Translate انتكوخ

الثلاثاء، 14 فبراير 2023

ج5وج6.أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري

ج5. أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير جابر بن

 موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري

2- الرزق الطيب هو ما كان حلالاً لا ما كان حراماً.
3- إذا أراد الله هلاك أمة اختلف بسبب العلم الذي هو في الأصل سبب الوحدة الوئام.
4- حرمة الاختلاف في الدين إذ كان يؤدي إلى1 الانقسام والتعادي والتحارب.
5- يوم القيامة هو يوم الفصل الذي يقضي الله تعالى فيه بين المختلفين بحكمه العادل.
فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ(94) وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ(95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ(96) وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ(97)
شرح الكلمات:
شك:. ما قابل التصديق فالشاك غير المصدق.
مما أنزلنا إلبك: أي في أن بني إسرائيل لم يختلفوا إلا من2 بعد ما جاءهم العلم.
الكتاب: أي التوراة والإنجيل.
فلا تكونن من الممترين: أي لا تكونن من الشاكين.
حقت عليهم : أي وجبت لهم النار بحكم الله بذلك في اللوح المحفوظ.
حتى يروا العذاب: أي يستمرون على تكذيبهم حتى يروا العذاب يؤمنوا حيث لا ينفع الإيمان3.
__________
1 مثال الاختلاف الذي لا يؤدي إلى الانقسام والتعادي والتحارب: الخلاف الفقهي بين الأئمة الأربعة، ومثال الخلاف المفضي إلى التعادي والتحارب الخلاف بين أهل السنة والفرق الضالة كالخوارج والروافض وأمثالهما.
2 هذا وجه من جملة أوجه فَسّرت بها الآية.
3 لا خلاف في أن الإيمان كالتوبة لا يقبلان عند معاينة الموت ففي سورة النساء قال تعالى : {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا جاء أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفّار} . وقال صلى الله عليه وسلم إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.

معنى الآيات:
يقرر تعالى نبوة رسوله {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل1 الذين يقرأون الكتاب من قبلك} أحبار اليهود ورهبان النصارى فإنهم يعرفون نعوتك وصفاتك في التوراة والإنجيل وإنك النبي الخاتم والمنقذ وأن من آمن بك نجا ومن كفر هلك وهذا من باب الفرض وليكون تهييجاً للغير ليؤمن وإلا فهو صلى الله عليه وسلم قد قال: {لا أشك ولا أسأل" وقوله {لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين}، يقسم تعالى لرسوله بأنه قد جاءه الحق من ربه وهو الحديث الثابت بالوحي الحق وينهاه أن يكون من الممترين أي الشاكين في صحة الإسلام، وأنه الدين الحق الذي يأبى الله إلا أن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وقوله {ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين} أي وينهاه أيضاً أن يكون من الذين كذبوا بوحي الله وشرعه ورسوله المعبر عنها بالآيات لأنها حاملة لها داعية إليها، فتكون من الخاسرين يوم القيامة. وهذا كله من باب ("إياك أعني واسمعي يا جاره") وإلا فمن غير الجائز أن يشك الرسول أو يكذب بما أنزل عليه من الآيات الحاملة من الشرائع والأحكام. وقوله تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية} هو كما أخبر عز وجل فالذين قضى2 الله بعذابهم يوم القيامة فكتب ذلك في كتاب المقادير عنده هؤلاء لا يؤمنون أبداً مهما بذل في سبيل إيمانهم من جهد في تبيين الحق وإقامة الأدلة وإظهار الحجج عليهم وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم من جراء ما يألم له ويحزن من إعراض كفار قريش وعدم استجابتهم وقوله {ولو جاءتهم كل آية} تأكيد للحكم السابق وهو أن الذي حكم الله بدخولهم النار لا يؤمنون ولا يموتون إلا كافرين لينجز الله ما وعد ويمضي ما قضى وحكم. وقوله: {حتى يروا العذاب الأليم} أي يستمرون على كفرهم بك وبما جئت به حتى يشاهدوا العذاب الأليم وحينئذ يؤمنون كما آمن فرعون عندما أدركه الغرق ولكن لم ينفعه إيمانه فكذلك هؤلاء المشركون من
__________
1 لا حاجة إلى طلب حلول بعيدة لحلّ ما في ظاهر الآية من إشكال، إذ لهذه الآية نطير وهو قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} معنى الآية: أنّ الله تعالى يوجه الخطاب إلى رسوله، وأحبّ الخلق إليه ليكون غيره من باب أولى ألف مرة ومرّة وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يشك ولا يسأل وكيف يشك ويسأل وهو يتلقى الوحي من ربّه؟ وقد قال وقت ما نزلت الآية: "لا أشك ولا أسأل" ، وتوجيهنا للآية في التفسير في غاية الوضوح، والحمد لله.
2 إن قيل: كيف يعذبهم لمجرد أن كتب ذلك عليهم؟ قلنا في الجواب إنه ما كتب شقوة نفس أو سعادة أخرى حتى علم ما ستفعله النفس باختيارها من كفر أو إيمان أو خير أو شر.

قومك الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم وعندئذ لا ينفعهم إيمانهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
2- سؤال من لا يعلم من يعلم.
3- التكذيب بآيات الله كفر وصاحبه من الخاسرين.
4- الشك والافتراء في أصول الدين وفروعه كفر.
5- تقرير عقيدة القضاء والقدر، وإن الشقي من شقي في كتاب المقادير1 والسعيد من سعد فيه.
6- عدم قبول توبة من عاين العذاب في الدنيا بأن رأى ملك الموت وفي الآخرة بعد أن يبعث ويشاهد أهوال القيامة.
فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ(98) وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ(99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ(100)
شرح الكلمات:
فلو لا : أداة تحضيض هنا بمعنى هلاّ وفيها معنى التوبيخ والنفي.
__________
1 طالع النهر، فقد أوردنا سؤالاً عن هذه المسألة وأجبنا عنه تحت رقم(3) بما يكفي ويغني بإذن الله تعالى.

قرية آمنت: أي أهل قرية آمنوا.
يونس: هو يونس بن مَتَّى نبي الله ورسوله1.
إلى حين : أي إلى وقت انقضاء آجالهم.
أفأنت تكره الناس : أي إنك لا تستطيع ذلك.
إلا بإذن الله.: أي بإرادته وقضائه.
الرجس : أي العذاب
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى في الآيات السابقة أن الخسران لازم لمن كذب بآيات الله، وأن الذين وجب لهم العذاب لإحاطة ذنوبهم بهم لا يؤمنون لفقدهم الاستعداد للإيمان ذكر هنا ما يحض به أهل مكة على الإيمان وعدم الإصرار على الكفر والتكذيب فقال: {فلولا2 كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها} أي فهلا أهل قرية آمنوا فانتفعوا بإيمانهم فنجوا من العذاب اللازم لمن لم يؤمن أي لِمَ لا يؤمنون وما المانع من إيمانهم وهذا توبيخ لهم.
وقوله {إلا قوم3 يونس4 لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا} فلم نهلكهم بعذاب استئصال وإبادة شاملة لأنهم لما رأوا أمارات العذاب بادروا إلى التوبة قبل نزوله بهم فكشف الله تعالى عنهم العذاب، ومتعهم بالحياة إلى حين انقضاء آجالهم فما لأهل أم القرى لا يتوبون كما تاب أهل نَيْنَوى من أرض الموصل وهم قوم يونس عليه السلام.
وقوله تعالى: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً} يحمل دلالتين الأولى أن عرض الله تعالى الإيمان على أهل مكة وحضهم عليه وتوبيخهم على تركه لا ينبغي
__________
1 احد أنبياء بني إسرائيل.
2 لو لا حرت الأصل فيها أنها للتحضيض، وهو طلب الفعل بحثّ، ولكن إذا دخلت على ماض لم تصبح للتحضيض قطعاً بل للتغليط والتنديم والتوبيخ، وهي هنا لتغليط أهل مكة وتوبيخهم وتنديمهم على إصرارهم على الكفر وعدم توبتهم كما تاب قوم يونس حتى ينجوا من العذاب كما نجوا.
3 كان هؤلاء القوم خليطاً من الأشوريين واليهود الذين كانوا في أسر ملوك بابل بعد بختنصر، وكانت بعثة يونس عليه السلام إليهم في بداية القرن الثامن قبل المسيح عليه السلام.
4 إن قوم يونس كانوا بقرية تسمّى نينوي من أرض الموصل وكانوا يعبدون الأصنام، أقام في قومه يدعوهم إلى التوحيد وترك الشرك تسع سنين فيئس من إيمانهم فتوعدهم بالعذاب وخرج من بين أظهرهم وتركهم فلمّا رأوا ذلك خافوا نزول العذاب بهم فجأروا إلى الله تعالى بالاستغفار والدعاء والضراعة يا حي حين لا حي يا حي محيي الموتى يا حي لا إله إلا أنت ارفع عنا العذاب وقد ظهرت أماراته، فكشف الله عنهم العذاب كما قال تعالى:{إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين}.

