصرف الآيات} أي ببيان مظاهر قدرته تعالى وعلمه وحكمته ورحمته وضرب الأمثال وسوق الشواهد والعبر {لقوم يشكرون} إذ هم المنتفعون بها أما الكافرون الجاحدون فأنى لهم الانتفاع بها وهم لا يعرفون الخير ولا ينكرون الشر.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- تقرير عقيدة البعث والحياة بعد الموت للحساب والجزاء إذ هي من أهم أركان الإيمان.
2- الاستدلال بالحاضر على الغائب وهو من العلوم النافعة.
3- حسن ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.
4- فضيلة الشكر وهو صرف النعمة فيما من أجله وهبها الله تعالى للعبد.
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(59) قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ(60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ(61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ(62) أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ(64)

شرح الكلمات:
نوحاً : هذا أول الرسل هذا العبد الشكور هو نوح بن لَمْك بن متوشلخ بن أخنوخ أي أدريس1 عليهما السلام، أحد أولى العزم الخمسة من الرسل عاش داعياً وهادياً ومعلماً ألفاً ومائتين وأربعين سنة، ومدة الدعوة ألف سنة إلاَّ خمسين عاماً، وما بعدها عاشها هادياً ومعلماً وللمؤمنين.
عذاب يوم عظيم : هو عذاب يوم القيامة.
الملأ: أشراف القوم ورؤساؤهم الذين يملأون العين والمجلس.
وأنصح لكم : أريد لكم الخير لا غير.
أوَ عجبتم: الاستفهام للإنكار، وعجبتم الواو عاطفة والمعطوف عليه جملة: هي كذبتم أي أكذبتم وعجبتم.
لينذركم: أي العذاب المترتب على الكفر والمعاصي.
ولتتقوا: أي الله تعالى بالإيمان به وتوحيده وطاعته فترحمون فلا تعذبون.
والذين معه في الفلك: هم المؤمنون من قومه والفلك هي السفينة التي صنعها بأمر الله تعالى وعونه.
عمين : جمع عمٍ2 وهو أعمى البصيرة أما أعمى العينين يقال فيه أعمى.
معنى الآيات:
هذا شروع في ذكر قصص ستة من الرسل وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام والمراد من ذكر هذا القصص هو تنويع أسلوب الدعوة ليشاهد المدعون من كفار قريش صوراً ناطقة ومشاهد حية لأمم سبقت وكيف كانت بدايتها وبم ختمت نهايتها، وهي لا تختلف إلا يسيراً عما هم يعيشونه من أحداث الدعوة والصراع الدائر بينهم وبين نبيهم لعلهم يتعظون.، ومع هذا فالقصص يقرر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إذ لو لم يكن رسولاً يوحى إليه لما تأتى له أن يقص من أخبار الماضين ما بهر العقول كما أن المؤمنين مع نبيهم يكتسبون من العبر ما يحملهم على الثبات والصبر، ويجنبهم القنوط واليأس من حسن العافية والظفر والنصر.
__________
1 الظاهر أن إدريس هنا ليس هو إدريس النبي الرسول عليه السلام- والله أعلم.
2 يقال: رجل عمٍ أي جاهل بكذا.

وهذا أول قصص بقوله تعالى فيه {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه1} أي وعزتنا لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه كما أرسلناك أنت يا رسولنا إلى قومك من العرب والعجم، فقال: أي نوح في دعوته: {يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره2} أي ليس لكم على الحقيقة إله غيره، إذ إلإله الحق من يخلق ويرزق ويدبر فيحيي ويميت ويعطي ويمنع، ويضر وينفع، ويسمع ويبصر فأين هذا من آلهة نحتموها بأيديكم، ووضعتموها في بيوتكم عمياء لا تبصر صماء لا تسمع بكماء لا تنطق فكيف يصح أن يطلق عليها اسم الإله وتعبد {إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} أنذرهم عذاب يوم القيامة إن هم أصروا على الشرك والعصيان فأجابه الملأ3 منهم وهم أهل الحل والعقد في البلاد قائلين: {إنا لنراك في ضلال مبين} بسبب موقفك العدائي هذا لآلهتنا، ولعبادتنا إياها فأجاب عليه السلام قائلاً: {يا قوم ليس بي ضلالة} مجرد ضلالة فكيف بالضلال كله كما تقولون، {ولكني رسول من رب العالمين} أي إليكم {أبلغكم رسالات ربي وأنصح4 لكم} أي بما هو خير لكم في حالكم ومآلكم، واعلموا أني {وأعلم من الله ما لا تعلمون} فأنا على علم بما عليه ربي من عظمة وسلطان، وجلال، وجمال، وما عنده من رحمة وإحسان، وما لديه من نكال وعذاب، وأنتم لا تعلمون فاتقوا الله إذاً وأطيعوني يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى آجالكم، ولا يعجل بفنائكم وواصل حديثه معهم وقد دام ألف سنة إلا خمسين عاماً قائلاً: أكذبتم بما دعوتكم إليه وجئتكم به وعجبتم5 أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم، ولتتقوا الله بتوحيده وعبادته وطاعته رجاء أن ترحموا فلا تعذبوا أمن هذا يتعجب العقلاء؟ وكانت النتيجة لهذه الدعوة المباركة الخيّرة أن كذبوه فأنجاه ربه والمؤمنين معه، وأغرق الظالمين المكذبين، لأنهم كانوا قوماً عمين فلا يستحقون البقاء والنجاة قال تعالى {فكذبوه فأنجيناه والذين معه في
__________
1 نوح: هو أوّل الرسل من حيث أنه حارب الشرك ودعا إلى التوحيد، وهل إدريس من ذريته أو من آبائه خلاف، أمّا شيت بن آدم فقطعاً هو من آبائه.
2 غيره: مرفوع على النعت لأنه المرفوع تقديراً، إذ الأصل رفعه، وجُرَّ بحرف الجرّ الزائد الذي هو مِنْ.
3 الملأ: هم أشراف القوم ورؤساؤهم الذين إذا نظر إليهم ملأوا العين وإذا جلسوا ملأوا المجلس، هذا أصل الكلمة.
4 النصح: إخلاص القول والعمل من شوائب الفساد، بمعنى تخليص القول أو العمل مما هو ضار أو غير نافع للمنصوح له، ويقال نصحه ونصح له والمعنى واحد، والاسم النصيحة، والناصح الخالص من العسل مثل الناصح الذي لا شائبة فيه.
5 قوله تعالى: { أو عجبتم} الهمزة للاستفهام، والواو عاطفة على جملة محذوفة كما هي في التفسير.

الفلك1، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماً عمين2} لا يبصرون الآيات ولا يرون النذر والشواهد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كنبوة نوح عليه السلام.
2- تقرير وتأكيد التوحيد، وبيان معنى لا إله إلا الله.
3- التحذير من عذاب يوم القيامة بالتذكير به.
4- أصحاب المنافع من مراكز وغيرها هم الذين يردون دعوه الحق لمنافاتها للباطل.
5- تقرير مبدأ العاقبة للمتقين.
6- عمى القلوب أخطرهن عمى العيون على صاحبه.
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ(65) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ(66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ(67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ(68) أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(69)
__________
1 الفلك يكون واحداً وجمعاً ويذكر ويؤنث.
2 {عمين} أي: عن الحق وعن معرفة الله وقدرته ولطفه، وإحسانه يقال رجلٌ عَمٍ بكذا أي: جاهل به لا يعرفه.

شرح الكلمات:
وإلى عاد: أي ولقد أرسلنا إلى عاد وهم قبيلة عاد، وعاد أبو القبيلة وهو عاد بن عوص ابن إرم بن سام بن نوح عليه السلام.
أخاهم هوداً : أخاهم في النسب لا في الدين. وهود هو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام ابن نوح عليه السلام.
أفلا تتقون: أي أتصرّون على الشرك فلا تتَّقون عذاب الله بالإيمان به وتوحيده، والاستفهام إنكاري أي ينكر عليهم عدم تقواهم لله عز وجل.
في سفاهة : السفاهة كالسّفَه وهو خِفّة العقل، وقلّة الإدراك والحلم.
أمين: لا أخونكم ولا أغشكم ولا أكْذِبُكم، كما أني مأمون على رسالتي لا أفرط في إبلاغها.
بسطة : أي طولاً في الأجسام، إذ كانوا عمالق من عظم ص أجسادهم وطولها.
آلاء الله : نعمه واحدها أَلىً وإلىً واْليٌ وإلْوٌ والجمع آلاء.
تفلحون: بالنجاة من النار في الآخرة، والهلاك في الدنيا.
معنى الآيات:
هذا هو القصص الثاني، قَصَصُ هود عليه السلام مع قومه عاد الأولى التي أهلكها الله تعالى بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام. قوله تعالى {وإلى عاد1} أي وأرسلنا إلى قبيلة عاد أخاهم من النسب هوداً فماذا قال لهم {قال يا قوم اعبدوا الله} أي وحدوه في العبادة ولا تعبدوا معه آلهة أخرى. وقوله: {مالكم من إله غيره} أي ليس لكم أي إله غير الله، إذ الله هو الإله الحق وما عداه فآلهة باطلة، لأنه تعالى يخلق وهم لا يخلقون. ويرزق وهم لا يرزقون ويدبر الحياة بكل ما فيها وهم مدبَّرون لا يملكون نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً فكيف يكونون آلهة. ثم حضهم على التقوى وأنكر عليهم تركهم لها فقال عليه السلام لهم : {أفلا تتقون} أي الله ربّكم فتتركوا الشرك وتوحدوه؟ فأجاب الملأ الذين كفروا من قومه، بأسوأ إجابة وذلك لكبريائهم واغترارهم فقالوا: {إنا لنراك في
__________
1 عاد: آمّة عظيمة كانوا أكثر من عشر قبائل، ومنازلهم كانت ببلاد العرب من حضرموت والشّحر إلى عُمان، وعاد اسم القبيلة وصرف لأنّه ثلاثي ساكن الوسط كهند ودعد.

سفاهة} أي حمق وطيش وعدم بصيرة بالحياة وإلا كيف تخرج عن إجماع قومك، وتواجههم بعيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم، {وإنا لنظنك من الكاذبين} فيما جئت به أي من الرسالة، ودعوت إليه من التوحيد ونبذ الآلهة غير الله تعالى، فأجاب هود عليه السلام راداً شبهتهم فقال: {يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين} أي أني لست كما تزعمون أن بي سفاهة ولكني أحمل رسالة أبلغكموها، وأنا في ذلك ناصح لكم مريد لكم الخير أمين1 على وحي الله تعالى إلي، أمين لا أغشكم ولا أخونكم فما أريد لكم إلا الخير. ثم واصل دعوته فقال {أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربَّكم} أي أكذبتم برسالاتي وعجبتم من مجيئكم ذكر من ربكم {على رجل منكم لينذركم} أي عواقب كفركم وشرككم، أمن مثل هذا يتعجب العقلاء أم أنتم لا تعقلون؟.
ثم ذكرهم بنعم الله تعالى عليهم لعلّها تُحدْثُ لهم ذكراً في نفوسهم فيتراجعون بعد عنادهم وإصرارهم فقال: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء2 من بعد قوم نوح} أي بعد أن أهلكهم بالطوفان لإصرارهم على الشرك {وزادكم في الخلق بسطة3} أي جعل أجسامكم قوية وقاماتكم طويلة هذه نعم الله عليكم {فاذكروا آلاء4 الله لعلكم تفلحون} لأنكم إن ذكرتموها بقلوبكم شكرتموها بأقوالكم وأعمالكم، وبذلك يتم الفلاح لكم، وهو نجاتكم من المرهوب وظفركم بالمحبوب وذلك هو الفوز المطلوب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الدعوة إلى عبادة الله وترك عبادة ما سواه وهو معنى لا إله إلا الله.
2- مشروعية دفع الإتهام، وتبرئة الإنسان نفسه مما يتهم به من الباطل.
3- من وظائف الرسل عليهم السلام البلاغ لما أمروا بإبلاغه.
__________
1 الأمين: هو الموصوف بالأمانة، والأمانة أعز أوصاف البشر وفي الحديث "لا إيمان لمن لا أمانة له" ويروى: "لمن لا أمان له".
2 الخلفاء: جمع خليفة وهو الذي يخلف غيره في شيء أي: يتولى العمل الذي كان يقوم به الآخر، كما يجمع خليفة على خلائف.
3 ويجوز بصطة: بالصاد أي طولاً في الأجسام قيل كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعاً، فالزيادة كانت على خلق من قبلهم، وذكر القرطبي أموراً عجباً لا يحسن ذكرها.
4 الآلاء: مفرده إلي ويعرف فيقال الإلي وهو: النعمة وهو على وزن عِنَب وأعناب ونظيره إن أي: الوقت والجمع آناء قال تعالى: {ومن آناء الليل فسبّح} الخ.

4- فضيلة النصح وخُلُق الأمانة.
5- استحسان التذكير بالنعم فإن ذلك موجب للشكر والطاعة.
قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي1 فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ(71) فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ(72)
شرح الكلمات:
ونذر : أي نترك.
بما تعدنا : أي من العذاب.
رجس : سخطٌ موجبٌ للعذاب.
أتجادلونني: أي أتخاصمونني.
من سلطان: أي من حجّة ولا برهان يثبت أنها تستحق العبادة.
دابر: دابر القوم آخرهم، لأنه إذا هلك آخر القوم هلك أولهم بلا ريب.
__________
1 {أتجادلونني في أسماء } أي: في الأصنام التي أطلقوا عليها أسماء كاللاّت، والعزّى ومناة عند قريش ومشركي العرب، فأطلق الاسم وأريد به المسمَّى.

معنى الآيات:
مازال السياق في قصص هود عليه السلام، فهاهم أولاء يردُّون على دعوة هود بقول الملأ منهم {أجئتنا1 لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا} وتهددنا إن نحن لم نترك عبادة آلهتنا، {فأتنا بما تعدنا} به من العذاب2 {إن كنت من الصَّادقين} في دعواك فرد هود عليه السلام على قولهم هذا قائلاً قد وقع3 عليكم رجس4 أي سخط وغضب من الله تعالى وأن عذابكم لذلك أصبح متوقعاً في كل يوم فاضطروا ما سَيَحِلٌّ بكم {إني معكم من المنتظرين} قال تعالى {فأنجيناه5 والذين معه برحمة منّا} أي بعد إنزال العذاب، ومن معه من المؤمنين برحمة منا خاصة لا تتم إلا لمثلهم، {وقطعنا دابر القوم الذين كذبوا بآياتنا، وما كانوا مؤمنين} أهلكناهم بخارقة ريح تدمر كل شيء بأمر بها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، وكذلك جزاء الظالمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- احتجاج المشركين على صحَّة باطلهم بفعل آبائهم وأجدادهم يكاد يكون سنّةً مطَّردةً في الأمم والشعوب، وهو التقليد المذموم.
2- من حمق الكافرين استعجالهم بالعذاب، ومطالبتهم به.
3- آلهة الوثنيين مجرّد أسماء لا حقائق لها إذ إطلاق المرء اسم إله على حجر لا يجعله إلهاً ينفع ويضر، ويحيى ويميت.
4- قدرة الله تعالى ولطفه تتجلَّى في إهلاك عاد وإنجاء هود والمؤمنين.
__________
1 الاستفهام هنا إنكاري أنكروا على نبي الله هود دعوته إيّاهم إلى التوحيد وكان جوابهم هذا أقل جفوة من السابق الذي اتهموه فيه بالسفاهة والكذب.
2 ذكر العذاب في سورة الأحقاف إذ قال تعالى: { واذكر أخاً عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألاّ تعبدوا إلاّ الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم}.
3 {قد وقع} بمعنى: وجب، يقال: وقع الحكم أو القول إذا وجب.
4 وفسّر الرجس بالعذاب أو الرّين على القلوب بزيادة الكفر.
5 روي أنّ هوداً ومن معه من المؤمنين نزحوا إلى مكة وأقاموا بها بعد هلاك قومهم.

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(73) وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ(74) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ(75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ(76)
شرح الكلمات:
وإلى ثمود: أي أرسلنا إلى ثمود، وثمود قبيلة سميت باسم جدها وهو ثمود1 بن عابر بن إرم بن سام بن نوح.
أخاهم صالحاً: أي في النسب وصالح هو صالح بن عبيد بن آسف كاشح بن عبيد بن حاذر بن ثمود.
آية : علامة على صدقي في أني رسول الله إليكم.
وبوأكم في الأرض : أنزلكم فيها منازل تحبون فيها.
__________
1 ثمود: هو أخو جديس.

وتنحتون : تنجرون الحجارة في الجبال لتتخذوا منازل لكم لتسكنوها.
آلاء الله : نعم الله تعالى وهي كثيرة.
ولا تعثوا: أي لا تفسدوا في الأرض مفسدين.
استكبروا: عتوا وطغوا وتكبروا فلم يقبلوا الحق ولم يعترفوا به.
معنى الآيات:
هذا القصص الثالث قصص نبي الله صالح عليه السلام قال تعالى {وإلى ثمود أخاهم صالحاً} أي وأرسلنا إلا قبيلة ثمود1 أخاهم صالحاً نبياً أرسلناه بما أرسلنا به رسلنا من قبله ومن بعده بكلمة التوحيد {قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره} وهذا مدلول كلمة الإخلاص التي جاء بها خاتم الأنبياء "لا إله إلا الله "{ قد جاءتكم بينة من ربكم} تشهد بأنه لا إله إلا هو، وأني رسوله إليكم، هذه البينة2 ناقة تخرج من صخرة في جبل، {هذه ناقة3 الله لكم آية} علامة وأية علامة على صدقي في إرسال الله تعالى لي رسولاً إليكم لتعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئاً، فذروا هذه الناقة تأكل في أرض4 الله {ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم} ، فكانت الناقة ترعى في المرج، وتأتي إلى ماء القوم فتشربه كله، ويتحول في بطنها إلى لبن خالص فيَحْلِبون ما شاءوا وقال لهم يوماً هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم، ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم، ووعظهم عليه السلام بقوله: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد} أي بعد هلاكهم، وكانت ديار عاد بحضرموت جنوب الجزيرة العربية وديار ثمود بالحجر شمال الجزيرة بين الحجاز والشام. وقوله {وبوأكم في الأرض} أرض الحِجْر تتخذون من سهولها قصوراً5 تسكنونها في الصيف، وتنحتون من الجبال بيوتاً تسكنونها في الشتاء، {فاذكروا آلاء الله} أي نعمه العظيمة لتشكروها بعبادته وحده دون ما أتخذتم من أصنام، وحذَّرهم من عاقبة الفساد فقال {ولا تَعْثَوْا في الأرض مفسدين} أي لا تنشروا الفساد في الأرض بالشرك وارتكاب المعاصي وإزاء هذه الدعوة
__________
1 ثمود: يصرف ولا يصرف فمن صرفه: على أنه اسم للحي، ومن منعه: على أنه علم على القبيلة.
2 هذه الناقة هم الذين طالبوا بها لتكون آية على صدق نبوّة صالح، ولمّا جاءتهم كفروا بها.
3 إضافة الناقة إلى الله تعالى للتشريف والتخصيص إذ كل ما في الكون هو لله عزّ وجلّ.
4 أي: ليس عليكم رزقها ومؤونتها.
5 استدل بعضهم على جواز بناء القصور للسكن بهذه الآية وبحديث: "إنّ الله إذا أنعم علي عبد أحب أن يرى أثر النعمة عليه" وكره ذلك بعض، لحديث: "وما أنفق المؤمنين من نفقة فإنّ خلفها على الله عزّ وجلّ إلاّ ما كان في بنيان أو معصيّة" رواه الدار قطني.==

ج4.

الكتاب : أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير
المؤلف : جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري
الناشر : مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية
الطبعة : الخامسة، 1424هـ/2003م
مصدر الكتاب : موقع مكتبة المدينة الرقمية
http://www.raqamiya.org
[ الكتاب موافق للمطبوع ، ومعه حاشيته المسماة نهر الخير على أيسر التفاسير ] الصادقة الهادفة إلى هداية القوم وإصلاحهم لينجوا من عاقبة الشرك والشر والفساد {قال الملأ الذين استكبروا من قومه} أي قوم صالح، قالوا {للذين استضعفوا لمن آمن1 منهم} أي لمن آمن من ضعفاء القوم: {أتعلمون أن صالحاً مرسلٌ من ربه}، وهو استفهام سخرية واستهزاء دال على صلف القوم وكبريائهم، فأجاب المؤمنون من ضعفة القوم قائلين {إنا بما أرسل به مؤمنون} قالوها واضحةً صريحةً مُعْلنةً عن إيمانهم بما جاء به رسول الله صالح غير خائفين، وهنا ردٌ المستكبرون قائلين: {إنا بالذي آمنتم به كافرون} وإمعاناً منهم في الجحود والتكبّر، لم يقولوا إنا بما أرسل به كافرون حتى لا يعترفوا بالرسالة ولو في جواب رد الكلام فقالوا {إنا بالذي آمنتم به كافرون}.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- اتحاد دعوة الرسل في الإيمان بالله والكفر بالطاغوت أي في عبادة الله وحده.
2- تقرير إرسال الرسل بالآيات وهي المعجزات وآية صالح أعجب آية وهي الناقة.
3- وجوب التذكير بنعم الله إذ هو الباعث على الشكر، والشكر هو الطاعة.
4- النهي عن الفساد في الأرض والشرك وارتكاب المعاصي.
5- الضعفة هم غالباً أتباع الأنبياء: وذلك لخلوهم من الموانع كالمحافظة على المنصب أو الجاه أو المال، وعدم إنغماسهم في الملاذ والشهوات.
فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ(77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ(78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ(79)
__________
1 {لمن آمن} بدل من (الذين استضعفوا) بدل بعضٍ من كلّ.

شرح الكلمات:
فعقروا الناقة : نحروها بعد أن عقروا قوائمها أي قطعوها، والناقة هي الآية.
وعتوا عن أمر ربهم : تمردوا عن الأمر وعصوا فلم يطيعوا.
الرجفة : المرة من رجف إذا اضطرب، وذلك لما سمعوا الصيحة أخذتهم الرجفة.
جاثمين1 : باركين على الركب كما يجثم الطير أي هلكى على ركبهم.
فتولى عنهم : بعد أن هلكوا نظر إليهم صالح وهم جاثمون وقال راثياً لحالهم {يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي} إلى قوله {ولكن لا تحبون الناصحين} ثم أعرض عنهم وانصرف.
معنى الآيات:
مازال السياق في قصص صالح عليه السلام فإنه بعد تلك الدعوة الطويلة العريضة والمستكبرون يردونها بصلف وكبرياء، وطالبوا بالآية لتدل على صدقه وأنه من المرسلين وأوتوا الناقة آية مبصرة ولجوا في الجدال والعناد وأخيراً تمالؤوا على قتل الناقة وعقروها {فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها}.
قوله تعالى في الآية الأولى (77) {فعقروا2 الناقة وعتوا عن أمر ربهم} يخبر تعالى أن قوم صالح عقروا الناقة قطعوا أرجلها ثم نحروها وهو العقر، وعتوا بذلك وتكبروا متمردين عن أمر الله تعالى حيث أمرهم أن يتركوها تأكل في أرض الله ولا يمسوها بسوء فإذا بهم يعقرونها تحدياً وعناداً، {وقالوا يا صالح} بدل أن يقولوا يا رسول الله أو يا نبي الله {ائتنا بما تعدنا} أي من العذاب إن مسسنا الناقة بسوء فقد نحرناها فأتنا بالعذاب إن كنت كما تزعم من المرسلين قال تعالى {فأخذتهم الرجفة} وهي هزة عنيفة اضطربت لها القلوب والنفوس نتيجة صيحة لملك عظيم صاح فيهم صباح السبت3 كما قال تعالى {فأخذتهم الصيحة
__________
1 أصل الجثوم للأرانب وما شابهها وموضع الجثوم يقال لهم: مجثم. قال زهير:
بها العين والآرام يمشين خلفه ... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
2 العقر: الجرح أو قطع عضو يؤثر في النفس، يقال: عقر الفرس إذا ضرب قوائمه بالسيف، وقيل للنحر عقر: لأنّه بسبب النحر غالبا.
3 هو بداية اليوم الرابع، إذ قال لهم: {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام} فكانت الأربعاء والخميس والجمعة والسبت أهلكهم الله تعالى.

مشرقين} ولما هلكوا وقف عليهم صالح كالمودع كما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل القليب ببدرٍ فناداهم يا فلان يا فلان كذلك صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وقف عليهم وهم خامدون وقال كالراثي المتحسر {يا قوم لقد أبلغتكم1 رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين} وتولى عنهم وانصرف.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حلول نقمة الله تعالى بكل من عتا عن أمره سبحانه وتعالى.
2- مشروعية الرثاء لمن مات أو أصيب بمصاب عظيم.
3- علامة قرب ساعة الهلاك إذا أصبح الناس يكرهون النصح ولا يحبون الناصحين.
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ(80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ(81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ(82) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ(83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ(84)
شرح الكلمات :
ولوطاً : أي وأرسلنا لوطاً ولوط هو لوط بن هاران ابن أخي إبراهيم عليه السلام. ولد في بابل العراق.
الفاحشة : هي الخصلة القبيحة وهي إتيان الرجال في أدبارهم.
__________
1 من الجائز أن يكون قد قال هذا وهم أحياء قبل موتهم كالآيس منهم وكونه قاله بعد موتهم أقرب كما في التفسير.

من العالمين : أي من الناس.
من الغابرين : الباقين في العذاب.
وأمطرنا. أنزلنا عليهم حجارة من السماء كالمطر فأهكتهم.
المجرمين: أي المفسدين للعقائد والأخلاق والأعراض.
معنى الآيات:
هذا هو القصص الرابع قصص نبي الله تعالى لوط بن هاران ابن أخي إبراهيم عليه السلام فقوله تعالى {ولوطاً1...} أي وأرسلنا لوطاً إلى قومه من أهل سذوم، ولم يكن لوط منهم لأنه من أرض بابل العراق هاجر مع عمه إبراهيم وأرسله الله تعالى إلى أهل سذوم2 وعمورة قرب3 بحيرة لُوطٍ بالأردن.
وقوله إذ قال لقومه الذين أرسل إليهم منكراً عليهم فعلتهم المنكرة: {أتأتون الفاحشة} وهي إتيان الرجال في أدبارهم {ما سبقكم بها من أحد من العالمين} أي لم يسبقكم إليها أحد من الناس قاطبة، وواصل إنكاره هذا المنكر موبخاً هؤلاء الذين هبطت أخلاقهم إلى درك لم يهبط إليه أحد غيرهم فقال: {إنكم لتأتون الرجال شهوة4 من دون النساء، بل أنتم قوم مسرفون} وإلا فالشهوة من النساء هي المفطور عليها الإنسان، لا أدبار الرجال، ولكنه الإجرام والتوغل في الشر والفساد والإسراف في ذلك، والإسراف صاحبه لا يقف عند حد.
وبعد هذا الوعظ والإرشاد إلى سبيل النجاة، والخروج من هذه الورطة التي وقع فيها هؤلاء القوم المسرفون ما كان ردهم {إلا أن قالوا أخرجوهم} أي لوطاً والمؤمنين معه {من قريتكم} أي مدينتكم سدوم، معللين الأمر بإخراجهم من البلاد بأنهم أناس يتطهرون من الخبث الذي هم منغمسون فيه قال تعالى بعد أن بلغ الوضع هذا الحد {فأنجيناه وأهله} من بناته وبعض نسائه {إلا امرأته كانت من الغابرين} حيث أمرهم بالخروج من
__________
1 هذا العطف على إرسال نوح كما هو مع هود وصالح من قبل لوط، ولوط: اسم عجمي وليس مشتقاً من لطت الحوض أو من قولهم: هذا أليط بقلبي من هذا.
2 هذه الأرض هي أرضى الكنعانيين وسكانها خليط جلّهم كنعانيون.
3 هو المعروف بالبحر الميت ويقال له بحيرة لوط.
4 {شهوة} منصوب على أنّه مفعول لأجله.

البلاد ليلاً قبل حلول العذاب بالقوم فخرجوا، وما إن غادروا المنطقة حتى جعل الله تعالى عاليها سافلها وأمطر عليها حجارة من سجين فأهلكوا أجمعين.
وقوله تعالى في ختام هذا القصص {فانظر كيف كان عاقبة المجرمين} فإنه خطاب عام لكل من يسمع هذا القصص ليعتبر به حيث شاهد عاقبة المجرمين دماراً كاملاً وعذاباً أليماً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- شدة قبح جريمة اللواط.
2- أول من عرف هذه الجريمة القذرة هم قوم لوط1 عليه السلام.
3- الإسراف وعدم الاعتدال في الأقوال والأفعال يتولد عنه كل شر وفساد.
4- الكفر والإجرام يحل رابطة الأخوة والقرابة بين أصحابه والبُراءة منه.
5- من أتى هذه الفاحشة من المحصنين يرجم2 بالحجارة حتى الموت.
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(85) وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ
__________
1 روي أنّ إبليس هو الذي علّمهم إيّاها في نفسه بعد أن تشكّل بشكل إنسان.
2 الجمهور على أن من أتى هذه الفاحشة من الذكران البالغين أنه يقتل وغير البالغ يضرب، وخالف أبو حنيفة الجمهور وقال بعدم القتل واكتفى بالتعزير وهو محجوج بعمل الصحابة فقد أحرقوا مَنْ عَمِل عَمَل قوم لوط على عهد أبي بكر بإجماع رأي الصحابة على ذلك لحديث أبي داود والنسائي وابن ماجه والترمذي أي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" وعند الترمذي "أحصنا أو لم يحصنا" واختلف في الفاعل في البهيمة هل يقتل أو يعزّر؟ فالراجح: القتل لحديث: "من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة معه".

عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ(86) وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ(87)
شرح الكلمات:
وإلى مدين آخاهم شعيباً : مدين أبو القبيلة وهو مدين بن إبراهيم الخليل وشعيب من أبناء القبيلة فهو أخوهم في النسب حقيقة إذ هو شعيب بن ميكائيل بن يشجر بن مدين.
ولا تبخسوا الناس أشياءهم : أي لا تنقصوا الناس قيم سلعهم وبضائعهم، إذ كانوا يفعلون ذلك.
صراط توعدون : طريق وتوعدون تخيفون المارة وتأخذون عليهم المكوس أو تسلبونهم أمتعتهم.
وتبغونها عوجاً: أي تريدون سبيل الله -وهي شريعته- معوجةً حتى توافق ميولكم.
المفسدين: هم الذين يعملون بالمعاصي في البلاد.
يحكم بيننا: يفصل بيننا فينجي المؤمنين ويهلك الكافرين.
معنى الآيات:
هذا هو القصص الخامس في سورة الأعراف وهو قصص نبي الله شعيب مع قومه أهل مدين، فقوله تعالى: {وإلى مدين أخاهم شعيباً1} أي وأرسلنا إلى أهل مدين أخاهم شعيباً. فماذا قال لهم لما أرسل إليهم؟ { قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره} أي قولوا لا إله إلا الله، ولازم ذلك أن يصدقوا برسول الله شعيب حتى يمكنهم أن يعبدوا الله بما
__________
1 شعيب: تصغير شعب أو شِعب ويقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه.

يحب أن يعبد به وبما من شأنه أن يكملهم ويسعدهم في الدارين وقوله {قد جاءتكم1 بينة من ربكم} أي آية واضحة تشهد لي بالرسالة وبما أن ما آمركم به وأنهاكم عنه هو من عند الله تعالى إذاً {فأوفوا الكيل والميزان} أي بالقسط الذي هو العدل، {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} بل أعطوهم ما تستحقه بضائعهم من الثمن بحسب جودتها ورداءتها {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} أي في البلاد بعد إصلاحها، وذلك بترك الشرك والذنوب ومن ذلك ترك التلصص وقطع الطرق، وترك التطفيف في الكيل والوزن وعدم بخس سلع الناس وبضائعهم ذلكم الذي دعوتكم إليه من الطاعة وترك المعصية خير لكم حالاً ومالاً إن كنتم مؤمنين وقوله: {ولا تقعدوا بكل صراط2 توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجاً3} ينهاهم عليه السلام عن أبشع الإجرام وهو أنهم يجلسون في مداخل البلاد، وعلى أفواه السكك، ويتوعدون4 المارة بالعذاب إن هم اتصلوا بالنبي شعيب وجلسوا إليه صرفاً للناس عن الإيمان والاستقامة، كما أنهم يقطعون الطرق ويسلبون الناس ثيابهم وأمتعتهم أو يدفعون إليهم ضريبة خاصة.
وقوله {واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم} يذكرهم عليه السلام بنعمة الله تعالى عليهم وهي أنهم أصبحوا شعباً كبيراً بعدما كانوا شعباً صغيراً لا قيمة له ولا وزن بين الشعوب وقوله: {وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين} يعظهم ببيان مصير الظلمة المفسدين من الأمم المجاورة والشعوب حيث حلت بهم نقمة الله ونزل بهم عذابه فهلكوا يعظهم لعلهم يذكرون فيتركوا الشرك والمعاصي، ويعملوا بالتوحيد والطاعة.
وأخيراً يخوفهم بالله تعالى ويهددهم بأن حكماً عدلاً هو الله سيحكم بينهم وعندها يعلمون من هو المحق ومن هو المبطل فقال: {وإن كان طائفة منكم} أي جماعة {آمنوا بالذي أرسلت به} من التوحيد والطاعة وترك الشرك والمعاصي، {وطائفة} أخرى {لم يؤمنوا} وبهذا كنا متخاصمين نحتاج إلى من يحكم بيننا إذاً {فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير
__________
1 من الجائز أن يكون الله تعالى قد أعطى نبيّه شعيباً آية ولم تذكر في القرآن، والراجح أنّها حجة قوية قهرهم بها ولم يتمكنوا من ردّها.
2 قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعّدون من أراد المجيىء إليه ويصدّونه عنه ويقولون: إنّه كذّاب فلا تذهب إليه، كما كانت قريش تفعله مع النبي صلى الله عليه وسلم.
3 قال أبو عبيدة والزجاج: كسر العين عوجاً في المعاني، والفتح عَوَجاً في الإجرام والذوات.
4 قال أبو هريرة رضي الله عنه هذا نهي عن قطع الطريق وأخذ السلب وكان ذلك من فعلهم.

الجزء التاسع
الحاكمين}.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- دعوة الرسل واحدة في باب العقيدة إذ كلها تقوم على أساس التوحيد والطاعة.
2- حرمة التطفيف في الكيل والميزان، وبخس الناس أشياءهم، ويدخل في ذلك الصناعات وحرف المهن وما إلى ذلك.
3- حرمة الفساد في الأرض بالمعاصي لاسيما البلاد التي طهرها الله بالإسلام وأصلحها بشرائعه.
4- حرمة التلصص وقطع1 الطرق وتخويف المارة.
5- حرمة الصد عن سبيل الله بمنع الناس من التدين والالتزام بالشريعة ظاهراً وباطناً.
قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ(88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ(89)
شرح الكلمات:
الملأ: أشراف القوم الذين يملؤون المجلس إذا جلسوا، والعين إذا نظر إليهم.
استكبروا : تكلفوا الكبر وهم حقيرون، حتى لا يقبلوا الحق.
__________
1 ومثله الضرائب الفادحة التي تضرب على المسلمين في بلادهم والمكوس التي في الأسواق وغيرها مما اقتدى فيه المسلمون بالكافرين.

من قريتنا: مدينتنا.
في ملتكم : في دينكم.
على الله توكلنا : أي فوضنا أمرنا واعتمدنا في حمايتنا عليه.
ربنا افتح بيننا : أي يا ربنا احكم بيننا.
وأنت خير الفاتحين : أي وأنت خير الحاكمين.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في قصص شعيب مع قومه أهل مدين فبعد أن أمرهم ونهاهم وذكرهم ووعظهم {قال الملأ الذين استكبروا من قومه} مهددين موعدين مقسمين {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا}. هكذا سنة الطغاة الظلمة إذا غلبوا بالحجج والبراهين يفزعون إلى القوة فلما أفحمهم شعيب خطيب الأنبياء عليهم السلام، وقطع الطريق عليهم شهروا السلاح في وجهه، وهو النفي والإخراج من البلاد أو العودة إلى دينهم الباطل: {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن1 في ملتنا} ورد شعيب على هذا التهديد بقوله: {أو لو كنا كارهين2} أي أنعود في ملتكم ولو كنا كارهين لها { قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها3} ووجه الكذب على الله إن عادوا إلى ملة الباطل هو أن شعيباً أخبرهم أن الله تعالى أمرهم بعبادته وحده وترك عبادة غيره، وأنه تعالى أرسله إليهم رسولاً وأمرهم بطاعته إنقاذاً لهم من الباطل الذي هم فيه فإذا أرتد وعاد هو ومن معه من المؤمنين إلى ملة الشرك كان موقفهم موقف من كذب على الله تعالى بأنه قال كذا وكذا والله عز وجل لم يقل. هذا ثم قال شعيب {وما يكون لنا أن نعود فيها} ليس من الممكن ولا من المتهيء لنا العودة في ملتكم أبداً، اللهم إلا أن يشاء4 ربنا شيئاً فإن مشيئته نافذة في خلقه، وقوله: {وسع ربنا كل شيء علما} فإذا كان قد علم أنا نرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، فسوف يكون ما علمه كما علمه وهو الغالب على أمره.
__________
1 {أو لتعودّنّ}: إمّا أن يراد به أتباع شعيب المؤمنون إذ كانوا قبل إيمانهم على دين قومهم وإمّا أن يراد بكلمة {لتعودّنّ}: لتصيرن إذ تكون عاد بمعنى: صار.
2 الاستفهام للتعجب والاستبعاد.
3 هذا أسلوب الإياس لهم من العودة إلى دينهم الباطل.
4 هذا الاستثناء كان من شعيب تأدباً مع الله تعالى بتفويض الأمر إلى مشيئته وعودة غيره من أمته ممكنة ولكن عودته هو مستحيلة.

ثم قال عليه السلام بعد أن أعلمهم أن العودة إلى دينهم غير واردة ولا ممكنة بحال من الأحوال إلاّ في حال مشيئة الله ذلك، وهذا مما لا يشاءه الله تعالى قال: {على الله توكلنا} في الثبات على دينه الحق، والبراءة من الباطل ثم سأل ربه قائلاً: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق} أي احكم بيننا وبينهم بالحق {وأنت خير1 الفاتحين} أي الحاكمين، وذلك بإحقاق الحق وإبطال الباطل.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة بشرية وهي أن الظلمة والمتكبرين يجادلون بالباطل حتى إذا أعياهم الجدال وأفحموا بالحجج بدل أن يسلموا بالحق ويعترفوا به ويقبلوه، فيستريحوا ويريحوا يفزعون إلى القوة بطرد أهل الحق ونفيهم أو إكراههم على قبول الباطل بالعذاب والنكال.
2- لا يصح من أهل الحق بعد أن عرفوه ودعوا إليه أن يتنكروا ويقبلوا الباطل بدله.
3- يستحب الاستثناء في كل ما عزم عليه المؤمن مستقبلاً وإن لم يرده أو حتى يفكر فيه.
4- وجوب التوكل على الله عند تهديد العدو وتخويفه، والمضي في سبيل الحق.
5- مشروعية الدعاء وسؤال الله تعالى الحكم بين أهل الحق وأهل الباطل، لأن الله تعالى يحكم بالحق وهو خير الحاكمين.
وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ(90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ(91) الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ(92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ
__________
1 {إلاّ أن يشاء الله ربنا} هذا الاستثناء منقطع بمعنى لكن أي: ما يقع منّا العودة إلى الكفر لكن إن شاء الله ذلك كان، والله لا يشاء ذلك فهو إذا كقولك: "لا أكلمك حتى يبيَض الغراب" أو {حتى يلج الجمل في سمّ الخياط}.
2 الفتح بمعنى القضاء والحكم وهو لغة: أزد عمان من اليمن أي: أحكم بيننا وبينهم وهي مأخوذة من الفتح بمعنى النصر إذ كانوا لا يتحاكمون لغير السيف ويرون أن النصر حكم الله للغالب على المغلوب.

أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ(93)
شرح الكلمات:
لئن اتبعتم شعيباً : أي على ما جاء به من الدين والهدى.
الرجفة : الحركة العنيفة كالزلزلة.
جاثمين : باركين على ركبهم ميتين.
كأن لم يغنوا فيها : أي كأن لم يعمروها ويقيموا فيها زمناً طويلاً.
الخاسرين : إذ هلكوا في الدنيا وادخلوا النار في الآخرة.
آسى1: أي أحزن أو آسف شديد الأسف.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصص شعيب مع أهل مدين فإنه بعد أن هدد الظالمون شعيباً بالإبعاد من مدينتهم هو والمؤمنون معه أو أن يعودوا إلى ملتهم فرد شعيب على التهديد بما أيأسهم من العودة إلى دينهم، وفزع إلى الله يعلن توكله عليه ويطلب حكمه العادل بينه وبين قومه المشركين الظالمين كأن الناس اضطربوا وأن بعضاً قال اتركوا الرجل وما هو عليه، ولا تتعرضوا لما لا تطيقونه من البلاء. هنا قال الملأ الذين استكبروا من قومه مقسمين بآلهة الباطل: {لئن اتبعتم شعيباً} أي على دينه وما جاء به وما يدعو إليه من التوحيد والعدل ورفع الظلم {إنكم إذاً لخاسرون} قال تعالى: {فأخذتهم الرجفة} استجابة لدعوة شعيب فأصبحوا2 هلكى جاثمين على الركب. قال تعالى: {الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها3}
__________
1 أسِيَ كرضي يأسى كيرضي يقال: أسيت على كذا أسىً فأنا آسٍ وآسى في الآية مضارع أسى دخلت عليه همزة المتكلم فصارت آسى بهمزتين.
2 في سورة هود: {فأخذتهم الصيحة} وفي سورة الشعراء: {أخذهم عذاب يوم الظّلة} وطريقة الجمع. أنهم لمّا اجتمعوا تحت الظلة وهي سحابة أظلتهم، فَزَعُوا إليها من شدّة الحر الذي أصابهم يومئذٍ فلمّا استقروا تحتها زُلزلوا من تحتهم وهي الرجفة ونزلت عليهم من الظلة صاعقة وهي الصيحة فأحرقتهم هذا إن قلنا إنّ مدين وأصحاب الأيكة هما أمة واحدة، وإلا فأصحاب الأيكة أُخذوا بعذاب الظلة وأصحاب مدين أُخذوا بالرجفة من تحتهم، والصيحة من فوفهم.
3 وفسّر القرطبي الغنى: بالمقام يقال: غنى القوم في دارهم أي: طال مقامهم، والمغني: المنزل والجمع المغاني، قال لبيد:
وغنيت ستَّا قبل مجرى داحسٍ ... لو كان للنفس اللجوج خلود
ومعنى غنيت: أقمت وهو الشاهد.

أي كأن لم يعمروا تلك الديار ويقيموا بها زمناً طويلاً، وأكد هذا الخبر وهو حكمه في المكذبين الظالمين فقال: {الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين} أما الذين صدقوا شعيباً فهم المفلحون الفائزون وودعهم شعيب كما ودع صالح قومه قال تعالى: {فتولى عنهم} وهم جاثمون هلكى فقال {يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم} فأبيتم إلا تكذيبي ورد قولي والإصرار على الشرك والفساد حتى هلكتم {فكيف آسَى على قوم كافرين1} أي لا معنى للحزن والأسف على مثلكم.
هداية الآيات
هن هداية الآيات:
1- ثمرة الصبر والثبات النصر العاجل أو الآجل.
2- نهاية الظلم والطغيان والدمار والخسران.
3- لا أسىً ولا حزناً على من أهلكه الله تعالى بظلمه وفساده في الأرض.
4- مشروعية توبيخ الظالمين بعد هلاكهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل القليب وكما فعل صالح وشعيب عليهما السلام.
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ(94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ(95)
شرح الكلمات:
في قرية : القرية: المدينة الجامعة لأعيان البلاد ورؤسائها وهي المدينة.
بالبأساء : بالشدة كالقحط والجوع والحروب.
__________
1 الاستفهام إنكاري وهو موجه في الظاهر إلى نفس شعيب، والمقصود نهي من معه من المؤمنين الناجين من العذاب برحمة الله تعالى نهيهم عن الحزن عن قومهم وأقاربهم كأنه لاحظ ذلك فيهم.

والضراء: الحالة المضرة كالأمراض والغلاء وشدة المؤونة.
يضرعون : يدعون الله تعالى ويتضرعون إليه ليكشف عنهم السوء.
مكان السيئة الحسنة: أي بدل الغلاء الرخاء، وبدل الخوف الأمن، وبدل المرض الصحة.
حتى عفوا : كثرت خيراتهم ونمت أموالهم، وأصبحت حالهم كلها حسنة.
أخذناهم بغتة : أنزلنا بهم العقوبة فجأة.
معنى الآيتين:
على إثر بيان قصص خمسة أنبياء ذكر تعالى سنته في الأمم السابقة ليكون ذلك عظه لكفار قريش، وذكرى للمؤمنين فقال تعالى: {وما أرسلنا في قرية1} أي في أهل قرية والمراد بالقرية الحاضرة والعاصمة من كبريات المدن حيث الكبراء والرؤساء من نبي من الأنبياء والمرسلين فكذبوه قومه وردوا دعوته مصرين على الشرك والضلال إلا أخذ الله تعالى أهل تلك المدينة بألوان من العذاب التأديبي كالقحط والجوع وشظف العيش، والأمراض والحروب المعبر عنه بالبأساء والضراء. رجاء أن يرجعوا إلى الحق بعد النفور منه، وقبوله بعد الإعراض عنه ثم يغير تعالى ما بهم من بأساء وضراء إلى يسر ورخاء، وعافية وهناء فتكثر أموالهم وأولادهم ويعظم سلطانهم، ويقولون عندما يوعظون ويذكرون ليتوبوا فيؤمنوا ويتقوا: {قد مس آباءنا الضراء والسراء2} أي الخير والشر وما هناك ما تخوفوننا به إنما هي الأيام هكذا دول يوم عسر وآخر يسر وبذلك يحق عليهم العذاب فيأخذهم الجبار عز وجل فجأة 3{وهم لا يشعرون } فيتم هلاكهم ويمسون حديث عبرة لمن بعدهم عذاب في الدنيا، وعذاب في الآخرة وعذاب الآخرة أشد وأبقى.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان سنة الله تعالى في الأمم السابقة.
__________
1 في الجملة إضمار تقديره: وما أرسلنا في قرية من نبي فكذب أهلّها إلاّ أخذناهم وهو مبسوط في التفسير مبيّن غاية البيان والجملة معطوفة على جملة: {وإلى مدين آخاهم شعيباً}.
2 أي: فنحن مثلهم.
3 أي: بغتة ليكون أكثر حسرة.

2- تخويف كفار قريش بما دلت عليه هذه السنة من أخذ الله تعالى المصرين على الكفر المتمردين على الحق.
3- التذكير والوعظ بتاريخ الأمم السابقة المنبىء عن أسباب هلاكهم وخسرانهم ليتجنبها العقلاء، كما قال تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ(96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ(97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ(98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ(99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ(100)
شرح الكلمات:
آمنوا واتقوا :أي آمنوا بالله ورسوله ووعد الله ووعيده واتقوه تعالى بطاعته وعدم معصيته.
بركات من السماء والأرض : جمع بركة وهي دوام الخير وبقاؤه والعلم والإلهام والمطر من بركات السماء والنبات والخصب والرخاء والأمن والعافية من بركات الأرض.
يكسبون : من الشرك والمعاصي.
بياتاً : أي ليلاً وهم نائمون.
مكر الله :استدراجه تعالى لهم بإغداق النعم عليهم من صحة

الأبدان ورخاء العيش حتى إذا آمنوا مكره تعالى بهم أخذهم بغتة.
أولم يهد لهم : أي أولم يبين لهم بمعنى يتبين لهم.
بذنوبهم: أي بسبب ذنوبهم.
معنى الآيات:
بعدما بين تعالى سنته في الأمم السابقة، وهي أخذ الأمة بعد تكذيبها وعصيانها بالبأساء والضراء، ثم إذا هي لم تتب واستمرت على كفرها وعصيانها أغدق عليها الخيرات حتى عفت بكثرة ما لها وصلاح حالها أخذها بغتة فأهلكها، وتم خسرانها في الدارين، فتح تعالى باب التوبة والرجاء لعباده فقال: {ولو1 أن أهل القرى2} المكذبين ككفار مكة والطائف وغيرهما من المدن {آمنوا} أي بالله ورسوله وبلقاء الله ووعده ووعيده، {واتقوا} الله تعالى في الشرك وفي معصيته ومعصية رسوله لفتح عليهم أبواب السماء بالرحمات والبركات، وفتح عليهم كنوز الأرض ورزقهم من الطيبات ولكن أهل القرى الأولين كذبوا فأخذهم بالعذاب بما كانوا يكسبون، وأهل القرى اليوم وهم مكذبون فإما أن يعتبروا بما أصاب أهل القرى الأولين فيؤمنوا ويوحدوا ويطيعوا، وإما أن يصروا على الشرك والتكذيب فينزل بهم ما نزل بمن قبلهم من عذاب الإبادة والاستئصال، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (96) وهي قوله تعالى {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات3 من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} أما الآيات الثلاث بعدها فإن الله تعالى ينكر على أهل القرى غفلتهم موبخاً لهم على تماديهم وإصرارهم على الباطل معجباً من حالهم فيقول: {أفأمن4 أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون؟} أي أجهلوا ما نزل بمن قبلهم فأمنوا أن
__________
1 لو: حرف امتناع لا متناع، امتنع شرطها فامتنع جوابها، وشرطها هنا: الإيمان والتقوى وجوابها فتح البركات على أهل القرى.
2 يقال للمدينة: قرية لاجتماع الناس فيها مأخوذ من التقرّى الذي هو التجمع يقال: قريت الماء في الحوض: إذا جمعته، وسمي القرآن قرآنا لاجتماع الحروف والكلمات والجمل والآيات فيه.
3 البركات: جمع بركة، وهي الخير الدائم الصالح الذي لا تبعة فيه في الدنيا ولا في الآخرة. وتكون في العمر والمال وفي كل ما هو خير ونافع غير ضار للإنسان.
4 الاستفهام للإنكار والتعجب معاً، ومكر الله تعالى: إمهالهم وإغداق الخير عليهم مع شركهم وكفرهم، إذ المكر: أن يظهر المرء الإحسان لمن يمكر به ليأخذه فجأة. والأمن من مكر الله تعالى زيادة على أنه كبيرة من كبائر الذنوب فإنه يؤدي بالآمن إلى هلاكه دنياً وأخرى.

يأتيهم عذابنا ليلاً وهم نائمون؟ {أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا} أي عذابنا {ضحى وهم يلعبون؟} أي أو غفل أهل القرى وأمنوا أن يأتيهم عذابنا ضحى وهم في أعمالهم التي لا تعود عليهم بخير كأنها لعب أطفال يلعبون بها {أفأمنوا مكر الله}؟ أي أغرهم إمهالنا لهم واستدراجنا إياهم فأمنوا مكر الله؟ إنهم في ذلك خاسرون إذ لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. وقوله تعالى في الآية الخامسة (100) {أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون} أي عمى الذين يرثون الأرض من بعد أهلها ولم يتبين لهم بعد ولم يعلموا أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا الذين ورثوا ديارهم بذنوبهم {ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون} أي ونجعل على قلوبهم غشاوة حتى لا يعوا ما يقال لهم ولا يفهموا ما يراد بهم حتى يهلكوا كما هلك الذين من قبلهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عرض الرحمن تبارك وتعالى رحمته على عباده ولم يطلب منهم أكثر من الإيمان والتقوى.
2- حرّمة الغفلة ووجوب الذكر واليقظة.
3- حرمة الأمن من مكر الله تعالى.
4- إذا أمنت الأمة مكر الله تهيأت للخسران وحل بها لا محالة.
5- وجوب الاعتبار بما أصاب الأولين، وذلك بترك ما كان سبباً لهلاكهم.
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ(101) وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ(102)

شرح الكلمات:
تلك القرى : الإشارة إلى قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب.
من أنبائها : أي من أخبارها.
بالبينات: بالحجج والبراهين الدالة عل توحيد الله وصدق رسله.
من قبل : أي من قبل خلقهم ووجودهم، إذ علم الله تعالى تكذيبهم عليهم في كتاب المقادير.
وما وجدنا لأكثرهم من عهد : أي لم نجد لأكثرهم وفاء بعهودهم التي أخذت عليهم يوم أخذ الميثاق.
معنى الآيتين:
يخاطب الرب تعالى1 رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم قائلاً {تلك القرى نقص عليك من أنبائها} أي من أخبارها مع أنبيائها كيف دعتهم رسلهم إلى الإيمان والتوحيد والطاعة، وكيف ردت تلك الأمم دعوة الله واستكبرت على عبادته، وكيف كان حكمنا فيهم لعل قومك يذكرون فيؤمنوا ويوحدوا. وقوله تعالى {ولقد جاءتهم رسلهم بالبنيات} أي بالحجج الواضحات على صدق دعوتهم، وما جاءتهم به رسلهم من أمر ونهي من ربهم. وقوله {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من2 قبل} أي لم يكن أولئك الهالكون من أهل القرى ليؤمنوا بما كذبوا به في علم الله وقدره إذ علم الله أنهم لا يؤمنون فكتب ذلك عليهم فلذا هم لا يؤمنون. وقوله تعالى: {كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين} أي كما كتب على الهالكين من أهل القرى أنهم لا يؤمنون ولم يؤمنوا فعلاً فأهلكهم، يطبع كذلك على قلوب الكافرين فلا يؤمنون حتى يأخذهم العذاب وهم ظالمون بكفرهم. وهذا الحكم الإلهي قائم على مبدأ أن الله علم من كل إنسان قبل خلقه ما يرغب فيه وما يؤثره على غيره ويعمله باختياره وإرادته فكتب ذلك عليه فهو عند خروجه
__________
1 سرّ هذا الخطاب زيادة على التعليم لكمال الهداية فإنه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم مما يلاقى من صلف المشركين وعنادهم وجحودهم، وهو تسلية لكل مؤمن ومؤمنة يعاني من صلف المشركين وأذاهم.
2 اختلف في المضاف إليه المحذوف في قوله: {بما كذبوا من قبل} هل المراد: من قبل خروجهم للحياة الدنيا وهم في عالم الأرواح حيث أمروا بالإيمان فكذبَّوا فكتب الله عليهم ذلك فلن يكون إلا هو أو لو أحييناهم بعد إهلاكهم بذنوبهم لمّا آمنوا بما كذّبوا به فكان سبب هلاكهم، أو سألوا المعجزات ليؤمنوا فلمّا رأوها لم يؤمنوا بما كذّبوا من قبل رؤيتهم المعجزات، والراجح من هذه المقولات ما هو في التفسير إذ هو قول ابن جرير إمام المفسرين.

إلى الدنيا لا يعمل إلا به ليصل إلى ما كتب عليه، وقدر له أزلاً قبل خلق السموات والأرض، وقوله تعالى {وما وجدنا لأكثرهم من عهد1} أي لم نجد لتلك الأمم التي أهلكنا وهم قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب. لم نجد لأكثرهم وفاء بعهدهم الذي أخذناه عليهم قبل خلقهم من الإيمان بنا وعبادتنا وطاعتنا وطاعة رسلنا، وما وجدنا2 أكثرهم إلا فاسقين عن أمرنا خارجين عن طاعتنا وطاعة رسلنا، وكذلك أحللنا بهم نقمتنا وأنزلنا بهم عذابنا فأهلكناهم أجمعين.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- تقرير الوحي الإلهي وإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه ما قُصَّ من أنباء الأولين لا يُتَلَقَّى إلا بوحي إلهي ولا يتلقى عن الله تعالى إلا رسول أَعِدَّ لذلك.
2- وجود البينات مهما كانت قوية واضحة غير كاف في إيمان من لم يشأ الله هدايته.
3- المؤمن من آمن في الأزل، والكافر من كفر فيه.
4- الطبع على قلوب الكافرين سببه اختيارهم للكفر والشر والفساد وإصرارهم على ذلك كيفما كانت الحال.
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ(103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ(104) حَقِيقٌ3 عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ(105) قَالَ إِن كُنتَ
__________
1 {من عهد} من زائدة لتقوية النفي والدلالة على الجنس أي: جنس العهد، والعهد من الجائز أن يكون ما أخذ عليهم في عالم الذرّ وهو صحيح قاله ابن عباس وأن يكون ما أخذ عليهم من قِبل الأنبياء أن يعبدوا الله وحده ويطيعوه ولا يعصوه.
2 الآية: {وإن وجدنا} وإن: بمعنى ما النافية فلذا اكتفينا في التفسير بما ولم نذكر إن اختصاراً وتقريباً للفهم.
3 قرأ نافع: (حقيق عليّ) بياء الضمير المشدّدة وهي بمعنى: واجب علىّ خبر ثانٍ لأنّ في قوله: {إنّي رسول من ربِّ العالمين} وقرأ غيره (على) حرف جرّ أي: محقوق بأن لا أقول على الله إلاّ الحق، فحقيق: فعيل بمعنى مفعول كقتيل بمعنى مقتول.

جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ(107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ(108)
شرح الكلمات:
ثم بعثنا من بعدهم موسى: أي من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب.
موسى : هو موسى بن عمران من ذرية يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام.
بآياتنا: هي تسع آيات: العصا، واليد، والسنون المجدبة، والدم، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والطمس على أموال فرعون.
إلى فرعون: أي بعث موسى الرسول إلى فرعون وهو الوليد لق مصعب بن الريان، ملك مصر.
وملئه : أي أشراف قومه وأعيانهم من رؤساء وكبراء.
فظلموا بها : أي ظلموا أنفسهم بالآيات وما تحمله من هدى حيث كفروا بها.
بينة من ربكم : حجة قاطعة وبرهان ساطع على أني رسول الله إليكم.
ونزع يده : أخرجها بسرعة من جيبه.
معنى الآيات:
قوله تعالى {ثم بعثنا من بعدهم موسى} هذا شروع في ذكر القصص السادس مما اشتملت عليه سورة الأعراف، وهي قصص موسى عليه السلام مع فرعون وملئه. قال تعالى وهو يقص على نبيه ليثبت به فؤاده، ويقرر به نبوته، ويعظ أمته، ويذكر به قومه {ثم بعثنا من بعدهم} أي من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب موسى بن عمران إلى فرعون وملئه من رجالات ملكه ودولته، وقوله بآياتنا. هي تسع آيات لتكون حجة على صدق

رسالته وأحقية دعوته. وقوله تعالى {فظلموا1 بها} أي جحدوها ولم يعترفوا بها فكفروا بها وبذلك ظلموا أنفسهم بسبب كفرهم بها، واستمروا على كفرهم وفسادهم حتى أهلكهم الله تعالى بإغراقهم، ثم قال لرسوله {فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} أي دماراً وهلاكاً وهى عاقبة كل مفسد في الأرض بالشرك والكفر والمعاصي. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (103) وأما الآيات بعدها فإنها في تفصيل أحداث هذا القصص العجيب. وأتى موسى فرعون وقال {يا فرعون2 إني رسول من رب العالمين، حقيق} أي جدير وخليق بي {أن لا أقول على الله إلا الحق، قد جئتكم ببينة من ربكم} دالة على صدقي شاهدة بصحة ما أقول {فأرسل3 معي بني إسرائيل} لأذهب بهم إلى أرض الشام التي كتب الله لهم وقد كانت دار آبائهم. وهنا تكلم فرعون وطالب موسى بالآية التي ذكر أنه جاء بها فقال {إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين} أي فيما تدعيه وتقول به وتدعوا إليه. وهنا ألقى موسى عصاه أي أمام فرعون المطالب بالآية {فإذا هي ثعبان مبين} أي حية عظيمة تهتز أمام فرعون وملئه كأنها جان4، هذه آية وزاده أخرى فأدخل يده في جيبه كما علمه ربه ونزعها {فإذا هي بيضاء للناظرين} بيضاء بياضاً غير معهود مثله في أيدي الناس. هذا ما تضمنته هذه الآيات الخمس في هذا السياق.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سوء عاقبة المفسدين بالشرك والمعاصي.
2- تذكير موسى فرعون بأسلوب لطيف بأنه ليس رباً بل هناك رب العالمين وهو الله رب موسى وهارون والناس أجمعين.
__________
1 {فظلموا بها} أي: ظلموا أنفسهم بالتكذيب بالآيات، وجائز أن يكون ظلموا بسببها غيرهم ممن منعوهم من الإيمان بها إذ هدّدوهم بالقتل وجائز أن يضمّن الظلم هنا معنى الكفر أي كفروا بها وهو صحيح المعنى.
2 فرعون: علم جنس لمن يملك مصر في القديم ككسرى: لكل من يملك فارساً وقيصر: لكل من يملك الروم ونمرود: لمن ملك الكنعانيين، والنجاشي: للأحباش، وتبع، لحمير ونداء موسى له بقوله يا فرعون: فيه نوع احترام، إذ ناداه بعنوان الملك والسلطان.
3 الفاء تفريعية أي: ما بعدها متفرّع عمّا قبلها.
4 الجانّ: هنا حية أكحل العينين تسكن البيوت لا تؤذى كثيرة التقلّب والاهتزاز.

3- تقرير مبدأ الصدق لدى الرسل عليهم السلام.
4- ظهور آيتين لموسى العَصَا واليد.
قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ(109) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ(110) قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ(111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ(112)
شرح الكلمات
ساحر عليم : أي ذو علم بالسحر خبير به ليس مجرد مدّع.
من أرضكم: أي من بلادكم ليستولى عليها ويحكمكم.
فماذا تأمرون : أي أشيروا بما ترون الصواب في حل هذا المشكل.
أرجه : أي أمهله وأخاه لا تعجل عليهما قبل اتخاذ ما يلزم من الاحتياطات.
في المدائن : مدن المملكة الفرعونية.
حاشرين : رجالاً يجمعون السحرة الخبراء في فن السحر للمناظرة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تفصيل قصص موسى مع فرعون فبعد أن تقدم موسى بما طلب فرعون منه من الآية فأراه آية العصا، واليد، وشاهد الملأ من قوم فرعون الآيتين العظيمتين قالوا {إن هذا لساحر عليم} وذلك لما بهرتهم الآيتان تحول العصا إلى حية عظيمة واليد بيضاء من غير سوء كالبرص بل بياضها عجب1 حتى لكأنها فلقة قمر أي قطعة منه، واتهموا موسى فوراً بالسياسة وأنه يريد بهذا إخراجكم من بلادكم ليستولي عليها هو وقومه من بني إسرائيل، وهنا تكلم فرعون وقال: {فماذا تأمرون2} أي بم تشيرون عليّ أيها الملأ والحال كما ذكرتم؟ فأجابوه قائلين {أرجه3 وأخاه} أي أوقفهما عندك {وأرسل في المدائن حاشرين4}
__________
1 قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان ليد موسى نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض.
2 يرى بعضهم أنّ المستفهم غير فرعون، الصحيح أنه فرعون لانهزامه معنوياً.
3 قرأ ورش: {أرجه} بإشباع كسر الهاء، وقرأ الجمهور {أرجه} بإسكان الهاء، وقرأ بضّ بكسر الهاء بدون مدّ.
4 قيل هي صعيد مصر إذ هو مقرَّ العلماء بالسحر، والمدائن جمع مدينة وتجمع على مدن واصل اشتقاقها من مدن بالمكان إذا أقام به.

أي رجالاً من الشرط يحشرون أي يجمعون أهل الفن من السحرة من كافة أنحاء الإيالة أي الإقليم المصري، وأجر معه مناظرة فإذا انهزم انتهى أمره وأمنا من خطره على بلادنا وأوضاعنا. هذا ما دلت عليه الآيات الأربع في هذا السياق.
هداية الآيات
هن هداية الآيات
1- جهل الملأ بالآيات أدى بهم إلى أن قالوا إن موسى ساحر عليم.
2- مكر الملأ وخبثهم إذ اتهموا موسى سياسياً بأنه يريد الملك وهو كذب بحت وإنما يريد إخراج بني إسرائيل من مصر حيث طال استعبادهم وامتهانهم من قبل الأقباط وهم أبناء الأنبياء وأحفاد إسرائيل واسحق وإبراهيم عليهم السلام.
3- فضيحة فرعون حيث نسي دعواه الربوبية، فاستشار الملأ في شأنه، إذ الرب الحق لا يستشير عباده فيما يريد فعله لأنه لا يجهل ما يحدث مستقبلاً.
4- السحر صناعة من الصناعات يتعلم ويبرع فيها المرء، ويتقدم حتى يتفوق على غيره.
5- حرمة السحر وحرمة تعلمه، ووجوب إقامة الحد على من ظهر عليه وعرف به.
وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ(113) قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(114) قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ(115) قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ(116)
شرح الكلمات:
السحرة : جمع ساحر وهو من يتقن فن السحر ويؤثر في أعين الناس بسحره.
إن لنا لأجراً : أي ثواباً من عندك أي أجراً تعطيناه إن نحن غلبنا.

نحن الملقين : لعصيّنا.
سحروا أعين الناس : حيث صار النظارة في الميدان يشاهدون عصي السحر وحبالهم يشاهدونها حيات وثعابين تملأ الساحة.
واسترهبوهم : أي خلوا الرهب والرعب في قلوب الناس من قوة أثر السحر في عيونهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحوار الدائر بين موسى عليه السلام من جهة وبين فرعون وملئه من جهة أخرى، فقد جاء في الآيات السابقة أن الملأ أشاروا على فرعون بأن يحبس موسى وأخاه هارون ويرسل شرطة في المدن يأتون بالخبراء في فن السحر لمناظرة موسى عسى أن يغلبوه، وفعلاً أرسل فرعون في مدنه حاشرين يجمعون خبراء السحر، وها هم أولاء قد وصلوا قال تعالى {وجاء السحرة فرعون1} وعرفوا أن الموقف جد صعب على فرعون فطالبوه بالأجر العظيم إن هم غلبوا موسى وأخاه فوافق فرعون على طلبهم، وهو معنى قوله تعالى: {وجاء السحرة فرعون قالوا إن2 لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين؟ قال نعم} وزادهم أيضاً أن يجعلهم من خواصه ورجال قصره فقال {وإنكم لمن المقربين} أي لدينا. وهنا تقدموا لموسى وكأنهم على ثقة في قوتهم السحرية وأن الجولة ستكون لهم، تقدموا بإلقاء آلاتهم السحرية أو تقدم موسى عليهم فقالوا {يا موسى3 إما أن تلقي، وإما أن نكون نحن الملقين} أي ألق عصاك أو نلقي نحن عصينا فقال لهم موسى {ألقوا} 4 فألقوا فعلاً فسحروا أعين5 الناس وجاءوا بسحر عظيم كما أخبر تعالى الأمر الذي استرهب النظارة حتى إن موسى عليه السلام أوجس في نفسه خيفة فنهاه ربه تعالى عن ذلك وأعلمه أنه الغالب بإذن الله تعالى جاء هذا الخبر في سورة طه.
__________
1 لقد ذكر القرطبي في عدد السحرة أخباراً مثلها لا يصح، إذ جاء في بعضهم أن عددهم كان سبعين ألف ساحر، والأقرب إلى أن يكونوا سبعين رجلاً.
2 قرىء في السبع بهمزة الاستفهام {أئن لنا لأجراً} وقرىء بدونها {إنّ لنا لأجراً}.
3 قال القرطبي: تأدّبوا مع موسى إذ استشاروه فيمن يبدأ بالإلقاء فنفعهم الله بأدبهم مع نبيّه فأسلموا وسعدوا برضوان الله تعالى.
4 في إذنه لهم بالإلقاء توفيق ربّاني عظيم إذ معناه أنه احتفظ بالضربة الأخيرة وصاحبها يغلب بإذن الله دائماً.
5 أي: خيّلوا لهم وقلبوها عن صحة إدراكها بما يتخيل من التمويه الذي جرى مجرى الشعوذة وخفة اليد.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية طلب الأجرة على العمل الذي يقوم به الإنسان خارجاً عن نطاق العبادة.
2- مشروعية الترقيات الحكومية لذي الخدمة الجُلى للدولة.
3- تأثير السحر على أعين الناس حقيقة بحيث يرون الشيء على خلاف ما هو عليه إذ العصي والحبال استحالت في أعين الناس إلى حيات وثعابين.
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ(117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(118) فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ(119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ(120) قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ(121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ(122)
شرح الكلمات:
تلقف: تأخذ بسرعة فائقة وحذق عجيب.
ما يأفكون: ما يقلبون بسحرهم وتمويههم.
فوقع الحق : ثبت وظهر.
صاغرين : ذليلين.
ساجدين : ساقطين على وجوههم سجداً لربهم رب العالمين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في المناظرة أو المباراة بين موسى عليه السلام وسحرة فرعون، فبعد أن ألقى السحرة حبالهم وعصيهم في الساحة وانقلبت بالتمويه السحري حيات وثعابين ورهب الناس من الموقف وظن فرعون وملأه أنهم غالبون أوحى الله تعالى إلى موسى أن يلقي عصاه فألقاها {فإذا هي تلقف1 ما يأفكون} أي تأخذه وتبتلعه وبذلك وقع الحق أي ظهر وثبت
__________
1 قرىء (تَلْقَف) و(تلَقَّف) بتضعيف القاف، والأصل: تتلقف فحذف إحدى التاءين تخفيفاً، وقرىء في الشاذ: تلقّم بالميم بدل الفاء، ومعنى الكلّ تبتلع بسرعة وتزدرده، وصيغة المضارع في الفعلين لاستحضار الماضي كأنّه حاضر ليكون أوقع في النفس.

واستقر {وبطل ما كانوا يعملون} أي السحر والتمويه وقوله تعالى {فغلبوا} أي فرعون وملأه وقومه {هنالك} أي في ساحة المباراة والمناظرة {وانقلبوا} إلى ديارهم {صاغرين} أي ذليلين مهزومين. وقوله تعالى {وألقي السحرة ساجدين} أي إنهم بعد أن شاهدوا الآية الكبرى بهرتهم فخروا ساجدين كأنما ألقاهم1 أحد على وجه الأرض لا حراك لهم وهم يقولون2 {آمنا برب العالمين رب موسى وهارون} وضمن ذلك فقد كفروا بربوبية فرعون الباطلة، لأن الإيمان بالله سيلزم الكفر بما عداه، ولذا قالوا {آمنا برب العالمين رب موسى وهارون} تلويحاً بكفرهم بفرعون الطاغية وبكل إله غير الله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنته تعالى في أن الحق والباطل إذا التقيا في أي ميدان فالغلبة للحق دائماً.
2- بطلان السحر وعدم فلاح أهله ولقوله تعالى من سورة طه {ولا يفلح الساحر حيث أتى}.
3- فضل العلم وأنه سبب الهداية فإيمان السحرة كان ثمرة العلم، إذ عرفوا أن ما جاء به موسى ليس سحراً وإنما هو آية له من الله فآمنوا.
4- مظهر من مظاهر القضاء والقدر فالسحرة أصبحوا كافرين وأمسوا مسلمين.
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(123) لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ(124) قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ(125) وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ(126)
__________
1 أي: ألقوا أنفسهم على الأرض، وبني الفعل للمجهول لظهور الفاعل وهو أنفسهم.
2 قالوا آمنّا بربّ العالمين حال هو يهم للسجود إعلاماً منهم إنهم ما سجدوا لفرعون كما يفعل الأقباط، وإنّما سجدوا لله رب العالمين ربِّ موسى وهارون.

شرح الكلمات:
آمنتم به: أي صدقتموه فيما جاء به ودعا إليه.
مكر مكرتموه : أي حيلة احتلتموها وتواطأتم مع موسى على ذلك.
من خلاف: بأن يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو العكس.
ثم لأصلبنكم : التصليب: الشد على خشبة حتى الموت.
منقلبون : أي راجعون.
وما تنقم منا: أي وما تكره منا وتنكر علينا إلا إيماننا بآيات ربنا لما جاءتنا.
أفرغ علينا صبراً: أي أفض علينا صبراً قوياً حتى نثبت على ما توعدنا فرعون من العذاب ولا نرتد بعد إيماننا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث قصص موسى وفرعون ففي الآيات قبل هذه تمت المناظرة بين موسى والسحرة بنصر موسى عليه السلام وهزيمة فرعون النكراء حيث سحرته بعد ظهور الحق لهم واضحاً مكشوفاً آمنوا وأسلموا وسجدوا لله رب العالمين. وفي هذه الآيات يخبر تعالى عن محاكمة فرعون للسحرة فقال عز من قائل {قال فرعون} أي للسحرة {آمنتم1 به} أي بموسى {قبل أن آذن لكم} أي في الإيمان به، وهي عبارة فيها رائحة الهزيمة والحمق، وإلا فهل الإيمان يتأتي فيه الإذن وعدمه، الإيمان إذعان باطني لا علاقة له بالإذن إلا من الله تعالى، ثم قال لهم {إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها} أي إن هذا الذي قمتم به من ادعاء الغلب لموسى بعدما أظهرتم الحماس في بداية المباراة ما هو إلا مكرا وتدبير خفي تم بينكم وبين موسى في المدينة قبل الخروج إلى ساحة المباراة، والهدف منه إخراجكم الناس2 من المدينة واستيلائكم عليها. ثم تهددهم وتوعدهم بقوله {فسوف تعلمون} ما أنا صانع بكم. وذكر ما عزم عليه فقال مقسماً {لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف} يريد بقطع من كل واحد منهم يده اليمنى ورجله اليسرى، ثم يربطهم على أخشاب في ساحة معينة ليموتوا كذلك نكالاً وعبرة لغيرهم. هذا ما أعلنه فرعون وصرح به
__________
1 الاستفهام هنا للإنكار والتهديد أي: ينكر على السحرة إيمانهم ويهددهم بالبطش بهم والتنكيل.
2 قد يكون المراد بعض الناس وهم بنو إسرائيل إذ موسى جاء يطالب بهم ليخرج بهم إلى أرض القدس.

للسحرة المؤمنين فما كان جواب السحرة {قالوا إنا إلى ربنا منقلبون} أي راجعون فقتلك إيانا لم يزد على أن قربنا من ربنا وردنا إليه ونحن في شوق إلى لقاء ربنا، وعليه فحكمك بقتلنا ما هو بضائرنا، وشيء آخر هو أنك {ما تنقم1 منا} يا فرعون أي ما تكره منا ولا تنكر علينا إجراماً أجرمناه أو فساداً في الأرض اشعناه إنما تنقم منا إيماننا بآيات ربنا لما جاءتنا وهذا شيء لا مذمة فيه علينا، ولا عاراً يلحقنا، فلذا {اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا} ثم أقبلوا على الله ورفعوا أيديهم إليه وقالوا ضارعين سائلين {ربنا أفرغ علينا صبراً} حتى نتحمل العذاب في ذاتك {وتوفنا مسلمين2}، ونفذ فرعون جريمته3 ولكن أحدث ذلك اضطراباً في البلاد ولم يكن فرعون ولا ملأه يتوقعون دل عليه الآيات التالية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- القلوب المظلمة بالكفر ولجرائم أصحابها لا يتورعون عن الكذب واتهام الأبرياء.
2- فضيلة الاسترجاع أن يقول {إنا لله وإنا إليه راجعون} حيث فزع إليها السحرة لما هددهم فرعون إذ قالوا {إنا إلا ربنا منقلبون} أي راجعون فهان عديهم ما تهددوا به.
3- مشروعية سؤال الصبر على البلاء للثبات على الإيمان.
4- فضل الوفاة على الإسلام وأنه مطلب عال لأهل الإيمان.
وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ(127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ
__________
1 يقال: نقَم ينقم من باب ضرب، نقْما ونقَما على أنه من باب تعِب تعبا إذا أنكر الفعل وكره صدوره وحقد على فاعله، ويكون بالقول والفعل.
2 كلمة الإسلام معروفة في كل زمان ومكان بين المؤمنين ويعبر عنها كل قوم بلغتهم إذ معناها الانقياد لله مع حبّه تعالى وتعظيمه والشوق إليه.
3 لم يرد في القرآن ما يدل على أنّ فرعون نفّد وعيده في السحرة أو لم ينفذه، وعدم ذكر القرآن له لأنه خالٍ من الفائدة، وذكر القرطبي بصيغة التمريض فقال: قيل إنّ فرعون أخذ السحر وقطعهم على شاطىء النهر وأنّه آمن بموسى عند إيمان السحرة ستمائة ألف والله أعلم.
??

اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(128) قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ(129)
شرح الكلمات:
قال الملأ: أي لفرعون.
أتذر: أي أتترك.
وقومه : أي بني إسرائيل.
ليفسدوا في الأرض : أي في البلاد بالدعوة إلى مخالفتك، وترك طاعتك.
وآلهتك: أصناماً صغاراً وضعها ليعبدها الناس وقال أنا ربكم الأعلى وربها.
نستحيي نساءهم : نبقي على نسائهم لا تذبحهن كما تذبح الأطفال الذكور.
ويستخلفكم في الأرض : أي يجعلكم خلفاء فيها تخلفون الظالمين بعد هلاكهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث قصص موسى وفرعون أنه بعد انتصار موسى في المباراة وإيمان السحرة ظهر أمر موسى واتبعه ستمائة ألف من بني إسرائيل، وخاف قوم فرعون من إيمان الناس بموسى ولما جاء به من الحق قالوا لفرعون على وجه التحريض والتحريك له {أتذر موسى وقومه } يريدون بني إسرائيل {ليفسدوا في الأرض} أي أرض مصر بإفساد خدمك1 أو عبيدك {ويذرك وآلهتك2} أي ويتركك فلا يخدمك ولا يطيعك ويترك آلهتك فلا
__________
1 وإيقاع الفرقة وتشتيت الشمل أيضاً.
2 وقرىء {وإلهتك} أي: عبادتك وعلى هذا فإنه كان يَعْبُد ولا يُعبد والوجه الأوّل أظهر.

يعبدها إذ كان لفرعون أصنام يدعو الناس لعبادتها لتقربهم إليه وهو الرب الأعلى للكل.
وبعد هذا التحريش والإغراء من رجال فرعون ليبطش بموسى وقومه قال فرعون {سنقتل1 أبناءهم ونستحيي نساءهم} كما كان يفعل قبل عندما أخبر بأن سقوط ملكه سيكون على يد بني إسرائيل {وإنا فوقهم قاهرون} هذه الكلمة من فرعون في هذا الظرف بالذات لا تعد وأن تكون تعويضاً عما فقد من جبروت ورهبوت كان له قبل هزيمته في المباراة وإيمان السحرة برب العالمين رب موسى وهارون. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (127) وهي قوله تعالى {وقال الملأ من قوم فرعون: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض، ويذرك وآلهتك. قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم، وإنا فوقهم قاهرون} وكان رد موسى عليه السلام على هذا التهديد والوعيد الذي أرعب بني إسرائيل وأخافهم ما جاء في الآية الثانية (128) {وقال موسى لقومه} أي من بني إسرائيل {استعينوا بالله} على ما قد ينالكم من ظلم فرعون، وما قد يصيبكم من أذى انتقاماً لما فقد من علوه وكبريائه {واصبروا} على ذلك، واعلموا {ان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} فمتى صبرتم على ما يصيبكم فلم تجزعوا فترتدوا، واتقيتم الله ربكم فلم تتركوا طاعته وطاعة رسوله أهلك عدوكم وأورثكم أرضه ودياره، وسبحان الله هذا الذي ذكره موسى لبني إسرائيل قد تم حرفياً بعد فترة صبر فيها بنو إسرائيل واتقوا كما سيأتي في هذا السياق بعد كذا آية، وهنا قال بنو إسرائيل ما تضمنته الآية الأخيرة (129) {قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا} بما أتيتنا به من الدين والآيات، وذلك عندما كان فرعون يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم للخدمة {ومن بعدما جئتنا} وهذه منهم كلمة الآيس المهزوم نفسياً لطول ما عانوا من الاضطهاد والعذاب من فرعون وقومه الأقباط. فأجابهم موسى عليه السلام قائلاً: محيياً الأمل في نفوسهم وإيصالهم بقوة الله التي لا تقهر {عسى2 ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف3 تعملون} وهذا الذي رجاه موسى ورجاه بني إسرائيل قد تم كاملاً بلا نقصان والحمد لله الكريم المنان.
__________
1 آنس قومه بهذه الجملة من الكلام وأذهب عنهم روح الهزيمة، ولم يقل سنقتل موسى لعلمه أنه لا يقدر عليه ولما أصابه من الرّعب منه حتى قيل: إنه كان إذا رآه يبول من شدّة الخوف منه وهي آية موسى عليه السلام.
2 عسى من الله واجب أي ليست للرجاء فقط بل ما يذكر جمعها يقع لا بدّ ولا يتخلّف، ولذا قد تحقق ما ذكر معها هنا كاملاً لا نقص فيه.
3 كيف: ليست للاستفهام هنا وإنّما هي دالة على مجرّد كيفية أعمالهم هل هي أعمال صالحة أو فاسدة أي: هل يشكرون؟

هداية الآيات.
من هداية الآيات:
1-خطر بطانة السوء على الملوك والرؤساء تجلت في إثارة فرعون ودفعه إلى البطش بقولهم {أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض... الخ}.
2- بيان فضيلة الصبر والتقوى وأنها مفتاح النصر وإكسير الكمال البشري.
3- النفوس المريضة علاجها عسير ولكن بالصبر والمثابرة تشفى إن شاء الله تعالى.
4- بيان صدق ما رجاه موسى من ربه حيث تحقق بحذافيره.
5- استحسان رفع معنويات المؤمنين بذكر حسن العاقبة والتبشير بوعد الله لأوليائه أهل الإيمان والتقوى.
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(130) فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(131) وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ(132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ(133)
شرح الكلمات :
أخذنا آل فرعون بالسنين1 : أي عاقبناهم بِسِنِيى الجدب والقحط.
__________
1 يقال : أصابتهم سنة أي : جدب وتقديره: جدب سنة وفي الحديث: "اللّهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف" دعاء على قريش.

ونقص من الثمرات.: بالحوائج تصيبها، وبعدم صلاحيتها.
الحسنة : ما يحسن من خصب ورخاء وكثرة رزق وعافية.
سيئة : ضد الحسنة وهي الجدب والغلاء والمرض.
يطيروا بموسى1: أن يتشاءمون بموسى وقومه.
الطوفان والجراد والقمل والضفادع : الطوفان الفيضانات المغرقة، والجراد معروف بأكل الزرع والثمار، والقمل جائز أن يكون القمل المعروف وجائز أن يكون السوس في الحبوب، والضفادع جمع ضفدعة. حيوان يوجد في المياه والمستنقعات.
والدم: والدم معروف قد يكون دم رعاف أو نزيف، أو تحول الماء ماء الشرب إلى دم عبيط في أوانيهم وأفواههم آية لموسى عليه السلام.
فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين: حيث لم يؤمنوا بهذه الآيات. أي مفسدين حيث حكم بإهلاكهم.
معنى الآيات :
ما زال السياق في قصص موسى مع آل فرعون انه لما شاهد فرعون وآله آية العصا وانهزام السحر أمامهم وإيمان السحرة حملهم الكبر على مواصلة الكفر والعناد فأصابهم الرب تعالى بجفاف وقحط سنوات لعلهم يذكرون، ولم يذكروا فحول الله تعالى جدبهم إلى خصب، وبلاءهم إلى عافية فلم يرجعوا وقالوا في الرخاء هذه لنا نحن مستحقوها وجديرون بها، وقالوا في القحط والبلاء قالوا هذه من شؤم موسى وبنى إسرائيل، قال تعالى {ألا أنما طائرهم عند الله} وذلك لأنه مدبر الأمر وخالق كل شيء وجاعل للحسنة أسبابها وللسيئة أسبابها ولكن أكثرهم لا يعلمون فلذلك قالوا اطيرنا بموسى ومن معه وأصروا على الكفر ولجوا في المكابرة والعناد حتى قالوا لموسى {مهما2 تأتنا به من آية
__________
1 أصل الكلمة: يتطيّروا فأدغمت التاء في الطاء لأنّ مخرجهما واحد، والطير والتطير مأخوذ من زجر الطير. إذ كانوا إذا أرادوا عملا ما سفراً ونحوه يزجرون الطير فإن تيامن في طيرانه أقدموا على العمل، وإن تشاءم تركوا فهذا أصل اليمن والشؤم كان في الجاهلية وأبطله الإسلام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطيرة شرك ثلاثاً" وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل وعلمهم أن يقولوا: "اللهم لا طير إلاّ طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك".
2 أصل مهما: ما. ما الأولى شرطية والثانية زائدة توكيداً للجزاء فكرهوا حرفين من جنس واحد متجاورين فأبدلوا الألف هاء ففصلت بين الميمين.

لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين} ولو علموا ما أصروا على الكفر ولما قالوا ما قالوا فأسباب الحسنة الإيمان والتقوى، وأسباب السيئة الكفر والمعاصي، إذ المراد بالحسنة والسيئة هنا: الخير والشر. وهنا وبعد هذا الإصرار والعناد والمكابرة رفع موسى يديه إلى ربه يدعوه فقال: يا رب إن عبدك فرعون علا في الأرض وبغا وعتا، وأن قومه قد نقضوا العهد فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة، ولقومي عظة، ولمن بعدهم آية، فاستجاب الله تعالى دعاءه فأرسل عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع1 والدم فأخذهم الطوفان أولاً فكادوا يهلكون بالغرق فجاءوا موسى وطلبوا منه أن يدعو ربه ليرفع عنهم هذا العذاب فإن رفعه عنهم آمنوا وأرسلوا معه بني إسرائيل فدعا ربه واستجاب الله تعالى فأخذوا شهراً في عافية فطلب منهم موسى ما وعدوه به فتنكروا لوعدهم وأصروا على كفرهم فأرسل الله تعالى عليهم الجراد2 فأكل زروعهم وأشجارهم وثمارهم حتى ضجوا وصاحوا وأتوا موسى وأعطوه وعودهم إن رفع الله عنهم هذا العذاب آمنوا وأرسلوا معه بني إسرائيل فرفع الله عنهم ذلك فلبثوا مدة آمنين من هذه العاهة وطالبهم موسى بوعدهم فتنكروا له، وهكذا حتى تمت الآيات الخمس مفصلات ما بين كل آية وأخرى مدة تقصر وتطول فاستكبروا عن الإيمان والطاعة وكانوا قوماً مجرمين مفسدين لا خير فيهم ولا عهد لهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- من تدبير الله تعالى أخذه عباده بالشدائد لعلهم يذكرون فيتعظون ويتوبون.
2- بطلان التطير مطلقاً، وإنما الشؤم في المعاصي بمخالفة شرع الله فيترتب على الفسق والعصيان البلاء والعذاب.
3- الجهل سبب الكفر والمعاصي وسوء الأخلاق وفساد الأحوال.
4- عدم إيمان آل فرعون مع توارد الآيات عليهم دال على أن إيمانهم لم يسبق به القدر. كما هو دال على أن الآيات المعجزات لا تستلزم الإيمان بالضرورة.
5- التنديد بالإجرام وهو إفساد النفس بالشرك والمعاصي.
__________
1 صح النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم "عن قتل الصُّرد والضفدع والنملة والهدهد" من رواية أبي داود وأحمد وابن ماجه.
2 اختلف في قتل الجراد، وأجمعوا أنه إذا أفسد جاز قتله. وأجمعوا على جواز أكله بأكل الرسول صلى الله عليه وسلم منه هو وأصحابه في بعض الغزوات.
??

وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ(134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ(135) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ(136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ(137)
شرح الكلمات:
الرجز : العذاب وهو الخمسة المذكورة في آية (133) الآنفة الذكر.
إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون : المراد من الأجل أنهم كانوا إذا سألوا موسى أن يدعو ربه ليرفع عنهم العذاب ويعدونه بالإيمان وإرسال بني إسرائيل معه فيرفع الله عنهم العذاب فيمكثون زمنا ثم يطالبهم موسى بالإيمان وإرسال بني إسرائيل فيأبون عليه ذلك وينكثون عهدهم.
فانتقمنا منهم: أي أنزلنا بهم نقمتنا فأغرقناهم في اليم الذي هو البحر.

الذين كانوا يستضعفون .: هم بنو إسرائيل.
مشارق الأرض ومغاربها : هي أرض مصر والشام.
وتمت كلمة ربك الحسنى : هي وعده تعالى لهم في قوله {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين} من سورة القصص.
وما كانوا يعرشون1: أي يرفعون من مباني الدور والقصور العالية.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصص موسى مع فرعون وقومه، وهذه هي الآيات الأخيرة في هذا القصص إنه لما وقع عليهم الرجز وهو العذاب المفصل2 الطوفان فالجراد، فالقمل، فالضفادع، فالدم {قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك} 3 أي من كشف العذاب عنا إن نحن آمنا بك وبما جئت به وبما تطالب به من إرسال بني إسرائيل معك وحلفوا وقالوا {لئن كشفت عنا الرجز} {لنؤمن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل} قال تعالى: {فلما كشف عنهم الرجز} أي العذاب {إلى أجل هم بالغوه} إلى وقت ينتهون إليه {إذ هم ينكثون4} عهودهم ولم يؤمنوا ولم يرسلوا بني إسرائيل وكان هذا ما بين كل آية وآية حتى كانت الخمس الآيات، ودقت ساعة هلاكهم قال تعالى {فأغرقناهم في اليم} وهو البحر الملح أي أغرق فرعون وجنده ورجال دولته وأشراف بلاده، ثم ذكر تعالى علة هذا الهلاك الذي حاق بهم ليكون عبرة لغيرهم وخاصة قريش التي ما زالت مصرة على الشرك والتكذيب، فقال تعالى {بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين} كما هي الحال في
__________
1 {ما عهد عندك} الباء لتعدية فعل الدعاء، وما موصولة مبهم أي: ادعه بما علمك ربك من وسائل إجابة دعائك عنده ليكشف عنا الرّجز.
2 أصل النكث: هو نقض المقول من حبل وغزل واستعير لعدم الوفاء بالعهد.
3 شبّه البناء العالي الرفيع بالعرش يقال: عرش يعرش عرشا: إذا رفع البناء أو السرير والعنب والدوالي يعرش لها بناء من خشب ليرفعها عليه.
4 وقيل إنه طاعون قتل منهم سبعين ألف نسمة إذ لفظ الرجز دالّ على مرض الطاعون لقوله تعالى: {فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون}.

قريش ومشركي العرب وكفارهم. وختم تعالى هذا القصص قصص موسى مع فرعون بقوله {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون} وهم بنو إسرائيل حيث استعبدهم فرعون الظالم وآله زمناً غير قصير {مشارق الأرض ومغاربها1} وهي أرض مصر والشام إذ الكل مما بارك الله تعالى فيه إلا أن أرض الشام أولاً ثم أرض مصر ثانياً، إذ دخل بنو إسرائيل أرض فلسطين بعد وفاة موسى وهارون حيث غزا بهم يوشع بن نون العمالقة في أرض فلسطين وفتح البلاد وسكنها بنو إسرائيل وقوله تعالى {وتمت كلمة ربك الحسني على بنى إسرائيل بما صبروا} والمراد من كلمة الله قوله في سورة القصص {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض، ونرى فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يحذرون} وقوله تعالى {ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه} من سلاح وعتاد ومبان شداد، وقصور رفيعة البنيان، {وما كانوا يعرشون} ويرفعون ويعلون من صروح عالية، وحدائق أعناب زاهية زاهرة وأورث أرضهم وديارهم وأموالهم قوماً آخرين غيرهم، والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. إلى هنا انتهى قصص موسى عليه السلام مع فرعون وملائه وكانت العاقبة له والحمد لله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ضعف الإنسان يظهر عند نزول البلاء به حيث يفزع إلى الله تعالى يدعوه ويضرع إليه وعند رفعه حيث ينسى ما نزل به ويعود إلى عاداته وما كان عليه من الشرك والمعاصي إلا من آمن وعمل صالحاً فأنه يخرج من دائرة الضعف حيث يصبر عند البلاء ويشكر عند النعماء.
2- سبب العذاب في الدنيا والآخرة التكذيب بآيات الله بعدم الإيمان والعمل بها، والغفلة عنها حيث لا يتدبّر ولا يفكر فيها وفي ما نزلت لأجله.
3- مظاهر قدرة الله، وصادق وعده، وعظيم منته على خلقه، وحسن تدبيره فيهم فسبحانه من إله عليم حكيم رؤوف رحيم.
__________
1 كما يصدق هذا على أرض الشام إذلها مشارق ومغارب، ومن بينها الأرض المقدّسة أرض فلسطين يصدق أيضاً على أرض مصر وغيرها إذ مملكة بني إسرائيل على عهد سليمان كانت قد انتظمت المعمورة كلّها.

وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ(138) إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(139) قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(140) وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ(141)
شرح الكلمات:
وجاوزنا ببني إسرائيل البحر: أي قطعنا بهم فاجتازوه إلى ساحله.
يعكفون على أصنام لهم: يجلسون إلى تماثيل بقر منحوتة من حجر.
اجعل لنا إلهاً: أي معبوداً يريدون تمثالاً كالذي شاهدوا.
تجهلون: أي أنَّ العبادة لا تكون إلا لله تعالى.
متبرما هم فيه: هالك خاسر لا يكسبهم خيراً ولا يدفع عنهم شراً.
وإذ نجيناكم: أي واذكروا نعم الله عليكم بإنجائه إياكم من آل فرعون.
يسومونكم سوء العذاب : يوردونكم موارد الردى والهلاك بما يصيبونكم به من عذاب.
بلاء من ربكم: أي اختبار وامتحان قاسٍ شديد.
معنى الآيات:
هذا بداية قصص جديد لنبي الله تعالى موسى مع قومه من بني إسرائيل إنه بعد هلاك فرعون وجنوده في اليم، انتهى الكلام على دعوة موسى لفرعون وملئه، وبذلك استقبل موسى وأخوه هارون مشاكل جديدة مع قومهما أنه بعد أن جاوز تعالى ببني إسرائيل البحر

ونزلوا على شاطئه سالمين مرّوا بأناس يعكفون1 على تماثيل لهم وهي عبارة عن أبقار حجرية منحوتة نحتاً يعبدونها وهم عاكفون عليها وما إن رأى بنو إسرائيل هؤلاء العاكفين على الأصنام حتى قالوا لموسى يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهؤلاء آلهة، وهي كلمة دالة على جهلٍ بالله تعالى وآياته، فما كان من موسى عليه السلام حتى جابههم بقوله: {إنكم قوم تجهلون} وواصل تأنيبه لهم وإنكاره الشديد عليهم فقال {إن هؤلاء} أي العاكفين على الأصنام والذين غرتكم حالهم {متبر2 ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون} أي إنهم وما هم عليه من حال في هلاك وخسار، ثم قال لهم منكراً متعجباً {أغير الله أبغيكم إلهاً} أي غير ربي عز وجل أطلب لكم إلهاً تعبدونه دون الله ما لكم أين يذهب بعقولكم، وهو سبحانه وتعالى فضلكم على العالمين وشرفكم على سائر سكان المعمورة3 أهكذا يكون شكركم له بطلب إلى غيره، وهل هناك من يستحق العبادة غيره؟ وقوله تعالى في الآية الأخيرة (141) {وإذ أنجيناكم4 من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب} أي واذكروا يا من قلتم اجعل لنا إلهاً كما للمشركين آلهة اذكروا فضل الله عليكم بإنجائه إياكم من فرعون وآله وهم الذين كانوا على منهجه في الظلم والكفر من رجال حكمه وأفراد شرطه وجيوشه {يسومونكم سوء العذاب: يقتلون أبناءكم} حتى لا تكثروا، {ويستحيون نساءكم} للامتهان والخدمة، وفي هذا التعذيب والإنجاء منه {بلاء من ربكم عظيم} يتطلب شكركم لا كفركم، فكيف تريدون أن تعبدوا غيره، وتشركوا به أصناماً لا تنفع ولا تضر، إن أمركم لجد مستغرب وعجب فاتقوا الله وتوبوا إليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- طلب بني إسرائيل من موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلهاً يعبدونه دال على جهل
__________
1 قرىء {يعكُفون} بكسر الكاف وضمها سبعيتان، والعكوف: الإقامة على الشيء وملازمته، ومنه العكوف في المساجد وهو الإقامة بها وملازمتها مدّه للعبادة.
2 متبّر: مهلك، والتبار: الهلاك، وكل إناء منكسر فهو متبّر.
3 هذا التفضيل خاص بزمانهم الذي كانوا فيه مع أنبيائهم وهم صالحون.
4 بعد أن أنكر عليهم طلبهم إلهاً غير الله في قوله {أغير الله أبغيكم إلهاً} ذكرهم بنعمة الله عليهم وهي: إنجاؤهم من آل فرعون فهل يليق بمن ينعم الله عليه بنعمة عظيمة أن ينساه ويطلب إلهاً غيره يعبده بدله أو معه؟

تام في بني إسرائيل ولذا قال لهم موسى {إنكم قوم تجهلون} فالعلة في هذا الطلب العجيب هي الجهل بالله تعالى وأسمائه وصفاته، يشهد لهذا أن مسلمة الفتح لما خرج بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين مروا بسدرة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أجعلها لنا ذات أنواط ننيط بها أسلحتنا، كما للمشركين نظيرها ينيطون بها أسلحتهم لينتصروا في القتال على أعدائهم فعجب الرسول من قولهم وقال "سبحان الله ما زدتم أن قلتم كما قال بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة" فجهل القائلين هو الذي سهل عليهم أن يقولوا مثل هذا القول، ويشهد لذلك أن آلاف الأشجار والمزارات في بلاد المسلمين تزار ويتبرك بها وتقدم لها القرابين ولا علة لذلك سوى جهل المسلمين بربهم عز وجل.
2- إنكار المنكر عند وجوده والعثور عليه بالأسلوب الذي يغيره.
3- استحباب التذكير بأيام الله خيرها وشرها لاستجلاب الموعظة للناس لعلهم يتوبون.
4- الرب تعالى يبتلى بالخير والغير، وفي كل ذلك خير لمن صبر وشكر.
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ(142) وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ(143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ(144) وَكَتَبْنَا

لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ(145)
شرح الكلمات:
ميقات: الميقات الوقت المعين.
أخلفني في قومي : أي كن خليفتي فيهم.
المفسدين : الذين يعملون بالمعاصي.
استقر مكانه: ثبت ولم يتحول.
خرّ : سقط على الأرض.
أفاق : ذهب عنه الإغماء وعاد إليه1 وعيه.
اصطفيتك : أخترتك .
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر أحداث موسى مع بني إسرائيل انه لما نجى الله تعالى بني إسرائيل من فرعون وملئه، وحدثت حادثة طلب بني إسرائيل من موسى أن يجعل لهم إلهاً كما للمشركين إلهاً وقد أنبأهم موسى وأدبهم عن قولهم الباطل واعد الله تعالى موسى أن يناجيه بجبل الطور وجعل له الموعد الذي يلقاه فيه شهراً ثلاثين يوماً وكانت شهر القعدة وزادها عشراً من أول الحجة فتم الميقات أربعين2 ليلة. وعند خروجه عليه السلام استخلف في بني إسرائيل أخاه هارون3 وأوصاه بالإصلاح، ونهاه عن إتباع آراء المفسدين هذا معنى قوله تعالى {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} وكان
__________
1 في الحديث الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تخيروا بين الأنبياء فإنَّ الناس يصعقون يوم القيامة فأرفع رأسي فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أصعق فيمن صعق فأفاق قبلي أو جوزي بصعقة الطور".
2 ذكر ابن عباس ومجاهد ومسروق في سبب زيادة العشرة أيام: أن موسى لمّا أكمل صيام الثلاثين يوماً أنكر خلوف فمه فاستاك. فقالت له الملائكة: "إنّا كّنا نستنشق من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فزيد فيه عشر ليال فتم له بذلك أربعون يوماً. في الحديث الصحيح " خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك".
3 في الآية دليل على استخلاف المرء أخاه لينوب عنه في حفظ ورعاية ما كلّفه به، ومن العجب أن الروافض استدلوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي وقد استخلفه في إحدى غزواته "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي" إنّ الأصحاب كفروا لتركهم النّص في خلافة علي واجتهدوا واستخلفوا أبا بكر، ومنهم من كفّر علياً لأنه لم يطالب بالخلافة وما دروا أنّ الرسول استخلف غير واحد ومنهم ابن أمّ مكتوم فهل دلّ ذلك على استخلافه على أمته بعد موته؟ فما أضل القوم وأعظم جهلهم!

ذلك من أجل أن يأتي بني إسرائيل بكتاب من ربهم يتضمن شريعة كاملة يساسون بها وتحكمهم ليكملوا وشحعدوا عليها.
وقوله تعالى {ولما جاء موسى لميقاتنا1} أي في الموعد الذي واعدنا والوقت الذي حددنا وكلمه ربه بلا واسطة بينهما بل كان يسمع كلامه ولا يرى ذاته، تاقت نفس موسى لرؤية ربه تعالى، فطلب ذلك فقال {رب أرني أنظر إليك} فأجابه ربه تعالى بقوله إنك لن تراني أي رؤيتك لي غير ممكنة لك، ولكن إذا أردت أن تتأكد من أن رؤيتك لي في هذه الحياة غير ممكنة فانظر إلى الجبل "جبل الطور"فإن استقر مكانه بعد أن أتجلى له، فسوف لراني {فلما تجلى2 للجبل جعله دكا وخر موسى} عند رؤية الجبل {صعقا} أي مغشيا عليه {فلما أفاق} مما اعتراه من الصعق {قال سبحانك} أي تنزيهاً لك وتقديساً {تبت إليك3} فلم أسألك بعد مثل هذا السؤال {وأنا أول المؤمنين} بك وبجلالك وعظيم سلطانك وأنا عبدك عاجز عن رؤيتك في هذه الدار دار التكليف والعمل.
وهنا أجابه ربه تعالى قائلا {يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك} من هذا الكمال4 والخير العظيم {وكن من الشاكرين} أي على إنعامي لأزيدك وذلك بطاعتي والتقرب إلى بفعل محابي وترك مكارهي. وقوله تعالى {وكتبنا له في الألواح5 من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء} أي كتبت له في ألواحه من كل شيء
__________
1 في الآية دليل على مشروعية الموادعة والتوقيت وأن التاريخ يكون باللّيالي لا بالأيام، قال ابن العربي: حساب الشمس للمنافع وحساب القمر للمناسك.
2 تجلّى معناه ظهر، واندكاك الجبل على قوة بنيته وعظيم جسمه كان لعجزه عن رؤية الربّ تبارك وتعالى وهذا كقوله تعالى: {ولو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله}.
3 الإجماع على أنّ توبة موسى هذه لم تكن من ذنب وإنما هي بمعنى الإنابة إلى الله تعالى وعدم طلب مثل هذا الذي طلب.
4 فيه الدعوة إلى القناعة وهي خير ما يؤتى المرء في الحياة.
5 اختلف في أيهما كان أوّلا الألواح أو التوراة، والظاهر أن الألواح كانت أوّلاً ثم أوحيت التوراة عليها فصارت كتاباً واحداً هو التوراة.

من أمور الدين والدنيا موعظة لقومه من أمر ونهي وترغيب وترهيب، وتفصيلاً لكل شيء يحتاجون إلى بيانه وتفصيله. وقوله {فخذها بقوة} أي وقلنا له خذها بقوة أي بعزم وجد وذلك بالعمل بحلالها وحرامها فعلاً وتركاً، {وأمر قومك} أيضاً {يأخذوا بأحسنها} أي بما هو عزائم فيها وليس برخص تربية لهم وتعويداً لهم على تحمل العظائم لما لازمهم من الضعف والخور دهراً طويلاً. وقوله تعالى {سأريكم دار الفاسقين1 } يتضمن النهي لبني إسرائيل عن ترك ما جاء في الألواح من الشرائع والأحكام فإنهم متى تركوا ذلك أو شيئاً منه يعتبرون فاسقين، وللفاسقين نار جهنم هي جزاؤهم يوم يلقون ربهم، وسيريهم إياها، فهذه الجملة تحمل غاية الوعيد والتهديد للذين يفسقون عن شرائع الله تعالى بإهمالها وعدم العمل بها، فليحذر المؤمنون هذا فإنه أمر عظيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- المحافظة على المواعيد أمر محبوب للشارع مرغب فيه وهو من سمات الصادقين.
2- جواز الاستخلاف في الأرض في مهام الأمور فضلاً عما هو دون ذلك.
3- مشروعية الوصية للخلفاء بما هو خير.
4- امكان رؤية الله تعالى وهي ثابتة في الآخرة لأهل الجنة.
5- استحالة رؤية الله تعالى في الدنيا لضعف الإنسان على ذلك.
6- وجود الأمة القابلة لأحكام الله قبل وجود الشرع الذي يحكمها.
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا
__________
1 وجائز أن يُراد بدار الفاسقين: بلاد القدس والشام إذ سكانها كانوا فاسقين فواعد الله بني إسرائيل بدخول تلك البلاد والانتصار على أهلها الفاسقين.

وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ(146) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(147)
شرح الكلمات:
سأصرف : سأبعد.
يتكبرون: يعلون ويترفعون فيمنعون الحقوق ويحتقرون الناس.
سبيل الرشد: طريق الحق القائم على الإيمان والتقوى.
سبيل الغي : طريق الضلال القائم على الشرك والمعاصي.
وكانوا عنها غافلين: لا يلتفتون إليها ولا ينظرون فيها ولا يتفكرون فيما تدل عليه وتهدي إليه.
حبطت أعمالهم: فسدت فلا ينتفعون بها لأنها أعمال مشرك والشرك محبط للعمل.
معنى الآيتين الكريمتين:
هاتان الآيتان تحملان تعليلاً صحيحاً صائباً لكل انحراف وفساد وظلم وشر وقع في الأرض ويقع إلى نهاية هذه الحياة وهذا التعليل الصحيح هو التكذيب بآيات الله والغفلة عنها، وسواء كان الحامل على التكذيب الكبر أو الظلم، أو التقليد أو العناد، إلا أن الكبر أقوى عوامل الصرف عن آيات الله تعالى لقوله عز وجل في مطلع الآية الأولى (146) {سأصرف1 عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} ومن صرفه الله حسب سنته في صرف العباد لا يقبل ولا يرجع أبداًً، وقوله {وإن يروا سبيل الرشد2 لا يتخذوه سبيلاً، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً} هذا بيان لعامل من عوامل الصرف عن آيات الله. وهو أن يعرض على العبد سبيل الرشد فيرفضه، ويرى سبيل الغي فيتبعه ويتخذه سبيلاً،
__________
1 قال قتادة: سأمنعهم فهم كتابي وقال سفيان: سأصرفهم عن الإيمان بها وذلك مجازاة لهم على تكبّرهم. وما ذكرناه في التفسير لا يتنافى مع هذا.
2 الرشد: ضد السفه والخيبة وقرىء بالضم وقرىء بفتح الراء والشين الرَّشد، وقرىء يُروا بضم الياء.

وقوله تعالى {ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا} التي جاءت بها رسلنا {وكانوا عنها غافلين} غير مبالين بها ولا ملتفتين1 إليها هذا هو التعليل الصحيح الذي نبهنا إليه فليتأمل، وقوله تعالى في الآية الثانية (147) {والذين كذبوا بآياتنا2 ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم} تقرير المراد به تأكيد سران أولئك المصروفين عن آيات الله تعالى، إذ أعمالهم لم تقم على أساس العدل والحق بل قامت على أساس الظلم والباطل فلذا هي باطلة من جهة فلا تكسبهم خيراً، ومن جهة أخرى فهي أعمال سوء سوف يجزون بها سوءاً في دار الجزاء وهو عذاب الجحيم، ولذا قال تعالى {هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} أي ما يجزون إلا ما كانوا يعملون من السوء، وعدالة الله تعالى أن من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله تعالى في صرف العباد عن آيات الله حتى يهلكوا كما هلك فرعون وآله.
2- من أقوى عوامل الصرف عن آيات الله الكبر.
3- التكذيب بآيات الله والغفلة عنها هما سبب كل ضلال وشر وظلم وفساد.
4- بطلان كل عمل لم يسلك فيه صاحبه سبيل الرشد التي هي سبيل الله التي تحدد الآيات القرآنية وتبين معالمها، وترفع أعلامها.
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ(148) وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا
__________
1 مع ما تحمله من الوعد والوعيد، وبيان الهدى والضلال، والخير والشر والحق والباطل فغفلتهم الناشئة عن مرض قلوبهم بسبب الكبر والتكذيب هي التي حالت دون تذكرهم وتدبرّهم.
2 الآيات في الآية السابقة عامة في المعجزات الكونية في الأنفس والأفاق، والتنزيلة القرآنية، وفي هذه الآية المراد بها: القرآنية بقرينة التكذيب بها ويوم القيامة.

رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(149)
شرح الكلمات:
من حليهم : جمع حلى 1 وهو ما تتحلى به المرأة لزوجها من أساور ونحوها من ذهب.
عجلاً جسداً: العجل ولد البقرة والجسد أي ذاتا لا مجرد صورة على ورق أو جدار.
له خوار : الخوار صوت البقر كالرغاء2 صوت الإبل.
ولما سقط في أيديهم : أي ندموا على عبادته لأنها عبادة باطلة.
معنى الآيات:
هذا عود إلى قصص موسى عليه السلام مع قومه من بني إسرائيل، فقد كان السياق مع موسى في جبل الطور وطلبه الرؤية وتوبته من ذلك ثم اعترض السياق ببيان القاعدة العظيمة في تعليل هلاك العباد وبيان سببه وهو التكذيب بآيات الله المنزلة والغفلة عنها، ثم عاد السياق لقصص موسى مع بني إسرائيل فقال تعالى {واتخذ قوم موسى من بعده} أي من بعد غيبته في جبل الطور لمناجاة ربه وليأتي بالكتاب الحاوي للشريعة التي سيسوسهم بها موسى ويحكمهم بموجبها ومقتضى قوانينها اتخذوا {من حليهم} أي حلي نسائهم {عجلاً جسداً له خوار3} وذلك أن السامري4 طلب من نسائهم حليهم بحجة واهية: أن هذا الحلي مستعار من نساء الأقباط ولا يحل تملكه فاحتال عليهم وكان صائغاً فصهره وأخرج لهم منه {عجلاً5 جسداً} أي ذاتاً {له خوار} أي صوت كصوت البقر، وقال لهم هذا إلهكم وإله موسى فاعبدوه ولم يقل وإله هارون لأن هارون كان معهم خليفة
__________
1 الحلي: يجمع على حُليّ وَحِلي كثدي يجمع على ثُدي بضم الياء وثِدي بكسرها.
2 والثغاء. صوت الشاة، والمواء: صوت القط، والعراء: صوت الذئب، واليعار: صوت المعز.
3 الخوار: صوت العجل، والجؤار: مثله، وفعل الخوار خار يخور خواراً، وفعل الجؤار جأر يجأر جؤراً، وأما خور يخور خوراً فمعناه: جبن وضعف.
4 نسبة إلى قرية نسمى: سامرة، واسمه: موسى بن ظفر، ولد عام قتل الأبناء كموسى عليه السلام.
5 العجل ولد البقرة كالحوار: ولدُ الناقة والمهر: ولدُ الفرس، والجحش: ولد الأتان والحمل: ولدُ الشاة، والجسد: الجثة.

فخاف أن يكذبه هارون فلم ينسبه إليه، وقوله تعالى {ألم يروا أنه لا يكلمهم1 ولا يهديهم سبيلاً} توبيخ لهم وتقريع على غباوتهم وجهلهم، وإلا كيف يعتقدون إلهاً وهو لا يتكلم فيكلمهم ولا يُعقل فيهديهم سبيل الرشد إن ضلوا وقد ضلوا بالفعل ثم قال تعالى {اتخذوه} أي إلهاً {وكانوا ظالمين} في ذلك، لأن الله رب موسى وهارون والعالمين لم يكن عجلاً ولا مخلوقاً كائناً من كان فما أجهل القوم وما أسوأ فهمهم وحالهم. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (148) وأما الآية الثانية (149) فقد أخبر تعالى عن حالهم بعد انكشاف الأمر لهم، وبيان خطئهم فقال تعالى {ولما سقط2 في أيديهم} أي ندموا ندماً شديداً ورأوا أنهم بشركهم هذا قد ضلوا الطريق الحق والرشد، صاحوا معلنين توبتهم {لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر3 لنا} أي هذا الذنب العظيم {لنكونن من الخاسرين} في الدار الآخرة فنكون من أصحاب الجحيم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- بيان سنة من سنن الكون وهي أن المرء يتأثر بما يرى ويسمع، والرؤية أكثر تأثيراً في النفس من السماع فإن بني إسرائيل رؤيتهم للأبقار الآلهة التي مروا بأهل قرية يعكفون عليها وطلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهاً مثلها هو الذي جعلهم يقبلون عجل السامري الذي صنعه لهم، ومن هذا كان منظر الأشياء في التلفاز وشاشات الفيديو مؤثراً جداً وكم أفسد من عقول ولوث من نفوس، وأفسد من أخلاق.
2- تقبيح الغباء والجمود في الفكر، وذلك لقول الله تعالى {ألم يروا أنه لا يكلمهم}.
3- إذا أراد الله بعبده خيراً ألهمه التوبة بعد المعصية فندم واستغفر.
__________
1 إذ الربّ وهو المربي والمصلح والمعبود المشرّع للعبادات يجب أن يكون متكلّماً يهديهم سبل كمالهم وسعادتهم.
2 سُقط بضم السين، وأسقط بضم الهمزة بالبناء للمفعول، يقال للنادم المتحيّر: سقط في يده وأسقط في يده، وقرىء: سقط بالبناء للفاعل، أي: سقط الندم في يده، والندم يكون في القلب، وإنما ذكروا اليد هنا تشبيهاً بمن سقط شيء في يده وهو مثل: عض يده من الندم.
3 أي: عادوا إلى الحق فتضرعوا إلى الله تعالى ودعوه معترفين بخطئهم مستنفرين ربّهم رجاء أن ينجيهم من الخسران.

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ(152) وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(153) وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ(154)
شرح الكلمات:
ولما رجع موسى : أي من جبل الطور بعد مرور أكثر من أربعين يوما.
أسفاً : أي حزيناً شديد الحزن والغضب.
أعجلتم أمر ربكم : أي استعجلتم.
برأس أخيه : أي هارون شقيقه.
قال ابن أم : أصلها يا ابن أمي فقلبت الياء ألفاً نحو يا غلاماً، ثم حذفت وهارون شقيق موسى وإنما ناداه بأمه لأنه أكثر عطفاً وحناناً.

فلا تشمت بي الأعداء : أي لا تجعل الأعداء يفرحون بإهانتك أو ضربك لي.
اتخذوا العجل .: أي إلهاً عبدوه.
المفترين : الكاذبين على الله تعالى بالشرك به أي يجعل شريك له.
ولما سكت عن موسى الغضب: زال غضبه وسكنت نفسه من القلق والاضطراب.
أخذ الألواح : أي من الأرض بعد أن طرحها فتكسرت.
وفي نسختها : أي وفي ما نسخه منها بعد تكسرها نسخة فيها هدى ورحمة.
يرهبون : يخافون ربهم ويخشون عقابه فلا يعصونه.
معنى الآيات:
مازال السياق في أحداث قصص موسى مع بني إسرائيل ففي هذا السياق الكريم يخبر تعالى أن موسى عليه السلام لما رجع إلى قومه من مناجاته وقد أخبره ربه تعالى أنه قد فتن قومه من بعده وأن السامري قد أضلهم فلذا رجع {غضبان أسفاً1} أي شديد الغضب2 والحزن، وما إن واجههم حتى قال {بئسما خلفتموني من بعدي، أعجلتم أمر ربكم؟} أي استعجلتم فلم تتموا ميعاد ربكم أربعين يوماً فقلتم مات موسى وبدلتم دينه فعبدتم العجل {وألقى الألواح} أي طرحها فتكسرت {وأخذ بلحية} هارون ورأسه يؤنبه على تفريطه في مهام الخلافة فاعتذر هارون فقال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، إني خشيث أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي هذا وارد في سورة طه وأما السياق هنا فقد قال {يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني3 فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين} وهم الذين ظلموا بعبادة العجل، ومعنى {لا تشمت بي
__________
1 غضبان شديد الغضب ومؤنثه غضبى غير مصروف لزيادة الألف والنون، وأسفاً: معناه شديد الغضب قال أبو الدرداء، الأسف منزلة وراء الغضب أشدّ منه والأسيف: الحزين.
2 الغضب من طباع البشر وقد أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم من غضب وهو قائم أن يجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلاّ اضطجع فقد روى أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم قال: "وإنّ الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من نار وإنّما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ".
3 في الآية دليل على أن من خاف على نفسه القتل أن يسكت عن المنكر ولا يغيره بيده ولا بلسانه ولكن بقلبه.

الأعداء } لا تؤذني بضرب ولا بغيره إذ ذاك يفرح أعدانا من هؤلاء الجهلة الظالمين، وهنا رق له موسى وعطف عليه فقال {رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين} توسل إلى الله تعالى في قبول دعائه بقوله {وأنت أرحم الراحمين} هذا ما تضمنته الآيتان الأولى (150) والثانية (151) أما الآية الثالثة فقد أخبر تعالى بأن الذين اتخذوا العجل أي إلهاً {سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا} وكما جزاهم بالغضب المستوجب للعذاب والذلة المستلزمة للإهانة يجزي تعالى المفترين عليه الكاذبين باتخاذ الشريك له وهو بريء من الشركاء والمشركين، هذا ما دلت عليه الآية الثالثة (151) أما الآية الرابعة فقد تضمنت فتح باب الله تعالى لمن أراد أن يتوب إليه إذ قال تعالى {والذين عملوا السيئات} جمع سيئة وهي هنا سيئة الشرك {ثم تابوا من بعدها} أي تركوا عبادة غير الله تعالى وآمنوا إيماناً صادقاً فإن الله تعالى يقبل توبتهم ويغفر لهم ذنوبهم ويرحمهم فيدخلهم جنته مع الصالحين من عباده، هذا ما دلت عليه الآية الرابعة (153) أما الآية الخامسة (154) فقد تضمنت الأخبار عن موسى عليه السلام
وانه لما سكت عنه الغضب أي ذهب أخذ الألواح التي ألقاها من شدة الغضب وأخبر تعالى أن في نسخة1 تلك الألواح {هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون} وهم المؤمنون المتقون وخصوا بالذكر لأنهم الذين يجدون الهدى والرحمة في نسخة الألواح، لأنهم يقرأون ويفهمون ويعلمون وذلك لإيمانهم وتقواهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- الغضب من طباع البشر فلا يلام عليه المرء ومهما بلغ من الكمال كالأنبياء، ولكن أهل الكمال لا يخرج بهم الغضب إلى حد أن يقولوا أو يعملوا ما ليس بخير وصلاح.
2- مشروعية الاعتذار وقبول العذر من أهل المروءات.
3- مشروعية التوسل بأسماء الله وصفاته.
__________
1 النسخة: بمعنى المنوسخ، والنسخ: النقل للمكتوب في لوح أو غيره، ويسمى المنوسخ نسخة.

4- كل وعيد لله تعالى توعد به عبداً من عباده مقيد بعدم توبة المتوعد.
5- كل رحمة وهدى ونور في كتاب الله لا ينتفع به إلا أهل الإيمان والتقوى.
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ(155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ(156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(157)
شرح الكلمات:
واختار موسى قومه سبعين رجلاً : أي أخذ خيار قومه وهم سبعون رجلاً.

لميقاتنا: أي للوقت الذي حددناه له ليأتينا مع سبعين رجلاً.
أخذتهم الرجفة: الصاعقة التي رجفت لها القلوب.
السفهاء : جمع سفيه: وهو الذي لا رشد له في سائر تصرفاته.
إن هي إلا فتنتك : أي ما هي إلا فتنتك أي اختبارك لأهل الطاعة من عبادك.
أنت ولينا: أي المتولي أمرنا وليس لنا من ولي سواك.
هدنا إليك: أي رجعنا إليك وتبنا.
الأمي: الذي لا يقرأ ولا يكتب.
المعروف، والمنكر: ما عرفه الشرع والمنكر: ما أنكره الشرع.
ويحرم عليهم الخبائث: أي بإذن الله والخبائث جمع خبيثة: كالميتة مثلاً.
ويضع عنهم إصرهم والأغلال : الإصر: العهد والأغلال: الشدائد في الدين.
عزروه : أي وقروه وعظموه.
واتبعوا النور الذي أنزل معه : القرآن الكريم.
هم المفلحون : الفائزون أي الناجون من النار الداخلون الجنة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث موسى مع بني إسرائيل فإنه بعد الحدث الجلل الذي حصل في غيبة موسى وذلك هو عبادة جل بني إسرائيل العجل واتخاذهم له إلهاً فإن الله تعالى وقت لموسى وقتاً يأتيه فيه مع خيار بني إسرائيل يطلب لهم التوبة من الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى {واختار1 موسى قومه سبعين رجلاً} ولما انتهى بهم إلى جبل الطور وغشيت الجبل غمامة وأخذ موسى يناجي ربه تعالى وهم يسمعون قالوا لموسى لن نؤمن لك بأن
__________
1 اختار مزيد من خار: إذا طلب ما هو خير من غيره، وقومه منصوب على نزع الخافض إذ الأصل من قومه، ومنه قول الشاعر:
اخترتك الناس إذ رثت خلائقهم ... واختل من كان يُرجى عنده السُّولُ
السُّول بمعنى السؤل أي الطلب

الذي كان يكلمك الرب تعالى حتى نرى الله جهرة أي عياناً وهنا غضب الله تعالى عليهم فأخذتهم صيحة رجفت لها قلوبهم والأرض من تحتهم فماتوا كلهم، وهو معنى قوله تعالى {فأخذتهم الرجفة} وهنا أسف موسى عليه السلام لموت السبعين رجلاً وقد اختارهم الخير فالخير فإذا بهم يموتون أجمعون فخاطب ربه قائلاً {رب لو شئت أهلكتهم من قبل} أي من قبل مجيئنا إليك {وإياي} وذلك في منزل بني إسرائيل حيث عبدوا العجل {أتهلكنا بما فعل السفهاء منا1} أي بسبب فعل السفهاء الذين لا رشد لهم، وهم من عبدوا العجل كمن سألوا رؤية الله تعالى، وقوله عليه السلام {إن هي إلا فتنتك} أي إلا اختبارك وبليتك {تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء، أنت ولينا} فليس لنا سواك {فاغفر لنا} أي ذنوبنا {وارحمنا} برفع العذاب عنا {وأنت خير الغافرين} {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة} بأن توفقنا لعمل الصالحات وتتقبلها منا، {وفي الآخرة} تغفر ذنوبنا وتدخلنا جنتك مع سائر عبادك الصالحين، وقوله {إنا هدنا إليك} أي إنا قد تبنا إليك فأجابه الرب تعالى بقوله {عذابي أصيب به من أشاء} أي من عبادي وهم الذين يفسقون عن أمري ويخرجون عن طاعتي {ورحمتي وسعت2 كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون} وبهذا القيد الوصفي، وبما بعده خرج إبليس واليهود وسائر أهل الملل ودخلت أمة الإسلام وحدها إلا من آمن من أهل الكتاب واستقام على دين الله وهو الإسلام. وقوله {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي} هو محمد صلى الله عليه وسلم {الذي يجدونه3 مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل} وذلك بذكر صفاته والثناء عليه وعلى أمته، وقوله {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات} أي التي كانت قد حرمت عليهم بظلمهم {ويحرم عليهم الخبائث} الخمر ولحم الخنزير والربا وسائر المحرمات في الإسلام، وقوله {ويضع عنهم إصرهم} أي ويحط عنهم تبعة العهد الذي أخذ عليهم بالعمل فيما في التوراة والإنجيل بأن يعملوا بكل ما جاء في
__________
1 الاستفهام هنا للتحجج والجحد إي إنك لا تفعل ذلك، وهو كما قال الشاعر:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
2 أي لم تضق عن مخلوق من المخلوقات التيّ أراد الله رحمتها. يحكى أن إبليس عليه لعائن الله لمّا سمع هذه الآية قال: أنا شيء فقال الله تعالى: سأكتبها للذين يتقون فقالت اليهود والنصارى نحن: متقون فقال تعالى: الذين يتبعون الرسول النبي صلى الله عليه وسلم فخرجوا وبقيت لهذه الأمة وحدها.
3 قال كعب في ذكر صفاته صلى الله عليه وسلم في التوراة: مولده مكة وهجرته بطابة وملكه بالشام، وأمته الحمّادون يحمدون الله على كل حال.. إلى أن قال: يصلّون حيثما أدركتهم الصلاة، صفهم في الصلاة كصفهم في القتال.

التوراة والإنجيل، وقوله {والأغلال1 التي كانت عليهم} أي الشدائد المفروض عليهم القيام بها وذلك كقتل النفس بالنفس إذ لا عفو ولا دية وكقطع الثوب للنجاسة تصيبه وغير ذلك من التكاليف الشاقة كل هذا يوضع عليهم إذا أسلموا بدخولهم في الإسلام وقوله تعالى {فالذين آمنوا به} أي بمحمد صلى الله عليه وسلم {وعزروه2} أي وقروه وعظموه {ونصروه} على أعدائه من المشركين والكافرين والمنافقين {واتبعوا النور الذي أنزل معه} وهو القرآن الكريم {أولئك هم المفلحون} أي وحدهم دون سواهم الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب التوبة من كل ذنب، ومشروعية صلاة ركعتين وسؤال الله تعالى عقبها أن يقبل توبة التائب ويغفر ذنبه.
2- كل سلوك ينافي الشرع فهو من السفه المذموم، وصاحبه قد يوصف بأنه سقيه.
3- الهداية والإضلال كلاهما بيد الله تعالى فعلى العبد أن يطلب الهداية من الله تعالى ويسأله أن لا يضله.
4- رحمة الله تعالى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فلا تنال اليهود ولا النصارى ولا غيرهم.
5- بيان شرف النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأمته.
6- بيان فضل تزكية النفس بعمل الصالحات وإبعادها عن المدسيات من الذنوب.
7- بيان فضل التقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
8- وجوب توقير النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه ونصرته وإتباع الكتاب الذي جاء به والسنن التي سنها لأمته.
__________
1 تقدّم لفظ الإصر وهو دال على جمع لأته مصدر يقع على الواحد والجمع ولذا عطف عليه الأغلال، وجمع الإصر: آصار، ومعناه الثقل الذي يصعب معه التحرك والأغلال جمع غلّ، وهو إطار من حديد يجعل في عنق الأسير، والمراد من الآصار والأغلال التكاليف الشرعية الشاقة التي اشتملت عليها التوراة منها: ترك العمل يوم السبت قيل: ومن أشدّها عدم مشروعية التوبة من الذنوب، وعدم استتابة المجرم.
2 عزّروه: أيّدوه مع توقيره وتعظيمه.

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(158) وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ(159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ(161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ(162)

شرح الكلمات:
لا إله إلا هو : أي لا معبود بحق إلا الله.
النبي الأمي: المنبئ عن الله والمنبأ من قبل الله تعالى، والأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب. نسبة إلى الأم كأنه ما زال لم يفارق أمه فلم يتعلم بعد.
يؤمن بالله وكلماته : الذي يؤمن بالله رباً وإلهاً، وبكلماته التشريعية والكونية القدريه.
تهتدون: ترشدون إلى طريق كمالكم وسعادتكم في الحياتين.
أمة يهدون بالحق: أي جماعة يهدون أنفسهم وغيرهم بالدين الحق وبه يعدلون في قضائهم وحكمهم على أنفسهم وعلى غيرهم إنصافاً وعدلاً لا جور ولا ظلم.
أسباطاً : جمع سبط: وهو بمعنى القبيلة عند العرب.
استسقاه قومه : أي طلبوا منه الماء لعطشهم.
فانبجست: فانفجرت.
المن والسلوى: المن: حلوى كالعسل تنزل على أوراق الأشجار، والسلوى: طائر لذيذ لحمه.
اسكنوا هذه القرية : هي حاضرة فلسطين.
وقولوا حطة":: أي احطط عنا خطايانا بمعنى الإعلان عن توبتهم.
رجزاً من السماء : أي عذاباً من عند الله تعالى.
معنى الآيات:
بعد الإشادة بالنبي الأمي وبأمته، وقصر الفلاح في الدارين على الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه قد يظن ظان أن هذا النبي شأنه شأن سائر الأنبياء قبله هو نبي قومه خاصة وما ذكر من الكمال لا يتعدى قومه فرفع هذا الوهم بهذه الآية (158) حيث أمر الله تعالى رسوله أن يعلن عن عموم رسالته بما لا مجال للشك فيه فقال

{قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} وقوله {الذي له ملك السموات والأرض} وصف لله تعالى وقوله {لا إله إلا هو} تقرير لألوهية الله تعالى بعد ذكر قدرته وسلطانه وملكه وتدبيره لذا وجب أن لا يكون معبود إلا هو وهو كذلك إذ كل معبود غيره هو معبود عن جهل وعناد وظلم. وقوله {فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي} أمر الإله الحق إلى الناس كافة بالإيمان به تعالى رباً وإلهاً، وبرسوله النبي الأمي نبياً ورسولاً، وقوله {الذي يؤمن بالله وكلماته} صفة للنبي الأمي إذ من صفات النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم أنه يؤمن بالله حق الإيمان وأوفاه ويؤمن بكلماته أي بكلمات الرب التشريعية1 وهي آيات القرآن الكريم، والكونية التي يُكوّن الله بها ما شاء من الأكوان إذ بها يقول للشيء كن فيكون كما قال لعيسى بتلك الكلمة كن فكان عيسى عليه السلام وقوله {واتبعوه لعلكم تهتدون} هذا أمر الله إلى الناس كافة بعد الأمر بالإيمان به وبرسوله النبي الأمي أمر بإتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم رجاء هداية2 من يتبعه فيما جاء به فيهتدي إلى سبيل الفوز في الدارين هذا ما تضمنته الآية الأولى (158) أما الآية الثانية (159) فقد تضمنت الإخبار الإلهي بأن قوم موسى وإن ضلوا أو أجرموا وفسقوا ليس معنى ذلك أنه لم يكن فيهم أو بينهم من هم على هدى الله فهذه الآية كانت كالاحتراس من مثل هذا الفهم، إذ أخبر تعالى أن {من قوم موسى أمة} أي جماعة تكثر أو تقل {يهدون بالحق3} أي يعملون بالحق في عقائدهم وعباداتهم ويدعون إلى ذلك وبالحق يعدلون فيما بينهم وبين غيرهم فهم يعيشون على الإنصاف والعدل، ولم يذكر تعالى أين هم ولا متى كانوا هم؟ فلا يبحث ذلك، إذ لا فائدة فيه، ثم عاد السياق إلى قوم موسي يذكر أحداثهم للعظة والاعتبار وتقرير الحق في توحيد الله تعالى وإثبات نبوة رسوله وتقرير عقيدة البعث والجزاء أو اليوم الآخر.
فقال تعالى في الآية الثالثة (160) {وقطعناهم4} أي بني إسرائيل {اثنتى عشرة أسباطاً
__________
1 وبكلماته التنزيلية كالتوراة والإنجيل والزبور.
2 هذا الرجاء بالنسبة إلى المأمورين بالإتباع لا إلى الله تعالى، لأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير.
3 يهدون إلى الله تعالى عباده بواسطة ما شرع لهم وهداهم به من الوحي الذي أنزل على رسله وأنزل به كتبه.
4 التقطيع: الشدة في القطع والمراد به التقسيم إلى اثنتى عشرة فرقة كل فرقة بمنزلة القبيلة العربية حيث تنتسب إلى أبيها الأعلى أي الأوّل.

أمماً}1 أصل السبط ابن البنت وأريد به هنا أولاد كل سبط من أولاد يعقوب عليه السلام. فالأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب كل قبيلة تنتسب إلى أبيها الأول، وأتت لفظ اثنتي عشرة لأن معنى الأسباط الفرق والفرقة مؤنثة، وقوله: { وأوحينا إلى موسى إذا استسقاه قومه} أعلمناه بطريق الوحي وهو الإعلام الخفي السريع، ومعنى {استسقاه} طلبوا منه السقيا لأنهم عطشوا لقلة الماء في صحراء سينا. {أن اضرب بعصاك الحجر} هذا الموحى به، فضرب {فانبجست2} أي انفجرت {منه اثنتا عشرة عيناً} ليشرب كل سبط من عينه الخاصة حتى لا يقع اصطدام أو تدافع فينجم عنه الأذى وقوله تعالى {قد علم كل أناس مشربهم} يريد عرف كل جماعة ماءهم الخاص بهم وقوله تعالى {وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى} هذا ذكر لإنعامه تعالى على بني إسرائيل وهم في معية موسى وهارون في حادثة التيه، حيث أرسل تعالى الغمام وهو سحاب أبيض بارد يظلهم من الشمس حتى لا تلفحهم، وأنزل عليهم المن3 وهي حلوى كالعسل سقط ليلاً كالطل على الأشجار، وسخر لهم طائراً لذيذ اللحم يقال له السلوى وهو طائر السمانى المعروف وقلنا لهم {كلوا من طيبات ما رزقناكم} وقوله تعالى {وما ظلمونا} بتمردهم على أنبيائهم وعدم طاعتهم4 لربهم حتى نزل بهم ما نزل من البلاء، {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}5 هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الآية الثالثة (161) فقد تضمنت حادثة بعد أحداث التيه في صحراء سيناء وذلك أن يوشع بن نون بعد أن تولى قيادة بني إسرائيل بعد وفاة موسى وهارون وانقضاء مدة التيه وكانت أربعين سنة غزا يوشع ببني إسرائيل العمالقة في أرض القدس وفتح الله تعالى عليه فقال لبني إسرائيل ادخلوا باب المدينة ساجدين أي منحنين خضوعاً لله وشكراً على نعمة الفتح بعد النصر والنجاة من
__________
1 {أمما} بدل من {أسباطاً} وفائدته: الأخبار بأنهم باركهم الله تعالى فأصبح أهل كل سط أمة كاملة والسبط أصله شجر يقال له السبط تعلفه الإبل.
2 أصل الفعل بجس يقال: بجسته أي: شققته فانبجس مطاوع بجس الشيء إذا شقّة.
3 المنّ: مادة بيضاء تنزل من السماء كالطل حلوة الطعم تشبه العسل، وإذ جفّت كانت الصمغ، والسلوى: طائر معروف يقال له السُمَانى بضم السين وفتح النون على وزن حُبَارى.
4 وبعدم شكرهم لهذه النعم أيضاً إذا كفران النعم يسبب زوالها بعقوية تنزل بمن لم يشكر نعم الله تعالى عليه.
5 أي ظلموا أنفسهم فعرضوها للبلاء، أمّا الله تعالى فمحال أن يبلغ العبد ظلمه أو ضرّه. روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله :" إنّ الله تعالى قال: يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا.. يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.

التيه، وقوله إثناء دخولكم الباب كلمة {حطة} الدالة على توبتكم واستغفاركم ربكم لذنوبكم فإن الله تعالى يغفر لكم خطئياتكم، وسيزيد الله المحسنين منكم الإنعام والخير الكثير مع رضاه عنكم وإدخالكم الجنة، هذا معنى قوله تعالى {وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية} أي مدينة فلسطين1 {وكلوا منها حيث شئتم} لما فيها من الخيرات {وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين}. أما الآية الرابعة (162) فهي قد تضمنت الإخبار عن الذين ظلموا من بني إسرائيل الذين أمروا بدخول القرية ودخول الباب سجداً. حيث بدلوا {قولاً غير الذي قيل لهم} فبدل حطة قالوا حنطة، وبدل الدخول منحنين ساجدين دخلوا يزحفون على أستاههم، فلما رأى تعالى ذلك التمرد والعصيان وعدم الشكران أنزل عليهم وباء من السماء كاد يقضي على آخرهم هذا معنى قوله تعالى {فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء بما كانوا يظلمون}.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عموم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لكافه الناس عربهم وعجمهم أبيضهم وأصفرهم2.
2- هداية الإنسان فرداً أو جماعة أو أمة إلى الكمال والإسعاد متوقفة على إتباع النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
3- إنصاف القرآن للأمم والجماعات فقد صرح أن في بني إسرائيل أمة قائمة على الحق، وذلك بعد فساد بني إسرائيل، وقبل مبعث النبي الخاتم أما بعد البعثة المحمدية فلم يبق أحد على الحق، إلا من آمن به واتبعه لنسخ سائر الشرائع بشريعته.
4 إذا أنعم الله على عبد أو أمة نعمة ثم لم يشكرها تسلب منه أحب أم كره وكائناً من كان.
__________
1 اسم القرية: أريحا، وكلمة فلسطين عامة في القطر كلّه.
2 عموم الرسالة المحمدية يستوجب القيام بها ودعوة الناس إليها، والمسلمون هم المطالبون بذلك وإلاّ فهم آثمون بتفريطهم وتقصيرهم.

واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(163) وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(164) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ(165) فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ(166)
شرح الكلمات:
حاضرة البحر : أي على شاطئه وهي مدينة من مدن أرض القدس.
يعدون في السبت : أي يعتدون وذلك بالصيد المحرم عليهم فيه.
يوم سبتهم : أي يوم راحتهم من أعمال الدنيا وهو يوم السبت.
شرعاً : جمع شارع أي ظاهرة بارزة تغريهم بنفسها.
كذلك نبلوهم : أي نمتحنهم ونختبرهم.
بما كانوا يفسقون: أي بسبب ما أعلنوه من الفسق وهو العصيان.
م عذرة إلى ربكم : أي ننهاهم فإن انتهوا فذاك وإلا فنهينا يكون عذراً لنا عند ربنا.
فلما نسوا ما ذكروا به : أي أهملوه وتركوه فلم يمتثلوا ما أمروا به ولا ما نهوا عنه.
عن السوء : السوء هو كل ما يسيء إلى النفس من سائر الذنوب والآثام.
بعذاب بئيس : أي ذا بأس شديد.

فلما عتوا عما نهوا عنه : أي ترفعوا وطغوا فلم يبالوا بالنهي.
قردة خاسئين: القردة جمع قرد معروف وخاسئين ذليلين حقيرين اخساء.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بني إسرائيل إلا أنه هنا مع رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ويهود المدينة فالله تعالى يقول لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام أسألهم1 أي اليهود {عن القرية2 التي كانت حاضرة البحر} أي قريبة منه على شاطئه وهي مدينة من مدن أرض القدس والشام3، أي أسألهم عن أهلها كيف كان عاقبة أمرهم، أنهم مسخوا قردة وخنازير جزاء فسقهم عن أمر ربهم، وفصل له الحادث تفصيلاً للعبرة والاتعاظ فقال {إذ يعدون في السبت4} أي يعتدون ما أذن لهم فيه إلى ما حرم عليهم، أذن لهم أن يصيدوا ما شاءوا إلا يوم السبت فإنه يوم عبادة ليس يوم لهو وصيد وطرب، {إذ تأتيهم حيتانهم} أي أسماكهم {يوم سبتهم شرعاً} ظاهرة على سطح الماء تغريهم بنفسها {ويوم لا يسبتون} أي في باقي أيام الأسبوع {لا تأتيهم} إذاً هم مبتلون، قال تعالى {كذلك} أي كهذا الابتلاء والاختبار {نبلوهم بما كانوا يفسقون} أي بسبب فسقهم عن طاعة ربهم ورسله، إذ ما من معصية إلا بذنب هكذا سنة الله تعالى في الناس. هذا ما تضمنته الآية الأولى (163) وهي قوله تعالى {وأسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم5 حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، كذلك نبلوهم6 بما كانوا يفسقون}.
وأما الآية الثانية (164) فالله تعالى يقول لرسوله اذكر لهم أيضاً إذ قالت طائفة منهم أي من أهل القرية لطائفة أخرى كانت تعظ المعتدين في السبت أي تنهاهم عنه لأنه
__________
1 هذا سؤال توبيخ وتقرير، إذ كانوا يتبخحون بأنهم أبناء الله وأحباؤه وأنهم من سبط خليل الرحمن إبراهيم، ومن سبط إسرائيل، فالسؤال عن القرية السؤال عن أهلها.
2 هذه القرية هي أيلة، والمسماة اليوم بالعقبة وهي مدينة على ساحل البحر الأحمر.
3 وهي مبدأ أرض الشام من جهة مصر.
4 السبت: اليوم الذي بين الجمعة والأحد، ويجمع السبت على أسبت وسبوت وأسبات.
5 قيل للحسين بن الفضل: هل تجد في كتاب الله تعالى أن الحلال لا يأتيك إلا قوتاً إن الحرام يأتيك جزفاً جزفاً يعنى: بكثرة كاثرة قال: نعم في قصة داود وأيلة {إذ تأتيهم حيتانهم ....} الآية.
6 {نبلوهم}: أي بالتشديد عليهم فبما يشرع لهم عقوبة لهم.

معصية وتحذرهم من مغبة الاعتداء على شرع الله تعالى قالت {لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً} وهذا القول من هذه الطائفة دال على يأسهم من رجوع إخوانهم عن فسقهم وباطلهم، فأجابتهم الطائفة الواعظة {معذرة1 إلى ربكم ولعلهم يتقون} أي وعظنا لهم هو معذرة لنا عند الله تعالى من جهة ومن جهة أخرى {لعلهم يتقون} فيتوبوا ويتركوا هذا الاعتداء، قال تعالى {فلما نسوا ما ذكروا به} وخوفوا منه وهو تحريم الله تعالى عليهم الصيد يوم السبت، ومعنى نسوا تركوا ولم يلتفتوا إلى وعظ إخوانهم لهم وواصلوا اعتداءهم وفسقهم، قال تعالى {أنجينا الذين ينهون عن السوء} وهم الواعظون لهم من ملّوا ويئسوا فتركوا وعظهم، وممن واصلوا نهيهم ووعظهم {وأخذنا الذين ظلموا2 بعذاب بئيس} أي شديد البأس {بما كانوا يفسقون} عن طاعة الله ربهم، إذ قال تعالى لهم {كونوا قردة خاسئين3} فكانوا قردة خاسئين ذليلين صاغرين حقيرين، ثم لم يلبثوا (مسخاً) 4 إلا ثلاثة أيام وماتوا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير الوحي والنبوة لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم إذ مثل هذا القصص الذي يذكر لبني إسرائيل لن يتم إلا عن طريق الوحي، وإلا فكيف علمه وذكر به اليهود أصحابه وأهله، وقد مضى عليه زمن طويل.
2- إذا أنعم الله على أمة نعمة ثم أعرضت عن شكرها تعرضت للبلاء أولاً ثم العذاب ثانياً.
3- جدوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد نجى الله تعالى الناهين عن المنكر وأهلك الذين باشروه ولم ينتهوا منه دون غيرهم.
__________
1 المعذرة: مصدر ميمي فعله اعتذر على غير قياس، والعذر: السبب الذي تبطل به المؤاخذة بسبب ذنب أو تقصير.
2 اختلف في هل الفرقة القائلة: لم تعظونا قوماً.. الخ نجت من العذاب أولاً؟ وقد روي أن ابن عباس كان يرى أنها لم ننج حتى أقنعه تلميذه عكرمة فقال بنجاتها مع الفرقة الناهية، لأنّ ترك النهي من الفرقة التي لم تنه كان ليأسهم من استجابة الظالمين.
3 يقال: خسأته فخسا أي، باعدته وطردته، وفي هذا دليل على أنّ المعاصي سبب النقم كما أن الطاعات سبب النعم.
4 أي لم يلبثوا ممسوخين حتى هلكوا والعياذ بالله.

4 – إطلاق لفظ السوء على المعصية مؤذن بأن المعصية مهما كانت صغيرة تحدث السوء في نفس فاعلها.
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(168) فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مُّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(169) وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ(170)
شرح الكلمات :
تأذن 1 : أعلم وأعلن.
ليبعثن : أي ليسلطن.
من يسومهم سوء العذاب : أي يذيقهم ويوليهم سوء العذاب كالذلة والمسكنة.
وقطعناهم : أي فرقناهم جماعات جماعات.
بلوناهم بالحسنات والسيئات : اختبرناهم بالخير والشر أو النعم والنقم.
__________
1 آذن وأذن بمعنى واحد، وهو أَعلم ومنه قول الشاعر:
فقلت تعلّم إنّ للصيد غرّة ...
فَإلاَّ تضيّعها فإنك قاتله

فخلف من بعدهم خلف : الخلف بإسكان اللام خلف سوء وبالتحريك خلف خير.
ورثوا الكتاب : أي التوراة.
عرض هذا الأدنى: أي حطام الدنيا الفاني وهو المال.
يمسكون بالكتاب : أي يتمسكون بما في التوراة فيحلون ما أحل الله فيها ويحرمون ما حرم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في شأن اليهود فقد أمر تعالى رسوله أن يذكر إعلامه تعالى بأنه سيبعث بكل تأكيد على اليهود إلى يوم القيامة من يذلهم ويضطهدهم عقوبة منه تعالى لهم على خبث طواياهم وسوء أفعالهم، وهذا الإطلاق في هذا الوعيد الشديد يقيد بأحد أمرين الأول بتوبة من تاب منهم ويدل على هذا القيد قوله تعالى في آخر هذه الآية {إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} أي لمن تاب والثاني بجوار دولة قوية لهم وحمايتها وهذا مفهوم قوله تعالى من سورة آل عمران {ضربت عليهم الذلة والمسكنة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله} وهو الإسلام {وحبل من الناس}، وهو ما ذكرناه آنفاً. هذا ما دلت عليه الآية الأولى في هذا السياق (167) وهي قوله تعالى {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم1 سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} وأما الآية الثانية (168) فقد تضمنت بيان فضل الله تعالى على اليهود وهو أن الله تعالى قد فرقهم في الأرض جماعات جماعات، وأن منهم الصالحين، وأن منهم دون ذلك وأنه اختبرهم بالحسنات وهي النعم، والسيئات وهي النقم تهيئة لهم وإعداداً للتوبة إن آثروا التوبة على الاستمرار في الإجرام والشر والفساد. هذا ما تضمنته الآية الثانية وهي قوله تعالى {وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون2 ومن دون ذلك، وبلوناهم بالحسنات
__________
1 يسومهم سوء العذاب: يجعل أسوأ العذاب وأشدّه كالقيمة لهم إذ هو حظهم المفروض عليهم، أوّل من تسلط عليهم فسامهم سوء العذاب بختنصر البابلي.
2 أي شتتناهم في البلاد بعد تسلط البابليين عليهم وتمزيق ملكهم فعاشوا مشتتين فلم ينتظم ملكهم مدّة طويلة وهم إذ ذاك ما بين صالح وفاسد وانتظم أمرهم مرة أخرى ثمّ فسقوا فسلّط عليهم أطيطوس الروماني فتفرقوا مرّة أخرى وما زالوا مفرقين إلى هذه الأيام، باجتماعهم في فلسطين وتكوينهم دولة إسرائيل وعمّا قريب تزول.

والسيئات لعلهم يرجعون} وأما الآية الثالثة (169) فقد أخبر تعالى أنه فد خلف من بعد تلك الأمة خلف سوء1 ورثوا الكتاب الذي هو التوراة ورثوه عن أسلافهم ولم يتلزموا بما أخذ عليهم فيه من عهود على الرغم من قراءتهم له فقد آثروا الدنيا على الآخرة فاستباحوا الربا والرشا وسائر المحرمات، ويدعون أنهم سيغفر لهم، وكلما أتاهم مال حرام أخذوه ومنوا أنفسهم بالمغفرة2 كذباً على الله تعالى قال تعالى موبخاً لهم {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق} وقد قرأوا هذا في الكتاب وفهموه ومع هذا يجترئون على الله ويكذبون عليه بأنه سيغفر لهم، ثم يواجههم تعالى بالخطاب مذكراً لهم واعظاً فيقول {والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون؟}ويفتح الله تعالى باب الرجاء لهم في الآية الرابعة في هذا السياق فيقول {والذين يمسكون بالكتاب3} أي يعملون بحرص وشدة بما فيه من الأحكام والشرائع ولا يفرطون في شيء من ذلك {وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين}، ومعنى هذا أنهم مصلحون إن تمسكوا بالكتاب وأقاموا الصلاة، وان الله تعالى سيجزيهم على إصلاحهم لأنفسهم ولغيرهم أعظم الجزاء وأوفره، لأنه تعالى لا يضيع أجر المصلحين.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان موجز لتوبيخ اليهود في هذه الآيات الأربع.
2- من أهل الكتاب الصالحون، ومنهم دون ذلك.
3- التنديد بإيثار الدنيا على الآخرة، وبتمني المغفرة مع الإصرار على الإجرام.
4- تفضيل الآخرة على الدنيا بالنسبة للمتقين.
5- الحث على التمسك بالكتاب قراءة وتعلماً وعملاً بإحلال حلاله وتحريم حرامه.
__________
1 الخلف بسكون اللاّم: الأولاد، الواحد والجمع فيه سواء والخلَف: لفتح اللام الْبَدَل ولداً كان أو غيره، وقيل الخلف بالفتح: الصالح وبالجزم: الطالح قال لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
2 روى الدارمي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه الرواية التالية وهي منطبقة على واقعنا اليوم ومن قبل اليوم قال: سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت يقرأونه لا يجدون له شهوة ولا لذة يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب أعمالهم طمع لا يخالطه خوف، إن قصّروا قالوا سنبلغ وإن أساءوا قالوا: سيغفر لنا إنّا لا نشرك بالله شيئاً.
3 مسك وتمسّك بمعنى واحد.

6- فضل اقام الصلاة.
وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ(172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ(173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(174)
شرح الكلمات:
وإذ نتقنا الجبل : أي رفعناه من أصله فوق رؤوسهم.
واقع بهم : أي ساقط عليهم.
خذوا ما آتيناكم بقوة : أي التزموا بالقيام بما عهد إليكم من أحكام التوراة بقوة.
واذكروا ما فيه: أي لا تنسوا ما التزمتم به من النهوض بأحكام التوراة .
من ظهورهم ذريتهم: أي أخذهم من ظهر آدم عليه السلام بأرض نعمان1 من عرفات.
أشهدهم على أنفسهم : أي بالله تعالى ربهم وإلاههم ولا رب لهم غيره ولا إله لهم سوأه.
المبطلون: العاملون بالشرك والمعاصي إذ كلها باطل لا حق فيه.
نفصل الآيات: نبينها ونوضحها بتنويع الأساليب وتكرار الحجج وضرب الأمثال وذكر القصص
__________
1 قال ابن عباس: ببطن نعمان واد إلى جنب عرفة.

معنى الآيات:
الآية الأولى في هذا السياق هي خاتمة الحديث على اليهود إذ قال تعالى لرسوله {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة1} أي اذكر لهم أيها الرسول إذ نتقنا أي رفعنا فوقهم جبل الطور من أصله وصار فوقهم كأنه ظلة {وظنوا أنه واقع بهم} أي ساقط عليهم وقلنا لهم {خذوا ما آتيناكم بقوة2} والمراد مما آتاهم أحكام التوراة وما تحمل من الشرائع وأخذها العمل بها والالتزام بكل ما أمرت به ونهت عنه وقوله تعالى {واذكروا ما فيه} أي في الذي آتيناكم من الأوامر والنواهي، ولا تنسوه فإن ذكره من شأنه أن يعدكم للعمل به فتحصل لكم بذلك تقوى الله عز وجل، هذا ما دلت عليه الآية الأولى وهي خاتمة سياق الحديث عن اليهود.
أما الآية الثانية (172) وهي قوله تعالى {وإذ أخذ ربك من بني3 آدم من ظهورهم ذريتهم}4 فإنها حادثة جديرة بالذكر والاهتمام لما فيها من الاعتبار، إن الله تعالى أخرج من صلب آدم ذريته فأنطقها بقدرته التي لا يعجزها شيء فنطقت وعقلت الخطاب واستشهدها فشهدت، وخاطبها ففهمت وأمرها فالتزمت وهذا العهد العام الذي أخذ على بني آدم، وسوف يطالبون به يوم القيامة، وهو معنى قوله تعالى {وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا} أي أنك ربنا {أن تقولوا} يوم القيامة {إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم5، أفتهلكنا بما فعل المبطلون} والعبرة من هذا أن الإنسان سرعان ما ينسى، ويعاهد ولا يفي، وما وجد من بني إسرائيل من عدم الوفاء هو عائد إلى أصل الإنسان، وهناك عبرة أعظم وهى أن التوحيد أخذ به العهد على كل آدمي، ومع الأسف أكثر بني آدم ينكرونه، ويشركون بربهم وقوله تعالى {وكذلك نفصل الآيات لعلهم يرجعون} وكهذا التفصيل الوارد في هذه السورة وهذا
__________
1 أي: كأنّه لارتفاعه سحابة تظلّ.
2 أي: بجدّ وعزم.
3 الآثار والأحاديث المثبتة لاستخراج الرب تعالى الذريّة من ظهر آدم كثيرة منها في الموطأ والسنن ونكتفي برواية الشيخين الآتية: قال صلى الله عليه وسلم: يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفدياً؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردتُ منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا نشرك بي شيئاً فأبيت إلاّ أن تشرك".
4 وُجّه نظم الآية هكذا:وإذا أخذ ربك من ظهور بني آدم ذريتهم ولم يذكر ظهر آدم عليه السلام لأنه من المعلوم أن كل بني آدم منه وأخرجوا يوم الميثاق من ظهره. وقوله: ظهورهم: بدل اشتمال من بين آدم.
5 في الآية دليل على أنه لا عذر لأحد في تقليده آباءه وأجداده وآهل بلاده في الشرك والمعاصي كما لا عذر بالجهل أيضاً.

السياق وهو تفصيل عجيب نفصل الآيات تذكيراً للناس وتعليماً ولعلهم يرجعون إلى الحق بعد إعراضهم عنه، والى الإيمان والتوحيد بعد انصرافهم عنهما تقليداً وإتباعاً لشياطين الجن والإنس.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان نفسيات اليهود وأنها نفسية غريبة وإلا كيف وهم بين يدي الله يتمردون عليه ويعصونه برفضهم الالتزام بما عهد إليهم من أحكام حتى يرفع فوقهم الطور تهديداً لهم، وعندئذ التزموا ولم يلبثوا إلا قليلاً حتى نقضوا عهدهم وعصوا ربهم.
2- عجيب تدبير الله تعالى في خلقه.
3- الكافر كفر مرتين كفر بالعهد الذي أخذ عليه وهو في عالم الذّر1 وكفر بالله وهو في عالم الشهادة، والمؤمن آمن مرتين، فلذا يضاعف للأول العذاب ويضاعف للثاني الثواب.
4- تقرير مبدأ الخليقة، ومبدأ المعاد الآخر.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ(175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(176) سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ
__________
1 لقد حاول كثيرون التخلص من قضية أخذ الرب تعالى من ظهر آدم ذريته وإشهادهم على أنفسهم، ونطق الأرواح وشهادتها، ولا داعي لهذا أبداً ما دامت الأحاديث والآثار كثيرة وقدرة الله صالحة لكل شيء ولا يعجزها شيء ما هي النملة؟ وقد أنطقها الله فنطقت وأفصحت. إن الحيوان المنوي الذي منه تكون الذرية قال العلماء لو جمعت الحيوانات المنوية كلها من آدم إلى اليوم ووضعت في فنجان ما ملأته. أمع هذا يحاول إبطال الأحاديث وتأويل الآية على غير ظاهرها رجل من أهل العلم؟

كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ(177) مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(178)
شرح الكلمات
واتل عليهم نبأ: إقرأ عليهم.
فانسلخ منها : كفر بها وتركها وراء ظهره مبتعداً عنها.
فأتبعه الشيطان: لحقه وأدركه.
من الغاوين: من الضالين غير المهتدين الهالكين غير الناجين.
أخلد إلى الأرض : مال إلى الدنيا وركن إليها وأصبح لا هم له إلا الدنيا.
يلهث : اللهث: التنفس الشديد مع إخراج اللسان من التعب والإعياء.
ساء :قبح.
مثلاً: أي صفة.
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم {واتل عليهم} أي اقرأ على قومك وعلى كل من يبلغه هذا الكتاب من سائر الناس {نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها} أي خبر الرجل1 الذي أعطيناه آيتنا تحمل الأدلة والحجج والشرائع والأحكام والآداب فتركها وابتعد عنها فلم يَتْلُهَا ولم يفكر فيها ولم يعمل بها لا استدلالا ولا تطبيقا {فأتبعه الشيطان } أي لحقه وأدركه وتمكن منه إبليس، لأنه بتخليه عن الآيات وجد الشيطان له طريقاً إليه {فكان من الغاوين} أي الضالين الفاسدين الهالكين {ولو شئنا لرفعناه بها2} أي بالآيات إلى قمم
__________
1 ذكر أهل التفسير ثلاثة رجال قيل إنها نزلت في واحد منهم وهم: بلعم بن باعوراء الكنعاني وكان على زمن موسى، وقيل إنها نزلت في أميّة بن أبي الصلت الثقفي، وقيل في أبي عامر بن صيفي، وأقرب الأقوال إنها نزلت في أميّة بن أبي الصلت إذ هو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "آمن شِعْرُهُ وكفر قلبه" إذ شعره كان يفيض بالإيمانيات من عقيدة البعث والجزاء، والتوحيد، والعدل والرحمة ومن شعره قوله:
كل دين يوم القيامة عند الله ... إلا دين الحنيفية زور
2 أي أنّ تلك الآيات التي أعطاه الله إياها من شأنها أن تكون سبباً للهداية، وهذا شأن آيات الله فإنها ترفع كل من يؤمن بها ويعمل بما فيها ترفعه في الدنيا والآخرة فهي آلة الرفع الحقيقية لا المذاهب والنظريات المادية.

المجد والكمال، وإلى الدرجات العلا في الدار الآخرة، {ولكنه أخلد إلى الأرض} أي مال إليها وركن فأكب على الشهوات والسرف في الملذات، وأصبح لا هم له إلا تحصيل ذلك {واتبع هواه} وترك عقله ووحي ربه عنده، فصار مثله أي صفته الملائمة له {كمثل الكلب} أي في اللهث والإعياء، والتبعية وعدم الاستقلال الذاتي {إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} فحيرته وتعبه لا ينقطعان أبداً. وقوله تعالى {ذلك مثل القوم الذي كذبوا بآياتنا} أي هذا المثل الذي ضربناه لذلك الرجل الذي آتيناه آيتنا فانسلخ منها وكان من أمره ما قصصنا عليك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا في كل زمان ومكان، وعليه {فاقصص} يا رسولنا {القصص لعلهم يتفكرون} أي لعل قريشاً تتفكر فتعتبر وترجع إلى الحق فتكمل وتسعد، وقوله تعالى {ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون} أي قبح مثلاً مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فجحدوا بها حتى لا يوحدوا الله تعالى ولا يسلموا إليه، {وأنفسهم كانوا يظلمون} بتدنيسها بآثار الشرك والمعاصي وقوله تعالى {من يهد الله فهو المهتدي} أي من وفقه الله تعالى للهداية1 فآمن وأسلم واستقام على منهاج الحق فهو المهتدي بحق ومن خذله الله لشدة إعراضه عن الحق وتكبره عنه فضل بإضلال الله تعالى له فأولئك هم الخاسرون الخسران الحق المبين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- خطر شأن هذا الخبر الذي أمر تعالى رسوله أن يتلوه على الناس.
2- ترك القرآن الكريم بعدم تلاوته والتدبر فيه، وترك العمل به مفض بالعبد إلى أن يكون هو صاحب المثل في هذه الآية، فأولاً يتمكن منه الشيطان فيصبح من الغواة وثانيا يخلد إلى الأرض كما هو حال الكثيرين فلا يكون لأحدهم هم إلا الدنيا. ثم يتبع هواه لا عقله ولا شرع الله، فإذا به صورة لكلب يلهث لا تنقطع حيرته وإتباعه لغيره كالكلب سواء بسواءء وهذه حال من أعرضوا عن كتاب الله تعالى في هذه الآية فليتأملها العاقل.
3- لا رفعةَ ولا سعادة ولا كمال إلا بالعمل بالقرآن فهي الآية الرافعة لقوله تعالى {ولو شئنا
__________
1 الهداية: هي إبانة الطريق الموصل إلى السعادة والكمال.

لرفعناه بها} أي بالآيات 1 التي انسلخ منها والعياذ بالله.
4- الهداية بيد الله ألا فليطلبها من أرادها من الله بصدق القلب وإخلاص النية فإن الله تعالى لا يحرمه منها، ومن أعرض عن الله أعرض الله عنه.
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ(179) وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ(181)
شرح الكلمات:
ذرأنا لجهنم: خلقنا لجهنم أي للتعذيب بها والاستقرار فيها.
لا يفقهون بها : كلام الله ولا كلام رسوله.
لا يبصرون بها: آيات الله في الكون.
لا يسمعون بها: الحق والمعروف.
كالأنعام : البهائم في عدم الانتفاع بقلوبهم وأبصارهم وأسماعهم.
الغافلون: أي عن آيات الله، وما خُلقوا له وما يراد لهم وبهم.
ولله الأسماء الحسنى: الأسماء جمع اسم والحسنى مؤنث الأحسن، والأسماء الحسنى لله خاصة دون غيره فلا يشاركه فيها أحد من مخلوقاته.
__________
1 لقد جرب أتباع أتاتورك العثماني العلمانية وجرّب العرب القومية ثم جربوا الاشتراكية حتى قال قائلهم: اشتراكيتنا نوالي، من يواليها ونعادي من يعاديها، وجرّب بعضهم الشيوعية فهل غنوا هل عزّوا هل كملوا هل شبعوا؟ اللهم لا، لا، لا فلم إذن لا يعملون بالقرآن.

وذروا : اتركوا.
يلحدون : يميلون بها إلى الباطل.
وممن خلقنا : أي من الناس.
معنى الآيات:
على إثر ذكر الهدى والضلال وإن المهتدى من هداه الله، والضال من أضله الله أخبر تعالى أنه قد خلق لجهنم كثيراً من الجن والإنس، علماً منه تعالى بأنهم يرفضون هدايته ويتكبرون عن عبادته، ويحاربون أنبياءه ورسله، وإن رفضهم للهداية وتكبرهم عن العبادة عطل حواسهم فلا القلب يفقه ما يقال له، ولا العين تبصر ما تراه، ولا الأذن تسمع ما تخبر به وتحدث عنه فأصبحوا كالأنعام1 بل هم أضل لأن الأنعام ما خرجت عن الطريق الذي سيقت له وخلقت لأجله2، وأما أولئك فقد خرجوا عن الطريق الذي امروا بسلوكه، وخلقوا له ألا وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له لينجوا من العذاب ويسعدوا في دار النعيم، وقوله تعالى {أولئك هم الغافلون} تقرير لحقيقة وهي أن استمرارهم في الضلال كان نتيجة غفلتهم عن آيات الله الكونية فلا يتأملوها فيعرفوا أن المعبود الحق هو الله وحده ويعبدوه وعن آيات الله التنزيلية فلا يتدبروها فيعلموا أن الله هو الحق المبين فيعبدوه وحده بما شرع لهم في كتابه وسنة نبيه. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (179) وأما الآية الثانية في هذا السياق (180) وهي قوله تعالى {ولله الأسماء الحنسى فادعوه3 بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} فقد أخبر تعالى فيها بأن الأسماء الحسنى له تعالى خاصة لا يشاركه فيها أحد من خلقه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مائة اسم4 إلا اسما أي تسعة وتسعون إسما ًووردت مفرقة في القرآن الكريم، وأمر تعالى عباده أن
__________
1 قال عطاء: الأنعام تعرف الله والكافر لا يعرفه، وقيل: الأنعام مطيعة لله، والكافر غير مطيع.
2 أي: لا همّة لهم إلا الأكل والشرب واللباس والنكاح، وهم أضل من الأنعام لأن الأنعام تبصر مضارها ومنافعها وتتبع مالكها وهم على خلاف ذلك.
3 روى أحمد رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أصاب أحداٌ قط همٌ ولا حزم فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحداً من خلقِّك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همّي إلاّ أذهب الله حزنه وهمّه وأبدل مكانه فرحاً".
4 روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحبّ الوتر".

يدعوه1 بها يا الله، يا رحمن يا رحيم يا رب، يا حي يا قيوم، وذلك عند سؤالهم إياه وطلبهم منه ما لا يقدرون عليه2، كما أمرهم أن يتركوا أهل الزيغ والضلال الذين يلحدون في أسماء الله فيؤلونها، أو يعطلونها، أو يشبهونها، أمر عباده المؤمنين به أن يتركوا هؤلاء له ليجزيهم الجزاء العادل على ما كانوا يقولون ويعملون. لأن جدالهم غير نافع فيهم ولا مجد للمؤمنين ولا لهم.
هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الثالثة (181) وهي قوله تعالى {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} إنه لما ذكر أنه خلق لجهنم كثيراً من الجن والإنس ذكر هنا أنه خلق للجنة خلقاً آخر من الإنس والجن فذكر صفاتهم التي يستوجبون بها الجنة كما ذكر صفات أهل جهنم التي استوجبوا بها جهنم، فقال {وممن خلقنا} من الناس {أمة} كبيرة {يهدون} أنفسهم وغيرهم {بالحق} الذي هو هدى الله ورسوله وبالحق يعدلون في قضائهم وأحكامهم فينصفون ويعدلون ولا يجورون، ومن هذه الأمة كل صالح في أمة الإسلام يعيش على الكتاب والسنة اعتقاداً وقولاً وعملاً وحكماً وقضاءً وأدباً وخلقاً جعلنا الذي منهم وحشرنا في زمرتهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير مبدأ أن السعادة والشقاء سبق بها قلم القضاء والقدر فكل ميسر لما خلق له.
2- هبوط الآدمي إلى درك أهبط من درك الحيوان، وذلك عندما يكفر بربه ويعطل حواسه عن الانتفاع بها، ويقصر همه على الحياة الدنيا.
3- بيان أن البلاء كامن في الغفلة عن آيات الله والإعراض عنها.
4- الأمر بدعاء الله تعالى بأسمائه الحسنى نحو يا رب يا رحمن، يا عزيز يا جبار.
__________
1 ذكر أهل العلم كيفية الدعاء بها وهي؛: أن يسأل باسم الله ما يناسب حاجته فيقول مثلا: يا رحمن ارحمني، يا رزاق ارزقني، يا حكيم احكم لي، يا قوي يا قدير. قوّني واقدرني على كذا.. يا لطيف ألطف بي، يا عليم علّمني وانفعني بما تعلمني وهكذا.
2 قال مقاتل وغيره في سبب نزول هذه الآية {ولله الأسماء الحسنى} الخ أنً مشركاً سمع مسلماً يدعو: يا رحمن يا رحيم فقال: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً؟ فما بال هذا يدعو ربين اثنين، فأنزل الله تعالى {ولله الأسماء الحسنى} الخ.