أن يفهم منه أن الله تعالى عاجز عن جعلهم يؤمنون بل لو شاء إيمانهم لآمنوا كما لو شاء إيمان أهل الأرض جميعاً لآمنوا والثانية تسلية الرسول والتخفيف عنه من ألم وحزن عدم إيمان قومه وهو يدعوهم بجد وحرص ليل نهار فأعلمه ربه أنه لو شاء إيمان كل من في الأرض لآمنوا، ولكنه التكليف المترتب عليه الجزاء فيعرض الإيمان على الناس عرضاً لا إجبار معه فمن آمن نجا، ومن لم يؤمن هلك وبدل على هذا قوله له {أفأنت تكره1 الناس حتى يكونوا مؤمنين} أي إن هذا ليس لك، ولا كلفت به، وقوله تعالى: {وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله} تقرير وتأكيد لما تضمنه الكلام السابق من أن الإيمان لا يتم لأحد إلا بإرادة الله وقضائه، وقوله تعالى: {ويجعل الرجس2 على الذين لا يعقلون} أي إلا أنه تعالى يدعو الناس إلى الإيمان مبيناً لهم ثمراته الطيبة ويحذرهم من التكذيب مبيناً لهم آثاره السيئة فمن آمن نجاه وأسعده ومن لم يؤمن جعل الرجس الذي هو العذاب عليه محيطاً به جزاء له لأنه لا يعقل إذ لو عقل لما كذب ربه وكفر به وعصاه وتمرد عليه وهو خالقه ومالك أمره.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- من مظاهر رحمة الله تعالى بعباده دعوته إياهم إلى الإيمان به وحضهم عليه.
2- قبول التوبة قبل معاينة العذاب، ورؤية العلامات لا تمنع من التربة.
3- إرادة الله الكونية التي يكون بها الأشياء لا تتخلف أبداً، وإرادته الشرعية التكليفية جائزة التخلف.
لا إيمان إلا بإذن الله وقضائه فلذا لا ينبغي للداعي أن يحزن على عدم إيمان الناس إذا دعاهم ولم يؤمنوا لأن الله تعالى كتب عذابهم أزلاً وقضى به.
__________
1 الاستفهام: إنكاري ينكر تعالى على رسوله شدّة حرصه على إيمان قومه، حتى لكأنه يريد إكراههم على الإيمان به وبما جاء به من التوحيد.
2 الرجس: بضم الراء وكسرها: العذاب.

قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ(101) فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ(102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ(103)
شرح الكلمات:
ماذا في السموات والأرض: أي من عجائب المخلوقات، وباهر الآيات.
وما تغني الآيات والنذر: أي ما تغني أيِّ إغناء إذا كان القوم لا يؤمنون.
فهل ينتظرون.: أي ما ينتظرون.
خلوا من قبلهم : أي مضوا من قبلهم من الأمم السابقة.
قل فانتظروا : أي العذاب.
ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا : أي من العذاب المنتظر.
كذلك: أي كذلك الإنجاء ننج المؤمنين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في دعوة قريش إلى الإيمان والتوحيد والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فقد أمر تعالى رسوله أن يقول لهم: {قل انظروا1 ماذا في السموات والأرض} من سائر المخلوقات وما فيها من عجائب الصنعة، ومظاهر الحكمة والرحمة والقدرة فإنها تدعو إلى الإيمان بالله رباً وإلهاً لا إله غيره ولا رب سواه، وتفند دعوى ألوهية الأصنام والأحجار.
ثم قال تعالى: {وما تغني الآيات والنذر} أي الرسل في هداية قوم قضى الله تعالى أزلاً
__________
1 الفاء للتفريغ فالكلام متفرّع على جملة ما تغني الآيات والنذر. والاستفهام إنكاري تهكمي، وفيه معنى النفي أيضاً، والنكات لا تتزاحم.

أنهم لا يؤمنون حتى ينتهوا إلى ما قدر لهم وما حكم به عليهم من عذاب الدنيا والآخرة ولكن لما كان علم ذلك إلى الله تعالى فعلى النذر أن تدعو وتبلغ جهدها والأمر لله من قبل ومن بعد. وقوله : {فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين1 خلوا من قبلهم} أي إنهم ما ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلفوا من قبلهم من قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم دعتهم رسلهم وبلغتهم دعوة ربهم إليهم إلى الإيمان والتوحيد والطاعة فاعرضوا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب.
ثم أمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم {فانتظروا2} أي ما كتب عليكم من العذاب إن لم تتوبوا إليه وتسلموا {إني معكم من المنتظرين} فإن كان العذاب فإن سنة الله فيه أن يهلك الظالمين المشركين المكذبين وينجي رسله والمؤمنين وهو معنى قوله تعالى3 في الآية الأخيرة (103) {ثم ننجى4 رسلنا والذين آمنوا، كذلك} أي الإنجاء {حقاً علينا5 ننج المؤمنين}.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا تنفع الموعظة مهما بولغ فيها عبداً كُتب أزلاً أنه من أهل النار.
2- ما ينتظر الظلمة في كل زمان ومكان إلا ما حل بمن ظلم من قبلهم من الخزي والعذاب.
3- وعد الله تعالى ثابت لأوليائه بإنجائهم من الهلاك عند إهلاكه الظلمة المشركين.
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ
__________
1 المراد من الأيام: العذاب الذي يقع فيها، ويقال فيها الوقائع وهو نحو قولهم: أيام العرب، فلان عالم بأيام العرب أي: ما جرى فيها من أحداث ومنه قوله تعالى: {وذكرهم بأيّام الله} أي: بالعذاب الذي وقع فيها.
2 الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنها واقعة موقع جواب سؤال تقديره: نحن أولاء منتظرون وأنت ماذا تفعل؟
3 {حقا علينا} جملة معترضة لأن المصدر يدل على الفعل، والتقدير أي: حق ذلك علينا حقا أي: أحققناه حقا علينا.
4 {ننجي} قرىء بالتخفيف، والتشديد، والمعنى واحد، وفي المصحف ننج بدون ياء لالتقاء الساكنين.
5 إن انتظار العذاب منذر بنزوله قريباً بديارهم والرسول معهم فمن هنا عطف جملة {ثم ننجي رسلنا} فأعلمهم بنجاة الرسل فكانت بشرى للرسول والمؤمنين.

أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(105) وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ(106) وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(107)
شرح الكلمات:
من دينى : أي الإسلام في أنه حق.
يتوفاكم: أي يقبض أرواحكم فيميتكم.
وأن أقم وجهك للدين حنيفاً : أي أمرني ربى أن أقم وجهي للدين الإسلامي حنيفاً أي مائلاً عن كل الأدبان إليه دون غبره.
مالا ينفعك ولا يضرك : أي آلهة لا تنفع ولا تضر وهي أصنام المشركين وأوثانهم.
إنك إذاً من الظالمين: أي انك إذا دعوتها من المشركين الظالمين لأنفسهم.
فلا كاشف له إلا هو: أي لا مزيل للضُّر ومبعده عمن أصابه إلا هو عز وجل.
يصيب به: أي بالفضل والرحمة.
وهو الغفور الرحيم: أي لذنوب عباده التائبين الرحيم بعباده المؤمنين.
معنى الآيات :
بعد أن بين تعالى طريق الهدى وطريق الضلال وأنذر وحذر وواعد وأوعد في الآيات السابقة بما لا مزيد عليه أمر رسوله هنا أن يواجه المشركين من أهل مكة وغيرهم بالتقرير التالي فقال: {قل يا أيها الناس} أي مشركي مكة والعرب من حولهم {إن كنتم في شك} وريب1 في صحة ديني الإسلام الذي أنا عليه وأدعو إليه، {فلا أعبد الذين تعبدون من
__________
1 أي: إن كنتم في شك من صحة ديني فأنا غير شاكٍ في صحته وبطلان دينكم فلذا لا أعبد الذين تعبدون. من دون الله.

دون الله} فمجرد شككم في صحة ديني لا يجعلني أعبد أوثاناً وأصناماً لا تنفع ولا تضر، {ولكن أعبد الله} الذي ينفع ويضر، يحيى ويميت، الله الذي يتوفاكم أي يميتكم بقبض أرواحكم فهو الذي يجب أن يعبد ويخاف ويرهب {وأمرت أن أكون من المؤمنين} أي أمرني ربي أن أومن به فأكون من المؤمنين فآمنت وأنا من المؤمنين. وقوله تعالى: {وأن أقم وجهك للدين حنيفاً ولا تكونن من المشركين} أي وأوحى إليّ ربي آمراً إياي بأن أقيم وجهي لدينه1 الحق فلا ألتفت إلى غيره من الأديان الباطلة، ونهاني مشدداً عليّ أن أكون من المشركين الذين يعبدون معه آلهة أخرى بعد هذا الإعلان العظيم والمفاصلة الكاملة والتعريض الواضح بما عليه أهل مكة من الضلال والخطأ الفاحش، واجه الله تعالى رسوله بالخطاب وهو من باب "إياك أعنى واسمعي يا جاره" فنهاه بصريح القول أن يدعو من دون الله ما لا ينفعه ولا يضره وهو كل المعبودات ما سوى الله عز وجل فقال: {ولا تدع من دون ما لا ينفعك} أي لا يجلب لك نفعاً ولا يدفع عنك ضراً، ولا يضرك بمنع خير عنك، ولا بإنزال شربك فإن فعلت بأن دعوت غير الله فإنك إذاً من الظالمين، ولما كان دعاء النبي غير الله ممتنعاً فالكلام إذاً تعريض بالمشركين وتحذير للمؤمنين، وقوله تعالى: في خطاب رسوله: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له}2 عنك {إلا هو} عز وجل، {وإن يردك بخير} من الخيور عافية وصحة رخاء ونصر {فلا راد لفضله} أي ليس هناك من يرده عنك بحال من الأحوال، وقوله: {يصيب}3 أي بالفضل والخير والنعمة { من يشاء من عباده} إذ هو الفاعل المختار، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وقوله : {وهو الغفور الرحيم} بيان لصفات الجلال والكمال فيه فإنه تعالى يغفر ذنوب التائبين إليه مهما بلغت في العظم، ويرحم عباده المؤمنين مهما كثروا في العدد، وبهذا استوجب العبادة بالمحبة والتعظيم والطاعة والتسليم.
هداية الآيات
من هداية الآيات
1- على المؤمن أن لا يترك الحق مهما شك وشكك فيه الناس.
__________
1 الأمر بإقامة الوجه لله كناية عن توجه النفس والإقبال بها على الله تعالى فلا تلتفت راغبة ولا راهبة إلى غير الله تعالى، وهذا كإسلام الوجه لله تعالى في آية :{ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن} ولازمه ترك كل دين إلى دين الله عزّ وجل.
2 تنكير ضرّ، كتنكير خير يُراد به النوعية الصالحة للقلة والكثرة.
3 يقال: أصابه بكذا: إذا أورده عليه ومسّه به.

2- تحريم الشرك ووجوب تركه وترك أهله..
3- دعاء غير الله مهما كان المدعو شرك محرم فلا يحل أبداً، وإن سموه توسلاً.
4- لا يؤمن عبد حتى يوقن أن ما أراده الله له من خير أو شر لا يستطيع أحد دفعه ولا تحويله بحال من الأحوال، وهو معنى حديث1: "ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك".
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ(108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ(109)
شرح الكلمات:
يا أيها الناس : أي يا أهل مكة.
قد جاء الحق: أي الرسول يتلو القرآن ويبين الدين الحق.
من اهتدى: أي آمن بالله ورسوله وعبد الله تعالى موحداً له.
ومن ضل : أي أبى إلا الإصرار على الشرك والتكذيب والعصيان.
فعليها: أي وبال الضلال على نفس الضال كما أن ثواب الهداية لنفس المهتدي.
وما أنا عليكم بوكيل : أي بمجبر لكم على الهداية وإنما أنا مبلغ ونذير.
واصبر حتى يحكم الله: أي في المشركين بأمره.
خير الحاكمين: أي رحمة وعدلاً وإنفاذاً لما يحكم به لعظيم قدرته.
معنى الآيتين:
هذا الإعلان الأخير في هذه السورة يأمر الله تعالى رسوله أن ينادى المشركين بقوله:
__________
1 هذا الكلام مستأنف يحمل إعلاناً عظيماً لأهل مكة أوّلاً، وللناس كافّة ثانياً مفاده: مجيئهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالحق من ربهم وهو الدين الإسلامي فمن دخل فيه اهتدى إلى طريق سعادته ومن أعرض عنه ضل طريق نجاته وسعادته.

{يا أيها الناس} وهو نداء عام يشمل البشرية كلها وإن أريد به ابتداء أهل مكة {قد جاءكم الحق من ربكم} وهو القرآن يتلوه رسول الله وفيه بيان الدين الحق الذي لا كمال للإنسان له إلا بالإيمان به والأخذ الصادق بما تضمنه من هدى. وبعد فمن اهتدى بالإيمان والاتباع فإنما ثواب هدايته لنفسه إذ هي التي تزكو وتَطْهُر وتتأهل لسعادة الدارين، ومن ضل بالإصرار على الشرك والكفر والتكذيب فإنما ضلاله أي جزاء ضلاله عائد على نفسه إذ هي التي تَتَدَسَّى وتخبُث وتتأهل لمقت الله وغضبه وأليم عقابه. وما على الرسول المبلغ من ذلك شيء، إذ لم يوكل إليه ربه هداية الناس بل أمره أن يصرح لهم بأنه ليس عليهم بوكيل {وما أنا عليكم بوكيل}1 وقوله تعالى: {واتبع ما يوحى إليك}2 أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالتزام الحق باتباع ما يوحى إليه من الأوامر والنواهي وعدم التفريط في شيء من ذلك، ولازم هذا وهو عدم اتباع ما لا يوحى إليه به ربه وقوله: {واصبر حتى يحكم الله3 وهو خير الحاكمين} أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على اتباع الوحي والثبات على الدعوة وتحمل الأذى من المشركين إلى غاية أن يحكم الله فيهم وقد حكم فأمره بقتالهم فقتلهم في بدر وواصل قتالهم حتى دانوا لله بالإسلام ولله الحمد والمنَّة، وقوله {وهو خير الحاكمين} 4 ثناء على الله تعالى بأنه خير من يحكم وأعدل من يقضي لكمال علمه وحكمته، وعظيم قدرته، وواسع رحمته.
هداية الآيات
من هداية الآيات
1- تقرير أن القرآن والرسول حق والإسلام حق.
__________
1 هذه الجملة داخلة ضمن الإعلان، وهي أن يعلم أهل مكة والناس من حولهم أن الرسول المبلّغ الإسلام لهم غير موكل بهدايتهم وأنّ أمر ذلك متروك لهم، فمن شاء اهتدى، ومن شاء ضلّ، وما عليه إلا البلاغ. وقد بلّغ.
2 هذا إرشاد للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يلزم المنهج الذي وضعه له بطريق الوحي ولا يخرج عنه بحال فإِنه سبيل نجاته ونجاة المؤمنين معه.
3 هذا إرشاد آخر له صلى الله عليه وسلم بالصبر على إبلاغ أهل مكة ومن حولهم دعوة الله حتى يحكم الله بينه وبينهم بنصر رسوله والمؤمنين، وخذلان الكفر والكافرين.
4 خير هنا بمعنى أخير اسم تفضيل، وإنما عدل عن أخير إلى خير لكثيرة الاستعمال كاسم شرّ أيضاً ، وقد يأتي لفظ شر وخير لغير تفضيل.

2- تقرير مبدأ أن المرء يشفى ويسعد بكسبه لا بسكب غيره. 1
3- وجوب اتباع الوحي الإلهي الذي تضمنه القرآن والسنة الصحيحة.
4- فضيلة الصبر وانتظار الفرج من الله تعالى.

سورة هود
...
سورة هود
مكية 2
وآياتها مائة وثلاث وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1) أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ(2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ(3) إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(4) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(5)
شرح الكلمات
آلر: هذا أحد الحروف المقطعة: يكتب آلر ويقرأ ألف، لام، را.
__________
1 شواهد هذه الحقيقة في المراد كثيرة منها: {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها} ومنها: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} ومنها: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}.
2 واستثنى منها بعضهم آية: {وأقم الصلاة طرفي النهار.. } الآية فإنها مدنية وروي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شيبتني هود وأخواتها" ويذكر القرطبي فيقول: قال أبو عبد الله: فالفزع يورث الشيب، وذلك أن الفزع يذهل النفر فينشف رطوبة الجسد، وتحت كل شعرة منبع ومنه يعرق فإذا نشف الفزع رطوبته يبست المنابع فيبس الشعر فابيضّ، كما ترى الزرع الأخضر بسقائه فإذا ذهب سقاؤه يبس فابيضّ، وإنما يبيضّ شعر الشيخ لذهاب رطوبته ويبس جلده.