5- حرمة تأويل أسماء الله وصفاته وتحريفها كما قال المشركون في الله، اللات، وفي العزيز العزى سموا بها آلهتهم الباطلة، وهو الإلحاد1 الذي توعد الله أهله بالجزاء عليه.
6- أهل الجنة الذين خلقوا لها هم الذين يهدون بالكتاب والسنة ويقضون بهما.
وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ(182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ(183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ(184) أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ(185) مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(186)
شرح الكلمات:
كذبوا بآياتنا: : أي بآيات القرآن الكريم.
سنستدرجهم2: : أي نستميلهم وهم هابطون إلى هوة العذاب درجة بعد درجة حتى ينتهوا إلى العذاب، وذلك بإدرار النعم عليهم مع تماديهم في التكذيب والعصيان حتى يبلغوا الأجل المحدد لهم ثم يؤخذوا أخذة واحدة.
__________
1 الإلحاد لغة: الميل عن وسط الشيء إلى جانبه والإلحاد للميت دفنه في جانب القبر وكان من إلحاد العرب في أسماء الله تعالى أن اشتقوا العزّى من العزيز واللات من الله، ومناة من المنان فألحدوا في أسماء الله تعالى، ومن الإلحاد في أسماء الله تعالى ما يفعله جهال المتصوّفة من وضع أسماء لله تعالى لا توجد في كتاب ولا سنة.
2 الاستدراج: هو الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة، والدُرْج: لف الشيء ومنه إدراج الميت في كفنه أي: لفه فيه. واستدراج الله تعالى لأهل الغواية كلّما جددوا لله معصية جدد لهم نعمة حتى يأخذهم بذنوبهم وهم لا يشعرون وأحسن من أنشد:
أحسنت ظنك بالأيام إذ حَسُنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها ...
وعند صفر الليالي يحدث الكدر

وأملي لهم إن كيدي متين : أي أمهلهم فلا أعجل بعقوبتهم حتى ينتهوا إليها بأعمالهم الباطلة وهذا هو الكيد لهم وهو كيد متين شديد.
ما بصاحبهم من جنة: صاحبهم هو محمد صلى الله عليه وسلم، والجنة الجنون والمتحدث عنهم كفار قريش.
ملكوت السموات: أي ملك السموات إلا أن لفظ الملكوت أعظم من لفظة الملك.
فبأي حديث بعده: أي بعد القرآن العظيم.
ونذرهم في طغيانهم : أي نتركهم في كفرهم وظلمهم.
يعمهون : حيارى يترددون لا يعرفون مخرجاً ولا سبيلاً للنجاة.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أن الذين كذبوا بآياته التي أرسل بها رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا بها وأصروا على الشرك والضلال معرضين عن التوحيد والهدى يخبر تعالى أنه سيستدرجهم بالأخذ شيئاً فشيئاً ودرجة بعد درجة حتى يحق عليهم العذاب فينزله بهم فيهلكون ويخبر أنه يملى لهم أيضاً كيداً بهم ومكراً، أي يزيدهم في الوقت ويطول لهم زمن كفرهم وضلالهم فلا يعاجلهم بالعقوبة بل إنه يزيد في إرزاقهم وأموالهم حتى يفقدوا الاستعداد للتوبة ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ولذا قال {وأملي1 لهم إن كيدي متين2} أي قوي شديد. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (183) أما الثانية فإنه تعالى يوبخهم على إعراضهم عن التفكير والتعقل فيقول {أو لم يتفكروا} في سلوك الرسول3 صلى الله عليه وسلم وتصرفاته الرشيدة الحكيمة فيعلموا أنه ما به من جنة وجنون كما يزعمون، وإنما هو نذير لهم من عذاب يوم أليم إن هم استمروا على سلوك درب الباطل والشر من الشرك والمعاصي، ونذارته بينه لا لبس فيها ولا غموض لو كانوا يتفكرون. وفي الآية الثالثة (185) يوبخهم
__________
1 قيل نزلت هذه الآية: {سنستدرجهم} إلى قوله: {متين} نزلت في المستهزئين من قريش وقد أخذوا بعد الإملاء لهم زمناً زاد على العشر سنين، أخذهم في بدر وألقوا في القليب ووبخهم صلى الله عليه وسلم بما هم أهله من الخزي والهوان.
2 المتين: مأخوذ من المتن وهو اللحم الغليظ الذي عن جانب الصلب أي: الظهر.
3 هو المراد بالصاحب في قوله: {ما بصاحبكم من جنّة} وهي الجنون، دعا الله تعالى قريشاً للتفكر.

على عدم نظرهم1 في ملكوت السموات والأرض وفي ما خلق الله من شيء وفي أن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم، إذ لو نظروا في ملكوت السموات والأرض وما في ذلك من مظاهر القدرة والعلم والحكمة لعلموا أن المستحق للعبادة هو خالق هذا الملكوت، لا الأصنام والتماثيل، كما أنهم لو نظروا فيما خلق الله من شيء من النملة إلى النخلة ومن الحبة إلى القبة لأدركوا أن الله هو الحق وأن ما يدعون هو الباطل كما أنه حرى بهم أن ينظروا في ما مضى من أعمارهم فيدركوا أنه من الجائز أن يكون قد اقترب أجلهم، وقد اقترب فعلا فليعجلوا بالتوبة حتى لا يؤخذوا وهم كفار أشرار فيهلكون ويخسرون خسرانا ًكاملاً. ثم قال تعالى في ختام الآية {فبأي حديث2} بعد القرآن يؤمنون فالذي لا يؤمن بالقرآن وكله حجج وشواهد وبراهين وأدلة واضحة على وجوب توحيد الله والإيمان بكتابه ورسوله ولقائه ووعده ووعيده فبأي كلام يؤمن، اللهم لا شيء، فالقوم إذاً أضلهم الله، ومن أضله الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون حيارى يترددون لا يدرون ما يقولون، ولا أين يتجهون حتى يهلكوا كما هلك من قبلهم. وما ربك بظلام للعبيد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عظم خطر التكذيب بالقرآن الكريم حتى أن المكذب ليستدرج حتى يهلك وهو لا يعلم.
2- أكبر موعظة وهي أن على الإنسان أن يذكر دائماً أن أجله قد يكون قريباً وهو لا يدري فيأخذ بالحذر والحيطة حتى لا يؤخذ على غير توبة فيخسر.
3- من لا يتعظ بالقرآن وبما فيه من الزواجر، والعظات والعبر، لا يتعظ بغيره.
4- من أعرض عن كتاب الله مكذباً بما فيه من الهدى فضل، لا ترجى له هداية أبداً.
__________
1 استدل العلماء بهذه الآية: {أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض} ونظائر هذه الآية وهي كثيرة على وجوب النظر في الآيات والاعتبار بالمخلوقات وهو كذلك، واختلف العلماء في: هل الإيمان يثبت بالتقليد أو لابد من النظر حتى يؤمن، والصحيح: أنّ الإيمان يصح بالتقليد المفيد لليقين كإيمان عوام المسلمين، وأفضل منه ما كان عن نظر واستدلال وهو إيمان العالمين.
2 قوله: {فبأي حديث} الخ: الاستفهام لتوقيفهم على ما يجب أن يفكروا فيه وينظروا إليه وتوبيخهم على ترك ذلك.

1 يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(187) قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(188)
شرح الكلمات:
الساعة: أي الساعة بمعنى الوقت الذي تنتهي فيه الحياة الدنيا بالفناء التام.
أيان مرساها 2: أي متى وقت قيامها.
لا يجلها لوقتها: أي لا يظهرها في وقتها المحدد لها إلا هو سبحانه وتعالى.
بغتة: أي فجأة بدون توقع أو انتظار.
حفي عنها: أي ملحف مبالغ في السؤال عنها حتى أصبحت تعرف وقت مجيئها.
الغيب : الغيب ما غاب عن حواسنا وعن عقولنا فلم يدرك بحاسة ولا بعقل. والمراد به هنا ما سيحدث في المستقبل القريب أو البعيد.
السوء: كل ما يسوء العبد في روحه أو بدنه.
إن أنا إلا نذير : أي ما أنا إلا نذير وبشير فلست بإله يدبر الأمر ويعلم الغيب.
__________
1 السائلون النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة كثيرون بعضهم مشركون يسألون للتعجيز وبعضهم يهود يسألون اختباراً وامتحاناً.
2 اسم يسأل به عن الزمان لا غير، قال الراجز:
أيّان تقضي حاجتي أيّان ...
أما ترى لنُجْحِها أرانا

معنى الآيات:
لا شك أن أفراداً من قريش أو من غيرهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة متى قيامها فأخبره تعالى بسؤالهم وعلمه الجواب فقال عز وجل وهو يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم {يسألونك عن الساعة أيان مرساها1} أي متى وقت وقعوها وقيامها؟ قل لهم {إنما علمها عند ربى} أي علم وقت قيامها عند ربي خاصة {لا يجليها لوقتها} أي لا يظهرها لأول وقتها إلا هو {ثقلت في السموات والأرض} أي ثقل أمر علمها عند أهل السموات والأرض {لا تأتيكم إلا بغتة} أي فجأة، ثم قال له يسألونك هؤلاء الجهال عن الساعة {كأنك حفي عنها} أي كأنك ملحف في السؤال مبالغ في طلب معرفتها حتى عرفتها، قل لهم {إنما علمها2 عند الله} خاصة، {ولكن أكثر الناس لا يعلمون}، ولذا هم يسألونه، إذ إخفاؤه لحكم عالية لو عرفها الناس ما سألوا ولن يسألوا ولكن الجهل هو الذي ورطهم في مثل هذه الأسئلة وهذا ما دلت عليه الآية الأولى (187) أما الآية الثانية (188) فقد أمر تعالى رسوله أن يقول لأولئك السائلين عن الساعة متى وقت مجيئها {لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً} خيراً ولا شراً {إلا ما شاء الله} شيئاً من ذلك فإنه يُعينني على جلبه أو على دفعه فكيف إذاً أعلم وقت مجيء الساعة حتى تسألوني عنها {ولو كنت أعلم الغيب3} كما تظنون لاستكثرت من الخيرات وما مسني السوء. وذلك أني إذا عرفت متى الخصب ومتى الجدب، ومتى الغلاء ومتى الرخاء يمكنني بسهولة أن استكثر من الخير عند وجوده، وأتوقى الشر وأدفعه قبل حصوله، يا قوم إنما أنا نذير بعواقب الشرك والمعاصي بشير بنتائج الإيمان والتوحيد والعمل الصالح فلست بإله أعلم الغيب، ووظيفتي هذه صراحة هي البشارة والنذارة ينتفع بها المؤمنون خاصة وهو معنى قوله تعالى {إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون}.
__________
1 {أيان مرساها}: مرساها مبتدأ، والخبر أيّان، وقدّم لأنه اسم استفهام له الصدارة ومعنى مرساها: مثبتها، من قولهم أرسى كذا إذا أثبته، أي: متى وقوعها.
2 أي علم الساعة إذ إخفاء علم الساعة كان لحكم عالية لو عرفها السائلون عن الساعة ما سألوا ولكنهم لجهلهم يسألون.
3 الغيب: قسمان، حقيقي: وهو ما استأثر الله تعالى به ومن علّمه تعالى منه شيئاً علمه. وإضافي: يعلمه بعض ويخفي عن بعض، ومن ادعى علم الغيب فقد كذّب الله ونازعه فيما استأثر به فهو بذلك كافر.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مرد علم الساعة إلى الله وحده فكل مسؤول عنها غير الله ليس أعلم من السائل1.
2- للساعة أشراط بعضها في الكتاب وبعضها في السنة وليس معنى ذلك أنه تحديد لوقتها وإنما هي مقدمات تدل على قربها فقط.
3- استأثر الله بعلم الغيب فلا يعلم الغيب إلا الله، ومَنْ علَّمه الله شيئاً منه علم كما علم نبيه صلى الله عليه وسلم بعض المغيبات، والمعلم بالشيء لا يقال فيه يعلم الغيب وإنما يقال علَّمه ربه غيب كذا وكذا فعلمه:
4- إذا كان الرسول لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فكيف يطلب منه ذلك وإذ كان الرسول لا يملك فهل من دونه من العباد يملك؟ إذا عرفت هذا ظهر لك ضلال أقوام يدعون الموتى سائلين ضارعين عند قبورهم ويقولون أنهم لا يدعونهم ولكن يتوسلون بهم فقط.
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ(189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(190) أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ(191) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ(192) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ(193)
__________
1 لحديث مسلم: فقد سأله جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان فبيّن له ذلك فصدقه جبريل وسأله عن الساعة فقال له: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل.

شرح الكلمات:
من نفس واحدة: هي نفس آدم عليه السلام.
وجعل منها زوجها: أي خلق منها زوجها وهي حواء خلقها من ضلع آدم الأيسر.
ليسكن إليها : أي ليألفها ويأنس بها لكونها من جنسه.
فلما تغشاها: أي وطئها.
فمرت به: أي ذاهبة جائية تقضى حوائجها لخفت الحمل في الأشهر الأولى.
فلما أثقلت 1 : أي أصبح الحمل ثقيلاً في بطنها.
لئن أتيتنا صالحاً : أي ولداً صالحاً ليس حيواناً بل إنساناً.
جعلا له شركاء : أي سموه عبد الحارث وهو عبدالله جل جلاله.
فتعالى الله عما يشركون : أي أهل مكة حيث أشركوا في عبادة الله أصناماً.
وإن تدعوهم إلى الهدى : أي الأصنام لا يتبعوكم.
معنى الآيات:
يقول تعالى لأولئك السائلين عن الساعة عناداً ومكابرة من أهل الشرك هو أي الله {الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها} الإله المستحق للعبادة لا الأصنام والأوثان، فالخالق لكم من نفس واحدة وهي آدم وخلق منها زوجها حواء هو المستحق للتأليه والعبادة. دون غيره من سائر خلقه. وقوله {ليسكن إليها}: علة لخلقه زوجها منها، إذ لو كانت من جنس آخر لما حصلت الألفة والأنس بينهما وقوله {فلما تغشاها} أي للوطء ووطئها {حملت2 حملاً خفيفاً فمرت3 به} لخفته {فلما أثقلت} أي أثقلها الحمل
__________
1 قال الفقهاء كمالك: إذا بلغ الحمل ستة أشهر أصبحت الحامل مريضة فلا يصح لها أن تهب من مالها أكثر من الثلث، ومثلها من دخل معركة القتال، وكذا المريض الشديد المرض، والمحبوس للقتل ليس لهم من هبة إلاّ ما كان الثلث فأقل.
2 كل ما كان في البطن أو على رأس النخلة أو الشجرة فهو حمل بفتح الحاء وكل ما كان على رأس أو ظهر إنسان أو حيوان فهو حمل بكسر الحاء.
3 فمرت به لخفَّته فلم نتفطَّن له ولم تفكر في شأنه ومعنى أثقلت أي صارت ذات ثقل من أثقل المريض فهو مثقل فأثقلت صارت مثقلة.

{دعوا الله} أي آدم1 وحواء ربهما تعالى أي سألاه قائلين {لئن آتيتنا صالحاً} أي غلاماً صالحاً {لنكونن من الشاكرين} أي لك. واستجاب الرب تعالى لهما وآتاهما صالحاً. وقوله تعالى {فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما} حيث سمته حواء عبدالحارث بتغرير من إبليس، إذ اقترح عليهما هذه التسمية، وهي من الشرك الخفي المعفو عنه نحو لولا الطبيب هلك فلان، وقوله {فتعالى الله عما يشركون} عائد إلى كفار قريش الذين يشركون في عبادة الله أصنامهم وأوثانهم، بدليل قوله بعد {أيشركون ما لا يخلق شيئاً} أي من المخلوقات {وهم} أي الأوثان وعبادها {يخلقون، ولا يستطيعون لهم نصراً} إذا طلبوا منهم ذلك. {ولا أنفسهم ينصرون} لأنهم جمادات لا حياة بها ولا قدرة لها وقوله {وإن تدعوهم} أي وإن تدعوا أولئك الأصنام {إلى الهدى} وقد ضلوا الطريق {لا يتبعوكم2} لأنهم لا يعقلون الرشد من الضلال ولذا فسواء عليكم {أدعوتموهم أم أنتم صامتون} أي لم تدعوهم فإنهم لا يتبعونكم ومن هذه حاله وهذا واقعه فهل يصح أن يعبد فتقرب له القرابين ويحلف به، ويعكف عنده، وينادى ويستغاث به؟؟ اللهم لا، ولكن المشركين لا يعقلون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أصل خلق البشر وهو آدم وحواء عليهما السلام.
2- بيان السر في كون الزوج من جنس الزوج وهو الألفة والأنس والتعاون.
3- بيان خداع إبليس وتضليله للإنسان حيث زين لحواء تسمية ولدها بعبد الحارث وهو عبد الله.
4- الشرك في التسمية3 شرك خفي معفو عنه وتركه أولى.
5- التنديد بالشرك والمشركين، وبيان جهل المشركين وسفههم إذ يعبدون ما لا يسمع ولا يبصر ولا يجيب ولا يتبع.
__________
1 ما ذهبت إليه في التفسير هو ما ذا إليه إمام المفسرين ابن جرير الطبري وهو مؤيد بقراءة تشركون بالتاء وبحديث خدعهما مرتين خدعهما في الجنة وخدعهما في الأرض وذهب آخرون إلى أن الكلام على جنس الآدميين تبيناً لحال المشركين من ذرية آدم ودل على قولهم قراءة يشركون بالياء والله أعلم.
2 يقول بعضهم: اتبعه: إذا شيء وراءه ولم يدركه، واتّبعه مشددا إذا مشى وراءه وأدركه.
3 نحو: عبد النبي، وعبد الرسول، وعبد الضيف كما قال حاتم الطائي:
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا ...
وما في إلا تيك من شيمة العبد

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ(195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ(196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ(197) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ(198)
شرح الكلمات:
عباد أمثالكم: أي مملوكون مخلوقون أمثالكم لمالك واحد هو الله رب العالمين.
شركاءكم: أصنامكم التي تشركون بها.
ثم كيدون: بما استطعتم من أنواع الكيد.
فلا تنظرون: أي فلا تمهلون لأني لا أبالي بكم.
إن وليي الله : أي المتولي أموري وحمايتي ونصرتي الله الذي نزل القرآن.
وتراهم ينظرون : أي وترى الأصنام المنحوتة على شكل رجال ينظرون إليك وهم لا يبصرون.
معنى الآيات:
هذه الآيات الخمس في سياق ما قبلها جاءت مقررة لمبدأ التوحيد مؤكدة له منددة

بالشرك مقبحة له، ولأهله فقوله تعالى {إن الذين تدعون1} أي دعاء عبادة أيها المشركين هم {عباد أمثالكم2} أي مملوكون لله، الله مالكهم كما أنتم مملوكون لله مربوبون. فكيف يصح منكم عبادتهم وهم مملكون مثلكم لا يملكون لكم ولا لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، وإن شككتم في صحة هذا فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين في زعمكم أنهم آلهة يستحقون العبادة. إنكم لو دعوتموهم ما استجابوا، وكيف يستجيبون وهم جماد ولا حياة لهم {ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد3 يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها، أم لهم آذان يسمعون بها} إنه لا شيء لهم من ذلك فكيف إذا يستجيبون، وبأي حق يعبدون فيدعون ويرجون وهم فاقدوا آثار القدرة والحياة بالمرة.
ثم أمر الله تعالى رسوله أن يعلن لهم أنه لا يخافهم ولا يعدهم شيئاً إذا كانوا هم يعبدونهم ويخافونهم فقال له قل لهؤلاء المشركين {ادعوا شركاءكم ثم كيدون4} أنتم وإياهم {فلا تنظرون} أي لا تمهلوني ساعة، وذلك لأن {وليى5 الله الذي نزل الكتاب} أي القرآن {وهو يتولى الصالحين} فهو ينصرني منكم ويحميني من كيدكم إنه ولي ووليُّ المؤمنين. أما أنتم {والذين تدعون من دونه} أي من دون الله من هذه الأوثان {لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون} وشيء آخر وهو أنكم {إن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا} فضلاً عن إن تدعوهم إلى الضلال فكيف تصح عبادة من لا يجيب داعية في الرخاء ولا في الشدة. وأخيراً يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، {وتراهم} أي ترى أولئك الآلهة وهي تماثيل من حجارة {ينظرون إليك6} إذا قابلتهم لأن أعينهم مفتوحة دائماً، والحال أنهم لا يبصرون، وهل تبصر الصور والتماثيل؟.
__________
1 تدعون: بمعنى تعبدون لأن الدعاء هو العبادة أو تدعون: بمعنى تدعونها عبادة فحذف المفعول ليشمل التعبير المعنيين وهو من بلاغة القرآن.
2 أطلق لفظ عباد على الأوثان لأنها مملوكة لله تعالى كعابديها مخلوقة كما هم مخلوقون، ولما اعتقد المشركون أنّ أصنامهم تنفع وتضر عاملها معاملة المقلاء فقال: عباد أمثالكم وقال: {فادعوهم} بدل فادعوهن.
3 اليد والرجل والأذن مؤنثات ولذا يصغّرن بالهاء ويقال: يُدية ورُجلية وأذينة وشدّدت الهاء من: يدية لأنّ الياء المحذوفة من يد، ردّت في التصغير.
4 أصل كيدون: كيدوني بالياء فحذفت تخفيفاً، والكيد:. المكر، والحرب أيضاً يقال: غزا فلم يلق كيداً أي: حرباً.
5 وليّ الشيء: هو الذي يحفظه ويمنع الضرر عنه وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا إن آل فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين".
6 النظر: فتح العينين إلى المنظور إليه، وجملة وتراهم مستأنفة وينظرون في محل نصب على الحال وجائز أن يكون المراد بـ تراهم ينظرون إليك المشركون أنفسهم وكونهم لا يبصرون لأنهم لم ينتفعوا بأبصارهم.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إقامة الحجة على المشركين بالكشف عن حقيقة ما يدعون أنها آلهة فإذا بها أصنام لا تسمع ولا تجيب لا أيد لها ولا أرجل ولا آذان ولا أعين.
2- وجوب التوكل على الله تعالى، وطرد الخوف من النفس والوقوف أمام الباطل وأهله في شجاعة وصبر وثبات اعتماداً على الله تعالى وولايته إذ هو يتولى الصالحين.
3- جواز المبلاغة في التنفير من الباطل والشر بذكر العيوب والنقائص.
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ(199) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ(201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ(202)
شرح الكلمات:
العفو: ما كان سهلاً لا كلفة فيه وهو ما يأتي بدون تكلف.
بالعرف: أي المعروف في الشرع بالأمر به أو الندب إليه.
وأعرض عن الجاهلين : الجاهلون: هم الذين لم تستنر قلوبهم بنور العلم والتقوى، والإعراض عنهم بعدم مؤاخذتهم على سوء قولهم أو فعلهم.
نزغ الشيطان: أي وسوسته بالشر.
فاستعذ بالله : أي قل أعوذ بالله يدفعه عنك إنه أي الله سميع عليم.
اتقوا: أي الشرك والمعاصي.

طائف من الشيطان : أي ألم بهم شيء من وسوسته.
وإخوانهم يمدونهم في الغي : أي إخوان الشياطين من أهل الشرك والمعاصي يمدونهم في الغي.
ثم لا يقصرون : أي لا يكفون عن الغي الذي هو الضلال والشر والفساد.
معنى الآيات:
لما علّم تعالى رسوله كيف يحاج المشركين لإبطال باطلهم في عبادة غير الله تعالى والإشراك به عز وجل علمه في هذه الآية أسمى الآداب وأرفعها، وأفضل الأخلاق وأكملها فقال له: {خذ العفو1 وأمر بالعرف2 وأعرض عن الجاهلين} أي خذ من أخلاق الناس ما سهل عليهم قوله وتيسر لهم فعله، ولا تطالبهم بما لا يملكون أو بما لا يعلمون وأمرهم بالمعروف، وأعرض3 عن الجاهلين منهم فلا تعنفهم ولا تغلظ القول لهم فقد سأل صلى الله عليه وسلم عن معنى هذه الآية جبريل عليه السلام فقال له: "تعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك وتعطي من حرمك4" وقوله {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ5} أي أثار غضبك حتى لا تلتزم بهذا الأدب الذي أمرت به {فاستعذ بالله} بدفعه عنك إنه سميع لأقوالك عليم بأحوالك. ثم قال تعالى مقرراً حكم الاستعاذة مبيناً جدواها ونفعها لمن يأخذ بها. {إن الذين اتقوا} أي ربهم فلم يشركوا به أحداً ولم يفرطوا في الواجبات ولم يغشوا المحرمات هؤلاء {إذا مسهم طائف6 من الشيطان} بأن نزغهم بإثارة الغضب أو الشهوة فيهم تذكروا
__________
1 قال ابن الزبير هذه الآية: {خذ العفو..} الخ ما أنزلها الله تعالى إلاّ في أخلاق الناس، وقال جعفر الصادق أمر الله رسوله بمكارم الأخلاق في هذه الآية، وليس في القرآن أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية.
2 العرف: المعروف وقرىء العرف: العُرُف بضم العين والراء مثل: الحُلُم والعرف: كل خصلة حسنة ترتضيها العقول وتطمئن إليها النفوس: قال الشاعر:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العُرف بين الله والناس
3الإعراض عن الجاهلين يكون بعد دعوتهم إلى الحق وإقامة الحجة عليهم فان لم يستجيبوا يعرض عنهم آذوه أو لم يؤذوه.
4 من أحاديث مكارم الأخلاق قوله صلى الله عليه وسلم "إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق".
5 النزغ، والنغز والهمز والوسوسة بمعنى واحد، والنزغ: الإفساد والإغراء والإغراء وعلاج الوسوسة، الاستعاذة بالله تعالى.
6 الطيف، والطائف، بمعنى، وقيل: الطيف: الخيال، والطائف: الشيطان. وهو صحيح أيضاً.

أمر الله ونهيه ووعده ووعيده {فإذا هم مبصرون} يرون قبح المعصية وسوء عاقبة فاعلها فكفوا عنها ولم يرتكبوها. وقوله تعالى: {وإخوانهم} أي إخوان الشياطين من أهل الشرك والمعاصي {يمدونهم} أي الشياطين {في الغي} أي في المعاصي والضلالات ويزيدونهم في تزيينها لهم وحملهم عليها، {ثم لا يقصرون} عن فعلها ويكفون عن ارتكابها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الأمر بالتزام الآداب والتحلي بأكمل1 الأخلاق ومن أرقاها العفو عمن ظلم وإعطاء من حرم، وصلة من قطع.
2- وجوب الاستعاذة بالله عند2 الشعور بالوسوسة أو الغضب أو تزيين الباطل3.
3- فضيلة التقوى وهي فعل الفرائض وترك المحرمات.
4- شؤم أخوة الشياطين حيث لا يقصر صاحبها بمد الشياطين له عن الغي الذي هو الشر والفساد.
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(203) وَإِذَا قُرِئ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(204) وَاذْكُر رَّبَّكَ
__________
1 روي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرني ربي بتسع: الإخلاص في السر والعلانية والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وأن أعفو عمّن ظلمني وأصل من قطعني، وأعطي من حرمني وأن يكون نطقي ذكراً وصمتي فكراً ونظري عبرة".
2 روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول له من خلق كذا وكذا حتى يقول له: من خلق ربّك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته" فقوله: فليستعذ: الأمر للوجوب إذ لا يدفع الشيطان إلا الله تعالى فهو الذي ينجي منه ويجير.
3 روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت آية {خذ العفو} الآية قال صلى الله عليه وسلم: " كيف يا رب والغضب" فنزلت: {وإمّا ينزغنك ...} الخ.

فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ(205) إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ(206)
شرح الكلمات:
قالوا لولا اجتبيتها: أي اخترعتها واختلقتها من نفسك وأتيتنا بها.
هذا بصائر من ربكم: أي هذا القرآن حجج وبراهين وأدلة على ما جئت به وادعوكم إليه فهو أقوى حجة من الآية التي تطالبون بها.
فاستمعوا له وانصتوا: أي اطلبوا سماعه وتكلفوا له، وانصتوا عند ذلك أي اسكتوا حتى تسمعوا سماعاً ينفعكم.
وخيفة : أي خوفاً.
بالغدو والآصال : الغدو: أول النهار، والآصال: أواخره.
من الغافلين : أي عن ذكر الله تعالى.
إن الذين عند ربك : أي الملائكة.
يسبحونه: ينزهونه بألسنهم بنحو سبحان الله وبحمده.
معنى الآيات:
ما زال السياق في توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم وتعليمه الرد على المشركين خصومه فقال تعالى عن المشركين من أهل مكة {وإذا لم تأتيهم} يا رسولنا {بآية} 1 كما طلبوا {قالوا} لك {لولا} أي هلا {اجتبيتها} أي اخترعتها وأنشأتها من نفسك ما دام ربك لم يعطها قل لهم إنما أنا عبد الله ورسوله لا أفتات عليه {وإنما اتبع ما يوحى إليّ من ربي} وهذا القرآن الذي يوحى إلي بصائر2 من حجج وبراهين على صدق دعواي وإثبات رسالتي،
__________
1 وجائز أن يكون المراد من الآية: آية قرآنية يمدحهم فيها ويمدح أصنامهم ولولا هنا أداة تحضيض مثل هلاّ ولا يليها إلا الفعل ظاهراً أو مضمراً.
2 البصائر: جمع بصيرة وهي ما به يتضح الحق، وفي هذا تنويه بشأن القرآن العظيم وأنه: أعظم من الآيات أي: الخوارق التي يطالبون بها في الدلالة على الحق الذي ضلّوا عنه.

وصحة ما أدعوكم إليه من الإيمان والتوحيد وترك الشرك والمعاصي، فهلا آمنتم واتبعتم أم الآية الواحدة تؤمنون عليها والآيات الكثيرة لا تؤمنون عليها أين يذهب بعقولكم؟ وعلى ذكر بيان حجج القرآن وأنواره أمر الله تعالى عباده المؤمنين إذا قرىء عليهم القرآن أن يستمعوا وينصتوا وسواء كان يوم الجمعة على المنبر أو كان في غير ذلك1 فقال تعالى {فإذا قرىء القرآن فاستمعوا له} أي تكلفوا السماع وتعمدوه {وانصتوا} بترك الكلام {لعلكم ترحمون} أي رجاء أن ينالكم من هدى القرآن رحمته فتهتدوا وترحموا لأن القرآن هدى ورحمة للمؤمنين.
ثم أمر تعالى رسوله وأمته تابعة له في هذا الكمال فقال تعالى {واذكر ربك في نفسك} أي سراً {تضرعاً} أي تذللاً وخشوعاً، {وخيفة2} أي وخوفاً وخشية {ودون الجهر من القول} وهو السر بأن يسمع نفسه فقط أو من يليه لا غير وقوله {بالغدو والآصال} أي أوائل النهار وأواخره، ونهاه عن ترك الذكر وهو الغفلة فقال {ولا تكن من الغافلين} وذكر له تسبيح3 الملائكة وعبادتهم ليتأسى بهم، فيواصل العبادة والذكر ليل نهار فقال {إن الذين عند ربك} وهم الملائكة في الملكوت الأعلى {لا يستكبرون عن عبادته} أي طاعته بما كلفهم به ووظفهم فيه {ويسبحونه وله يسجدون4} فتأس بهم ولا تكن من الغافلين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- القرآن أكبر آية بل هو أعظم من كل الآيات التي أعطيها الرسل عليهم السلام.
2- وجوب الإنصات عند تلاوة القرآن وخاصة في خطبة الجمعة على المنبر وعند قراءة الإمام في الصلاة الجهرية.
__________
1 أي: كيومي العيدين مثلا، وهذا الأمر بالاستماع والانصات للقرآن عام يشمل المشركين إذ كانوا يأمرون بعدم الاستماع إليه كما قال تعالى: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن...} كما يشمل المؤمنين، إذ سماع القرآن سبيل الهداية، والإنصات: سماع مع عدم التكلم حال الاستماع.
2 الخيفة: أصلها خوفة فقلبت الواو ياءُ لانكسار ما قبلها، وهي مصدر خاف المرء يخاف خوفاً وخيفة ومخافة فهو خائف.
3 تسبيح الملائكة معناه: تعظيمهم لله تعالى وتنزيههم له عزَّ وجلّ عن الشريك والولد.
4 صيغة المضارع في {يسبحون} و{يسجدون} لحصر السجود في الله تعالى وعدم جوازه لغيره عز وجل.

3- وجوب ذكر الله بالغدو والآصال.
4- بيان آداب الذكر وهي:
1-السرية.
2- التضرع والتذلل.
3- الخوف والخشية.
4- الإسرار به وعدم رفع الصوت به، لا كما يفعل المتصوفة.
5- مشروعية الأئتساء بالصالحين والإقتداء بهم في فعل الخيرات وترك المنكرات.
6- عزيمة السجود عند قوله {وله يسجدون1} وهذه أول سجدات القرآن ويسجد القارىء والمستمع له، أما السامع فليس عليه سجود، ويستقبل بها القبلة ويكبر عند السجود وعند الرفع منه ولا يسلم وكونه متوضأً أفضل.
__________
1 ولو سلم منها في غير الصلاة جاز فقد روي عن بعض السلف، ويستحب لمن سجد أن يقول: "اللهم احطط عني بها وزراً واكتب لي بها أجراً واجعلها لي عندك ذخراً" رواه ابن ماجه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم.

سورة الأنفال
...
سورة الأنفال
مدنية
وآياتها خمس وسبعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ

يَتَوَكَّلُونَ(2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(4)
شرح الكلمات:
الأنفال: جمع نفل1 بتحريك الفاء: ما يعطيه الإمام لأفراد الجيش تشجيعاً لهم.
ذات بينكم: أي حقيقة بينكم، والبين الوصلة والرابطة التي تربط بعضكم ببعض من المودة والإخاء .
إنما المؤمنون: أي الكاملون في إيمانهم.
وجلت قلوبهم: أي خافت إذ الوجل2: هو الخوف لاسيما عند ذكر وعيده ووعده.
وعلى ربهم يتوكلون: على الله وحده يعتمدون وله أمرهم يفوضون.
ومما رزقناهم : أي أعطيناهم.
أولئك: أي الموصوفون بالصفات الخمس السابقة.
لهم درجات: منازل عالية في الجنة.
ورزق كريم: أي عطاء عظيم من سائر وجوه النعيم في الجنة.
معنى الآيات:
هذه الآيات نزلت في غزوة بدر وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نفل3 بعض المجاهدين لبلائهم
__________
1 النفل: بسكون الفاء: اليمين وفي الحديث: "فتبرئكم يهود بنفل خمسين منهم" وهو أيضاً الانتفاء من الشيء وفي الحديث: "فانتفل من ولدها" والنفل: نبت معروف، والنفل: الزيادة على الفرائض في الصلاة.
2 قيل لبعضهم: متى تعرف أنه استجيب دعاؤك؟ قال: إذا اقشعرّ جلدي ووجل قلبي، وفاضت عيناي بالدموع، وقالت عائشة رضي الله عنها: ما الوجل في القلب إلا كضَرَمَة السَعفَة، فإذا وجل أحدكم فليدع عند ذلك.
3 هذا ما ذهب إليه ابن جرير ورجحه محتجاً عليه بشواهد اللغة والتاريخ والجمهور على أن المراد بالأنفال هنا غنائم بدر، والكل محتمل إذ حصل النفل، وحصلت الغنيمة، ولما اختلفوا ردت إلى الله ورسوله ثم حكم الله تعالى فيها بقوله: {واعلموا أنما غنمتم من شيء ...} الآية.

وتخلف آخرون فحصلت تساؤلات بين المجاهدين لم يعطي هذا ولم لا يعطي ذاك فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى {يسألونك1 عن الأنفال؟} 2 فأخبرهم أنها {لله والرسول} فالله يحكم فيها بما يشاء والرسول يقسمها بينكم كما يأمره ربه3 وعليه فاتقوا الله تعالى بترك النزاع والشقاق، {وأصلحوا} ذات بينكم بتوثيق عرى المحبة بينكم وتصفية قلوبكم من كل ضغن أو حقد نشأ من جراء هذه الأنفال واختلافكم في قسمتها، {وأطيعوا الله ورسوله} في كل ما يأمرانكم به وينهيانكم عنه {إن كنتم مؤمنين} حقاً فامتثلوا الأمر واجتنبوا النهي. وقوله تعالى {إنما المؤمنون} أي الكاملون في إيمانهم الذين يستحقون هذا الوصف وصف المؤمنين هم {الذين إذا ذكر الله} أي اسمه أو وعده أو وعيده {وجلت قلوبهم4} أي خافت فأقلعت عن المعصية، وأسرعت إلى الطاعة، {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً} أي قوي إيمانهم وعظم يقينهم، {وعلى ربهم} لا على غيره {يتوكلون} وفيه تعالى يثقون. وإليه تعالى أمورهم يفوضون، {الذين يقيمون الصلاة} بأدائها بكامل شروطها وكافة أركانها وسائر سننها وآدابها، {ومما رزقناهم} أي أعطيناهم {ينفقون} من مال وعلم، وجاه وصحة بدن من كل هذا ينفقون في سبيل الله {أولئك} الموصوفون بهذه الصفات الخمس {هم المؤمنون حقاُ} وصدقاً، {لهم درجات عند ربهم} أي منازل عالية متفاوتة العلو والارتفاع في الجنة، ولهم قبل ذلك {مغفرة} كاملة لذنوبهم، {ورزق كريم} 5 طيب واسع لا تنقيص فيه ولا تكدير، وذلك في الجنة دار المتقين.
__________
1 السؤال معناه: الطلب فإن عدي بعن: كان لطلب معرفة شيء نحو: {يسألونك عن الأنفال} وإن عدي بنفسه نحو: "سأله مالا فهو: لطلب إعطاء الشيء المطلوب".
2 الأنفال: جمع نفلٌ بفتح النون والفاء معاً كعَمَلٌ وهو مشتق من النافلة التي هي الزيادة في العطاء، وقد أطلق العرب لفظ النفل على الغنائم في الحرب اعتباراً منهم لها على أنها زيادة عن المقصود الأهم الذي هو إبادة العدو، ولذا كان بعض صناديدهم لا يأخذونها وهذا عنترة يقول:
يخبرك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعفّ عند المغنم
3 اختلف في النفل هل يكون من الخمس أو هو خمس الخمس من الغنيمة؟ والصحيح أنه ما يعطيه الإمام من شاء من المقاتلين لبلائه من الخمس.
4 وجل: كضرب، يوجل كيضرب ويجل كيلد بإسقاط فاء الكلمة والمصدر: الوجل كالعسل، وموجل كموعد.
5 لفظ (الكريم) يصف به العرب كل شيء حسن في بابه لا قبح فيه ولا شكوى منه.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الأمر بتقوى الله عز وجل وإصلاح ذات البين.
2- الإيمان يزيد1 بالطاعة وينقص بالعصيان.
3- من المؤمنين من هو كامل الإيمان، ومنهم من هو ناقصه.
4- من صفات أهل الإيمان الكامل ما ورد في الآية الثانية من هذه السورة2 وما بعدها.
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ3 وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ(5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ(6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ(7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ(8)
شرح الكلمات:
من بيتك: أي المدينة المنورة.
لكارهون: أي الخروج للقتال.
إحدى الطائفتين : العير "القافلة" أو النفير: نفير قريش وجيشها.
__________
1سئل الحسن البصري فقيل له: يا أبا سعيد أمؤمن أنت؟ فقال: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر والقدر فأنا به مؤمن، وإن كنت تسألني عن قول الله تعالى: {إنما المؤمنون الذين ذكر الله وجلت قلوبهم} إلى قوله: {أولئك هم المؤمنون حقاً} فوالله ما أدري أنا منهم أم لا؟
2 وهما الآية الثالثة والرابعة.
3 الباء للمصاحبة أي: أخرجه إخراجاً مصاحباً للحق ليس فيه من الباطل شيء قط.

الشوكة 1 : السلاح في الحرب.
يبطل الباطل: أي يظهر بطلانه بقمع أهله وكسر شوكتهم وهزيمتهم.
ولو كره المجرمون : كفار قريش المشركون.
معنى الآيات:
قوله تعالى {كما أخرجك ربك} أيها الرسول {من بيتك} بالمدينة {بالحق} متلبساً به حيث خرجت بإذن الله {وان فريقاً2 من المؤمنين لكارهون} لما علموا بخروج قريش لقتالهم، وكانت العاقبة خيراً عظيماً، هذه الحال مثل حالهم لما كرهوا نزع الغنائم من أيديهم وتوليك قسمتها بإذننا، على أعدل قسمة وأصحها وأنفعها فهذا الكلام في هذه الآية (5) تضمنت تشبيه حال حاضرة بحال ماضيه حصلت في كل واحدة كراهة بعض المؤمنين، وكانت العاقبة في كل منهما خيراً والحمد لله، وقوله تعالى {يجادلونك في الحق بعدما تبين} أي يجادلونك في القتال بعدما أتضح لهم أن العير3 نجت وأنه لم يبق إلا النفير4 ولا بد من قتالها. وقوله تعالى {كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون} أي إلى الموت عياناً يشاهدونه أمامهم وذلك من شدة كراهيتهم لقتال لم يستعدوا له ولم يوطنوا أنفسهم لخوض معاركه. وقوله تعالى {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين} أي اذكر يا رسولنا لهم الوقت الذي يعدكم الله تعالى فيه إحدى الطائفتين العير والنفير، وهذا في المدينة وعند السير أيضاً {أنها لكم} أي تظفرون بها، {وتودون} أي تحبون أن تكون {غير ذات الشوكة} وهي عير أبي سفيان {تكون لكم}، وذلك لأنها مغنم بلا مغرم لقلة عددها وعددها، والله يريد {أن يحق الحق} أي يظهره بنصر أوليائه وهزيمة أعدائه، وقوله {بكلماته} أي التي تتضمن أمره تعالى إياكم بقتال الكافرين، وأمره الملائكة بالقتال معكم، وقوله {ويقطع دابر الكافرين} أي بتسليطكم عليهم فتقتلوهم حتى لا
__________
1 وكلّ نبت له حدّ يقال له: شرك واحده: شوكة.
2 هذه الجملة حالية: والعامل فيها: أخرجك ربّك.
3 هي قافلة أبي سفيان التجارية التي يصحبها زهاء ثلاثين رجلاً من قريش.
4 النفير: جيش قوى الذي استنفرت فيه قرابة ألف مقاتل.

تبقوا منهم غير من فر وهرب، وقوله {ليحق الحق} أي لينصره ويقرره وهو الإسلام {ويبطل الباطل} وهو الشرك {ولو كره} ذلك {المجرمون} أي المشركون الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها بالشرك، وعلى غيرهم أيضاً حيث منعوهم من قبول الإسلام وصرفوهم عنه بشتى الوسائل.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير قاعدة {عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم} وذكر نبذة عن غزوة بدر الكبرى وبيان ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن عيراً لقريش تحمل تجارة قادمة من الشام في طريقها إلى مكة وعلى رأسها أبو سفيان بن حرب فانتدب النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه للخروج إليها عسى الله تعالى أن يغنمهم إياها، لأن قريشاً صادرت أموال بعضهم وبعضهم ترك ماله بمكة وهاجر. فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأثناء مسيره أخبرهم أن الله تعالى وعدهم إحدى الطائفتين، لا على التعيين جائز أن تكون العير، وجائز أن تكون النفير الذي خرج من مكة للذب عن العير ودفع الرسول وأصحابه عنها حتى لا يستولوا عليها، فلما بلغ الرسول نبأ نجاة العير1 وقدوم النفير استشار أصحابه فوافقوا على قتال المشركين ببدر وكره بعضهم ذلك، وقالوا: إنا لم نستعد للقتال فأنزل الله تعالى هذه الآيات {يجادلونك في الحق بعد ما تبين} إلى قوله {... ولو كره المجرمون}.
2- بيان ضعف الإنسان في رغبته في كل مالا كلفة فيه ولا مشقة.
3- إنجاز الله تعالى وعده للمؤمنين إذ أغنمهم طائفة النفير وأعزهم بنصر لم يكونوا مستعدين له.
__________
1 لأنّ أبا سفيان لما بلغه بواسطة بعض الركبان أنّ محمداً قد خرج برجاله يطلب عيره استأجر ضمضم الغفاري فبعثه إلى أهل مكة يخبرهم بخروج الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن ينفروا لإنقاذ قافلتهم، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإنهم لما بلغوا في مسيرهم وادي ذفران وخرجوا منه أتاهم نبأ خروج قريش ليمنعوا قافلتهم فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقام أبو بكر وقال فأحسن ثم قال عمر فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول الله: امض لما أمرك الله به فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون} ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دون حتى نبلغه فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له بخير ثم قال: أشيروا عليّ أيها الناس، وهو يريد الأنصار فقال له سعد بن معاذ: كأنك تعنينا يا رسول الله قال: أجل، فقال سعد كلمة سرت النبي صلى الله عليه وسلم وعندها قال: سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين.

4- ذكر نبذة عن وقعة بدر وهي من أشهر الوقائع وأفضلها وأهلها من أفضل الصحابة وخيارهم إذ كانت في حال ضعف المسلمين حيث وقعت في السنة الثانية من الهجرة وهم أقلية والعرب كلهم أعداء لهم وخصوم.
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ(9) وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ(11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ(12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ(14)
شرح الكلمات:
تستغيثون1: أي تطلبون الغوث من الله تعالى وهو النصر على
__________
1 روى مسلم عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم بدر نظر إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر، فاستقبل القبلة ثم مدّ يديه فجعل يهتف بربه: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم ائتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" فما زال يهتف بربّه مادّاً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه وقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله تعالى: {إذ تستغيثون ربكم ...} الآية.

أعدائكم
مردفين: أي متتابعين بعضهم ردف بعض أي متلاحقين.
وما جعله الله إلا بشرى : أي الإمداد بالملائكة إلا بشرى لكم بالنصر.
إذ يغشيكم النعاس: أي يغطيكم به والنعاس: نوم خفيف جداً.
أمنة.: أي أمناً من الخوف الذي أصابكم لقلتكم وكثرة عدوكم.
منه : أي من الله تعالى.
رجز الشيطان: وسواسه لكم بما يؤلمكم ويحزنكم.
وليربط على قلوبكم: أي يشد عليها بالصبر واليقين.
ويثبت به الأقدام : أي بالمطر أقدامكم حتى لا تسوخ في الرمال.
الرعب: الخوف والفزع.
فاضربوا كل بنان : أي أطراف اليدين والرجلين حتى يعوقهم عن الضرب والمشي.
شاقوا الله ورسوله : أي خالفوه في مراده منهم فلم يطيعوه وخالفوا رسوله.
ذلكم فذوقوه: أي العذاب فذوقوه.
عذاب النار: أي في الآخرة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث غزوة بدر، وبيان منن الله تعالى على رسوله والمؤمنين إذ يقول تعالى لرسوله {إذ تستغيثون ربكم} أي اذكر يا رسولنا حالكم لما كنتم خائفين لقلتكم وكثرة عدوكم فاستغثتم ربكم قائلين: اللهم نصرك، اللهم أنجز لي ما وعدتني {فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} أي متتالين يتبع بعضهم بعضا {وما جعله الله إلا بشرى} أي لم يجعل ذلك الإمداد إلا مجرد بشرى لكم بالنصر على عدوكم {ولتطمئن به قلوبكم} أي تسكن ويذهب منها القلق والاضطراب، أما النصر فمن عند الله، {إن الله عزيز حكيم} عزيز غالب لا يحال بينه وبين ما يريده، حكيم بنصر من هو أهل للنصر، هذه نعمة، وثانية: اذكروا {إذ يغشيكم} ربكم

{النعاس أمنة منه1} أي أماناً منه تعالى لكم فإن العبد إذا خامره النعاس هدأ وسكن وذهب الخوف محنه، وثبت في ميدان المعركة لا يفر ولا يرهب ولا يهرب، {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان} وهذه نعمة أخرى، فقد كانت الأرض رملية تسوح فيها أقدامهم لا يستطيعون عليها كراً ولا فراً، وقل ماؤهم فصاروا ظماءً عطاشاً، محدثين، لا يجدون ما يشربون ولا ما يتطهرون به من أحداثهم ووسوس الشيطان لبعضهم بمثل قوله: تقاتلون محدثين كيف تنصرون، تقاتلون وأنتم عطاش وعدوكم ريان إلى أمثال هذه الوسوسة، فأنزل الله تعالى على معسكرهم خاصة مطراً غزيراً شربوا وتطهروا وتلبدت به التربة فأصبحت صالحة للقتال عليها، هذا معنى قوله تعالى {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان} أي وسواسه {وليربط على قلوبكم} أي يشد عليها بما أفرغ عليها من الصبر وما جعل فيها من اليقين لها {ويثبت2به الأقدام} ونعمة أخرى واذكر {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم} بتأييدي ونصري {فثبتوا الذين آمنوا} أي قولوا لهم من الكلام تشجيعاً لهم ما يجعلهم يثبتون في المعركة {سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} أي الخوف أيها المؤمنون {فاضربوا فوق3 الأعناق} أي اضربوا المذابح {واضربوا منهم كل بنان4} أي أطراف اليدين والرجلين حتى لا يستطيعوا ضرباً بالسيف، ولا فراراً بالأرجل وقوله تعالى {ذلك 5بأنهم شاقوا الله ورسوله} أي عادوهما وحاربوهما {ومن يشاقق الله ورسوله} ينتقم منه ويبطش به {فإن الله شديد العقاب} ، وقوله تعالى {ذلكم فذوقوه} أي ذلكم العذاب القتل والهزيمة فذوقوه في الدنيا وأما الآخرة فلكم فيها عذاب النار.
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
__________
1 أمنة: مصدر أمن أمنة وأمناً وأماناً وهو منصوب على الحال، أو المصدرية.
2 هذا عائد على الماء الذي شدّ دهس أرض الوادي، ويصح أن يكون عائداً إلى ربط القلوب، فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في الحرب.
3 هذا الأمر إرشادي للملائكة وللمؤمنين معاً.
4 واحد البنان: بنانة، والمراد بها هتا الأصابع الممسكة بالسيف والرمح حتى تعجز عن قتال المسلمين وضربهم.
5 ذلك: مبتدأ والخبر محذوف تقدير الكلام: الأمر ذلك، والجملة تعليلية لأنّ الباء في قوله: {بأنهم} سببية.

1- مشروعية الاستغاثة بالله تعالى وهي عبادة فلا يصح أن يستغاث بغير الله تعالى.
2- تقرير عقيدة أن الملائكة عباد لله يسخرهم في فعل ما يشاء، وقد سخرهم للقتال مع المؤمنين فقاتلوا، ونصروا وثبتوا وذلك بأمر الله تعالى لهم بذلك.
3- تعداد نعم الله تعالى على المؤمنين في غزوة بدر وهي كثيرة.
4-مشاقة1 الله ورسوله كفر يستوجب صاحبها عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
5- تعليم الله تعالى عباده كيف يقاتلون ويضربون أعداءهم، وهذا شرف كبير للمؤمنين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ(15) وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ(18) إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ(19)
شرح الكلمات:
زحفاً2: أي زاحفين لكثرتهم ولبطىء سيرهم كأنهم يزحفون على
__________
1 أصل المشاقة: العداوة بعصيان وعناد، مشتقة من الشق بكسر السين الذي هو الجانب، فالمشاق يقف عن مشاقه موقف العداء والعصيان، والتمرد في جانب لا يلتقي معه.
2 الزّحف: الدنوّ قليلاً قليلاً، وأصله، الاندفاع على الإلية، ثم سمي كل ماشٍ إلى حرب آخر زاحفاً، وازدحف القوم: إذا مشى بعضهم إلى بعض والزحاف: من علل الشعر وهو: أن يسقط من الحرفين حرف فيزحف أحدهما إلى الآخر.

الأرض.
لا تولوا الأدبار: أي لا تنهزموا فتفروا أمامهم فتولونهم أدباركم.
متحرفاً لقتال: أي مائلاً من جهة إلى أخرى ليتمكن من ضرب العدو وقتاله.
أو متحيزاً إلى فئة : أي يريد الانحياز إلى جماعة من المؤمنين تقاتل.
فقد باء بغضب: أي رجع من المعركة مصحوباً بغضب من الله تعالى لمعصيته إياه.
وليبلي: أي لينعم عليهم بنعمة النصر والظفر على قلة عددهم فيشكروا.
فئتكم: مقاتلتكم من رجالكم الكثيرين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن غزوة بدر وما فيها من جلائل النعم وخفى الحكم ففي أولى هذه الآيات ينادي الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين فيقول {يا أيها الذين آمنوا إذا1 لقيتم الذين كفروا زحفاً} أي وأنتم وإياهم زاحفون إلى بعضكم البعض {فلا تولوهم الأدبار2} أي لا تنهزموا أمامهم فتعطوهم أدباركم فتمكنوهم من قتلكم، إنكم أحق بالنصر منهم، وأولى بالظفر والغلب إنكم مؤمنون وهم كافرون فلا يصح منكم انهزام أبداً {ومن يولهم يومئذ دبره} اللهم {إلا متحرفاً لقتال} أي مائلاً من جهة إلى أخرى ليكون ذلك أمكن له في القتال {أو متحيزاً إلى فئة} أي منحازاً إلى جماعة من المؤمنين تقاتل فيقاتل معها ليقويها أو يقوى بها، من ولى الكافرين دبره في غير هاتين الحالتين {فقد باء بغضب من الله} أي رجع من جهاده مصحوباً بغضب من الله {ومأواه جهنم وبئس المصير}3
__________
1 هذه الجملة اعتراضية بين قوله تعالى: {إذ يوحي ربك} وبين قوله: {فلم تقتلوهم} ومن فوائدها تدريب المؤمنين على الشجاعة، والإقدام والثبات عند اللقاء، وهي خطة محمودة عند العرب فزادها الإسلام تقوية، قال شاعرهم وهو الحصين بن الحمام:
تأخرت أستبقي الحياة فلم ... أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
3 {فلا تولوهم الأدبار} فيه استبشاع الهزيمة بذكر لفظ الدبر، وهو كذلك.
3 الحمد لله أنه لم يقل خالداً فيها بل قال: {مأواه جهنم} ولذا ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من قال: استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان قد فرّ من الزحف".

وذلك بعد موته وانتقاله إلى الآخرة، وقوله تعالى {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم} يخبر تعالى عباده المؤمنين الذين حرم عليهم التولي ساعة الزحف وتوعدهم بالغضب وعذاب النار يوم القيامة أنهم لم يقتلوا المشركين على الحقيقة وإنما الذي قتلهم هو الله فهو الذي أمرهم وقدرهم وأعانهم، ولولاه ما قتل أحد ولا مات فليعرفوا هذا حتى لا يخطر ببالهم أنهم هم المقاتلون وحدهم. وحتى رمي رسوله المشركين بتلك التي وصلت إلى جل أعين المشركين في المعركة فأذهلتهم وحيرتهم بل وعوقتهم عن القتال وسببت هزيمتهم كان الله تعالى هو الرامي الذي أوصل التراب إلى أعين المشركين، إذ لو ترك الرسول صلى الله عليه وسلم لا لقوته لما وصلت حثية التراب إلى أعين الصف الأول من المقاتلين المشركين، ولذا قال تعالى {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى1} وقوله تعالى {وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً} أي فعل تعالى ذلك القتل بالمشركين والرمي بإيصال التراب إلى أعينهم ليذل الكافرين ويكسر شوكتهم {وليبلي2 المؤمنين} أي ولينعم عليهم الأنعام الحسن بنصرهم وتأييدهم في الدنيا وإدخالهم الجنة في الآخرة. وقوله تعالى {إن الله سميع عليم} بمقتضى هاتين الصفتين كان الإبلاء الحسن، فقد سمع تعالى أقوال المؤمنين واستغاثتهم به، وعلم ضعفهم وحاجتهم فأيدهم ونصرهم فكان ذلك منه إبلاء حسناً، وقوله تعالى {ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين} أي ذلكم القتل والرمي والإبلاء كله حق واقع بقدرة الله تعالى {وأن الله موهن} أي مضعف {كيد الكافرين} فكلما كادوا كيداً بأوليائه وأهل طاعته أضعفه وأبطل مفعوله، وله الحمد والمنة. وقوله تعالى {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح، وإن تنتهوا فهو خير لكم} هذا خطاب للمشركين حيث قال أبو جهل وغيره من رؤساء المشركين3 "اللهم أينا كان أفجر لك واقطع للرحم فأحنه اليوم، اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة" أي أهلكه الغداة يوم بدر فأنزل الله تعالى {إن
__________
1 حصل الرمي من الرسول صلى الله عليه وسلم عدّة مرات منها يوم حنين ومنها يوم أحد ومنها يوم خيبر إذ رمى سهما في حصن فسقط السهم على ابن أبي الحقيق فقتله وهو نائم في فراشه، ومنها يوم بدر، وهو المراد هنا إذ السورة مدنية ولم يسبق هذا الرمي إلاّ الذي رمى به الواقفين على بابه في مكة يريدون انفاذ القتل الذي حكمت به قريش عليه صلى الله عليه وسلم فقد روي أنه رماهم بحثية من تراب، فاشتغلوا بمسح أعينهم من التراب حتى نجا منهم صلى الله عليه وسلم.
2 {وليبلي}، الجملة متعلقة بمحذوف تقديره: فعل ذلك أي النصر، والهزيمة للكفار ليبلي المؤمنين... الخ.
3 قالوا هذا وهم يتجهّزون للقتال في مكة، وقالوه في ساحة بدر قبل القتال.

تستفتحوا} أي تطلبوا الفتح وهو القضاء بينكم وبين نبينا محمد {فقد جاءكم الفتح} وهي هزيمتهم في بدر {وإن تنتهوا} تكفوا عن الحرب والقتال وتنقادوا لحكم الله تعالى فتسلموا {فهو خير لكم وإن تعودوا} للحرب والكفر {نعد} فنسلط عليكم رسولنا والمؤمنين لنذيقكم على أيديهم الذل والهزيمة {ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً ولو كثرت} وبلغ تعداد المقاتلين منكم عشرات الآلاف، هذا وأن الله دوماً مع المؤمنين فلن يتخلى عن تأييدهم ونصرتهم ما استقاموا على طاعة ربهم ظاهراً وباطناً.
هداية الآيات
هن هداية الآيات:
1- حرمة الفرار من العدو الكافر عند1 اللقاء لما توعد الله تعالى عليه من الغضب والعذاب ولعد الرسول له من الموبقات السبع في حديث مسلم "والتولي يوم الزحف".
2- تقرير مبدأ أن الله تعالى خالق كل شيء وأنه خلق العبد وخلق فعله، إذ لما كان العبد مخلوقاً وقدرته مخلوقة، ومأموراً ومنهياً ولا يصدر منه فعل ولا قول إلا بإقدار الله تعالى له كان الفاعل الحقيقي هو الله، وما للعبد إلا الكسب بجوارحه2 وبذلك يجزى الخير بالخير والشر بمثله. عدل الله ورحمته.
3-آية وصول حثية التراب من كف الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أغلب عيون المشركين في المعركة.
4- إكرام الله تعالى وإبلاؤه لأولياءه البلاء الحسن فله الحمد وله المنة.
5- ولاية الله للمؤمنين الصادقين هي أسباب نصرهم وكمالهم وإسعادهم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ(20) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ(21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ(22) وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ
__________
1 هذا التحريم مقيّد بما في آخر السورة من أنّ ما زاد على المثلين يجوز الفرار معه كالواحد مع أكثر من اثنين، والمائة مع أكثر من مائتين، وألفين مع أكثر من أربعة آلاف.
2 مع ما وهبه الله من حرية الإرادة والقدرة على الاختيار ومع هذا فإنه لا يريد إلا ما أراده الله ولا يقع اختياره إلا على ما كتبه الله له أو عليه وقضى به أزلا وهنا تتجلى عظمة الرب تبارك وتعالى.

وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ(23)
شرح الكلمات:
ولا تولوا عنه : أي لا تعرضوا عن طاعته إذا أمركم أو نهاكم كأنكم لا تسمعون.
إن شر الدواب: أي شر ما يدب على الأرض الكافرون.
لأسمعهم: لجعلهم يسمعون أو لرفع المانع عنهم فسمعوا واستجابوا.
معنى الآيات:
ينادي الله تعالى عباده المؤمنين1 الذين آمنوا به وبرسوله وصدقوا بوعده ووعيده يوم لقائه فيأمرهم بطاعته وطاعة رسوله، وينهاهم عن الإعراض عنه وهم يسمعون الآيات تتلى والعظات تتوالى في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن نصركم وتأييدكم كان ثمرة لإيمانكم وطاعتكم فإن أنتم أعرضتم وعصيتم فتركتم كل ولاية لله تعالى لكم أصبحتم كغيركم من أهل الكفر والعصيان هذا معنى قوله {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله، ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون} وقوله {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} ينهاهم عز وجل أن يسلكوا مسلك الكافرين المشركين2 في التصامم عن سماع الآيات الحاملة للحق والداعية إليه، والتعامي عن رؤية آيات الله الدالة على توحيده الذين قالوا إنا عما يقوله محمد في صمم، وفيما يذكر ويشير إليه في عمى، فهم يقولون سمعنا بآذاننا وهم لا يسمعون بقلوبهم لأنهم لا يتدبرون ولا يفكرون فلذا هم في سماعهم كمن لم يسمع إذ العبرة بالسماع الانتفاع3 به لا مجرد سماع صوت وقوله تعالى {إن شرّ4 الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} يعني بهم المشركين وكانوا شر الدواب لأنهم كفروا بربهم وأشركوا به فعبدوا غيره، وضلوا عن سبيله ففسقوا وظلموا وأجرموا الأمر الذي جعلهم حقاً شر الدواب في الأرض فهذا تنديد بالمشركين، وفي نفس الوقت هو تحذير للمؤمنين من
__________
1 لا يجب الالتفات لمن قال: هذا الخطاب هو للمنافقين كأنما قال: يا من آمنتم بألسنتكم ولم تؤمن قلوبكم، إذ الآية في المؤمنين الصادقين بلا شك ولا ريب.
2 واليهود والمنافقين أيضاً، إذ الكل كان هذا موقفهم مما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم.
3 في الآية دليل على أن المؤمن إذ أمر أو نهي فقال سمعاً وطاعةً أي: سمعت وأطعت ولم يفعل ولم يترك لا وزن ولا عبرة بقوله بل لابد من الفعل والترك.
4 شرّ أصلها: أشر اسم تفضيل، ولكثرة الاستعمال اكتفوا بلفظ شّر لأنه أخف على اللسان بنقص حرف الهمزة.

معصية الله ورسوله والإعراض عن كتابه وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى {ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم} أي لجعلهم يسمعون آيات الله وما تحمله من بشارة ونذارة وهذا من باب الفرض لقوله تعالى {ولو أسمعهم لتولوا عنه وهم معرضون} هؤلاء طائفة من المشركين1؟ توغلوا في الشر والفساد والظلم والكبر والعناد فحرموا لذلك هداية الله تعالى فقد هلك بعضهم في بدر وبعض في أحد ولم يؤمنوا لعلم الله تعالى أنه لا خير فيهم وكيف لا وهو خالقهم وخالق طباعهم، {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب طاعة الله ورسوله في أمرهما ونهيهما، وحرمة معصيتهما.
2- حرمة التشبه بالمشركين والكافرين وسائر أهل الضلال وفي كل شيء من سلوكهم.
3- بيان أن من الناس من هو شر من الكلاب والخنازير فضلاً عن الإبل والبقر والغنم أولئك البعض كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(24) وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(25) وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(26)
__________
1 في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما : { إنَّ شرّ الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} قال: هم نفر من بني عبد الدار، والآية عامة في مَنْ تلك حالهم.

شرح الكلمات:
استجيبوا 1: اسمعوا وأطيعوا.
لما يحييكم2 : أي لما فيه حياتكم ولما هو سبب في حياتكم كالإيمان والعمل الصالح والجهاد.
فتنة: أي عذاباً تفتنون به كالقحط أو المرض أو تسلط عدو.
مستضعفون: أي ضعفاء أمام أعدائكم يرونكم ضعفاء فينالون منكم.
ورزقكم من الطيبات: جمع طيب من سائر المحللات من المطاعم والمشارب وغيرها.
لعلكم تشكرون : رجاء أن تشكروه تعالى بصرف النعمة في مرضاته.
معنى الآيات:
هذا هو النداء الثالث بالكرامة للمؤمنين الرب تعالى يشرفهم بندائه ليكرمهم بما يأمرهم به أو ينهاهم عنه تربية لهم وإعداداً لهم لسعادة الدارين وكرامتهما فيقول {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} وهو بمعنى النداء الأول أطيعوا الله ورسوله. وقوله {لما يحييكم} إشعار بأن أوامر الله تعالى ورسوله كنواهيهما لا تخلوا أبداً مما يحيي المؤمنين3 أو يزيد في حياتهم أو يحفظها عليهم، ولذا وجب أن يطاع الله ورسوله ما أمكنت طاعتهما. وقوله {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} تنبيه عظيم للمؤمنين إذا سنحت لهم فرصة للخير ينبغي أن يفترصوها قبل الفوات لاسيما إذا كانت دعوة من الله أو رسوله، لأن الله تعالى قادر على أن يحول بين المرء وما يشتهي وبين المرء وقلبه4 فيقلب القلب ويوجهه إلى وجهة أخرى فيكره فيها الخير ويرغب في الشر قوله {وأنه إليه
__________
1 هذا بمعنى أجيبوا: الإجابة معناها: إعطاء المطلوب، وإن كانت أمراً ونهياً فهو الطاعة بفعل الأمر وترك النهي، ويعبر عنهما بالسمع والطاعة، وفعل استجاب: يُعدّى باللاّم يقال: استجاب له، وفعل أجاب: يتعدى بنفسه، يقال: أجابه، إلاّ أنّ استجاب قد يتعدى بنفسه ولكن بقلة ومنه قول الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
2 {يحييكم} أصلها يحييُكم بضم الياء الثانية إلاّ أن حركتها حذفت فسكنت تخفيفاً.
3 في الآية دليل على أن الكفر والجهل موت معنوي للإنسان، إذ بالإيمان والعلم تكون الحياة وبضدهما تكون الممات.
4 روى غير واحد عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "اللهم يا مقلّب القلوب ثبت قلبي على دينك" وروى مسلم عنه صلى الله عليه وسلم قوله: " اللهم مصرف القلوب صرّف قلوبنا إلى طاعتك".

تحشرون} فالذي يعلم أنه سيحشر رغم أنفه إلى الله تعالى كيف يسرع له عقله أن يسمع نداءه بأمره فيه أو ينهاه فيعرض عنه، وقوله {واتقوا فتنة1 لا تصيبن2 الذين ظلموا منكم خاصة} تحذير آخر عظيم للمؤمنين من أن يتركوا طاعة الله ورسوله، ويتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فينتشر الشر ويعم الفساد، وينزل البلاء فيعم الصالح والطالح، والبار والفاجر3، والظالم والعادل، وقوله {واعلموا أن الله شديد العقاب}. وهو تأكيد للتحذير بكونه تعالى إذا عاقب بالذنب والمعصية فعقابه قاس شديد لا يطاق فليحذر المؤمنون ذلك بلزوم طاعة الله ورسوله. وقوله تعالى: {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون} هذه موعظة ربانية لأولئك المؤمنين الذين عايشوا الدعوة الإسلامية من أيامها الأولى بذكرهم ربهم بما كانوا عليه من قلة وضعف يخافون أن يتخطفهم الناس لقلتهم وضعفهم، فآواهم عز وجل إلى مدينة نبيه المنورة ونصرهم بجنده فعزوا بعد ذلة واستغنوا بعد عيلة وفاقة، ورزقهم من الطيبات من مطعم ومشرب وملبس ومركب، ورزقهم من الطيبات إكراماً لهم، ليعدهم بذلك للشكر إذ يشكر النعمة من عاشها ولابسها، والشكر حمد المنعم والثناء عليه وطاعته ومحبته وصرف النعمة في سبيل مرضاته، والله يعلم أنهم قد شكروا فرضي الله عنهم وأرضاهم وألحقنا بهم صابرين شاكرين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
__________
1 قال ابن عباس في هذه الآية أمر الله تعالى المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمّهم العذاب، وفي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون قال: نعم إذا كثر الخبث".
2 إعراب هذه الجملة مشكل نكتفي بعرض صورتين: الأولى أنها كقوله: {ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم} أي: إن تدخلوا لا يحطمنّكم فيكون معنى الآية: إن تتقوا... لا تصيبنّ فدخلت نون التوكيد لما في التركيب من معنى الجزاء، والثانية: تكون على حذف القول أي: اتقوا فتنة مقول فيها: لا تصيبنّ الذين ظلموا... كقول الشاعر:
حتى إذا جنّ الظلام واختلط ... جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط
أي مقول فيه: هل رأيت.. الخ فقوله فتنة موصوف بجملة مقول فيها: لا تصيبنّ.
3 روى أحمد عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده قالت. قلت: يا رسول الله أما فيهم أناس صالحون؟ قال بلى. قالت: كيف يصنع أولئك؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان".

1- وجب الاستجابة. لندا الله ورسوله1 بفعل الأمر وترك النهي لما في ذلك من حياة الفرد المسلم.
2- تعين اغتنام فرصة الخير قبل فواتها فمتى سنحت للمؤمن تعين عليه اغتنامها.
3- وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اتقاء للفتن العامة التي يهلك فيها العادل والظالم.
4- وجوب ذكر النعم لشكرها بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
5- وجوب شكر النعم بحمد الله تعالى والثناء عليه والاعتراف بالنعمة له والتصرف فيها حسب مرضاته.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ(27) وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ(28) يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(29)
شرح الكلمات:
لا تخونوا الله والرسول: أي بإظهار الإيمان والطاعة ومخالفتهما في الباطن.
وتخونوا أماناتكم : أي ولا تخونوا أماناتكم التي يأتمن عليها بعضكم بعضاً.
إنما أموالكم وأولادكم فتنة : أي الاشتغال بذلك يفتنكم عن طاعة الله ورسوله.
إن تتقوا الله: أي بامتثال أمره واجتناب نهيه في المعتقد والقول والعمل.
__________
1 روى البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه ثم أتيته فقلت يا رسول الله إني كنت أصلي فقال ألم يقل الله عز وجل {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}؟ وذكر الحديث. قال العلماء. في هذا دليل على أن الفعل الفرض أو القول الفرض إذا أتى به في الصلاة لا تبطل.

يجعل لكم فرقاناً : نوراً في بصائركم تفرقون به بين النافع والضار والصالح والفاسد.
ويكفر عنكم سيآتكم : أي يمحوا عنكم ما سلف من ذنوبكم التي بينكم وبينه.
ويغفر لكم ذنوبكم: أي يغطيها فيسترها عليكم فلا يفضحكم بها ولا يؤاخذكم عليها.
معنى الآيات:
هذا نداء رباني آخر يوجه إلى المؤمنين {يا أيها الذين آمنوا} أي يا من آمنتم بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالإسلام ديناً. {لا تخونوا الله والرسول} بأن يظهر أحدكم الطاعة لله ورسوله، ويستسر المعصية، ولا تخونوا أماناتكم التي يأتمن بعضكم بعضاً عليها {وأنتم تعلمون} عظيم جريمة الخيانة وآثارها السيئة على النفس والمجتمع، هذا ما دلت عليه الآية الأولى في هذا السياق {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا1 الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} وقوله تعالى {واعلموا إنما2 أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم} فيه إشارة إلى السبب الحامل على الخيانة غالباً وهو المال والأولاد فأخبرهم تعالى أن أموالهم وأولادهم فتنة تصرفهم عن الأمانة والطاعة، وأن ما يرجوه من مال أو ولد ليس بشيء بالنسبة إلى ما عند الله تعالى إن الله تعالى عنده أجر عظيم لمن أطاعه واتقاه وحافظ على أمانته مع الله ورسوله ومع عباد الله وقوله تعالى في الآية الثالثة { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله3 يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئآتكم ويغفر لكم} هذا حض على التقوى وترغيب فيها بذكر أعظم النتائج لها وهي أولاً إعطاء الفرقان وهو النصر والفصل بين كل مشتبه، والتمييز بين الحق والباطل والضار والنافع، والصحيح والفاسد، وثانياً تكفير السيئآت، وثالثاً مغفرة الذنوب ورابعاً الأجر العظيم الذي هو الجنة ونعيمها إذ قال تعالى
__________
1 لفظ الآية عام في كل ذنب صغير وكبير، وما روي أنها نزلت في أبي لبابة حيث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشاروه في ذلك فأشار عليهم بذلك وأشار بيده إلى حلقه أي إنه الذبح لا ينافيه.
2 وهذه الآية عامّة أيضاً وإن قيل إنها نزلت في أبي لبابة إذ كان له مال وولد في بني قريظة فلا يُتهم لأجل ذلك.
3 قال بعضهم واصفاً للتقوى المورثة للفرقان فقال: هي امتثال الأوامر واجتناب المناهي، وترك الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات وشحن القلب بالنية الخالصة، والجوارح بالأعمال الصالحة، والتحفظ من شوائب الشرك الخفي والظاهر.

في ختام الآية {والله ذو الفضل العظيم} إشارة إلى ما يعطيه الله تعالى أهل التقوى في الآخرة وهو الجنة ورضوانه على أهلها، ولنعم الأجر الذي من أجله يعمل العاملون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تحريم الخيانة مطلقاً وأسوأها ما كان خيانة لله ورسوله.
2- في المال والأولاد فتنة قد تحمل على خيانة الله ورسوله، فيلحذرها المؤمن.
3- من ثمرات التقوى تكفير السيآت وغفران الذنوب، والفرقان وهو نور في القلب يفرق به المتقى بين الأمور المتشابهات والتي خفي فيها وجه الحق والخير.
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ(31)
شرح الكلمات:
وإذ يمكر بك : أي يبيتون لك ما يضرك.
ليثبتوك: أي ليحبسوك مثبتاً بوثاق حتى لا تفر من الحبس.
أو يخرجوك : أي ينفوك بعيداً عن ديارهم.
ويمكرون ويمكر الله: أي يدبرون لك السوء ويبيتون لك المكروه، والله تعالى يدبر لهم ما يضرهم أيضاً ويبيت لهم ما يسوءهم.
آياتنا: آيات القرآن الكريم.
أساطير الأولين: الأساطير جمع أسطورة ما يدرن ويسطر من أخبار الأولين.

معنى الآيات :
يذكر تعالى رسوله والمؤمنين بنعمة من نعمه تعالى عليهم فيقول لرسوله واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا {ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} إذا اجتمعت قريش في دار الندوة وأتمرت في شأن النبي صلى الله عليه وسلم وفكرت ومكرت فأصدروا1 حكماً بقتله صلى الله عليه وسلم وبعثوا من ينفذ جريمة القتل فطوقوا منزلة فخرج النبي 2 صلى الله عليه وسلم بعد أن رماهم بحثية من تراب قائلاً شاهت الوجوه، فلم يره أحد ونفذ وهاجر إلى المدينة وهذا معنى {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} فكان في نجاته صلى الله عليه وسلم من يد قريش نعمة عظمى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى سائر المؤمنين والحمد لله رب العالمين.
وقوله تعالى في الآية الثانية { وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا3 مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين} هذا الخبر تنديد بموقف المشركين ذكر بعد ذكر مؤامراتهم الدنية ومكرهم الخبيث حيث قرروا قتله صلى الله عليه وسلم يخبر تعالى أنهم إذا قرأ عليهم الرسول آيات الله المبينة للحق والمقررة للإيمان به ورسالته بذكر قصص الأولين قالوا {سمعنا} ما تقرأ علينا، { ولو شئنا لقلنا مثل هذا} أي الذي تقول { إن هذا إلا أساطير الأولين} أي أخبار السابقين من الأمم سطرت وكتبت فهي تملى عليك فتحفظها وتقرأها علينا وكان قائل هذه المقالة الكاذبة النضر بن الحارث عليه لعائن الله إذ مات كافراً.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- التذكير بنعم الله تعالى على البعد ليجد العبد في نفسه داعية الشكر فيشكر.
2- بيان مدى ما قاومت به قريش دعوة الإسلام حتى إنها أصدرت حكمها بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم.
3- بيان موقف المشركين من الدعوة الإسلامية، وأنهم بذلوا كل جهد في سبيل إنهائها والقضاء عليها.
__________
1 كان حكم القتل باقتراح إبليس إذ جاءهم وهم يتشاورون في أمر النبي صلى الله عليه وسلم فأشار عليهم وهو في صورة شيخ نجدي فقبلوا ما أشار به عليهم من القتل فأخذوا برأيه وتركوا ما أشار به بعضهم من النفي والحبس.
2 بعد أن ترك علياً نائماً على فراشه مسجىً ببرد أخضر للنبي صلى الله عليه وسلم .
3 من بين القائلين: النضر بن الحارث إذ كان قد خرج إلى الحيرة في تجارة فاشترى أحاديث كليلة ودمنة وكسرى، وقيصر، وأخذ يقصّ تلك الأخبار ويقول: هذه مثل الذي يقصّ محمد من أخبار الماضين. وكذب فأين ما يقصه القرآن وما يوسوس به الشيطان.

وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(34) وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ(35)
شرح الكلمات:
اللهم: أي يا الله حذفت ياء النداء من أوله وعوض عنها الميم من آخره.
إن كان هذا : أي الذي جاء به محمد ويخبر به.
فأمطر: أنزل علينا حجارة.
يصدون عن المسجد الحرام: يمنعون الناس من الدخول إليه للاعتمار.
مكاء وتصدية : المكاء: التصفير، والتصدية: التصفيق.
معنى الآيات:
ما زال السياق في التنديد ببعض أقوال المشركين وأفعالهم فهذا النضر1 بن الحارث القائل في الآيات السابقة {لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين} يخبر تعالى عنه أنه قال {اللهم إن كان هذا} أي القرآن {هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من
__________
1 وقاله أيضاً أبو جهل وهو دال على مدى عناد المشركين في مكة ومكابرتهم وحسدهم أيضاً.

السماء} فنهلك بها، ولا نرى محمداً ينتصر1 دينه بيننا. {أو ائتنا بعذاب أليم} حتى نتخلص من وجودنا. فقال تعالى {وما كان الله ليعذبهم2 وأنت فيهم3} فوجودك بينهم أمان لهم {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} إذ كانوا إذا طافوا يقول بعضهم غفرانك ربنا غفرانك، ثم قال تعالى {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام} أي أيُّ شيء يصرف العذاب عنهم وهم يرتكبون أبشع جريمة وهي صدهم الناس عن دخول المسجد الحرام للطواف بالبيت الحرام، فقد كانوا يمنعون المؤمنين من الطواف بالبيت والصلاة في المسجد الحرام4. وقوله تعالى {وما كانوا أولياءه} رد على مزاعمهم بأنهم ولاة الحرم والقائمون عليه فلذا لهم أن يمنعوا من شاءوا ويأذنوا لمن شاءوا فقال تعالى رداً عليهم {وما كانوا أولياءه} أي أولياء المسجد الحرام، كما لم يكونوا أيضاً أولياء الله إنّما أولياء الله والمسجد الحرام المتقون الذين يتقون الشرك والمعاصي {ولكن أكثرهم لا يعلمون} هذا لجهل بعضهم وعناد آخرين. وقوله {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} إذ كان بعضهم إذا طافوا يصفقون ويصفرون كما يفعل بعض دعاة التصوف حيث يرقصون وهم يصفقون ويصفرون ويعدون هذا حضرة أولياء الله، والعياذ بالله من الجهل والضلال وقوله تعالى {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} أذاقهموه يوم بدر إذ أذلهم فيه وأخزاهم وقتل رؤساءهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان ما كان عليه المشركون في مكة من بغض للحق وكراهية له حتى سألوا العذاب العام ولا يرون راية الحق تظهر ودين الله ينتصر.
__________
1 ذكر القرطبي الحكاية التالية قال: حكي أن ابن عباس لقيه يهودي فقال له من أنت؟ قال: من قريش. فقال أنت من القوم الذين قالوا: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ...} الآية فهلاَّ عليهم أن يقولوا: إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له إنّ هؤلاء قوم يجهلون قال ابن عباس: وأنت يا إسرائيلي من القوم الذين لم تجف أرجلهم من بلل البحر الذي أغرق فيه فرعون وقومه، وانجى موسى وقومه حتى قالوا:{ اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة فقال لهم موسى أنكم قوم تجهلون} فأطرق اليهودي ملجماً.
2 روى مسلم انه لما قال أبو جهل. اللهم إن كان هذا هو الحق.. الآية نزلت هذه الآية: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}.
3 دليله إنهم لما خرج من بينهم صلى الله عليه وسلم عذبهم الله بالقتل في بدر وسني القحط الجدب.
4 أي أنهم مستحقون العذاب ولكن لكل أجل كتاب فإذا حان أوانه عذّبوا.

2- النبي صلى الله عليه وسلم أمان أمته من العذاب فلم تُصب هذه الأمة بعذاب الاستئصال والإبادة الشاملة.
3- فضيلة الاستغفار وأنه ينجى من عذاب الدنيا والآخرة.
4- بيان عظم جرم من يصد عن المسجد الحرام للعبادة الشرعية فيه.
5- بيان أولياء الله تعالى والذين يحق لهم أن يلوا المسجد الحرام وهو المتقون.
6- كراهية الصفير1 والتصفيق، وبطلان الرقص في التعبد.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(37)
شرح الكلمات:
إن الذين كفروا: أي كذبوا بآيات الله ورسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من قريش
ثم تكون عليهم حسرة : أي شدة ندامة.
ثم يغلبون : أي يهزمون.
ليميز : أي ليميز كل صنف من الصنف الأخر.
الخبيث: هم أهل الشرك والمعاصي.
من الطيب: هم أهل التوحيد والأعمال الصالحة.
فيركمه: أي يجعل بعضه فوق بعض في جهنم.
__________
1 الصفير: تفسير للمكاء في الآية وهو مأخوذ من صوت طائر يسمى المكاء قال الشاعر:
إذا غرّد المكاء في غير روضة ...
فويل لأهل الشاء والحُمُرات

معنى الآية الكريمة:
ما زال السياق في التنديد بالمشركين وأعمالهم الخاسرة يخبر تعالى {إن الذين كفروا} وهم أهل مكة من زعماء قريش {ينفقون أموالهم} في1 حرب رسول الله والمؤمنين للصد عن الإسلام المعبر عنه بسبيل الله يقول تعالى (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة2} أي ندامة شديدة لسوء العاقبة التي كانت لهم في بدر وأحد والخندق إذ أنفقوا على هذه الحملات الثلاث من الأموال ما الله به عليم، ثم خابوا فيها وخسروا وبالتالي غلبوا وانتهى سلطانهم الكافر وفتح الله على رسوله والمؤمنين مكة وقوله تعالى {والذين كفروا} أي من مات منهم على الكفر {إلى جهنم يحشرون} أي يجمعون، وعلة هذا الجمع أن يميز الله تعالى الخبيث من الطيب فالطيبون وهم المؤمنون الصالحون يعبرون الصراط إلى الجنة دار النعيم، وأما الخبيث وهم فريق المشركين فيجعل بعضه إلى بعض فيركمه جميعاً كوماً واحداً فيجعله في جهنم. وقوله تعالى {أولئك هم الخاسرون} إشارة إلى الذين أنفقوا أموالهم للصد عن سبيل الله وماتوا على الكفر فحشروا إلى جهنم وجعل بعضهم إلى بعض ثم صيروا كوماً واحداً ثم جعلوا في نار جهنم هم الخاسرون بحق حيث خسروا أنفسهم وأموالهم وأهليهم وكل شيء وأمسوا في قعر جهنم مبلسين والعياذ بالله من الخسران المبين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- كل نفقة ينفقها العبد للصد عن سبيل الله بأي وجه من الوجوه تكون عليه حسرة عظيمة يوم القيامة.
2- كل كافر خبيث وكل مؤمن طيب.
3- صدق وعد الله تعالى لرسوله والمؤمنين بهزيمة المشركين وغلبتهم وحسرتهم على ما أنفقوا في حرب الإسلام وضياع ذلك كله وخيبتهم فيه.
__________
1 لمّا هزمت قريش في بدر قام أبو سفيان بحملة جمع فيها الأموال لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم والانتقام لمن مات من صناديد قريش فجمع المال وشنّ حرب أحد إلاّ أنه خاب وخسر كما أخبر تعالى: ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون.
2 والآية يدخل فيها المطعمون ببدر إذ كانوا اثني عشر رجلاً فكان الواحد منهم يطعم جيش قريش عشرة من الإبل يومياً طيلة ما هم في بدر، فخابوا في نفقاتهم وهلكوا.

قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ(38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(39) وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ(40)
شرح الكلمات:
إن ينتهوا: عن الكفر بالله ورسوله وحرب الرسول والمؤمنين.
ما قد سلف: أي مضى من ذنوبهم من الشرك وحرب الرسول والمؤمنين.
مضت سنة الأولين: في إهلاك الظالمين.
لا تكون فتنة : أي شرك بالله واضطهاد وتعذيب في سبيل الله.
ويكون الدين كله لله : أي حتى لا يعبد غير الله.
مولاكم: متولي أمركم بالنصر والتأييد.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بيان الإجراءات الواجب اتخاذها إزاء الكافرين فيقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {قل للذين كفروا} 1 مبلغاً عنا {إن ينتهوا} أي عن الشرك والكفر والعصيان وترك حرب الإسلام وأهله {يغفر لهم ما قد سلف} يغفر الله لهم ما قد مضى2 من ذنوبهم العظام وهي الشرك والظلم، وهذا وعد صدق ممن لا يخلف الوعد سبحانه وتعالى. {وإن يعودوا} إلى الظلم والاضطهاد والحرب فسوف يحل بهم ما حل بالأمم السابقة قبلهم لما ظلموا فكذبوا الرسل وآذوا المؤمنين وهو معنى قوله تعالى {فقد مضت سنة
__________
1 نزلت في أبي سفيان ورجاله المشركين في مكة قبل الفتح.
2 في الصحيح: "الإسلام يجبّ ما قبله، والتوبة تجبّ ما قبلها".