أحكمت: أي نظمت نظماً متقناً ورصفت ترصيفاً لا خلل فيه.
فصلت: أي ببيان الأحكام، والقصص والمواعظ، وأنواع الهدايات.
من لدن : أي من عند حكيم خبير وهو الله جل جلاله.
متاعاً حسناً : أي بطيب العيش وسعة الرزق.
إلى أجل مسمى.: أي موت الإنسان لأجله الذي كتب له.
ويؤت كل ذي فضل : أي ويعط كل ذي عمل صالح فاضل جزاءه الفاضل.
عذاب يوم كبير: هو عذاب يوم القيامة.
يثنون صدورهم: أي يطأطئون رؤوسهم فوق صدورهم ليستتروا عن الله في زعمهم.
يستغشون ثيابهم: يغطون رؤوسهم ووجوههم حتى لا يراهم الله في نظرهم الباطل.
معنى الآيات:
قوله تعالى {آلر} هذا الحرف مما هو متشابه ويحسن تفويض معناه إلى الله فيقال: الله أعلم بمراده بذلك. وإن أفاد فائدتين الأولى: أن القرآن الكريم الذي تحداهم الله بالإتيان بمثله أو بسورة من مثله قد تألف من مثل هذه الحروف: آلم، آلر، طه، طس حم، ق، ن، فألفوا مثله فإن عجزتم فاعلموا أنه كتاب الله ووحيه وأن محمداً عبده ورسوله فآمنوا به، والثانية أنهم لما كانوا لا يريدون سماع القرآن بل أمروا باللغو عند قراءته، 1 ومنعوا الاستعلان به جاءت هذه الحروف على خلاف ما ألفوه في لغتهم واعتادوه في لهجاتهم العربية فاضطرتهم إلى سماعه فإذا سمعوا تأثروا به وآمنوا ولنعم الفائدة أفادتها هذه الحروف المقطعة.
وقوله تعالى {كتاب2 أحكمت آياته} أي المؤلف من هذه الحروف كتاب عظيم أحكمت آياته أي رصفت ترصيفاً ونظمت تنظيماً متقناً لا خلل فيها ولا في تركيبها ولا معانيها، وقوله: {ثم فصلت} أي بين ما تحمله من أحكام وشرائع، ومواعظ وعقائد
__________
1 شاهده في قوله تعالى من سورة (فصلت ):{وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون}.
2 التنكير في {كتاب} للتفخيم والتعظيم، والأحكام أصله: إتقان الصنعة مشتق من الحكمة التي هي وضع الشيء في موضعه ء فإحكام الآيات: سلامتها من الأخلال: التي تعرض لنوعها كمخالفة الواقع، والخلل في اللّفظ أو في المعنى.

وآداب وأخلاق بما لا نظير له في أي كتاب سبق، وقوله : {من لدن حكيم خبير} أي تولى تفصيلها حكيم خبير، حكيم في تدبيره وتصرفه، حكيم في شرعه وتربيته وحكمه وقضائه، خبير بأحوال عباده وشؤون خلقه، فلا يكون كتابه ولا أحكامه ولا تفصيله إلا المثل الأعلى في كل ذلك.
وقوله: {ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير} أي أنزل الكتاب وأحكم آيَةُ وفصَّل أحكامه وأنواع هدايته بأن1 لا تعبدوا إلا الله إذ لا معبود حق إلا هو ولا عبادة تنفع إلا عبادته. وقوله {إنني لكم منه نذير وبشير} هذا قول رسوله المبلغ عنه يقول أيها الناس إني لكم منه أي من ربكم الحكيم العليم نذير بين يدي عذاب شديد إن لم تتوبوا فتؤمنوا وتوحدوا. وبشير أي أبشر من آمن ووحد وعمل صالحاً بالجنة في الآخرة {وأن استغفروا2 ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى} أي وبأن تستغفروا ربكم باعترافكم بخطأكم بعبادة غيره، ثم تتوبوا إليه أي ترجعوا إليه بالإيمان به وبرسوله ووعده ووعيده وطاعته في أمره ونهيه، ولكم جزاء على ذلك وهو أن يمتعكم في هذه الحياة متاعاً حسناً بالنعم الوفيرة والخيرات الكثيرة إلى نهاية آجالكم المسماة لكل واحد منكم. وقوله {ويؤت كل ذي فضل فضله}3 أي ويعط سبحانه وتعالى كل صاحب فضل في الدنيا من بر وصدقة وإحسان فضله تعالى يوم القيامة في دار الكرامة الجنة دار الأبرار. وقوله: {وإن تولوا} أي تعرضوا عن هذه الدعوة فتبقوا على شرككم وكفركم {فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير} وهو عذاب يوم القيامة. وقوله تعالى: {إلى الله مرجعكم} يخبرهم تعالى بعد أن أنذرهم عذاب يوم القيامة بأن مرجعهم إليه تعالى لا محالة فسوف يحييهم بعد موتهم ويجمعهم عنده ويجزيهم بعدله ورحمته {وهو على كل شيء قدير} ومن ذلك إحياؤهم بعد موتهم ومجازاتهم السيئة بمثلها والحسنة بعشر أمثالها وهذا هو العدل والرحمة اللذان لا نظير لهما.
__________
1 فالباء سببية، وأن: تفسيرية، إذ لو سأل سائل فقال: لم أحكمت الآيات ثم فُصلت؟ لكان الجواب: بأن لا يعبد إلا الله وأن يُستغفر وان يتاب إليه تعالى.
2 إن قيل: لم قدّم الاستغفار عن التوبة؟ فالجواب: بأن العبد لا يستغفر إلاّ إذا علم أنه أذنب، ولا يتوب العبد حتى يعلم أنه مذنب وعندها يتوب فهذا سرّ تقديم الاستغفار عن التوبة.
3 هذا كقوله تعالى : {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله} فالفضل الأوّل من العبد، وهو العمل الصالح، والفضل الثاني من الرّب وهو دخول الجنة.

وقوله تعالى: {ألا إنهم يثنون1 صدورهم ليستخفوا منه} هذا النوع من السلوك الشائن الغبي كان بعضهم يثني صدره أي يطأطىء رأسه ويميله على صدره حتى لا يراه الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يفعل ذلك ظناً منه أنه يخفي نفسه عن الله تعالى وهذا نهاية الجهل، وبعضهم يفعل ذلك بغضاً للرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يراه فرد تعالى هذا بقوله: {ألا حين يستغشون ثيابهم} أي يتغطون بها {يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور} فلا معنى لاستغشاء الثياب استتاراً بها عن الله تعالى فإن الله يعلم سرهم وجهرهم ويعلم ما تخفي صدورهم وإن كانوا يفعلون ذلك بغضاً2 للنبي صلى الله عليه وسلم، فبئس ما صنعوا وسيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم.
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
1- مظهر من مظاهر إعجاز القرآن وهو أنه مؤلف من الحروف المقطعة ولم تستطع العرب الإتيان بسورة مثله.
2- بيان العلة في إنزال الكتاب وأحكام آية وتفصيلها وهي أن يعبد الله تعالى وحده وأن تستغفره المشركون ثم يتوبون إليه ليكملوا ويسعدوا في الدنيا والآخرة.
3- وجوب التخلي عن الشرك أولا، ثم العبادة الخالصة ثانياً.
4- المعروف لا يضيع عند الله تعالى إذا كان صاحبه من أهل التوحيد {ويؤت3 كل ذي فضل فضله} .
5- بيان جهل المشركين الذين كانوا يستترون عن الله برؤوسهم وثيابهم4.
6- مرجع الناس إلى ربهم شاءوا أم أبوا والجزاء عادل ولا يهلك على الله إلا هالك.
__________
1 روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة ويظهرون خلافه، ونزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلاً حلو الكلام حلو المنطق يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب وينطوي له بقلبه على ما يسوء، وقيل نزلت في بعض المنافقين كان أحدهم إذا مرّ به الرسول صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطّى وجهه كي لا يراه الرسول صلى الله عليه وسلم فيدعوه إلى الإيمان.
2 لا مانع من توجيه الآية إلى هذا إذ مازال الناس إلى اليوم، إذا كرهوا الداعية إلى الله تعالى لا يحبون أن يروه أو يسمعوا صوته وقد يثنون صدورهم ويغطون وجوههم حتى لا يروه بغضاً له وكرهاً. والله عليم خبير.
3 الثني : الطيّ، طوى الثوب إذ ثناء، وهو مأخوذ من جعل الواحد اثنين.
4 أي: يطأطئون رؤوسهم على صدورهم ويتغطون بثيابهم إذ روي أن المشرك كان يدخل بيته ويرخي الستر عليه، ويستغشي ثوبه ويحنى ظهره ويقول: هل يعلم الله ما في قلبي؟ وذلك لجهلهم بعظمة الله تعالى وقدرته وعلمه.

الجزء الثاني عشر
وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ(6) وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ(7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ(8)
شرح الكلمات:
من دابّة : أي حيّ يدبّ على الأرض أي يمشي من إنسان وحيوان.
مستقرها : أي مكان استمرارها من الأرض.
ومستودعها : أي مكان استيداعها قبل استقرارها كأصلاب الرجال وأرحام النساء.
في كتاب مبين : أي اللوح المحفوظ.
في ستة أيام: أي الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة.
وكان عرشه على الماء: إذ لم يكن قد خلق شيئاً من المخلوقات سواه، والماء على الهواء.
ليبلوكم: أي ليختبركم ليرى أيكم أحسن عملاً.
إلى أمة معدودة: أي إلى طائفة من الزمن معدودة.
وحاق بهم: أي نزل وأحاط بهم.