الأولين} أي سنة الله والطريقة المتبعة فيهم وهي أخذهم1 بعد الإنذار والإعذار. ثم في الآية الثانية من هذا السياق يأمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بقتال المشركين قتالاً يتواصل بلا انقطاع إلى غاية هي: أن لا تبقى فتنة أي شرك ولا اضطهاد لمؤمن2 أو مؤمنة من أجل دينه ، وحتى يكون الدين كله لله فلا يعبد3 مع الله أحد سواه {فإن انتهوا } أي عن الشرك والظلم فكفوا عنهم وإن انتهوا في الظاهر ولم ينتهوا في الباطل فلا يضركم ذلك {فإن الله بما يعملون بصير} وسيظهرهم لكم ويسلطكم عليهم. وقوله في ختام السياق {وإن تولوا} أي نكثوا العهد وعادوا إلى حربكم بعد الكف عنهم فقاتلوهم ينصركم الله عليهم واعلموا أن الله مولاكم فلا يسلطهم عليكم، بل ينصركم عليهم إنه {نعم المولى} لمن يتولى {ونعم النصير} لمن ينصر.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان سعة فضل الله ورحمته.
2- الإسلام يجبّ أي يقطع ما قبله، فيغفر لمن أسلم كل ذنب قارفه من الكفر وغيره.
3- بيان سنة الله في الظالمين وهي إهلاكهم وإن طالت مدة الإملاء والإِنظار.
4- وجوب قتال المشركين على المسلمين ما بقي في الأرض مشرك.
5- نعم المولى الله جل جلاله لمن تولاه، ونعم النصير لمن نصره.
__________
1 أخذهم: أي بالعذاب العاجل والعقوبة الشديدة.
2 الاضطهاد: هو فتنة قريش للمؤمنين حيث فتنوهم حتى هاجروا إلى الحبشة وفتنوهم حتى هاجروا إلى المدينة ومعنى: فتنوهم. عذّبوهم ليردّوهم إلى الشرك والكفر.
3 يشهد له قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلاّ الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها، وحسابهم على الله عز وجل" في الصحيحين.

الجزء العاشر
وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(41) إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ(42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ(44)
شرح الكلمات :
أنما غنمتم من شيء : أي ما أخذتموه من مال الكافر قهراً لهم وغلبة قليلاً كان أو كثيراً.
فأن لله خمسه : أي خمس الخمسة أقسام، يكون لله والرسول ومن ذكر بعدهما.
ولذى القربى : هم قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني المطلب.
وما أنزلنا على عبدنا : أي من الملائكة والآيات.

يوم الفرقان : أي يوم بدر وهو السابع عشر من رمضان، إذ فرق الله فيه بين الحق والباطل.
التقى الجمعان.: جمع المؤمنين وجمع الكافرين ببدر.
العدوة الدنيا: العدوة حافة الوادي، وجانبه والدنيا أي القريبة إلى المدينة.
بالعدوة القصوى : أي البعيد من المدينة إذ هي حافة الوادي من الجهة الأخرى.
والركب أسفل منكم : أي ركب أبى سفيان وهي العير التي خرجوا من أجلها. أسفل منكم مما يلي البحر.
عن بينة: أي حجة ظاهرة.
لتنازعتم في الأمر :أي اختلفتم.
ويقللكم في أعينهم : هذا قبل الالتحام أما بعد فقد رأوهم مثليهم حتى تتم الهزيمة لهم.
معنى الآيات:
هذه الآيات لا شك أنها نزلت في بيان قسمة الغنائم بعدما حصل فيها من نزاع فافتكها الله تعالى منهم ثم قسمها عليهم فقال الأنفال لله وللرسول في أول الآية ثم قال هنا {واعلموا} أيها المسلمون {أنما غنمتم1 من شيء2} حتى الخيط والمخيط، ومعنى غنمتم أخذتموه من المال من أيدي الكفار المحاربين لكم غلبة وقهراً لهم فقسمته هي أن {لله خمسه وللرسول ولذي القربى3 واليتامى والمساكين وابن السبيل} والأربعة أخماس4 الباقية هي لكم أيها المجاهدون للراجل قسمة وللفارس قسمان لما له من تأثير
__________
1 الغنيمة: ما يناله الرجل أو الجماعة بسعي وهو قتال الكافرين لغرض هدايتهم إلى الإسلام ليكملوا ويسعدوا، قال الشاعر:
وقد طوّفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
2الإجماع على أن هذا الحكم ليس على عمومه بل هو مخصص بقول الإمام: مَن قتل قتيلاً فله سَلَبه، وكذا الرقاب، فالإمام مخيّر فيها بين القتل والفداء والمنّ وليس هذا للغانمين، وكذا السلب فإن من سلب مقاتلاً شيئا كسلاحه وفرسه فهو له أيضاً.
3 المراد بذي القربى: قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم بنو هاشم، وهو مذهب مالك، وزاد الشافعي وأحمد: بني المطلب لأن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قسم سهم ذي القربى بين بني هاشم وبين عبدالمطلب قال: "إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبّك بين أصابعه" رواه البخاري.
4 من باب الإطلاع لا غير أذكر أنّ بعضاً قال: الغنيمة خمسها لله والأربعة أخماس للإمام إن شاء حبسها وإن شاء قسمها على الغانمين وهو قول مخالف لما عليه جمهور الفقهاء.

في الحرب، ولأن فرسه يحتاج إلى نفقة علف. والمراد من قسمة الله أنها تنفق في المصالح العامة ولو أنفقت على بيوته لكان أولى وهي الكعبة وسائر المساجد، وما للرسول فإنه ينفقه على عائلته، وما لذي القربى فإنه ينفق على قرابة الرسول الذين يحرم عليهم أخذ الزكاة لشرفهم وهم بنو هاشم وبنو المطلب، وما لليتامى ينفق على فقراء المسلمين، وما لابن السبيل ينفق على المسافرين المنقطعين عن بلادهم إذا كانوا محتاجين إلى ذلك في سفرهم وقوله تعالى {إن كنتم آمنتم بالله} أي رباً {وما أنزلنا على عبدنا} أي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم {يوم الفرقان يوم التقى الجمعان} وهو يوم بدر حيث التقى المسلمون بالمشركين، والمراد بما أنزل تعالى على عبده ورسوله الملائكة والآيات منها الرمية التي رمى بها المشركين فوصلت إلى أكثرهم فسببت هزيمتهم. وقوله {والله على كل شيء قدير} أي كما قدر على نصركم على قلتكم وقدر على هزيمة عدوكم على كثرتهم هو قادر على كل شيء يريده وقوله تعالى {إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب1 أسفل منكم} تذكير لهم بساحة المعركة التي تجلت فيها آيات الله وظهر فيها إنعامه عليهم ليتهيئوا للشكر. وقوله تعالى {ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد} أي لو تواعدتم أنتم والمشركون على اللقاء في بدر للقتال لاختلفتم لأسباب تقتضي ذلك منها أنكم قلة وهم كثرة {ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً} أي محكوماً به في قضاء الله وقدره، وهو نصركم وهزيمة عدوكم. وجمعكم من غير تواعد ولا اتفاق سابق. وقوله تعالى {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حَيَّ عن بينة} هذا تعليل لفعل الله تعالى يجمعكم في وادي بدر للقتال وهو فعل ذلك ليحيا بالإيمان من حيى على بينة وعلم أن الله حق والإسلام حق والرسول حق والدار الآخرة حق حيث أراهم الله الآيات الدالة على ذلك، ويهلك من هلك بالكفر على بينة إذ أتضح له أن ما عليه المشركون كفر وباطل وضلال ثم رضي به واستمر عليه. وقوله تعالى {وإن الله لسميع عليم} تقرير لما سبق وتأكيد له حيث أخبر تعالى أنه سميع لأقوال عباده عليم بأفعالهم فما أخبر به وقرره هو كما أخبر وقرر. وقوله تعالى {وإذ يريكهم الله في منامك قليلاً} أي فأخبرت أصحابك ففرحوا بذلك
__________
1 ركب أبي سفيان، ولفظ الركب لا يطلق إلاّ على الراكبين، والركب مبتدأ، والخبر متعلّق أسفل الظرف أي: كائن أسفل منكم.

وسرُّوا ووطنوا أنفسهم للقتال، وقوله: {ولو أراكهم كثيراً} أي في منامك وأخبرت به أصحابك لفشلتم أي جبنتم عن قتالهم، ولتنازعتم في أمر قتالهم {ولكن الله سلَّم} من ذلك فلم يريكهم كثيراً إنه تعالى عليم بذات الصدور ففعل ذلك لعلمه بما يترتب عليه من خير وشر. وقوله تعالى {وإذ يريكموهم} أي اذكروا أيها المؤمنون إذ يريكم الله الكافرين عند التقائكم بهم قليلاً في أعينكم كأنهم سبعون رجلاً أو مائة مثلاً ويقللكم سبحانه وتعالى في أعينهم حتى1 لا يهابوكم. وهذا كان عند المواجهة وقبل الالتحام أما بعد الالتحام فقد أرى الله تعالى الكافرين أراهم المؤمنين ضعفيهم في الكثرة وبذلك انهزموا كما جاء ذلك في سورة آل عمران في قوله {يرونهم مثليهم} وقوله تعالى {ليقضي الله أمراً كان مفعولاً} تعليل لتلك التدابير الإلهية لأوليائه لنصرتهم وإعزازهم وهزيمة أعدائهم وإذلالهم وقوله تعالى {إلى الله ترجع الأمور} إخبار منه تعالى بأن الأمور كلها تصير إليه فما شاء منها كان وما لم يشأ لم يكن خبراً كان أو غيراً.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان قسمة الغنائم على الوجه الذي رضيه الله تعالى.
2- التذكير بالإيمان، إذ هو الطاقة الموجهة باعتبار أن المؤمن حي بإيمانه يقدر على الفعل والترك، والكافر ميت فلا يكلف.
3- فضيلة غزوة بدر وفضل أهلها.
4- بيان تدبير الله تعالى في نصر أوليائه وهزيمة أعدائه.
5- بيان أن مرد الأمور نجاحاً وخيبة لله تعالى ليس لأحد فيها تأثير إلا بإذنه.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ(45)
__________
1 قال أبو جهل: إنهم أكلة جزور خذوهم أخذاً واربطوهم بالحبال فلمّا أخذوا في القتال عظم المسلمون في أعين الكفار وكثروا حتى أنهم يرونهم مثليهم.

وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(46) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ(47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ(48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(49)
شرح الكلمات:
فئة: طائفة مقاتلة.
فاثبتوا : لقتالها واصمدوا.
واذكروا لله كثيراً : مهللين مكبرين راجين النصر طامعين فيه سائلين الله تعالى ذلك.
تفلحون: تفوزون بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة بعد النجاة من الهزيمة في الدنيا والنار في الآخرة.
ولا تنازعوا.: أي لا تختلفوا وأنتم في مواجهة العدو أبداً.
وتذهب ريحكم1 : أي قوتكم بسبب الخلاف.
__________
1 يرى بعضهم أن الريح ريح الصبا التي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم "نصرت بالصبا، واهلكت عاد بالدبور" يريد أنهم بعدم طاعتهم يحرمون الريح التي بها نصرهم وهو معنى لا بأس به.

خرجوا من ديارهم بطراً : أي للبطر الذي هو دفع الحق ومنعه.
وقال إني جار لكم : أي مجير لكم ومعين على عدوكم.
تراءت الفئتان : أي التقتا ورأت كل منهما عدوها.
نكص على عقبيه: أي رجع إلى الوراء هارباً، لأنه جاءهم في صورة سراقة بن مالك.
إني أرى ما لا ترون : من الملائكة.
والذين في قلوبهم مرض: أي ضعف في إيمانهم وخلل في اعتقادهم.
معنى الآيات:
هذا النداء الكريم موجه إلى المؤمنين وقد أذن لهم في قتال الكافرين، وبدأ بسرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه وثنى بهذه الغزوة غزوة بدر الكبرى فلذا هم في حاجة إلى تعليم رباني وهداية إلهية يعرفون بموجبها كيف يخوضون المعارك وينتصرون فيها وفي هذه الآيات الأربع تعليم عال جداً لخوض المعارك والانتصار فيها وهذا بيانها:
1- الثبات في وجه العدو والصمود في القتال حتى لكان المجاهدين جبل شامخ لا يتحرك {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة} أي جماعة مقاتلة {فاثبتوا}.
2- ذكر الله تعالى تهليلاً وتكبيراً وتسبيحاً ودعاء1 وضراعة ووعداً ووعيداً. {واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون} أي تفوزون بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة بعد النجاة من الهزيمة والمذلة في الدنيا، والنار والعذاب في الآخرة.
3- طاعة الله ورسوله في أمرهما ونهيهما ومنه طاعة قائد المعركة ومديرها وهذا من أكبر عوامل النصر حسب سنة الله تعالى في الكون {وأطيعوا الله ورسوله}.
4- عدم التنازع والخلاف عند التدبير للمعركة وعند دخولها وأثناء خوضها.
5- بيان نتائج التنازع والخلاف وإنها: الفشل الذريع، وذهاب القوة المعبر عنها بالريح
__________
1 الذكر المطلوب هو: ما كان باللسان والقلب معاً، في الآية دليل على أنّ ذكر الله تعالى لا يترك في حال إلاّ في حال التغوّط، قال محمد القرطبي: لو رخّص لأحد في ترك الذكر لرخّص لزكريا إذ قال له تعالى: {ألاّ تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً واذكر ربك كثيراً} ولرخص لرجل في الحرب لقوله تعالى: {إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً} وحكم هذا الذكر أن يكون خفياً إلا أن يكون في بداية الحملة بصوت واحد: الله أكبر فإن ذلك محمود لأنه يرعب العدو ويفتّ في أعضاده.

{ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} 1.
6- الصبر على مواصلة القتال والإعداد له وتوطين النفس وإعدادها لذلك. {واصبروا إن الله مع الصابرين}.
7- الإخلاص في القتال والخروج له لله تعالى فلا ينبغي أن يكون لأي اعتبار سرى مرضاة الله تعالى {ولا تكونوا كالذين2 خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط}.
هذه عوامل النصر وشروط الجهاد في سبيل الله تضمنتها ثلاث آيات من هذه الآيات الخمس وقوله تعالى في الآية الرابعة (48) {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب} يذكِّر تعالى المؤمنين بحادثة حدثت يوم بدر من أغرب الحوادث لتكون عبرة وموعظة للمؤمنين فيقول عز وجل واذكروا إذ زين الشيطان للمشركين الذين نهيتكم أن تتشبهوا بهم في سيرهم وقتالهم وفي كل حياتهم، فقال لهم: أقدموا على قتال محمد والمؤمنين، ولا ترهبوا ولا تخافوا إنه لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار لكم أي مجير لكم وناصر ومعين. وكان الشيطان في هذه الساعة في صورة رجل من أشراف قبيلته يقال له سراقة بن مالك3 فلما تراءت الفئتان لبعضهما البعض وتقدموا للقتال رأى الشيطان جبريل في صفوف الملائكة، فنكص على عقبيه، وكان آخذاً بيد الحارث بن هشام يحدثه يعده ويمنيه بعد ما زين لهم خوض المعركة وشجعهم على ذلك، وولى هارباً فقال له الحارث: ما بك ما أصابك تعال فقال وهو هارب { إني أرى ما لا ترون} يعني الملائكة {إني أخاف4 الله والله شديد العقاب}
__________
1 المراد بالريح هنا: القوة والنصر، كما يقال. الريح لفلان إذا كان غالبا في أمره ومنه قول الشاعر:
إذا هبّت رياحك فاغتنمها ... فإنّ لكل خافتة سكون
جملة: لكل خافتة سكون: خبر إن واسمها: ضمير شأن.
2 هم أبو جهل وأصحابه الخارجون يوم بدر لنصرة العير حيث خرجوا بالقينات والمغنيات والمعازف.
3 هو سراقة بن مالك بن جعشم من بني بكر بن كنانة، وكانت قريش تخاف س بني بكر أن يأتوهم من ورائهم لأنهم قتلوا رجلاً منهم فلّما تمثل لهم الشيطان في صورة سراقة سكنوا لذلك.
4 قيل: إن الشيطان خاف أن يكون يوم بدر هو اليوم الذي انظر إليه، وقيل: كذب وهو كذوب.

وصدق وهو كذوب وقوله تعالى في نهاية الآية (49) {إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم} أي واذكروا أيها المؤمنون للعبرة والاتعاظ إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم1 مرض أي ضعف في الإيمان وتخلخل في العقيدة: غر هؤلاء دينهم وإلا لما خرجوا لقتال قريش وهي تفوقهم عدداً وعدة، ومثل هذا الكلام يعتبر عادياً من ضعاف الإيمان والمنافقين المستترين بزيف إيمانهم، فاذكروا هذا، ولا يفت في اعضادكم مثل هذا الكلام، وتوكلوا على الله واثقين في نصره فإنه ينصركم لأنه عزيز لا يغالب ولا يمانع في ما يريده أبداً. حكيم يضع النصر في المتأهلين له بالإيمان والصبر والطاعة له ولرسوله، والإخلاص له في العمل والطاعة.
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
1- بيان أسباب النصر وعوامله ووجوب الأخذ بها في كل معركة وهي: الثبات وذكر الله تعالى، وطاعة الله ورسوله وطاعة القيادة وترك النزاع والخلاف والصبر والإخلاص.
2- بيان عوامل الفشل والخيبة وهي النزاع والاختلاف والبطر والرياء والاغترار.
3- بيان عمل الشيطان في نفوس الكافرين بتزيينه لهم الحرب ووعده وتمنيته لهم.
4- بيان حال المنافقين وضعفة الإيمان عند وجود2 القتال ونشوب الحروب.
5- وجوب التوكل على الله والاعتماد عليه مهما كانت دعاوى المبطلين والمثبطين والمنهزمين.
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ(50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ(51)
__________
1 لقد اختلف في المراد بالمنافقين هنا، وكذا الذين في قلوبهم مرض إذ يبعد أن يكون في المشركين منافقون، كما يبعد أن يكون في أهل بدر منافقون، والذي يدو أنّه الراجح: أنّ القائلين هذه المقالة هم منافقون وضعفة إيمان بالمدينة لما رأوا خروج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى بدر قالوا هذه القولة القبيحة ويكون الظرف "إذ" متعلّق بشديد العقاب لا بزين".
2 لا يتعارض هذا القول مع ما رجحناه من أن القائلين هذه المقولة هم منافقون وضعاف إيمان بالمدينة، إذ هذه الحال تنطبق عليهم.

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ(52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ(54)
شرح الكلمات:
إذ يتوفى.: أي يقبض أرواحهم لإماتتهم.
وجوههم وأدبارهم : أي يضربونهم من أمامهم ومن خلفهم.
بظلام للعبيد: أي ليس بذي ظلم للعبيد كقوله {ولا يظلم ربك أحداً}.
كدأب آل فرعون : أي دأب كفار قريش كدأب آل فرعون في الكفر والتكذيب والدأب العادة.
لم يك مغيراً نعمة: تغيير النعمة تبديلها بنقمة بالسلب لها أو تعذيب أهلها.
آل فرعون: هم كل من كان على دينه من الأقباط مشاركاً له في ظلمه وكفره.
معنى الآيات:
ما زال السياق مع كفار قريش الذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس فيقول تعالى لرسوله {ولو ترى إذ يتوفى الذين1 كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم2} وهم يقولون لهم {وذوقوا عذاب3 الحريق} وجواب لولا محذوف تقديره (لرأيت أمراً فظيعاً) وقوله تعالى
__________
1 جائز أن يكون المراد من هؤلاء قتلى بدر المشركين وجائز أن يكونوا ممن لم يقتلوا ببدر، وماتوا بمكة وغيرها.
2 قال الحس البصري: المراد من أدبارهم: ظهورهم وقال: "إن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك "أي: سير النعل"؟ قال: ذلك ضرب الملائكة".
3 يقال لهم عند قبض أرواحهم، إذ بمجرد أن تقبض الروح يلقى بها في جهنم، كما يقال لهم يوم القيامة ذلك من قبل الملائكة.

{ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد} هو قول الملائكة لمن يتوفونهم من الذين كفروا. أي ذلكم الضرب والتعذيب بسبب ما قدمت أيديكم من الكفر والظلم والشر والفساد وأن الله تعالى ليس بظالم لكم فإنه تعالى لا يظلم أحداً وقوله تعالى {كدأب آل فرعون1 والذين من قبلهم} أي دأب هؤلاء المشركين من كفار قريش في كفرهم وتكذيبهم كدأب آل فرعون والذين هن قبلهم {كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم} وكفر هؤلاء فأخذهم الله بذنوبهم، وقوله {إن الله قوي شديد العقاب} يشهد له فعله بآل فرعون والذين من قبلهم عاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات وأخيراً أخذه تعالى كفار قريش في بدر أخذ العزيز المقتدر، وقوله تعالى {ذلك بأن الله2 لم يك3 مغيراً نعمة أنعهما على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} إشارة إلى ما أنزله من عذاب على الأمم المكذبة الكافرة الظالمة، وإلى بيان سنته في عباده وهي أنه تعالى لم يكن من شأنه أن يغير نعمة أنعمها على قوم كالأمن والرخاء، أو الطهر والصفاء حتى يغيروا هم ما بأنفسهم بأن يكفروا ويكذبوا، ويظلموا أو يفسقوا ويفجروا، وعندئذ يغير تلك النعم بنقم فيحل محل الأمن والرخاء الخوف والغلاء ومحل الطهر والصفاء الخبث والشر والفساد. هذا إن لم يأخذهم بالإبادة الشاملة والاستئصال التام. وقوله تعالى {وأن الله سميع عليم} أي لأقوال عباده وأفعالهم فلذا بتم الجزاء عادلاً لا ظلم فيه. وقوله تعالى {كدأب آل4 فرعون والذين من قبلهم كذبوا5 بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين} هذه الآية تشبه الآية السابقة إلا أنها تخالفها فيما يلي: في الأولى الذنب الذي أخذ به الهالكون كان الكفر، وفي هذه: كان التكذيب، في الأولى: لم يذكر نوع العذاب، وفي الثانية انه الإغراق، في الأولى لم يسجل عليهم سوى الكفر فهو ذنبهم لا غير وفي الثانية سجل على الكل ذنباًَ آخر وهو الظلم إذ قال {وكل كانوا ظالمين} أي بكفرهم وتكذيبهم، وصدهم عن سبيل الله وفسقهم عن طاعة الله ورسوله مع زيادة التأكيد
__________
1 الباء في قوله: {ذلك بأنّ الله} سببية والجملة مسوقة للتعليل.
2 {لم يك} أي: لم ينبغ له، ولم يصحّ منه لبالغ حكمته وعدله ورحمته.
3 {كدأب} خبر لمبتدأ محذوف تقديره: دأب هؤلاء كدأب آل فرعون، والدأب: العادة المستمرة.
4 {كذبوا} الخ.. تفسير دأبهم الذي فعلوه من تغييرهم لحالهم.
5 وجائز أن يكون المراد: كدأب آل فرعون أي: في تعذيبهم عند قبض أرواحهم، وفي قبورهم ويوم القيامة.

والتقرير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عذاب القبر بتقرير العذاب عند النزع.
2- هذه الآية نظيرها آية الأنعام {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم} أي بالضرب.
3- تنزه الخالق عز وجل عن الظلم لأحد1.
4- سنة الله تعالى في أخذ الظالمين وإبدال النعم بالنقم.
5- لم يكن من سنة الله تعالى في الخلق تغيير ما عليه الناس من خير أو شر حتى يكونوا هم البادئين.
6- التنديد بالظلم وأهله، وأنه الذنب الذي يطلق على سائر الذنوب.
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ(55) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ(56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ(57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ(58) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ(59)
شرح الكلمات:
شر الدواب2: من إنسان أو حيوان الذين ذكر الله وصفهم وهم بنو قريظة.
__________
1 شاهده حديث مسلم عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقول: "يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".
2 الدواب: كل ما يدب على وجه الأرض من حيوان، و{عند الله}: أي: في علمه وحكمه.

فهم لا يؤمنون: لما علم الله تعالى من حالهم أخبر أنهم يموتون على الكفر.
ينقضون عهدهم: أي يحلونه ويخرجون منه فلا يلتزموا بما فيه.
في كل مرة: أي عاهدوا فيها.
فإما تثقفنّهم : أي أن تجدنّهم، وما مزيدة أدغمت في إن الشرطية.
فشرد: أي فرق وشتت.
يذكرون : أي يتعظون.
فانبذ إليهم : أي اطرح عهدهم.
على سواء 1: أي على حال من العلم تكون أنت وإياهم فيها سواء، أي كل منكم عالم بنقض المعاهدة.
الخائنين : الغادرين بعهودهم.
سبقوا: أي فاتوا الله ولم يتمكن منهم.
معنى الآيات:
بمناسبة ذكر خصوم الدعوة الإسلامية والقائم عليها وهو النبي صلى الله عليه وسلم ذكر تعالى خصوماً لها آخرين غير المشركين من كفار قريش وهم بنو2 قريظة من اليهود. فأخبر تعالى عنهم أنهم شر الدواب من الإنسان والحيوان ووصفهم محدداً لهم ليعرفوا، وأخبر أنهم لا يؤمنون لتوغلهم في الشر والفساد، فقال: {إن شر الدواب عند الله} أي في حكمه وعلمه. {الذين كفروا فهم لا يؤمنون} وخصصهم بوصف آخر خاص بهم فقال: {الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عاهدهم أول مرة على أن لا يحاربوه ولا يعينوا أحداً على حربه فإذا بهم يعينون قريشاً بالسلاح، ولما انكشف أمرهم اعتذروا معترفين بخطإهم، وعاهدوا مرة أخرى على أن لا يحاربوا الرسول ولا يعينوا من يحاربه فإذا بهم ينقضون عهدهم مرة أخرى ويدخلون في حرب ضده حيث انضموا إلى الأحزاب في غزوة الخندق هذا ما دل عليه قوله تعالى {إن شر
__________
1 أي: جهراً لا سراً حتى يكونوا وأنتم بالعلم بنبذ المعاهدة على حد سواء.
2 وبنو النضير كذلك إذ أعانوا قريشاً بالسلاح ثم لمّا انكشف أمرهم اعتذروا، وأما قريظة، فقد نقضوا عهدهم مرتين إذ انضموا إلى الأحزاب في حربهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.

الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل1 مرة} أي يعاهدون فيها. {وهم لا يتقون} أي لا يخافون عاقبة نقض المعاهدات والتلاعب بها حسب أهوائهم. وقوله تعالى. {فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم2 من خلفهم لعلهم يذكرون} يرشد رسوله آمراً إياه بما يجب أن يتخذه إزاء هؤلاء الناكثين للعهود المنغمسين في الكفر. بحيث لا يخرجون منه بحال من الأحوال، ويشهد لهذه الحقيقة أنهم لما حوصروا في حصونهم ونزلوا منها مستسلمين كان يعرض على أحدهم الإسلام حتى لا يقتل فيؤثر باختياره القتل على الإسلام وماتوا كافرين وصدق الله إذ قال {فهم لا يؤمنون} فهؤلاء إن ثقفتهم في حرب أي وجدتهم متمكناً منهم فاضربهم بعنف وشدة وبلا هوادة حتى تشرد أي تفرق بهم من خلفهم من أعداء الإسلام المتربصين بك الدوائر من كفار قريش وغيرهم لعلهم يذكرون أي يتعظون فلا يفكروا في حربك وقتالك بعد، وقوله {وإما تخافن من قوم خيانة فأنبذ3 إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين} هذا إرشاد آخر للرسول صلى الله عليه وسلم يتعلق بالخطط الحربية الناجحة وهو أنه صلى الله عليه وسلم إن خاف من قوم معاهدين له خيانة ظهرت أماراتها وتأكد لديك علاماتها فاطرح تلك المعاهدة ملغياً لها معلناً ذلك لتكون وإياهم على علم تام بإلغائها، وذلك حتى لا يتهموك بالغدر والخيانة، والله لا يحب الخائنين. وقاتلهم مستعيناً بالله عليهم وستكون الدائرة على الناكث الخائن، وهذا ضرب من الحزم وصحة العزم إذ ما دام قد عزم العدو على النقض فقد نقص فليبادر لافتكاك عنصر المباغتة من يده، وهو عنصر مهم في الحروب. وقوله تعالى {ولا يحسبن الذين كفروا} وهم من هرب من بدر من كفار قريش {سبقوا4} أي فاتوا فلم يقدر الله تعالى عليهم {إنهم لا يعجزون} أي إنهم لا يعجزون الله بحال فإنه
__________
1 سبحان الله، هذا الوصف الخسيس ما زال ملازما لليهود إلى اليوم فلا يوفون بعهد ولا ذمّة أبداً، وصدق الله العظيم إذ قال عنهم. {كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم}.
2 يقال: شرد البعير أو الدابة إن فارقت صاحبها، وشرّده إذا عمل على تشريده بسبب، وشردت بني فلان: إذا حملتهم على مفارقة منازلهم قال الشاعر:
أطوّف ني الأباطح كل يوم ... مخافة أن يُشرّد بي حكيم
3غشا ونقضاً للعهد والآية عامة، فهي مبدأ حربي يأخذ به المسلمون إلى يوم القيامة، ولا وجه لذكر الخلاف هل هي في بني قريظة أو بني النضير؟ وخوف الخيانة ها معناه: الظن الغالب وذلك بظهور علامات خيانة العدو واضحة.
4 أي: من أفلت من وقعة بدر سبق إلى الحياة، وقوله تعالى: {إنهم لا يعجزون} أي: في الدنيا حتى يظفرك الله بهم.

تعالى لا يفوته هارب، ولا يغلبه غالب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن شر الدواب هم الكفار من أهل الكتاب والمشركين بل هم شر البرية.
2- سنة الله فيمن توغل في الظلم والشر والفساد يُحرم التوبة فلا يموت إلا كافراً.
3- من السياسة الحربية النافعة أن يضرب القائد عدوه بعنف وشدة ليكون نكالاً لغيره من الأعداء.
4- حرمة الغدر والخيانة.
5- جواز إعلان إلغاء المعاهدة وضرب العدو فوراً إن بدرت منه بوادر واضحة بأنه عازم على نقض المعاهدة1 وذلك لتفويت عنصر المباغتة عليه.
وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ(60) وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ(62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(63)
__________
1 روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة" وروى أبو داود والترمذي أن معاوية رضي الله عنه كان بينه وبين الروم عهد، فلما قارب تاريخ العهد الانقضاء سار إليهم بجيشه فجاء عمرو بن عنبسة فقال له سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشدّ عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء" فرجع معاوية بالناس.

شرح الكلمات:
أعدوا : هيئوا وأحضروا.
ما استطعتم: ما قدرتم عليه.
من قوة : أي حربية من سلاح على اختلاف أنواعه.
يوفَّ إليكم : أي أجره وثوابه.
وإن جنحوا للسلم : أي مالوا إلى عدم الحرب ورغبوا في ذلك.
فإن حسبك الله : أي يكفيك شرهم، وينصرك عليهم.
ألف بين قلوبهم : أي جمع بين قلوب الأنصار بعدما كانت متنافرة مختلفة.
إنه عزيز حكيم: أي غالب على أمره، حكيم في فعله وتدبير أمور خلقه.
معنى الآيات:
بمناسبة انتهاء معركة بدر وهزيمة المشركين فيها، وعودتهم إلى مكة وكلهم تغيظ على المؤمنين وفعلاً أخذ أبو سفيان يعد العدة للانتقام. وما كانت غزوة أحد إلا نتيجة لذلك هنا أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بإعداد القوة وبذل ما في الوسع والطاقة لذلك فقال تعالى {واعدوا لهم1 ما استطعتم من قوة} وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم القوة بالرمي بقوله "ألا إن القوة2 الرمي" قالها ثلاثاً وقوله تعالى {ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم} يخبر تعالى عباده المؤمنين بعد أن أمرهم بإعداد القوة على اختلافها بأن رباطهم للخيل وحبسها أمام دورهم معدة للغزو والجهاد عليها يرهب أعداء الله من الكافرين والمنافقين أي يخوفهم حتى لا يفكروا في غزو المسلمين وقتالهم، وهذا ما يعرف بالسلم المسلح، وهو أن الأمة إذا كانت مسلحة قادرة على القتال يرهبها أعداؤها فلا يحاربونها، وإن رأوها لا عدة لها ولا عتاد ولا قدرة على رد أعدائها أغراهم ذلك بقتالها فقاتلوها. وقوله تعالى {وآخرين من دونهم} أي من دون كفار
__________
1 روى مسلم عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: "واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي" وعن عقبة أيضاً قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجزه أحدكم آن يلهو بأسهمه" وقال صلى الله عليه وسلم: "كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه.. وملاعبته أهله فإنه من الحق".
2 ومما يدل على فضل الرمي في سبيل الله قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي داود والترمذي والنسائي: "إن الله يدخل ثلاثة نفر الجنة بسهم واحد صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي ومُنبْلُه".

قريش، وقوله {لا تعلمونهم الله يعلهم} من الجائز أن يكونوا اليهود أو المجوس أو المنافقين، وأن يكونوا الجن أيضاً، وما دام الله عز وجل لم يُسمهم فلا يجوز أن يقال هم كذا.. بصيغة الجزم، غير أنا نعلم أن أعداء المسلمين كل أهل الأرض من أهل الشرك والكفر من الإنس والجن، وقوله تعالى {وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفّ إليكم وأنتم لا تظلمون} إخبار منه تعالى أن ما ينفقه المسلمون من نفقة قلت أو كثرت في سبيل الله التي هي الجهاد يوفّيهم الله تعالى إياها كاملة ولا ينقصهم منها شيئاً فجملة {وأنتم لا تظلمون} جملة خالية ومعناها لا يظلمكم الله تعالى بنقص ثواب نفقاتكم في سبيله هذا ما دلت عليه الآية الأولى (60) أما الآية الثانية وهي قوله تعالى {وإن جنحوا1 للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم} فإن الله تعالى يأمر رسوله وهو قائد الجهاد يومئذ بقبول السلم متى طلبها2 أعداؤه ومالوا إليها ورغبوا بصدق فيها، لأنه صلى الله عليه وسلم رسول رحمة لا رسول عذاب، وأمره أن يتوكل على الله في ذلك أي يطيعه في قبول السلم ويفوض أمره إليه ويعتمد عليه فإنه تعالى يكفيه شرّ أعدائه لأنه سميع لأقوالهم عليم بأفعالهم وأحوالهم لا يخفى عليه من أمرهم شيء فلذا سوف يكفي رسوله شر خداعهم إن أرادوا خداعه بطلب السلم والمسالمة، وهذا معنى توله تعالى في الآيتين (62) و (63) {وإن يريدوا أن يخدعوك} أي بالميل إلى السلم والجنوح3 إليها {فإن حسبك الله } أي كافيك إنه {هو الذي أيدك بنصره} أي في بدر {وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم} أي جمع بين تلك القلوب المتنافرة المنطوية على الإحن والعداوات ولأقل الأسباب وأتفهها، لقد كان الأنصار يعيشون على عداوة عظيمة فيما بينهم حتى إن حرباً وقعت بينهم مائة وعشرين سنة فلما دخلوا في الإسلام اصطلحوا وزالت كل آثار العداوة والبغضاء وأصبحوا جسماً واحداً مَنْ فعل هذا سوى الله تعالى؟ اللهم لا أحد، ولذا قال تعالى لرسوله {لو أنفقت ما في الأرض جميعا} أي من مال
__________
1 {جنحوا}: مالوا، والجنوح: الميل أي: إذا مالوا إلى المسالمة التي هي الصلح فمِل إليها، اختلف هل هذه الآية منسوخة بآية: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} والصحيح، والذي به العمل أن الآية محكمة غير منسوخة، وأن المسلمين إذا كانوا في حالة ضعف يحتاجون فيها إلى تقوية بعقد هدنة أو مصالحة لدفع ضرر أو تحصيل نفع ظاهر وهم في حاجة إلى ذلك فإن لهم أن يجنحوا للسلم وإن كانوا أقوياء قادرين فلا يحلّ لهم إلاّ إنفاذ أمر الله تعالى بقتال العدو حتى يسلم أو يستسلم لحكم الإسلام.
2 السلم: مؤنثه ولذا عاد الضمير إليها مؤنثاً في قوله: {فاجنح لها}.
3 وهم يضمرون في نفوسهم نية الغدر بك والمكر ليخدعوك بذلك فامض في صلحك والله حسبك.

صامت وناطق {ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم}.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب إعداد القوة وهي في كل زمان بحسبه إن كانت في الماضي الرمح والسيف ورباط الخيل فهي اليوم النفاثة المقاتلة والصاروخ، والهدروجين والدبابة والغواصة، والبارجة.
2- تقرير مبدأ: السلم المسلح، إرجع إلى شرح الآيات.
3- لا يخلو المسلمون من أعداء ما داموا بحق مسلمين، لأن قوى الشر من إنس وجن كلها عدو لهم.
4- نفقة الجهاد خير نفقة وهي مضمونة التضعيف.
5- جواز قبول1 السلم في ظروف معينه، وعدم قبوله في أخرى وذلك بحسب حال المسلمين قوة وضعفاً.
ياأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ(65) الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(66)
__________
1 المراد بالسلم: المهادنة، والموادعة، والصلح المؤقت، وقد تقدم بيانه، والإمام الشافعي يرى أن لا تزيد مدّة المسالمة على عشر سنين قياساً على صلح الحديبية إذ كانت المدة عشر سنين لا غير.

شرح الكلمات:
حسبك الله1 : أي كافيك الله كل ما يهمك من شأن أعدائك وغيرهم.
ومن اتبعك من المؤمنين : أي الله حسبهم كذلك أي كافيهم ما يهمهم من أمر أعدائهم.
حرض المؤمنين على القتال : أي حثهم على القتال مرغباً لهم مرهباً.
صابرون: أي على القتال فلا يضعفون ولا ينهزمون بل يثبتون ويقاتلون.
لا يفقهون.: أي لا يعرفون أسرار القتال ونتائجه بعد فنونه وحذق أساليبه.
معنى الآيات:
ينادي الرب تبارك وتعالى رسوله بعنوان النبوة التي شرفه الله بها على سائر الناس فيقول {يا أيها النبي} ويخبره بنعم الخبر مطمئناً إياه وأتباعه من المؤمنين بأنه كافيهم أمر أعدائهم فما عليهم إلا أن يقاتلوهم ما دام الله تعالى ناصرهم ومؤيدهم عليهم، فيقول: {حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} ثم يُنَاديه ثانية قائلاً {يا أيها النبي} ليأمره بالأخذ بالأسباب الموجبة للنصر بإذن الله تعالى وهي تحريض المؤمنين على القتال وحثهم عليه وترغيبهم فيه فيقول {حرض2 المؤمنين على القتال} ويخبره آمراً له ولأتباعه المؤمنين بأنه {إن يكن} أي يوجد منهم في المعركة {عشرون3 صابرون يغلبوا مائتين}، وإن يكن منهم مائة صابرة يغلبوا ألفاً من الكافرين، ويعلل لذلك فيقول {بأنهم قوم لا يفقهون} أي لا يفقهون أسرار القتال وهي أن يعبد الله تعالى ويرفع الظلم من الأرض ويتخذ الله من المؤمنين شهداء فينزلهم منازل الشهداء عنده، فالكافرون لا يفقهون هذا فلذا
__________
1 {حسبك} خبر مقدم ولفظ الجلالة مبتدأ أي: الله حسبك بمعنى كافيك: {ومن اتبعك} يصح أن يكون في موضع نصب عطفاً على الكاف في (حسبك)، والصواب أنها في موضع رفع علّى الابتداء والخبر محذوف والتقدير: ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله أيضاً.
2 يقال: حرّضه على كذا: حثه وحضّه وحارض على الأمر وواظب وواصب وأكب بمعنى، والحارض: الذي أشرف على الهلاك ومنه: ( حتى تكون حرضاً) أي: تذوب عمّا فتقارب الهلاك فتكون من الهالكين.
3 {إن يكن منكم عشرون صابرون ...} الخ لفظ مضمّن وعداً إلهياً مشروط بشرط الصبر، إذ تقدير الكلام: إن يصبر منكم عشرون صابرون الخ.

هم لا يصبرون على القتال لأنهم يقاتلون لأجل حياتهم فقط فإذا خافوا عنها تركوا القتال طلباً للحياة زيادة على ذلك أنهم جهال لا يعرفون أساليب الحرب ولا وسائلها الناجعة بخلاف المؤمنين فإنهم علماء، علماء بكل شيء هذا هو المفروض، وإن ضَعُفِ الإيمان ضعف تبعاً له الفقه والعلم وحل الجهل والضعف كما هو مشاهد اليوم في المسلمين وقوله تعالى {الآن خفف1 الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً2 فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين} الآن بعد علمه تعالى بضعفكم حيث لا يقوى الواحد على قتال عشرة، ولا العشرة على قتال مائة ولا المائة على قتال الألف خفف تعالى رحمة بكم ومنة عليكم، فنسخ3 الحكم الأول بالثاني الذي هو قتال الواحد للإثنين، والعشرة للعشرين والمائة للمائتين، والألف للألفين، ومفاده أن المؤمن لا يجوز له أن يفر من وجه اثنين ولكن يجوز له أن يفر إذا كانوا أكثر من اثنين وهكذا سائر النِسب فالعشرة يحرم عليهم أن يفروا من عشرين ولكن يجوز لهم أن يفروا من ثلاثين أو أربعين مثلاً. وهذا من باب رفع الحرج فقط وإلا فإنه يجوز للمؤمن أن يقاتل عشرة أو أكثر، فقد قاتل ثلاثة آلاف صحابي يوم مؤتة مائة وخمسين ألفاً من الروم والعرب المتنصرة وقوله تعالى {بإذن الله} أي بمعونته وتأييده إذ لا نصر بدون عون من الله تعالى وإذن، وقوله {والله مع الصابرين} أي بالتأييد والنصر والصبر شرط في تأييد الله وعونه فمن لم يصبر على القتال فليس له على الله وعد في نصره وتأييده.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا كافي إلا الله تعالى، ومن زعم أن هناك من يكفي سوى الله تعالى فقد أشرك.
2- وجوب تحريض. المؤمنين على الجهاد وحثهم عليه في كل زمان ومكان.
3- حرمة هزيمة الواحد من الواحد والواحد من الاثنين، ويجوز ما فوق ذلك.
__________
1 لما شق على المؤمنين ثبات العشرة للمائة والعشرين للمائتين وثبات المائة للألف، خفّف الله تعالى عنهم وأنزل قوله: {الآن حففّ الله عنكم..} فرخّص للواحد أن يفر من أكثر من اثنين وهكذا إن شاء فإنّه لا حرج.
2 قرىء ضعفاً بفتح الضاد وضمها، وقيل إن الفتح في ضعف العقول والضم في ضعف الأجسام، والصحيح أنهما لغتان فصيحتان.
3 لا بأس أن يسمى هذا نسخاً لأنه حكم جديد غاير الأوّل ويسمى تخفيفاً وهو حسن أيضاً.

4- وجوب تثقيف المجاهدين عقلاً وروحاً وصناعة.
5- وجوب الصبر في ساحة المعارك ويحرم الهزيمة إذا كان عدد المؤمنين اثنى عشر ألف مقاتل أو أكثر إذ هذا العدد لا يغلب1 من قلة بإذن الله تعالى.
6- معية الله بالعلم والتأييد والنصر للصابرين دون الجزعين.
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(67) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(69)
شرح الكلمات:
أسرى: جمع أسير وهو من أخذ في الحرب يشد عادة بإسار وهو قيد من جلد فأطلق لفظ الأسير2 على كل من أخذ في الحرب.
حتى يثخن في الأرض: أي تكون له قوة وشدة يرهب بها العدو.
عرض الدنيا: أي المال لأنه عارض ويزول فلا يبقى.
لولا كتاب من الله سبق : وهو كتاب المقادير بأن الله تعالى أحل لنبّي هذه الأمة الغنائم.
فيما أخذتم : أي بسبب ما أخذتم من فداء أسرى بدر.
حلالاً طيباً.: الحلال هو الطيب فكلمة طيباً تأكيد لحليّة اقتضاها المقام.
واتقوا الله : أي بطاعته وطاعة رسوله في الأمر والنهي.
معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث غزوة بدر من ذلك أن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلا عمر وسعد
__________
1 روى احمد وأبو داود والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة" والمراد أن يغلب إن حصل لن يكون سببه قلة العدد وإنما يكون لأمر آخر كعدم الصبر أو عدم الأخذ بأسباب النصر التي يتم بها النصر حسب سنّة الله.
2 أسير: كقتيل وجريح، ويجمع على أسرى كقتلى وجرحى، وعلى أُسارى بضم الهمزة وفتحها، والضم أشهر.

بن معاذ رضي الله عنهما رغبوا في مفاداة الأسرى بالمال للظروف المعاشية القاسية التي كانوا يعيشونها، وكانت رغبتهم في الفداء بدون علم من الله تعالى بإحلالها أو تحريمها أما عمر فكان لا يعثر على أسير إلا قتله وأما سعد فقد قال (الاثخان في القتال أولى من استبقاء الرجال) ولما تم الفداء نزلت هذه الآية الكريمة تعاتبهم أشد العتاب فيقول تعالى {ما كان لنبّي1} أي ما صح منه ولا كان ينبغي له أن يكون له أسرى حرب يبقيهم ليفاديهم أو يمن عليهم مجاناً {حتى يثخن2 في الأرض} أرض العدو قتلاً وتشريداً فإذا عرف بالبأس والشدة وهابه الأعداء جاز له الأسر أي الإبقاء على الأسرى أحياء ليمن عليهم بلا مقابل أو ليفاديهم بالمال، وقوله تعالى {تريدون عرض الدنيا} هذا من3 عتابه تعالى لهم، إذ ما فادوا الأسرى إلا لأنهم يريدون حطام الدنيا وهو المال، وقوله {والله يريد الآخرة} فشتان ما بين مرادكم ومراد ربكم لكم تريدون العرض الفاني والله يريد لكم النعيم الباقي، وقوله تعالى {والله عزيز حكيم} أي غالب على أمره ينصر من توكل عليه وفوّض أمره إليه، حكيم في تصرفاته فلا يخذل أولياءه وينصر أعداءه فعليكم أيها المؤمنون بطلب مرضاته بترك ما تريدون لما يريد هو سبحانه وتعالى، وقوله تعالى {لولا كتاب4 من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} أي لولا أنه مضى علم الله تعالى بحلية الغنائم لهذه الأمة وكتب ذلك في اللوح المحفوظ لكان ينالكم جزاء رضاكم بالمفاداة وأخذ الفدية عذاب عظيم.
وقوله تعالى {فكلو مما غنمتم5 حلالاً طيباً} إذن منه تعالى لأهل بدر أن يأكلوا مما
__________
1 هذه الآية دلت يوم بدر عتاباً من الله تعالى لأصحاب نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم إذ لم يثخنوا في قتل المشركين حتى يوجد منهم أسرى رغبوا في مفاداتهم منا بالمال.
2 الإثخان في الشيء: المبالغة فيه والإكثار منه والمراد به هنا: المبالغة في قتل المشركين حتى لا يبقى منهم أسير في ساحة المعركة.
3 روى مسلم أن الني صلى الله عليه وسلم قال لبعض أصحابه ومن بينهم أبو بكر وعمر ( ما ترون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن يؤخذ منهم فدية فنكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال. لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكّن عليا من عقيل فيضرب عنقه وتمكني من فلان فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت فلما كان من الغد جئت وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان.. إلى أن قال: وأنزل الله عزّ وجلّ: {ما كان لنبي} إلى قوله: {حلالاً طيياً}.
4 من ذلك أن الله تعالى لا يعذب قوماً حتى يبين لهم ما يتقون.
5 هذا الإذن واقع بعد تخميس الغنيمة لا على إطلاقه.

غنموا، وحتى ما فادوا به الأسرى وهي منة منه سبحانه وتعالى، وقوله تعالى {واتقوا الله} أمر منه عز وجل لهم بتقواه بفعل أوامره وأوامر رسوله وترك نواهيهما، وقوله {إن الله غفور رحيم} إخبار منه تعالى أنه غفور لمن تاب من عباده رحيم بالمؤمنين منهم، وتجلى ذلك في رفع العذاب عنهم حيث غفر لهم وأباح لهم ما رغبوا فيه وأرادوه. وفي الحديث: "لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفر لكم".
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- إرشاد الله تعالى لقادة الأمة الإسلامية في الجهاد أن لا يفادوا الأسرى وأن لا يمنوا عليهما بإطلاقهم إلا بعد أن يخنثوا في أرض العدو قتلاً وتشريداً فإذا خافهم العدو ورهبهم عندئذ يمكنهم أن يفادوا الأسرى أو يمنوا عليهم.
2- التزهيد في الرغبة في الدنيا لحقارتها، والترغيب في الآخرة لعظم أجرها.
3- إباحة الغنائم.
4 ب وجوب تقوى الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله في الأمر والنهي.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (70) وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(71)
شرح الكلمات:
من الأسرى : أسرى بدر الذين أخذ منهم الفداء كالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.
إن يعلم الله في قلوبكم خيراً : أي إيماناً صادقاً وإخلاصاً تاماً.
مما أخذ منكم : من مال الفداء.

وإن يريدوا خيانتك.: أي الأسرى.
فقد خانوا الله من قبل: أي من قبل وقوعهم في الأسر وذلك بكفرهم في مكة.
فأمكن منهم: أي أمكنكم أنتم أيها المؤمنون منهم فقتلتموهم وأسرتموهم.
والله عليم حكيم : عليم بخلقه حكيم في صنعه وتدبيره.
معنى الآيتين:
هذه الآية الكريمة نزلت في العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه إذ كان يقول هذه الآية نزلت في وذلك أنه بعد أن وقع في الأسر1 أسلم وأظهر إسلامه وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرد عليه ما أخذ منه من فدية فأبى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فأنزل الله تعالى قوله {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً} أي إسلاماً حقيقياً {يؤتكم خيراً} أي مالاً خيراً {مما أخذ منكم2، ويغفر لكم} ذنوبكم التي كانت كفراً بالله ورسوله، ثم حرباً على الله ورسوله، {والله غفور} يغفر ذنوب عباده التائبين {رحيم} بعباده المؤمنين فلا يؤاخذهم بعد التوبة عليها بل يرحمهم برحمته في الدنيا والآخرة. وقوله تعالى {وإن يريدوا3 خيانتك} أي وإن يُرد هؤلاء الأسرى الذين أخذ منهم الفداء ونطقوا بالشهادتين مظهرين إسلامهم خيانتك والغدر بك بإظهار إسلامهم ثم إذا عادوا إلى ديارهم عادوا إلى كفرهم، فلا تبال4 بهم ولا ترهب جانبهم فإنهم قد خانوا الله من قبل بكفرهم وشركهم {فأمكن منهم} المؤمنين وجعلهم في قبضتهم وتحت إمْرَتِهم، ولو عادوا لعاد الله تعالى فسلطكم عليهم وأمكنكم منهم وقوله تعالى {والله عليم حكيم} أي عليم بنيات القوم وتحركاتهم حكيم فيما يحكم به عليهم ألا فليتقوه عزّ وجل وليحسنوا
__________
1 أسره رضي الله عنه أبو اليسر كعب بن عمرو أخر بني سلمة، وكان رجلاً قصيرا والعباس رضي الله عنه ضخما طويلا فلما جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "لقد أعانك عليه ملك" وقال الرسول صلى الله عليه وسلم للعباس: "افد نفسك فقال: لقد كنت مسلماً يا رسول الله فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "والله أعلم بإسلامك فإن تكن كما تقول فالله يجزيك بذلك، فأمّا ظاهر أمرك فكان علينا فافد نفسك وابني أخويك نوفل وعقيل" ففعل وفيه نزلت هذه الآية {يا أيها النبي قل... " الخ.
2 روى مسلم أنه لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مال من البحرين قال له العباس إني فاديت نفسي وفاديت عقيلا فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم "خذ فبسط ثوبه وأخذ ما استطاع أن يحمله، وقال: هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجو أن يغفر الله لي".
3 في هذه الآية تطمين لنفس الرسول صلى الله عليه وسلم وليبلغ مضمونه إلى الأسرى فيعلموا أنهم لا يغلبون الله ورسوله. والخيانة : نقض العهد، وما في معنى العهد كالأمانة ونحوها.
4 هذا هو جواب إن الشرطية المحذوف، وقد دلّ عليه؟ : {فقد خانوا الله من قبل}.

إسلامهم ويصدقوا في إيمانهم فذلك خير لهم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- فضل العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنزول الآية في حقه وشأنه.
2- فضل إضمار الخير والنيات الصالحة.
3- إطلاق لفظ الخير على الإسلام والقرآن وحقاً هما الخير والخير كله.
4- ماترك عبدٌ شيئاً لله إلا عوضه خيراً منه.
5- الله جل جلاله: لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب ألا فليتق وليتوكل عليه.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(72) وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ(73) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(74) وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(75)

شرح الكلمات:
آمنوا: صدقوا الله ورسوله وآمنوا بلقاء الله وصدقوا بوعده ووعيده.
وهاجروا : أي تركوا ديارهم والتحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة.
في سبيل الله: أي من أجل أن يعبد الله ولا يعبد معه غيره وهو الإسلام.
آووا: أي آووا المهاجرين فضموهم إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم.
وإن استنصروكم: أي طلبوا منكم نصرتهم على أعدائهم.
ميثاق : عهد أي معاهدة سلم وعدم اعتداء.
إلاَّ تفعلوه : أي إن لم توالوا المسلمين، وتقاطعوا الكافرين تكن فتنة1.
أولوا الأرحام: أي الأقارب من ذوي النسب.
بعضهم أولى ببعض : في التوارث أي يرث بعضهم بعضاً.
معنى الآيات:
بمناسبة انتهاء الحديث عن أحداث غزوة بدر الكبرى ذكر تعالى حال المؤمنين في تلك الفترة من الزمن وأنهم مختلفون في الكمال، فقال وقوله الحق {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم} فهذا صنف: جمع أهله بين الإيمان والهجرة والجهاد بالمال والنفس، والصنف الثاني في قوله تعالى {والذين آووا ونصروا2} أي آووا الرسول صلى الله عليه وسلم والمهاجرين في ديارهم ونصروهم. فهذان صنفا المهاجرين والأنصار وهما أكمل المؤمنين وأعلاهم درجة، وسيذكرون في آخر السياق مرة أخرى ليذكر لهم جزاؤهم عند ربهم، وقوله تعالى فيهم {أولئك بعضهم أولياء بعض} أي في النصرة والموالاة والتوارث إلا أن التوارث نسخ بقوله تعالى في آخر آية من هذا السياق {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} والصنف الثالث من أصناف المؤمنين المذكور في قوله تعالى {والذين آمنوا ولم يهاجروا} أي آمنوا بالله ورسوله والدار الآخرة ثم رضوا بالبقاء بين
__________
1 محنة الحرب وما يتبع ذلك من الغارات والجلاء والأسر، وما إلى ذلك من ويلات الحروب، والفساد الكبير: هو ظهور الشرك.
2 قوله: {والذين آووا ونصروا} معطوف على اسم إنّ والخبر: جملة {أولئك بعضهم أولياء بعض}.

ظهراني الكافرين فلم يهجروا ديارهم وأموالهم ويلتحقوا بدار الهجرة بالمدينة النبوية، فهؤلاء الناقصون في إيمانهم بتركهم الهجرة، يقول تعالى فيهم لرسوله والمؤمنين {مالكم من ولايتهم من شيء}1 فلا توارث ولا موالاة تقتضي النصرة والمحبة حتى يهاجروا إليكم ويلتحقوا بكم، ويستثني تعالى حالة خاصة لهم وهي أنهم إذا طلبوا نصرة المؤمنين في دينهم فإن على المؤمنين أن ينصروهم وبشرط أن لا يكون الذي اعتدى عليهم وآذاهم فطلبوا النصرة لأجله أن لا يكون بينه وبين المؤمنين معاهدة سلم وترك الحرب ففي هذه الحال على المؤمنين أن يوفوا بعهدهم ولا يغدروا فينصروا أولئك القاعدين عن الهجرة هذا ما دل عليه قوله تعالى { وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير} ذيل الكلام بهذه الجملة لإعلام المؤمنين الكاملين كالناقصين بأن الله مطلع على سلوكهم خبير بأعمالهم وأحوالهم فليراقبوه في ذلك حتى لا يخرجوا عن طاعته وقوله تعالى في الآية (73) {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض}2 يتناصرون ويتوارثون. وبناء على هذا يقول تعالى {إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} أي إن لا تفعلوا ما أمرتم به من مولاة المؤمنين محبة ونصرة وولاء، ومن معاداة الكافرين بغضا وخذلاناً لهم وحرباً عليهم تكن فتنة عظيمة لا يقادر قدرها وفساد كبير لا يعرف مداه، والفتنة الشرك والفساد المعاصي وقوله تعالي في الآية (74) {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً} هذا هو الصنف الأول أعيد ذكره ليذكر له جزاؤه عند ربه بعد تقرير إيمانهم وتأكيده فقال تعالى فيهم {أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة} أي لذنوبهم بسترها وعدم المؤاخذة عليها {ورزق كريم} ألا وهو نعيم الجنة في جوار ربهم سبحانه وتعالى والصنف الرابع من أصناف المؤمنين ذكره تعالى بقوله {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم} فهذا الصنف أكمل من الصنف الثالث ودون الأول والثاني، إذ الأول والثاني فازوا بالسبق، وهؤلاء جاءوا من بعدهم ولكن لإيمانهم وهجرتهم وجهادهم ألحقهم الله تعالى
__________
1 الولاية: بكسر الواو وفتحها لغتان، وقرىء بهما معاً وهي هنا بمعنى النسب والنصرة، وتكون الولاية بالكسرة والفتح أيضاً بمعنى الإمارة وفي الآية دليل على أن المسلم لا يلي عقد نكاح أخته الكافرة لانعدام الموالاة بينهما، والكافر لا يلي عقد نكاح أخته المسلمة.
2 روى الترمذي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلاّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير قالها ثلاثاً) وقال الترمذي هو حديث غريب.

بالسابقين فقال {فأولئك منكم} وقوله تعالى {وأولوا1 الأرحام بعضهم أولى ببعض} أي في الارث وبها نسخ التوارث بالهجرة والمعاقدة، واستقر الإرث بالمصاهرة والولاء، والنسب إلى يوم القيامة، وقوله تعالى {في كتاب الله} أي في حكمه وقضائه المدون في اللوح المحفوظ، وقوله {إن الله بكل شيء عليم} هذه الجملة تحمل الوعد والوعيد الوعد لأهل الإيمان والطاعة، والوعيد لأهل الشرك والمعاصي.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان تفاوت المؤمنين في كمالاتهم وعلو درجاتهم عند ربهم.
2- أكمل المؤمنين الذين جمعوا بين الإيمان والهجرة والجهاد وسبقوا لذلك وهم المهاجرون الأولون والذين جمعوا بين الإيمان والإيواء والنصرة والجهاد وهم الأنصار.
3- دون ذلك من آمنوا وهاجروا وجاهدوا ولكن بعد صلح الحدبيبة.
4- وأدنى أصناف المؤمنين من آمنوا ولم يهاجروا وهؤلاء على خطر عظيم.
5- وجوب نصرة المؤمنين بموالاتهم ومحبتهم ووجوب معاداة الكافرين وخذلانهم وبغضهم.
6- نسخ التوارث بغير المصاهرة والنسب والولاء.
__________
1 أولوا: واحدها ذو، والرحم مؤنثة والجمع أرحام وهي مقر الولد في البطن والمراد بأولي الأرحام هنا: العصبات كالآباء والأبناء والإخوة والأعمام وأصحاب الفروض وهم الجد والأب والأم والبنت والأخت والزوجة يشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولي رجل ذكر" أما أولوا الأرحام المختلف في إرثهم فهم: أولاد البنات وأولاد الاخوات وبنات الأخ، والعمة والخالة والعم أخو الأب لأم والجد أبر الأم والجدة أم الأم. هذا ومن أهل العلم كابن كثير وغيره من أبقى اللفظ على ظاهره فجعل المراد من أولي الأرحام: القرابة الناشئة عن الأمومة على خلاف ما قدّمناه عن القرطبي من أنّ المراد بأولي الأرحام العصبات دون المولودين بالرحم، وعلى رأي ابن كثير أن الآية ليست واردة في التوارث كما هو رأي مالك وإنما هي في الموالاة والنصرة.

سورة التوبة
...
سورة التوبة
مدنية
وآياتها مائة وثلاثون آية
بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ(1)

فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ(2) وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(3) إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(4)
شرح الكلمات:
براءة 1 : أي هذه براءة بمعنى تبرؤ وتباعد وتخلص.
عاهدتم: أي جعلتم بينكم وبينهم عهداً وميثاقاً.
فسيحوا في الأرض2 : أي سيروا في الأرض طالبين لكم الخلاص.
مخزي الكافرين : مذل الكافرين ومهينهم.
وأذان من الله : إعلام منه تعالى.
يوم الحج الأكبر: أي يوم عيد النحر.
لم ينقصوكم شيئاً : أي من شروط المعاهدة وبنود الاتفاقية.
ولم يظاهروا عليكم أحداً : أي لم يعينوا عليكم أحداً.
__________
1 يقال: برئت من الشيء ابرأ براءة فأنا بريء منه إذا أزلته عن نفسي وقطعت سبب ما بيني وبينه. وبراءة هنا: مبتدأ، وجوّز الابتداء به وهو نكرة: الوصف. والخبر {إلى الذين} ويصح أن تكون براءة خبر، والمبتدأ محذوف تقديره: هذه براءة.
2 أي قل لهم: سيحوا في الأرض أي: سيروا في الأرض آمنين غير خائفين، يقال: ساح يسيح سياحة، وسيوحاً وسيحاناً ومنه السّيح في الماء الجاري المنبسط.

معنى الآيات.:
هذه السورة القرآنية الوحيدة التي خلت1 من البسملة لأنها مفتتحة بآيات عذاب فتنافى معها ذكر الرحمة، وهذه السورة من آخر ما نزل من سور القرآن الكريم وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وبعض الصحابة في حج سنة تسع يقرأون هذه الآيات في الموسم، وهي تعلم المشركين أن من كان له عهد مطلق بلا حد شهر أو سنة مثلاً أو كان له عهد دون أربعة أشهر، أو كان له عهد فوق أربعة أشهر ونقضه تُعْلِمُهُم بأن عليهم أن يسيحوا في الأرض بأمان كامل مدة أربعة أشهر فإن أسلموا فهو خير لهم وإن خرجوا من الجزيرة فإن لهم ذلك وإن بقوا كافرين فسوف يؤخذون ويقتلون حيثما وجدوا في ديار الجزيرة التي أصبحت دار إسلام بفتح مكة ودخول أهل الطائف في الإسلام هذا معنى قوله تعالى {براءة من الله ورسوله} أي واصلة {إلى الذين عاهدتم2 من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} تبدأ من يوم الإعلان عن ذلك وهو يوم العيد عيد الأضحى. وقوله تعالى (واعلموا أنكم غير معجزي الله } أي غير فائتيه ولا هاربين من قهره وسلطانه عليكم هذا أولاً، وثانياً (وأن الله مخزي الكافرين} أي مذلهم وقوله تعالى {وأذان من الله ورسوله } أي محمد صلى الله عليه وسلم والأذان الإعلان والإعلام، {إلى الناس} وهم المشركون {يوم الحج3 الأكبر4} أي يوم عيد الأضحى حيث تفرّغ الحجاج للإقامة بمنى للراحة والاستجمام قبل العودة إلى ديارهم، وصورة الإعلان عن تلك البراءة هي قوله تعالى، {أن الله بريء5 من المشركين ورسوله} أي كذلك بريء من المشركين وعليه {فإن تبتم} أيها المشركون إلى الله تعالى بتوحيده والإيمان برسوله وطاعته وطاعة رسوله {فهو خير لكم} من الإصرار على الشرك
__________
1 روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سألت علياً رضي الله عنه: لِمَ لَمْ يكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم قال: لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان. هذا أحد خمسة أوجه في عدم كتابة البسملة في براءة وهو أوجهها، وهو ما ذكرناه في التفسير.
2 نسبت المعاهدة إلى المؤمنين كافة، والمعاهد هو الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه المتولي لها ولسائر العقود. وكان رضاهم لها واجباً عليهم فلذا نسبت إليهم.
3 وقيل إنه يوم عرفة، والصحيح ما ذكرناه في التفسير وأنه يوم النحر لحديث ابن عمر عن أبي داود إذ قال: "وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر في الحجة التي حجّ فيها فقال: أي يوم هذا؟ فقالوا: يوم النحر فقال: هذا يوم الحج الأكبر".
4 اختلف في العلة في تسمية الحج بالأكبر، وأحسن الأقوال أنه قيل فيه الأكبر: لأنه حج حضره الرسول صلى الله عليه وسلم وحضرت فيه أمة الإسلام التي وجدت في تلك السنة فحجّ أكبر عدد في ذلك العام.
5 قالت العلماء: في الآية بيان جواز تطع المعاهدة بين المسلمين والكافرين لأحد أمرين: الأول: أن تنقضي المدة المعاهد عليها فنعلمهم بانقضائها وبالحرب عليهم. والثاني: أن نخاف غدرهم لظهور علامات تدلّ عليه.

والكفر والعصيان، {وإن توليتم} أي أعرضتم عن الإيمان والطاعة {فاعلموا أنكم غير معجزي الله} بحال من الأحوال فلن تفوتوه ولن تهربوا من سلطانه فإن الله تعالى لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب ثم قال تعالى لرسوله {وبشر الذين كفروا بعذاب أليم} أي أخبرهم به فإنه واقع بهم لا محالة إلا أن يتوبوا وقوله تعالى في الآية الرابعة (4) {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم} من شروط المعاهدة {شيئاً ولم يظاهروا} أي لم يعاونوا {عليكم أحداً} لا برجال ولا بسلاح ولا حتى بمشورة ورأي فهؤلاء لم يبرأ الله تعالى منهم ولا رسوله، وعليه {فأتموا إليهم عهدهم1 إلى مدتهم} أي مدة أجلهم المحدد بزمن معين فوفوا لهم ولا تنقضوا لهم عهداً إلى أن ينقضوه هم بأنفسهم، أو تنتهي مدتهم وحينئذ إما الإسلام وإما السيف إذ لم يبق مجال لبقاء الشرك في دار الإسلام وقبته.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- جواز عقد المعاهدات بين المسلمين والكافرين إذا كان ذلك لدفع ضرر محقق عن المسلمين، أو جلب نفع للإسلام والمسلمين محققاً كذلك.
2- تحريم الغدر والخيانة، ولذا كان إلغاء المعاهدات علنياً وإمداد أصحابها بمدة ثلث سنة يفكرون في أمرهم ويطلبون الأصلح لهم.
3- وجوب الوفاء بالمعاهدات ذات الآجال إلى أجلها إلا أن ينقضها المعاهدون.
4- فضل التقوى وأهلها وهو اتقاء سخط الله بفعل المحبوب له تعالى وترك المكروه.
فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(5)
__________
1 في الآية إشارة أن هناك من خاس بعهده أي : نقضه ، ومنهم من ثبت عليه.

وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ(6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ(7)كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ
شرح الكلمات:
فإذا انسلخ الأشهر1 الحرم : انقضت وخرجت الأشهر الأربعة التي أمنتم فيها المشركين.
حيث وجدتموهم: أي في أي مكان لقيتموهم في الحل أو الحرم.
وخذوهم : أي أسرى.
وأحصروهم : أي حاصروهم حتى يسلموا أنفسهم.
واقعدوا لهم كل مرصد2: أي اقعدوا لهم في طرقاتهم وارصدوا تحركاتهم.
فإن تابوا : أي آمنوا بالله ورسوله.
فخلوا سبيلهم : أي اتركوهم فلا حصار ولا مطاردة ولا قتال.
استجارك: أي طلب جوارك أي حمايتك.
مأمنه : أي المكان الذي يأمن فيه.
فما استقاموا لكم : أي لم ينقضوا عهدهم ولم يخلوا بالاتفاقية.
__________
1 انسلخ: مطاوع سلخ، وهو مأخوذ من سلخ الجلد: إذا أزاله عن لحم الحيوان.
2 المرصد: مكان الرصد والرصد: المراقبة وتتبع النظر، قال الشاعر:
ولقد علمت وما إخالك ناسيا ...
أن المنيّة للفتى بالمرصد

وإن يظهروا عليكم : أي يغلبوكم.
لا يرقبوا فيكم : أي لا يراعوا فيكم ولا يحترموا.
إلاّ ولا ذمة : أي لا قرابة، ولا عهداً فالإلّ: القرابة والذمة: العهد.
معنى الآيات:
ما زال السياق في إعلان الحرب العامة على المشركين تطهيراً لأرض الجزيرة التي هي دار الإسلام وحوزته من بقايا الشرك والمشركين، فقال تعالى لرسوله والمؤمنين {فإذا انسلخ الأشهر الحرم1} أي إذا انقضت وخرجت الأشهر الحرم التي أمنتم فيها المشركين الذين لا عهد لهم أو لهم عهد ولكن دون أربعة أشهر أو فوقها وبدون حد محدود {فاقتلوا المشركين2 حيث وجدتموهم} في الحل والحرم سواء {وخذوهم} أسرى {واحصروهم} حتى يستسلموا، {واقعدوا لهم كل مرصد} أي سدوا عليهم الطرق حتى يقدموا أنفسهم مسلمين أو مستسلمين وقوله تعالى {فإن تابوا} أي من الشرك وحربكم {وأقاموا الصلاة3 وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم4} إذ أصبحوا مسلمين مثلكم. وقوله {إن الله غفور رحيم} أي أن الله سيغفر لهم ويرحمهم بعد إسلامهم، لأنه تعالى غفور رحيم، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (5) أما الآية الثانية (6) فقد أمر تعالى رسوله أن يجير من طلب جواره من المشركين حتى يسمع كلام الله منه صلى الله عليه وسلم ويتفهم دعوة الإسلام ثم هو بالخيار إن شاء أسلم وذلك خير له وإن لم يسلم رده5 رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكان يأمن فيه من المسلمين أن يقتلوه.
__________
1 ليس المراد بالأشهر الحرم الثلاثة السرد، والواحد الفرد التي هي القعدة والحجة والمحرم ورجب بل المراد منها ما هو مبين في التفسير ومعنى كونها حرما أنه يحرم قتال المشركين فيها والتعرض لهم بالسوء والأذى.
2 لفظ المشركين عام في كل مشرك وهو مخصوص بالسنة إذ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل المرأة والصبي والراهب.
3 شاهده حديث الصحاح: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" وقال أبو بكر: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال".
4 مالك والشافعي وأحمد على أن تارك الصلاة استحلالاً لها أو غير استحلال يؤخر إلى أن يبقى من الوقت الضروري قدر ما يصلي ركعة قبل خروج الوقت ويقتل، وأبو حنيفة والظاهرية يقولون: يسجن ويضرب حتى يصلي ولا يقتل.
5 إمام المسلمين هو الذي يتولى أمر التأمين لمن طلب ذلك من المشركين إذ هو نائب عن سائر المسلمين، ويجوز للمسلم ذكراً كان أو أنثى أن يؤمن شخصاً ما لما له من حرمة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "المسلمون تتكافؤ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد واحدة على من سواهم". وخالف بعضهم في المرأة فقالوا: لابد من موافقة الإمام لها على تأمينها وخالف أبو حنيفة في العبد.

وهو معنى قوله تعالى {وإن أحد من1 المشركين استجارك فأجره حتى يسمع2 كلام الله، ثم أبلغه مأمنه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} فلذا قبل منهم ما طلبوه من الجوار حتى يسمعوا كلام الله تعالى إذ لو علموا ما رغبوا عن التوحيد إلى الشرك. وقوله تعالى في الآية الثالثة (7) {كيف3 يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله} هذا الاستفهام للنفي مع التعجب أي ليس لهم عهد أبداً وهم كافرون غادرون، وقوله تعالى {إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين} هؤلاء بعض بني بكر بن كنانة عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام صلح الحديبية وهم عند الحرم فهؤلاء لهم عهد وذمة ما استقاموا على عهدهم فلم ينقضوه. فإن استقاموا استقام لهم المسلمون ولم يقتلوهم وفاء بعهدهم وتقوى لله تعالى لأنه تعالى يكره الغدر ويحب المتقين لذلك. وقوله تعالى {كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاَّ ولا ذمة} الاستفهام للتعجب أي كيف يكون للمشركين عهد يفون به لكم وهم إن يظهروا عليكم يغلبوكم في معركة، {لا يرقبوا فيكم} أي لا يراعوا الله تعالى ولا القرابة ولا الذمة بل يقتلوكم قتلاً ذريعاً، وقوله تعالى {يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم} إخبار من الله تعالى عن أولئك المشركين الناكثين للعهد الغادرين بأنهم يحاولون إرضاء المؤمنين بالكذب بأفواههم، وقلوبهم الكافرة تأبى ذلك الذي يقولون بألسنتهم أي فلا تعتقده ولا تقره، {وأكثرهم فاسقون} لا يعرفون الطاعة ولا الالتزام لا بعهد ولا دين، والجملة فيها تهييج للمسلمين على قتال المشركين ومحاصرتهم وأخذهم تطهيراً لأرض الجزيرة منهم قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب الوفاء بالعهود ما لم ينقضها المعاهدون.
__________
1 أحد، مرفوع بفعل محذوف يفسره ما بعده والتقدير: وإن استجارك أحد المشركين فأجره.
2 الآية دليل على أن ما يسمع من صوت القارىء للقرآن هو كلام الله تعالى فيقول العبد: سمعت كلام الله حقاً وصدقاً.
3 {كيف يكون} الخ كيف: للتعجب نحو قولك: كيف يسبقني فلان؟! في الآية إضمار كلمة غدر أي كيف يكون لهم عهد مع إضمارهم الغدر بكم.

2- تقرير مبدأ الحزم في القتال والضرب بشدة.
3- وجوب تطهير الجزيرة من كل شرك وكفر لأنها دار الإسلام.
4- إقام الصلاة شرط في صحة الإيمان فمن تركها فهو كافر غير مؤمن.
5- احترام الجوار، والإقرار به، وتأمين السفراء والممثلين لدولة كافرة.
6- قبول طلب كل من طلب من الكافرين الإذن له بدخول بلاد الإسلام ليتعلم الدين الإسلامي.
7- القرآن كلام الله تعالى حقاً بحروفه ومعانيه لقوله {حتى يسمع كلام الله} الذي يتلوه عليه صلى الله عليه وسلم.
8- وجوب مراقبة الله تعالى ومراعاة القرابة واحترام العهود.
اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(9) لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ(10) فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(11) وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (12)
شرح الكلمات:
اشتروا بآيات الله1 : أي باعوا آيات الله وأخذوا بدلها الكفر.
فصدوا عن سبيله : أي أعرضوا عن سبيل الله التي هي الإسلام كما صدوا غيرهم أيضاً .
__________
1 روي أنهم نقضوا عهدهم من أجل أكلة أطعمهم إيّاها أبو سفيان ومالٍ صرفه لهم ليقفوا معه ضد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين.

ساء : أي قبح.
لا يرقبون: أي لا يراعون.
إلاً: الإل: الله، والقرابة والعهد وكلها صالحة هنا.
فإن تابوا: أي من الشرك والمحاربة.
نكثوا : أي نقضوا وغدروا.
وطعنوا في دينكم1 : أي انتقدوا الإسلام في عقائده أو عاداته ومعاملاته.
أئمة الكفر : أي رؤساء الكفر المتبعين والمقلدين في الشرك والشر والفساد.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن المشركين، وبيان ما يلزم اتخاذه حيالهم فأخبر تعالى عنهم بقوله في الآية (9) {اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً} أي باعوا الإيمان بالكفر فصدوا أنفسهم كما صدوا غيرهم من أتباعهم عن الإسلام الذي هو منهج حياتهم وطريق سعادتهم وكمالهم. فلذا قال تعالى مُقبحاً سلوكهم {إنهم ساء ما كانوا يعملون} كما أخبر تعالى عنهم بأنهم لا يراعون في أي مؤمن يتمكنون منه الله عز وجل ولا قرابة بينه وبينهم، ولا معاهدة تربطهم مع قومه، فقال تعالى {لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، وأولئك هم المعتدون} ووصفه تعالى إياهم بالاعتداء دال على أنهم لا يحترمون عهوداً ولا يتقون الله تعالى في شيء، وذلك لظلمة نفوسهم من جراء الكفر والعصيان، فلذا على المسلمين قتلهم حيث وجدوهم وأخذهم أسرى وحصارهم وسد الطرق عنهم حتى يلقوا السلاح ويسلموا لله، أو يستسلموا للمؤمنين اللهم إلا أن يتوبوا بالإيمان والدخول في الإسلام كما قال تعالى {فإن2 تابوا وأقاموا الصلاة وأتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} وقوله تعالى
__________
1 الطعن في الدين هو: استنقاصه، وأصل الطعن: الضرب في الجسم بالرمح لإفساده، واستعمل في الانتقاص للشخص والدين لإفساده. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طُعن في إمارة أسامة لصغر سنه: "إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان لخليقاً للإمارة" في الصحيح والطاعنون: المنافقون، واستدل بهذه الآية على كفر من طعن في الدين، ووجوب قتله وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد، وأنّ الذمي إذا طعن في الدين انتقضَ عهده ووجب قتله هذا مذهب الجمهور، وأبو حنيفة يرى استتابته فإن تاب وإلاّ قُتل.
2 من فرّق بين ثلاثة فرّق الله بينه وبين رحمته يوم القيامة. من قال أطيع الله ولا أطيع الرسول فإن الله تعالى قال: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} ومن قال: أقيم الصلاة ولا أوتي الزكاة والله يقول: {أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} ومن قال: أشكر الله ولا أشكر لوالدي فإن الله قال: {أن اشكر لي ولوالديك}.

{ونفصل لآيات لقوم يعلمون} أي نبين !الآيات القرآنية المشتملة على الحجج والبراهين على توحيد الله تعالى وتقرير نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الأحكام الشرعية في الحرب والسلم كما في هذا السياق وقوله {لقوم يعلمون} لأن الذين لا يعلمون من أهل الجهالات لا ينتفعون بها لظلمة نفوسهم وفساد عقولهم بضلال الشرك والأهواء وقوله تعالى في الآية الرابعة (12) {وإن نكثوا أيمانهم1 من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم} يريد تعالى أولئك المعاهدين من المشركين إذ هم نكثوا أيمانهم التي أكدوا بها عهودهم فحلوا ما أبرموا ونقضوا ما أحكموا من عهد وميثاق وعابوا الإسلام وطعنوا فيه فهم إذاً أئمة الكفر ورؤساء الكافرين فقاتلوهم بلا هوادة، ولا تراعوا لهم أيماناً حلفوها لكم فإنهم لا أيمان لهم. قاتلوهم رجاء أن ينتهوا من الكفر والخيانة والغدر فيوحدوا ويسلموا ويصبحوا2 مثلكم أولياء الله لا أعداءه.
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
1- ذم سلوك الكافرين وتصرفاتهم في الحياة وحسبهم أن باعوا الحق س بالباطل، واشتروا الضلالة بالهدى.
2- من كان الاعتداء وصفاً له لا يُؤمن على شيء، ولا يوثق فيه في شيء، لفساد ملكته النفسية.
3- أخوة الإسلام تثبت بثلاثة أمور التوحيد وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة3.
4- الطعن في الدين ردة وكفر موجب للقتل والقتال.
__________
1 النكث: النقض وأصله في كل ما فتل أو أبرم ثم حل، واستعملت في الأيمان والعهود، قال الشاعر:
وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها
فليس لمخضوب البنان يمين
2 نعم ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق منهم إلاّ ثلاثة، ولم يبق من المنافقين إلا أربعة: روى البخاري عن زيد بن وهب قال: كنا عند حذيفة فقال: ما بقي من أصحاب هذه الآية يعني: {فقاتلوا أئمة الكفر..} إلا ثلاثة ولا يبقى من ا المناقفين إلا أربعة فقال أعرابي: إنكم أصحاب محمد تخبرون أخباراً لا ندري ما هي؟ تزعمون إلاّ منافق إلاّ أربعة، فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا ويسرقون أعلافنا- نفائس أموالنا- قال حذيفة رضي الله عنه: أولائك الفساق، أجل لم يبق منهم إلا أربعة أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده، أي: لذهاب شهوته وفساد معدته.
3 قال ابن عباس رضي الله عنهما هذه الآية حرّمت دماء أهل القبلة يعني قوله تعالى {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين}.

أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ(13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ(14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(16)
شرح الكلمات:
ألا: : أداة تحضيض.
نكثوا أيمانهم : نقضوها وحلوها فلم يلتزموا بها.
هموا بإخراج الرسول : من دار الندوة إذ عزموا على واحدة من ثلاث الحبس أو النفي أو القتل.
أول مرة : أي في بدر أو في ماء الهجير1 حيث أعانت قريش بني بكر على خزاعة.
ويخزهم: أي يذلهم ويهينهم.
ويشف صدور: أي يذهب الغيظ الذي كان بها على المشركين الظالمين.
ان تتركوا: أي بدون امتحان بالتكاليف كالجهاد.
__________
1 حوض من ماء واسع كبير يسقون منه تقاتلت عنده خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، وبنو بكر حلفاء قريش وأعانت قريش حلفاءها بني بكر وبذلك نقضت عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا يقول الخزاعي وافد الرسول صلى الله عليه وسلم :
إن قريشاً أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا
هم بيّتونا بالهجيرهجّدا ...
وقتلونا ركعاً وسجدا

وليجه : أي دخيله وهي الرجل يدخل في القوم وهو ليس منهم ويطلعونه على أسرارهم وبواطن أمورهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن المشركين وما يلزم إزاءهم من إجراءات فإنه بعد أن أعطاهم المدة المذكورة وأمنهم فيها وهى أربعة أشهر، وقد انسلخت فلم يبق إلا قتالهم وأخذهم وإنهاء عصبة المشركين وآثارها في ديار الله فقال تعالى حاضاً المؤمنين مهيجاً لهم {ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم} وهذه خطيئة كافية في وجوب قتالهم، وثانية همهم بإخراج الرسول من بين أظهرهم من مكة وثالثة بدؤهم إياكم بالقتال في بدر، إذ عيرهم نجت وأبوا إلا أن يقاتلوكم، إذاً فلم لا تقاتلونهم؟ أتتركون قتالهم خشية منهم وخوفاً إن كان هذا {فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين}، لأن ما لدى الله تعالى من العذاب ليس لدى المشركين فالله أحق أن يخشى، هذا ما تضمنته الآية الأولى (13) وهي قوله تعالى {ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج1 الرسول وهم بدؤوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين} وفي الآية الثانية (14) يقول تعالى: {قاتلوهم} وهو أمر صريح بالقتال، وبذكر الجزاء المترتب على قتالهم فيقول {يعذّبهم الله بأيدكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين} وهم خزاعة تشفى صدورهم من الغيظ على بني بكر الذين قاتلوهم وأعانتهم قريش عليهم بعد صلح الحديبية2، وقوله تعالى: {ويتوب الله على من يشاء} هذه وإن لم تكن جزاء للأمر بالقتال كالأربعة التي قبلها. ولكن سنة الله تعالى أن الناس إذا رأوا انتصار أعدائهم عليهم في كل معركة يميلون إليهم ويقبلون دينهم وما هم عليه من صفات فقتال المؤمنين للكافرين وانتصارهم عليهم يتيح الفرصة لكثير من الكافرين فيسلمون وهو معنى قوله تعالى {ويتوب الله على من يشاء} ، وقوله {والله عليم حكيم} تقرير للأمر بالقتال والنتائج الطيبة المترتبة عليه آخرها أن يتوب الله عدى من يشاء. وقوله تعالى في الآية (16) الأخيرة {أم
__________
1 إذ كانوا السبب في خروجه من مكة مهاجراً كما أخرجوه من المدينة لقتالهم في بدر ولفتح مكة كما همّوا بإخراجه من المدينة هو وأصحابه في أحد والخندق وغير ذلك.
2 إذ قريش أعانت بني بكر على خزاعة التي هي حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أنّ رجلا من بني بكر أنشد شعراً في هجاء الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض رجال خزاعة لئن أعدته لأكسرنّ فمك فأعاده فكسم فمه، واندلعت الحرب بينهم فأعانت قريش بني بكر فجاء عمرو بن سالم الخزاعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب النصرة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم برجاله وكان فتح مكة.

حسبتم1 أن تتركوا} أي بدون امتحان. وأنتم خليط منكم المؤمن الصادق ومنكم المنافق الكاذب، من جملة ما كان يوحى به المنافقون التثبيط عن القتال بحجة ان مكة فتحت وأن الإسلام عز فما هناك حاجة إلى مطاردة فلول المشركين، وهم يعلمون أن تكتلات يقودها الساخطون على الإسلام حتى من رجالات قريش يريدون الانقضاض على المسلمين وإهدار كل نصر تحقق لهم، وهذا المعنى ظاهر من سياق الآية {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة}2 إذ هناك من اتخذوا من دون الله ورسوله والمؤمنين وليجة يطلعونها على أمور المسلمين، ويسترون عليهم وهي بينهم دخلية، ويقرر هذه الجملة التي ختمت بها الآية وهي قوله تعالى {والله خبير بما تعملون}.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية استعمال أسلوب التهييج والإثارة للجهاد.
2- وجوب خشية الله تعالى بطاعته وترك معصيته.
3- لازم الإيمان الشجاعة فمن ضعفت شجاعته ضعف إيمانه.
4- من ثمرات القتال دخول الناس في دين الله تعالى.
5- الجهاد عملية تصفية وتطهير لصفوف المؤمنين وقلوبهم أيضاً.
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ(17)
__________
1 {أم حسبتم} أم : هي المنقطعة بمعنى بل إضرابا عما سبق من الكلام وانتقالا إلى آخر، والاستفهام للإِنكار، والحسبان بمعنى الظن والمعنى كيف تظنون أنكم تتركون بعد فتح مكة دون جهاد لأعداء الله ورسوله، وهم ما زالوا يتآمرون ويتجمعون لقتالكم.
2 الوليجة: البطانة من الولوج في الشيء وهو الدخول فيه، والمراد من هذا الرجل يتخذ من أعداء الإسلام صديقاً يدخل عليه ويدخله عليه فيطلعه على أسرار المسلمين للنكاية بهم والتسلط عليهم لإضرارهم وإفسادهم وهلاكهم.

إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
شرح الكلمات:
ما كان للمشركين : أي ليس من شأنهم أو مما يتأتى لهم.
حبطت أعمالهم : أي بطلت فلا يثابون عليها ولا ينجحون فيها.
يعمروا مساجد الله : أي بالعبادة فيها، وصيانتها وتطهيرها.
ولم يخش إلا الله: أي لم يخف أحداً غير الله تعالى.
فعسى : عسى من الله تعالى كما هي هنا تفيد التحقيق أي هدايتهم محققة.
المهتدين: أي إلى سبيل النجاة من الخسران والظفر بالجنان.
معنى الآيتين:
لا شك أن هناك من المشركين من ادعى أنه يعمر المسجد الحرام بالسدانة والحجابة والسقاية وسواء كان المدعى هذا العباس يوم بدر أو كان غيره فإن الله تعالى أبطل هذا الادعاء وقال {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله}1 أي لا ينبغي لهم ذلك ولا يصح منهم، وكيف وهم كفار شاهدون2 على أنفسهم بالكفر، وهل الكافر بالله يعمر بيته وبماذا يعمره؟ وإذا سألت اليهودي ما أنت؟ يقول يهودي، وإذا سألت النصراني، ما أنت؟ يقول نصراني، وإذا سألت الوثني ما أنت؟ يقول مشرك فهذه شهادتهم على أنفسهم3 بالكفر، وقوله تعالى {أولئك} أي البعداء في الكفر والضلال {حبطت أعمالهم} ، أي
__________
1 قيل: إنّ العباس لما أسر في بدر عُيّر بالكفر وقطيعة الرحم قال لمن عيّره، تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا! فقال علي: ألكم محاسن؟ قال: نعم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني فنزلت هذه الآية ردّاً عليه. فوجب على المسلمين تولي أحكام المساجد.
2 قيل الأصل: وهم شاهدون فحذف {وهم} فنصب {شاهدين} على الحال.
3 قال ابن عباس: شهادتهم بالكفر هي: سجودهم للأصنام مع إقرارهم بأنها مخلوقة والله خالقها.

بطلت وضاعت لفقدها الإخلاص فيها لله تعالى {وفي النار هم خالدون} لا يخرجون منها متى دخولها أبداً، إذ ليس لهم من العمل ما يشفع لهم بالخروج منها. ثم قرر تعالى الحقيقة وهي أن الذين يعمرون1 مساجد الله حقاً وصدقاً هم المؤمنون الموحدون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويخشون الله تعالى ولا يخشون سواه هؤلاء هم الجديرون بعمارة المساجد بالصلاة والذكر والتعلم للعلم الشرعي فيها زيادة على بنائها وتطهيرها وصيانتها هؤلاء جديرون بالهداية لكل كمال وخير يشهد لهذا قوله تعالى {فعسى2 أولئك أن يكونوا من المهتدين} إلى ما هو الحق والصواب، وإلى سبيل النجاة من النار والفوز بالجنة.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- حرمة دخول الكافر المساجد إلا لحاجة وبإذن من المسلمين.
2- فضيلة عمارة المساجد بالعبادة فيها وتطهيرها وصيانتها.
3- فضيلة المسلم وشرفه، إذ كل من يسأل عن دينه يجيب بجواب هو الكفر إلا المسلم فإنه يقول: مسلم أي لله تعالى فهو إذاً المؤمن وغيره الكافر.
4- وجوب الإيمان بالله واليوم الآخر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والخشية من3 الله تعالى.
5- أهل الأمن والنجاة من النار هم أصحاب الصفات الأربع المذكورة في الآية.
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
__________
1 وردت أحاديث في فضل عمارة المساجد منها القوي ومنها الضعيف مجموعها يدل على المراد منها وهو حسن الظن بمن يعمر مساجد الله وأظهر حديث "إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان".
2 قالت العلماء: "عسى من الله واجبة أي: ما يرجى بها واجب الوقوع، وقيل: هي هنا بمعنى: خليق أي: فخليق أن يكونوا من المهتدين.
3 تساءل البعض وقالوا: قوله تعالى: {ولم يخش إلاّ الله} دال على أن المؤمن الكامل الإيمان لا يخشى إلا الله وإذا بالواقع أن الأنبياء يخشون الأعداء فضلا عن غيرهم فقال بعضهم معناه: أنهم لا يخشون إلاَّ الله مما يُعبد، وقال بعضهم:
أي لم يخف إلا الله في باب الدين. والجواب الصحيح أنّ الإنسان نبيا كان أو غيره من المؤمنين العاملين لا يخشون إلا الله تعالى فإذا خافوا عدواً، ليس معناه أنهم خافوه لذاته وإنما خافوا من الله أن يكون سلطة عليهم فخوفهم عائد في الحقيقة إلى الله تعالى فهو الذي بيده الأمر، والخوف منه لا من غيره.

وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ(20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
شرح الكلمات:
سقاية الحاج: مكان يوضع فيه الماء في المسجد الحرام ويسقى منه الحجاج مجاناً.
وعمارة المسجد الحرام : هنا عبارة عن بنائه وصيانته وسدانة البيت فيه.
لا يستوون عند الله: إذ عمارة المسجد الحرام مع الشرك والكفر لا تساوى شيئاً.
والله لا يهدي القوم الظالمين: أي المشركين لا يهديهم لما فيه كمالهم وسعادتهم.
ورضوان : أي رضا الله عز وجل عنهم.
نعيم مقيم: أي دائم لا يزول ولا ينقطع.
معاني الآيات:
ما زال السياق في الرد على من رأى تفضيل عمارة المسجد1 الحرام بالسقاية والحجابة
__________
1 روي عن السدي أنه قال: افتخر العباس بالسقاية وشيبة بالعمارة وعلي بالإسلام والجهاد فصدق الله علياً وكذبهما أي بهذه الآية: {أجعلتم سقاية الحاج... } الخ فأخبر أن العمارة لا تكون بالكفر وإنما تكون بالإيمان والعبادة وأداء الطاعة.
وقيل أيضاً: إن المشركين سألوا اليهود وقالوا: نحن سقاة الحاج وعمار المسجد الحرام أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟
فقالت لهم اليهود مكراً وعناداً: أنتم أفضل وروى مسلم عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي ألا أعمل بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر ما أبالي ألا أعمل بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن إذا صليت الجمعة دخلت واستفتيته عما اختلفتم فيه. فأنزل الله عز وجل: {أجعلتم ..} الآية. وحل الإشكال في هذه الأخبار: أن الآية تذكر دليلاً لا أنها نزلت في ذلك الوقت.

والسدانة على الإيمان والفجرة والجهاد فقال تعالى موبخاً لهم {أجعلتم1 سقاية الحاج2 وعمارة3 المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون} في حكم الله وقضائه بحال من الأحوال، والمشركون ظالمون كيف يكون لعمارتهم للمسجد الحرام وزن أو قيمة تذكر {والله لا يهدي القوم الظالمين} بعد هذا التوبيخ والبيان للحال أخبر تعالى أن {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } هم {أعظم درجة} ممن آمنوا ولم يستكملوا هذه الصفات الأربع، وأخبر تعالى أنهم هم الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة، وأعظم من هذا، جاء في قوله {يبشرهم ربهم برحمة منه} وهي الجنة {ورضوان} منه تعالى وهو أكبر نعيم {وجنات} أي بساتين في الملكوت الأعلى {لهم فيها نعيم مقيم} لا يحول ولا يزول وأنهم خالدون فيها لا يخرجون منها أبداً، {وإن الله عنده أجر عظيم} لا يقادر قدره جعلنا الله تعالى منهم وحشرنا في زمرتهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- أكمل المؤمنين وأعلاهم درجة، لح وأقربهم من الله منزلة من جمع الصفات الثلاث المذكورة في الآية (20) وهي الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس.
2- فضل الهجرة والجهاد.
3- تفاوت أهل الجنة في علو درجاتهم.
4- حرمان الظالمين المتوغلين في الظلم من هداية الله تعالى.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ
__________
1 أي: أجعلتم أهل سقاية الحاج، أو أصحاب سقاية الحاج، إذ حذف المضاف وهو: أهل أو أصحاب وبقي المضاف إليه وهو: سقاية فنصب انتصابه.
2 الحاج: اسم جنس ناب مناب الحجاج جمع حاج.
3 وقرىء: سُقاة بضم السين جمع ساقٍ وعمرة: جمع عامر ككتبة جمع كاتب.

وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(23) قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(24)
شرح الكلمات:
أولياء: جمع وليّ وهو من تتولاه بالمحبة والنصرة ويتولاك بمثل ذلك.
استحبوا: أي أحبوا الكفر على الإيمان.
الظالمون: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ومن أحب من لا تجوز محبته فقد وضع شيئاً في غير موضعه فهو ظالم.
وعشيرتكم : أي قرابتكم من النسب كالأعمام الأباعد وأبنائهم.
اقترفتموها: أي اكتسبتموها.
كسادها: بوارها وعدم رواجها.
فتربصوا: أي انتظروا.
حتى يأتي الله بأمره : أي بعقوبة هذه المعصية يوم فتح مكة.
معنى الآيتين:
هذا إنذار الله تعالى للمؤمنين ينهاهم فيه عن اتخاذ من كفر من آبائهم وإخوانهم أولياء لهم يوادونهم ويناصرونهم ويطلعونهم على أسرار المسلمين وبواطن أمورهم. فيقول تعالى: {يا أيها الذين امنوا} أي بالله ورسوله ولقاء الله ووعده ووعيده {لا تتخذوا آباءكم1
__________
1 هذه الآية ما تضمنته من حكم حرمة موالاة الكافرين ولو كانوا من اقرب الأقرباء وهو عام في الأمة إلى يوم القيامة؟ وإن فهم منها بعضهم أنها للمؤمنين الذين كانوا بمكة وغيرها يدعوهم إلى الهجرة والتخلي عن بلاد الكفر.

وإخوانكم1 أولياء إن استحبوا2 الكفر على الإيمان} أي اثروا الكفر والإصرار عليه على الإيمان بالله ورسوله ثم يهددهم إن لم يمتثلوا أمره ويفاصلوا آباءهم وإخوانهم المستحبين للكفر على الإيمان فيقول {ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون3} ووجه الظلم ظاهر وهو أنهم وضعوا المحبة موضع البغضاء، والنصرة موضع الخذلان. والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه. ثم أمر تعالى رسوله أن يقول لهم، وفي هذا العدول عن خطابهم مباشرة إلى الواسطة ما يشعر بالغضب وعدم الرضى، والتهديد والوعيد {قل إن كان4 آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله} فتركتم الهجرة والجهاد لذلك {فتربصوا حتى يأتي الله بأمره} أي انتظروا أمر الله وهو فتح مكة عليكم وإنزال العقوبة بكم، {والله لا لهدي القوم الفاسقين} أي لا يوفقهم لسبل نجاتهم وسعادتهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة اتخاذ الكافرين أولياء يُوادون ولو كانوا من أقرب الأقرباء كالأب والابن والأخ.
2- من الظلم الفظيع موالاة من عادى الله ورسوله والمؤمنين.
3- فرضية محبة الله ورسوله والجهاد في سبيله، ومحبة سائر محاب الله تعالى وكره سائر مكاره الله تعالى من العقائد والأحوال والأعمال والذوات والصفات.
4- حرمان أهل الفسق المتوغلين فيه من هداية الله تعالى إلى ما يكملهم ويسعدهم.
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ
__________
1 لم يذكر الأبناء لأنّ العادة أنّ الأبناء تبع لآبائهم وذكر الآباء والإخوان ذكر لأقوى القرابة.
2 استحبوا: بمعنى أحبوا نحو: استجاب بمعنى: أجاب.
3 قال ابن عباس: من تولاهم هو مشرك مثلهم لأنّ الرضا بالشرك شرك ويستثنى من هذه المقاطعة الإحسان والهبة للأقارب الكفرة لحديث أسماء إذ قالت: يا رسول الله إنّ أمي قدمت عليّ راغبة وهي شركة أفأصلها؟ قال: صلي أمك. رواه البخاري.
4 هذه الآية نزلت في الذين تخلفوا عن الهجرة إلى المدينة إيثاراً لما ذكر تعالى على حب الله ورسوله والجهاد في سبيل الله تعالى إذ توعدهم تعالى بقوله: {فتربصوا} أي انتظروا ما سيحل بكم إن لم تتوبوا فتهاجروا وتجاهدوا.

تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ(25) ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ(26) ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(28)
شرح الكلمات:
في مواطن : المواطن جمع موطن بمعنى الوطن وهو محل إقامة الإنسان.
حنين : وادٍ على بعد أميال يسيرة من الطائف.
إذ أعجبتكم كثرتكم: أي كثرة عددكم حتى قال من قال: لن نغلب اليوم من قلة.
فلم تغن عنكم شيئاً: أي لم تجز عنكم شيئاً من الإجزاء إذ انهزمتم في أول اللقاء.
وضاقت عليكم الأرض : أي لم تعرفوا أين تذهبون، وكيف تتصرفون كأنكم محصورون في مكان ضيق.
بما رحبت: أي على رحابتها وسعتها.
أنزل الله سكينته : أي الطمأنينة في نفوسهم، فذهب القلق والاضطراب.
وأنزل جنوداً.: أي من الملائكة.
نجس: أي ذوو نجس وذلك لخبث أرواحهم بالشرك.
بعد عامهم هذا : عام تسعة من الهجرة.

عيلة: أي فقراً وفاقه وحاجة.
معنى الآيات:
لما حرم الله على المؤمنين موالاة الكافرين ولو كانوا أقرباءهم وحذرهم من القعود عن الهجرة والجهاد، وكان الغالب فيمن يقعد عن ذلك إنما كان لجبنه وخوفه أخبرهم تعالى في هذه الآيات الثلاث أنه ناصرهم ومؤيدهم فلا يقعد بهم الجبن والخوف عن أداء الواجب من الهجرة والجهاد فقال تعالى {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة1} كبْدَر والنضير وقريظة والفتح وغيرها {ويوم حنين} 2 حين قاتلوا قبيلة هوازن مذكراً إياهم بهزيمة أصابت المؤمنين نتيجة خطأ من بعضهم وهو الاغترار بكثرة العدد إذ قال من قال منهم: لن نغلب اليوم عن قلة إذ كانوا اثني عشر3 ألفاً وكان عدوهم أربعة آلاف فقط، إنهم ما إن توغلوا بين جنبتي الوادي حتى رماهم العدو بوابل من النبل والسهام فلم يعرفوا كيف يتصرفون حتى ضاقت عليهم الأرض على سعتها وولوا مدبرين هاربين ولم يثبت إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان على بغلته البيضاء المسماة (بالدُلْدُل) والعباس إلى جنبه وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب ابن عمه، ثم نادى منادي رسول الله: أن يا أصحاب سورة البقرة هلموا أصحاب السمرة (شجره بيعة الرضوان) هلموا. فتراجعوا إلى المعركة ودارت رحاها و {أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً} تلامس القلوب وتنفخ فيها روح الشجاعة والصبر والثبات، فصبروا وقاتلوا وما هي إلا ساعة وإذا بالعدو سبي بين أيديهم ولم يحصل لهم أن غنموا يوماً مثل ما غنموا هذا اليوم إذ بلغ عدد الإبل اثني عشر ألف بعير، ومن الغنم مالا يحصى ولا يعد. بهذا جاء قوله تعالى: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين4} أي هاربين من العدو {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً} أي من الملائكة {لم تروها} {وعذب الذين كفروا} أي هوازن {وذلك} أي القتل والسبي {جزاء الكافرين} بالله ورسوله.
__________
1 المواطن: جمع موطن وهو مكان التوطّن أي: الإقامة ويطلق على موضع الحرب وموقعها.
2 خص يوم حنين بالذكر لما وقع فيه من الهزيمة في أول المعركة.
3 عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وألفان من مسلمة الفتح وهم الطلقاء وهزموا من أجل قول بعضهم: لن نغلب اليوم عن قلة وهو ما يسمى بالعجب وهو محبط للعمل.
4 روى مسلم عن ابن اسحق قال: جاء رجل إلى البراء فقال: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال: أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى ولكنه انطلق أخفّاء من الناس وحسّر إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان يقود به بغلته فنزل ودعا واستنصر وهو يقول: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبدالمطلب اللهم نزل نصرك" قال البراء: كنا والله إذا احمّر البأس نتقي به.

وقوله تعالى {ثم يتوب الله على من يشاء}1 أي بعد قتالكم للكافرين وقتلكم من تقتلون يتوب الله على من يشاء ممن بقوا أحياء بعد الحرب {والله غفور رحيم} فيغفر لمن يتوب عليه من المشركين ماضي ذنوبه من الشرك وسائر الذنوب ويرحمه بأن يدخله الجنة مع من يشاء من المؤمنين الصادقين في إيمانهم هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث. أما الآية الرابعة {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس2 فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} 3 فإنه تعالى أمر المؤمنين بأن يمنعوا من دخول المسجد الحرم كل مشرك ومشركة لأن المشرك نجس الظاهر والباطن فلا يحل دخولهم إلى المسجد الحرام كل مشرك ومشركة لأن المشرك نجس الظاهر والباطن فلا يحل دخولهم إلى المسجد الحرام وهو مكة والحرم حولها، ومن يومئذ لم يدخل مكة مشرك، وقوله تعالى {وإن خفتم علية4} أي فقراً لأجل انقطاع5 المشركين عن الموسم حيث كانوا يحلبون التجارة يبيعون ويشترون فيحصل نفع للمسلمين {فسوف يغنيكم الله من فضله} فامنعوا المشركين ولا تخافوا الفقر وقوله تعالى {إن شاء إن الله عليم حكيم} استثناء منه تعالى حتى تبقى قلوب المؤمنين متعلقة به سبحانه وتعالى راجية خائفة غير مطمئنة غافلة، وكونه تعالى عليماً حكيماً يرشح المعنى المذكور فإن ذا العلم والحكمة لا يضع شيئاً إلا في موضعه فلا بد لمن أراد رحمة الله أو فضل الله أن يجتهد أن يكون أهلاً لذلك، بالإيمان والطاعة العامة والخاصة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة العجب بالنفس والعمل إذ هو أي العجب من العوائق الكبيرة عن النجاح.
2- بيان إفضال الله تعالى وإكرامه لعباده المؤمنين.
3- بيان الحكمة من القتال في سبيل الله تعالى.
4- تقرير نجاسة الكافر المعنوية.
__________
1 كمالك بن عوف النصري رئيس حنين ومن أسلم معه من قومه.
2 قيل: وصف المشرك بالنجس: لأنه جنب لا يغتسل من جنابة غسلاً شرعياً فهو لذلك نجس، وقيل: الشرك هو الذي جعله نجساً إذ لو أسلم زال عنه الوصف.
3 هو عام حجة الوداع وليس عام تسعة كما قال بعضهم .
4 قال الشاعر:
وما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغني متى يعيل
يقال : عال يعيل عيلة : إذا افتقر.
5 في الآية على مشروعية الأخذ بالأسباب إذ قال صلى الله عليه وسلم: " اعقلها وتوكل" قال بعضهم: الأسباب التي يطلب بها الرزق هي الجهاد وأكل الرجل من عمل يده التجارة، الحرث، والغرس، التعليم للعلوم بالأجرة، الاستدانة بنيّة رد الدين.

5- منع دخول المشرك الحرم المكي كائناً من كان بخلاف باقي المساجد فقد يؤذن للكافر لمصلحة أن يدخل بإذن المسلمين.
6- لا يمنع المؤمن من امتثال أمر ربّه الخوف من الفاقة والفقر فإن الله تعالى تعهد بالإغناء إن شاء .
قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ(29)
شرح الكلمات:
لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر: أي إيماناً صحيحاً يرضاه الله تعالى لموافقة الحق والواقع.
ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله : أي كالخمر والربا وسائر المحرمات.
ولا يدينون دين الحق: أي الإسلام إذ هو الدين الذي لا يقبل ديناً سواه.
من الذين أوتوا الكتاب: أي اليهود والنصارى.
الجزية : أي الخراج المعلوم الذي يدفعه الذمي كل سنة.
عن يد وهم صاغرون1 : أي يقدمونه بأيديهم لا ينيبون فيه غيرهم، وهم صاغرون: أي أذلاء منقادون لحكم الإسلام هذا.
معنى الآية الكريمة:
لما أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بقتال المشركين حتى يتوبوا من الشرك ويوحدوا ويعبدوا الله تعالى بما شرع أمر رسوله في هذه الآية والمؤمنين بقتال أهل الكتاب وهم
__________
1 وفسّر قوله: {عن يد} بالقوة على دفع الجزية بأن يكون المطالب بها قادراً على أدائها لغناه وعدم فقره. وهو تفسير حق لأنّ الفقير منهم لا يطالب بالجزية في حال فقره، وما في التفسير أصحّ.

اليهود والنصارى إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وجعل إعطاء الجزية غايةً لنهاية القتال، لا الإسلام، لأن الإسلام يعرض أولاً على أهل الكتاب فإن قبلوه فذاك وإن رفضوه يطلب منهم الدخول في ذمة المسلمين وحمايتهم تحت شعار الجزية وهي رمز دال على قبولهم حماية المسلمين وحكمهم بشرع الله تعالى فإذا أعطوها حقنوا دماءهم وحافظوا أموالهم، وأمنوا في حياتهم المادية والروحية، هذا ما تضمنته الآية الكريمة: {قاتلوا الذين لا يؤمنون1 بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب2 حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} وإن قيل اليهود والنصارى يؤمنون بالله وباليوم الآخر فكيف نفت الآية عنهم ذلك؟ والجواب أن اليهود في إيمانهم بالله مشبهة مجسمة يصفون الله تعالى بصفات تعالى الله عنها علواً كبيراً، والنصارى يعتقدون أن الله حلّ في المسيح، وإن الله ثالث ثلاثة والله ليس كذلك فهم إذاً لا يؤمنون بالله تعالى كما هو الله الإله الحق، فلذا إيمانهم باطل وليس بإيمان يضاف إلى ذلك أنهم لو آمنوا بالله لآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ولو آمنوا باليوم الآخر لأطاعوا الله ورسوله لينجوا من عذاب اليوم الآخر وليسعدوا فيه بدخول الجنة فلما لم يؤمنوا ولم يعملوا كانوا حقاً كافرين غير مؤمنين، وصدق الله العظيم حيث نفى عنهم الإيمان به وباليوم الآخر، والله أعلم بخلقه من أنفسهم.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
1-وجوب قتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يدخلوا في حكم الإسلام وذلك من أجل إعدادهم للإسلام ليكملوا عليه ويسعدوا به.
2- الإيمان غير الصحيح لا يعتبر إيماناً منجياً ولا مسعداً.
3- استباحة ما حرم الله من المطاعم والمشارب والمناكح كفر صريح.
__________
1 الآية صريحة في عدم اعتبار إيمان اليهود والنصارى بالله واليوم الآخر إيماناً صحيحاً يزكى النفس ويؤهل لدخول الجنة، وهذا لأمرين: الأول: لما داخل إيمانهم من التحريف والتغيير فلم يكن إيمانهم بركني الإيمان العظيمين الإيمان بالله واليوم الآخر إيماناً صحيحاً مقبولاً شرعاً فلذا عُد كلا إيمان. والثاني: لأنهم لو آمنوا بالله ولقائه حق الإيمان لآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من الهدى، ولاستقاموا على شرع الله فأحلوا ما أحل وحرموا ما حرم.
2 المجوس والصابئة لم يذكرا في الآية، والذي به العمل عند عامة الفقهاء أنهم يسنّ بهم سنة أهل الكتاب في قبول الجزية منهم وإدخالهم في ذمة المسلمين.

4- مشروعية أخذ الجزية من أهل الكتاب وهي مقدّرة1 في كتب الفقه مبينة وهي بحسب غنى المرء وفقره وسعته وضيقه.
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(30) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(31) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ(33)
شرح الكلمات:
عُزير: هو الذي أماته الله مائة عام ثم بعتثه، واليهود يسمونه: عِزْرا.
المسيح: هو عيسى بن مريم عليهما السلام.
يضاهئون: أي يشابهون.
قول الذين كفروا: أي من آبائهم وأجدادهم الماضين.
قاتلهم الله : أي لعنهم الله لأجل كفرهم.
أنى يؤفكون.: أي كيف يصرفون عن الحق.
__________
1 تقدَّر بدينار من الذهب، وإن صالحهم الإمام عن أكثر فهم على ما صالحهم عليه.

أحبارهم ورهبانهم: الأحبار جمع حبر: علماء واليهود، والرهبان جمع راهب عابد النصارى.
أرباباً من دون الله : أي آلهة يشرعون لهم فيعملون بشرائعهم من حلال وحرام.
نور الله : أي الإسلام لأنه هاد إلى الإسعاد والكمال في الدارين.
بأفواههم: أي بالكذب عليه والطعن فيه وصرف الناس عنه.
رسوله: محمداً صلى الله علمه وسلم.
معنى الآيات:
لما أمر تعالى بقتال أهل الكتاب لكفرهم وعدم إيمانهم الإيمان الحق المنجي من النار ذكر في هذه الآيات الثلاث ما هو مقرر لكفرهم ومؤكد له فقال {وقالت اليهود عزير1 ابن الله} ونسبة الولد إلى الله تعالى كفر بجلاله وكماله {وقالت النصارى المسيح ابن2 الله} ونسبه الولد إليه تعالى كفر به عز وجل وبماله من جلال وكمال وقوله تعالى: {ذلك قولهم بأفواههم} أي ليس له من الواقع شيء إذ ليس لله تعالى ولد، وكيف يكون له ولد ولم تكن له زوجة، وإنما ذلك قولهم بأفواههم فقط {يضاهئون به3} أي يشابهون به {قول الذين كفروا من قبل} 4 وهم اليهود الأولون وغيرهم وقوله تعالى {قاتلهم الله أنى يؤفكون} دعاء عليهم باللعن والطرد من رحمة الله تعالى وقوله {أنى يؤفكون} أي كيف يصرفون عن الحق ويبعدون عنه بهذه الصورة العجيبة وقوله {اتخذوا أحبارهم5 ورهبانهم أرباباً من دون الله}6 هذا دليل آخر على كفرهم وشركهم إذ قبولهم قول علمائهم وعبادهم والإذعان
__________
1 قرأ عاصم {عزير} بالتنوين، وقرأ نافع بغير تنوين، وقوله تعالى {وقالت اليهود} هو كقوله تعالى: {الذين قال لهم الناس.. } فهو لفظ عام، والمراد به الخصوص إذ ما كلٌ اليهود قالوا بهذه القولة ولا كل الناس وإنما بعضهم.
2 في الآية دليل على أن حاكي الكفر، وهو منكر له بقلبه ولسانه لا يكفر.
3 يقال: امرأة ضهياً: للتي لا تحيض ولا ثدي لها كأنها أشبهت الرجل.
4 أي: شابه قولهم قول الكافرين من قبلهم وهم أسلافهم الذين قلدوهم أو قول العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله. تعالى الله عن البنت والولد علواً كبيراً.
5 الحِبر بكسر الحاء. المداد، وبفتحها العالم، والرهبان: جمع راهب مأخوذ من الرهبة، والراهب الحق. هو من حمله خوف الله على أن يخلص له النية في القول والعمل ويجعل زمانه له وعمله له وأنسه به.
6 روى الترمذي عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: "ما هذا يا عديّ أطرح عنك هذا الوثن" وسمعته يقرأ {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم} وسئل حذيفة رضي الله عنه عن قول الله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهباناهم أرباباً مر دون الله} هل عبدوهم؟ قال: لا ولكن أحلّوا لهم الحرام فاستحلوه وحرموا عليهم الحلال فحرموه.

له والتسليم به حتى أنهم ليحلون لهم الحرام فيحلونه ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه، شرك وكفر والعياذ بالله. وقوله {والمسيح1 ابن مريم} أي اتخذه النصارى رباً وإلهاً، وقوله تعالى {وما أمروا إلا ليبعدوا إلهاً واحداً} أي لم يأمرهم أنبياؤهم كموسى وعيسى وغيرهما إلا بعبادة الله تعالى وحده لا إله إلا هو ولا رب سواه وقوله {سبحانه عما يشركون} نزه تعالى نفسه عن شركهم. وقوله تعالى {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم} أي يريد اليهود والنصارى أن يطفئوا نور الله الذي هو الإسلام بأفواههم بالكذب والافتراء، والعيب والانتقاص، {ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون} 2، وقد فعل فله الحمد وله المنة، وأصبح الإسلام الظاهر على الأديان كلها، هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث أما الآية الرابعة (33) فقد أخبر تعالى أنه {هو الذي أرسل رسوله} أي محمداً {بالهدى} وهو القرآن {ودين الحق} الذي هو الإسلام. وقوله {ليظهره} أي الدين الحق الذي هو الإسلام {على الدين كله ولو كره المشركون}3 وقد فعل فالإسلام ظاهر في الأرض كلها سمع به أهل الشرق والغرب ودان به أهل الشرق والغرب وسيأتي يوم يسود فيه المسلمون أهل الدنيا قاطبة بإذن الله تعالى
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير كفر اليهود والنصارى بذكر عقائدهم الكفرية.
2- طاعة العلماء ورجال الدين طاعة عمياء حتى يحلوا ويحرموا فيتبعوا شرك.
3- بيان عداء اليهود والنصارى للإسلام وتعاونهم على إفساده وإفساد أهله.
4- بشرى المسلمين بأنهم سيسودون العالم في يوم من الأيام ويصبح الإسلام هو الدين الذي يعبد الله به في الأرض لا غيره، ويشهد لهذا آية {ويكون الدين كله لله} فلو لم يعلم الله أن ذلك كائن لم يجعله غاية وطالب بالوصول إليها.
__________
1 يطلق لفظ المسيح على العرق لأنه إذا سال يُمسح من الجبين قال أحدهم شعراً:
افرح فسوف تألف الأحزانا ... إذا شهدت الحشر والميزانا
وسال من جبينك المسيح ... كأنّه جداول تسيح
2 صحّ دخول "إلاّ" على الإثبات هنا لأنّ أبى يحذف معها الكلام فيقال: يأبي فلان كل شيء إلا أن يطاع مثلا. فمعنى الآية: يأبى الله كل شيء إلا أن يتم نوره.
3 شاهده: رواية أحمد: عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام بعزّ عزيز أو بذل ذليل إمّا يعزّهم الله فيجعلهم من أهلها وإمّا يذلهم فيدينون لها".

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ(35)
شرح الكلمات:
بالباطل: أي بدون حق أباح لهم أكلها.
ويصدون عن سبيل الله : أي يصرفون أنفسهم وغيرهم عن الإسلام الذي هو السبيل؟ المفضي بالعبد إلى رضوان الله تعالى.
يكنزون : يجمعون المال ويدفنونه حفاظاً عليه ولا يؤدون حقه.
الذهب والفضة: هما النقدان المعروفان.
في سبيل الله: أي حيث رضا الله كالجهاد وإطعام الفقراء والمساكين.
فبشرهم : أي أخبرهم بعذاب أليم: أي موجع.
يحمى عليها : لأنها تحول إلى صفائح ويحمى عليها ثم تكوى بها جباههم.
هذا ما كنزتم: أي يقال لهم عند كيهم بها: هذا ما كنزتم لأنفسكم توبيخاً لهم وتقريعاً.
معنى الآيتين:
بمناسبة ذكر عداء اليهود والنصارى للإسلام والمسلمين، وأنهم يريدون دوماً وأبداً

إطفاء نور الله بأفواههم، ذكر تعالى ما هو إشارة واضحة إلى أنهم ماديون لا همّ لهم إلا المال والرئاسة فأخبر المسلمين فقال {يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار} 1 وهم علماء اليهود {والرهبان} وهم رجال الكنائس من النصارى {ليأكلون أموال الناس بالباطل} كالرشوة، وكتابة صكوك الغفران يبيعونها للسفلة منهم، إلى غير ذلك من الحيل باسم2 الدين، وقوله تعالى عنهم {ويصدون عن3 سبيل الله} دليل واضح على أنهم يحاربون الإسلام باستمرار للإبقاء على مناصبهم الدينية يعيشون عليها يترأسون بها على السفلة والعوام من اليهود والنصارى، وقوله تعالى {والذين يكنزون الذهب والفضة}4 لفظ5 عام يشمل الأحبار والرهبان وغيرهم من سائر الناس من المسلمين ومن أهل الكتاب إلا أن الرهبان والأحبار يتناولهم اللفظ أولاً، لأن من يأكل أموال الناس بالباطل ويصد عن سبيل الله أقرب إلى أن يكنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله، وقوله تعالى لرسوله {فبشرهم بعذاب أليم} أي أخبرهم معجلاً لهم الخبر في صورة بشارة، وبين نوع العذاب الأليم بقوله {يوم يحمى عليها} أي صفائح الذهب والفضة بعد تحويلها إلى صفائح {في نار جهنم} فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم} أي من كل الجهات الأربع من أمام ومن خلف وعن يمين وعن شمال ويقال لهم تهكماً بهم وازدراء لهم وهو نوع عذاب أشد على النفس من عذاب الجسم (هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون}.
__________
1 الآية نزلت في أهل الكتاب كشفاً عن عوراتهم المادية، وأما قوله تعالى {والذين يكنزون الذهب والفضة ..} الخ فهو حكم عام يشمل المسلمين وأهل الكتاب.
2 قيل كانوا يأخذون من غلات أتباعهم ومن أموالهم ضرائب باسم حماية الدين والقيام بالشرع، وقلدهم الروافض، فإن أئمتهم يأخذون منهم ضرائب هي خمس دخل كل فرد من أي جهة كان هذا الدخل أخبرني بهذا أحد رجالهم في الكويت.
3 من صدّهم عن سبيل الله إنهم كانوا يمنعون أتباعهم من الدخول في الإسلام ومن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
4 دلت الآية على زكاة العين: الذهب والفضة وهي تجب بأربعة شروط الحرية، والإسلام، والحول، والنصاب السليم من الدين، والنصاب مائتا درهم فضة أو عشرون ديناراً من الذهب، ويكمل أحدهما من الآخر، ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم "ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول" رواه أبو داود. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس في أقل من مائتي درهم زكاة، وليس في أقل من عشرين ديناراً زكاة" في الصحيح.
5 روى أبو داود عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية {والذين يكنزون الذهب والفضة} قال كبر ذلك على المسلمين فقال عمر: أنا أفرج عنكم فانطلق قال: يا نبي الله إنه كبُر على أصحابك هذه الآية، فقال: "إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيّب ما بقى من أموالكم وإنما فرض المواريث في أموالكم لتكون لمن بعدكم فكبّر عمر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء: المرأة الصالحة: إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته".

هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- بيان حقيقة علماء اليهود والنصارى، وهي أنهم ماديون باعوا آخرتهم بدنياهم يحاربون الإسلام ويصدون عنه للمحافظة على الرئاسة وللأكل على حساب الإسلام.
2- حرمة أكل أموال الناس بالباطل.
3- حرمة جمع المال وكنزه وعدم الإنفاق منه.
4- المال الذي تؤدى زكاته كل حول لا يقال له كنز ولو دفن تحت الأرض.
5- بيان عقوبة من يكنز المال ولا ينفق منه في سبيل الله وهي عقوبة شديدة.
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(37)
شرح الكلمات:
عدة : أي عدد.

الشهور1 : جمع شهر والشهر تسعة وعشرون يوماً، أو ثلاثون يوماً
في كتاب الله : أي كتاب المقادير: اللوح المحفوظ.
أربعة حرم : هي رجب، والقعدة، والحجة، ومحرم، الواحد منها حرام والجمع حرم.
الدين القيم 2: أي الشرع المستقيم الذي لا اعوجاج فيه.
فلا تظلموا فيهن أنفسكم: أي لا ترتكبوا في الأشهر الحرم المعاصي فإنها أشد حرمة.
كافة : أي جميعاً وفي كل الشهور حلالها وحرامها.
مع المتقين: أي بالتأييد والنصّر، والمتقون هم الذين لا يعصون الله تعالى.
إنما النسيء: أي تأخير حرمة شهر المحرم إلى صفر.
يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً : أي النسيء عاماً يحلونه وعاماً يحرمونه.
ليواطئوا عدة ما حرم الله: أي ليوافقوا عدد الشهور المحرمة وهي أربعة.
زين لهم سوء عملهم: أي زين لهم الشيطان هذا التأخير للشهر الحرام وهو عمل سيء لأنه إفتيات على الشارع واحتيال على تحليل الحرام.
معنى الآيتين:
عاد السياق للحديث على المشركين بعد ذلك الاعتراض الذي كان للحديث عن أهل الكتاب فقال تعالى {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً} لا تزيد ولا تنقص، وأنها هكذا في اللوح المحفوظ {يوم خلق السموات والأرض}3 . وأن منها أربعة أشهر حرم أي محرمات وهي رجب، والقعدة والحجة ومحرم، وحرمها الله تعالى أي حرم القتال فيها لتكون هدنة يتمكن العرب معها من السفر للتجارة وللحج والعمرة ولا يخافون أحداً، ولما
__________
1 المراد بالشهور: ما تتألف منه السنة القمرية، واحدها: شهر، مشتق من الشهرة سميت به الأيام من أوّل ظهور الهلال إلى سراره.
2 أي: الصحيح، والإشارة في قوله: {ذاك الدين القيّم} إلى عدة الشهور، وتقسيمها إلى حُرم وغيرها وإلى عدم ارتكاب الذنوب فيها.
3 قوله: {يوم خلق السموات والأرض.. } قاله ليبيّن أن قضاء وقدره كان قبل ذلك وأنه سبحانه وتعالى وضع هذه الشهور وسمّاها بأسمائها يوم خلق السماوات والأرض.

جاء الإسلام وأعز الله أهله، نسخ حرمة القتال فيها. وقوله تعالى (ذلك الدين القيّم} أي تحريم هذه الأشهر واحترامها بعدم القتال فيها هو الشرع المستقيم وقوله تعالى {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} أي لا ترتكبوا الذنوب والمعاصي في الأشهر الحرم فإن ذلك يوجب غضب الله تعالى وسخطه عليكم فلا تعرضوا أنفسكم له، وقوله تعالى {وقاتلوا المشركين} هذا خطاب للمؤمنين يأمرهم تعالى بقتال المشركين بعد انتهاء المدة التي جعلت لهم وهي أربعة أشهر وقوله {كافة}1 أي جميعاً لا يتأخر منكم أحد كما هم يقاتلونكم مجتمعين على قتالكم فاجتعموا أنتم على قتالهم، وقوله {واعلموا أن الله مع المتقين} وهم الذين اتقوا الشرك والمعاصي ومعناه أن الله معكم بنصره وتأييده على المشركين العصاة وقوله عز وجل {إنما النسيء2 زيادة في الكفر} أي إنما تأخير حرمة محرم إلى صفر كما يفعل أهل الجاهلية ليستبيحوا القتال في الشهر الحرام بهذه الفُتيا الشيطانية هذا التأخير زيادة في كفر الكافرين3، لأنه محاربة لشرع الله وهي كفر قطعاً لقوله تعالى {يضل به الذين كفروا} آي بالنسيء يزدادون ضلالاً فوق ضلالهم. وقوله {يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً} يعني النسيء وهو الشهر الذي أخروه أي أخروا حرمته إلى الشهر الذي بعده ليتمكنوا من القتال في الشهر الحرام، فعاماً يحلون وعاماً يحرمون حتى يوافقوا عدة الأشهر الحُرُم، بلا زيادة ولا نقصان، ظناً منهم أنهم ما عصوا مستترين بهذه الفتيا الإبليسية كما قال تعالى {زين لهم سوء أعمالهم} والمزين للباطل قطعاً هو الشيطان. وقوله تعالى {والله لا يهدى القوم الكافرين} يخبر تعالى أنه عز وجل لا يهدي القوم الكافرين لما هو الحق والخير وذلك عقوبة لهم على كفرهم به وبرسوله، وإصرارهم على ذلك.
__________
1 كافة: معناه جميعاً، وهو مصدر في موضع الحال أي: محيطين بهم ومجتمعين. قالوا: نظير كافة: في كونه لا يبني ولا يجمع: عاقبة وعامة وخاصة.
2 قرأ الجمهور: {النسيء} مهموزاً وقرأ ورش: {النسيّ} بالياء المشددة، وهو فعيل بمعنى مفعول في قولك: نسأت الشيء أنسأه إذا أخّرته، فنقل من منسوء إلى نسيء كما نقل مفتول إلى فتيل لأنّه أخف، وأصل هذا التشريع الجاهلي: أنّ العرب قبل الإسلام كانوا أهل حروب فإذا احتاجوا إلى القتال في الشهر الحرام طلبوا من زعيمهم أن ينسيء المحرّم أي: يؤخره إلى صفر حتى يمكنهم الحرب في المحرم بعد الحج وما زالوا يؤخرون ويقدمون حتى اختلطت الشهور وأصبح رجب جمادى ورمضان شوال وهكذا، ودارت الشهور دورتها، وفي عام حجة الوداع أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" يريد أن الشهور قد رجعت إلى مواضعها، وأصبح كل شهر في موضعه فوقع حجّ النبي صلى الله عليه وسلم في موضعه.
3 إذ كفروا بالشرك وإنكار المعاد وتكذيب الرسل، ونسبة الولد لله تعالى ثم بالنسيء ازدادوا كفراً.

هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان أن شهور السنة الهجرية اثنا عشر شهراً1 وأيامها ثلثمائة2 وخمسة وخمسون يوماً.
2- بيان أن الأشهر الحرم أربعة وقد بينها الرسول صلى الله عليه وسلم وهي رجب، والقعدة والحجة ومحرم.
3- حرمة الأشهر ا الحرم، ومضاعفة السيآت فيها أي قبح الذنوب فيها.
4- صفة المعيّة لله تعالى وهي معية خاصة بالنصر والتأييد لأهل تقواه.
5- حرمة الاحتيال على3 الشرع بالفتاوى الباطلة لإحلال الحرام، وأن هذا الاحتيال ما هو إلا زيادة في الإثم.
6- تزيين الباطل وتحسين المنكر من الشيطان.
7- حرمان أهل الكفر والفسق من هداية الله تعالى وتوفيقه لما هو حق وخير حالاً ومآلاً.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ(38)
__________
1 وهي: محرم ويجمع على محرمات ومحارم ومحاريم، وصفر ويجمع على أصفار وربيع الأول ويجمع على أربعاء وأربعة وربيع الثاني وجمادى الأولى ويجمع على جُماديات وتذكر وتؤنث فيقال: الأولى والأول، وجمادى الآخرة والآخر، ورجب ويجمع على أرجاب ورجاب، وشعبان ويجمع على شعابين وشعبانات، ورمضان ويجمع على رمضانات، ورماضين وأرمضة وشوال ويجمع على شواول وشواويل وشوالات، القعدة ويجمع على ذوات القعدة والحِجة بكسر الحاء وفتحها ويجمع على ذوات الحجة.
2 وهي: الأحد ويجمع على آحاد وأوحاد ووحود، والاثنين ويجمع على أثانين، والثلاثاء يذكر ويؤنث ويجمع على ثلاثاوات وأثالث والأربعاء ويجمع على أربعاوات وأرابيع، والخميس ويجمع على أخمسة وأخامس، والجمعة بضم الميم وإسكانها وفتحها ويجمع على جمع وجمعات، والسبت ويجمع على سبوت كفتح وفتوح وأسبات كقمع وأقماع.
3 اختلف فيمن كان أوّل من نسأ فقيل عمرو بن لحي، وقيل: رجل من كنانة يقال له القلمّس قال شاعرهم:
ومنا ناسىء الشهر القلمّس
وقال الكميت:
ألسنا الناسئين على معد ...
شهور الحل نجعلها حراما

إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(40)
شرح الكلمات:
مالكم؟1 : أي أي شيء ثبت لكم من الأعذار.
انفروا : أي اخرجوا مستعجلين مندفعين.
اثاقلتم: أي تباطأتم كأنكم تحملون أثقالاً.
إلا تنصروه .: أي الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
ثاني اثنين: أي هو وأبو بكر رضي الله عنه.
في الغار: غار ثور أي في جبل يقال له ثور بمكة.
لصاحبه: هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
سكينتهُ: أي طمأنينته.
كلمة الذين كفروا: هي الدعوة إلى الشرك.
السفلى : أي مغلوبة هابطة لا يسمع لها صوت.
وكلمة الله هي العليا: أي دعوة التوحيد "لا إله إلا الله محمد رسول الله" هي العليا الغالبة الظاهرة.
__________
1 (ما): حرف استفهام ومعناه التقرير والتوبيخ.

معنى الآيات:
هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك فقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن هرقل ملك الروم قد جمع جموعه لحرب الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعلن النبي صلى الله عليه وسلم التعبئة العامة، وكان الزمن صيفاً حاراً وبالبلاد جدب ومجاعة، وكان ذلك في شوال من سنة تسع، وسميت هذه الغزوة بغزوة العسرة فاستحثَّ الربّ تبارك وتعالى المؤمنين ليخرجوا مع نبيهم لقتال أعدائه الذين عزموا على غزوه في عقر داره فأنزل تعالى قوله { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله} والقائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم {انفروا في سبيل الله} أي اخرجوا للجهاد {في سبيل الله} أي لأجل رضاه سبحانه وتعالى وما عنده من نعيم مقيم. وقوله {مالكم} أي أي شيء يجعلكم لا تنفرون؟ وأنتم المؤمنون طلاب الكمال والإسعاد في الدارين. وقوله {اثاقلتم إلى الأرض} 1 أي تباطأتم عن الخروج راضين ببقائكم في دوركم وبلادكم. {أرضيتم بالحياة الدنيا من2 الآخرة؟} ينكر تعالى على من هذه حاله منهم، ثم يقول لهم {فما متاع الحياة الدنيا} أي ما كل ما يوجد فيها من متع على اختلافها بالنسبة إلى ما في الآخرة من نعيم مقيم في جوار رب العالمين {إلا قليل} تافه لا قيمة له؛ فكيف تؤثرون القليل على الكثير والفاني على الباقي. ثم قال لهم {إلاّ تنفروا} أي إن تخليتم عن نصرته صلى الله عليه وسلم وتركتموه يخرج إلى قتال الروم وحده {يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم3 ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير}. وفي هذا الخبر وعيد شديد اهتزت له قلوب المؤمنين.
وقوله تعالى {إلا تنصروه} 4 أي إن خذلتموه ولم تخرجوا معه في هذا الظرف الصعب فقد نصره الله تعالى في ظرف أصعب منه نصره في الوقت الذي أخرجه الذين كفروا {ثاني اثنين} 5 أي هو وأبو بكر لا غير، {إذ هما في الغار} أي غار ثور، {إذ يقول
__________
1 أصل {اثاقلتم}: تثاقلتم فأدغمت التاء في الثاء لقرب مخرجهما وزيدت همزة الوصل للتوصل إلى النطق بالساكن ومثله: اداركوا وادّارأتم، واطيرنا، وازينت.
2 أي: أرضيتم بنعيم الدنيا وراحتها بدلاً من نعيم الآخرة وسعادتها.
3 أي: لا يقعدون عند استنفارهم للجهاد والخروج معه، وأنتم بتخلفكم لا تضرونه شيئاً، في الآية دليل على حرمة التثاقل عن الجهاد إذا كان مع كراهته ولا حرمة مع عدم الكراهة إلاّ أن يعيّنه الإمام فيجب.
4 أصلها إن الشرطية أدغمت فيها لا النافية، والآية تحمل عتاباً شديداً، ومعنى الآية: إن تركتم نصرته فقد تكفل الله بها.
5 أي: أحد اثنين كثالث ثلاثة ورابع أربعة.

لصاحبه}: لما قال لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا يا رسول الله، {لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه} فسكنت نفسه واطمأن وذهب الخوف من قلبه1، {وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا} وهي دعوتهم إلى الشرك جعلها {السفلى} مغلوبة هابطة {وكلمة الله} كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله {هي العليا} الغالبة الظاهرة {والله عزيز} غالب2 لا يغالب {حكيم} في تصرفه وتدبيره، ينصر من أراد نصره بلا ممانع ويهزم من أراد هزيمته بلا مغالب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الخروج إلى الجهاد إذا دعا الإمام بالدعوة العامة وهو ما يعرف بالتعبئة العامة أو النفير العام.
2- يجب أن يكون النفير في سبيل الله لا في سبيلٍ غير سبيله تعالى.
3- بيان حقارة الدنيا وضآلتها أمام الآخرة.
4- وجوب نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دينه في أمته في سنته.
5- شرف أبي بكر الصديق وبيان فضله.
6- الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(42) عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ
__________
1 أي: قلب أبي بكر رضي الله عنه.
2 إذ أحبط تعالى أعمال قريش في طلبها الرسول صلى الله عليه وسلم لتقتله حيث جعلت مائة ناقة لمن يأتيها برأسه وأنجى الله رسوله منهم وانتهى إلى المدينة ونصره عليهم.

صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ(43)
شرح الكلمات:
خفافاً وثقالاً: الخفاف جمع خفيف: وهو الشاب القوي البدن ذا الجدة من زاد ومركوب. والثقال جمع ثقيل: وهو الشيخ الكبير والمريض والفقير الذي لا جدة عنده.
ذلكم : أي الجهاد بالمال والنفس خير من التثاقل إلى الأرض وترك الجهاد حالاً ومآلاً.
عرضاً قريباً: غنيمة في مكان قريب غير بعيد.
أو سفراً قاصداً: أيما معتدلاً لا مشقة فيه.
الشقة : الطريق الطويل الذي لا يقطع إلا بمشقة وعناء.
عفا الله عنك : لم يؤاخذك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحث على الخروج إلى قتال الروم بالشام ففي هذه الآيات يأمر تعالى المؤمنين بالخروج إلى الجهاد على أي حال كان الخروج من قوة وضعف فليخرج الشاب القوي كالكبير العاجز الضعيف والغني كالفقير فقال تعالى {انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا1 بأموالكم وأنفسكم} أعداء الله الكافرين به وبرسوله حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية ويقبلوا أحكام الإسلام {ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} أي نفوركم للجهاد وقتالكم الكافرين إلى الانتهاء بهم إلى إحدى الغايتين خير لكم من الخلود إلى الأرض والرضا بالحياة الدنيا وهي متاع قليل، إن كنتم تعلمون ذلك، وقوله تعالى {لو كان عرضاً2 قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة}3 يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم لو كان
__________
1 الآية محكمة ولم تنسخ، والمراد منها: أن الإمام إذا أعلن عن النفير العام، وجب الإسراع إلى الخروج معه على أي حال من كبر وصغر وغنى وفقر.
2 العرض: ما يعرض من منافع الدنيا، والمراد به هنا: الغنيمة أي: لو كان الذي دعوا إليه عرضا قريبا أو كان الذي دعوا إليه سفراً قاصداً أي: سهلا معلوم الطرق لاتبعوك.
3 الشقة: بالضم: السفر إلى أرض بعيدة وهي هنا تبوك، نظير هذه الآية من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم أحدهم أنه يحد عظماً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء.." المرماة: ظلف الشاة.

أولئك المتخلفون عن الجهاد من المنافقين وضعفة الإيمان قد دعوتهم إلى عرض قريب أي غنيمة حاضرة أو إلى سفر سهل قاصد معتدل لاتبعوك وخرجوا معك، ولكن دعوتهم إلى تبوك وفي زمن الحر والحاجة فبعدت عليهم الشقة فانتحلوا الأعذار إليك وتخلفوا. وقوله تعالى {وسيحلفون بالله} أي لكم قائلين: لو استطعنا أي الخروج لخرجنا معكم.
قال تعالى {يهلكون أنفسهم} حيث يجلبون لها سخط1 الله وعقابه {والله يعلم إنهم لكاذبون} في كل ما اعتذروا به. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية (41- 42) وأما الآية الثالثة فقد تضمنت عتاب الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حيث أذن لمن طلب منه التخلف عن النفور والنهوض إلى تبوك وكان من السياسة الرشيدة عدم الإذن لأحد حتى يتميز بذلك الصادق من الكاذب قال تعالى {عفا الله عنك} 2 أي تجاوز عنك ولم يؤاخذك وقدم هذا اللفظ على العتاب الذي تضمنه الاستفهام {لم أذنت لهم} تعجيلاً للمسرة للنبي صلى الله عليه وسلم إذ لو أخر عن جملة العتاب لأوجد خوفاً وحزناً، وقوله تعالى {حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} علة للعتاب على الإذن للمنافقين3 بالتخلف عن الخروج إلى تبوك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إذا أعلن الإمام التعبئة العامة يحرم التخلف عن الجهاد ولا يقعد أحد، إلا بإذن لأجل علة قامت به فاستأذن فأذن له.
2- الجهاد كما يكون بالنفس يكون بالمال وهو خيرٌ من تركه حالاً ومآلاً.
3- الأيمان الكاذبة لإبطال حق أو إحقاق باطل توجب سخط الله تعالى وعذابه.
4- مشروعية العتاب للمحب.
5- جواز مخالفة الأولى على النبي صلى الله عليه وسلم لعدم علمه ما لم يعلِّمه الله تعالى.
__________
1 بسبب كذبهم ونفاقهم وأيمانهم الكاذبة.
2 أخبره بالعفو قبل العتاب رحمة به وإكراماً له، إذ لو قال له لِمَ أذنت لهم أوّلا لكان يطير قلبه صلى الله عليه وسلم من الفرق أي: الخوف.
3 هؤلاء قوم منافقون قالوا نستأذنه في القعود فإن أذن لنا قعدنا، وان لم يأذن لنا قعدنا. أمّا غير هؤلاء فقد رخّص له في الإذن لمن شاء في قوله: {فأذن لمن شئت منهم} من سورة النور.

لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ(44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ(45) وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ(46)
شرح الكلمات:
لا يستأذنك : أي لا يطلبون منك إذناً بالتخلف عن الجهاد.
وارتابت قلوبهم: أي شكت في صحة ما تدعو إليه من الدين الحق.
في ريبهم : أي في شكهم.
يترددون : حيارى لا يثبتون على شيء.
لأعدّوا له عدّة: لهيأوا له ما يلزم من سلاح وزاد ومركوب.
انبعاثهم: أي خروجهم معكم.
فثبطهم: ألقي في نفوسهم الرغبة في التخلف وحببه إليهم فكسلوا ولم يخرجوا
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن غزوة تبوك وأحوال المأمورين بالنفير فيها فبعد أن عاتب الله تعالى رسوله في إذنه للمتخلفين أخبره أنه لا يستأذنه1 المؤمنون الصادقون في أن يتخلفوا عن الجهاد بأموالهم وأنفسهم وإنما يستأذنه {الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر
__________
1 لا يستأذنه المؤمنون لا في القعود ولا في الخروج وإنما هم مع مراده صلى الله عليه وسلم فإذا أمر بأمر ابتدروه طاعة ومحبة ورغبة في رضا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وارتابت قلوبهم} في الإيمان بالله ورسوله ووعده ووعيده، فهم حيارى مترددون لا يدرون أين يتجهون وهي حالة المزعزع العقيدة كسائر المنافقين، وأخبره تعالى أنهم كاذبون في اعتذارا تهم إذ لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدته أي احضروا له أهبته من سلاح وزاد وراحلة ولكنهم كانوا عازمين على عدم الخروج بحال من الأحوال، ولو لم تأذن لهم بالتخلف لتخلفوا مخالفين قصدك متحدين أمرك. وهذا عائد إلى أن الله تعالى كره خروجهم لما فيه من الضرر والخطر فثبطهم بما ألقى في قلوبهم من الفشل رفي أجسامهم من الكسل كأنما قيل لهم اقعدوا مع القاعدين هذا ما دلت عليه الآية (44) {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدته ولكن كره الله انبعاثهم1 فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين 2} وقوله تعالى في ختام الآية الأولى (44) {والله عليم بالمتقين}3 فيه تقرير لعلمه تعالى بأحوال ونفوس عباده فما أخبر به هو الحق والواقع، فالمؤمنون الصادقون لا يطلبون التخلف عن الجهاد لإيمانهم وتقواهم، والمنافقون هم الذين يطلبون التخلف لشكهم وفجورهم والله أعلم بهم، ولا ينبئك مثل خبير.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- فضيلة الإيمان والتقوى إذ صاحبهما لا يمكنه أن يتخلف عن الجهاد بالنفس والمال.
2- خطر الشك في العقيدة وأنه سبب الحيرة والتردد، وصاحبه لا يقدر على أن يجاهد بمال ولا نفس.
3- سوابق الشر تحول بين صاحبها وبين فعل الخير.
__________
1 {انبعاثهم}: أي: خروجهم معك، ومعنى ثبَطهم: حبسهم عنك وخذلهم لأنهم قالوا: إن لم يأذن لنا في القعود أفسدنا بين صفوف المؤمنين.
2 القاعدون: هم أولو الضرر، والعميان والزمنى، والنساء والأطفال. والقائل لهم اقعدوا هو الرسول صلى الله عليه وسلم لما طلبوا منه الإذن بالقعود وجائز أن يكون قاله بعضهم لبعض أو قاله الرسول صلى الله عليه وسلم حال غضبه عليهم، أو هو تمثيل لخلق الله تعالى داعية القعود في قلوبهم حتى لا يخرجوا فيفسدوا.
3 فيه شهادة للمؤمنين الصادقين بالتقوى وهي دعامة الولاية الحقة لله تعالى، فالإيمان والتقوى بهما تثبت ولاية الله للعبد ومن والاه الله فلا خوف عليه ولا حزن.

لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ(47) لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ(48 )
شرح الكلمات:
لو خرجوا فيكم: أي مندسين بين رجالكم.
إلا خبالاً : الفساد في الرأي والتدبير.
ولأوضعوا خلالكم : أي لأسرعوا بينكم بالنميمة والتحريش والإثارة لإبقائكم في الفتنة.
وفيكم سماعون لهم: أي بينكم من يكثر السماع لهم والتأثر بأقوالهم المثيرة الفاسدة.
من قبل : أي عند مجئيك المدينة مهاجراً.
وقلّبوا لك الأمور: بالكيد والمكر والاتصال باليهود والمشركين والتعاون معهم.
وظهر أمر الله : بأن فتحت مكة ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
وهم كارهون: أي لمجيء الحق وظهور أمر الله بانتصار دينه.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم في فضح نوايا المنافقين وكشف الستار عنهم فقال تعالى {لو خرجوا فيكم}1 أيها الرسول والمؤمنون أي إلى غزوة تبوك {ما زادوكم إلا خبالاً}2 أي ضرراً وفساداً وبلبلة لأفكار المؤمنين بما ينفثونه من سموم القول للتخذيل والتفشيل،
__________
1 في هذا الإخبار الإلهي تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من أجل تخلف المنافقين عنهم.
2 الاستثناء منقطع أي: ما زادوكم قوة ولكن طلبوا الخبال لكم. والعادة: أن الاستثناء المنقطع يكون: بمعنى لكن إذ ليس هو جزء من المستثنى منه.

{ولأوضعوا}1 أي أسرعوا ركائبهم {خلالكم} أي بين صفوفكم بكلمات التخذيل والتثبيط {يبغونكم} بذلك {الفتنة} وهي تفريق جمعكم وإثارة العداوة بينكم بما يحسنه المنافقون في كل زمان ومكان من خبيث القول وفاسده وقوله تعالى {وفيكم سماعون لهم} أي وبينكم أيها المؤمنون ضعاف الإيمان يسمعون منكم وينقلون لهم أخبار أسراركم كما أن منكم من يسمع لهم ويطيعهم ولذا وغيره كره الله انبعاثهم وثبطهم فقعدوا مع القاعدين من النساء والأطفال والعجز والمرضى، وقوله تعالى {والله عليم بالظالمين} الذين يعملون على إبطال دينه وهزيمة أوليائه. فلذا صرفهم عن الخروج معكم إلى قتال أعدائكم من الروم والعرب المتنصرة بالشام. وقوله تعالى في الآية الثانية (48) {لقد ابتغوا الفتنة من قبل} بل من يوم هاجرت إلى المدينة ووجد بها الإسلام وهم يثيرون الفتن بين أصحابك للإيقاع بهم، وفي أحد رجع ابن أبي بثلث الجيش وهم بنو سلمة وبنو حارثة بالرجوع عن القتال لولا أن الله سلم {وقلبوا لك الأمور} 2 وصرفوها في وجوه شتى بقصد القضاء على دعوتك فظاهروا المشركين واليهود في مواطن كثيرة وكان هذا دأبهم {حتى جاء الحق} بفتح مكة {وظهر أمر الله} بدخول أكثر العرب في دين الله {وهم كارهون} لذلك بل أسفون حزنون، ولذا فلا تأسفوا على عدم خروجهم معكم، ولا تحفلوا به أو تهتموا له، فإن الله رحمة بكم ونصراً لكم صرفهم عن الخروج معكم. فاحمدوا الله وأثنوا عليه بما هو أهله، ولله الحمد والمنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجود منافقين في صفوف المؤمنين خطر عليهم وضرر كبير لهم فلذا ينبغي أن لا يُشركوا في أمر، وأن لا يعول عليهم في مهمة.
2- وجوب الأخذ بالحيطة في الأمور ذات البال والأثر على حياة الإسلام والمسلمين.
__________
1 الإيضاع: سرعة السير، يقال: أوضع يوضع إيضاعاً إذا أسرع في سيره. قال دريد بن الصمة:
يا ليتني فيها جذع ... أخبّ فيها وأضع
2 الأمور: جمع أمر وهو اسم مبهم كشيء، قال الشاعر:
*ولكن مقادير جرت وأمور*
والألف واللام للجنس: أي: أمور تعرفونها وأمور تنكرونها، وحتى: غائية لتقليبهم الأمور.

3- المنافق يسوءه عزة الإسلام والمسلمين ويحزن لذلك.
4- تدبير الله تعالى لأوليائه خير تدبير فلذا وجب الرضا بقضاء الله وقدره والتسليم به.
وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ(49) إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ(50) قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ(52)
شرح الكلمات:
ومنهم : أي من المنافقين وهو الجد بن قيس.
إئذن لي : أي في التخلف عن الجهاد.
ولا تفتني : أي لا توقعني في الفتنة بدعوى أنه إذا رأي نساء الروم لا يملك نفسه.
حسنة تسؤهم: الحسنة كل ما يحسن من نصر وغنيمة وعافية ومعنى تسؤهم أي يكربون لها ويحزنون.
قد أخذنا أمرنا من قبل : أي احتطنا للأمر ولذا لم نخرج معهم.
إحدى الحسنين: الأولى الظفر بالعدو والانتصار عليه والثانية الشهادة المورثة للجنة.

فتربصوا : أي انتظروا فإنا معكم من المنتظرين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك فيقول تعالى {ومنهم من يقول ائذن لي} أي في التخلف عن الجهاد، {ولا تفتني} بإلزامك لي بالخروج أي لا توقعني في الفتنة، فقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له. هل لك في1 بلاد بني الأصفر؟ فقال إني مغرم بالنساء وأخشى إن رأيت نساء بني الأصفر2 (وهم الروم) لا أصبر عنهن فأفتن، والقائل هذا هو الجد بن قيس أحد زعماء المنافقين في المدينة فقال تعالى دعاء عليه ورداً لباطله: {ألا في الفتنة سقطوا} وأي فتنة أعظم من الشرك والنفاق؟ {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} به وبأمثاله من أهل الكفر والنفاق، هذا ما دلت عليه الآية الأولى أما الآية الثانية (50) فقد تضمنت الكشف عما يقوله المنافقون في أنفسهم أنه إن تصب الرسول والمؤمنين حسنة من نصر أو غنيمة وكل حال حسنة يسؤهم ذلك أي يكربهم ويحزنهم، وإن تصبهم سيئة من هزيمة أو قتل وموت يقولوا فيما بينهم {قد أخذنا أمرنا} أي احتطنا للأمر فلم نخرج معهم {ويتولوا} راجعين إلى بيوتهم وأهليهم {وهم فرحون}. هذا ما تضمنته الآية التي هي قوله تعالى {إن تصبك حسنة3 تسؤهم، وان تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون}4 أما الآيتان الثالثة والرابعة (51- 52) فقد علم الله سبحانه وتعالى رسوله ما يقوله إغاظة لأولئك المنافقين وإخباراً لهم بما يسؤهم فقال {قل لن يصيبنا} أي من حسنة أو سيئة إلا ما كتب الله5 لنا وما يكتبه ربنا لنا لن يكون إلا خيراً لأنه مولانا {وعلى الله فيلتوكل المؤمنون} ونحن مؤمنون وعلى
__________
1 في رواية ياجَدُّ هل لك في جلاد بني الأصفر لتتخذ منهم سراري ووصفاء فقال الجد الخ.
2 قيل: سمي الروم بني الأصفر: لأن الحبشة غزتهم وسبتهم فنشأ جيل أصفر اللون بين البياض والسواد، وهو اللون الأصفر.
3 {إن تصبك حسنة} جملة شرطية وجملة {تسؤهم} جواب وجزاء لها كما أن جملة {وإن تصبهم} شرط، والجزاء {يقولوا} الخ.
4 {ويتولوا} أي: راجعين إلى بيوتهم ومجالسهم وهم كافرون، فهم متولون في الحقيقة عن الإيمان {فرحون} أي: معجبون بنجاحهم المؤقت.
5 أي: في اللوح المحفوظ الذي هو كتاب المقادير، أو هو ما أخبرنا به كتابه القرآن الكريم مِن أنّا إمّا نظفر فيكون الظفر حسنى لنا وإمّا أن نقتل فتكون الشهادة حسنى لنا.

ربنا متوكلون، وقال له: {قل هل تربصون بنا} 1 أي هل تنتظرون بنا إلا إحدى الحسنيين: 2 النصر والظهور على أهل الشرك والكفر والنفاق أو الاستشهاد في سبيل الله، ثم النعيم المقيم في جوار رب العالمين وعليه {فتربصوا إنا معكم متربصون} 3، وسوف لا نشاهد إلا ما يسرنا ويسوءكم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضيحة الجد بن قيس وتسجيل اللعنة عليه وتبشيره بجهنم.
2- بيان فرح المنافقين والكافرين بما يسوء المسلمين، وبيان استيائهم لما يفرح المسلمين وهي علامة النفاق البارزة في كل منافق.
3- وجوب التوكل على الله وعدم الاهتمام بأقوال المنافقين.
4- بيان أن المؤمنين بين خيارين في جهادهم: النصر أو الشهادة.
5- مشروعية القول الذي يغيط العدو ويحزنه.
قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ(53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ(54) فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ(55)
__________
1 التربص : الانتظار، والاستفهام للتوبيخ.
2 الحسنيان: هما الغنيمة والشهادة.
3 {فتربصوا} هذا الأمر للتهديد والوعيد، كأنما يقول لهم: انتظروا مواعد الشيطان فإنا مُنتظرون مواعد الرحمن، وشتان بين ما ننتظر وما تنتظرون!!

شرح الكلمات:
طوعاً أو كرهاً .: أي وأنتم طائعون أو أنتم مكرهون على الإنفاق.
إنكم كنتم قوماً فاسقين: الجملة علة لعدم قبول نفقاتهم.
كسالى: متثاقلون لعدم إيمانهم في الباطن بفائدة الصلاة.
فلا تعجبك أموالهم: أي لا تستحسنوا أيها المسلمون ما عند المنافقين من مال وولد.
وتزهق أنفسهم: أي تفيض وتخرج من أجسامهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تعليم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم كيف يرد على المنافقين فقال له قل لهم أيها الرسول {انفقوا}1 حال كونكم طائعين أو مكرهين {لن يتقبل منكم}، أي أخبرهم أن ما ينفقونه في هذا الخروج إلى تبوك وفي غيره سواء أنفقوه باختيارهم أو كانوا مكرهين عليه لن يتقبله الله منهم لأنهم2 كانوا قوماً فاسقين بكفرهم بالله وبرسوله وخروجهم عن طاعتهما. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (53) أما الآية الثانية (54) فقد أخبر تعالى عن الأسباب الرئيسية التي حالت دون قبول نفقاتهم وهى أولاً الكفر بالله وبرسوله، وثانياً إتيانهم الصلاة وهم كسالى كارهون، وثالثاً كراهيتهم الشديدة لما ينفقونه قال تعالى {وما منعهم3 أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى4 ولا ينفقون إلا وهم كارهون}5 هذا ما تضمنته الآية الثانية أما الآية الثالثة (55) فإن الله تعالى ينهى رسوله والمؤمنين عن أن تعجبهم أموالهم وأولادهم مهما بلغت في الكثرة والحسن فيقول {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم} أي لا تستحسنوها ولا تخبروهم بذلك. وبين تعالى لرسوله
__________
1 روي أن هذه الآية نزلت في الجد بن قيس إذ هو الذي قال للرسول صلى الله عليه وسلم إئذن لي في القعود عن الخروج إلى قتال الروم وهذا مالي أعينك به والأمر في قوله: {انفقوا} للتسوية أي: انفقوا أولا تنفقوا فكلا الأمرين سواء، في عدم قبول ما تنفقون.
2 الجملة تعليلية أي: قوله: {لن يتقبل منكم} الخ ذكرت تعليلاً لعدم قبول ما ينفقون.
3 هذا بيان للتعليل السابق في عدم قبول نفقاتهم مع ذكر أسباب أخرى حالت دون قبول ما ينفقون.
4 قال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا كان في جماعة صلى وإذا انفرد لم يصل. أي: المنافق لأنه لا يرجو على الصلاة ثواباً، ولا يخشى على تركها عقاباً وهذا منشأ الكسل في الصلاة وغيرها من سائر العبادات.
5 هنا مسألتان: الأولى: أنّ من مات على الكفر لا ينفعه ما عمله في الدنيا من خير إلاّ انه يخفف عنه العذاب لحديث أبي طالب، وأنه في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه. كما أنه قد يكون سبباً في سعة رزقه في الدنيا للحديث، وأما الكافر فيطعم. الثانية أن من أسلم منهم يثاب على ما عمله من الخير أيام كفره.

علة إعطائهم ذلك وتكثيره لهم فقال {إنما يريد الله ليعذبهم1 بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} ووجه تعذيبهم بها في الحياة الدنيا أن ما ينفقونه من المال في الزكاة والجهاد يشعرون معه بألم لا نظير له لأنه إنفاق يعتبرونه ضدهم وليس في صالحهم إذ لا يريدون نصر الإسلام ولا ظهوره، وأما أولادهم فالتعذيب بهم هو أنهم يشاهدونهم يدخلون في الإسلام ويعملون به ولا يستطيعون أن يردوهم عن ذلك، أيّ ألَمٌ نفسي أكبر من أن يكفر ولد الرجل بدينه ويدين بآخر من شروطه أن يبغض الكافر به ولو كان أباً أو أماً أو أخاً أو أختاً أو أقرب قريب؟ وزيادة على هذا يموتون وهم كافرون فينتقلون من عذاب إلى عذاب أشد، وبهذا سلى الرب تعالى رسوله والمؤمنين بيان علة ما أعطى المنافقين من مال وولد ليعذبهم بذلك لا ليسعدهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ أن الرياء مبطلة للعمل كالشرك محبط للعمل2.
2- إطلاق الفسق على الكفر فكل كافر فاسق على الإطلاق.
3- حرمة التكاسل في الصلاة وأن ذلك من صفات المنافقين.
4- وجوب رضا النفس بما ينفق العبد في سبيل الله زكاة أو غيرها.
5- كراهية استحسان المسلم لِمَا عند أهل الفسق والنفاق من مال ومتاع.
وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ(56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ(57) وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ
__________
1 فعل الإرادة يعني بنفسه تقول: أردت خيراً، وعدي هنا بللام لأجل التعليل كقول الشاعر:
أريد لأنسي حبها فكأنما ... تمثل لي ليلي بكل مكان
2 لقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} الآية، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في عبدالله بن جدعان وقد قالت له عائشة رضي الله عنها يا رسول الله أن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال :"لا ينفعه لأنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" رواه مسلم.

فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ(58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ(59)
شرح الكلمات:
وما هم منكم: أي في باطن الأمر لأنهم كافرون ووجوههم وقلوبهم مع الكافرين.
يفرقون : أي يخافون خوفاً شديداً منكم.
ملجأ : أي مكانا ًحصيناً يلجأون إليه.
أو مغارات: جمع مغارة وهي الغار في الجبل.
أو مدخلاً: أي سرباً في الأرض يستتر فيه الخائف الهارب.
يجمحون: يسرعون سرعة تتعذر مقاومتها وإيقافها.
يلمزك : أي يعيبك في شأن توزيعها ويطعن فيك.
إذا هم يسخطون : أي غير راضين.
حسبنا الله : أي كافينا الله كل ما يهمنا.
إلى الله راغبون: إلى الله وحده راغبون أي طامعون راجون.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في هتك أستار المنافقين وإظهار عيوبهم وكشف عوراتهم ليتوب منهم من أكرمه الله بالتوبة فقال تعالى عنهم {ويحلفون بالله إنهم لمنكم}1 أي من أهل ملتكم ودينكم، {وما هم منكم} أي في واقع الأمر إذ هم كفار منافقون {ولكنهم قوم يفرقون} أي يخافون منكم خوفاً شديداً فلذا يحلفون لكم إنهم منكم لتؤمنوهم على أرواحهم وأموالهم، ولبيان شدة فرقهم منكم وخوفهم من سيوفكم قال تعالى: {لو يجدون
__________
1 لأنهم يتخذون أيمانهم الكاذبة وقاية يتقون بها ما يخافونه من بطش المؤمنين بهم إذا عرفوا أنهم كافرون كما قال تعالى من سورتهم {اتخذوا أيمانهم جنّة}.

ملجأ}1 أي حصناً {أو مغارات} أي غيراناً في جبال {أو مدخلاً}2 أي سرباً في الأرض {لولوا} أي أدبروا إليها {وهم يجمحون}3 أي مسرعين ليتمنعوا منكم. هذا ما دلت عليه الآية الأولى والثانية أما الآية الثالثة والرابعة (58- 59) فقد أخبر تعالى أن من المنافقين من يلمز الرسول صلى الله عليه وسلم أي يطعن فيه ويعيبه في شأن قسمة الصادقات وتوزيعها فيتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لا يعدل في القسمة فقال تعالى {ومنهم من يلمزك4 في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا} أ ي عن الرسول وقسمته {وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} هذا ما تضمنته الآية (58) وأما الآية الأخيرة (59) فقد أرشدهم الله تعالى إلى ما كان ينبغي أن يكونوا عليه فقال عز وجل {ولو أنهم رضوا5 ما أتاهم الله ورسوله}، أي من الصدقات {وقالوا حسبنا الله} أي كافينا الله {سيؤتينا الله من فضله} الواسع العظيم ورسوله بما يقسم علينا ويوزعه بيننا {إنا إلى الله} وحده {راغبون} طامعون راجعون أي لكان خيراً لهم وأدْرَكَ لحاجتهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:.
1- الأَيمان الكاذب شعار المنافقين وفي الحديث آية المنافق ثلاث: (إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أتمن خان).
2- الجبن والخور والضعف والخوف من لوازم الكفر والنفاق.
3- عيب الصالحين والطعن فيهم ظاهرة دالة على فساد قلوب ونيات من يفعل ذلك.
4- مظاهر الرحمة الإلهية تتجلى في إرشاد المنافقين إلى أحسن ما يكونوا عليه ليكملوا
__________
1 الملجأ مكان اللجأ يقال لجأت إلى كذا: إذا أويت إليه واعتصمت به وألجأت أمري إليه أي: أسندته.
2 المدخل: مفتعل اسم كان للإدّخال الذي هو افتعال من الدخول قلبت فيه تاء الافتعال دالاً لوقوعها بعد الدال فصارت مدخلاً بدل متدخل، ونظيره. إدّان أصلها إتدان، وقرأها يعقوب وحده أو مدخلاً بفتح الميم وإسكان الدال اسم مكان هي دخل.
3 الجموح: نفور في إسراع.
4 روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى بعض رعاة الغنم شيئاً لفقرهم فطعن أبو الحواظ المنافق فقال: ما هو بالعدل كيف يضع صدقاتكم في رعاء الغنم إعانة لهم. كما أنّ ذا الخويصرة التميمي واسمه حرفوص بن زهير وهو أصل الخوارج قال للرسول صلى الله عليه وسلم: اعدل يا رسول الله فقال له: "ويلك ومَن يعدل إذا لم اعدل" فنزلت الآية وقال عمر دعني أضرب عنقه يا رسول الله فقال رسول الله: "معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي".
5 جواب لو محذوف تقديره: لكان خيراً لهم، وهو مذكور في التسفير في آخر الحديث.

ويسعدوا في الدارين.
5- لا كافي إلا الله، ووجوب انحصار الرغبة فيه تعالى وحده دون سواه.
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(60)
شرح الكلمات:
الصدقات: جمع صدقة وهي هنا الزكاة المفروضة في الأموال.
للفقراء : جمع فقير وهو من ليس له ما يكفيه من القوت ولا يسأل الناس.
والمساكين: جمع مسكين وهو فقير ليس له ما يكفيه ويسأل الناس ويذل نفسه السؤال.
والعاملين عليها: أي على جمعها وجابتها وهم الموظفون لها.
والمؤلفة قلوبهم : هم أناس يرجى إسلامهم أو بقاؤهم عليه إن كانوا قد أسلموا وهم ذوو شأن وخطر ينفع الله بهم إن أسلموا وحسن إسلامهم.
وفي الرقاب : أي في فك الرقاب أي تحريرها من الرق، فيعطى المكاتبون ما يسددون به نجوم أو أقساط كتابتهم.
وفي سبيل الله: أي الجهاد لإعداد العدة وتزويد المجاهدين بما يلزمهم من نفقة.
وابن السبيل : أي المسافر المنقطع عن بلاده ولو كان غنياً ببلاده.
فريضة من الله: أي فرضها أدته تعالى فريضة على عباده المؤمنين.
معنى الآية الكريمة:
بمناسبة لمز المنافقين الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن في قسمته الصدقات بين تعالى في هذه الآية الكريمة أهل الصدقات المختصين بها والمراد بالصدقات الزكوات وصدقة التطوع

فقال عز وجل {إنما الصدقات} محصورة في الأصناف الثمانية التي تذكر وهم:
(1) الفقراء1 وهم المؤمنون الذين لا يجدون ما يسد حاجتهم الضرورية من طعام وشراب وكساء ومأوى.
(2) المساكين2 وهم الفقراء الذين لا يجدون ما يسد حاجتهم ولم يتعففوا3 فكانوا يسألون الناس ويظهرون المسكنة4 لهم والحاجة.
(3) الموظفين فيها من سعاة جباة وأمناء وكتاب وموزعين يعطون على عملهم فيها أجرة أمثالهم في العمل الحكومي.
(4) المؤلفة قلوبهم وهم من يرجى نفعهم للإسلام والمسلمين لمناصبهم وشوكتهم في أقوامهم، فيعطون من الزكاة تأليفاً أي جمعاً لقلوبهم على الإسلام ومحبته ونصرته ونصرة أهله، وقد يكون أحدهم يسلم بعد فيعطى ترغيباً له في الإسلام، وقد يكون مسلماً لكنه ضعيف الإسلام فيعطى تثبيتاً له وتقوية على الإسلام.
(5) في الرقاب وهو مساعدة المكاتبين على تسديد أقساطهم ليتحرروا أما شراء عبد بالزكاة وتحريره فلا يجوز لأنه يعود بالنفع على دافع الزكاة لأن ولاء المعتوق له.
(6) الغارمين جمع غارم وهو من ترتبت عليه ديون بسبب ما أنفقه في طاعة الله تعالى على نفسه وعائلته، ولم يكن لديه مال لا نقد ولا عرض يسدد به ديونه.
(7) في سبيل الله وهو تجهيز الغزاة والإنفاق عليهم تسليحاً وإركاباً وطعاماً ولباساً.
(8) ابن السبيل وهم المسافرون ينزلون ببلد وتنتهي نفقتهم فيحتاجون فيعطون من الزكاة
__________
1 قيل: الفقير هو صفة مشبهة من الفقر أي المتصف بالفقر وهو: عدم امتلاك ما به الكفافة لحاجته المعاشية وضده الغنى، والمسكين: ذو المسكنة وهي المذلة التي تحصل بسبب الفقر، والفقير والمسكين يغني ذكر أحدهما عن الآخر، أمّا إذا ذكراً معاً فلكلّ واحد حقيقة كما تقدم، وفي أيّهما أشدّ فقراً خلاف، وأحسن ما قيل هو أن الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه، والمسكين: الذي لا شيء له.
2 قال القرطبي: فائدة الخلاف في الفقراء والمساكين تظهر فيمن أوصى بثلث ماله لفلان وللفقراء والمساكين فمن قال هما صنف واحد يكون الثلث الموصى به نصفه لفلان ونصفه الآخر للفقراء، ومن قال: هما صنفان يقسم الثلث الموصى به بينهم أثلاثاً.
3 اختلف في حالة الفقر التي يصح للفقير أن يأخذ معها الزكاة، فمن قائل إن لم يكن له مائتا درهم جاز له أخذ الزكاة، ومن قائل: خمسون درهماً ومن قائل: أربعون درهماً. ومن قائل: من كان قوياً على الكسب لقوة بدنه فلا يعطى الزكاة لحديث: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرّة سوي".
4 ورد الوعيد الشديد فيمن يطلب الصدقة وهو غني عنها من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار" رواه أبو داود. قالت العلماء: إن الذي له شبع يوم وليلة لا يحل له أن يسأل. اختلف في نقل الزكاة من بلد إلى بلد، والراجح: الجواز لضرورة الفقر وشدته.