معنى الآيات:
لما أخبر تعالى في الآية السابقة انه عليم بذات الصدور ذكر في هذه مظاهر علمه وقدرته تقريراً لما تضمنته الآية السابقة فقال عز وجل {وما من دابّة في الأرض}1 من إنسان يمشي على الأرض أو حيوان يمشي عليها زاحفاً أو يمشي على رجلين أو أكثر أو يطير في السماء إلا وقد تكفّل الله برزقها أي بخلقه وإيجاده لها وبتعليمها كيف تطلبه وتحصل عليه، وهو تعالى يعلم كذلك مستقرها أي مكان استقرار تلك الدابة في الأرض، كما يعلم أيضاً مستودعها بعد موتها إلى أن تبعث بيوم القيامة.
وقوله تعالى {كل في كتاب مبين} أي من الدابة ورزقها ومستقرها ومستودعها قد دوّن قبل خلقه في كتاب المقادير اللوح المحفوظ، وقوله تعالى في الآية (7) {وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء} أي أوجد السموات السبع والأرض وما فيها في ظرف ستة أيام وجائز أن تكون كأيام الدنيا، وجائز أن تكون كالأيام التي عنده وهي ألف سنة لقوله في سورة الحج {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} وقوله {وكان عرشه على الماء} 2 أي خلق العرش قبل خلق السموات والأرض، والعرش: سرير المُلك ومنه يتم تدبير كل شيء في هذه الحياة، وقوله {على الماء} إذ لم يكن أرض ولا سماء فلم يكن إلا الماء كالهواء. وقوله تعالى {ليبلوكم أيكم أحسن3 عملاً} أي خلقكم وخلق كل شيء لأجلكم، ليختبركم أيكم أطوع له وأحسن عملا أي بإخلاصة لله تعالى وحده وبفعله على نحو ما شرعه الله وبيّنه رسوله.
هذه مظاهر علمه تعالى وقدرته وبها استوجب العبادة وحده دون سواه وبها عُلم أنه لا يخفى عليه من أمر عباده شيء فكيف يحاول الجهلة إخفاء ما في صدورهم وما تقوم به جوارحهم بثني صدورهم واستغشاء ثيابهم ألا ساء ما يعملون.
وقوله تعالى {ولئن قلت}- أي أيها الرسول للمشركين- إنكم مبعوثون من بعد الموت،
__________
1 {وما من دابّة}: ما: نافية، ومن: مزيدة لتقوية النفي ليكون أكثر شمولاً، والتقدير: وما دابة في الأرض إلاّ على الله رزقها أي: تكفّل الله برزقها فضلا منه ومنّة.
2 روى البخاري في حديث منه: قوله صلى الله عليه وسلم: "كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء".
3 قال مقاتل: أيكم اتقى لله، وقال ابن عباس رضي الله عنه أيكم أعمل بطاعة الله عزّ وجلّ، وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا {أيكم أحسن عملا} قال: أيّكم أحسن عقلا وأروع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله، ولو صحّ هذا الخبر لكان أتمّ وأجمع، وقال الفضيل: أحسن العمل: أخلصه وأصوبه. وهو كما قال.

أي مخلوقون خلقاً جديداً ومبعوثون من قبوركم لمحاسبتكم ومجازاتكم بحسب أعمالكم في هذه الحياة الدنيا {ليقولن الذين كفروا} أي عند سماع أخبار الحياة الثانية وما فيها من نعيم مقيم، وعذاب مهين {إن هذا إلا سحر مبين} أي ما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم من هذا الكلام ما هو إلا سحر مبين يريد به صرف الناس عن ملذاتهم، وجمعهم حوله ليترأس عليهم ويخدموه، وهو كلام باطل وظن كاذب وهذا شأن الكافر، وقوله تعالى في الآية (8) {ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة}1 أي ولئن أخرنا أي أرجأنا ما توعدناهم به من عذاب ألى أوقات زمانية معدودة الساعات والأيام والشهور والأعوام {ليقولن ما يحبسه} أي شيء حبس العذاب يقولون هذا إنكاراً منهم واستخفافاً قال تعالى {ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم} أي ليس هناك من يصرفه ويدفعه عنهم بحال من الأحوال، {وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} أي ونزل بهم العذاب الذي كانوا به يستهزئون بقولهم: ما يحبسه!!؟
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- سعة علم الله تعالى وتكفله بأرزاق2 مخلوقاته من إنسان وحيوان.
2- بيان خلق الأكوان، وعلة الخلق.
3- تقرير مبدأ البعث الآخر بعد تقرير الألوهية لله تعالى.
4- لا ينبغي الاغترار بإمهال الله تعالى لأهل معصيته، فإنه قد يأخذهم فجأة وهم لا يشعرون.
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ(9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء
__________
1 (إلى أمّة): أي: إلى أجل معدود وحين معلوم، فالأمّة هنا: المدّة، ولفظ الأمة يطلق على معانٍ منها: الجماعة، وسميت مجموعة السنين أمّة لاجتماعها. والأمّة: أتباع أحد الأنبياء والأمّة، الملّة والدين، والأمّة: الرجل الجامع للخير الذي يقتدى به.
2 قيل لحاتم الأصمّ: من أين تأكل؟ فقال من عند الله، فقيل له: الله ينزل لك دنانير ودراهم من السماء؟ فقال: كأنّ ماله إلاّ السماء! يا هذا: الأرض له والسماء له، فإن لم يؤتني رزقي من السماء ساقه لي من الأرض، وأنشد يقول:
وكيف أخاف الفقر والله رازقي ... ورازق هذا الخلق في العسر واليسر
تكفل بالأرزاق للخلق كلهم ...
وللضب في البيداء وللحوت في البحر

مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ(10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ(11)
شرح الكلمات:
أذقنا الإنسان: أي أنلناه رحمة أي غنى وصحة.
ثم نزعناها منه : أي سلبناها منه.
يؤوس كفور: أي كثير اليأس أي القنوط شديد الكفر.
نعماء بعد ضراء : أي خيراً بعد شر.
السيئات: جمع سيئة وهي ما يسوء من المصائب.
فرح فخور : كثير الفرح والسرور والبطر.
صبروا : أي على الضراء والمكاره.
مغفرة : أي لذنوبهم.
وأجر كبير: أي الجنة دار الأبرار.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أن الإنسان1 الذي لم يستنر بنور الإيمان ولم يتحل بصالح الأعمال إن أذاقه الله تعالى رحمة منه برخاء وسعة عيش وصحة بدن، ثم نزعها منه لأمر أراده الله تعالى {إنه} أي ذلك الإنسان {ليؤوس}2 أي كثير اليأس والقنوط {كفور} لربه الذي أنعم عليه جحود لما كان قد أنعم به عليه.
وقوله {ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء} أي أذقناه طعم نعمة ولذاذة رخاء وسعة عيش وصحة بدن بعد ضراء كانت قد أصابته من فقر ومرض {ليقولن} بدل أن يحمد الله ويشكره على إسعاده بعد شقاء وإغنائه بعد فقر وصحة بعد مرض يقول متبجحاً {ذهب السيئات عني
__________
1 الإنسان هنا: اسم جنس يشمل كل إنسان كافر، وإن قيل: إن الآية في كافر معيّن، وهو الوليد بن المغيرة، أو عبدالله بن أبي أميّة، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
2 هو من باب: فحل بفعل يئس ييأس بأساً فهو آيس، وللمبالغة: يؤوس أي: كثير اليأس الذي هو: القنوط بانقطاع الرجاء، وجمله: {إنه ليؤوس كفور}: جواب القسم في قوله: {ولئن أذقنا الإنسان} الخ.

إنه لفرح} أي كثير السرور {فخور} كثير الفخر والمباهاة، وهذا علته ظلمة النفس بسبب الكفر والمعاصي، أما الإنسان المؤمن المطيع لله ورسوله فعلى العكس من ذلك إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر، وذلك لما في قلبه من نور الإيمان وفي نفسه من زكاة الأعمال.
هذا ما تضمنه قوله تعالى {إلا الذين1 صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة}2 أي لذنوبهم {وأجر كبير} عند ربهم وهو الجنة دار السلام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- أن الإنسان قبل أن يطهر بالإيمان والعمل الصالح يكون في غاية الضعف والانحطاط النفسي.
2- ذم اليأس والقنوط3 وحرمتهما.
3- ذم الفرح بالدنيا والفخر بها.
4- بيان كمال المؤمن الروحي المتمثل في الصبر والشكر وبيان جزائه بالمغفرة والجنة.
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(13) فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ(14)
__________
1 يعني المؤمنين مدحهم بالصبر على الشدائد وهو استثناء من لفظ الإنسان الذي هو بمعنى الناس، فالاستثناء متصل وليس بمنقطع.
2 {أولئك لهم مغفرة} مبتدأ وخبر، {وأجر كبير } أجر: معطوف، وكبير: نعت.
3 لقول الله تعالى : {إنه لا ييأس من روح الله إلاّ القوم الكافرون}.