ولو كانوا أغنياء ببلادهم.
وقوله تعالى {فريضة من الله }1 أي هذه الصدقات وقسمتها على هذا النحو جعله الله تعالى فريضة لازمة على عباده المؤمنين. وقوله {والله عليم} أي بخلقه وأحوالهم {حكيم} في شرعه وقسمته، فلذا لا يجوز أبداً مخالفة هذه القسمة فلا يدخل أحد فيعطى من الزكاة وهو غير مذكور في هذه الآية وليس شرطاً أن يعطى كل الأصناف فقد يعطى المرء زكاته كلها في الجهاد أو في الفقراء والمساكين، أو في الغارمين أو المكاتبين وتجزئة وإن كان الأولى أن يقسمها بين الأصناف المذكورة من وجد منها، إذ قد لا توجد كلها في وقت واحد.
هداية الآية
من هداية الآية.:
1- تقرير فرضية الزكاة.
2- بيان مصارف الزكاة.
3- وجوب التسليم لله تعالى في قسمته بعدم محاولة الخروج عنها.
4- إثبات صفات الله تعالى وهي هنا: العلم والحكمة، ومتى كان الله تعالى عليماً بخلقه وحاجاتهم حكيماً في تصرفه وشرعه وجب التسليم لأمره والخضوع له بالطاعة والانقياد.
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(61) يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ(62) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ
__________
1 {فريضة} منصوب على المصدر المؤكد إذ تقدير الكلام: إنما فرض الله الصدقات للفقراء والمساكين الخ.. فريضة منه تعالى وهو العليم بخلقه الحكيم في تدبيره وصنعه.

مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ(63)
شرح الكلمات.
يؤذون النبي : أي الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم، والأذى المكروه يصيب الإنسان كثيراً أو يسيراً.
هو أذن : أي يسمع من كل من يقول له ويحدثه وهذا من الأذى.
قل أذن خير لكم: أي هو يسمع من كل من يقول له لا يتكبر ولكن لا يقر إلا الحق ولا يقبل إلا الخير والمعروف فهو إذن خير لكم لا إذن شر مثلكم أيها المنافقون.
ويؤمن للمؤمنين: أي يصدق المؤمنين الصادقين من المهاجرين والأنصار أما غيرهم فإنه وإن يسمع منهم لا يصدقهم لأنهم كذبة فجرة.
والله.: أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه.
من يُحادد الله ورسوله : أي يعاديهما، ويقف دائماً في حدّ وهما في حد فلا ولاء ولا موالاة أي لا محبة ولا نصرة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في هتك أستار المنافقين وبيان فضائحهم قال تعالى: {ومنهم 1 الذين يؤذون النبي} أي من المنافقين أفراد يؤذون النبي بالطعن فيه وعيبه بما هو براء منه، ويبين تعالى بعض ذلك الأذى فقال {ويقولون هو أذن} أي يسمع كل ما يقال له، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يقر سماع الباطل أو الشر أو الفساد، وإنما يسمع ما كان خيراً ولو كان من منافق يكذب ويحسن القول. وأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم بقوله {قل أذن خير2 لكم} يسمع ما فيه خير لكم، ولا يسمع ما هو شر لكم. إنه لما كان لا يواجههم بسوء صنيعهم،
__________
1 قيل هذه الآية نزلت في عتاب بن قشير إذ قال: إنما محمد أذن يقبل كل ما قيل له. وقيل: نزلت في نبتل بن الحارث الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث" وكان ماكراً خبيثاً مشوّه الخلقة.
2 قرىء بالرفع والتنوين {أذنٌ خيرٌ لكم } قرأ الجمهور بالإضافة {أذن خيرٍ}.

وقبح أعمالهم حملهم هذا الجميل والإحسان على أن قالوا: {هو أذن} طعناً فيه صلى الله عليه وسلم وعيباً له. وقوله تعالى {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين } هذا من جملة ما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول للمنافقين رداً على باطلهم. أنه صلى الله عليه وسلم يؤمن بالله رباً وإلهاً، {ويؤمن للمؤمنين} أي بصدقهم فيما يقولون وهذا من خيريّته صلى الله عليه وسلم وقوله {ورحمة1 للذين آمنوا منكم} أيضاً من خيريّته فهو صلى الله عليه وسلم رحمة لمن آمن به واتبع النور الذي جاء به فكمل عليه وسعد به في حياتيه. وقوله تعالى {والذين يؤذون رسول الله} أي بأي نوع من الأذى قل أو كثر توعدهم الله تعالى بقوله {لهم عذاب أليم} وهو لا محالة نازل بهم وهم ذائقوه حتماً هذا ما دلت عليه الآية الأولى (61) أما الآية الثانية (62) فقد أخبر تعالى عن المنافقين أنهم يحلفون للمؤمنين بأنهم ما طعنوا في الرسول ولا قالوا فيه شيئاً يريدون بذلك إرضاء المؤمنين حتى لا يبطشوا بهم انتقاماً لكرامة نبيهم قال تعالى {يحلفون بالله2 لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق3 أن يرضوه إن كانوا مؤمنين} أي فبدل أن يرضوا المؤمنين كان الواجب أن يرضوا الله تعالى بالتوبة إليه ويرضوا الرسول بالإيمان ومتابعته إن كانوا كما يزعمون أنهم مؤمنون.
وقوله في الآية الثالثة (63) {ألم يعلموا4 أنه من يحادد الله ورسوله} أي يشاقهما ويعاديهما فإن له جزاء عدائه ومحاربته نار جهنم خالداً فيها {ذلك الخزي العظيم} أي كونه في نار جهنم خالداً فيها لا يخرج منها هو الخزي العظيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
__________
1 أي: وهو رحمة. على أنّ رحمة: خبر لمبتدأ محذوف وقرىء: ورحمةٍ بالجر عطفا على {خيرٍ لكم} وفيه بُعدٌ كبير.
2 روي أنّ نفراً من المنافقين منهم الجلاس بين سويد ووديعة بن ثابت فقالوا: إن كان ما يقول محمد حقاً لنحن شرّ من الحمير وبينهم غلام فغضب لقولهم هذا وأخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فكذبوه في قوله فأنزل الله تعالى هذه الآية: {سيحلفون بالله لكم..} الخ.
3 قال سيبويه : تقدير الكلام، والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه ثم حذف طلباً للإيجاز كما قال الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
والحامل على هذا التقدير لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرض بقول الرجل: ما شاء الله وشئت فقال له : "قل ما شاء الله وحده" لأنّ العطف بالواو لا يقتضي الترتيب.
4 الاستفهام للإنكار والتوبيخ والمعنى : ألم يعلموا شأناً عظيماً هو من يجادل الله ورسوله له نار جهنم، والسحادة، المعاداة والمشاقة كأنّ كل واحد واقف في حدّ لا يتصل بالآخر، والفاء في {فأن له } لربط جواب شرط {من} وأعيدت أنّ في الجواب لتوكيد أنّ المذكورة قبل الشرط توكيداً لفظياً.

1- حرمة أذية رسول الله بأي وجه من الوجوه.
2- كون النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للمؤمنين دعوة للإيمان والإسلام.
3- توعد الله تعالى من يؤذى رسوله بالعذاب الأليم دليل على كفر من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4- بيان كذب المنافقين وجبنهم حيث يحلفون1 للمؤمنين أنهم ما طعنوا في الرسول وقد طعنوا بالفعل، وإنما حلفهم الكاذب يدفعون به غضب المؤمنين والانتقام منهم.
5- وجوب طلب رضا الله تعالى بفعل محابه وترك مساخطه.
6- ترعد من يحادد الله ورسوله بالعذاب الأليم.
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ(64) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ(65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ(66)
شرح الكلمات:
يحذر المنافقون : أي يخافون ويحترسون.
تنزَّل عليهم سورة : أي في شأنهم فتفضحهم بإظهار عيبهم.
__________
1 في الآية دليل جواز الحلف بالله وعدم جواز الحلف بغيره لقول الرسول صلى الله عليه وسلم "من حلف فليحلف بالله أو ليصمت ومن حلف له فليصدق".

تنبّئهم بما في قلوبهم : أي تخبرهم بما يضمرونه في نفوسهم.
قل استهزئوا : الأمر هنا للتهديد.
مخرج ما تحذرون : أي مخرجه من نفوسكم مظهره للناس أجمعين.
نخوض ونلعب : أي نخوض في الحديث على عادتنا ونلعب لا نريد سباً ولا طعناً.
تستهزئون : أي تسخرون وتحتقرون.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن المنافقين لكشف الستار عنهم وإظهارهم على حقيقتهم ليتوب منهم من تاب الله عليه قال تعالى مخبراً عنهم {يحذر1 المنافقون أن تنزّل عليهم2 سورة تنبئّهم بما في قلوبهم} أي يخشى المنافقون أن تنزل في شأنهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم {سورة تنبئههم} أي تخبرهم بما في قلوبهم فتفضحهم، ولذا سميت هذه السورة بالفاضحة3 وقوله تعالى لرسوله {قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون} يهددهم تعالى بأن الله مخرج ما يحذرون إخراجه وظهوره مما يقولونه في خلواتهم من الطعن في الإسلام وأهله. وقوله تعالى {ولئن سألتهم} أي عما قالوا من الباطل. لقالوا {إنما كنا نخوض ونلعب4} لا غير. قل لهم يا رسولنا {أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون} وذلك أن نفراً من المنافقين في غزوة تبوك قالوا في مجلس لهم: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أحذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآيات: وجاءوا يعتذرون لرسوله الله فأنزل الله { لا تعتذروا5 قد كفرتم بعد إيمانكم} أي الذي كنتم تدعونه، لأن الاستهزاء بالله والرسول والكتاب كفر مخرج من الملة، وقوله تعالى {إن
__________
1 يروى أن أحد المنافقين قال: والله وددت لو أني قُدّمت فجُلدت مائة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا فنزلت الآية: {يحذر المنافقون..} وهي خبر وإن قال بعضهم هي إنشاء بمعنى: ليحذر المنافقون.
2 معلوم أن القرآن ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله :{عليهم} بمعنى المؤمنين لأنهم والرسول في جانب والمنافقون في آخر، فصحّ أن يقال: تنزل على المؤمنين، والرسول معهم، وهو المختص بالوحي.
3 وسميت أيضاً: المثيرة ، والمبعثرة ، والحفارة لأنها أثارت كامن المنافقين وبعثرته وحفرت ما في قلوبهم وأخرجته.
4 ذكر الطبري أنّ قائل هذه المقالة: وديعة بن ثابت قال ابن عمر: رأيته معلقاً بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يماشيها والحجارة تنكبه وهو يقول: إنّما كنّا نخوض ونلعب والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون.
5 {لا تعتذروا} نهاهم عن الاعتذار لأنه غير نافع لهم ولا مجدٍ واعتذر بمعنى: أعذر أي صار ذا عذر، والاعتذار محو أثر الموجدة أو هو القطع، أي قطع ما في القلب من الموجدة، ومنه قيل: عدرة الغلام: وهو ما يقطع منه عند الختان.

نعف عن طائفة منكم} لأنهم يتوبون كمخشي بن حمير1، {نعذب طائفة} أخرى لأنهم لا يتوبون وقوله تعالى {بأنهم كانوا مجرمين} علة للحكم بعذابهم وهو إجرامهم بالكفر والاستهزاء بالمؤمنين إذ من جملة ما قالوه: قولهم في الرسول صلى الله عليه وسلم يظن هذا يشيرون إلى النبي وهم سائرون يفتح قصور الشام وحصونها فأطلع الله نبيه عليهم فدعاهم فجاءوا واعتذروا بقولهم إنا كنا نخوض2 أي في الحديث ونلعب تقصيراً للوقت، ودفعاً للملل عنا والسآمة فأنزل تعالى {قل أبالله} الآية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الكشف عن مدى ما كان يعيش عليه المنافقون من الحذر والخوف.
2- كفر من استهزأ بالله أو آياته أو رسوله.
3- لا يقبل اعتذار 3من كفر بأي وجه وإنما التوبة أو السيف فيقتل كفراً.
4- مصداق ما أخبر به تعالى من أنه سيعذب طائفة فقد هلك عشرة بداء الدبيلة "خراج يخرج من الظهر وينفذ ألمه إلى الصدر فيهلك صاحبه حتماً".
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(67) وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ
__________
1 هو مخشي بن حمير الأشجعي وقد تاب عند سماعه هذه الآية وحسن إسلامه.
2 الخوص: الدخول في الماء، نم استعمل في كل دخول فيه تلويث وأذى.
3 اختلف العلماء في الهزل في سائر الأحكام كالبيع والنكاح والطلاق على ثلاثة أقوال لا يلزم مطلقاً، يلزم مطلقاً، التفرقة بين البيع وغيره، وهدا الراجح، لأنّ النكاح والطلاق والعتاق ورد فيها النص من السنة لحديث الترمذي وحسنه مع وصفه بالغرابة وبه العمل عد جماهير الصحابة والتابعين والفقهاء وهو: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة" وحديث الموطأ: "ثلاث ليس فيهن لعب: النكاح والطلاق والعتق".

فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ(68) كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(70)
شرح الكلمات:
المنافقون : أي الذين يظهرون للمؤمنين الإيمان بألسنتهم ويسترون الكفر في قلوبهم.
بعضهم هن بعض1: أي متشابهون في اعتقادهم وقولهم وعملهم فأمرهم واحد.
بالمنكر: أي ما ينكره الشرع لضرره أو قبحه وهو الكفر بالله ورسوله.
عن المعروف: أي ما عرفه الشرع نافعاً فأمر به من الإيمان والعمل الصالح.
يقبضون أيديهم : أي يمسكونها عن الإنفاق في سبيل الله.
نسوا الله فنسيهم : أي تركوا الله فلم يؤمنوا به وبرسوله فتركهم وحرمهم من توفيقه وهدايته.
عذاب مقيم: أي دائم لا يزول ولا يبيد.
__________
1 {بعضهم من بعض}: أي: هم كالشيء الواحد في الخروج عن الدين، أو هم متشابهون في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.

بخلاقهم : أي بنصيبهم وحظهم من الدنيا.
وخضتم : أي في الكذب والباطل.
والمؤتفكات : أي المنقلبات حيث صار عاليها سافلها وهي ثلاث مدن1.
بالبينات : الآيات الدالة على صدقهم في رسالاتهم إليهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في هتك استار المنافقين وبيان فضائحهم لعلهم يتوبون. قال تعالى {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} أي كأبعاض الشيء الواحد وذلك لأن أمرهم واحد لا يختلف بعضهم عن بعض في المعتقد والقول والعمل بيّن تعالى حالهم بقوله {يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف} وهذا دليل على انتكاسهم وفساد قلوبهم وعقولهم، إذ هذا عكس ما يأمر به العقلاء، والمراد من المنكر الذي يأمرون به هو الكفر والعصيان، والمعروف الذي ينهون عنه هو الإيمان بالله ورسوله وطاعتهما. وقوله تعالى {ويقبضون أيديهم} كناية عن الإمساك وعدم البذل في الإنفاق في سبيل الله 2. وقوله {نسوا الله} فلم يؤمنوا به ولم يؤمنوا برسوله ولم يطيعوا الله ورسوله {فنسيهم} الله بأن تركهم محرومين من كل هداية ورحمة ولطف. وقوله {إن المنافقين هم الفاسقون} نقرير لمعنى {نسوا الله فنسيهم}، إذ كفرهم بالله وبرسوله هو الذي حرمهم هداية الله تعالى ففسقوا سائر أنواع الفسق فكانوا هم الفاسقين الجديرين بهذا الوصف وهو الفسق والتوغل فيه. وقوله تعالى في الآية (68) {وعد3 الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم} 4 أي كافيهم {ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم} أي دائم لا يزول ولا يبيد ولا يفنى فقد حملت هذه الآية أشد وعيد لأهل النفاق والكفر إذ توعدهم الرب تعالى بنار جهنم خالدين فيها وبالعذاب المقيم الذي لا يبارحهم ولا يتركهم لحظة أبد الأبد وذلك بعد أن لعنهم الله فأبعدهم وأسحقهم من كل رحمة وخير. وفي الآية الثالثة (69) يأمر
__________
1 هي: سدوم، وعمورة، وأرمة، وكانت مدناً متتاخمة بعضها قريب من بعض.
2 أي: وصفهم بالبخل والشح كما قال تعالى :{أشحة على الخير} كما أن امتناعهم عن الخروج إلى الجهاد يعتبر قبضاً لأيديهم.
3 الأصل أن الوعد يكون في الخير والإيعاد يكون في الشر، وإطلاق الوعد على الوعيد كما هو هنا تهكم بهم.
4 {هي حسبهم} مبتدأ وخبر ومعناه: أنها كافية ووفاء لجزاء أعمالهم.

تعالى رسوله أن يقول للمنافقين المستهزئين بالله وآياته ورسوله؟ أنتم أيها المنافقون كأولئك الذين كانوا من قبلكم في الاغترار بالمال والولد والكفر بالله والتكذيب لرسله حتى نزل بهم عذاب الله ومضت فيهم سنته في إهلاكهم هذا ما تضمنته الآية الكريمة إذ قال تعالى {كالذين من قبلكم1 كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم} أي بنصيبهم الذي كتب لهم في الدنيا {فأستمتعتم بخلاقكم} أي بما كتب لكم في هذه الحياة الدنيا {كما استمتع الذين من قبلكم} أي سواء بسواء {وخضتم} في الباطل والشر وبالكفر والتكذيب {كالذي خاضوا2} أي كخوضهم سواء بسواء أولئك الهالكون {حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} أي تلاشت وذهبت ولم ينتفعوا منها بشيء، {وأولئك هم الخاسرون}. وبما أنكم أيها المنافقون تسيرون على منهجهم في الكفر والتكذيب والاغترار بالمال والولد فسوف يكون مصيركم كمصيرهم وهو الخسران المبين. وقوله تعالى في الآية الرابعة (70) {ألم يأتهم3 نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم4 رسلهم بالبينات} أي الآيات الدالة على توحيد الله وصدق رسوله وسلامة دعوتهم كما جاءكم أيها المنافقون رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بالبينات فكذبتم كما كذب الذين من قبلكم فنزل بهم عذاب الله فهلك قوم نوح بالطوفان وعاد بالريح العاتية، وثمود بالصاعقة، وقوم إبراهيم5 بسلب النعم وحلول النقم، وأصحاب مدين بالرجفة وعذاب الظلمة، والمؤتفكات6 بالمطر والإئتفاك أي القلب بأن أصبح أعالي مدنهم الثلاث7 أسافلها، وأسافلها أعاليها، وما ظلمهم الله تعالى بما أنزل عليهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، وأنتم أيها المنافقون إن لم تتوبوا إلى ربكم سيحل بكم ما حل بمن قبلكم أو أشد لأنكم لم تعتبروا بما سبق.
__________
1 الكاف: في محل نصب أي: وعدكم الله أيها المنافقون والمنافقات كما وعد الذين من قبلكم نار جهنم تخلدون فيها.
2 الكاف: في محل نصب نعت لمصدر محذوف أي: وخضتم خوضاً كالذي خاضوا أي: في الباطل والشر والفساد. والذي بمعنى الجمع، ويحوز أن يكون الذين محذوف النون على لغةٍ هذيل قال شاعرهم:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد
3 الاستفهام للتقرير، والتحذير بمعنى: ألم يسمعوا بإهلاكنا الكفار من قبلهم؟
4 أي بدلائل الحق والصدق، والجملة تعليلية.
5 هم نمرود بن كنعان وقومه.
6 قوم لوط عليه السلام.
7 تقدمت أسماء هذه المدن قريباً.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إن المنافقين لما كان مرضهم واحد وهو الكفر الباطني كان سلوكهم متشابها.
2- الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف علامة النفاق وظاهرة الكفر وانتكاس الفطرة.
3- الاغترار بالمال والولد من عوامل عدم قبول الحق والإذعان له والتسليم به.
4- تشابه حال البشر وإتباع بعضهم لبعض في الباطل والفساد والشر.
5- حبوط الأعمال بالباطل وهلاك أهلها أمر مقضى به لا يتخلف.
6- وجوب الاعتبار بأحوال السابقين والاتعاظ بما لاقاه أهل الكفر منهم من عذاب.
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(71) وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(72)
شرح الكلمات:
والمؤمنون : أي الصادقون في إيمانهم بالله ورسوله ووعد الله ووعيده.
أولياء بعض: أيما يتولىّ بعضهم بعضاً في النّضرة والحماية والمحبة والتأييد.
ويقيمون الصلاة". أي يؤدونها في خشوع وافية الشروط والأركان والسنن والآداب.
ويؤتون الزكاة: أي يخرجون زكاة أموالهم الصامتة كالدراهم والدنانير والمعشرات، والناطقة كالأنعام: الإبل والبقر والغنم.

في جنات عدن : أي إقامة دائمة لا يخرجون منها ولا يتحولون1 عنها.
ورضوان من الله أكبر: أي رضوان الله الذي يحله عليهم أكبر من كل نعيم في الجنة.
معنى الآيتين:
بمناسبة ذكر المنافقين وبيان سلوكهم ونهاية أمرهم ذكر تعالى المؤمنين وسلوكهم الحسن ومصيرهم السعيد فقال {والمؤمنون والمؤمنات} أي المؤمنون بالله ورسوله ووعده ووعيده والمؤمنات بذلك {بعضهم أولياء بعض} أي يوالي بعضهم بعضاً محبة2 ونصرة وتعاوناً وتأييداً {يأمرون بالمعروف} وهو ما عرفه الشرع حقاً وخيراً من الإيمان وصالح الأعمال، {وينهون عن المنكر} وهو ما عرفه الشرع باطلاً ضاراً فاسداً من الشرك وسائر الجرائم فالمؤمنون والمؤمنات على عكس المنافقين والمنافقات في هذا الأمر وقوله تعالى {ويقيمون3 الصلاة ويؤتون الزكاة} والمنافقون لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى فهم مضيعون لها غير مقيمين لها، ويقبضون أيديهم فلا ينفقون، والمؤمنون يطيعون الله ورسوله4، والمنافقون يعصون الله ورسوله، المؤمنون سيرحمهم الله 5، والمنافقون سيعذبهم الله، {إن الله عزيز} غالب سينجز وعده ووعيده {حكيم} يضع كل شيء في موضعه اللائق به فلا يعذب المؤمنين وينعّم المنافقين بل ينعّم المؤمنين ويعذب المنافقين.
وقوله تعالى في الآية الثانية (72) {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الأنهار} أي من خلال قصورها وأشجارها {خالدين فيها ومساكن} أي قصوراً طيبة في غاية النظافة وطيب الرائحة {في جنات عدن6} أي إقامة، وقوله {ورضوان من الله }
__________
1 قال تعالى من سورة الكهف: {لا يبغون عنها حولاً} أي: تحولاً لأنّ نعيمها لا يُمل ولا تثشوق النفس لغيره أبداً.
2 شاهده من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وشبّك بين أصابعه وقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
3 يشمل اللفظ: الصلوات الخمس والنوافل كما شمل الزكوات المفروضة والصدقات إذ المدح يحصل بهما معاً فرضا ونفلا.
4 أي: يؤدون الفرائض والسنن فعلا ويجتنبون المنهيات والمكروهات تركاً.
5 السين في {سيرحمهم} للتأكيد وتحمل معنى الخوف والرجاء وهما جناحا المؤمنين لا يطيرون في سماء الكمالات إلا بهما.
6 شاهدهُ في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلاّ رداء الكبر على وجهه في جنة عدن" وقوله أيضاً في الصحيح: "إنّ للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا في السماء، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهن لا يرى بعضهم بعضاً".

أي يحله عليهم أكبر من الجنات والقصور وسائر أنواع النعيم. وقوله {ذلك هو الفوز العظيم} ذلك المذكور من الجنة ونعيمها ورضوان الله فيها هو الفوز العظيم. والفوز هو السلامة من المرهوب والظفر بالمرغوب. هذا الوعد الإلهي الصادق للمؤمنين والمؤمنات يقابله وعيد الله تعالى للمنافقين والكفار في الآيات السابقة، ونصه {وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم}.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان صفات المؤمنين والمؤمنات والتي هي مظاهر إيمانهم وأدلته.
2- أهمية صفات أهل الإيمان وهي الولاء لبعضهم بعضاً، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إقامة الصلاة، إيتاء الزكاة، طاعة الله ورسوله.
3- بيان جزاء أهل الإيمان في الدار الآخرة وهو النعيم المقيم في دار الإسلام.
4- أفضلية رضا1 الله تعالى على سائر النعيم.
5- بيان معنى الفوز وهو النجاة من النار، ودخول الجنة.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(73) يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ
__________
1 أخرج الشيخان البخاري ومسلم، ومالك في الموطأ عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله عزّ وجلّ يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير بين يديك فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً"

اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ(74)
شرح الكلمات:
جاهد الكفار: ابذل غاية جهدك في قتال الكفار والمنافقين.
واغلظ عليهم: أي في القول والفعل أي شدد عليهم ولا تلن لهم.
كلمة الكفر: أي كلمة يكفر بها من قالها وهي قول الجلاس بن سويد: إن كان ما جاء به محمد حقاً لنحن شرّ من الحمير.
وهموا بما لم ينالوا : أي هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم في مؤامرة دنيئة1 وهم عائدون من تبوك.
وما نقموا إلا أن أغناهم : أي ما أنكروا أو كرهوا من الإسلام ورسوله إلا أن أغناهم الله بعد فقر أعلى مثل هذا يهمون بقتل رسول الله؟
معنى الآيتين:
يأمر تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين فيقول {يا أيها النبي2 جاهد الكفار والمنافقين} وجهاد الكفار يكون بالسلاح وجهاد المنافقين يكون باللسان، 3 وقوله تعالى {واغلظ عليهم4} أي شدد عملك وقولك، فلا هوادة مع من كفر بالله ورسوله، ومع من نافق الرسول والمؤمنين فأظهر الإيمان وأسر الكفر وقوله تعالى {ومأواهم جهنم وبئس المصير} أي جهنم يريد ابذل ما في وسعك في جهادهم قتلاً وتأديياً هذا لهم في الدنيا، وفي الآخرة مأواهم جهنم وبئس المصير، وقوله تعالى في الآية الثانية (74) {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا} هذا الكلام علّة للأمر بجهادهم والإغلاظ عليهم لقول الجلاس بن سويد المنافق: لئن كان ما جاء به محمد حقاً لنحن شر من الحمير سمعه منه أحد المؤمنين فبلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء
__________
1 اقرأ نصها في التفسير فإنها واضحة ومختصرة.
2 يدخل في هذا الخطاب أمته صلى الله عليه وسلم.
3 بأن يقول لهم الكدمة الغليظة الشديدة ويكفهر في وجوههم أي: يعبس ولا يبسط وجهه فيهم.
4 هذه الآية نسخت كل شيء من العفو، والصفح الذين كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤمر بهما إزاء المشركين والمنافقين.

الجلاس يعتذر ويحلف بالله ما قال الذي قال فأكذبه الله تعالى في قوله في هذه الآية {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} والسياق دال على تكرر مثل هذا القول الخبيث وهو كذلك. وقوله تعالى {وهموا بما لم ينالوا1} يعني المنافقين الذين تآمروا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم عند عودته من تبوك في عقبة في الطريق إلا أن الله فضحهم وخيّب مسعاهم ونجى رسوله منهم حيث بعث عمار بن ياسر يضرب وجوه الرواحل لما غشوه فردوا وتفرقوا بعد أن عزموا على أن لزاحموا رسول الله وهو على ناقته بنوقهم حتى يسقط منها فيهلك أهلكهم الله. وقوله تعالى {وما نقموا} 2 أي وما كرهوا من رسول الله ولا من الإسلام شيئاً إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله وهل الغنى بعد الفقر مما ينقم منه، والجواب لا ولكنه الكفر والنفاق يفسد الذوق والفطرة والعقل أيضاً.
ومع هذا الذي قاموا به من الكفر والشر والفساد يفتح الرب الرحيم تبارك وتعالى باب التوبة في وجوههم ويقول {فإن يتوبوا} 3 من هذا الكفر والنفاق والشر والفساد4 يك ذلك {خيراً لهم} حالاً ومآلاً أي في الدنيا والآخرة، {وإن يتولوا } عن هذا العرض ويرفضوه فيصرون على الكفر والنفاق {يعذبهم الله عذاباً أليماً} أي موجعاً في الدنيا بالقتل والخزي، وفي الآخرة بعذاب النار، {ومالهم في الأرض من ولي} 5 يتولاهم ولا ناصر ينصرهم، أي وليس لهم في الدنيا من ولي يدفع عنهم ما أراد الله أن ينزله بهم من الخزي والعذاب وما لهم من ناصر ينصرهم بعد أن يخذلهم الله سبحانه وتعالى.
__________
1 أخرج مسلم عن حذيفة: "أن اثني عشر رجلاً سمّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعدهم حذيفة واحدا واحدا قال قلت: يا رسول الله ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال: أكره أن يقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم، بل يكفيهم الله بالدّبلة" وهي خراج يظهر في الظهر وينصب على الصدر يقتل صاحبه فوراً.
2 أي: ليس بنقمون شيئا إلا أنهم كانوا فقراء فأغناهم الله بما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعطيهم من الغنائم، قيل لأحدهم: هل تجد في القرآن نظير قولهم اتق شر من أحسنت إليه؟ قال: نعم هو قوله تعالى: {وما نقموا إلاّ أن أغناهم الله ورسوله من فضله}.
3 هذه الجملة متفرعة عن الكلام السابق وهي باب ذكر الوعد بعد الوعيد والترغيب بعد الترهيب، وهو أسلوب القرآن الكريم.
4 حذفت نون {يك} تخفيفاً إذ الأصل يكن.
5 هذه الجملة معطوفة على جملة: {يعذلهم الله} وهي وإن كانت اسمية لا يمتنع أن تكون جواباً ثانياً معطوفاً على جملة الجزاء، لأنه يغتفر في التابع مالا يغتفر في المتبوع، فالجزاء جزاءان، الأول: تعذيبهم والثاني: انعدام الولي والنصير لهم في الأرض كلها.

هداية الآيتين.
من هداية الآيتين:
1- بيان آية السيف1 وهي {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين}.
2- تقرير مبدأ الردة وهي أن يقول المسلم كلمة الكفر فيكفر بها وذلك كالطعن في الإسلام أو سب الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو التكذيب بما أمر الله تعالى بالإيمان به والتصديق بضده أي بما أمر الله بتكذيبه.
3- تقرير مبدأ التوبة من كل الذنوب، وأن من تاب تقبل توبته.
4- الوعيد الشديد لمن يصر على الكفر ويموت عليه.
وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ(75) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ(76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ(77) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ(78)
شرح الكلمات:
ومنهم : أي من المنافقين.
لئن آتانا من فضله : أي مالاً كثيراً.
بخلوا به : أي منعوه فلم يؤدوا حقه من زكاة وغيرها.
فأعقبهم نفاقاً: أي فأورثهم البخل نفاقاً ملازماً لقلوبهم لا يفارقها إلى يوم يلقون
__________
1 يروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: سيوف الله أربعة: واحد على المشركين قال تعالى: {فاقتلوا المشركين..} وثان على الكافرين قال تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر..} وثالث على المنافقين: قال تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين..} ورابع على البغاة. قال تعالى: {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيىء إلى أمر الله}.

الله تعالى.
بما أخلفوا الله.: أي بسبب إخلافهم ما وعدوا الله تعالى به.
سرهم ونجواهم: أي ما يسرونه في نفوسهم ويخفونه، وما يتناجون به فيما بينهم.
علام الغيوب : يعلم كل غيب في الأرض أو في السماء.
معنى الآيات:
ما زال السياق في المنافقين وهم أصناف وهذا صنف1 آخر منهم قد عاهد الله تعالى لئن أغناهم من فضله وأصبحوا ذوي ثروة ومال كثير ليصدقن منه ولينفقنّه في طريق البر والخير، فلما أعطاهم الله ما سألوا وكثر مالهم شحوا به وبخلوا، وتولوا عما تعهدوا به وما كانوا عليه من تقوى وصلاح، وهم معرضون. فأورثهم هذا البخل وخلف الوعد والكذب {نفاقاً في قلوبهم2} لا يفارقهم حتى يلقوا ربهم. هذا ما دل عليه قوله تعالى {ومنهم من3 عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم4 من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} . أما الآية الأخيرة (78) وهي قوله تعالى {ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب؟؟} فإنها تضمنت توبيخ الله تعالى للمنافقين الذين عاهدوا الله وأخلفوه بموقفهم الشائن كأنهم لا يعلمون أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأنه تعالى علام الغيوب، وإلا كيف يعدونه ويحلفون له أم يحسبون أن الله لا يسمع سرهم ونجواهم فموقفهم هذا موقف مخز لهم شائن، وويل لهم حيث لازمهم ثمرته وهو النفاق حتى الموت وبهذا أغلق باب التوبة في وجوههم وهلكوا مع الهالكين.
__________
1 قال قتادة: هذا رجل من الأنصار قال: لئن رزقني الله شيئاً لأدين فيه حقه ولأتصدقن فلما آتاه الله ذلك فعل ما قُصّ عليكم فاحذروا الكذب فإنه يؤدي إلى الفجور.
2 {نفاقاً} نكرة أي: نفاقاً ما من نوع من أنواع النفاق وليس هو نفاق الكفر إنما هو نفاق العمل.
3 الآية صريحة ودلالتها واضحة في أن أحد أفراد المؤمنين سأل الله المال سواء بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم كأن قال له ادع الله لي، أو سأل بنفسه وقطع عهداً لربه بما ذكر في الآية، ولما أخلف ما عاهد الله عليه أصيب بمرض النفاق في قلبه- والعياذ بالله تعالى- وهل هو ثعلبة بن حاطب أو غيره أما ثعلبة فقد شهد بدراً، وأهل بدر ذُكر لهم وعد عظيم، فلا يصح أن يكون أحدهم وتع في هذه الفتة وان كان غيره فهو حق، وجائز أن يكون هذا الغير اسمه ثعلبة فتشابه الاسم بالاسم فطُن أنه البدري وليس هو والله اعلم. هذا والله إني لخائف من هذه الآية أن تنطبق عليّ فاللهم عفوك وغفرانك لي.
4 صيغة الجمع تدل على أن من عاهد الله لم يكن فرداً واحداً بل كان جماعة ولذا قال الضحاك: إنّ الآية نزلت في رجال من المنافقين: نبتل بن الحارث والجد بن قيس ومتعب بن قشير إلاّ أن قوله تعالى: {فأعقبهم نفاقاً} يتنافى مع كونهم منافقين، إلاّ أن يقال: زادهم نفاقاً خُلْفهم هذا على نفاقهم الأول. والله أعلم.

هداية الآيات.
من هداية الآيات:
1- وجوب الوفاء بالعهود وخاصة عهود1 الله تعالى.
2- ذم البخل وأهله.
3- تقرير مبدأ أن السيئة يتولد عنها سيئة.
4- جواز تقريع وتأنيب أهل الباطل.
5- وجوب مراقبة الله تعالى إذ لو راقب هؤلاء المنافقون2 الله تعالى لما خرجوا عن طاعته.
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(80)
شرح الكلمات:
يلمزون: أي يعيبون ويطعنون
__________
1 اختلف في نية الطلاق أو الصدقة بدون أن يلفظ هل يلزمه ما نواه بقلبه أو لا يلزمه، الراجح: أنه لا يلزمه ما لم يتلفظ به والدليل في قوله صلى الله عليه وسلم "إنّ الله تجاوز لأمتى عمّا حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به" رواه الترمذي وقال فيه حسن صحيح، والشاهد في قوله: "أو تتكلم به" والعمل بهذا عند أهل العلم.
2 جاء في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان" ولي حديث آخر: "أربع من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان، وإذا حدّث كذب، و إذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر" واختلف العلماء في تأويل هذين الحديثين، وقسموا النفاق إلى اعتقادي وعملي، فالاعتقادي: ما كان صاحبه كافراً بالله ورسوله مكذباً لهما، والعملي: ما كان صاحبه مؤمناً مصدقاً ولكن يأتي منه المحظورات جهلاً وفسقاً. وهذا صحيح. ولكن يتأتى لعبد يؤمن بالله ورسوله أن يتعمد الكذب على المسلمين وإخلاف الوعد لهم، والغدر بهم، وخيانتهم في أماناتهم والفجور في التخاصم معهم، ومن هنا كان المطلوب اجراء الخبر على ظاهره ما دام العبد يتعمد هذه المحظورات نكاية بالمسلمين وبغضا لهم وعدم اعتراف بحقوقهم وظلماً واعتداء عليهم، إذ مثل هذا لا يكون معه إيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

المطوّعين : أي المتصدقين بأموالهم زيادة على الفريضة.
إلا جهدهم: إلا طاقتهم وما يقدرون عليه فيأتون به.
فيسخرون منهم: أي يستهزئون بهم احتقاراً لهم.
استغفر لهم: أي اطلب لهم المغفرة أو لا تطلب.
لا يهدي القوم الفاسقين: أي إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم وذلك لتوغلهم في العصيان.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في التنديد بالمنافقين وكشف عوراتهم فقد أخبر تعالى أن {الذين يلمزون1 المطوعين2 من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم3 فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم}. أخبر تعالى أنه سخر منهم جزاء سخريتهم بالمتصدقين وتوعدهم بالعذاب الأليم. وكيفية لمزهم المتطوعين أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى الصدقة فإذا جاء الرجل بمال كثير لمزوه وقالوا مراء، وإذا جاء الرجل بالقليل لمزوه وقالوا: الله غني عن صاعك هذا فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ففضحهم وسخر منهم وتوعدهم بأليم العذاب وأخبر نبيه أن استغفاره لهم وعدمه سواء فقال {استغفر لهم4 أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } وبين علة ذلك بقوله {ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله}، وهذه العلة كافية في عدم المغفرة لهم لأنها الكفر والكافر مخلد في النار. وأخبر تعالى أنه حرمهم الهداية فلا يتوبوا فقال {والله لا يهدي القوم الفاسقين} لأن الفسق قد أصبح وصفاً لازماً لهم فلذا هم لا يتوبون، وبذلك حرموا هداية الله تعالى.
__________
1 أخرج مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أمرنا بالصدقة فكنا نحامل على ظهورنا فتصدق أبو عقيل بنصف صاع، قال: وجاء إنسان بشيء أكبر منه فقال المنافقون إنّ الله لغني عن صدقة هؤلاء وما فعل هذا الآخر إلاّ رياء فنزلت: {الذين يلمزون المطوّعين ..} الآية.
2 أصل المطوعين: المتطوعين أدغمت التاء في الطاء لقرب مخرجيهما وهم: الذين يفعلون الشيء تبرعاً من غير أن يجب عليهم.
3 الجهد: شيء قليل يعيش به المقل والجهد والجهد بالفتح أيضاً: الطاقة والسخرية: الاستهزاء، وعاملهم الله تعالى بالمثل فسخر منهم وهم لا يشعرون.
4 بيد أنه لما نزلت الآيات الفاضحة للمنافقين جاء بعضهم يعتذرون ويطلبون من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لهم فاستغفر لهم رحمة بهم فأعلمه ربّه تعالى أنّ استغفاره لهؤلاء المنافقين مهما بلغ من الكثرة لا ينفعهم وذلك لكفرهم ونفاقهم وفسقهم.

هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- حرمة لمز المؤمن والطعن فيه.
2- حرمة السخرية بالمؤمن.
3- غيرة الله على أوليائه حيث سخر الله ممن سخر من المطوعين.
4- من مات على الكفر لا ينفعه الاستغفار له، بل ولا يجوز الاستغفار له.
5- التوغل في الفسق أو الكفر أو الظلم يحرم صاحبه الهداية.
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ(82) فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ(83)
شرح الكلمات:
فرح المخلفون : أي سرّ الذين تخلفوا عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالوا: لا تنفروا في الحر: أي قال المنافقون لبعضهم بعضاً لا تخرجوا للغزو في الحر.
لو كانوا يفقهون : أي لو كانوا يفقهون أسرار الأمور وعواقبها ونتائجها لما قالوا: لا تنفروا في الحر ولكنهم لا يفقهون.
فليضحكوا قليلاً وليبكوا : أي في الدنيا، وليبكوا كثيراً في الدار الآخرة.

فإن رجعك الله إلى طائفة منهم : أي من المنافقين.
فاقعدوا مع الخالفين: أي المتخلفين عن تبوك من النساء والأطفال وأصحاب الأعذار.
معنى الآيات:.
ما زال السياق في الحديث عن المنافقين فقال تعالى مخبراً عنهم {فرح المخلفون1} أي سر المتخلفون {بمقعدهم خلاف2 رسول الله} أي بقعودهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة {وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم} في سبيله، وكرههم هذا للجهاد هو ثمرة نفاقهم وكفرهم وقولهم {لا تنفروا في الحر} لأن غزوة تبوك كانت في شدة الحر، قالوا هذا لبعضهم بعضاً وهنا أمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم قولهم هذا فقال {قل نار جهنم أشد حراً} فلماذا لا يتَّقونها بالخروج في سبيل الله كما يتقون الحر بعدم الخروج، وقوله تعالى {لو كانوا يفقهون} أي لما تخلفوا عن الجهاد لأن نار جهنم أشد حراً، ولكنهم لا يفقهون وقوله تعالى {فليضحكوا قليلاً} أي3 في هذه الحياة الدنيا بما يحصل لهم من المسرات {وليبكوا كثيراً} أي يوم القيامة لما ينالهم من الحرمان والعذاب، وذلك كان {جزاء بما كانوا يكسبون} من الشر والفساد ، وقوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم4} أي فإن ردك الله سالماً من تبوك إلى المدينة إلى طائفة من المنافقين {فاستأذنوك للخروج} معك لغزو وجهاد {فقل لن تخرجوا معي أبداً، ولن تقاتلوا معي عدواً} وعلة ذلك {أنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين}5 أي من النساء
__________
1 {المخلفون} هم المتركون في المدينة تركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون لأنهم غير أهل لصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذاكره الله انبعاثهم فثبطهم أما هم فإنهم فرحوا بتخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفاقهم وفسقهم.
2 {خلاف} لغة في خلف، واختير لفظ خلاف إشارة إلى أن المنافقين يحبّون مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وقعودهم وإن كان بإذن فإنه مخالف لإرادة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالنفير العام وجاءوا هم يستأذنون في القعود.
3 {فليضحكوا} أمر، ومعناه التهديد أي: فليضحكوا في الدنيا قليلاً وليبكوا في الآخرة كثيراً، أو هو أمر بمعنى الخير وهو صحيح إذ هذا هو حالهم ومنتهى أمرهم.
4 قوله : {إلى طائفة} دليل على أن من المتخلفين ما كانوا منافقون ككعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع العامري.
5 {الخالفين} جمع خالف، كأنهم خلفوا الخارجين في ديارهم، واختيار لفظ الخالفين يحمل سباً لهم وعيباً، إذ الخالفون النساء، وخلف الشيء إذا فسد، ومنه خلوف فم الصائم، ومنه خلف اللبن: إذا قد بطول المكث في الإناء، وفي هذا دليل على أن استصحاب المخذل الفاسد في الغزوات لا يليق.

والأطفال فإن هذا يزيد في همهم ويعظم حسرتهم جزاء تخلفهم عن رسول الله وكراهيتهم الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله.
هداية الآلات
من هداية الآيات :
1- من علامات النفاق الفرح بترك طاعة الله ورسوله.
2- من علامات النفاق كراهية طاعة الله ورسوله.
3- كراهية الضحك والإكثار منه1.
4- تعمد ترك الطاعة قد يسبب الحرمان منها.
وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ(84) وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ(85)
شرح الكلمات:
ولا تصل على أحد : أي صلاة الجنازة.
ولا تقم على قبره: أي لا تتول دفنه والدعاء له كما تفعل مع المؤمنين.
وماتوا وهم فاسقون.: أي خارجون عن طاعة الله ورسوله.
وتزهق أنفسهم: أي تخرج أرواحهم بالموت وهم كافرون.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في شأن المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك، وإن كانت هذه الآية
__________
1 صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولخرجتم إلى الصُّعُدات تجأرون إلى الله تعالى" وورد أن كثرة الضحك تميت القلب وكان النبي صلى الله عليه وسلم جل ضحكه الابتسام.

نزلت في1 شأن عبدالله بن أبي بن سلول كبير المنافقين وذلك أنه لما مات طلب ولده الحباب الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله وقال له الحباب اسم الشيطان وسماه عبدالله جاءه فقال يا رسول الله إن أبي قد مات فأعطني قميصك2 أكفنه فيه، "رجاء بركته" وصل عليه واستغفر له يا رسول الله فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم القميص وقال له إذا فرغتم فآذنوني فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر وقال له: أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين فقال بل خيرني فقالوا استغفر لهم أو لا تستغفر لهم . فصلى عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية {ولا تصل على أحد منهم3 فات أبداً، ولا تقم على قبره} أي لا تتول دفنه والدعاء له بالتثبيت عند المسألة. وعلل تعالى لهذا الحكم بقوله {إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} ، وقوله {ولا تعجبك أموالهم وأولادهم} أي لا تصل4 على أحد منهم مات يا رسول الله {ولا تعجبك أموالهم وأولادهم} فتصلي عليهم. إني إنما أعطيتهم ذلك لا كرامة لهم وإنما لأعذبهم بها في الدنيا بالغموم والهموم {وتزهق أنفسهم} أي ويموتوا {وهم كافرون} فسينقلون إلى عذاب أبدي لا يخرجون منه، وذلك جزاء من كفر بالله ورسوله.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- حرمة الصلاة على الكافر مطلقاً.
2- حرمة غسل الكافر والقيام على دفنه والدعاء له.
__________
1 روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة: {ولا تصل على أحد منهم مات أبداً } وما في التفسير من خبر ابن أبيّ رواه مسلم.
2 فإن قيل: كيف يعطي الرسول صلى الله عليه وسلم قميصه ليكفن فيه رئيس المنافقين وكيف صلى عليه واستغفر له وهو يعلم أنّه منافق؟ والجواب: أما اعطاؤه ثوبه ليكفن فيه فقد سبق أن أعطى عبدالله بن أبي ثوباً للعباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم فحفظ له هذه اليد فأعطاه ثوبه وأما الصلاة عليه فقد كانت قبل نهي الله تعالى عنها، وأما الاستغفار فقد خير فيه بقوله { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} فرأى صلى الله عليه وسلم في استغفاره استئلافا للقلوب ففعل.
3 في الآية دليل على فرضية الصلاة على أموات المسلمين، ولا خلاف في هذا بين أهل العلم، وفي الآية إحدى موافقات عمر رضي الله عنه إذ أنزل الله تعالى هذا الحكم وهر ترك الصلاة على المنافقين بعد أن قال عمر: أليس قد نهاك الله أن تصلي على المنافقين، فالصلاة هنا هي الدعاء والاستغفار فلما صلى عليه نزلت الآية {ولا تصل على أحد ..} الخ فترك الصلاة على المنافقين.
4 صلاة الجنازة هي: أن يكبر ثم يقرأ الفاتحة ثم يكبر ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يكبر ويدعو للميت، ثم يكبر الرابعة ويسلم لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا وقوله: " إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء" رواه أبو داود، ويستحب أن يقف الإمام عند رأس الرجل، وعجيزة المرأة ، لورود الحديث بذلك في مسلم وأبي داود.

3- كراهة الصلاة على أهل الفسق دون الكفر.
4- حرمة الإعجاب بأحوال الكافرين المادية.
وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ(86) رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ(87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(88) أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(89) وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(90)
شرح الكلمات:
استأذنك : أي طلبوا إذنك لهم بالتخلف.
أولوا الطول منهم : أي أولو الثروة والغنى.
ذرنا نكن مع القاعدين : أي اتركنا مع المتخلفين من العجزة والمرضى والأطفال والنساء.
مع الخوالف: أي مع النساء جمع خالفة المرأة تخلف الرجل في البيت إذا غاب.

طبع على قلوبهم: أي توالت ذنوبهم على قلوبهم فأصبحت طابعاً عليها فحجبتها المعرفة.
لهم الخيرات : أي في الدنيا بالنصر والغنيمة. وفي الآخرة بالجنة والكرامة فيها.
وأولئك هم المفلحون : أي الفائزون بالسلامة من المخوف والظفر بالمحبوب.
المعذرون: أي المعتذرون.
وقعد الذين كذبوا الله: أي ولم يأت إلى طلب الإذن بالقعود عن الجهاد منافقوا الأعراب.
معنى الآيات:.
ما زال السياق في كشف عورات المنافقين وبيان أحوالهم فقال تعالى {وإذا أنزلت1 سورة} أي قطعة من القرآن آية أو آيات {أن آمنوا بالله وجاهدوا مع2 رسوله} أي تأمر بالإيمان بالله والجهاد مع رسوله {استأذنك أولوا الطول منهم3} أي من المنافقين {وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين} أي المتخلفين عن الجهاد للعجز كالمرضى والنساء والأطفال قال تعالى: في عيبهم وتأنيبهم {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} أي مع النساء وذلك لجبنهم وهزيمتهم النفسية وقوله تعالى {وطبع على قلوبهم} أي طبع الله على قلوبهم بآثار ذنوبهم التي رانت على قلوبهم فلذ ا هم لا يفقهون معنى الكلام وإلا لما رضوا بوصمة العار وهي أن يكونوا في البيوت مع النساء هذه حال المنافقين وتلك فضائحهم إذا أنزلت سورة تأمر بالإيمان والجهاد يأتون في غير حياء ولا كرامة يستأذنون في البقاء مع النساء (لكن4 الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم} ولم يستأذنوا ففازوا بكرامة الدنيا
__________
1 السورة. طائفة من آيات القران لها مبدأ ومختم، والمراد بالسورة هنا: هذه السورة (التوبة) أو بعض آياتها الآمرة بالجهاد والإيمان.
2 {أن آمنوا} أن: تفسيرية فسرت مضمون السورة وهو الإيمان والجهاد.
3 أي: في القعود والتخلف عن الجهاد وهم أصحاب القدرة على الجهاد لصحة أجسامهم وكثرة أموالهم أما العجزة فإنهم غير مأمورين بالجهاد، والطول معنا: الغنى والقدرة المالية.
4 قوله: {لكن} الخ استدراك بيّن فيه تعالى حال الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وأنها أكمل الأحوال بعد ذكر حال المنافقين وما هم عليه من صفات النقص آذ أخبر أنهم لجبنهم يطلبون القعود عن الجهاد وأنهم لما ران على قلوبهم من أوضار الكفر والفسق لا يفقهون الكلام ولا يعرفون ما يضرهم ولا ما ينفعهم بخلاف الرسول والمؤمنين فقد ذكر صفاتهم الكمالية، وهي الجهاد بالمال والنفس وما فازوا به من عظيم الخيرات، وما آلوا إليه من الفلاح وهو النجاة من المرهوب والظفر بالمحبوب.

والآخرة قال تعالى {وأولئك لهم الخيرات} 1 أي في الدنيا بالانتصارات والغنائم وفي الآخرة بالجنة ونعيمها ورضوان الله فيها. وقال {وأولئك هم المفلحون} أي الفائزون بالسلامة من كل مرهوب وبالظفر بكل مرغوب وفسر تعالى تلك الخيرات وذلك الفلاح بقوله في الآية (89) فقال {أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} وأخبر عما أعد لهم من ذلك النعيم المقيم بأنه الفوز فقال {ذلك الفوز العظيم}. هذا ما دلت عليه الآيات الأربع أما الآية الخامسة (90) فقد تضمنت إخبار الله تعالى عن منافقي الأعراب أي البادية، فقال تعالى {وجاء المعذرون2} أي المعتذرون أدغمت التاء في الذال فصارت المعذرون من الأعراب أي من سكان البادية كأسد وغطفان ورهط عامر بن الطفيل جاءوا يطلبون الإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتخلف بدعوى الجهد والمخمصة، وقد يكونون معذورين حقاً وقد لا يكونون كذلك. وقوله {وقعد الذين كذبوا الله ورسوله} في دعوى الإيمان بالله ورسوله وما هم بمؤمنين بل هم كافرون منافقون، فلذا مال تعالى فيهم {سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم} في الدنيا وفي الآخرة، إن ماتوا على كفرهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- القرآن هو مصدر التشريع الإلهي الأول والسنة الثاني.
2- مشروعية الاستئذان للحاجة الملحة.
3- حرمة الاستئذان للتخلف عن الجهاد مع القدرة عليه.
4- حرمة التخلف عن الجهاد بدون إذن من الإمام.
5- فضل الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله.
6- بيان عظم الأجر وعظيم الجزاء لأهل الإيمان والجهاد.
__________
1 الخيرات: جمع خير على غير قياس كسرادقات، وحمامات جمع سرادق وحمام.
2 {المعذرون} هذا اللفظ صالح لأن يكون المراد به المعتذرون لعلل قامت بهم وصالح لأن يكون المراد به المعذرون وهم الذين لا عذر لهم ويعتذرون بغير حق موجب للعذر يقال: عذر فلان: إدا قصّر في الواجب واعتذر بدون عذر قام به. وهذا من بلاغة القرآن، اللفظ الواحد منه يحتمل وجهين وكلاهما حق ومراد.

لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(91) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ(92)
شرح الكلمات :
على الضعفاء: أي كالشيوخ.
ولا على المرضى: كالعمى والزَمْنَى.
حرج: أي إثم على التخلف.
إذا نصحوا لله ورسوله: أي لا حرج عليهم في التخلف إذا نصحوا لله ورسوله وذلك بطاعتهم لله ورسوله مع تركهم الإرجاف والتثبيط.
ما على المحسنين من سبيل : أي من طريق إلى مؤاخذتهم.
لتحملهم .: أي على رواحل يركبونها.
تولوا ": أي رجعوا إلى بيوتهم.
تفيض من الدمع : أي تسيل بالدموع الغزيرة حزناً على عدم الخروج.
معنى الآيتين:
لما ندد تعالى بالمتخلفين وتوعد بالعذاب الأليم الذين لم يعتذروا منهم ذكر في هذه الآيات أنه لا حرج على أصحاب الأعذار وهم الضعفاء، كالشيوخ والمرضى والعميان وذوو العرج1 والفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون ولكن بشرط نصحهم لله ورسوله فقال عز
__________
1 شاهده في سورة الفتح: {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج} وقوله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}.

وجل {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج} أي إثم {إذا نصحوا لله ورسوله} 1 ومعنى النصح لله ورسوله طاعتهما في الأمر والنهي وترك الإرجاف والتثبيط والدعاية المضادة لله ورسوله والمؤمنين والجهاد في سبيل الله وقوله تعالى {ما على المحسنين من سبيل} أي ليس على من أحسنوا في تخلفهم لأنه أولاً بعذر شرعي2 وثانياً هم مطيعون لله ورسوله وثالثاً قلوبهم ووجوههم مع الله ورسوله وإن تخلفوا بأجسادهم للعذر فهؤلاء ما عليهم من طريق إلى انتقاصهم أو أذيتهم بحال من الأحوال، كما ليس من سبيل {على الذين إذا ما أتوك لتحملهم} إلى الجهاد معك في سيرك {قلت} معتذراً إليهم {لا أجد ما أحملكم عليه تولوا} أي رجعوا إلى منازلهم وهم يبكون والدموع تفيض من أعينهم3 حزناً {ألا يجدوا ما ينفقون} في سيرهم معكم وهم نفر منهم العرباص بن سارية وبنو مقرن وهم بطن من مزينة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- لا حرج على أصحاب الأعذار الذين ذكر الله تعالى في قوله {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج} وفي هذه الآية {ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون} حرج وبشرط طاعة الله والرسول فيما يستطيعون والنصح4 لله والرسول بالقول والعمل وترك التثبيط والتخذيل والإرجاف من الإشاعات المضادة للإسلام والمسلمين.
__________
1 قال القرطبي: {نصحوا ا لله ورسوله} إذا عرفوا الحق وأحبّوا أولياءه وأبغضوا أعداءه، ومع قبول أعذار أصحاب الأعذار فقد خرج ابن أم مكتوم إلى أحد وهو رجل أعمى، وطلب أن يعطى الراية ليحملها، وخرج عمرو بن الجموح وهو أعرج خرج إلى أحد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله قد عذرك" فقال: والله لأحفرنّ بعرجتي هذه في الجنة.
2 روى أبو داود عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لقد تركتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من وادٍ إلاّ وهم معكم فيه، قالوا: يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر؟"
3 {حزناً} منصوب على أنه مفعول لأجله، وجملة: {وأعينهم}: حال من {تولوا}.
4 النصح: إخلاص العمل من الغش يقال: نصح الشيء: إذا خلص، ونصح له القول: أي أخلصه له. وفي صحيح مسلم عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصحية- ثلاثا- قلنا لمن يا رسول الله قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" ذكر القرطبي معاني هذه النصائح بالتفصيل عند تفسير هذه الآية فليرجع إليها من طلب ذلك.

2- مظاهر الكمال المحمدي في تواضعه ورحمته وبره وإحسانه إلى المؤمنين.
3- بيان ما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار من الإيمان واليقين والسمع والطاعة والمحبة والولاء ورقة القلوب وصفاء الأرواح.
اللهم إنا نحبهم بحبك فأحببنا كما أحببتهم واجمعنا معهم في دار كرامتك.

الجزء الحادي عشر
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(94) سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ(95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ(96)
شرح الكلمات:
إنما السبيل: أي الطريق إلى المعاقبة.
أغنياء: واجدون لأهبة الجهاد مع سلامة أبدانهم.
الخوالف : أي النساء والأطفال والعجزة.
إذا رجعتم إليهم: أي إذا عدتم إليهم من تبوك، وكانوا بضعاً وثمانين رجلاً.
لن نؤمن لكم : أي لن نصدقكم فيما تقولون.
ثم تُرَدّون : أي يوم القيامة.
إذا انقلبتم : أي رجعتم من تبوك.

لتُعرِضوا عنهم : أي لا تعاقبوهم.
رجس: أي نَجَس لخُبْث بواطنهم.
معنى الآيات:.
ما زال السياق الكريم في المُخَلَّفين من المنافقين وغير المنافقين فقال تعالى { إنما1 السبيل} أي الطريق إلى عقاب المخلَّفين على الذين يستأذنونك في التخلُّف عن الغزو وهم أغنياء أي ذوو قُدرة2 على النفقة والسير {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} أي النساء {وطبع الله على قلوبهم} بسبب ذنوبهم فهم لذلك لا يعلمون أن تخلفهم عن رسول الله لا يُجديهم نفعاً وأنه يجرُّ عليهم البلاء الذي لا يطيقونه. هؤلاء هُم الذين لكم سبيل على عقابهم ومؤاخذتهم، لا على الذين لا يجدون ما ينفقون، وطلبوا منك حملاناً فلم تجد ما تحملهم عليه فرجعوا إلى منازلهم وهم يبكون حزناً. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (93) أما الآيات الثلاث بعدها فهي في المخلَّفين من المنافقين يخبر تعالى عنهم فيقول {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم} يطلبون العذر منكم إذا رجعتم إلى المدينة من غزوكم. قل لهم يا رسولنا لا تعتذروا لأننا لا نؤمن لكم أي لا نصدقكم فيما تقولونه، لأن الله تعالى قد نَبَّأنَا من أخباركم3 وسيرى الله عملكم4 ورسوله. إن أنتم تبتم فأخلصتم دينكم لله، أو أصررتم على كفركم ونفاقكم، وستُردُّون بعد موتكم إلى عالم الغيب والشهادة وهو الله تعالى فينبئكم يوم القيامة بعد بعثكم بما كنتم تعملون من حسنات أو سيئآت ويجزيكم بذلك الجزاء العادل. وقوله تعالى {سيحلفون5 بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم} يخبر تعالى رسوله والمؤمنين فيقول سيحلف لكم هؤلاء المخلَّفون إذا رجعتم إليهم أي إلى المدينة من أجل أن تعرضوا عنهم فأعرضوا6 عنهم أي لا تؤاخذوهم ولا تلتفوا إليهم إنهم رجْس أي نَجَس، ومأواهم جهنم جزاء لهم بما كانوا يكسبونه من
__________
1 أي: العقوبة والإثم.
2 هؤلاء هم المنافقون تردد ذكرهم تنديداً بهم وكشفاً لحالهّم وتحذيراً من سلوكهم.
3 أي: أطلعنا على سرائركم وما تخفي نفوسكم.
4 أي: ما تستأنفونه من أعمال بعد اليوم صالحة أو طالحة.
5 أي: بأنهم ما قدروا على الخروج لأعذار لهم يدّعونها كذباً لتصفحوا عنهم، وتتركوا لومهم وعتابهم.
6 الفاء تفريعية أي: إذا كانوا يريدون الإعراض عنكم فأعرضوا عنهم وجملة: {إنهم رجس} : تعليلية أي علة للإذن لهم بالإعراض عنهم يريد: إنهم ذوو رجس.

الكفر والنفاق والمعاصي.. وقوله تعالى {يحلفون لكم} 1 معتذرين بأنواع من المعاذير لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فلن ينفعهم رضاكم شيئاً لأنهم فاسقون والله لا يرضى عن القوم الفاسقين وما دام لا يرضى عنهم فهو ساخط عليهم، ومن سخط الله عليه أهلكه وعذبه فلذا رضاكم عنهم وعدمه سواء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا سبيل إلى أذِيَّة المؤمنين الصادقين إذا تخلَّفوا فإنهم ما تخلفوا إلا لعذر. وإنما السبيل على الأغنياء القادرين على السير إلى الجهاد وقعدوا عنه لنفاقهم.
2- مشروعية الاعتذار على شرط أن يكون المؤمن صادقاً في اعتذاره.
3- المنافقون كالمشركين رجْس أي نَجَس لأن بواطنهم خبيثة بالشرك والكفر وأعمالهم الباطنة خبيثة أيضاً إذْ كلها تآمر على المسلمين ومكر بهم وكيد لهم.
4- حرمة الرضا على الفاسق المجاهر بفسقه، إذ يجب بُغْضه فكيف يُرضى عنه ويُحب؟
الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(97) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(98) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(99)
شرح الكلمات :
__________
1 المراد به: عبدالله بن أبيّ إذ حلف أن لا يتخلَّف بعد اليوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب أن يرضى عنه.

الأعراب1 : جمع أعرابي وهو من سكن البادية.
أشد كفراً ونفاقاً: أي من كفار ومنافقي الحاضرة.
وأجدر2: أي أحق وأولى.
حدود ما أنزل الله : أي بشرائع الإسلام.
مغرماً: أي غرامة وخسراناً.
ويتربص: أي ينتظر.
الدوائر: جمع دائرة: ما يحيط بالإنسان من مصيبة أو نكبة.
دائرة السوء: أي المصيبة التي تسوءهم ولا تسرهم وهي الهلاك.
قربات: جمع قربة وهي المنزلة المحمودة.
وصلوات الرسول: أي دعاؤه لهم بالخير.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الكشف عن المنافقين وإعدادهم للتوبة أو للقضاء عليهم ففي الآية الأولى (97) يخبر تعالى أن الأعراب3 وهم سكان البادية من العرب أشد كفراً ونفاقاً من كفار الحَضَر ومنافقيهم. وإنهم أجدر أي أخلق وأحق أي بأن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله أي من الأحكام4 والسنن وذلك لبعدهم عن الاتصال بأهل الحاضرة وقوله تعالى {والله عليم حكيم} أي عليم بخلقه حكيم في شرعه فما أخبر به هو الحق الواقع، وما قضى به هو العدل الواجب. وقوله تعالى في الآية الثانية (98) {ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً}5 أي من بعض الأعراب من يجعل ما ينفقه في الجهاد غرامة لزمَتْه وخسارة لحقَتْه في ماله وذلك لأنه لا يؤمن بالثواب والعقاب الأخروي
__________
1 والعرب: جيل من الناس واحدهم عربي وهم أهل الأمصار، والعرب العاربة: هم الخلص، والمستعربة هم الذين ليسوا بخلّص كأولاد إسماعيل عليه السلام، ويعرب بن قحطان هو أوّل من تكلَّم بالعربية وهو أبو اليمن كلها.
2 {أجدر} مأخوذ من جدر الحائط وهو رفعه بالبناء.
3 لمَّا ذكر تعالى حال منافقي الحضر ذكر هنا حال منافقي البادية ليُعرف الجميع.
4 وكذلك لا يعلمون حجج الله تعالى في ألوهيته وبعثة رسوله لقلَّة نظرهم وسوء فهمهم، ولذا لا حق لهم في الفيء، والغنيمة إلا أن يجاهدوا أو يتحولوا إلى الحواضر ويتركوا البادية لحديث مسلم. واختلف في صحة شهادة البادي على الحاضر، والراجح أنها تصح إذا كان عدلاً. وتكره إمامتهم لأهل الحضر عند مالك، وذلك لجهلهم بالشريعة وتركهم الجمعة.
5 أي غرما وخسرانا، وأصله لزوم الشيء، ومنه {إن عذابها كان غراما} أي: لازما.

لأنه كافر بالله ولقاء الله تعالى. وقوله عز وجل {ويتربص بكم الدوائر} أي وينتظر بكم أيها المسلمون الدوائر متى تنزل بكم فيتخلص منكم ومن الإنفاق لكم والدوائر جمع دائرة المصيبة والنازلة من الأحداث وقوله تعالى {عليهم دائرة السوء}1 هذه الجملة دعاء عليهم. جزاء ما يتربصون بالمؤمنين. وقوله {والله سميع عليم} أي سميع لأقوالهم عليم بنيانهم فلذا دعا عليهم بما يستحقون. وقوله تعالى في الآية الثالثة (99) {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر2 ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول}3 إخبار منه تعالى بأن الأعراب ليسوا سواء بل منهم من يؤمن بالله واليوم الأخر، فلذا هو يتخذ ما ينفق من نفقة في الجهاد قربات عند الله أي قرباً يتقرب بها إلى الله تعالى، ووسيلة للحصول على دعاء الرسول له، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه المؤمن بزكاته أو صدقته يدعو له بخير، كقوله لعبد الله بن أبي أوفى: اللهم صل على آل أبي أوفى، وقوله تعالى {ألا إنها قربة لهم} إخبار منه تعالى بأنه تقبلها منهم صارت قربة4 لهم عنده تعالى، وقوله تعالى {سيدخلهم الله في رحمته} بشرى لهم بدخول الجنة، وقوله {إن الله غفور رحيم} يؤكد وعد الله تعالى لهم بإدخالهم في رحمته التي هي الجنة فإنه يغفر ذنوبهم أولاً، ويدخلهم الجنة ثانياً هذه سنته تعالى في أوليائه، يطهرهم ثم ينعم عليهم بجواره.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن سكان البادية يُحرمون من كثير عن الآداب والمعارف فلذا سكن البادية غير محمود إلا إذا كان فراراً من الفتن.
2- من الأعراب المؤمن والكافر والبر والتقي والعاصي والفاجر كسكان المدن إلا أن كفار البادية ومنافقيها أشد كفراً ونفاقاً لتأثير البيئة.
3- فضل النفقة في سبيل الله والإخلاص فيها لله تعالى.
__________
1 قرىء {السوء} بالفتح والضم إلا قوله: {وما كان أبوك امرأ سوء}، فإنه بالفتح لا غير، إذ السُوء بالضم: المكروه، والسوء بالفتح: الفساد. امرؤ سوء: أي: فاسد.
2 قيل: هم بنو مُقَرِّن من مزينة.
3 صلوات الرسول هي استغفاره ودعاؤه لهم بالخير والبركة.
4 أي: تقرّبهم من الله تعالى.

وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ(101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(102)
شرح الكلمات:
والسابقون : أي إلى الإيمان والهجرة والنصرة والجهاد.
اتبعوهم بإحسان: أي في أعمالهم الصالحة.
رضي الله عنهم : بسبب طاعتهم له وإنابتهم إليه وخشيتهم منه ورغبتهم فيما لديه.
ورضوا عنه: بما أنعم عليهم من جلائل النعم وعظائم المِنَنْ.
وممن حولكم: أي حول المدينة من قبائل العرب.
مردوا : مرقوا وحذقوه وعتوْا فيه.
سنعذبهم مرتين : الأولى قد تكون فضيحتهم بين المسلمين والثانية عذاب القبر.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {والسابقون1 الأولون من المهاجرين والأنصار}2 وهم الذين سبقوا غيرهم.
__________
1 {السابقون} هم الذين صلّوا إلى القبلتين وأفضلهم الخلفاء الأربعة ثم الستة الباقون من المبشرين بالجنة نم أهل بدر ثم أصحاب أحد ثم أهل بيعة الرضوات بالحدييية، وأفضلهم أبو بكر على الإطلاق.
2 { الأنصار}: هم من أسلم من الأوس والخزرج بالمدينة ولم يعرفوا في الجاهلية بهذا الاسم وإنما سماهم الله تعالى به في الإسلام.

إلى الإيمان والهجرة والنصرة والجهاد، والذين اتبعوهم1 في ذلك وأحسنوا أعمالهم فكانت موافقة لما شرع الله وبين رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الجميع رضي الله عنهم بإيمانهم وصالح أعمالهم، ورضوا عنه بما أنالهم من إنعام وتكريم، وأعد لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً أي وبشرهم بما أعد لهم من جنات وقوله {ذلك الفوز العظيم} أي ذلك المذكور من رضاه تعالى عنهم ورضاهم عنه وإعداد الجنة لهم هو الفوز العظيم، والفوز السلامة من المرهوب والظفر بالمرغوب فالنجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (100) وأما الآية الثانية فقد تضمنت الإخبار بوجود منافقين في الأعراب2 حول المدينة، ومنافقين في داخل المدينة، إلا أنهم لتمرسهم وتمردهم في النفاق أصبحوا لا يُعرفون، لكن الله تعالى يعلمهم هذا معنى قوله تعالى {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا3 على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم}، وقوله تعالى {سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} وعيد لهم نافذ فيهم لا محالة وهو أنه تعالى سيعذبهم في الدنيا مرتين مرة بفضحهم أو بما شاء من عذاب ومرة في قبورهم، ثم بعد البعث يردهم إلى عذاب النار وهو العذاب العظيم، وقوله تعالى في الآية الثالثة (102) {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً}4 هؤلاء أُناس آخرون تخلفوا عن الجهاد بغير عذر وهم أبو لبابة ونفر معه ستة أو سبعة أنفار ربطوا أنفسهم في سواري المسجد لما سمعوا ما نزل في المتخلفين وقالوا لن نحل أنفسنا حتى يحلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خلطوا عملاً صالحاً وهو إيمانهم وجهادهم وإسلامهم وعملاً سيئاً وهو تخلفهم عن غزوة تبوك بغير عذر، فقوله تعالى {عسى الله أن يتوب عليهم} إعلامهم بتوبة الله تعالى عليهم فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فحل رباطهم وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذه أموالنا التي خلفتنا عنك خذها فتصدق بها واستغفر لنا فقال ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً.
__________
1 التابعون: جمع تابع أو تابعي، وهم الذين صحبوا الصحابة، وأكبر التابعين: الفقهاء السبعة وهم: سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير، وخارجة بن زيد، وأبو سلمة بن عبدالرحمن، وعبدالله بن عتبة بن مسعود، وسليمان بن يسار. وكلهم من المدينة النبوية وأفضل نساء التابعين حفصة بنت سيرين وعمرة بنت عبدالرحمن وأم الدرداء.
2 الأحياء الذين كانوا حول المدينة هم: مزينة وجهينة وأسلم، وغفار وأشجع ولحيان وعصيّة وكان منهم منافقون.
3 يقال: مرد على الأمر: إذا مرن عليه ودرب به، ومنه الشيطان المارد سئل حذيفة عن المنافقين فأخبر أنهم اثنا عشر، ستة ماتوا بالدبيلة وأربعة ماتوا موتاً عادياً.
4 {خلطوا} يريد خلطوا حسنات أعمالهم الصالحة بسيئات التخلف عن الغزو والإنفاق في الجهاد والسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك. وعسى: فعل رجاء وهي في كلام الله تعالى كناية عن وقوع المرجو لا محالة.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضل السبق للخير والفوز بالأولية فيه.
2- فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غيرهم ممن جاء بعدهم.
3- فضل التابعين لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أحسنوا المتابعة.
4- علْم ما في القلوب إلى الله تعالى فلا يعلم أحد من الغيب إلا ما علَّمه الله عز وجل.
5- الرجاء لأهل التوحيد الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً بأن يغفر الله لهم ويرحمهم.
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(103) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(104) وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(106)
شرح الكلمات:
صدقة : مالاً يتقرب به إلى الله تعالى.
تطهرهم وتزكيهم بها : أي تطهرهم من ذنوبهم، وتزكيهم أنت أيها الرسول بها بدعائك لهم وثنائك عليهم.
وصل عليهم : أي ادع لهم بالخير.
إن صلاتك سكن لهم : أي دعاءك رحمة.
ويأخذ الصدقات : يتقبلها.

مرجون لأمر الله: مؤخرون لحكم الله وقضائه.
عليم حكيم : أي بخلقه نيات وأموالاً وأعمالاً حكيم في قضائه وشرعه.
معنى الآيات:
لقد تقدم في الآية قبل هذه أن المتخلفين التائبين قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم هذه أموالنا1 التي تخلفنا بسببها صدقة فخذها يا رسول الله فقال لهم إني لم أُؤْمر بذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية {خذ2 من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم، والله سميع عليم} فأمر تعالى رسوله أن يأخذ صدقة هؤلاء التائبين لأنها تطهرهم من ذنوبهم ومن أوضار الشُّح في نفوسهم وتزكيهم أيها الرسول بها بقبولك لها وصل عليهم أي ادع لهم بخير، إن صلاتك سكن3 لهم أي رحمة وطمأنينة في نفوسهم والله سميع لأقوالهم لمَّا قدموا صدقتهم وقالوا خذها يا رسول الله عليم بنياتهم وبواعث نفوسهم فهم تائبون توبة صدق وحق. وقوله تعالى {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده} الاستفهام للتقرير أي هم يعلمون ذلك قطعاً، ويأخذ الصدقات4 أي يقبلها، وأن الله هو التواب أي كثير قبول التوبة من التائبين الرحيم بعباده المؤمنين ثم أمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم حاضاً لهم على العمل الصالح تطهيراً لهم وتزكية لنفوسهم {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} 5 فيشكر لكم ويثني به عليكم {وستردون إلى عالم الغيب والشهادة} وهو الله عز وجل {فينبئكم بما كنتم تعملون} ويجزيكم به الحسن بالحسن والسيء بمثله. وقوله تعالى {وآخرون مرجون لأمر الله. إما يعذبهم وإما يتوب
__________
1 المال في فصيح اللغة: هو كل ما تموّل وتملك فهو مال. والمراد من قولهم هذه أموالنا يعنون ما لديهم من سائر أنواع المال. وأما في الزكوات فإنها خاصة بالعين المواشي والثمار والحبوب بشروطها التي هي النصاب والحول في العين والحصاد في الحبوب والتمر بلوغ خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً والصاع أربعة أمداد.
2 هذه الآية وإن نزلت في الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً فإنها عامة في الأمة فعلى ولاة أمور المسلمين أن يجبوا الزكوات ويأخذوها من الأمة فريضة الله تعالى على المسلمين للقيام بمصالح المسلمين، والذين قدّموا أموالهم كلها أخذ منها الرسول صلى الله عليه وسلم الثلث، وردّ عليهم الباقي. فقال مالك من تصدق بجميع ماله يجزئه منه الثلث أخذاً من هذه الحادثة.
3 معناه أنه إذا دعا لهم سكنت قلوبهم وفرحوا، واختلف هل هذه الصلاة على المتصدق باقية أو انتهت بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحيح أنها باقية. فمن أخذ صدقة متصدق يصلي عليه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 أخرج مسلم: "لا يتصدق أحد بصدقة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه فتربو في كفّ الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل".
5 روى أبو داود وأحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات فإن كان خيراً استبشروا به وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا".

عليهم} هذا هو الصنف الثالث من أصناف المتخلفين فالأول هم المنافقون والثاني هم التائبون والثالث هو المقصود بهذه الآية وهم ثلاثة أنفار كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية فهؤلاء لم يأتوا الرسول صلى الله عليه وسلم ليعتذروا إليه كما فعل التائبون المتصدقون بأموالهم منهم أبو لبابة حيث ربطوا أنفسهم في سواري المسجد فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بمقاطعتهم1 حتى يحكم الله فيهم، وهو معنى قوله تعالى {مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم} فإن عذبهم أو تاب عليهم فذلك لعلمه وحكمته. وبقوا كذلك حتى ضاقت بهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ثم تاب الله تعالى عليهم كما جاء ذلك بعد كذا آية من آخر هذه السورة {إن الله هو التواب الرحيم}.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الصدقة تكفر الذنوب ونطهر الأرواح من رذيلة الشح والبخل..
2- يستحب لمن يأخذ صدقة امرئ مسلم أن يدعو له بمثل: آجرك الله2 على ما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت.
3- ينبغي للتائب من الذنب الكبير أن يكثر بعده من الصالحات كالصدقات والصلوات ونحوها.
4- فضيلة الخوف والرجاء فالخوف يحمل على ترك المعاصي والرجاء يعمل على الإكثار من الصالحات.
وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(107) لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ
__________
1 هؤلاء هم : كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع.
2 هو معنى : {وصلِّ عليهم} إذ الصلاة الدعاء لغة.

يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ(108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(109) لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(110)
شرح الكلمات:
ضراراً: أي لأجل الإضرار.
وإرصاداً: ا انتظاراً وترقباً.
إلا الحسنى : أي إلا الخير والحال الأحسن.
لا تقم فيه أبداً : أي لا تقم فيه للصلاة أبداً.
أسس على التقوى : أي بني على التقوى وهو مسجد قبا.
فيه رجال : هم بنو عَمرو بن عوف.
على تقوى من الله: أي على خوف.
ورضوان: أي رجاء رضوان الله تعالى.
على شفا جرف هار: أي على طرف جرف مشرف على السقوط، وهو مسجد الضرار.
ريبة في قلوبهم: أي شكاً في نفوسهم.
إلا أن تقطع قلوبهم: أي تُفْصَل من صدورهم فيموتوا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في فضح المنافقين وإغلاق أبواب النفاق في وجوههم حتى يتوبوا إلى الله تعالى أو يهلكوا وهم كافرون فقال تعالى ذاكراً فريقاً منهم {والذين اتخذوا مسجداً 1
__________
1 روي أن رأس الفتنة كان أبا عامر الراهب الذي ذهب يستعدي الروم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

ضراراً وكفراً وتفريقاً 1 بين المؤمنين وإرصاداً لمن2 حارب الله ورسوله من قبل} إن المراد من هؤلاء الذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً اثنا عشر رجلاً من أهل المدينة كانوا قد أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو شاخص إلى تبوك فقالوا يا رسول الله إنا قد بنينا مسجداً للعاجز منا والمريض واللّيلة المطيرة فَصَلِّ لنا فيه فقال لهم صلى الله عليه وسلم أنا الآن على جناح سفر وإن عدنا نصلي لكم فيه إن شاء الله أو كما قال. فلما عاد صلى الله عليه وسلم من تبوك ووصل إلى مكان قريب من المدينة يقال له ذواوان وهو بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار نزل عليه الوحي بشأن مسجد الضرار فبعث مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي أو أخاه عاصماً أخا بني العجلان فقال انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه فخرجا مسرعين حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال لمعن أنظرني حتى أخرج إليك بنار فخرج بسعف نخل قد أضرم فيه النار وأتيا المسجد وأهله فيه فأضرما فيه النار وهدماه وتفرق أهله ونزل فيهم قوله تعالى :{والذين اتخذوا مسجداً ضراراً} أي لأجل الإضرار المسجد النبوي ومسجد قباء حتى يأتيهما أهل الحي وقوله {كفراً} أي لأجل الكفر بالله ورسوله وقوله {وتفريقاً بين المؤمنين} علة ثالثة لبناء مسجد الضرار إذ كان أهل الحي مجتمعين في مسجد قباء فأرادوا تفرقتهم في مسجدين حتى يجد هؤلاء المنافقون مجالاً للتشكيك والطعن وتفريق صفوف المؤمنين على قاعدة: (فرق تسد) {وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل} وهو أبو عامر الراهب الفاسق لأنه عليه لعائن الله هو الذي أمرهم أن يبنوه ليكون وكراً للتآمر والكيد وهذا الفاسق قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما وجدت قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فكان مع المشركين في حروبهم كلها إلى أن أنهزم المشركون في هوازن وأيس اللعين ذهب إلى بلاد الروم يستعديهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا أمر المنافقين ببناء مسجد الضرار ليكون كما ذكر تعالى حتى ينزل به مع جيوش الروم التي قد خرج يستعديها ويؤلَّبها إلا أنه خاب في مسعاه وهلك بالشام إلى جهنم وبئس المصير فهذا معنى قوله تعالى {وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل} أي قبل بناء مسجد الضرار الذي هُدم وحُرق وأصبح موضع قمامة تلقى فيه الجِيَفْ والقمائم.
__________
1 {ضرارا} مفعول لأجله أي: لأجل مضارة أهل الإسلام بتفرقة المسلمين وإيجاد عداوات بينهم.
2 هو أبو عامر الراهب، وسمي الراهب: لأنه تنصّر وتعبد على دين النصارى ولما انهزمت ثقيف التحق بالروم ومات كافراً نالته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله تعالى {وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى} هذا قولهم لما حرق عليهم المسجد وهدم وانفضح أمرهم حلفوا ما أرادُوا ببنائه إلا الحالة التي هي حسنى لا سوء فيها إذ قالوا بنيناه لأجل ذي العلة ولليلة المطيرة. وقوله تعالى {والله يشهد إنهم لكاذبون} تفيد لقولهم وتقرير لكذبهم. وقوله تعالى {لا تقم فيه أبداً}1 نهيٌ للرسول صلى الله عليه وسلم أن يصلى لهم فيه كما واعدهم وهو ذاهب إلى تبوك. وقوله تعالى {لمسجد أسس2 على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه} وهو مسجده صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء إذ كل منهما أسس من أول يوم على تقوى من الله ورضوان أي على خوف من الله وطلب رضاه، وقوله تعالى {فيه رجال يحبون أن يطهروا والله يحب المطهرين} ثناء على أهل قباء بخير وإخبار أنهم يحبون أن يتطهروا3 من الخبث الحسِّي والمعنوي فكانوا يجمعون في الاستنجاء بين الحجارة والماء فأثنى الله تعالى عليهم بذلك، وقوله تعالى {أفمن أسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان} أي على مخافة من الله وطلب لرضاه خير أمن أسس بنيانه على شفا أي طرف جرف هار أي مشرف على السقوط، والجرف4 ما يكون في حافة الوادي من أرض يجرف السيل من تحتها التراب وتبقى قائمة ولكنها مشرفة على السقوط، وقوله تعالى {فانهار به في نار جهنم} أي سقط به ذلك الجرف في نار جهنم والعياذ بالله تعالى، هذا حال أولئك المنافقين الذين بنوا مسجد الضرار. وقوله تعالى {والله لا يهدي القوم الظالمين} أي لا يهديهم إلى ما يكمُلون به ويسعدون أي يحرمهم هدايته فيخسرون دنيا وأُخرى وقوله تعالى {لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم5} أي شكاً واضطراباً في نفوسهم {إلا أن تقطع 6 قلوبهم} فيهلكوا والشك في قلوبهم أي فكان هذا البناء الظالم سبباً في تأصل النفاق
__________
1 أي: {لا تقم فيه} للصلاة. يقال: فلان قائم يصلي. و {أبداً}، معناه في أي وقت من الأوقات مطلقاً. فأبداً: لفظ يفيد التأبيد المطلق.
2 {أسّس} أي: وضعت أسسه وبنيت جدره ورفت قواعده إذ الأس: أصل البناء، وكذلك الأساس، والجمع أسس وآساس جمع إساس. قال الشاعر:
أصح الملك ثابت الآساس ... في البهاليل من بني العباس
3لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهل قباء إن الله سجانه قد أحسن الثناء عليكم في التطهر فما تصنعون؟ قالوا: إنّا نغسل أثر الغائط والبول بالماء". رواه أبو داود. فكانوا يجمعون بين الاستجمار والاستنجاء مبالغة في التطهر، إن كان الاستجمار مجزئاً تخفيفاً على الأمة المسلمة.
4 الحرف: بالضم والإسكان كالرسْل والرسْل، وأصله من الجرف والإجتراف وهو اقتلاع الشيء من أصله.
5 وقيل: الريبة هنا: الحسرة والندامة، وحزازة وغيظاً والكل صالح لدلالة اللفظ عليه.
6 أي: إلى أن تقطع قلوبهم بالموت أي: إلا أن يموتوا.