شرح الكلمات:
فلعلك : للاستفهام الإنكاري أي لا يقع منك ترك ولا يضق صدرك.
ضائق به صدرك : أي بتلاوته عليهم كراهية أن يقولوا كذا وكذا.
كنز : مال كثير تنفق منه على نفسك وعلى أتباعك.
وكيل: أي رقيب حفيظ.
افتراه: اختلقه وكذبه.
من استطعتم: من قدرتم على دعائهم لإعانتكم.
فهل أنتم مسلمون: أي أسلموا لله بمعنى انقادوا لأمره وأذعنوا له.
معني الآيات:
بعد أن كثرت مطالبة المشركين الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يحول لهم جبال مكة ذهباً في اقتراحات منها لولا أنزل عليه ملك فيكون معه نذيراً أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {فلعلك نارك بعض ما يوحى إليك}1 أي لا تتلوه على المشركين ولا تبلغهم إياه لتهاونهم به وإعراضهم عنه {وضائق به صدرك} أي بالقرآن، كراهة أن تواجههم به فيقولوا {لولا أنزل عليه كنز}2 أي مال كثير يعيش عليه فيدل ذلك على إرسال الله له {أو جاء معه ملك} يدعو بدعوته ويصدقه فيها ويشهد له بها فلا ينبغي أن يكون ذلك منك أي فبلغ ولا يضق صدرك {إنما أنت3 نذير} أي محذر عواقب الشرك والكفر والمعاصي، والله الوكيل على كل شيء أي الرقيب الحفيظ أما أنت فليس عليك من ذلك شيء.
وقوله تعالى {أم يقولون افتراه} أي بك يقولون افتراه أي افترى القرآن وقاله من نفسه بدون ما أوحي إليه، قل في الرد عليهم {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم}4 دعوتهم لإعانتكم {إن كنتم صادقين} في دعواكم أني افتريته، فإن لم تستطيعوا ولن
__________
1 {فلعلك..} الخ كلام معناه: الاستفهام أي: هل أنت تارك ما فيه سبّ آلهتهم كما سألوك؟ إذ ورد أنهم قالوا له: لو أتيتنا بكتاب ليس فيه سبّ آلهتنا لاتبعناك.
2 أي: هلا فهي للتحضيض وليست للامتناع.
3 القصر هنا إضافي إذ معناه أنه مقصور على الإنذار وليس عليه هداية القلوب.
4 أي: كالكهنة والأعوان والأصنام إذ يعتقدون أنها تنصرهم وتدفع عنهم وإلا لما عدوها مع الله تعالى.

تستطيعوا فتوبوا إلى ربكم وأسلموا له.
وقوله {فإن لم يستجيبوا لكم}1 أي قل لهم يا رسولنا فإن لم يستجب لنصرتكم من دعوتموه وعجزتم {فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} 2 أي أنزل القرآن متلبساً بعلم الله وذلك أقوى برهان على أنه وحيه وتنزيله {وأن لا إله إلا هو}3 أي وأنه لا إله إلا الله ولا معبود بحق سواه، وأخيراً {فهل أنتم مسلمون} أي أسلموا بعد قيام الحجة عليكم بعجزكم، وذلك خير لكم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان ولاية الله لرسوله وتسديده له وتأييده.
2- بيان ما كان عليه المشركون من عناد في الحق ومكابرة.
3- بيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم لَمْ يُكَلَّفْ هداية الناس وإنما كلف إنذارهم عاقبة كفرهم وعصيانهم، وعلى الله تعالى بعد ذلك مجازاتهم.
4- تحدي الله تعالى منكري النبوة والتوحيد بالإتيان بعشر سور من مثل القرآن فعجزوا وقامت عليهم الحجة وثبت أن القرآن كلام الله ووحيه وأن محمداً عبده ورسوله وأن الله لا إله إلا هو.
مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ(15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(16) أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ4
__________
1 الاستجابة هنا: بمعنى الإجابة والسين والتاء فيه للتأكيد.
2 العلم : الاعتقاد اليقيني، أي : فأيقنوا أنّ القرآن ما أنزل إلاَّ بعلم الله أي : ملابساً له.
3 معطوف على جملة : {فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} أي : واعلموا أيضاً موقنين أنه لا إله إلا الله. حيث قامت الحجة عليهم بعجز آلهتهم عن الإتيان بعشر سور من مثل القرآن.
4 روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار".

مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ(17)
شرح الكلمات:
زينة الحياة الدنيا: المال والولد وأنواع اللباس والطعام والشراب.
توفّ إليهم : نعطهم نتاج أعمالهم وافياً.
لا يبخسون : أي لا ينقصون ثمرة أعمالهم.
وحبط: أي بطل وفسد.
على بينة من ربه.: أي على علم يقيني.
ويتلوه شاهد منه : أي يتبعه.
كتاب موسى : أي التوراة.
ومن يكفر به : أي بالقرآن.
فالنار موعده : أي مكان وعد به فهو لا محالة نازل به.
في مرية منه : أي في شك منه.
معنى الآيات:
لما أقام الله تعالى الحجة على المكذبين بعجزهم عن الإتيان بعشر سور من مثل القرآن مفتريات حيث ادعوا أن القرآن مفترى وأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد افتراه ولم يبق إلا أن يختار المرء أحد الطريقين طريق الدنيا أو الآخرة الجنة أو النار فقال تعالى {من كان يريد الحياة1 الدنيا وزينتها} من مال وولد وجاه وسلطان وفاخر اللباس والرياش . {نوف2 إليهم أعمالهم فيها} 3 نعطهم نتاج عملهم فيها وافياً غير منقوص فعلى قدر جهدهم وكسبهم فيها يعطون ولا يبخسهم عملهم لكفرهم وتركهم، ثم هم بعد ذلك إن لم يتوبوا
__________
1 أي: ممن رفضوا الإسلام وأبوه بعد قيام الحجة على بطلان ما هم عليه من الكفر ورضوا بالكفر بإرادة الحياة الدنيا.
2 التوفية: إعطاء الشيء وافياً، وعُدي نوف: بإلى لأنه مضمن معنى: نوصل.
3 لفظ {أعمالهم} يشمل الأعمال الخيرية والأعمال الدنيوية فالأعمال الخيرية كصلة الرحم، وقرى الضيف، والإحسان إلى الفقراء والمساكين، فهذه لا يحرمها الكافر بل يجد جزاءها في الدنيا: بركة في ماله وولده وحياته، وأمّا الأعمال الدنيوية كالصناعة والزراعة والتجارة فهذه يوفى قدر جهده فيها، فبقدر ما يبذل من طاقة يحصل له من الكسب والربح والإنتاج فكفره لا يمنعه نتاج عمله بقدر ما يبذل فيه.

إلى ربهم. هلكوا كافرين ليس لهم إلا النار {وحبط ما صنعوا}1 في هذه الدار من أعمال وبطل ما كانوا يعملون.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (15 والثانية 16) وهو قوله تعالى {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} وقوله تعالى في الآية الثالثة (17) {أفمن كان على بينة من ربه}2 بما أوحى إليه من القرآن وما حواه من الأدلة والبراهين على توحيد الله ونبوة رسوله، وعلى المعاد الآخر، وقوله {ويتلوه شاهد منه} أي ويتبع ذلك الدليل دليل آخر وهو لسان الصدق الذي ينطق به وكمالاته الخُلُقَيَّة والروحية حيث نظر إليه إعرابي فقال والله ما هو بوجه كذّاب، ودليل ثالث في قوله {ومن قبله كتاب موسى} أي التوراة {إماماً ورحمة} شاهد له حيث حمل نعوت الرسول وصفاته ونعوت أمته وصفاتها في غير موضع منه أفمن هو على هذه البينات والدلائل والبراهين من صحة دينه، كمن لا دليل له ولا برهان إلا التقليد للضلال والمشركين، وقوله {أولئك يؤمنون به} أي أولئك الذين ثبتت لديهم تلك البيّنات والحجج والبراهين {يؤمنون به} أي بالقرآن الحق والنبي الحق والدين الحق. وقوله تعالى {ومن يكفر به} أي بالقرآن ونبيه ودينه من الأحزاب3 أي من سائر الطوائف والأمم والشعوب فالنار موعده، وحسبه جهنم وبئس المصير4
وقوله تعالى {فلا تك في مرية منه}5 أي فلا تك في شك منه أي في أن موعد من يكفر به من الأحزاب النار. وقوله {إنه الحق من ربك} أي6 القرآن الذي كذّب به المكذبون وما تضمنه من الوعد والوعيد، والدين الحق كل ذلك هو الحق الثابت من ربك، إلا أن {أكثر الناس لا يؤمنون} 7 وإن ظهرت الأدلة ولاحت الأعلام وقويت البراهين.
__________
1 أعمال الكفار في الدنيا خيرية كانت أو دنيوية تذهب في الدار الآخرة هباء كقوله تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا}.
2 اختلف في عود الضمائر في هذه الآية اختلافاً كثيراً، وقد اخترنا في التفسير عودها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا مانع من عودها على كل مؤمن صادق الإيمان، بقرينة الخبر وهو قوله: {أولئك يؤمنون به} وهم الفريق الذين أسلموا لمّا شاهدوا الحجج والبراهين.
3 أظهرهم: المشركون واليهود، والنصارى والصابئة والمجوس.
4 لأنهم لم يزكوا أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح فلذا فلا مأوى لهم إلاّ النّار.
5 الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل مؤمن أي: لا يشكنّ مؤمن في أن القرآن حق وأنّ ما أخبر به عن الكافرين مِن أنّ مأواهم النار حق.
6 جملة: {انه الحق من ربك} ، مستأنفة مؤكدة لجملة: {فلا تك في مرية منه}.
7 لما سبق في علم الله وما قضى به قوله: {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}.

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان حقيقة وهي أن الكفر غير مانع من أن ينتج الكافر بحسب جهده من كسب يده فيحصد إذ زرع، ويربح إذا اتجر، وينتج إذا صنع.
2- بيان أن الكافر لا ينتفع من عمله في الدنيا ولو كان صالحاً وأن الخسران لازم له.
3- المسلمون على بينة من دينهم، وسائر أهل الأديان الأخرى لا بينة لهم وهم في ظلام التقليد وضلال الكفر والجهل.
5- بيان سنة الله في الناس وهي أن أكثرهم لا يؤمنون.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ(18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ(19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ(20)
شرح الكلمات:
ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً : أي لا أحد فالاستفهام للنفي.
يعرضون على ربهم : أي يوم القيامة.
الأشهاد : جمع شاهد وهم هنا الملائكة.
لعنة الله : أي طرده وإبعاده.
على الظالمين : أي المشركين.

سيبل الله : أي الإسلام.
عوجاً : أي معوجة.
معجزين في الأرض : أي الله عز وجل أي فائتين بل هو قادر على أخذهم في أيّة لحظة.
من أولياء : أي أنصار يمنعونهم من عذاب الله.
وما كانوا يبصرون: ذلك لفرط كراهيتهم للحق فلا يستطيعون سماعه، ولا رؤيته.
معنى الآيات:
بعد أن قرر تعالى مصير المكذبين بالقرآن ومن نزل عليه وما نزل به من الشرائع ذكر نوعاً من إجرام المجرمين الذين استوجبوا به النار فقال عز وجل {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً} أي لا أحد في الناس أعظم ظلماً من أحد افترى على الله كذباً ما من أنواع1 الكذب وإن قل وقوله {أولئك يعرضون على ربهم} أي أولئك الكذبة يعرضون يوم القيامة على ربهم جل جلاله في عرصات القيامة، ويقول الأشهاد من الملائكة شاهدين2 عليهم {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم} ثم يُعْلِنُ مُعْلِنٌ قائلاً {ألا لعنة الله على3 الظالمين} أي ألا بعداً لهم من الجنة وطرداً لهم منها إلى نار جهنم.
ثم وضح تعالى نوع جناياتهم التي استوجبوا بها النار فقال {الذين يصدون عن سبيل الله}4 أي يصرفون أنفسهم وغيرهم عن الدين الإسلامي، {ويبغونها} أي سبيل الله {عوجاً} أي معوجه كما يهوون ويشتهون فهم يريدون الإسلام أن يبيح لهم المحرمات من الربا والزنى والسفور، ويريدون من الإسلام أن يأذن لهم في عبادة القبور والأشجار والأحجار إلى غير ذلك، ويضاف إلى هذا ذنب أعظم وهو كفرهم بالدار الآخرة. قال تعالى {أولئك} أي المذكورون {لم يكونوا معجزين في الأرض} أي لم يكن من شأنهم
__________
1 من أنواع كذبهم على الله تعالى: زعمهم أنّ له شريكاً وولداً، وقولهم في الأصنام هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وتحريمهم ما أحل الله ونسبة ذلك إليه تعالى.
2 ومن الأشهاد: الأنبياء والعلماء والمبلغون لدعوة الله تعالى لعباده وفي صحيح مسلم. "وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربّهم".
3 لعنة الله: أي: بعده وسخطه وإبعاده من رحمته على الذين وضعوا العبادة في غير موضعها.
4 يجوز أن يكون: {الذين} مجروراً لمحل نعتاً للظالمين، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر، والمبتدأ محذوف. أي: هم الذين يصدّون.

ومهما رأوا أنفسهم أقوياء أن يعجزوا الله تعالى في الأرض فإنه مدركهم مهما حاولوا الهرب1 ومنزل بهم عذابه متى أراد ذلك لهم، وليس لهم من دون الله من أولياء أي أنصار يمنعونهم من العذاب متى أنزله بهم، وقوله تعالى {يضاعف لهم العذاب} إخبار منه بأن هؤلاء الظالمين يضاعف لهم العذاب يوم القيامة لأنهم صدوا غيرهم عن سبيل الله فيعذبون بصدهم أنفسهم عن الإسلام، وبصد غيرهم عنه، وهذا هو العدل وقوله تعالى فيهم {ما كانوا يستطيعون2 السمع وما كانوا يبصرون} إخبار بحالهم في الدنيا أنهم كانوا لشدة كراهيتهم للحق ولأهله من الداعين إليه لا يستطيعون سماعه ولا رؤيته ولا رؤية أهله القائمين عليه والداعين إليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عظم ذنب من يكذب على الله تعالى بنسبة الولد أو الشريك إليه أو بالقول عليه بدون علم منه.
2- عظم جرم من يصد عن الإسلام بلسانه أو بحاله، أو سلطانه.
3- عظم ذنب من يريد إخضاع الشريعة الإسلامية لهواه وشهواته بالتأويلات الباطلة والفتاوى غير المسؤولة ممن باعوا آخرتهم بدنياهم.
4- بيان أن من كره قولاً أو شخصاً لا يستطيع رؤيته ولا سماعه3.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ(21) لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ(22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ
__________
1 قال ابن عباس رضي الله عنه: لم يعجزوني أن آمر الأرض فتنخسف بهم، وفي سورة سبأ {أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء}.
2 {ما كانوا يستطيعون السمع..} قال القرطبي ما: في موضع نصب على أن يكون المعنى بما كانوا يستطيعون السمع. يُريد أن الباء المحذوفة سببية أي: يُضاعف لهم العذاب بسبب أنهم كانوا لا يستطيعون السمع لما ران على قلوبهم من الآثام فحجب الإثم أسماعهم وأبصارهم، وفي المثل: حبّك الشيء يعمي ويصم، فحبّهم للكفر والشرك والآثام عطّل حواسهم.
3 أقول: ما كنت أدرك المعنى الحقيقي لقوله تعالى: {ما كانوا يستطيعون السمع} حتى كان صوت العرب على عهد بطل الاشتراكية "عبد الناصر" وأخذ يسبّ ويشتم ويعيّر ويقبّح سلوك كل من لم يوال الاشتراكيين فكنت-والله-لا أستطيع سماع ما يذيعه، وثَمَّ فهمت معنى الآية على حقيقته.

الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ(24)
شرح الكلمات:
وضل عنهم ما كانوا يفترون : أي غاب عنهم ما كانوا يدعونه من شركاء الله تعالى.
لا جرم : أي حقاً وصدقاً أنهم في الآخرة هم الأخسرون.
وأخبتوا إلى ربهم: أي تطامنوا أو خشعوا لربهم بطاعته وخشيته.
مثل الفريقين: أي فريق المؤمنين وفريق الكافرين.
أفلا تذكرون : أي تتعظون، فتستغفروا ربكم ثم تتوبوا إليه.؟
معنى الآيات:
مازال السياق في تحديد المجرمين وبيان حالهم في الآخرة فقال تعالى {أولئك} أي البعداء {الذين خسروا أنفسهم} حيث استقروا في دار الشقاء فخسروا كل شيء حتى أنفسهم، {وضل عنهم ما كانوا يفترون} أي وغاب عنهم ما كانوا يزعمون أن لهم شركاء، وأنهم يشفعون لهم وينصرونهم قال تعالى: {لا جرم}1 أي حقاً {أنهم في الآخرة} أي في دار الآخرة {هم الأخسرون} أي الأكثر خسراناً من غيرهم لأنهم أضافوا إلى جريمة كفرهم جريمة تكفير غيرهم ممن كانوا يدعونهم إلى الضلال، ويصدونهم عن الإسلام سبيل الهدى والنجاة من النار. ولما ذكر تعالى حال الكافرين وملأ انتهوا إليه من خسران. ذكر تعالى حال المؤمنين فقال {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات}2 أي آمنوا بالله وبوعده ووعيده. وآمنوا برسول الله وبما جاء به، وعملوا الصالحات التي شرعها الله
__________
1 {لا جرم} كلمة: جزم ويقين، واختلف في تركيبها وأطهر أقوالهم فيها: أن تكون لا: حرف نفي، وجزم: بمعنى محالة. ويصح معنى الكلمة. لا محالة أو: لا بدّ أن يكون كذا وكذا، أو لتفسّر بحقاً، ولا محالة ولابد، إذ جرم مأخوذ من الجرم الذي هو القطع.
2 الموصول: اسم إنَّ، وآمنوا: صلة {وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربّهم} معطوفان على الاسم، والخبر :{أولئك أصحاب الجنة} وجملة {هم فيها خالدون} جملة بيانية أي مبيّنة لحال أهل الجنة.