والكفر في قلوبهم حتى يموتوا كافرين وقوله {والله عليم حكيم} تذييل للكلام بما يقرر مضمونه ويثبته فكونه تعالى علمياً حكيماً يستلزم حرمان أولئك الظلمة المنافقين من الهداية حتى يموتوا وهم كافرون إلى جهنم وذلك لتوغلهم في الظلم والشر والفساد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أكبر مؤامرة ضد الإسلام قام بها المنافقون بإرشاد الفاسق أبي عامر الراهب.
2- بيان أن تنازع الشرف هو سبب البلاء كل البلاء فابن أُبَيّ حاربَ الإسلام لأنه كان يُؤمِّلُ في السُّلطة على أهل المدينة فحُرِمَها بالإسلام. وأبو عامر الراهب ترهَّب لأجل الشرف على أهل المدينة والسلطان الروحى فلذا لما فقدها حارب من كان سبب حرمانه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم حتى قال له مواجهة: ما قاتلك قوم إلا قاتلتك معهم. بل ذهب إلى الروم يؤلِّبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم واليهود ما حاربوا الإسلام إلا من أجل المحافظة على أملهم في مملكة إسرائيل.
3- لا يصح الاغترار بأقوال أهل النفاق فإنها كذب كلها.
4- أيما مسجد بُني للإضرار والتفرقة بن المسلمين إلا ويجب هدمه وتحرم الصلاة فيه.
5- فضل التطهر والمبالغة في الطهارتين الروحية والبدنية.
6- التحذير من الظلم والإسراف فيه فإنه يحرم صاحبه هداية الله فيهلك وهو ظالم فيخسر دنيا وأُخرى.
إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ

الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(112)
شرح الكلمات:
الجنة: هي دار السلام التي أعدها الله تعالى للمتقين.
يقاتلون: أي الكفار والمشركين.
وعداً : أي وعدهم وعداً حقاً.
في التوراة : أي مذكوراً في التوراة والإنجيل والقرآن.
ومن أوفى بعهده : أي لا أحد أوفى بعهده من الله تعالى.
ذلك هو الفوز العظيم: أي ذلك البيع هو الفوز العظيم.
التائبون: أي من الشرك والنفاق والمعاصي.
العابدون: أي المطيعون لله في تذلل وخشوع مع حبهم لله وتعظيمهم له.
السائحون: أي الصائمون والخارجون في سبيل الله لطلب علم أو تعليمه أو جهاد لأعدائه.
الآمرون بالمعروف: أي بعبادة لله الله تعالى وتوحيده فيها.
الناهون عن المنكر: أي عن الشرك والمعاصي.
والحافظون لحدود الله : أي القائمون عليها العاملون بها.
وبشر المؤمنين: أي بالجنة دار السلام.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى حال المتخلفين عن الجهاد ذكر فضل الجهاد ترغيباً فيه وفيما أعد لأهله

فقال {إن الله اشترى1 من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن2 لهم الجنة} وهذا هو المُثَّمَن الذي أعطى الله تعالى فيه الثمن وهو الجنة، وقوله {يقاتلون في سبيل الله فيقتُلون} أي أعداء الله المشركين {ويقتلون}3 أي يستشهدون في معارك القتال وقوله {وعداً عليه حقاً4 في التوراة والإنجيل والقرآن} أي وعدهم بذلك وعداً وأحقه حقاً أي أثبته في الكتب الثلاثة التوراة والإنجيل والقرآن تقريراً له وتثبيتاً وقوله {ومن أوفى بعهده من الله} استفهام بمعنى النفي أي لا أحد مطلقاً أوفى بعهده إذا عاهد من الله تعالى وقوله {فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به} فبناء على ذلك فاستبشروا5 أيها المؤمنون ببيعكم الذي بايعتم الله تعالى به أي فسروا6 بذلك وافرحوا وذلك البيع والاستبشار هو الفوز العظيم الذي لا فوز خير ولا أعظم منه.
وقوله {التائبون}7 قوله: {والحافظون لحدود الله} هو ذكر لأوصاف أهل البيع وتحديد لهم فهم الموصوفون بتسع صفات الأولى التائبون أي من الشرك والمعاصي والثانية العابدون وهم المطيعون لله طاعة ملؤها المحبة لله تعالى والتعظيم له والرهبة منه والثالثة الحامدون لله تعالى في السراء والضراء وعلى كل حال والرابعة السائحون وهم الصائمون كما في الحديث8 والذين يخرجون في سبيل الله لطلب علم أو غزو أو تعليم أو دعوة إلى الله تعالى ليُعْبد ويوحَّد ويُطاع في أمره ونهيه والخامسة والسادسة الراكعون الساجدون أي المقيمون الصلاة المكثرون من نوافلها كأنهم دائماً في ركوع وسجود والسابعة والثامنة الآمرون بالمعروف وهو الإيمان بالله وتوحيده وطاعته وطاعة رسوله
__________
1 حصل هذا لبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة، إذ قال عبدالله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم "اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اشترط لربي أن تعبده ولا تشركوا به شيئاً، واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم قالوا: فإذا فمنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة. قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل".
2 الباء في الشراء تدخل على الثمن تقول: بعتك الدار بكذا ألفاً، ولذا قال هنا: {بأن لهم الجنة} فالجنة هي الثمن المشتري به الأنفس والأموال.
3 قوله تعالى {يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون} بيَّن فيه مكان تسليم البضاعة المشتراه وهي الأنفس.
4 {وعدا} و{حقا} مصدران مؤكدان.
5 أي: أظهروا السرور على بشرة وجوهكم.
6 فسُرُّوا: أي أظهروا السرور.
7 {التائبون} هم الراجعون من الحالة المذمومة إلى الحالة المحمودة والتائب: الراجع، والراجع إلى الطاعة أفضل من الراجع عن المعصية لجمعه بين الأمرين.
8 روى الطبراني عن عائشة رضي الله عها أنها قالت: سياحة هذه الأمة الصيام، ورواه أبو هريرة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "سياحة أمتي الصيام" وروي أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم: "إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله".

والناهون عن المنكر وهو الكفر به تعالى والشرك في عبادته ومعصية رسوله محمد صلى الله عليه وسلم والتاسعة الحافظون لحدود الله بالقيام عليها1 وعملها بعد العلم بها وقوله تعالى : {وبشر المؤمنين} وهم أهل الإيمان الصادق الكامل المستحقون لبشرى الرسول صلى الله عليه وسلم بالنصر والتأييد في الدنيا والنجاة من النار ودخول الجنة يوم القيامة اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان فضل الله تعالى ومننه على عباده المؤمنين حيث وهبهم أرواحهم وأموالهم واشتراها منهم.
2- فضل الجهاد والاستشهاد في سبيل الله.
3- على المؤمن أن يشعر نفسه أن بدنه وماله لله تعالى وأن عليه رعايتهما وحفظهما حتى ترفع راية الجهاد ويطالب إمام المسلمين بالنفس والمال فيقدم نفسه وماله إذ هما وديعة الله تعالى عنده.
4- على المؤمن أن لا يدخل الضرر على نفسه ولا على ماله بحكم أنهما لله تعالى.
5- على المؤمن أن يتعاهد نفسه ليرى هل هو متصف بهذه الصفات التسع أولاً فإن رأى نقصاً كمله وإن رأى كمالاً حمد الله تعالى عليه وحفظه وحافظ عليه.
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ(113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ(114) وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى
__________
1 أي: القائمون بما أمر الله به، والمنتهون عمّا نهى عنه فحدود الله شرعه وهو فعل وترك، ففعل الأمر وترك النهي هو الحفظ.

يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(115) إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ(116)
شرح الكلمات:
أن يستغفروا للمشركين: أي يسألون الله تعالى لهم المغفرة.
أولي قربى : أصحاب قرابة كالأُبَّوة والبُنَّوة والأُخوة.
موعدة: أي وعدٌّ وعده به.
تبرأ منه.: أي قال: إني بريء منك.
أواه حليم: الأواه: كثير الدعاء والشكوى إلى الله تعالى والحليم الذي لا يغضب ولا يؤاخذ بالذنب.
ما يتقون : أي ما يتقون الله تعالى فيه فلا يفعلوه أو لا يتركوه.
من ولي: الولي من يتولى أمرك فيحفظك ويعينك.
معنى الآيات:
لما مات أبو طالب1 على الشرك بعد أن عرض عليه الرسول كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) فأبى أن يقولها وقال هو على ملة عبد المطلب قال له النبي صلى الله عليه وسلم لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عن ذلك، واستغفر بعض المؤمنين أيضاً لأقربائهم الذين ماتوا على الشرك، أنزل الله تعالى قوله {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} إذ ماتوا على الشرك ومن مات على الشرك قضى الله تعالى بأنه في النار أي ما صح ولا انبغى2 للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا أي ما صح
__________
1 روى مسلم أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبدالله بن أبي أمية فقال الرسول صلى الله عليه وسلم يا عم قل "لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية يا أبا طالب: أترغب عن ملة عبدالمطلب فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما تكلم به: هو على ملّة عبدالمطلب وأبي أن يقول لا اله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما والله لأستغفرن لك مالم أُنه عنك".
2 فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" وهو طلب مغفرة، وطلب المغفرة هو الاستغفار. فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما قاله على سبيل الحكاية لا غير. إذ ذكر البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر نبيا قبله شجه قومه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عنه بأنَّه قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.

ولا انبغى استغفارهم. ولما قال بعضٌ إن إبراهيم قد استغفر لأبيه وهو مشرك قال تعالى جواباً {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه} وهي قوله: {سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً} لكنه عليه السلام لما تبين له أن أباه عدو لله أي مات على الشرك تبرأ منه ولم يستغفر له، وقوله {إن إبراهيم لأواه حليم}1 تعليل لمواعدة إبراهيم أباه بالاستغفار له لأن إبراهيم كان كثير الدعاء والتضرع والتأسف والتحسر فلذا واعد أباه، بالاستغفار له وقوله تعالى {وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون} هذه الآية نزلت رداً على تساؤلات الذين قالوا متندمين لقد كنا استغفرنا لأقاربنا المشركين فخافوا فأخبرهم تعالى أنه ليس من شأنه تعالى أن يضل قوماً بعد إذ هداهم إلى الصراط المستقيم حتى يبين لهم ما يتقون وأنتم استغفرتم لأقربائكم قبل أن يبين لكم أنه حرام. ولكن إذا أراد الله أن يضل قوماً2 بيّن لهم ما يجب أن يتقوه فيه فإذا لم يتقوه أضلهم. وقوله تعالى {إن الله بكل شيء عليم} فلا يضل إلا من يستحق الضلال كما أنه يهدي من يستحق الهداية وذلك لعلمه بكل شيء وقوله تعالى {له ملك السموات والأرض} أي خلقاً وملكاً وتصرفاً فهو يضل من يشاء ويهدي من يشاء يحيى ويميت يحيي بالإيمان ويميت بالكفر ويحيى الأموات ويميت الأحياء لكامل قدرته وعظيم سلطانه وقوله {وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير} أي ليس لكم من يتولاكم إذا تخلى عنكم وليس لكم من ينصركم إذا خذلكم فلذا وجبت طاعته والاتكال عليه، وحرم الالتفات إلى غيره من سائر خلقه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة الاستغفار لمن مات على الشرك لأن الله لا يغفر أن يشرك به فلذا لا يطلب منه شيء أخبر أنه لا يفعله.
2- وجوب الوفاء بالوعود والعهود.
__________
1 ذكروا لكملة أواه عشرة تأويلات وما ذُكر في التفسير أولى بها كلها ولو قلنا إن الأواه كثير قول: أوّاه تأسفا وتحسرا وشفقة ورحمة لكان أولى بدلالة اللفظ عليه.
2 شاهد هذا قوله تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول}: فإنه يأمرهم أولا وينهاهم فإن لم يمتثلوا استحقوا العذاب.

3- ليس من سنة الله تعالى في الناس أن يضل عباده قبل أن يبين لهم ما يجب عليهم عمله أو اتقاؤه.
4- ليس للعبد من دون الله من ولي يتولاه ولا نصير ينصره ولذا وجبت ولاية الله بطاعته واللجوء إليه بالتوكل عليه.
النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ(117) وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ(119)
شرح الكلمات:
المهاجرين: الذين هجروا ديارهم من مكة وغيرها ولحقوا برسول الله بالمدينة.
الأنصار: هم سكان المدينة من الأوس والخزرج آمنوا ونصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ساعة العسرة 1: هي أيام الخروج إلى تبوك لشدة الحر والجوع والعطش.
يزيغ قلوب : أي تميل عن الحق لشدة الحال وصعوبة الموقف.
الثلاثة الذين خلفوا: هم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية.
__________
1 لفظ الساعة يطلق على ظرف الزمان يطول ويقصر فقد أطلق على يوم القيامة وأطلق على ستين دقيقة، والمراد بالساعة: أيام غزوة تبوك.

بما رحبت : أي على اتساعها ورحابتها.
أن لا ملجأ: أي إذ لا مكان للُّجوء فيه والهرب إليه.
الصادقين : في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم والصدق ضد الكذب.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في أحداث غزوة تبوك وفي هذه الآيات الثلاث إعلان عن شرف وكرامة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه البررة من الأنصار والمهاجرة إذ قال تعالى {لقد تاب الله1 على النبي والمهاجرين والأنصار} أي أدامها (التوبة) وقبلها وقوله {الذين اتبعوه في ساعة العسرة}2 أي عند خروجه إلى تبوك في الحر الشديد والفاقة الشديدة وقوله {من بعد ما كاد يزيغ قلوبك3 فريق منهم} وذلك لصعوبة الحال وشدة الموقف لقد عطشوا يوماً كما قال عمر رضي الله عنه كان أحدنا يذبح بعيره ويعصر فرثه فيشرب ماءه ويضع بعضه على كبده فخطر ببعض القوم خواطر كادت القلوب تزيغ أي تميل عن الحق ولكن الله تعالى ثبتهم فلم يقولوا سوءاً ولم يعملوه لأجل هذا أعلن الله تعالى في هذه الآيات عن كرامتهم وعلو مقامهم ثم تاب عليهم إنه هو التواب الرحيم وقوله {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية ومعنى خلفوا أرجئوا في البت في توبتهم إذ تقدم قوله تعالى {وآخرون مرجون لأمر الله} فقد تخلفت توبتهم خمسين يوماً {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت4 وضاقت عليهم أنفسهم5 وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه} فصبروا على شدة ألم النفس من جراء المقاطعة التي أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم انتظاراً لحكم الله لأنهم تخلفوا عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ولم يكن لهم عذر، فلذا لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم تقدم المخلفون فاعتذروا فقبل منهم رسول الله وتاب الله على المؤمنين منهم ولم يتقدم هؤلاء الثلاثة ليعتذروا خوفاً من الكذب فآثروا جانب
__________
1 قال ابن عباس رضي الله عنهما كانت التوبة على النبي صلى الله عليه وسلم لأجل إذنه للمنافقين في القعود دليله قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم }؟ وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه.
2 (العسرة) صعوبة الأمر، قال جابر: اجتمع عليهم عسرة الظهر أي: (المركوب) وعسرة الزاد وعسرة الماء قال ابن عرفة: سمي جيش غزوة تبوك جيش العسرة: لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس إلى الغزو في حمارة الغيظ فغلظ عليهم وعسر.
3 تدارك قلوبهم حتى لم تزغ، وتلك سنته مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب أمطر عليهم سحائب رحمته فأحيا قلوبهم.
4 {رحبت} بمعنى: اتسعت، وما: مصدرية، أي ضاقت عليهم الأرض برحبها: أي: على رحبها لأنهم كانوا مهجورين لا يكلمون ولا يعاملون حتى من اقرب الناس إليهم، وفي هذا دليل على مشروعية هجران أهل المعاصي حتى يتوبوا.
5 أي: ضاقت صدورهم بالهمّ.

الصدق فأذاقهم الله ألم المقاطعة ثم تاب عليهم وجعلهم مثلاً للصدق فدعا المؤمنين أن يكونوا معهم فقال {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} أي اتقوا الله بإتباع أوامره واجتناب نواهيه وكونوا من الصادقين1 في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم تكونوا مع الصادقين في الآخرة مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما وسائر النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- بيان فضل غزوة العسرة على غيرها من الغزوات "وهي غزوة تبوك" .
3- بيان فضل الله على المؤمنين بعصمة قلوبهم من الزيغ في حال الشدة.
4- بيان فضل كعب بن مالك وصاحبيه في صبرهم وصدقهم ولجوئهم إلى الله تعالى حتى فرج عليهم وتاب عليهم وكانوا مثالاً للصدق.
5- وجوب التقوى والصدق في النيات والأقوال والأحوال والأعمال.
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(120) وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ
__________
1 فسّر (الصادقين): بأنهم الذين استوت ظواهرهم وبواطنهم قال ابن العربي : هذا القول هو الحقيقة والغاية التي إليها المنتهى.

وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ(122)
شرح الكلمات:
ومن حولهم من الأعراب: وهم مزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم.
ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه: أي يطلبون لأنفسهم الراحة ولنفس رسول الله التعب والمشقة.
ظمأ .: أي عطش.
ولا نصب : أي ولا تعب.
ولا مخمصة : أي مجاعة شديدة.
يغيظ الكفار : أي يصيبهم بغيظ في نفوسهم يحزنهم.
نيلا: أي منالاً من أسر أو قتل أو هزيمة للعدو.
وادياً: الوادي: مسيل الماء بين جبلين أو مرتفعين.
لينفروا كافة.: أي يخرجوا للغزو والجهاد جميعاً.
طائفة.: أي جماعة معدودة.
ليتفقهوا في الدين: أي ليعلموا أحكام الدين وأسرار شرائعه.
ولينذروا قومهم : أي ليخوفوهم عذاب النار بترك العمل بشرع الله.
لعلهم يحذرون : أي عذاب الله تعالى بالعلم والعمل.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في آثار أحداث غزوة تبوك فقال تعالى {ما كان لأهل المدينة}1
__________
1 هذه الآية نزلت تحمل العتاب للمؤمنين أهل المدينة والأحياء المجاورة لها كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم على التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.

أي سكانها من المهاجرين والأنصار {ومن حولهم من الأعراب} أي ومن النازلين حول المدينة من الأعراب كمزينة وجهينة وغفار وأشجع وأسلم {أن يتخلفوا عن رسول الله} إذا خرج إلى جهاد ودعا بالنفير العام وفي هذا عتاب ولوم شديد لمن تخلفوا عن غزوة تبوك وقوله {ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} أي بأن يطلبوا لأنفسهم الراحة دون نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله {ذلك} أي النهي الدال عليه بصيغة ما كان لأهل المدينة وهي أبلغ من النهي بأداته (لا) لأنه نفي للشأن أي هذا مما لا ينبغي أن يكون أبداً. وقوله {بأنهم لا يصيبهم} بسبب أنهم لا يصيبهم {ظمأ} أي عطش {ولا نصب} أي تعب {ولا مخمصة}1 أي جوع شديد في سبيل الله أي في جهاد أهل الكفر لإعلاء كلمة الإسلام التي هي كلمة الله {ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار} أي ولا يطأون أرضاً من أرض العدو يغتاظ لها العدو الكافر ويحزن {ولا ينالون من عدو}2 أي لله تعالى {نيلاً} أي منالاً أي أسرى أو قتلى أو غنيمة منه أو هزيمة له {إلا كتب لهم به عمل صالح} فلهذا لا ينبغي لهم أن يتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يفوتهم هذا الأجر العظيم. وقوله {إن الله لا يضيع أجر المحسنين} تعليل لتقرير الأجر وإثباته لهم إن هُم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحسنوا الصحبة والعمل وقول تعالى {ولا ينفقون نفقة} أي في سبيل الله الذي هو هنا الجهاد {صغيرة ولا كبيرة} أي قليلة ولا كثيرة {ولا يقطعون وادياً} ذاهبين إلى العدو أو راجعين {إلا كتب لهم} 3 أي ذلك المذكور من النفقة والسير4 في سبيل الله. وقوله تعالى {ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون} أي جزاء أحسن عمل كانوا يعملونه قبل خروجهم في سبيل الله. وقوله تعالى {فلولا نفر من كل فرقة} 5 أي قبيلة منهم طائفة أي جماعة {ليتفقهوا في الدين} بما
__________
1 أصل المخمصة: ضمور البطن يقال: رجل خمص الباطن أي: ضامره وامرأة خمصانة.
2 يقال: نال الشيء يناله: إذا أصابه، فينالون: بمعنى يصيبون.
3 قال ابن عباس بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعون ألف حسنة. وجاء في الصحيح في شأن الخيل وفيه: "وأمّا التي هي له أجر فرجلٌ ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج أو روضة فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة إلا كتب عدد ما أكلت حسنات، وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات".
4 روى مسلم وأبو داود أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد تركتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم وادياً إلا وهم معكم فيه قالوا يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم في المدينة؟ قال حبسهم العذر".
5 هذه الآية دليل على أن الجهاد فرض كفاية ولا يتعين إلا إذا عيّنة الإمام أو هاجم العدو دار قوم مؤمنين فيجب عليهم قتاله كافة كما هي نص في وجوب طلب العلم وهو بالرحلة الطويلة إليه. وفي الحديث "طلب العلم فريضة على كل مسلم" وهذا الحديث دليل على أن طلب العلم يكون فرض عين ويكون فرض كفاية.

يسمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعلمونه منه {ولينذروا قومهم} عواقب الشرك والشر والفساد {لعلهم يحذرون} ذلك فينجون من خزى الدنيا وعذاب الآخرة هذه الآية نزلت لما سمع المسلمون ورأوا نتائج التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لن نتخلف بعد اليوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً ولا نتخلف عن غزو ما حيينا فأنزل الله تعالى هذه الآية يرشدهم إلى ما هو خير وأمثل فقال {فلولا} أي فهلا نفر من كل فرقة منهم أي قبيلة أو حيّ من أحيائهم طائفة فقط وتبقى طائفة منهم بدل أن يخرجوا كلهم ويتركون رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده فإن خروجهم على هذا النظام أنفع لهم فالذين يبقون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يخرجون معه إذا خرج يتفقهون في الدين لصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والباقون هم في مهام دينهم أيضاً ودنياهم فإذا رجع أولئك المتفقهون علموا إخوانهم ما فاتهم من العلم وأسرار الشرع كما أن الذين ينفرون إلى الجهاد قد يشاهدون من نصر الله لأوليائه وهزيمته لأعدائه ويشاهدون أيضاً ضعف الكفار وفساد قلوبهم وأخلاقهم وسوء حياتهم فيعودون إلى إخوانهم فينذرونهم ما عليه أهل الكفر والفساد فيحذرون منه ويتجنبونه وفي هذا خير للجميع وهو معنى قوله تعالى {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}.
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
1- وجوب إيثار رسول الله صلى الله عليه وسلم على النفس بكل خير بل بالحياة كلها.
2- بيان فضل السير في سبيل الله، وما فيه من الأجر العظيم.
3- فضل الإحسان وأهله.
4- تساوي فضل طلب العلم والجهاد على شرط النية الصالحة في الكل وطالب العلم لا ينال هذا الأجر إلا إذا كان يتعلم ليعلم فيعمل فيعلم مجاناً في سبيل الله والمجاهد لا ينال هذا الأجر إلا إذا كان لإعلاء كلمة الله خاصة.
5- حاجة الأمة إلى الجهاد والمجاهدين كحاجتها إلى العلم والعلماء سواء بسواء.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ(123 )

شرح الكلمات:
آمنوا: أي بالله ورسوله ووعد الله ووعيده.
الذين يلونكم: أي يلون بلادكم وحدودها.
من الكفار: من: بيانية، أي الكافرين.
وليجدوا فيكم غلظة : أي قوة بأس وشدة مراس ليرهبوكم وينهزموا أمامكم.
مع المتقين: أي بنصره وتأييده والمتقون هم الذين اتقوا الشرك والمعاصي والخروج عن السنن الإلهية في النصر والهزيمة.
معنى الآية الكريمة:
لما طهرت الجزيرة من الشرك وأصبحت دار إسلام وهذا في أخريات حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك بعد غزوة تبوك أمر الله تعالى المؤمنين بأن يواصلوا الجهاد في سبيله بعد وفاة نبيه وأرشدهم إلى الطريقة التي يجب أن يتبعوها في ذلك وهي: أن يبدأوا بدعوة وقتال أقرب كافر منهم والمراد به الكافر المتاخم لحدودهم كالأردن أو الشام أو العراق مثلاً فيعسكروا على مقربة منهم ويدعونهم إلى خصلة من ثلاث: الدخول في دين الله الإسلام أو قبول حماية المسلمين لهم بدخولهم البلاد وضرب الجزية على القادرين منهم مقابل حمايتهم وتعليمهم وحكمهم بالعدل والرحمة الإسلامية أو القتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم فإذا ضمت أرض هذا العدو إلى بلادهم وأصبحت لهم حدود أخرى فعلوا كما فعلوا أولاً وهكذا حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فتسعد البشرية في دنياها وآخرتها. وأمرهم أن يعلموا أن الله ما كلفهم بالجهاد إلا وهو معهم وناصرهم ولكن على شرط أن يتقوه في أمره ونهيه فهذا ما دلت عليه الآية الكريمة {يا أيها الذين آمنوا1 قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة}2 أي قوة بأس وشدة مراس في الحرب {واعلموا3 أن الله مع المتقين} أي بنصره وتأييده.
__________
1 توجيه الخطاب للذين آمنوا دون النبي صلى الله عليه وسلم فيه إيماء إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يغزو لله بعد ذلك وأن أجله الشريف قد اقترب، وفعلا فإنه صلى الله عليه وسلم ما غزا بعد تبوك وإنما حجّ حجة الوداع وبعدها بواحد وثمانين يوماً استأثر الله تعالى بروحه الطاهرة الشريفة.
2 {غلظة} مثلثة الغين غُلظة الكسر لغة الحجاز، والضم لغة بني تميم، والمراد الجرأة على القتال والصبر عليه مع العنف. والشدة في القتل والقصد من هذا إلقاء الرعب في قلوب الكافرين حتى يخشوا قتال المسلين.
3 افتتاح الجملة بـ اعلموا: للاهتمام بما يراد العلم به، وفي الجملة تسلية للمؤمنين بعد فقد نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأن الله معهم بالنصر والتأييد فاتقوه بلزوم طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في أمرهما ونهيهما في السلم والحرب.

هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة
1- وجوب الجهاد واستمراريته إلى أن لا تبقى فتنة أو شرك أو اضطهاد لمؤمن ويكون الدين والحكم كلاهما لله تعالى.
2- مشروعية البداءة في الجهماد بأقرب الكفار إلى بلاد المسلمين من باب (الأقربون أولى بالمعروف).
3- إذا اتسعت بلاد الإسلام تعين على أهل كل ناحية قتال من يليهم الأقرب فالأقرب.
4- وعد الله بالنصر والتأييد لأهل التقوى العامة والخاصة.
وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ(125) أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ(126) وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون(127)
شرح الكلمات :
سورة : أي قطعة من القرآن وسواء كانت آيات من سورة أو سورة بكاملها وحدها.
زادته إيماناً : أي السورة قَوَّت إيمانه وزادت فيه لأنها كالغيث النافع.
يستبشرون : فرحين بفضل الله تعالى عليهم.

في قلوبهم مرض: أي شك ونفاق وشرك.
فزادتهم رجساً: أي نجساً إلى نجس قلوبهم ونفوسهم.
يفتنون: أي يمتحنون.
ولا هم يذكرون : أي لا يتعظون لموات قلوبهم.
صرف الله قلوبهم: دعاء عليهم بأن لا يرجعوا إلى الحق بعد انصرافهم عنه.
لا يفقهون: أي لا يفهمون أسرار الخطاب لظلمة قلوبهم وخبث نفوسهم.
معنى الآيات..
هذا آخر حديث عن المنافقين في سورة براءة الفاضحة للمنافقين يقول تعالى {وإذا ما أنزلت سورة}1 أي من سور القرآن التي بلغت 114 سورة نزلت وتليت وهم غائبون عن المجلس الذي تليت فيه، فمنهم أي من المنافقين من يقول: {أيكم زادته هذه إيماناً}2 وقولهم هذا تهكم منهم وازدراء قال تعالى {فأما الذين آمنوا} بحق وصدق {فزادتهم إيماناً} لأنها نزلت بأحكام أو أخبار لم تكن عندهم فآمنوا بها لما نزلت فزاد بذلك إيمانهم وكثر كما كان أن إيمانهم يقوى حتى يكون يقيناً بما يتنزل من الآيات وقوله { وهم يستبشرون} أي فرحون مسرورون بالخبر الذي نزل والقرآن كله خير كما هم أيضاً فرحون بإيمانهم وزيادة يقينهم {وأما الذين في قلوبهم مرض} أي شك ونفاق {فزادتهم رجساًَ} 3 أي شكاً ونفاقاً {إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون}. وقوله تعالى {أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين}4 أي أيستمر هؤلاء المرضى بالنفاق على نفاقهم ولا يرون أنهم يفتنون أي من أجل نفاقهم مرة أو مرتين أي يختبرون بالتكاليف والفضائح وغيرها {ثم لا يتوبون} من نفاقهم {ولا هم يذكرون} فيتعظون فيتوبون هذا ما دلت عليه الآيات الأولى (124) والثانية (125) والثالثة (126) أما الآية الرابعة (127) فقد تضمنت سوء حال هؤلاء المنافقين وقبح سلوكهم فسجَّلت عليهم وصمة عار وخزي إلى يوم القيامة إذ قال
__________
1 {ما} صلة لتقوية الكلام حسب الأسلوب العربي البليغ.
2 الإيمان لغة: التصديق. وشرعاً: تصديق الله ورسوله في كل ما أخبرا به وأركانه ستة ويزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.
3 شكّاً إلى شكّهم، وكفراً إلى كفرهم، وإثما إلى إثمهم إذ الشك والكفر من أعظم الآثام.
4 قال قتادة والحسن ومجاهد: بالغزو والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم ويرون ما وعد الله من النصر يُريد يتحقق أمامهم وكأنهم لا يعقلون.

تعالى {وإذا ما أُنزلت سورة}1 أي وهم في المجلس وقرئت على الجالسين وهم من بينهم. {نظر بعضهم إلى بعض} وقال في سرية ومُخافَتَه هيا نقوم من هذا المجلس الذي نعير فيه ونشتم {هل يراكم من أحد} أي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإن كان الجواب: لا يرانا أحد انصرفوا متسللين لواذاً قال تعالى في دعاء عليهم: {صرف الله قلوبهم}2 أي عن الهدى {بأنهم قوم لا يفقهون} أي لا يفقهون أسرار الآيات وما تهدي إليه، فعلتهم سوء فهمهم وعلة سوء فهمهم ظلمة قلوبهم وعلة تلك الظلمة الشك والشرك والنفاق والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ زيادة الإيمان ونقصانه زيادته بالطاعة ونقصانه بالعصيان.
2- جواز الفرح بالإيمان وصالح الأعمال.
3- مريض القلب يزداد مرضاً وصحيحه يزداد صحة سنة من سنن الله في العباد.
4- كشف أغوار المنافقين وفضيحتهم في آخر آية من سورة التوبة تتحدث عنهم.
5- يستحب أن لا يقال انصرفنا3 من الصلاة أو الدرس ولكن يقال انقضت الصلاة أو انقضى الدرس ونحو ذلك.
لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ(128) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(129)
__________
1 {ما} صلة لتقوية الكلام.
2 هذه الجملة خبرية أخبر تعالى أنه جزاهم على انصرافهم من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم بصرف قلوبهم عن الهدى فهم لا يهتدون إذاً أبدا وضمّن الخبر الدعاء عليهم، وقد تحقق معناه وهو صرف قلوبهم.
3 لأنّ الله ذمّ المنافقين لانصرافهم ودعا عليهم بصرف قلوبهم وصرفها ولو قيل انقلبنا من الصلاة أو من الجنازة لكان خيراً لقوله تعالى: {فانقلبوا برحمة من الله وفضل} الآية من سورة آل عمران.

شرح الكلمات:
رسول من أنفسكم: أي محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم من جنسكم عربي.
عزيز عليه: أي شاق صعب.
ما عنتم: أي ما يشق عليكم ويصعب تحمله.
حريص عليكم: أي حريص على هدايتكم وما فيه خيركم وسعادتكم.
رؤوف: شفيق.
رحيم: برق ويعطف ويرحم.
فإن تولوا : أي أعرضوا عن دين الله وما جئت به من الهدى.
حسبي الله : أي كافيّ الله.
لا إله إلا هو .: أي لا معبود بحق إلا هو.
توكلت: أي فوضت أمري إليه واعتمدت عليه.
رب العرش العظيم: عرش الله تعالى لا أعظم منه إلا خالقه عز وجل إذ كرسيه تعالى وسع السموات والأرض ونسبة الكرسي إلى العرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة.
معنى الآيتين الكريمتين:
في ختام سورة التوبة يقول الله تعالى لكافة العرب: {لقد جاءكم رسول} 1 أي كريم عظيم {من أنفسكم} 2 عدناني قرشي هاشمي مُطًَّلِبي تعرفون نسبه وصدقه وأمانته. {عزيز عليه ما عنتم}3 أي يشق عليه ما يشق عليكم ويؤلمه ما يؤلمكم لأنه منكم ينصح لكم نصح القومي لقومه. {حريص عليكم} أي على هدايتكم وإكمالكم وإسعادكم
__________
1 روي عن أبي أنه قال: هاتان الآيتان أقرب القرآن بالسماء عهدا وهذا لا ينافي أنّ آخر ما نزل من القرآن: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله}.
2 قرىء: {من أنفسكم} أي: أشرفكم وأفضلكم إذ هو من النفاسة وهي تعلّق نفوس البشر بما هو أجمل وأكمل. وقراءة الجمهور أولى وهي الضم أي: من أنفسكم إذ ما من قبيلة من فبائل العرب إلا وولدت النبي صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وشاهده قوله صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم " وفي لفظ: "فأنا خيار من خيار" وهو صلى الله عليه وسلم كذلك.
3 {ما} مصدرية تُسبكُ مع الفعل بمصدر فيكون الكلام عزيز عليه ما عنتكم والعنت: التعب، وهو مصدر عنت يعنت عنتا. كأنّه يشير إلى أنّ ما لاقاه أصحابه من عنت أيام كانوا يحاربون أهليهم، وذويهم وما نالهم من الغربة والفاقة، والحرب كل ذلك كان يعزّ عليه صلى الله عليه وسلم ويألم له فصلى الله وسلم عليه ما أرحمه وأوفاه!!

{بالمؤمنين} منكم ومن غيركم من سائر الناس {رؤوف رحيم} أي شفوق عطوف يحب رحمتهم وإيصال الخير لهم. إذا فآمنوا به واتبعوا النور الذي جاء به تهتدوا وتسعدوا ولا تكفروا فتضلوا وتشقوا. وقوله تعالى {فإن تولوا} أي أعرضوا عن دعوتك فلا تأْسَ وقل حسبي الله أي يكفيني ربي كل ما يهمني {لا إله إلا هو} أي لا معبود بحق سواه لذا فإني أعبده وأدعو إلى عبادته، {عليه توكلت}1 أي في شأني كله {وهو رب العرش العظيم} ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو على كل شيء قدير.
هداية الآيتين.
من هداية الآيتين:
1- بيان مِنَّه الله تعالى على العرب خاصة وعلى البشرية عامة ببعثه خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم.
2- بيان كمال أخلاقه صلى الله عليه وسلم.
3- وجوب التوكل على الله تعالى والاعتماد عليه في كل شيء يقوم به العبد.
4- عظمة عرش الرحمن عز وجل.
__________
1 عن أبي الدرداء أنّ من قال: إذا أصبح وإذا أمسى : "حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم: سبع مرات كفاه الله ما أهمّه صادقاً كان أو كاذباً"

سورة يونس
...
سورة يونس
مكية1
وآياتها مائة وتسع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ(1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ(2)
__________
1 ذكر بعضهم أن منها آيات قليلة مدنية، والظاهر أنها كلها مكية ومن تدبر آياتها من أوله إلى آخره لم ير ما يدعو إلى خلافه.

شرح الكلمات:
الر: هذه السورة الرابعة من السور المفتتحة بالحروف المقطعة نكتب الر وتقرأ ألفْ. لام. را.
الكتاب: أي القرآن العظيم.
الحكيم : القائل بالحكمة والقرآن مشتمل على الحِكَم فهو حكيم ومحكم أيضاً.
عجباً: العجب ما يتعجب منه.
رجل منهم : هو محمد صلى الله عليه وسلم.
قدم صدق: أي أجراً حسناً بما قدموا في حياتهم من الإيمان وصالح الأعمال.
إن هذا : أي القرآن.
لسحر1 مبين : أي بين ظاهر لا خفاء فيه في كذبهم وادعائهم الباطل.
معنى الآيتين:
مما تعالجه السور المكية قضايا التوحيد والوحي والبعث الآخر وسورة يونس افتتحت بقضية الوحي أي إثباته وتقريره من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى {آلر تلك آيات2 الكتاب الحكيم} 3 أي هذه آيات القرآن الكريم المحكم آياته المشتمل على الحكم الكثيرة حتى لكأنه الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه وقوله تعالى {أكان للناس4 عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم} أي أكان ايحاؤنا إلى محمد عبدنا ورسولنا وهو رجل من قريش عجباً لأهل مكة يتعجبون منه؟ والموحى به هو: {أن أنذر الناس}، أي خوفهم عاقبة الشرك والكفر والعصيان {وبشر الذين آمنوا} أي بأن لهم قدم5 صدق عند ربهم وهو
__________
1 هذه قراءة نافع.
2 يذكر المفسرون عن السلف توجيهات عدة لهذه الحروف منها: ما رووه عن ابن عباس أن الر: معناها. أنا الله.. وكل ما ذكروه قول بالظن وإنّ الظن أكذب الحديث، ومن الخير تفويض أمر معناها إلى من أنزلها وقد ذكرنا في التفسير، فائدتين عظيمتين فلنكتف بهما.
3 قال مقاتل: الحكيم بمعنى: المحكم من الباطل لا يدخله ففعيل بمّعنى مُفعل واستشهد بقول الأعشى بذكر قصيدته التي قالها:
وغريبة تأتي الملوك حكيمة ... قد قلتها ليقال من ذا قالها
4 {أكان للناس عجباً}: الاستفهام للتقريع والتوبيخ، وعجباً: خبر كان والاسم: أن أوحينا، والتقدير: أكان عجباً للناس إيحاؤونا.
5 ذكر القرطبي في تفسير {قدم صدق} أقوالا متعددة منها: سبق السعادة في الأزل، ومنها: أجر حسن، ومنها: منزل صدق، ومنها: ولد صالح قدّموه ومنها: يؤثر ذلك عن السلف، وما في التفسير هو الراجح إذ رجّحه إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى.

الجزاء الحسن لما قدموا من الإيمان وصالح الأعمال يتلقونه يوم يلقون ربهم في الدار الآخرة فلما أنذر وبشر صلى الله عليه وسلم قال الكافرون هذا سحر مبين ومرة قالوا: ساحر مبين وقولهم هذا لمجرد دفع الحق وعدم قبوله لا أن ما أنذر به وبشر هو سحر، ولا المنذر المبشر هو ساحر وإنما هو المجاحدة والعناد والمكابرة من أهل الشرك والكفر والباطل والشر والفساد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة الوحي بشهادة الكتاب الموحى به.
2- إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتقريرها بالوحي إليه.
3- بيان مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي النذارة والبشارة.
4- بشرى أهل الإيمان والعمل الصالح، بما أعد لهم عند ربهم.
5- عدم تورع أهل الكفر عن الكذب والتضليل.
إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ(3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ(4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(5) إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ

اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ(6)
شرح الكلمات:
إن ربكم الله : أي معبودكم الحق الذي يجب أن تعبدوه وحده هو الله.
خلق السموات والأرض: أي أوجدها من العدم حيث كانت عدماً فأصبحت عوالم.
في ستة أيام : هي الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، والجمعة.
ثم استوى على العرش: أي استوى استواء يليق به عز وجل فلا يقال كيف؟
ما من شفيع إلا من بعد إذنه : أي لا يشفع أحد يوم القيامة إلا من بعد أن يأذن له.
أفلا تذكرون: أي أتستمرون في جحودكم وعنادكم فلا تذكرون.
ثم يعيده: أي بعد الفناء والبلى وذلك يوم القيامة.
شراب من حميم: أي من ماء أُحمى عليه وغلى1 حتى أصبح حميماً يشوي الوجوه.
جعل الشمس ضياء2 : أي جعلها تضيء على الأرض.
والقمر نوراً.: أي جعل القمر بنور الأرض وهو الذي خلق ضوء الشمس ونور القمر.
وقدره منازل: أي قدر القمر منازل والشمس كذلك.
لتعلموا: أي قدرهما منازل ليعلم الناس عدد السنين والحساب.
يتقون: أي مساخط الله وعذابه وذلك بطاعته وطاعة رسوله.
معنى الآيات:
هذه الآيات في تقرير الألوهية بعد تقرير الوحي وإثباته في الآيتين السابقتين فقوله تعالى {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر} إخبار منه تعالى أنه عز وجل هو رب أي معبود أولئك المشركين به آلهة أصناماً
__________
1 غلى الماء يغلي غليانا إذا اشتدت حرارته ففار دخاناً.
2 الضياء: نور ساطع يضيء للرائي الأشياء وهو اسم مشتق من الضوء فالضياء أقوى من الضوء.

يعبدونها معه وهي لم تخلق شيئاً أما الله فإنه الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام بمقدار أيامنا هذه إذ لم تكن يومئذ أياماً كأيام الدنيا هذه، ثم استوى على عرشه استواء يليق بجلاله وكماله يدبر1 أمر السماء والأرض. هذا هو الإله الحق الذي يجب أن يعبد ويتقرب إليه. وقوله: {ما من2 شفيع إلا من بعد إذنه} أي وأنه لعظمته وعزة سلطانه لا يقدر أحد أن يشفع لآخر إلا بعد إذنه له فكيف إذاً تعبد هذه الأصنام رجاء شفاعتها لعابديها، والله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه؟ وقوله تعالى {ذلكم الله ربكم فاعبدوه} أي هذا الموصوف بهذه الصفات المعرَّف بهذه النعوت من الجلال والكمال هو ربكم الحق فاعبدوه بما شرع لكم من أنواع العبادات تكملوا وتسعدوا وقوله {أفلا تذكرون} هر توبيخ للمشركين لهم لِمَ لا تتعظون بعد سماع الحق. وقوله تعالى {إليه مرجعكم بعد موتكم جميعاً وعد الله حقاً}3 تقرير لمبدأ البعث الآخر أي إلى الله تعالى ربكم الحق مُرجعكم بعد موتكم جميعاً إذ وعدكم وعد الحق بالرجوع إليه والوقوف بين يديه وقوله {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط} 4 أي بالعدل: بيان لعلة الحياة بعد الموت إذ هذه الدار دار عمل والآخرة دار جزاء على هذا العمل فلذا كان البعث واجباً حتماً لا بد منه ولا معنى لإنكاره لأن القادر على البدء قادر على الإعادة من باب أولى وأحرى وقوله تعالى {والذين كفروا لهم شراب من حميم} أي ماء حار قد بلغ المنتهى في حرارته وعذاب أليم أي موجع إخبار منه تعالى بجزاء أهل الكفر يوم القيامة وهو علة أيضاً للحياة بعد الموت والبعث بعد الفناء وبهذا تقرر مبدأ البعث كما تقرر قبله مبدأ التوحيد ومن قبل مبدأ الوحي إذ على هذه القضايا تدور السور المكية وقوله تعالى {هو الذي جعل الشمس ضياء} أي ذات ضياء والقمر نوراً ذا نور وقدر القمر منازل5 وهي ثمانية وعشرون منزلة يتنقل فيها القمر، فعل ذلك {لتعلموا عدد السنين والحساب}6 فتعرفون
__________
1 قال مجاهد: يقضيه ويقدره وحده، وقيل: يأمر به ويمضيه. قال القرطبي: والمعنى متقارب.
2 {ما من شفيع} أي: لا شفيع يشفع إلا بعد إذنه له بالشفاعة.
3 {وعدا} و{حقا}: مصدران بمعنى وعدكم وعدا وأحقه حقا. أي: صدقا لا خلف فيه.
4 الجملة: {انه يبدؤ الخلق}: واقعة موقع الدليل على إنجاز وعده تعالى لأن الذي خلق من تراب وماء قادر على البعث والجزاء.
5 المنازل: جمع منزل، وهو مكان النزول والمراد بها سُمُوتُ بلوغ القمر فيها للناس كل ليلة في سمت منها كأنه ينزل بها، وللشمس منازل تسمى بروجاً وهي اثنا عشر برجا تحل فيها الشمس في فصول السنة لكل برج منزلتان وثلث.
6 {الحساب} مصدر حسُب يحسُب لضم السين حسابا بمدد عدَّ أما حسِب بكسر السين فهو بمعنى ظن ومضارعه يحسب بفتح السين وكسرها لغتان فصيحتان. وبهما قرىء: أيحسب الإنسان وكل يحسب بمعنى يظن.

عدد السنوات والشهور والأيام والساعات إذ حياتكم تحتاج إلى ذلك فهذا الرب القادر على هذا الخلق والتدبير هو المعبود الحق الذي يجب أن تعبدوه ولا تعبدوا سواه فهذا تقرير للتوحيد وتأكيد له. وقريه {ما خلق الله ذلك إلا بالحق} أي لم يخلق هذه الحياة الدنيا وهذه العوالم فيها عبثاً فتفنى وتبلى بعد حين ولا شيء وراء ذلك بل ما خلق ذلك إلا بالحق أي من أجل أن يأمر وينهى ثم يجزي المطيع بطاعته والعاصي بعصيانه وفي هذا تأكيد لقضية البعث والجزاء أيضاً وقوله {يفصل الآيات} أي هذا التفصيل المشاهد في هذا السياق {لقوم يعلمون} إذ هم الذين ينتفعون به أما الجهلة فلا ينتفعون بهذا التفصيل والبيان وقوله تعالى في الآية الأخيرة {إن في اختلاف الليل والنهار} أي بالطول والقصر والضياء والظلام {وما خلق الله في السموات والأرض} 1 من أفلاك وكواكب ورياح وأمطار وما خلق في الأرض من إنسان وحيوان وبر وبحر وأنهار وأشجار وجبال وَوِهاد {لآيات} أي علامات واضحة دالة على الخالق المعبود بحق وعلى جلاله وجماله وكماله وعظيم قدرته وقوة سلطانه فيُعبد لذلك بحبه غاية الحب وبتعظيمه غاية التعظيم وبرهبته والخشية منه غاية الرهبة والخشية ويذكر فلا يُنسى ويشكر فلا يُكفر ويطاع فلا يُعصى وقوله تعالى {لقوم يتقون}2 خص أهل التقوى بالآيات فيما ذكر من مظاهر خلقه وقدرته لأنهم هم الذين حقاً يبصرون ذلك ويشاهدونه لصفاء أرواحهم وطهارة قلوبهم ونفوسهم أما أهل الشرك والمعاصي فهم في ظلمة لا يشاهدون معها شيئاً والعياذ بالله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير ألوهية الله تعالى وأنه الإله الحق.
2 - تقرير عقيدة البعث والجزاء في الدار الآخرة.
3- بيان الحكمة في خلق الشمس والقمر وتقدير منازلهما.
4- مشروعية تعلم الحساب وعلم الفلك لما هو نافع للمسلمين؟
__________
1 قوله: {وما خلق الله في السموات والأرض} شمل الأجسام والأحوال معاً أي: الذوات والصفات، والأقوال والأعمال أيضاً إذ قال تعالى: {والله خلقكم وما تعملون}.
2 خصهم بالآيات لأنهم هم الذين ينتفعون بها أما أهل الشرك والفجور والمعاصي فلا ينتفعون بها فهي إذاً ليست لهم بل هي لغيرهم ممن ينتفعون بها.

5- فضل العلم والتقوى وأهلهما من المؤمنين.
إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ(7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ(8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(10)
شرح الكلمات:
لا يرجون لقاءنا : أي لا ينتظرون ولا يؤملون في لقاء الله تعالى يوم القيامة.
ورضوا بالحياة الدنيا: أي بدلاً عن الآخرة فلم يفكروا في الدار الآخرة.
واطمأنوا بها: أي سكنوا إليها وركنوا فلم يروا غيرها حياة يُعمل لها.
غافلون: لا ينظرون إليها ولا يفكرون فيها.
مأواهم النار : أي النار هي المأوى الذي يأوون إليه وليس لهم سواها.
يهديهم ربهم بإيمانهم1: أي بأن يجعل لهم بإيمانهم نوراً يهتدون به إلى الجنة.
دعواهم فيها سبحانك اللهم2: أي يطلبون ما شاءوا بكلمة سبحانك اللهم.
وآخر دعواهم أن الحمد لله : أي آخر دعائهم: الحمد لله رب العالمين.
معنى الآيات:
بعد تقرير الوحي والأُلوهية في الآيات السابقة ذكر تعالى في هذه الآيات الثلاث
__________
1 قال مجاهد: {يهديهم ربهم} بالنور على الصراط إلى الجنة بأن يجعل لهم نوراً يمشون به، وشاهده قوله تعالى: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات الخ}.
2 الدعوى هنا: بمعنى الدعاء يقال: دعوة بالهاء ودعوى بألف التأنيث وسبحان: مصدر بمعنى التسبيح الذي هو التنزيه.

الكريمة بيان جزاء كل ممن كذب بلقاء الله فلم يرجُ ثواباً ولم يخشَ عقاباً ورضيَ بالحياة الدنيا واطمأن بها، وممن آمن بالله ولقائه ووعده ووعيده فآمن بذلك وعمل صالحاً فقال تعالى {إن الذين لا يرجون1 لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها}2 أي سكنت نفوسهم إليها وركنوا فعلاً إليها {والذين هم عن آياتنا غافلون} أي آياته الكونية في الآفاق والقرآنية وهي حُجج الله تعالى وأدلته الدالة على وجوده وتوحيده ووحيه وشرعه غافلون عنها لا ينظرون فيها ولا يفكرون فيما تدل لإنهماكهم في الدنيا حيث أقبلوا عليها وأعطوها قلوبهم ووجوههم وكل جوارحهم. هؤلاء يقول تعالى في جزائهم {أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} أي من الظلم والشر والفساد. ويقول تعالى في جزاء من آمن بلقائه ورجا ما عنده {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم} أي إلى طريق الجنة {بإيمانهم} أي بنور إيمانهم فيدخلونها {تجري من تحتهم3 الأنهار في جنات النعيم}. ونعيم الجنة روحاني وجسماني فالجسماني يحصلون عليه بقولهم: سبحانك اللهم، فإذا قال أحدهم هذه الجملة "سبحانك اللهم"4 حضر لديه كل مُشتهى له. والروحاني يحصلون عليه بسلام الله تعالى عليهم وملائكته {وتحيتهم فيها سلام} وإذا فرغوا من المآكل والمشارب قالوا: الحمد لله رب العالمين. وهذا معنى قوله {دعواهم فيها سبحانك اللهم} أي دعاؤهم أي صيغة طلبهم {وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم} أي دعائهم {أن} أي أنه: {الحمد لله رب العالمين} 5
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التحذير من نسيان ا الآخرة والإقبال على الدنيا والجري وراء زخارفها.
__________
1 {لا يرجون لقاءنا} معناه أنهم لا يطلبونه ولا يتوقعونه، ولازم ذلك أنهم لا يخافون عقاباً أخرويا ولا ثوابا.
2 أي: سكنت نفوسهم إليها وصرفوا كل همهم لها طلباً لتحصيل منافعها فلم يسعوا لتحصيل ما ينفع في الآخرة لأنهم سكنوا إلى الدنيا، والساكن لا يتحرّك ووصف بأنه لها يرضى لها يغضب ولها يفرح ولها يهتم ويحزن.
3 {من تحتهم} من تحت بساتنهم ومن تحت أسرّتهم كذلك وهو أحسن قي النزهة والفرجة.
4 إنه ثناء مسوق للتعرض إلى إفاضة النعيم من طعام وشراب وهو كما قال ابن أبي الصلت:
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرّضه الثناء
5 في الآية دليل على إطلاق لفظ التسبيح على الدعاء وشاهده: دعوة ذي النون: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} وفيها دليل على مشروعية بل سنية بدء الطعام والشراب ببسم الله. وإنهائه بحمد الله تعالى كما هي السنة في ذلك.

2- التحذير من الغفلة بعدم التفكر بالآيات الكونية والقرآنية إذ هذا التفكير هو سبيل الهداية والنجاة من الغواية.
3- الإيمان والعمل الصالح مفتاح الجنة والطريق الهادي إليها.
4- نعيم الجنة روحاني وجسماني وهو حاصل ثلاث كلمات هي:
سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام. وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(11) وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ(13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ(14)
شرح الكلمات:
الشر : كل ما فيه ضرر في العقل أو الجسم أو المال والولد، والخير عكسه: ما فيه نفع يعود على الجسم أو المال أو الولد.
لقضي إليهم أجلهم : لهلكوا وماتوا.
فنذر : أي نترك.
في طغيانهم يعمهون: أي في ظلمهم وكفرهم يترددون لا يخرجون منه كالعميان.
الضر : المرض وكل ما يضر في جسمه، أو ماله أو ولده.

مر كأن لم يدعنا: مضى في كفره وباطله كأن لم يكن ذاك الذي دعا بكشف ضره.
كذلك زين 1 : مثل ذلك النسيان بسرعة لما كان يدعو لكشفه، زين للمسرفين إسرافهم في الظلم والشر.
القرون: أي أهل القرون.
بالبينات: بالحجج والآيات على صدقهم في دعوتهم.
خلائف: أي لهم، تخلفونهم بعد هلاكهم.
معنى الآيات:
هذه الفترة التي كانت تنزل فيها هذه السورة المكية كان المشركون في مكة في هيجان واضطراب كبيرين حتى إنهم كانوا يطالبون بنزول العذاب عليهم إذ ذكر تعالى ذلك عنهم في غير آية من كتابه منها {سأل سائل بعذاب واقع} ومنها {ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب} وفي هذا الشأن نزل قوله تعالى {ولو يعجِّل الله للناس الشر}2 أي عند سؤالهم إياه3، أو فعلهم ما يقتضيه كاستعجاله الخير لهم {لقضي إليهم أجلهم} أي لهلكوا الهلاك العام وانتهى أجلهم في هذه الحياة، وقوله تعالى {فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون} أي لم نعجل لهم العذاب فنذر الذين لا يرجون لقاءنا أي لا يؤمنون بلقائنا وما عندنا من نعيم وجحيم نتركهم في طغيانهم في الكفر والظلم والشر والفساد يعمهون حيارى يترددون لا يعرفون مُتجهاً ولا مخرجاً لما هم فيه من الضلال والعمى.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (11) أما الآية الثانية (12) فقد تضمنت بيان حقيقة وهي أن الإنسان الذي يعيش في ظلمة الكفر ولم يستنر بنور الإيمان إذا مسه الضر وهو
__________
1 قال القرطبي وهو صادق، كما زيّن لهذا الدعاء عند البلاء والإعراض عند الرخاء زيّن للمسرفين في الشرك والمعاصي أعمالهم في دلك.
2 فسّر الشرّ بالعقوبة إذ الشر كل ما يلحق الضرر بالإنسان عاجلاً أو آجلاً، والعقوبة كلها شر إذ هي عذاب انتقام ينزل بصاحبه.
3 قال مجاهد: هذه الآية نزلت في الرجل يدعر على نفسه أو ماله أو ولده إذا غضب. اللهم أهلكه اللهم لا تبارك فيه اللهم العنه فلو استجيب ذلك منه كما يستجاب الخير لقضى إليهم أجلهم. ولا أحسب أنّ الآية نزلت في هذا وإنما هي شاهد لما قال فقط، وشاهد آخر رواه البزار وأبو داود وهو قوله صلى الله عليه وسلم " لا تدعوا على أنفسكم لا تدعوا على أولادكم لا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم".

المرض والفقر وكل ما يضر دعا ربه على الفور لجنبه أو قاعداً أو قائماً يا رباه يا رباه فإذا استجاب الله له وكشف ما به من ضر مرَّ كأن لم يكن مرض ولا دعا واستجيب له واستمر في كفره وظلمه وغيِّه. وقوله تعالى {كذلك زُين للمسرفين ما كانوا يعملون} أي كما أن الإنسان الكافر سرعان ما ينسى ربه الذي دعاه ففرج ما به كذلك حال المسرفين في الظلم والشر فإنهم يرون ما هم عليه هو العدل والخير ولذا يستمرون في ظلمهم وشرهم وفسادهم. هذا ما دل عليه قوله تعالى {كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون}.
وقوله تعالى في الآية الثالثة {ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا} هذا خطاب لأهل مكة يخبرهم تعالى مهدداً إياهم بإمضاء سنته فيهم بأنه أهلك أهل القرون من قبلهم لَمَّا ظلموا أي أشركوا وجاءتهم رسلهم بالبينات1 أي بالآيات والحجج، وأبوْا أن يؤمنوا لِما ألفوا من الشرك والمعاصي فأهلكهم كعاد وثمود وأصحاب مدين وقوله تعالى {كذلك نجزي القوم المجرمين} أي مثل ذلك الجزاء بالإهلاك العام نجزي القوم المجرمين في كل زمان ومكان إن لم يؤمنوا ويستقيموا. وقوله تعالى {ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون} أي يقول لمشركي العرب من أهل مكة وغيرها، ثم جعلناكم خلائف2 في الأرض بعد إهلاك من قبلكم لننظر3 كيف تعملون فإن كان عملكم خيراً جزيناكم به وإن كان سوءاً جزيناكم به وتلك سنتنا في عبادنا وما الله بغافل عما يعمل الظالمون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مظاهر رحمة الله بعباده إذ لو عجل لهم ما يطلبون من العذاب كما يعجل لهم الخير عندما يطلبونه لأهلكهم وقضى إليهم أجلهم فماتوا.
2- يعصي الله العصاةُ ويكفر به الكافرون وبتركهم في باطلهم وشرهم فلا يعجل لهم العذاب لعلهم يرجعون.
__________
1 أي: بالمعجزات الواضحات كالتي آتى بها موسى وعيسى عليهما السلام.
2 الخلائف: جمع خليفة وحرف ثم مُؤذن ببعد ما بين الزمانين، والأرض: هي أرض العرب إذ هم الذين خلفوا عاداً وثموداً وقبلهما طسما وجديساً.
3 هذا التعليل كقوله تعالى: {هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا} إذ علَّة الوجود هي أن يذكر الله ويشكر، فمن ذكره وشكره أكرمه وأسعده ومن كفره ونساه عذّبه وأشقاه.

3- بيان أن الإنسان الكافر يعرف الله عند الشدة ويدعوه ويضرع إليه فإذا نجاه عاد إلى الكفر به كأن لم يكن يعرفه.
4- استمرار المشركين على إسرافهم في الكفر والشر والفساد مُزين لهم1 حسب سنة الله تعالى. فمثلهم مثل الكافر يدعو عند الشدة وينسى عند الفرج.
5- وعيد الله لأهل الإجرام بالعذاب العاجل أو الآجل إن لم يتوبوا.
6- كل الناس أفراداً وأمماً مُمهَلُون مُراقَبُون في أعمالهم وسلوكهم ومَجزيون بأعمالهم خيرها وشرها لا محالة.
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(15) قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ(17) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(18)
__________
1 شاهده قوله تعالى : {كذلك زيّنا لكلّ أمة عملهم} من سورة الأنعام.

شرح الكلمات:
لا يرجون لقاءنا : أي لا يؤمنون بالبعث والدار الآخرة.
من تلقاء نفسي : أي من جهة نفسي.
ولا أدراكم به : أي لا أعلمكم به.
عمراً من قبله : أي أربعين سنة قبل أن يوحى إليّ.
المجرمون: المفسدون لأنفسهم بالشرك والمعاصي.
ما لا يضرهم : أي إن لم يعبدوه.
ومالا ينفعهم: أي إن عبدوه.
أتنبئون: أي أتعلمون وتخبرون الله.
سبحانه: أي تنزيها له.
عما يشركون: أي به معه من الأصنام.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير قضايا أصول الدين الثلاث: التوحيد والوحي والبعث فقوله تعالى {وإذا تتلى عليهم آياتنا} أي إذا قرئت عليهم آيات الله عز وجل {قال الذين لا يرجون لقاءنا} 1 وهم المنكرون للبعث إذ به يتم اللقاء مع الله تعالى للحساب والجزاء. {إئت بقرآن غير هذا} أي بأن يكون خالياً من عيب آلهتنا وانتقاصها. أو أبَقه ولكن بدل كلماته بما لا يسوءنا فاجعل مكان آية فيها ما يسوءنا آية أخرى لا إساءة فيها لنا وقولهم هذا إما أن يكون من باب التحدي أو الاستهزاء والسخرية2 ولكن الله تعالى علَّم رسوله طريقة الرد عليهم بناء على ظاهر قولهم فقال له {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي} أي إنه لا يتأتَّى لي بحال أن أبدله من جهة نفسي لأني عبدالله ورسوله ما اتبع إلا ما يوحى
__________
1 عن مجاهد: أن المطالبين بهذا هم خمسة أنفار: عبدالله بن أميّة والوليد بن المغيرة، ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبدالله بن أبي قيس والعاصي بن عامر قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إئت بقرآن ليس فيه ترك عبادة الأصنام واللاّت والعزّى ومناة وهبل وليس فيه عيبها.
2 وإمّا أن يكون من باب توهمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي به من تلقاء نفسه إلاّ أنّ هذا الاحتمال ضعيف.

إلى {إني1 أخاف إن عصيت ربي} بتبديل كلامه {عذاب يوم عظيم} أي عذاب يوم القيامة وقوله {قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به} أي قل لهم رداً على طلبهم: لو شاء الله أن لا أتلوه عليكم ما تلوته عليكم، ولا أدراكم هو به أي ولا أعلَمكم فالأمر أمره وأنا لا أعصيه ويدل لكم على صحة ما أقول: إني لبثت فيكم عمراً2 أي أربعين سنة قبل أن آتيكم به {أفلا تعقلون}: معنى ما أقول لكم من الكلام وما أذكر لكم من الحجج؟.
هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية (15- 16) أما الآية الثالثة فقد تضمنت التنديد بالمجرمين الذين يكْذِبون على الله تعالى بنسبة الشريك إليه ويكذِّبون بآياته ويجحدونها فقال تعالى {فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً} 3 أي لا أحد أظلم منه {أو كذب بآياته} بعدما جاءته أي لا أحد أظلم من الاثنين، وقوله تعالى {إنه لا يفلح المجرمون} دل أولاً على أن المذكورين مجرمون وأنهم لا يفلحون شأنهم شأن كل المجرمين. وإذا لم يفلحوا فقد خابوا وخسروا. وقوله تعالى في الآية الرابعة {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم} أي من الأصنام {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله}4 وهم في ذلك كاذبون مفترون فلذا أمر الله أن يرد عليهم بقوله {قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض} إذ لو كان هناك من يشفع عنده لعلِمَهُم وأخبر عنهم فلم الكذب على الله والافتراء عليه ثم نزه الله تعالى نفسه عن الشرك به والشركاء له فقال {سبحانه وتعالى عما يشركون}.
هداية الآلات
من هداية الآيات
1- من الدعوة إلى الله تعالى تلاوة آياته القرآنية على الناس تذكيراً وتعليماً.
__________
1 جملة: {إنّي أخاف} جملة تعليلية لجملة: {إن أتبع إلا ما يوحى إليّ}.
2 العمر: الحياة مشتق من العمران، لأنّ مدة الحياة يعمر بها الحي العالم الأرضي، ويطلق العمر على المدة الطويلة التي لو عاش الإنسان مقدارها لكان أخذ حظه من البقاء. والمراد من قوله {عمراً} أي: لبثت بينكم مدة عمر كامل. إذ هي أربعون سنة.
3 في هذه الآية زيادة ردَّ على المطالبين بتبديل القرآن إذ تبديله ظلم والزيادة فيه كذب على الله تعالى ولا أحد أظلم ممن يفترى على الله الكذب، فكيف يسوغ لي أن افتري على الله الكذب أو أبدل كلامه.
4 إن قولهم: هؤلاء {شفعاؤنا} لأصنام لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ولا تبصر هو غاية الجهل، ومرادهم من شفاعتها أنها تشفع لهم عند الله في إصلاح معاشهم في الدنيا.

2- بيان ما كان عليه المشركون من تعنت وجحود ومكابرة.
3- كون النبي صلى الله عليه وسلم عاش أربعين سنة لم يعرف فيها علماً ولا معرفة ثم برز في شيء من العلوم والمعارف فتفوق وفاق كل أحد دليل على أنه نبي يوحى إليه قطعاً.
4 - لا أحد أظلم من أحد رجلين رجل يكذب على الله تعالى وآخر يكذِّب الله تعالى.
5- إبطال دعوى المشركين أن آلهتهم تشفع لهم عند الله يوم القيامة.
6- بيان سبب عبادة المشركين لآلهتهم وهو رجاؤهم شفاعتها لهم.
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(19) وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ(20)
شرح الكلمات:
أمة واحدة : أي على دين واحد هو الإسلام.
فاختلفوا: أي تفرقوا بأن بقى بعض على التوحيد وبعض على الشرك.
كلمة سبقت: بإبقائهم إلى آجالهم ومجازاتهم يوم القيامة.
آية: خارقة كناقة صالح عليه السلام.
إنما الغيب لله: أي إن علم الآية متى تأتي من الغيب والغيب لله وحده فلا أنا ولا أنتم تعلمون إذاً فانتظروا إنا معكم من المنتظرين.
معنى الآيتين:
يخبر تعالى رسوله بحقيقة علمية تاريخية من شأن العلم بها المساعدة على الصبر والتحمل فيقول {وما كان الناس إلا أمة واحدة} أي في زمن سابق أمة واحدة على دين التوحيد دين الفطرة ثم حدث أن أحدثت لهم شياطين الجن والإنس البدع والأهواء

والشرك فاختلفوا فمنهم من ثبت على الإيمان والتوحيد ومنهم من كفر بالشرك والضلال. وقوله تعالى {ولولا كلمة سبقت من ربك}1 وهي أنه لا يعجل العذاب للأمم والأفراد بكفرهم وإنما يؤخرهم إلى آجالهم ليجزيهم في دار الجزاء بعذاب النار يوم القيامة لولا كلمته والتي هي {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} لعجل لهم العذاب فحكم بينهم بأن أهلك الكافر وأنجى المؤمن.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (19) أما الآية الثانية (20) فيخبر تعالى عن المشركين أنهم قالوا {لولا أنزل عليه آية من ربه} 2 أي هلاَّ أُنزل على محمد آية خارقة من ربه لنعلم ونستدل بها على أنه رسول الله وقد يريدون بالآية عذاباً فلذا أمر الله رسوله أن يرد عليهم بقوله {إنما الغيب لله} فهو وحده يعلم متى يأتيكم العذاب وعليه {فانتظروا إني معكم3 من المنتظرين} ولم تطل مدة الانتظار ونزل بهم العذاب ببدر فهلك رؤساؤهم وأكابر المستهزئين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الأصل هو التوحيد والشرك طارىء.
2- الشر والشرك هما اللذان يحدثان الخلاف في الأمة والتفرق فيها أما التوحيد والخير فلا يترتب عليهما خلاف ولا حرب ولا فرقة.
3- بيان علة بقاء أهل الظلم والشرك يظلمون ويفسدون إلى آجالهم.
4- الغيب كله لله فلا أحد يعلم الغيب إلا الله ومن علَّمه الله شيئاً منه وهذا خاص بالرسل لإقامة الحجة على أممهم.
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ
__________
1 في الآية إشارة إلى القضاء والقدر أي: لولا ما سق في حكمه أنه لا يقضي بينهم فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب قبل يوم القيامة.
2 يريدون معجزة كمعجزات صالح وموسى وعيسى عليهم السلام أو آية غير القرآن كأن يحيي لهم الموتى أو يجعل الجبل ذهباً أو يكون له بيت من زخرف.
3 في الجملة تعريض بتهديدهم على جراءتهم على الله ومطالبتهم بالآيات، والآيات القرآنية معرضون عنها وهي أعظم مما يطلبون.

(21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ(22) فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(23)
شرح الكلمات:
رحمة: أي مطر بعد قحط أو صحة بعد مرض أو غنى بعد فاقة.
ضراء: حالة من الضر بالمرض والجدب والفقر.
مكر في آياتنا : أي استهزاء بها وتكذيب.
إن رسلنا: أي الحفظة من الملائكة.
يسيركم1 : أي يجعلكم تسيرون بما حولكم من مراكب وما يسر لكم من أسباب.
بريح طيبة.: أي مناسبة لسير السفن موافقة لغرضهم.
ريح عاصف : أي شديدة تعصف بالشجر فتقتلعه والبناء فتهدمه.
وأحيط بهم: أي أحدق بهم الهلاك من كل جهة.
يبغون بغير الحق2: أي يظلمون مجانبين للحق والاعتدال.
معنى الآيات:
ما زال السياق في دعوة أهل مكة إلى توحيد الله والإيمان برسوله والدار الآخرة فيقول
__________
1 قرأ ابن عامر ينشركم بالنون والشين أي يبثكم ويفرقكم والفلك: يطلق على الواحد والجمع ويذكر ويؤنث.
2 البغي: الاعتداء والظلم مأخوذ من بغا الجرح إذا فسد فهو من الفساد.

تعالى {وإذا أذقنا الناس} أي كفار مكة {رحمة من بعد ضراء مستهم} أي أذقناهم طعم الرحمة التي هي المطر بعد الجفاف والغنى بعد الفاقة والصحة بعد المرض وهي الضراء التي مستهم فترة من الزمن. يفاجئونك1 بالمكر بآيات الله وهو استهزاؤهم بها والتكذيب بها وبمن أُنزلت عليه. وقوله تعالى {قل الله أسرع مكراً} أي قل يا رسولنا لهؤلاء الماكرين من المشركين الله عز وجل أسرع مكراً منكم فسوف يريكم عاقبة مكره بكم وهي إذلالكم وخزيكم في الدنيا وعذابكم في الآخرة إن متم على كفركم وقوله {إن رسلنا يكتبون ما تمكرون} تقرير لما أعلمهم به من مكر الله تعالى بهم إذ كتابة الملائكة ما يمكرون دليل على تبييت الله تعالى لهم المكروه الذي يريد أن يجازيهم به على مكرهم.
هذا ما تضمنته الآية الأولى (21) أما الآية الثانية (22) فهي تُري المشركين ضعفهم وعجزهم وحاجتهم إلى الله تعالى، ومن كان كذلك فكيف يستهزىء بربه ويسخر من آياته ويكذب رسوله إن أمرهم لعجب فيقول تعالى هو أي الله الذي تمكرون بآياته الذي يسيركم في البر بِما خلق لكم من الظهر الإبل والخيل والحمير، وفي البحر بما سخر لكم من الفلك تجري في البحر بأمره. حتى إذا كنتم في البحر وجرين2 أي السفن بهم أي بالمشركين بريح طيبة مناسبة لسير السفن وفرحوا بها على عادة ركاب3 البحر يفرحون بالريح المناسبة لسلامتهم من المَيَدَان4 والقلق والاضطراب. جاءتها أي السفن ريح عاصف أي شديدة الهبوب تضطرب لها السفن ويخاف ركابها الغرق، وجاءهم أي الكفار الراكبين عليها الموج من كل مكان من جهات البحر والموج هو ارتفاع ماء البحر وتموجه كزوابع الغُبور في البر. وظنوا أي أيقنوا أو كادوا أنهم أحيط بهم أي هلكوا {دعوا الله مخلصين
__________
1 قيل: إنّ أبا سفيان قال: قحطنا بدعائك فإن سقيتنا صدّقناك فسُقوا باستسقائه صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا وهذا من مكرهم.
2 وجرين بهم: فيه خروج من الخطاب إلى الغيبة وهو ضرب من الأساليب البلاغية وهر في القرآن كثير، وكذا في أشعار العرب قال النابغة:
لا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد
ويقال له: التفات من كذا إلى كذا.
3 في الآية دليل على جواز ركوب البحر مطلقاً، وشاهده من السنة حديث: "إنّا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وحديث أم حرام يدلّ على جواز ركوبه في الغزو.
4 الميدان: دوّار أو غشيان بصيب راكب البحر.

له الدين} أي الدعاء يا رب يا رب1 نجنا ويَعِدُونَه قائلين {لئن أنجيتنا من هذه} أي الهلكة {لنكونن من الشاكرين} لك أي المطيعين المعترفين بنعمتك علينا الموحدين لك بترك الآلهة لعبادتك وحدك لا شريك لك. فلما أنجاهم من تلك الشدة يفاجئونك ببغيهم في الأرض بغير الحق شركاً وكفراً وظلماً وفساداً فعادوا لما كانوا وإنهم لكاذبون وقوله تعالى {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا} يخبرهم تعالى بقوله يا أيها الناس الباغون في الأرض بغير الحق في أي زمان كنتم وفي أي مكان وجدتم إنما بغيكم2 أي عوائده عائدة على أنفسكم إذ هي التي تتأثم وتخبث في الدنيا وتفسد وتصبح أهلاً لعذاب الله يوم القيامة وقوله {متاع الحياة الدنيا} أي ذلك متاع3 الحياة الدنيا شقاء كان أو سعادة {ثم إلينا مرجعكم} أي لا إلى غيرنا وذلك بعد الموت يوم القيامة {فننبئكم بما كنتم تعملون} من خير وشر ونجزيكم به الجزاء العادل في دار الجزاء.
هداية الآيات
من هداية الآيات
1- من مكر مكر الله به والله أسرع مكراً وأكبر أثراً وضرراً.
2- بيان ضعف الإنسان وفقره إلى الله وحاجته إليه عز وجل في حفظ حياته وبقائه إلى أجله.
3- إخلاص العبد الدعاء في حال الشدة آية أن التوحيد أصل والشرك طارىء.
4- المشركون الأولون أحسن حالاً من جهلة هذه الأمة إذ يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة أما جهال المسلمين اليوم فشركهم دائم في الرخاء والشدة على السواء.
5- بَغْيُ الإنسان عائد على نفسه كمكره ونكثه وفى الحديث "ثلاث على أصحابها رواجع: البغي والمكر والنكث".
6- تقرير مبدأ البعث والجزاء يوم القيامة.
__________
1 روي أنهم قالوا في دعائهم هذا يا حي يا قيوم.
2 مصداقه من الحديث الشريف: "ما من ذنب أحق أن يعجّل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر الله لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم".
3 المتاع: ما يتمتع به انتفاعاً غير دائم.

إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(24) وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(25)
شرح الكلمات:
مثل الحياة الدنيا: أي صفتها المنطبقة عليها المُتَّفِقة معها.
ماء: أي مطر.
فاختلط1 به: أي بسببه نبات الأرض أي اشتبك بعضه ببعض.
مما يأكل الناس: كالبر وسائر الحبوب والفواكه والخضر.
والأنعام : أي من الكلأ والعشب عادة وإلا قد يعلف الحيوان الشعير.
زخرفها2: أي نضرتها وبهجتها.
وازينت3 : أي تجملت بالزهور.
وظن أهلها أنهم قادرون عليها : أي متمكنون من تحصيل حاصلاتها الزراعية.
أتاها أمرنا: أي قضاؤنا بإهلاكها وتدميرها عقوبة لأصحابها.
حصيداً: أي كأنها محصودة بالمنجل ليس فيها شيء قائم.
__________
1 أي: اختلط النبات بالمطر أي: شرب منه فتندى وحسن واخضر والاختلاط هو: تداخل الشيء في الشيء.
2 الزخرف: اسم للذهب، ويطلق على كل ما يزيّن به مما فيه ذب وتلوين من الثياب والحلي وأنواع الزينة.
3 {وازينت} أصلها: تزينت فقلبت ألتاء زايا وأدغمت في الزاء لقرب مخرجيهما وجلبت همزة الوصل لأجل النطق بالساكن.

كأن لم تغن بالأمس1: أي كان لم تكن موجودة غانية بالأمس.
نفصل الآيات : أي نبينها.
والله يدعو إلى دار السلام2 : دار السلام. الجنة والله يدعو إليها عباده ليأخذوا بالأهبة لدخولها وهى الإيمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصي.
معنى الآيتين:
ما زال السياق الكريم يعرض الهدايات الإلهية على الناس لعلهم يهتدون ففي هذه الآية يضرب تعالى3 مثلا للحياة الدنيا التي يتكالب الغافلون عليها ويبيعون آخرتهم بها فيكذبون ويظلمون من أجلها إنما مثلها في نضارتها الغارة بها وجمالها الخادعة به كمثل ماء نزل من السماء فاختلط بالماء نبات الأرض فسقى به ونما وازدهر وأورَق وأثمر وفرح به أهله وغلب على ظنهم أنهم منتفعون به فائزون به وإذا بقضاء الله فيه تأتيه فجأة في ساعة من ليل أو نهار فإذا هو حصيد ليس فيه ما هو قائم على ساق، هشيم تذروه الرياح كأن لم لم يغْن بالأمس أي كأن لم يكن موجوداً أمس قائماً يعمُر مكانه أتاه أمر الله لأن أهله ظلموا فعاقبهم بجائحة أفسدت عليهم زرعهم فأمسوا يائسين حزينين. هذه الصورة المثالية للحياة الدنيا فهلا يتنبه الغافلون أمثالي!! أو هلا يستيقظ النائمون من حالهم كحالي؟؟
وقوله تعالى في الآية الثانية (25) {والله يدعو إلى دار السلام}4 أي بترك الشرك والمعاصي والإقبال على الطاعات والصالحات ودار السلام الجنة إذ هي الخالية من الكدر والتنغيص فلا مرض ولا هرم، ولا موت ولا حزن. ودعاة الضلالة يدعون إلى الدنيا
__________
1 كأن لم تكن عامرة يقال غني بالمكان إذا قام به وعمره والمغاني النازل التي يعمرها الناس قال لبيد
وغنيت سبتاً قبل مجرى داحس ... لو كان للنفس اللجوج خلود
2 وقبل المعنى والله يدعو إلى دار السلام إذ السلام والسلامة بمعنى كالرضاعة والرضاع، قال الشاعر:
تحيي بالسلامة أم بكر ... وهل لك بعد قومك في سلام
3 المثل الصفة وعليه فصفة الحياة الدنيا المنطبقة عليها أنها في سرعة انقضائها وزوال نعيمها بعد البهجة والنضرة الحسنة كنبات أخضر وازدهر ثم يبس فصار هشيماً تذروه الرياح.
4 روي أن الني صلى الله عليه وسلم خرج يوماً على أصحابه فقال: "رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلاً فقال له اسمع سمعت أذناك واعقل عقل عقلك إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ داراً ثم بنى فيها بيتاً ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولاً يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه فالله الملك والدار الإسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد الرسول فمن أجابك دخل في الإسلام ومن دخل في الإسلام دخل الجنة ثم تلا: {والله يدعو إلى دار السلام} إلى قوله {مستقيم}.

والتي صورتها ومآلها. أنها دار الكدر والتنغيص والهم والحزن فأي الدعوتين تجاب؟ {ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} فلتطلب هدايته بصدق فإنه لا يهدي إلا هو والصراط المستقيم هو الإسلام طريق الجنة وسُلَّم الوصول إليها رزقنا الله تعالى السير فيه والثبات عليه.
هداية الآيتين.
من هداية الآيتين:
1- بيان الصورة الحقيقية للحياة الدنيا في نضرتها وسرعة زوالها.
2- التحذير من الاغترار بالدنيا والركون إليها.
3- التحذير من الذنوب فإنها سبب الشقاء وسلب النعم.
4- فضيلة التفكر وأهله.
5- فضل الله على عباده ورحمته بهم إذ يدعوهم إلى داره لإكرامهم والإنعام عليهم.
لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ1 وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(26) وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ(28) فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ(29)
__________
1 القول بأن الزيادة هما النظر إلى وجه الله الكريم هو قول أنس بن مالك وأبي بكر الصديق وعليّ بن أبي طالب وحذيفة وابن عباس وعامة الصحابة رورى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تبارك وتعالى تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل".

هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ(30)
شرح الكلمات:
الحسنى وزيادة: الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم.
ولا يرهق وجوههم: أي لا يغشى وجوههم.
قتر: غَبرة من الكآبة والحزن.
السيآت: جمع سيئة ما يُسيء إلى النفس من ذنوب الشرك والمعاصي.
مكانكم : أي الزموا مكانكم لا تفارقوه.
فزيلنا بينهم : فرقنا بينهم.
هنالك : أي ثَمَّ.
تبلو كل نفس : أي تَختبر.
ما أسلفت: أي ما قدمت.
وضل عنهم ما كانوا يفترون: أي غاب عنهم ما كانوا يكذبون.
معنى الآيات:.
بعد أن ذكر تعالى في الآية السابقة أنه يدعو إلى دار السلام ذكر جزاء من أجاب الدعوة ومن لم يجبها فقال للذين أحسنوا فآمنوا وعبدوا الله بما شرع ووحدوه تعالى في عبادته وربوبيته وأسمائه وصفاته فهؤلاء جزاؤهم الحسنى وهي الجنة وزيادة وهي النظر إلى وجهه الكريم في دار السلام، وأنهم إذا بعثوا لا يرهق1 وجوههم قتر ولا ذلة كما يكون ذلك لمن لم يجب دعوة الله تعالى، وقرر جزاءهم ووضحه بقوله: {أولئك أصحاب الجنة هم2 فيها خالدون} وذكر جزاء من أعرض عن الدعوة ورفضها فأصر على الكفر والشرك والعصيان
__________
1 الرهق: الغشيان، يقال رهقه يرهقه رهقاً: إذا غشيه من باب خرج.
2 اسم الإشارة عائد إلى الذين أحسنوا.

فقال {والذين كسبوا السيآت جزاء سيئة بمثلها} فالذين كسبوا سيآت الشرك1 والمعاصي فأساء ذلك إلى نفوسهم فدساها وخبثها جزاؤهم جهنم وترهقهم ذلة في عرصات القيامة وليس لهم من الله من عاصم يعصمهم من عذاب الله. كأنما وجوههم لسوادها قد أغشيت قطعاً من2 الليل مظلماً وقوله تعالى {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} تقرير لمصيرهم والعياذ بالله وهو ملازمة النار وعدم الخروج منها بخلودهم فيها.
هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (26) والثانية (27) أما الآيات الثالثة والرابعة والخامسة فإنها تضمنت عرضاً سريعاً لحشر الناس يوم القيامة، والمراد بذلك تقرير عقيدة الإيمان باليوم الآخر فقال تعالى: {ويوم نحشرهم جميعاً} 3 أي في عرصات القيامة {ثم نقول للذين أشركوا} أي بِنا آلهة عبدوها دوننا {مكانكم} أي قفوا لا تبرحوا مكانكم {أنتم وشركاؤكم}، ثم يزايل الله تعالى أي يفرق بينهم وهو معنى قوله تعالى {فزيلنا بينهم} ولا شك أنهم يقولون ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين ندعو من دونك فلذا ذكر تعالى ردهم عليهم في قوله {وقال شركاؤهم4 ما كنتم إيانا تعبدون} أي لأننا ما كنا نسمعكم ولا نبصركم ولا أمرناكم بعبادتنا وهذا قول كل من عُبد من دون الله من سائر الأجناس {فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إن كنا} أي والله {إن كنا عن عبادتكم لغافلين} غير شاعرين بحال من الأحوال بعبادتكم. قال تعالى {هنالك} أي في ذلك الموقف الرهيب {تبلو كل نفس ما أسلفت} أي تَختبر ما قدمت في دنياها وتعرفه هل هو ضارٌ بها أو نافع لها {وردوا إلى الله مولاهم5 الحق6 وضل عنهم ما كانوا يفترون} هكذا يجدون أنفسهم أمام مولاهم ومالك
__________
1 ذكرنا في التفسير: كسبوا الشرك والمعاصي لأن الشرك هو الموجب للخلود في النار لا المعاصي، بدليل الحكم عيهم بالخلود في النار في آخر السياق.
2 جمع قطعة، وهي الجزء من الشيء فهي فعلة بمعنى مفعولة إذ هي مقطوعة من شيء كامل. والمظلم: الإظلام لا كواكب فيه ولا قمر.
3 أي: سعداء وأشقياء أهل الحسن وأهل الذلة، إذ الحشر يكون لسائر الخلائق لا يتخلف أحد من الخلق.
4 الشركاء: يكونون من الأصنام والأوثان والملائكة والإنس والجنّ والتبرؤ حاصل إذ ليس هناك من يقوى على الاعتراف بجريمة الشرك، إمّا الملائكة والأنبياء والصالحون فإنهم لم يكونوا راضين بعبادة المشركين لهم فتبرّؤهم صحيح، وأمّا الأصنام والأوثان فإنها لم تأمر بعبادتها وإنما الذي أمر بعبادتها الشياطين فتبرؤها صحيح.
5 مولاهم: الخالق، الرازق، المدبر لأمررهم وشؤون حياتهم والمستوجب لعبادتهم هو الله جل جلاله، فهو مولاهم الحق، لا الذي اختلقوه كذبا وعبدوه من دون الله فذاك مولىً باطل وإله مكذوب.
6 الحق: هو الموافق للواقع والصدق، فالمولوية الحقة لله تعالى لا لمخلوقاته، وكلها مخلوقة له مربوبة.

أمرهم ومعبودهم الحق والذي طالما كفروا به وتنكروا له وجحدوا آياته ورسله وضل1 أي غاب عنهم ما كانوا يفترونه من الأكاذيب والترهات والأباطيل من تلك الأصنام التي سموها آلهة وعبدوها وندموا يوم لا ينفع الندم وجزاهم بما لم يكونوا يحتسبون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان فضل الحسنة وما تعقبه من نيل الحسنى.
2- بيان سوء السيئة وما تورثه من حسرة وندامة وما توجبه من خسران.
3- تقرير معتقد البعث والجزاء بعرض صادق وأضح له.
4- تبرؤ ما عُبد من دون الله من عابديه وسواء كان المعبود ملكاً أو إنساناً أو جاناً أو شجراً أو حجراً الكل يتبرأ من عابديه ويستشهد الله تعالى عليه.
5- في عرصات القيامة تعلم كل نفس ما أحضرت، وما قدمت وأخرت وتبلو ما أسلفت فتعرف وأنى لها أن تنتفع بما تعرف؟.
قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ(31) فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ(32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ(33)
شرح الكلمات:
من السماء : أي بالغيث والمطر.
والأرض : أي بالنبات والحبوب والثمار.
__________
1 ضلّ : بمعنى ضاع وغاب ولم يجدوه ولم ينتفعوا به، فما كانوا يختلقونه من الآلهة الباطلة وما كانوا يقدّمونه لها من أنواع العبادات قد ضاع وغاب عنهم فلم يروه.

أمّن يملك السمع والأبصار: أي يملك أسماعكم وأبصاركم إن شاء أبقاها لكم وإن شاء سلبها منكم.
ومن يخرج الحي من الميت : أي الجسم الحي من جسم ميت والعكس كذلك.
ومن يدبر الأمر: أي أمر الخلائق كلها بالحياة والموت والصحة والمرض والعطاء والمنع.
أفلا تتقون: أي الله فلا تشركوا به شيئاً ولا تعصوه في أمره ونهيه.
فأنى تصرفون: أي كيف تصرفون عن الحق بعد معرفته والحق هو أنه لا اله إلا الله.
حقت : أي وجبت.
أنهم لا يؤمنون : وذلك لبلوغهم حداً لا يتمكنون معه من التوبة البتة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير عقيدة التوحيد فيقول تعالى لرسوله {قل} يا رسولنا لأولئك المشركين مستفهماً إياهم {من يرزقكم من السماء والأرض} بإنزال المطر وبانبات الحبوب والثمار والفواكه والخضر التي ترزقونها، وقل لهم {أم من يملك السمع والأبصار} أي أسماعكم وأبصاركم بحيث إن شاء أباقاها لكم وأمتعكم بها، وإن شاء أخذها منكم وسلبكم إياها فأنتم عمي لا تبصرون وصم لا تسمعون {ومن يخرج الحي من الميت} كالفرخ من البيضة {ويخرج الميت من الحي} كالبيضة من الدجاجة، والنخلة من النواة، والنواة من1 النخلة. {ومن يدبر الأمر} في السماء والأرض كتعاقب الليل والنهار ونزول الأمطار، وكالحياة والموت والغنى والفقر والحرب والسلم والصحة والمرض إلى غير ذلك مما هو من مظاهر التدبير الإلهي في الكون. {فسيقولون الله} ، إذ لا جواب لهم إلا هذا إذاً فما دام الله هو الذي يفعل هذا ويقدر عليه دون غيره كيف لا يُتَّقى عز وجل بتوحيده وعدم الإشراك به، فلم لا تتقونه؟ 2
__________
1 وكالنطفة من الإنسان، والإنسان من النطفة، ومثلها نطفة الحيوان مخرجها من حيوان حي، ومن الحيوان الحي تخرج نطفة ميتة.
2 أي: فقل لهم يا رسولنا: أفلا تتقون: أي: أفلا تخافون عقابه ونقمه في الدنيا والآخرة.

وقوله تعالى {فذلكم الله ربكم الحق} 1 أي فذلكم الذي يرزقكم من السماء والأرض ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويدبر الأمر هو ربكم2 الحق الذي لا رب لكم سواه إذاً {فماذا بعد الحق إلا الضلال، 3 فأنى تصرفون} أي كيف يصرفون عن الحق بعد معرفته إلى الضلال؟ إنه أمر يدعو إلى الاستغراب والتعجب!
وقوله تعالى {كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون} أي مثل ذلك الصرف الذي يصرفه المشركون عن الحق بعد معرفته إلى الضلال أي كما حق ذلك حقت كلمة ربك وهي أن الله لا يهدي القوم الفاسقين فهم لا يهتدون، وذلك أن العبد إذا توغل في الشر والفساد بالإدمان والاستمرار عليه يبلغ حداً لا يتأتَّى له الرجوع منه والخروج بحال فهلك على فسقه لتحق عليه كلمة العذاب وهي {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين}.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشركوا العرب كانوا يشركون في الألوهية ويوحدون في الربوبية.
2- وليس بنافع أن يوحد العبد في الربوبية ويشرك في الألوهية.
3- ليس بعد الحق4 إلا الضلال فلا واسطة بينهما فمن لم يكن على حق فهو على ضلال.
4- التوغل في الشر والفساد يصبح طبعاً لصاحبه فلا يخرج منه حتى يهلك به.
قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(34) قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن
__________
1 في الصحيح من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قام من جوف الليل يقول "اللهم أنت الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق.." في حديث طويل هذا من وسطه، والشاهد في قوله: "أنت الحق".
2 أي: إلهكم ومعبودكم الحق لا ما تعبدون من أصنام وأوثان فإذا عرفتم إلهكم الحق فإنّ ما بعده من آلهة هو الضلال.
3 روي عن مالك في قوله تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} قال: اللعب بالشطرنج والنرد: هو الضلال، وسئل عن الغناء فقال: هل هو حق؟ قالوا: لا. قال فما بعد الحق إلاّ الضلال. وفي صحيح مسلم: "من لعب بالنرد شير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه".
4 روي عن عمر رضي الله عنه أنه رخّص فيما كان فيه دربة على الحرب من أنواع اللعب، إذ الغرض صحيح، وهو تعلم فنون الحرب، وحذق أساليبها.

يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ(36)
شرح الكلمات:
من شركائكم1 : جمع شريك وهو من أشركوه في عبادة الله تعالى.
من يبدأ الخلق: أي ينشيء الإنسان والحيوان أول ما ينشئه فذلك بدء خلقه.
فأنى تؤفكون: أي كيف تصرفون عن الحق بعد معرفته.
أمَّن لا يَهِدِّي : أي لا يهتدي.
كيف تحكمون: أي هذا الحكم الفاسد وهو إتباع من لا يصح اتباعه لأنه لا يهدي.
معنى الآيات:
ما زال السياق في حجاج المشركين لبيان الحق لهم ودعوتهم إلى اتباعه فيقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قل لهؤلاء المشركين {قل هل من شركائكم2 من يبدأ الخلق ثم يعيده؟} أي هل يوجد من بين آلهتكم التي تعبدونها من يبدأ خلق إنسان من العدم ثم يميته، ثم يعيده؟ وجوابهم معروف وهو لا يوجد إذاً فكيف تؤفكون أي تصرفون عن الحق بعد معرفته والإقرار به؟ وقل لهم أيضاً {قل هل3 من شركائكم من يهدي إلى الحق} أي يوجد من آلهتكم من يهدي إلى الحق؟ والجواب لا يوجد لأنها لا تتكلم ولا تعلم إذاً فقل لهم الله يهدي إلى الحق أي بواسطة نبيه ووحيه وآياته.
وقل لهم {أفمن يهدي إلى4 الحق أحق أن يتبع أمَّن لا يهدي إلا أن يهدى}5 والجواب معروف الذي يهدي إلى الحق أحق بأن يتبع ممن لا يهتدي إلا أن يُهدى، إذاً لم لا تتقون
__________
1 أي: آلهتكم ومجوداتكم من الأصنام والأوثان.
2 يقول لهم: (هل) على جهة التوبيخ والتقرير، فان أجابوك فذاك وإلا فقل الله يبدأ الخلق.
3 هذا الاستفهام كالأول للتوبيخ والتقرير فان أجابوا فذاك المطلوب لهان لم يجيبوا فأجب أنت بقولك: الله يبدأ الخلق.
4 هذا الاستفهام؟ كسابقيه للتوبيخ والتقرير ثم إقامة الحجة.
5 في: {أمّن لا يهدي} قراءات منها: (لا يهدي)، بالتخفيف. (لا يهدّي) بتشديد الدال، وفتح الهاء وهي قراءة ورش، و(لا يَهدي) بكسر الهاء، وتشديد الدال وهي قراءة حفص.

الله فتوحدوه وتؤمنوا برسوله وكتابه فتهتدوا، وتتركوا آلهتكم التي لا تهدي إلى الحق؟ {فما لكم} أي أيُّ شيء ثبت لديكم في ترك عبادة الله لعبادة غيره من هذه الأوثان، {كيف تحكمون} أي حكم هذا تحكمون به وهو اتباع من لا يهدي وترك عبادة من يهدي إلى الحق. وقوله تعالى {وما يتبع أكثرهم إلا ظناً}1 أي أن أكثر هؤلاء المشركين لا يتبعون في عبادة أصنامهم إلا الظن فلا يقين عندهم في أنها حقاً آلهة تستحق العبادة، {إن الظن لا يغني من الحق شيئاً} أي إن الظن لا يكفي عن العلم ولا يغني عنه أي شيء من الإغناء، والمطلوب في العقيدة العلم لا الظن2. وقوله تعالى {إن الله عليم بما يفعلون} هذه الجملة تحمل الوعيد الشديد لهم على إصرارهم على الباطل وعنادهم على الحق فسيجزيهم بذلك الجزاء المناسب لظلمهم وعنادهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد بإبطال الآلهة المزعومة حيث اعترف عابدوها بأنها لا تبدأ خلقاً ولا تعيده بعد موته، ولا تهدي إلى الحق، والله يبدأ الخلق ثم يعيده ويهدي إلى الحق.
2- إبطال الأحكام الفاسدة وعدم إقرارها ووجوب تصحيحها.
3- لا يقبل الظن في العقائد بل لا بد من العلم اليقيني فيها.
4- كراهية القول بالظن والعمل به وفي الحديث (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث).
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ(37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ
__________
1 في الآية دليل على أن عابدي غير الله تعالى ليسوا سواء في الاعتقاد الباعث لهم على عبادتها بل أكثرهم لا يتبعون في عبادتها إلا مجرّد الظن، والبعض الآخر القليل لا اعتقاد لهم إلا اتباع غيرهم وتقليد سواهم من رؤسائهم، وأهل الكلمة فيهم، فكلا الفريقين هالك.
2 الظن يطلق على مراتب الإدراك، فيطلق على الاعتقاد الجازم الذي لا شك فيه كقوله تعالى: {إني ظننت أني ملاق حسابيه} ويطلق على الاعتقاد المشكوك فيه كقول قوم نوح لنوح: {وإنا لنظنّك من الكاذبين} ويطلق على الاعتقاد المخطىء كآية: {إن بعض الظن إثم} وحديث: "فإن الظن أكذب الحديث".

مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(38) بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ(39)
شرح الكلمات:
أن يفترى من دون الله : أي افتراء أي لم يكن هذا القرآن افتراء.
وتفصيل الكتاب: أي بيان ما فرض الله تعالى على هذه الأمة وما أحل لها وما حرم.
أم يقولون افتراه.: أي اختلقه من نفسه وَتَقوَّلَه من عنده.
بما لم يحيطوا بعلمه : أي بما توعدهم الله تعالى به من العذاب.
ولما يأتهم تأويله : أي ولما يأتهم بعد ما يؤول إليه ذلك الوعيد من العذاب.
كذلك كذب الذين من قبلهم: أي كتكذيب هؤلاء بوعد الله لهم كذب الذين من قبلهم.
معنى الآيات:
هذه الآيات في تقرير عقيدة الوحي وإثبات نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وما كان هذا1 القرآن} أي لم يكن من شأن هذا القرآن العظيم {أن يفترى من دون الله} أي يُختلق من غير الله تعالى من سائر خلقه، {ولكن تصديق الذي بين يديه}2 أي ولكنه كلام الله ووحيه أوحاه إلى رسوله وأنزله تصديق الذي بين يديه أي من الكتب التي سبقت نزوله وهي التوراة والإنجيل {وتفصيل الكتاب} الذي كتبه الله تعالى على أمة الإسلام من الفرائض والشرائع والأحكام. وقوله تعالى {لا ريب فيه} أي لا شك في أنه وحي الله وكلامه نزل من رب العالمين، وهو الله مربي الخلائق أجساماً وعقولاً وأخلاقاً وأرواحاً ومن مقتضى ربوييته إنزال كتاب فيه تبيان كل شيء يحتاج إليه العبد في تربيته وكماله البدني والروحي والعقلي والخلقي.
__________
1 علم الله تعالى أنّ غيره تعالى لا يتأتى له الإتيان بمثل هذا القرآن كما قال تعالى: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً}.
2 أي: أنزله مصدقاً لما بين يديه أي: لما تقدمه من الكتب الإلهية. هذا كقوله تعالى: {نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه}. ونصب (تصديق) على أنه اسم كان، والتقدير: ولكن كان تصديق الذي.

وقوله تعالى في الآية الثانية (38) {أم يقولون افتراه} 1 أي بل يقول هؤلاء المشركون المجاحدون وهو قول في غاية السُّخّف والقباحة يقولون القرآن افتراه محمد ولم يكن بوحي أُنزل عليه، قل يا رسولنا متحدياً إياهم أن يأتوا بسورة مثله2. فإنهم لا يستطيعون وبذلك تبطل دعواهم، وقل لهم ادعوا لمعونتكم على الإتيان بسورة مثل سور القرآن من استطعتم الحصول على معونتهم إن كنتم صادقين في دعواكم أن القرآن لم يكن وحياً من الله، وإنما هو اختلاق اختلقه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه3 ولما يأتهم تأويله} أي إن القضية ليست قضية أنهم ما استطاعوا أن يدركوا أن القرآن كلام الله، وإنما القضية هي أنهم كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه من وعيد الله تعالى لهم بالعذاب، ولما يأتهم بعد ما يؤول إليه الوعيد إذ لو رأوا العذاب ما كذبوا، ولذا قال تعالى: {كذلك كذب الذين من قبلهم} أي {حتى ذاقوا بأسنا} كما في آية الأنعام. وهو قال تعالى: {فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} فقد أهلك تعالى الظلمة من قوم نوح بالغرق ومن قوم هود بريح صرصر ومن قوم صالح بالصيحة ومن قوم شعيب بالرجفة ومن أمم أخرى بما شاء من أنواع العذاب فهؤلاء إن لم يتوبوا واستمروا في تكذيبهم فسوف يحل بهم ما حل بغيرهم { وما الله بغافل عما يعمل الظالمون}.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة الوحي وإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
2- من أدلة أن القرآن كلام الله تصديقه للكتب السالفة وعدم التناقض معها إذ هما من مصدر واحد وهو الله رب العالمين.
3- من أدلة القرآن على أنه وحي الله تحدي الله العرب بالإتيان بسورة واحدة في فصاحته.
__________
1 {أم يقولون} أم هنا: هي المنقطعة التي تفسَّر ببل، والهمزة: أي بل أيقول افتراه، والاستفهام هنا للتقريع والتوبيخ.
2 هذا دليل على أن القرآن الكريم معجز، وهو كذلك معجز بألفاظه ومعانيه معاً.
3 {بل كذّبوا بما لم يحيطوا يعلمه ولما يأتهم تأويله}. هذا الكلام الإلهي يحتمل معنيين صحيحين. الأول: هو ما في التفسير ، والثاني: المراد بما لم يحيطوا بعلمه: القرآن الكريم، فهم لم يتدبروه ، ولم يفهموا ما يدعو إليه وكذبوا به عن جهل مع العناد والمكابرة فما في قوله: { بما لم يحيطوا بعلمه} اسم موصول المراد به: القرآن الكريم أمّا على المعنى الأول فإن المراد به العذاب الذي كذّبوا به، ولم يحل بهم بعد.

وبلاغته وإعجازه وعجزهم عن ذلك.
4- استمرار المشركين في العناد والمجاحدة علته أنهم لم يذوقوا ما توعدهم الله به من العذاب إذ لو ذاقوا لآمنوا ولكن لا ينفعهم حينئذ الإيمان.
وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ(40) وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ(41) وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ(42) وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ(43) إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(44)
شرح الكلمات :
ومنهم من يؤمن به: أي من أهل مكة المكذبين بالقرآن من يؤمن به مستقبلاً.
وربك أعلم بالمفسدين: وهم دعاة الضلالة الذين يفسدون العقول والقلوب والجملة تهديد لهم.
وإن كذبوك: أي استمروا على تكذيبك.
ومنهم من يستمعون إليك: أي إذا قرأت القرآن.
ومنهم من ينظر إليك : أي يبصر ويشاهد آيات النبوة وأعلام صدقك، ولا يهتدي إلى معرفة أنك رسول الله لأن الله تعالى حرمه ذلك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير نبوة النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى في خطاب رسوله ليُسلِّيه ويصبِّره على عدم إيمان قومه مع ظهور الأدلة وقوة البراهين {ومنهم من يؤمن به} أي بالقرآن وبالنبي

أيضاً إذ الإيمان بواحد يستلزم الإيمان بالثاني، {ومنهم من لا يؤمن به} 1، وهذا إخبار غيب فتم كما أخبر تعالى فقد آمن من المشركين عدد كبير ولم يؤمن عدد آخر. وقوله {وربك أعلم بالمفسدين} أي الذين لا يؤمنون وفي الجملة تهديد لأولئك الذين يصرفون الناس ويصدونهم عن الإيمان والتوحيد. وقوله تعالى: {وإن كذبوك} أي استمروا في تكذيبهم لك فلا تحفل بهم وقل {لي عملي2 ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل، وأنا بريء مما تعملون} فإذا كان هناك عقاب دنيوي فإنك تسلم منه ويهلكون هم به.
وقوله تعالى في الآية (42) {ومنهم من يستمعون إليك} 3 إلى قراءتك القرآن وإلى قولك إذا قلت داعياً أو آمراً أو ناهياً، ومع هذا فلا يفهم ولا ينتفع بما يسمع، ولا لوم عليك في ذلك لأنك لا تسمع الصم، وهؤلاء صم لا يسمعون، ومنهم من ينظر إليك بأعين مفتحة ويرى علامات النبوة وآيات الرسالة ظاهرةً في حالك ومقالك ومع هذا لا يهتدي ولا لوم عليك فإنك لا تهدي العمى ولو كانوا لا يبصرون4. وقوله تعالى {إن الله لا يظلم الناس شيئاً، ولكن الناس أنفسهم يظلمون} بيان لسنة الله تعالى في أولئك الذين يسمعون ولا ينتفعون بسماعهم، ويبصرون ولا ينتفعون بما يبصرون، وهي أن من توغل في البغض والكراهية لشيء يصبح غير قادر على الانتفاع بما يسمع منه ولا بما يبصر فيه. ولذا قيل حبك الشيء يُعمي ويُصم، والبغض كذلك كما أن الاسترسال في الشر والفساد مدة من الزمن يحرم صاحبه التوبة إلى الخير والصلاح، ومن هنا قال تعالى {إن الله لا يظلم5 الناس شيئاً، ولكن الناس أنفسهم يظلمون}.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- إخبار القرآن بالغيب وصدقه في ذلك.
2- تقرير معنى آية { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}.
__________
1 كأبي طالب وأبي لهب وأبي جهل وغيرهم.
2 أي لي ثواب عملي على التبليغ والطاعة لله تعالى ولكم جزاء عملكم الذي هو الشرك والكفر والتكذيب.
3 أي : في ظواهرهم أمّا قلوبهم فلا تعي شيئا مما تقول من الحق وتتلوه من القرآن.
4 أي : ولو انظمّ إلى عدم البصر عدم البصيرة.
5 في هذا إشارة إلى أنّ عدم هدايتهم يكن خارجاً عن إرادتهم ولكن كان باستحبابهم العمى على الهدى وإيثارهم للدنيا على الآخرة.

3- تعليم رسول الله طريق الحِجاج والرد على الخصوم المشركين.
4- انتفاء الظلم عن الله تعالى، وإثباته للإنسان لنفسه.
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ(45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ(46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(48)
شرح الكلمات:
يحشرهم: أي نبعثهم من قبورهم ونجمعهم لساحة فصل القضاء.
كأن لم يلبثوا: أي في الدنيا أحياء في دورهم وأمواتاً في قبورهم.
أو نتوفينك : أي نميتك قبل ذلك.
فإذا جاء رسولهم: أي في عرصات القيامة.
بالقسط: أي بالعدل.
متى هذا الوعد: أي بالعذاب يوم القيامة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى {ويوم يحشرهم} أي اذكر لهم يوم نحشرهم من قبورهم بعد بعثهم أحياء {كأن لم يلبثوا} 1 في الدنيا أحياء في دورهم وأمواتاً في قبورهم. {إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم}2 أي ليرى بعضهم بعضاً
__________
1 أصلها: كأنهم ثم خففت: أي كأنهم لم يلبثوا في قبورهم.
2 الجملة في موضع نصب على الحال. وتعارفهم هذا في عرصات القيامة إنما هو تعارف توبيخ وافتضاح فيقول بعضهم لبعض: أنت أضللتني وحملتني على الكفر، ثم تنقطع المعرفة عند معاينتهم العذاب يوم القيامة.

ساعة ثم يحول بينهم هول الموقف، وقوله تعالى {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله1 وما كانوا مهتدين} يخبر تعالى أن الذين كذبوا بالبعث الآخر والحساب والجزاء الأخروي فلم يرجوا لقاء الله فيعملوا بمحابه وترك مساخطه قد خسروا في ذلك اليوم أنفسهم وأهليهم في جهنم، وقوله {وما كانوا مهتدين} أي في حياتهم حيث انتهوا إلى خسران وعذاب أليم.
وقوله تعالى {وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك} 2 أي إن أريناك بعض الذي نعدهم من العذاب في الدنيا فذاك، أو نتوفينك قبل ذلك فعلى كل حال مرجعهم إلينا جميعاً بعد موتهم، فنحاسبهم ونجازيهم بحسب سلوكهم في الدنيا الخير بالخير والشر بمثله، وقوله تعالى {ثم الله شهيد على ما يفعلون} 3 تقرير وتأكيد لمجازاتهم يوم القيامة لأن علم الله تعالى بأعمالهم وشهادته عليها كافٍ في وجوب تعذيبهم. وقوله تعالى {ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون} أي ولكل أمة من الأمم رسول أرسل إليها وبلغها فأطاع من أطاع وعصى من عصى فإذا جاء رسولها في عرصات القيامة قضي بينهم أي حوسبوا أو جوزوا بالقسط أي بالعدل وهم لا يظلمون بنقص حسنات المحسنين ولا بزيادة سيئآت المسيئين. وقوله تعالى {ويقولون} أي المشركون للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، {متى هذا الوعد}4 أي بالعذاب يوم القيامة. {إن كنتم صادقين} يقولون هذا استعجالاً للعذاب لأنهم لا يؤمنون به. والجواب في الآية التالية.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير مبدأ المعاد والدار الآخرة.
2- الإعلان عن خسران منكري البعث يوم القيامة.
__________
1 أي: يوم العرض عليه بين الخلائق.
2 وإما أصلها إن الشرطة وما الزائدة لتقوية الكلام و {بعض الذي نعدهم} هو عذاب الدنيا كما هو إظهار الدين ونصرته صلى الله عليه وسلم.
3 أي: بعد وفاتك، فالله عز وجل خليفتك فيهم وسوف يجزيهم بحسب كسبهم خيراً وشراً.
4 أي: متى العذاب، أو متى القيامة التي يعدنا بها محمد صلى الله عليه وسلم.

3- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر حتى يؤدي رسالته بإعلامه بأنه سيعذب أعداءه.
4- بيان كيفية الحساب يوم القيامة بأن يأتي الرسول وأمته ثم يجزي الحساب بينهم فينجي الله المؤمنين ويعذب الكافرين.
قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ(49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ(50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ(51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ(52) وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ(53)
شرح الكلمات:
لنفسي ضراً.: أي لا أقدر على دفع الضر إذا لم يُعِنِّي الله تعالى.
ولا نفعاً: أي لا أقدر على أن أجلب لنفسي نفعاً إذا لم يُرده الله تعالى لي.
لكل أمة أجل: أي وقت معين لهلاكها.
فلا يستأخرون ساعة : أي عن ذلك الأجل.
ولا يستقدمون: أي عليه ساعة.
قل أرأيتم : أي قل لهم أخبروني.
أثم إذا ما وقع: أي حل العذاب.
عذاب الخلد : أي الذي يخلدون فيه فلا يخرجون منه.
ويستنبئونك : أي ويستخبرونك.
قل إي: أي نعم.
وما أنتم بمعجزين: أي بفائتين العذاب ولا ناجين منه.

معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الرد على المشركين فقد طالبوا في الآيات السابقة بالعذاب فقالوا {متى هذا الوعد} أي بالعذب {إن كنتم صادقين} فأمر الله تعالى رسوله في هذه الآيات أن يقول لهم إني {لا أملك لنفسي ضراً} أي لا أملك دفع الضر عني، ولا جلب النفع لي إذا لم يشأ الله تعالى ذلك، فكيف أعلم الغيب وأعرف متى يأتيكم العذاب كما لا أقدر على تعجيله إن كان الله يريد تأجيله، واعلموا أنه لكل أمة من الأمم أجل أي وقت محدد لهلاكها وموتها فيه، فلا يتأخرون عنه ساعة ولا يتقدمون عليه بأخرى فلذا لا معنى لمطالبتكم بالعذاب. وشيء آخر أرأيتم أي أخبروني إن أتاكم العذاب الذي تستعجلونه بياتاً1 أي ليلاً أو نهاراً أتطيقونه وتقدرون على تحمله إذاً فماذا تستعجلون منه أيها المجرمون2 إنكم تستعجلون أمراً عظيماً. وقوله تعالى {أثم إذا ما وقع آمنتم به؟} 3 أي اتستمرون على التكذيب والعناد، ثم إذا وقع آمنتم به، وهل ينفعكم إيمانكم يومئذ؟ فقد يقال لكم توبيخاً وتقريعاً آلآن مؤمنون به، وقد كنتم به تستعجلون.
وقوله تعالى {ثم4 قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون}؟ يخبر تعالى أنه إذا دخل المجرمون النار وهم الذين ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي ذوقوا- تهكماً بهم- عذاب الخلد أي العذاب الخالد الذي لا يفني ولا يبيد إنكم ما تجزون أي ما تثابون إلا بما كنتم تكسبونه من الشرك والمعاصي. وقوله تعالى: {ويستنبؤنك أحق هو؟} أي ويستخبرك المشركون المعاندون قائلين لك أحق ما تعدنا به من العذاب يوم القيامة؟ أجبهم بقولك {قل إي وربي5 إنه لحق، وما أنتم بمعجزين} الله ولا فائتينه بل لا بد وأن يلجئكم إلى العذاب إلجاءً، ويذيقكموه عذاباً أليماً دائماً وأنتم صاغرون.
__________
1 البيات: اسم مصدر ليلا كالسلام للتسليم.
2 المجرمون: أصحاب الجرم الذي هو الشرك والقائلون متى هذا الوعد من كفار مكة.
3 {أثم} الهمزة للاستفهام وقدمت على ثم العاطفة، لأنّ لها حق الصدارة والتقدير: ثم إذا وقع، والمستفهم عنه هو حصول الإيمان في وقت وقوع العذاب، وهو غير نافع لصاحبه فكيف ترضونه أنتم لأنفسكم.
4 {ثم}: حرف عطف، وهي هنا للتراخي الرتبي فهذا يقال للمشركين عند دخولهم النار وهو من باب التهكم بهم والتقريع لهم، وإعلامهم بمالا يستطيعون دفعه بحال: {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} والقائلون هم خزنة جهنم.
5 {إي}: كلمة تحقيق وإيجاب، وتأكيد هي بمعنى (نعم ) {وربى} قسم جوابه: {إنه لحق} أي: هو كائن لا شك فيه ولا محالة من وقوعه.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا يملك أحد من الخلق لنفسه فضلاً عن غيره ضراً يدفعه ولا نفعاً يجلبه إلا بإذن الله تعالى ومشيئته، وخاب الذين يُعولون على الأولياء في جلب النفع لهم ودفع الشر عنهم.
2- الآجال محدودة لا تتقدم ولا تتأخر فلذا لا معنى للجبن من العبد.
3- لا ينفع الإيمان ولا التوبة عند معاينة العذاب أو مَلَك الموت.
4- جواز الحلف بالله إذا أريد تأكيد الخبر.
5- إي حرف إجابة وتقترن دائماً بالقسم نحو إي والله، إي وربي.
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ(57) قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ(58)
شرح الكلمات:
لافتدت به : لقدمته فداء لها.
وأسروا الندامة : أخفوها في أنفسهم على ترك الإيمان والعمل الصالح.
وقضي بينهم بالقسط : أي حكم الله بينهم بالعدل.
وعد الله حق: أي ما يعدهم الله به هو كائن حقاً.

موعظة من ربكم : أي وصية من ربكم بالحق والخير، وباجتناب الشرك والشر.
وهدى : أي بيان لطريق الحق والخير من طريق الباطل والشر.
فضل الله ورحمته: ما هداهم إليه من الإيمان والعمل الصالح، واجتناب الشرك والمعاصي.
فبذلك فليفرحوا: أي فبالإيمان والعمل الصالح بعد العلم والتقوى فليسروا وليستبشروا.
هو خير مما يجمعون : أي من المال والحطام الفاني.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان أن ما وعد الله تعالى به المشركين من العذاب هو آت لا محالة إن لم يؤمنوا وإنه عذاب لا يطاق فقال تعالى {ولو أن لكل نفس ظلمت} أي نفسها بالشرك والمعاصي، لو أن لها ما في الأرض من مال صامت وناطق وقبل منها لقدمته فداء1 لها من العذاب، وذلك لشدة العذاب. وقال تعالى عن الكافرين وهم في عرصات القيامة وقد رأوا النار {وأسروا الندامة لما رأوا العذاب} 2 أي أخفوها في صدورهم ولم ينطقوا بها وهى ندمهم الشديد على عدم إيمانهم وإتباعهم للرسول صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى {وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون} أي وقضى الله تعالى أي حكم بين الموحدين والمشركين والظالمين والمظلومين3 بالقسط الذي هو العدل الإلهي والحال أنهم لا يظلمون بأن يؤاخذوا بما لم يكتسبوا. وقوله تعالى {ألا إن4 لله ما في السموات والأرض} أي انتبهوا واسمعوا أيها المشركون إن لله ما في السموات والأرض من سائر المخلوقات ملكاً حقيقياً لا يملك معه أحد شيئا من ذلك فهو يتصرف في ملكه كما يشاء يعذب ويرحم يشقي ويسعد لا اعتراض عليه ألا أن وعد الله حق أي تنبهوا مرة أخرى واسمعوا إن وعد الله أي ما وعدكم به من العذاب حق ثابت لا يتخلف. وقوله تعالى: {ولكن أكثرهم لا يعلمون}.
__________
1 ولكن لا يقبل منها كما قال تعالى: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفّار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به}.
2 إسرارهم الندامة كان عند معاينة العذاب، وقبل الدخول فيه، والندامة: الحسرة على وقوع مكروه أو فوات محبوب.
3 وبين الرؤساء والمرؤوسين، أي: بين المتبوعين والتابعين لهم.
4 {ألا}: كلمة استفتاح وتنبيه يؤتى بها في أوّل الكلام، معناها: انتبهوا لما أقول لكم.

إذ لو علموا أن العذاب كائن لا محالة وعلموا مقدار هذا العذاب ما كفروا به وقوله تعالى {هو يحي ويميت وإليه ترجعون} يخبر تعالى عن نفسه أنه يحيي ويميت ومن كان قادراً على الإحياء والإماتة فهو قادر على كل شيء، ومن ذلك إحياء الكافرين بعد موتهم وحشرهم إليه ومجازاتهم على ما كسبوا من شر وفساد وقوله {وإليه ترجعون} تقرير مبدأ المعاد الآخر. بغد هذه التقريرات لقضايا العقيدة الثلاث: التوحيد، والنبوة، والبعث والجزاء نادى الله تعالى العرب والعجم سواء قائلاً {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة1 من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين} وكل من الموعظة التي هي الأمر والنهي بأسلوب الترغيب والترهيب والشفاء والهدى والرحمة قد حواها القرآن الكريم كأنه قال يا أيها الناس وفيكم الجاهل والفاسق والمريض بالشرك والكفر والضال عن الحق، والمعذب في جسمه ونفسه قد جاءكم القرآن يحمل كل ذلك لكم فآمنوا به واتبعوا النور الذي يحمله وتداووا به واهتدوا بنوره تشفوا وتكملوا عقلاً وخلقاً وروحاً وتسعدوا في الحياتين معاً.
وقوله تعالى {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك2 فليفرحوا هو خير مما يجمعون} أي بلِّغهم يا رسولنا آمراً إياهم بأن يفرحوا3 بالإسلام وشرائعه والقرآن وعلومه فإن ذلك خير مما يجمعون من حطام الدنيا الفاني، وما يعقب من آثار سيئة لا تحتمل ولا تطاق.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عظم عذاب يوم القيامة حتى إن الكافر ليود أن يفتدى منه بما في الأرض جميعاً.
2- تقرير ربوبية الله تعالى لسائر المخلوقات في العالمين العلوي والسفلي.
3- الإشادة بفضل القرآن وعظمته لما يحمله من المواعظ والهدى والرحمة والشفاء.
4- يستحب الفرح بالدين ويكره الفرح بالدنيا.
__________
1 المراد بالموعظة وما بعدما من الصفات القرآن الكريم إذ هو الجامع لكل ما ذكر، وإنما عطفت المذكورات لتأكيد المدح. كقول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
2 قال أبو سعيد الخدري وابن عباس: فضل الله: القرآن، ورحمته الإسلام، وصحّت الإشارة بذلك إلى الاثنين لأنّ العرب تشير بذلك إلى المفرد والمثنى والجمع.
3 روي أن من هداه الله للإسلام وعلمه القرآن ثم شكا الفاقة (الفقر) كتب الله الفقر بين عينيه إلى يوم يلقاه ثم تلا: {قل بفضل الله} الآية.

قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ(59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ(60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ(61)
شرح الكلمات:
أرأيتم: أي أخبروني.
ما أنزل الله لكم من رزق : أي الذي خلق لكم من رزق كلحوم الأنعام.
ءآلله أذن لكم : أي في التحريم حيث حرمتم البحيرة والسائبة وفي التحليل حيث أحللتم الميتة.
يفترون على الله الكذب : أي يختلقون الكذب تزويراً له وتقديراً في أنفسهم.
وما تكون في شأن: أي في أمر عظيم.
شهوداً إذْ تفيضون فيه: أي تأخذون في القول أو العمل فيه.
وما يعزب عن ربك : أي يغيب.
من مثقال ذرة: أي وزن ذرة والذرة أصغر نملة.
إلا في كتاب مبين: أي اللوح المحفوظ ومبين أي واضح.
معنى الآيات:
سياق الآيات في تقرير الوحي وإلزام المنكرين له من المشركين بالدليل العقلي قال

تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قل لهؤلاء المشركين1 {أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق} أي أخبروني عما خلق الله لكم من نبات وطعام وحرث فجعلتم منه حراماً كالبحيرة والسائبة والثياب التي تحرِّمون الطواف بها والحرث الذي جعلتموه لالهتكم، وحلال كالميتة التي تستبيحونها {ءالله أذن لكم} 2 في هذا التشريع بوحي منه {أم على الله تفترون} فإن قلتم الله أذن لنا بوحي فلم تنكرون الوحي وتكذبون به، وإن قلتم لا وحي ولكننا نكذب على الله فموقفكم إذاً شر موقف إذ تفترون على الله الكذب والله تعالى يقول: {وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة} أي إذا هم وقفوا بين يديه سبحانه وتعالى ما ظنهم أيغفر لهم ويعفى عنهم لا بل يلعنون وفي النار هم خالدون وقوله تعالى {إن الله لذو فضل على الناس} في كونه لا يعجل لهم العقوبة وهم يكذبون عليه ويشركون به ويعصونه ويعصون رسوله، {ولكن أكثرهم لا يشكرون} 3 وذلك لجهلهم وسوء التربية الفاسدة فيهم، وإلا العهد بالإنسان أن يشكر لأقل معروف وأتفه فضل.
وقوله تعالى {وما تكون في شأن4 وما تتلو منه من قرآن} أي وما تكون يا رسولنا في أمر من أمورك الهامة وما تتلو من القرآن من آية أو آيات في شأن ذلك الأمر { إلا كنا} أي نحن رب العزة والجلال {عليكم شهوداً} أي حضوراً {إذ تفيضون فيه5} أي في الوقت الذي تأخذون فيه، وقوله تعالى {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة6 في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} يخبر تعالى عن سعة علمه تعالى وإحاطته بسائر مخلوقاته بحيث لا يعزب أي لا يغيب عن علمه تعالى مثقال ذره أي وزن ذرة وهي النملة الصغيرة وسواء كانت في الأرض أو في السماء، وسواء كانت أصغر من النملة أو
__________
1 من كفّار قريش.
2 الاستفهام تقريري مشوب بالإنكار عليهم أيضاً. وعبر عن إعطائهم الرزق بإنزاله لهم، لأنّ أرزاقهم من حبوب وثمار وأنعام كلها متوفقة على المطر النازل من السماء حتى سمى العرب ببني ماء السماء. وشاهده قوله تعالى {فلينظر الإنسان إلى طعامه أنّا صببنا الماء صبّا..} الآية.
3 بذكره وعبادته وحده بما شرع أن يعبد به، وعلّة عدم الشكر، انظرها في التفسير.
4 الشأن والجمع شؤون: الخطب والأمر الهام، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والأمّة معه وقدم صلى الله عليه وسلم لعلو شأنه وسمو مقامه صلى الله عليه وسلم.
5 الإفاضة في العمل: الشروع والدخول فيه.
6 الذرة: النملة الصغيرة، أو الهباءة التي تُرى في ضوء الشمس.

أكبر منها. بالإضافة إلى أن ذلك كله في كتاب مبين أي في اللوح المحفوظ. لهذا العلم والقدرة والرحمة استوجب التأليه والعبادة دون سائر خلقه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير الوحي وإثباته للنبي صلى الله عليه وسلم.
2- التحريم والتحليل من حق الله تعالى دون سائر خلقه.
3- حرمة الكذب على الله، وإن صاحبه مستوجب للعذاب.
4- ما أعظم نعم الله تعالى على العباد ومع هذا فهم لا يشكرون إلا القليل منهم
5- وجوب مراقبة الله تعالى، وحرمه الغفلة في ذلك.
6- إثبات اللوح المحفوظ وتقريره كما صرحت به الآيات والأحاديث.
أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ(63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(64)
شرح الكلمات:
ألا : أداة استفتاح وتنبيه.
إن أولياء الله : جمع وليّ وهو المؤمن التقي بشرط أن يكون إيمانه وتقواه على نور من الله.
لا خوف عليهم : أي لا يخافون عند الموت ولا بعده، ولا هم يحزنون على ما تركوا بعد موتهم.
آمنوا : أي صدقوا بالله وبماء جاء عن الله وبرسول الله وبما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

يتقون: أي ما يسخط الله تعالى من ترك واجب أو فعل حرام.
لهم البشرى: أي بالجنة في القرآن الكريم وعند الموت وبالرؤيا الصالحة يراها أو ترى له.
لا تبديل لكلمات الله: أي لوعده الذي يعده عباده الصالحين، لأن الوعد بالكلمة وكلمه الله لا تبدل.
الفوز: النجاة من النار ودخول الجنة.
معنى الآيات:
يخبر تعالى مؤكداً الخبر بأداة التنبيه {ألا} وأداة التوكيد {إن} فيقول: {ألا إن أولياء1 الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} أي لا يخافون عند الموت ولا في البرزخ ولا يوم القيامة ولا هم يحزنون على ما يتركون وراءهم بعد موتهم ولا في الدار الآخرة وبين تعالى أولياءه وعرف بهم فقال: {الذين آمنوا وكانوا يتقون}2 أي آمنوا به وبرسوله وبكل ما جاء به رسوله عن ربه، وكانوا يتقون طوال حياتهم وسائر ساعاتهم سخط الله تعالى فلا يتركون واجباً هم قادرون على القيام به، ولا يغشون محرماً لم يُكرهوا عليه. وقوله تعالى: {لهم البشرى} في الحياة الدنيا3 وفي الآخرة: أي لهم بشرى ربهم في كتابه برضوانه ودخول الجنة ولهم البشرى بذلك عند الاحتضار تبشرهم الملائكة برضوان الله وجنته وفي الآخرة عند قيامهم من قبورهم تتلقاهم الملائكة بالبشرى.
وقوله تعالى: {لا تبديل لكلمات الله} 4 وهو تأكيد لما بشرهم، إذ تلك البشرى كانت بكلمات الله وكلمات الله لا تتبدل فوعد الله إذاً لا يتخلف.
__________
1 الولي: مشتق من الولي بسكون اللام الذي هو القرب، ومتى زكت نفس المؤمن بالإيمان والعمل الصالح، وتخلّيها عن الشرك، والمعاصي قُرب من الله تعالى فوالاه، ومن آيات الولاية: استجابة الدعاء وهرمن الكرامات التي يكرم الله تعالى بها أولياءه وفي الحديث: "الذين يُذْكَرُ الله برؤيتهم" وفي لفظ. "الذين إذا رُؤوا ذُكر الله" وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من عباد الله عبادا يغبطهم الأنبياء، والشهداء. قيل من هم يا رسول الله؟ لمنا نحبّهم؟ قال: هم قوم تخابوا في الله من غير أموال ولا أنساب وجوههم نور على منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم قرأ: {ألا إن أولياء الله} الآية.
2 الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا أي: كأنّما سائل قال: مَنْ هم أولياء الله؟ فأجيب: الذين آمنوا وكانوا يتقون".
3 لحديث: "انقطع الوحي ولم يبق إلاّ المبشرات قالوا: وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها البد المؤمن أو تُرى له".
4 كلمات الله هي: التي بها مواعيده ولذا فما يباشر الله تعالى به أولياءه هو كائن لا محالة إذ مواعيده لا تتبدل ووعوده لا تخلف.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ولاية الله تعالى بطاعته وموافقته في محابه ومكارهه فمن آمن إيماناً يرضاه الله، واتقى الله في أداء الفرائض واجتناب المناهي فقد صار ولي الله والله وليه.
2- البشرى هي ما يكرم الله به برؤيا صالحة يراها الولي أو تُرى له.
3- الأولياء هم أهل الإيمان والتقوى فالكافر والفاجر لا يكون وليا أبداً، إلا إذا آمن الكافر، وبَرَّ الفاجر بفعل الصالحات وترك المنهيات.
4- صدق إخبار الله تعالى وعدالة أحكامه، وسر ولايته إذ هي تدور على موافقة الرب تعالى فيما يجب من الاعتقادات والأعمال والأقوال والذوات والصفات وفيما يكره من ذلك فمن وافق ربه فقد والاه ومن خالفه فقد عاداه.
وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(65) أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ(66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ(67)
شرح الكلمات:
لا يحزنك : أي لا يجعلك قولهم تحزن.
إن العزة لله : العزة الغلبة والقهر.
شركاء : أي شركاء بحق يملكون مع الله لعابديهم خيراً أو يدفعون عنهم ضراً.
إلا الظن: الظن أضعف الشك.

يخرصون: أي يحزرون ويكذبون.
لتسكنوا فيه: أي تخلدوا فيه إلى الراحة والسكون عن الحركة.
مبصراً: أي مضيئاً ترى فيه الأشياء كلها.
في ذلك: أي من جَعْلِهِ تعالى الليل سكناً والنهار مبصراً لآيات.
يسمعون: أي سماع إجابة وقبول.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير قضايا التوحيد الثلاث التوحيد والنبوة والبعث قال تعالى مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم {ولا يحزنك قولهم} أي لا يجعلك قول المشركين المفترين {لست مرسلاً} وأنك {شاعر مجنون} تحزن فإن قولهم هذا ينتج لهم إلا سوء العاقبة والهزيمة المحتمة، {إن العزة لله جميعاً}1 فربك القوى القادر سيهزمهم وينصرك عليهم. إذا فاصبر على ما يقولون ولا تأس ولا تحزن. إنه تعالى هو السميع لأقوال عباده العليم بأعمالهم وأحوالهم ولا يخفى عليه شيء من أمرهم. {ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض} خلقاً وملكاً وتصرفاً، كل شيء في قبضته وتحت سلطانه وقهره فكيف تبالي بهم يا رسولنا فتحزن لأقوالهم {وما يتبع الذين يدعون من دون ألله شركاء} أي آلهة حقاً بحيث تستحق العبادة لكونها تملك نفعاً أو ضراً، موتاً أو حياة لا بل ما هم في عبادتها متبعين إلا الظن {وإن هم إلا يخرصون} أي يتقولون ويكذبون. وقوله تعالى {هو الذي2 جعل لكم الليل لتسكنوا فيه، والنهار مبصراً} أي الإله الحق الذي يجب أن يدعى ويعبد الله الذي جعل لكم أيها الناس ليلاً مظلماً لتسكنوا فيه فتستريحوا من عناء العمل في النهار. وجعل لكم النهار مبصراً3 أي مضيئاً لتتمكنوا من العمل فيه فتوفروا لأنفسكم ما تحتاجون إليه في حياتكم من غذاء وكساء وليست تلك الآلهة من أصنام وأوثان بالتي تستحق الألوهية فتُدْعى وتُعبد. وقوله {إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون4} أي إن فيما
__________
1 أي: القوة الكاملة، والغلبة الشاملة، والقدرة التامة لله وحده، والعزيز هو الغالب الذي لا يُغلب، والقوي الذي لا يُحال بينه وبين مراده. و{جميعاً} منصوب على الحال، وعزّة المؤمنين هي بعزّة الله فلا منافاة إذاً.
2 من الآية استدلال على عزته تعالى وملكه لكل شيء وقدرته وتصرفه في كل شيء وهو ما أوجب له العبادة دون ما سواه.
3 يقال أبصر النهار، إذا صار ضياء، وأظلم الليل إذا صار ذا ظلام.
4 الجملة المستأنفة، والآيات: الدلائل الدالة على وحدانية الله تعالى في ربوبيته وألوهيته، والدلالة تكون مرئية ومسموعة ومعقولة، وعليه فالأعمى والأصم وغير العاقل لا يستفيدون منها فهذه علّة عدم استفادة المشركين من الآيات لفقدهم آلات العقل والسمع والبصر، إذ فسدت بالجهل والتقليد والعناد والمكابرة والجحود.

ذكر تعالى من كماله وعزته وقدرته وتدبيره لأمور خلقه آيات علامات واضحة على أنه لا إله إلا هو ولا رب غيره، ولكن يرى تلك الآيات من يسمع سماع قبول واستجابة لا من يسمع الصوت ولا يفكر فيه ولا يتدبر عانيه فإن مثله أعمى لا يبصر وأصم لا يسمع.
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
1- على المؤمن الداعي إلى الله تعالى أن لا يحزنه أقوال أهل الباطل وأكاذيبهم حتى لا ينقطع عن دعوته، وليعلم أن العزة لله جميعاً وسوف يعزه بها، ويذل أعداءه.
2- ما يُعبد من دون الله لم يقم عليه عابدوه أي دليل ولا يملكون له حجة وإنما هم مقلدون يتبعون الظنون والأوهام.
3- مظاهر قدرة الله تعالى في الخلق والتدبير كافية في إثبات العبادة له ونفيها عما سواه.
قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ(68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ(69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ(70)
شرح الكلمات:
سبحانه : أي تنزه عن النقص وتعالى أن يكون له ولد.
الغَنِيُّ : أي الغِنَى المطلق بحيث لا يفتقر إلى شيء.
إن عندكم من سلطان : أي ما عندكم من حجة ولا برهان.
بهذا : أي الذي تقولونه وهو نسبة الولد إليه تعالى.
متاع في الدنيا : أي ما هم فيه اليوم هو متاع لا غير وسوف يموتون ويخسرون.

كل شيء.
يكفرون : أي بنسبة الولد إلى الله تعالى، وبعبادتهم غير الله. سبحانه وتعالى.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تحقيق التوحيد وتقريره بإبطال الشرك وشبهه فقال تعالى: {قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه} أي قال المشركون أن الملائكة بنات الله1 وهو قول مؤسف محزن للرسول صلى الله عليه وسلم كقولهم له {لست مرسلاً}، وقد نهي صلى الله عليه وسلم عن الحزن من جراء أقوال المشركين الفاسدة الباطلة. ونزه الله تعالى نفسه عن هذا الكذب فقال سبحانه، وأقام الحجة على بطلان قول المشركين بأنه هو الغَنيُّ الغِنَى الذاتي الذي لا يفتقر معه إلى غيره فكيف إذاً يحتاج إلى ولد أو بنت فيستغني به وهو الغني الحميد، وبرهان آخر على غناه أن له ما في السموات وما في الأرض الجميع خلقه وملكه فهل يعقل أن يتخذ السيد المالك عبداً من عبيده ولداً له. وحجة أخرى هل لدى الزاعمين بأن لله ولداً حجة تثبت ذلك والجواب لا، لا. قال تعالى مكذباً إياهم : {إن عندكم من سلطان بهذا}2 أي ما عندكم من حجة ولا برهان بهذا الذي تقولون ثم وبخهم وقرعهم بقوله: {أتقولون على3 الله ما لا تعلمون؟} وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول معلناً عن خيبة الكاذبين وخسرانهم: {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون}4 إن قيل كيف لا يفلحون وهم يتمتعون بالأموال والأولاد والجاه والسلطة أحياناً فالجواب في قوله تعالى {متاع في الدنيا}5 أي ذلك متاع في الدنيا، يتمتعون به إلى نهاية أعمارهم، ثم إلى الله تعالى مرجعهم جميعاً، ثم يذيقهم العذاب الشديد الذي ينسون معه كل ما تمتعوا به في الحياة الدنيا، وعلل
__________
1 وقال اليهود: عزير بن الله وقال النصارى عيسى بن الله والكل مفتر كذَّاب، ولا شك أن الشيطان هو الذي زيّن لهم هذا الباطل ليغويهم فيضلهم ويهلكهم.
2 إن نافية بمعنى: (ما) كما هي في التفسير أي: ما عندكم من حجة تثبت ما ادعيتموه وتُلزم به لقوتها كقوة ذي السلطان.
3 الاستفهام للتوبيخ والتقريع بجهلهم وكذبهم إذ الولد يتطلب المجانسة والمشابهة بينه وبين من ينسب إليه وأين ذلك؟ والله ليس كمثله شيء إذ هو خالق كل شيء.
4 الفلاح: الفوز، والفوز هي السلامة من المرهوب والظهر بالمحبوب المرغوب، والمفترون على الله الكذب لا ينجون من النار ولا يدخلون الحنة فهم إذا خاسرون غير مفلحين.
5 هذه الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنها جواب سؤال هو: كيف لا يفلحون وهم في عزّة وقدرة وسلطان فيجاب السائل: بأن هذا متاع في الدنيا زائل لا قيمة له، بالمقابلة بالفلاح المنتفي عنهم وهو فلاح الآخرة.

تعالى ذلك العذاب الشديد الذي أذاقهم بكفرهم فقال: {بما كانوا يكفرون} 1 أي يجحدون كمال الله وغناه فنسبوا إليه الولد والشريك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- كفر من ينسب إلى الله تعالى أي نقص كالولد والشريك أو العجز مطلقاً.
2- كل دعوى لا يقيم لها صاحبها برهاناً قاطعاً وحجة واضحة فلا قيمة لها ولا يحفل بها.
3- أهل الكذب على الله كالدجالين والسحرة وأهل البدع والخرافات لا يفلحون ونهايتهم الخسران.
4- لا ينبغي للمؤمن أن يغتر بما يرى عليه أهل الباطل والشر من المتع وسعة الرزق وصحة البدن فإن ذلك متاع الحياة الدنيا، ثم يؤول أمرهم إلى خسران دائم.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ(71) فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ(73)
شرح الكلمات:
واتل عليهم نبأ نوح: أي اقرأ على المشركين نبأ نوح أي خبره العظيم الخطير.
__________
1 الباء في {بما كانوا يكفرون} للتعليل الذي هو السببيّة أي : بسبب كفرهم، إذ الكفر خبث نفوسهم فاستوجبوا النار وعذابها.

كبر عليكم مقامي : أي عظم عليكم مقامي بينكم أدعو إلى ربي.
فأجمعوا أمركم : أي اعزموا عزماً أكيداً.
غمّة: أي خفاء ولبساً لا تهتدون منه إلى ما تريدون.
ثم اقضوا إلي: أي انفذوا أمركم.
ولا تنظرون: أي ولا تمهلون رحمة بي أو شفقة علي.
فإن توليتم : أي أعرضتم عما أدعوكم إليه من التوحيد.
في الفلك: أي في السفينة.
خلائف: أي يخلف الآخر الأول جيلاً بعد جيل.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في طلب هداية المشركين بالرد على دعاواهم وبيان الحق لهم وفي هذه الآيات يأمر الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليهم طرفاً من قصة نوح مع قومه المشركين الذين كانت حالهم كحال مشركي العرب سواء بسواء وفي قراءة هذا القصص فائدتان الأولى تسلية الرسول وحمله على الصبر، والثانية تنبيه المشركين إلى خطإهم، وتحذيرهم من الاستمرار على الشرك والعصيان فيحل بهم من العذاب ما حل بغيرهم قال تعالى: {واتل عليهم نبأ نوح}1 أي خبره العظيم الشأن وهو قوله لهم {يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي}2 أي عظم وشق عليكم وجودي بينكم أدعوكم إلى الله، وتذكيري إياكم بآيات الله، فإني3 توكلت على الله فأجمعوا أمركم أي اعزمرا عزماً أكيداً وادعوا أيضاً شركاءكم للاستعانة بهم، ثم أحذركم أن يكون أمركم عليكم غمة أي4 خفياً ملتبساً عليكم فيجعلكم تترددون في إنفاذ ما عزمتم عليه، ثم اقضوا5 إليَّ ما تريدون من قتلي أو نفعي ولا
__________
1 {اتل} فعل أمر حذفت منه الواو لبنائه على حذفها إذ ماضيه تلا ومضارعه يتلو، والأمر: اتل بمعنى اقرأ، والتلاوة: موالاة الكلمات والقراءة جمعها.
2 المقام: بفتح القاف، موضع القيام، والمُقام بالضمّ الإقامة، ومعنى كبُر: ثقل وعظم.
3 هذه الجملة {فعلى الله توكلت} هي جواب الشرط الذي هو: فان كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله التي هي دلائل فضله ودلائل وحدانيته تعالى.
4 الغمّة والغمَ بمعنى واحد، ومعناه التغطية والستر ومنه: غم الهلال إذا استتر، قال الشاعر:
لعمرك ما أمري عَليّ بغمّة ... نهاري ولا ليلي عليَّ بسرمد
وأصل الغمّ: مشتق من الغمامة، وكل أمر مبهم ملتبس فهو غمّة.
5 أي: أنفذوا ما حكتم به عليَّ من قتلي إن أردتم ذلك.

تنظرون أي لا تؤخروني أي تأخير. وقوله تعالى: {فإن توليتم} أي أعرضتم عن دعوتي وتذكيري ولم تقبلوا ما أدعوكم إليه من عبادة الله تعالى وحده، فما سألتكم عليه من أجر أي ثواب، حتى تتولوا. إن أجري إلا على ربي الذي أرسلني وكلفني. وقد أمرني أن أكون من المسلمين له قلوبهم ووجوههم وكل أعمالهم فأنا كذلك كل عملي له فلا أطلب أجراً من غيره قال تعالى: {فكذبوه} أي دعاهم واستمر في دعائهم إلى الله زمناً غير قصير وكانت النهاية: أن كذبوه، ودعانا لنصرته فنجيناه ومن معه من المؤمنين في السفينة وجعلناهم خلائف1 لبعضهم بعضاً أي يخلف الآخر الأول، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا التي أرسلنا بها عبدنا نوحاً فانظر يا رسولنا كيف كان عاقبة المنذرين الذين لم يقبلوا النصح ولم يستجيبوا للحق إنها عاقبة وخيمة إذ كانت إغراقاً في طوفان وناراً في جهنم وخسراناً قال تعالى في سورة نوح: {مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً}.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تسلية الدعاة بمثل موقف نوح العظيم إذ قال لقومه: أجمعوا أمركم ونفذوا ما تريدون إني توكلت على الله.
2- ثمرة التوكل شجاعة واطمئنان نفس وصبر وتحمل مع مضاء عزيمة.
3- دعوة الله لا ينبغي أن يأخذ الداعي عليها أجراً إلا للضرورة.
4- بيان سوء عاقبة المكذبين بعد إنذارهم وتحذيرهم.
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ(74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ(75)
__________
1 جمع خليفة وهو اسم لمن يخلف غيره.

فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ(76) قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ(77) قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ(78)
شرح الكلمات:
بالبينات : أي بالحجج الواضحات على صدق دعوتهم، وما يدعون إليه من توحيد الله تعالى.
نطبع: الطبع على القلب عبارة عن تراكم الذنوب على القلب حتى لا يجد الإيمان إليه طريقاً.
المعتدين : الذين تجاوزوا الحد في الظلم والاعتداء على حدود الشرع.
الحق.: الآيات التي جاء بها موسى عليه السلام وهي تسع.
لتلفتنا: لتصرفنا وتحول وجوهنا عما وجدنا عليه آباءنا.
الكبرياء: أي العلو والسيادة والملك على الناس.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى طرفاً من قصة نوح عليه السلام وأبرز فيها مظهر التوكل على الله تعالى من نوح ليُقتدى به، ومظهر نصرة الله تعالى لأوليائه وهزيمته أعدائه ذكر هنا سنة من سننه في خلقه وهي أنه بعث من بعد نوح رسلاً كثيرين1 إلى أممهم فجاؤوهم بالبينات أي بالحجج والبراهين على صدقهم وصحة ما جاءوا به ودعوا إليه من توحيد الله، فما كان أولئك الأقوام ليؤمنوا بما كذب به من سبقهم من أمة نوح. قال تعالى: {كذلك نطبع على2
__________
1 كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وغيرهم.
2 {نطبع} نختم، إذ الختم والطبع واحد، والطبع يكون بالخاتم.

قلوب المعتدين} هذا بيان سنة الله تعالى في البشر وهي أن العبد إذا أذنب وواصل الذنب بدون توبة يصبح الذنب طبعاً من طباعه لا يمكنه أن يتخلى عنه، وما الذنب إلا اعتداء على حدود الشارع فمن اعتدى واعتدى وواصل الاعتداء حصل له الطبع وكان الختم على القلب فيصبح لا يقبل الإيمان ولا يعرف المعروف ولا ينكر المنكر. وقوله تعالى: {ثم بعثنا من بعدهم موسى وهرون} 1 أي من بعد الأمم الهالكة بعثنا رسولينا موسى وهرون ابني عمران إلى فرعون وملئه بآياتنا المتضمنة الدليل على صحة مطلب رسولينا وهو توحيد الله وإرسال بني إسرائيل معهما، {فاستكبروا} أي فرعون وملؤه {وكانوا قوماً مجرمين} حيث أفسدوا القلوب2 والعقول وسفكوا الدماء وعذبوا الضعفاء يقول تعالى عنهم {فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين} أي لما بهرتهم المعجزات وهي آيات موسى وأبطلت إفكهم قالوا إن هذا لسحر مبين تخلصاً من الهزيمة التي لحقتهم، فرد موسى عليهم بقوله {أتقولون للحق لما جاءكم} هذا سحر3 ثم بعد توبيخهم استدل على بطلان قولهم بكونه انتصر عليهم فأفلح بينهم وفاز عليهم فقال: {أسحر هذا ولا يفلح الساحرون} فلو كان ما جئت به سحراً فكيف أفلحت في إبطال سحركم وهزيمة سحرتكم. فلما أفحمهم بالحجة قالوا مراوغين: {أجئتنا لتلفتنا} أي تصرفنا {عما وجدنا عليه آباءنا، وتكون لكما الكبرياء في الأرض} أي وتكون لكما السيادة والملك في أرض مصر فسلكوا مسلك الاتهام السياسي. وقالوا {وما نحن لكما بمؤمنين} أي بمصدقين ولا متبعين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله في البشر وهي أن التوغل في الشر والفساد والظلم يوجب الختم على
__________
1 أي: من بعد الرسول والأمم إذ لكل امّة رسول.
2 أفسدوا القلوب بالشرك والكفر والعقول بالسحر والأباطيل وسفكوا الدماء بقتل ذكران بني إسرائيل الصغار (المواليد).
3 مفعول {أتقولون} محذوف لدلالة الكلام عليه وهو: إن هذا لسحر مبين وتقدير الكلام أنهم لما قالوا في الآيات لسحر مبين رد عليهم موسى بقوله: أتقولون للحق لما جاءكم هذا. أسحر هذا؟ أي كيف يكون هذا الذي جئتكم به من الآيات سحراً؟ والساحر لا يفلح وقد أفلحت فبطل أن يكون ما جئتكم به من الآيات سحراً للحق: اللام يسميهم بعضهم لام المجاوزة فهي بمعنى عن أي: تقولون عن الحق كذا. والظاهر أنها لام التعليل.

القلوب فيحرم العبد الإيمان والهداية.
2- ذم الاستبكار وأنه سبب كثير من الإجرام.
3- تقرير أن السحر صاحبه لا يفلح أبداً ولا يفوز بمطلوب ولا ينجو من مرهوب.
4- الاتهامات الكاذبة من شأن أهل الباطل والظلم والفساد.
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ(79) فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ(80) فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ(81) وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ(82)
شرح الكلمات:
ساحر عليم: أي ذو سحر حقيقي له تأثير عليم بالفن.
ألقوا: أي ارموا في الميدان ما تريدون إلقاءه من ضروب السحر.
إن الله سيبطله: أي يظهر بطلانه أمام النظارة من الناس.
ويحق الله الحق : أي يقرر الحق ويثبته.
بكلماته : أي بأمره إذ يقول للشيء كن فيكون.
المجرمون: أهل الإجرام على أنفسهم وعلى غيرهم وهم الظلمة المفسدون.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر قصة موسى بعد قصة نوح عليهما السلام في الآيات السابقة لما غلب موسى فرعون وملأه بالحجة اتهم فرعون موسى وأخاه هارون بأنهما سياسيان يريدان الملك والسيادة على البلاد لا همَّ لهما إلا ذاك وكذب فرعون وهو من الكاذبين وهنا أمر

رجال دولته أن يحضروا له علماء السحر1 ليبارى موسى في السحر فجمع سحرته فقال لهم موسى {ألقوا ما أنتم ملقون}2 فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون، فنظر إليه موسى وقال: { ما جئتم3 به السحر إن الله سيبطله4 إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولوكره المجرمون}5 وألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- للسحر طرق يتعلم بها وله علماء به وتعلمه حرام واستعماله حرام.
2- حد الساحر القتل لأنه إفساد في الأرض.
3- جواز المبارزة للعدو والمباراة له إظهاراً للحق وإبطالاً للباطل.
4- عاقبة الفساد وعمل أصحابه الخراب والدمار.
5- متى قاوم الحق الباطل انهزم الباطل وانتصر الحق بأمر الله تعالى ووعده الصادق.
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ(83) َقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ(84) َقَالُواْ عَلَى اللّهِ
__________
1 طلب فرعون بإتيانه بالسحرة إذ قال: أئتوني بكل ساحر عليم قال هذا لما شاهد العصا واليد البيضاء فاعتقد أنها سخر فأراد أن يقابله بسحر قومه.
2 أي: اطرحوا ما معكم من حبالكم وعصّيكم.
3 أي: ما أظهرتموه لنا من هذه الحبال والعصي، وقد تراءت وكأنها حيّات وثعابين هو السحر وعلّل لذلك. بقوله إنّ الله سيبطله وعلة أخرى وهو أن الله لا يصلح عمل المفسدين، وإظهار اسم الجلالة في التعليلين: {إن الله سيبطله} {إنّ الله لا يصلح عمله المفسدين} لإلقاء الروع وتربية المهابة في النفوس.
4 قال ابن عباس رضي الله عنه من أخذ مضجعه من الليل ثم تلا هذه الآية. { ما جئتم به السحر إنّ الله سيبطله إنّ الله لا يصلح عمل المفسدين} لم يضرّه كيد ساحر.
5 أراد بالمجرمين: فرعون وملأه، وفي الكلام تعريض بهم، وعدل عن وصفهم بالإجرام لأنّه مأمور أن يقول قولاً ليّنأ فاستغنى بالتعريض بدل التصريح.

تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(87)
شرح الكلمات:
فما آمن لموسى : أي لم يَنْقَدْ له ويتبعه.
إلا ذرية : أي طائفة قليلة من أولاد بني إسرائيل.
وملائهم: أي أشرافهم ورؤسائهم.
أن يفتنهم: أن يضطهدهم ويعذبهم.
لعال في الأرض: قاهر مُستبدّ.
مسلمين : مذعنين منقادين لأمره ونهيه.
فتنة للقوم الظالمين : أي لا تفتنهم بنا بأن تنصرهم علينا فيروا أنهم خير منا فيزدادوا كفراً.
أن تبوَّءا : اتخذا لقومكما بمصر بيوتا تبوءون إليها وترجعون.
قبلة: أي مساجد تصلون فيها.
معنى الآيات:
بعد ذلك الانتصار الباهر الذي تم لموسى على السحرة، والهزيمة المرة التي لحقت فرعون ولم يؤمن لموسى ويتابعه إلا ذرّيّة من بني إسرائيل، وعدد قليل من آل فرعون كامرأته ومؤمن آل فرعون والماشطة قال تعالى: {فما آمن لموسى إلا ذرية1 من قومه على خوف من فرعون} أي مع خوف من فرعون أن يفتنهم وقوله: {وملائهم} عائد إلى مؤمنى آل فرعون أي مع خوف من ملائهم أي رؤسائهم وأشرافهم أن يفتنوهم أيضاً، وقوله تعالى {وإن فرعون لعال في الأرض} أي إنه قاهر متسلط مستبد ظالم، {وإنه لمن
__________
1 المراد بالذرية أولاد بني إسرائيل الشبان الذين آمنوا عند مشاهدّة المباراة وانتصار موسى فيها.

المسرفين}1 في الظلم فلذا خافوه لما آمنوا، ولما ظهر الخوف علي بني إسرائيل قال لهم موسى {يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين}2 ففوضوا أمركم إليه إن كنتم حقاً مسلمين لله منقادين لأمره ونهيه، فأجابوا قائلين: {على الله توكلنا} وسألوا الله تعالى أن لا يفتن قوم فرعون بهم بأن ينصرهم عليهم فيزدادوا كفراً وظلماً، وضمن ذلك أن لا تسلط الظالمين علينا فيفتونا في ديننا بصرفنا عنه بقوة التعذيب {ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين} وهذا حسن توسل منهم إذا قالوا برحمتك فتوسلوا إلى الله برحمته ليستجيب دعاءهم، والمراد من القوم الكافرين هنا فرعون وملأه. وقوله تعالى: {وأوحينا إلى موسى وأخيه} أ ي هارون {أن تبوءا لقومكما} 3 أي من بني إسرائيل {بمصر} أي بأرض مصر4 {بيوتاً، واجعلوا بيوتكم قبلة}5 أي متقابلة ومساجد6 تصلون فيها {وأقيموا الصلاة} على الوجه الذي شرع لكم. وهذا بناء على أن بني إسرائيل بعد الانتصار على فرعون أخذوا ينحازون من مجتمع فرعون فأمروا أن يكونوا حياً مستقلاً استعداداً للخروج من أرض مصر فأمرهم الرب تبارك وتعالى أن يجعلوا بيوتهم قبلة أي متقابلة ليعرفوا من يدخل عليهم ومن يخرج منهم وليصلوا فيها كالمساجد حيث منعوا من المساجد إما بتخريبها وإما بمنعهم منها ظلماً وعدواناً وقوله تعالى {وبشر المؤمنين} أي وبشر يا رسولنا7 المؤمنين الصادقين في إيمانهم الكاملين فيه بحسن العاقبة بكرامة الدنيا وسعادة الآخرة بدخول دار السلام.
__________
1 {المسرفين}: أي المجاوزين الحد في الكفر لأنه كان عبداً فادعى الربوبية.
2 كرر جملة الشرط تأكيداً، مبيّناً أن كمال الإيمان يقتضي التوكل على الله تعالى.
3 أي: اتخذا، يقال: بوّاه الدار: انزله إيَّاها وأسكنه فيها. وفي الحديث "من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" أي: فلينزله ملازما له.
4 قيل: المراد بمصر: الأسكندرية.
5 في الآية دليل علي جواز صلاة الخائف المكتوبة في بيته، أمّا النافلة فهي في البيوت أفضل لقول الرسول صلى الله عليه وسلم "فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".
6 في هذا جمع بين رأيين الأول: أن المراد من كلمة قبلة: أنها مساجد والثاني: أنها متقابلة ليتم لهم بذلك حمايتهم من عدوهم بعد أن استقلوا عنه.
7 هو موسى علبه السلام، بدليل السياق الكريم.

هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أراه كيف انتصر موسى بالمعجزات ومع ذلك لم يتابعه إلا القليل من قومه.
2- التنديد بالعلو في الأرض والإسراف في الشر والفساد وبأهلهما.
30- وجوب التوكل على الله تعالى لتحمل عبء الدعوة إلى الله تعالى والقيام بطاعته.
4- مشروعية الدعاء والتوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته.
5- اتخاذ المساجد في المنازل للصلاة فيها عند الخوف.
6- وجوب إقام الصلاة.
7- بشرى الله تعالى للمؤمنين والمقيمين للصلاة بحسن العاقبة في الدارين.
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ(88) قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ(89)
شرح الكلمات:
زينة : أي حلياً وحللاً ورياشاً ومتاعاً.
أموالاً : أي كثيرة من الذهب والفضة والأنعام والحرث.
اطمس : أي أزل أثرها من بينهم بإذهابها.
واشدد على قلوبهم : اربط عليها حتى لا يدخلها إيمان ليهلكوا وهم كافرون.

أجيبت دعوتكما :. أي استجابها الله تعالى.
فاستقيما: على طاعة الله بأداء رسالته والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه.
سبيل الذين لا يعلمون: أي طريق الجهلة الذي لا يعرفون محاب الله ومساخطه ولا يعلمون شرائع الله التي أنزل لعباده.
معنى الآيتين:
ما زال السياق في قصة موسى مع فرعون وبني إسرائيل فبعد أن لج فرعون في العناد والمكابرة بعد هزيمته سأل موسى ربه قائلاً {ربنا إنك آتيت فرعون وملأه} أي أعطيتهم {زينة} أي ما يتزين به من الملابس والفرش والأثاث وأنواع الحلي والحلل وقوله {وأموالاً} 1 أي الذهب والفضة والأنعام والحرث {في الحياة الدنيا} أي في هذه الحياة الدنيا وقوله: {ربنا ليضلوا عن سبيلك}2 أي فيسبب ذلك لهم الضلال إذاً {ربنا اطمس3 على أموالهم} أي أذهب أثرها بمسحها وجعلها غير صالحة للانتفاع بها، {واشدد على4 قلوبهم} أي اطبع على قلوبهم واستوثق منها فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم الموجع أشد الإيجاع، قال تعالى: {قد أجيبت دعوتكما، فاستقيما}5 على طاعتنا بالدعوة إلينا وأداء عبادتنا والنصح لعبادنا والعمل على إنقاذ عبادنا من ظلم الظالمين، {ولا تتبعانِّ سبيل الذين لا يعلمون} أي فتستعجلا وقوع العذاب فإن الذين لا يعلمون ما لله من حكم وتدابير وقضاء وقدر يستعجلون الله تعالى في وعده لهم فلا تكونوا مثلهم بل انتظروا وعدنا واصبروا حتى يأتي وعد الله وما الله بمخلف وعده.
__________
1 قيل: إنه كان لهم من فسطاط مصر إلى ارض الحبشة جبال فيها معادن الذهب والفضة والزبرجد والزمرد، والياقوت.
2 في هذه اللام أقوال: أصحها: أنها لام العاقبة، والصيرورة. أي: يا رب إنك آتيت فرعون وقومه أموالاً ليؤول أمرهم بسبب تلك الأموال إلى ضلالهم.
3 أي: عاقبهم على كفرهم بإهلاك أموالهم. وفعلا أصبحت حجارة لا ينتفع لها وكان ذلك عقوبة منه تعالى لهم على كفرهم وعنادهم.
4 قد استشكل العلماء وجه دعاء موسى على فرعون وقومه بالهلاك إذ المفروض أن يدعو لهم بالهداية. وأجيب بأنه قد علم بإعلام الله تعالى له أنهم لا يؤمنون فلذا دعا عليهم، كما أعلم الله تعالى نوحاً بعدم إيمان قومه فلذا دعا عليهم، إذ قال له ربَّه :{إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} وهنا دعا عليهم قائلاً:{ ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً}.
5 كان موسى يدعو، وهارون يؤمن أي: يقول: آمين فاعتبر داعيا مع أخيه. لأنّ قول آمين معناه: اللهم استجب دعاءنا.

هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- مشروعية الدعاء بالهلاك على أهل الظلم.
2- كثرة المال وأنواع الزينة، والانغماس في ذلك والتلهي به يسبب الضلال لصاحبه.
3- الذين بلغوا حداً من الشر والفساد فطبع على قلوبهم لا يموتون إلا على الكفر فيخسرون.
4- المؤمِّن داع فهو شريك في الدعاء1 فلذا أهل المسجد يؤمِّنون على دعاء الإمام في الخطبة فتحصل الإجابة للجميع، ومن هنا يخطيء الذين يطوفون أو يزورون إذ يدعون بدعاء المطوف ولا يؤمِّنون.
5- حرمة إتباع طرق أهل الضلال، وتقليد الجهال والسير وراءهم.
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ(92)
شرح الكلمات:
وجاوزنا ببني إسرائيل : أي قطعنا بهم البحر حتى تجاوزوه.
البحر : بحر القلزم.
__________
1 روى الترمذي الحكيم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن الله قد أعطى أمتي ثلاثاً لم تعط أحداً قبلهم: السلام، وهي تحية أهل الجنة، وصفوف الملائكة وآمين إلاَّ ما كان من موسى وهارون" وعلى هذا فموسى كان يدعو وهارون يؤمن فاعتبر داعياً.

بغيا وعدوا 1: أي بغيا على موسى وهرون واعتداء عليهما.
الآن : أي أفي هذا الوقت تقر بالوحدانية وتعترف له بالذلة؟!.
ببدنك : أي بجسدك لا روح فيه.
آية: علامة على أنك عبد وليس برب فيعتبروا بذلك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصة موسى وهرون مع فرعون وبني إسرائيل قال تعالى: {وجاوزنا2 ببني إسرائيل البحر} وذلك بداية استجابة الله تعالى دعوة موسى وهرون ومعنى {جاوزنا} أي قطعنا بهم البحر حتى تجاوزوه، وذلك بأن أمر موسى أن يضرب بعصاه البحر فضرب فانفلق البحر فكان كل فرق كالطود العظيم ويَبِسَت الأرض ودخل موسى مع بني إسرائيل يتقدمهم جبريل عليه السلام على فرس حتى تجاوزوا البحر إلى الشاطىء، وجاء فرعون على فرسه ومعه ألوف3 الجنود فتبعوا موسى4 وبني إسرائيل فدخلوا البحر فلما توسطوه أطبق5 الله تعالى عليهم البحر فغرقوا أجمعين إلا ما كان من فرعون فإنه لما أدركه الغرق أي لحقه ووصل الماء إلى عنقه أعلن عن توبته فقال: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل} ولكبريائه لم يقل لا إله إلا الله ولو قالها لتاب الله عليه فأنجاه بل قال: {لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل} وهو يعرف أنه الله. وقوله: {وأنا من المسلمين} مبالغة في طلب النجاة من الغرق بالتوبة حيث أعلن أنه من المسلمين أي المستسلمين المنقادين لأمره. فرد الله تعالى بقوله :{آلآن} أي وقت التوبة6 والإسلام بعد الإيمان،
__________
1 {بغياً} منصوب على الحال. و{عدوا} معطوف عليه، وكان اتباع فرعون بني إسرائيل بغيا وعدوا لأنه ليس له شائبة حق في منعهم من الخروج من بلاده إلى بلادهم.
2 جاوزنا وجوّزنا: بمعنى واحد.
3 قال القرطبي: كان بنو إسرائيل ستمائة وعشرين ألفاً، وكان جيش فرعون ألفي ألف وستمائة ألف. أي مليونين ونصفاً وزيادة.
4 تبع واتبع بمعنى واحد إذا لحقه وأدركه، وأمّا اتبع بالتشديد فإن معناه: سار خلفه.
5 روى الترمذي وحسّنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لما أغرق الله فرعون قال: آمنت انه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو إسرائيل، قال جبريل يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من وحل البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمه" وحل البحر: الطين الأسود الذي بكون في أسفله، ومعنى تدركه الرحمة: أي يقول لا اله إلا الله.
6 لأنّ التوبة تقبل من العبد ما لم يرَ علامات الموت بمشاهدة الملائكة، وفي الحديث الصحيح: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يُغرغر".

{وقد عصيت قبل} وتمردت على الله وشرعه وكفرت به وبرسوله {وكنت من المفسدين} للبلاد والعباد بالظلم والشر والفساد، {فاليوم ننجيك} أي نجعلك على نجوة من الأرض أي مرتفع منها {ببدنك} أي يجسمك دون روحك، وبذلك {لتكون لمن خلفك} أو بعده من الناس {آية} أي علامة على أنك عبد مربوب وليس كما زعمت أنك رب وإله معبود، وتكون عبرة لغيرك فلا يطغى طغيانك ولا يكفر كفرانك فيهلك كما هلكت، وقوله تعالى: {وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون} إخبار منه بواقع الناس ومن أولئك الغافلين عن آيات الله وهي تتلى عليهم أهل مكة من كفار قريش وما سيق هذا القصص إلا لأجل هدايتهم. لو كانوا يهتدون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا تقبل التوبة عند معاينة العذاب وفي الحديث "تقبل توبة العبد ما لم يغرغر".
2- أكمل الأديان وأفضلها الإسلام ولهذا أهل اليقين يسألون الله تعالى أن يتوفاهم مسلمين ولما أيقن فرعون بالهلاك زعم أنه من المسلمين.
3- فضل لا إله إلا الله فقد ورد أن جبريل كان يحول بين فرعون وبين أن يقول: لا إله إلا الله فينجو فلم يقلها فغرق وكان من الهالكين.
4- تقرير حقيقة وهي أن أكثر الناس في هذه الحياة غافلون عما يراد بهم ولهم ولم ينتبهوا حتى يهلكوا.
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(93)
شرح الكلمات:
مبوأ صدق: أي أنزلناهم منزلاً صالحاً طيباً مرضياً.
من الطيبات: أي من أنواع الأرزاق الطيبة الحلال.

حتى جاءهم العلم : وهو معرفتهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو النبي المنتظر وأنه المنجي.
يقضي بينهم: يحكم بينهم.
فيما كانوا في يختلفون : وأي في الذي اختلفوا من الحق فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار.
معنى الآية الكريمة:
هذه خاتمة الحديث عن موسى وبني إسرائيل بعد أن نجاهم الله من عدوهم بإهلاكه في اليم قال تعالى: {ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق} أي أنزلناهم مبوأ صالحاً طيباً وهو بلاد فلسطين من أرض الشام المباركة1، وذلك بعد نجاتهم من التيه ودخولهم فلسطين بصحبة نبي الله يوشع بن نون عليه السلام، وقوله {ورزقناهم من الطيبات} إذ أرض الشام أرض العسل والسمن والحبوب والثمار واللحم والفحم وذكر هذا إظهار لنعم الله تعالى ليشكروها. وقوله: {فما اختلفوا حتى جاءهم العلم} يريد أن بني إسرائيل الذين أكرمهم ذلك الإكرام العظيم كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم متفقين على دين واحد منتظرين النبي المنتظر المبشر به في التوراة الذي سينقذ بني إسرائيل مما حل بهم من العذاب والاضطهاد على أيدي أعدائهم الروم، فلما جاءهم وهو العلم وهو القرآن والمنزل عليه محمد صلى الله عليه وسلم اختلفوا فمنهم من آمن به2، ومنهم من كفر. وقوله تعالى في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم: {إن ربك يقضي3 بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} من أمر الإيمان لك واتباعك واتباع ما جئت به من الهدى ودين الحق، فيدخل المؤمنين الجنة ويدخل الكفار النار.
هداية الآية الكريمة:
من هداية الآية الكريمة:
1- بيان إكرام الله تعالى لبني إسرائيل.
__________
1 وروي ان ابن عباس رضي الله عنهما قال: في المبوأ الصدق: هو بنو قريظة وبنو النضير، وأهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم بقرينة: {فما اختلفوا حتى جاءهم العلم} الذي هو القرآن يحمله محمد صلى الله عليه وسلم وقرينة ما في التفسير هي أنّ الحديث كان في إنجاء بني إسرائيل وإهلاك فرعون وهو يناسبه أن يكون المبوأ: أرض فلسطين والشام.
2 كعبد الله بن سلام وأمثاله.
3 يقضي: معناه يحكم، فيحكم لأهل الإيمان والاستقامة بدخول الجنة ويحكم لأهل الكفر والضلال النار.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج11. أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري

ج11. أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري سورة التغابن مكية إلا آخرها فمدني وآياتها ث...