تعالى لهم من صلاة وزكاة {وأخبتوا إلى ربهم} أي أسلموا له وجوههم وقلوبهم وانقادوا له بجوارحهم فتطامنوا وخشعوا أولئك أي السامون أصحاب الجنة أي أهلها {هم فيها خالدون} أي لا يبرحون منها ولا يتحولون عنها، هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث أما الآية الرابعة (24) وهي قوله تعالى {مثل الفريقين كالأعمى1 والأصم والسميع والبصير هل يستويان مثلا}؟ فقد ذكر تعالى مقارنة بين أهل الشرك وأهل التوحيد توضيحاً للمعنى وتقريراً للحكم فقال {مثل الفريقين} أي صفة الفريقين الموضحة لهما هي كالأعمى والأصم وهذا فريق الكفر والظلم والسميع والبصير. وهذا فريق أهل الإيمان والتوحيد فهل يستويان مثلا أي صفة الجواب لا، لأن بين الأعمى والبصير تبايناً كما بين الأصم والسميع تبايناً فأي عاقل يرضى أن يكون العمى والصمم وصفاً له ولا يكون البصر والسمع وصفاً له؟ والجواب لا أحد إذاً {أفلا تذكرون} أي أفلا تتعظون بهذا المثل2 وتتوبوا إلى ربكم فتؤمنوا به وتوحدوا وتؤمنوا برسوله وتتبعوه، وبكتابه وتعملوا بما فيه؟
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- استحسان المقارنات بين الأشياء المتضادة للعبرة والاتعاظ.
2- الكافر ميت موتاً معنوياً فلذا هو لا يسمع ولا يبصر، والمسلم حيُّ فلذا هو سميع بصير.
3- بيان ورثة دار النعيم وهم أهل الإيمان والطاعة، وورثة دار الخسران وهم أهل الكفر والظلم.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ(25) أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ(26) فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ
__________
1 فريق الإيمان وفريق الكفر والشرك.
2 المثل الذي كشف الحقيقة وبيّن أنّ الكفار عمي صم، وأنّ المؤمنين يبصرون ويسمعون، فأي عاقل يرضى أسوأ الوصفين؟!

الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ(27)
شرح الكلمات:
نوحا : هو العبد الشكور أبو البشرية الثاني نوح عليه السلام.
إني لكم نذير مبين: أي مخوف لكم من عذاب الله بَيِّنُ النذارة.
عذاب يوم أليم: هو عذابه يوم القيامة.
الملأ: الأشراف وأهل الحل والعقد في البلاد.
أراذلنا 1: جمع أرذل وهو الأكبر خسة ودناءة.
بادي الرأي: أي ظاهر الرأي، لا عمق عندك في التفكير والتصور للأشياء.
معنى الآيات:
هذه بداية قصة نوح عليه السلام وهي بداية لخمس قصص2 جاءت في هذه السورة سورة هود عليه السلام قال تعالى {ولقد أرسلنا نوحاً3 إلى قومه إني لكم نذير4 مبين} أي قال لهم إني لكم نذير مبين أي بين النذارة أي أخوفكم عاقبة كفركم بالله وبرسوله وشرككم في عبادة ربكم الأوثان والأصنام. وقوله {أن لا تعبدوا5 إلا الله} أي نذير لكم بأن لا تعبدوا إلا الله، وتتركوا عبادة غيره من الأصنام والأوثان وقوله {إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم} علل لهم أمرهم بالتوحيد ونهيهم عن الشرك بأنه يخاف عليهم إن أصروا على كفرهم وتركهم عذاب يوم أليم6 وهو عذاب يوم القيامة {فقال الملأ الذين كفروا من قومه} أي فرد على نوح ملأ قومه اشرافهم وأهل الحل والعقد فيهم ممن كفروا بالله ورسوله فقالوا {ما نراك إلا بشراً مثلنا}7 أي لا فضل لك علينا فكيف تكون رسولاً لنا ونحن مثلك هذا
__________
1 الأرذل: اسم تفضيل والمفضّل عنه يقال له: رذْل ككلب ويجمع على أرذل كأكلب.
2 هذا العطف من باب عطف قصّة على قصّة: الواو: تسمى الواو الابتدائية.
3 كُسرت: إنّ لأنّ الإرسال فيه معنى القول وإن تكسر بعد القول.
4 الِقصّة: بكسر القاف والجمع: قصص كحجّة وحجج: الخبر يروى وتُتَتّبع أجزاؤه بعناية، والقصص بفتح القاف: مصدر قصّ الحديث يقصّه قصاً.
5 هذه الجملة مفسّرة لجملة {أرسلنا نوحاً} أو لقوله: {إني لكم نذير مبين}.
6 وجائز أن يكون {عذاب يوم أليم} في الدنيا وهو عذاب الطوفان وقد كان.
7 مثلنا: منصوب على الحال.

أولاً وثانياً {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا} أي سفلتنا من1 أهل المهن المحتقرة كالحياكة والحجامة والجزارة ونحوها وقولهم2 بادي الرأي أي ظاهر الرأي لا عمق في التفكير ولا سلامة في التصور عندك وقولهم {وما نرى لكم علينا من فضل} أي وما نرى لكم علينا من أي فضل تستحقون به أن نصبح أتباعاً لكم فنترك ديننا ونتبعكم على دينكم بل نظنكم كاذبين فيما تقولون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- إن نوحاً واسمه عبدالغفار أول رسول إلى أهل الأرض بعد أن أشركوا بربهم وعبدوا غيره من الأوثان والآلهة الباطلة.
2- قوله أن لا تعبدوا إلا الله هو معنى لا إله إلاّ الله
3- التذكير بعذاب يوم القيامة.
4- اتباع الرسل هم الفقراء والضعفاء و خَصُوُمهم الأغنياء والأشراف والكبراء.
5- احتقار أهل الكبر لمن دونهم. وفي الحديث "الكبر3 بطر الحق وغمط الناس".
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ(28) وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ(29) وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ(30) وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ
__________
1 قال القرطبي : اختلف في السفلة فقيل: هم الذين يتقلسون ويأتون أبواب القضاء والسلاطين يطلبون الشهادات، وقال مالك: السفلة: الذين يسبون الصحابة. وقال آخر: الذين يأكلون على حساب دينهم.
2 ومنه البادية وهي الأراضي الظاهرة لا تحوطها مبانٍ ولا بساتين ولا مصانع.
3 الحديث في الصحيح فقد قال صلى الله عليه وسلم "إنّ الله لا يدخل الجنة مَنّ كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر" فسئل عن الكبر فقال: الكبر: بطر الحق وغمط الناس" وبطر الحق : عدم قبوله ، وغمط الناس : احتقارهم.

أ َعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ(31)
شرح الكلمات:
أرأيتم : أي أخبروني.
على بينة من ربي : أي على علم علمنيه الله فعلمت أنه لا إله إلا الله.
فعميت عليكم:. أي خفيت عليكم فلم تروها.
أنُلزِمُكمُوها: أي أجبركم على قبولها.
بطارد الذين آمنوا : أي بمبعدهم عني ومن حولي.
خزائن الله : التي فيها الفضل والمال.
تزدري أعينكم : تحتقر أعينكم.
معنى الآيات:
مازال السياق في قصة نوح مع قومه فأخبر تعالى أن نوحاً قال لقومه أرأيتم أي أخبروني إن كنت على بيَّنة من ربي أي على علم يقيني تعالى وبصفاته وبما أمرني به من عبادته وتوحيده والدعوة إلى ذلك. وقوله {وآتاني رحمة من عنده} وهي الوحي والنبوة والتوفيق لعبادته. {فعميت عليكم} أنتم1 فلم تروها. فماذا أصنع معكم {أنلزمكموها} أي2 أنجبركم أنا ومن آمن بي على رؤيتها والإيمان بها والعمل بهداها، {وانتم لها كارهون}3 أي والحال أنكم كارهون لها والكاره للشيء لا يكاد يراه ولا يسمعه، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (27) أما الآية الثانية فإن الله تعالى يخبر أيضاً عن قيل نوح لقومه: {ويا قوم لا أسألكم عليه مالا} أي لا أطلب منكم أجراً على إبلاغكم هذه الرحمة التي عميت عليكم فلم تروها. {إن أجري إلا على الله} أي ما أجري إلا على الله إذ هو الذي كلفنى
__________
1 قرىء: {عميت} بتشديد الميم، وقرأ ورش بتخفيفها، ومعناه:إنّ الرسالة عميت عليكم فلم تفهموها. يقال: عميت عن كذا، وعمي عليّ كذا: أي: لم أفهمه.
2 {أنلزمكموها} أي: الرحمة التي هي عبادة الله وحده وترك عبادة سواه والاستفهام إنكاري. أي: ما كان لي ذلك والحال أنكم كارهون لها.
3 قال قتادة: والله لو استطاع نبي الله نوح عليه السلام لألزمها قومه. ولكنّه لم يملك ذلك.

بالعمل بها والدعوة إليها وواعدني بالأجر عليها. وقوله {وما أنا بطارد المؤمنين} أي وما أنا بمطيعكم في طرد المؤمنين من حولي كما اقترحتم عليّ، إنهم ملاقو ربهم، ومحاسبهم ومجازيهم على أعمالهم فكيف يصح مني ابعادهم عن سماع الحق وتعلمه والأخذ به ليكملوا ويسعدوا إذ العبرة بزكاة النفوس وطهارة الأرواح بواسطة الإيمان والعمل الصالح لا بالشرف والمال والجاه كما تتصورون ولذا فإني أراكم قوما تجهلون هذا ما دلت عليه الآية الثانية (28) ثم قال لهم في الآية الثالثة {ويا قوم من ينصرني1 من الله إن طردتهم} أي من هو الذي يرد عنى عذاب الله ويمنعني منه إن أنا عصيته فطردت أي أقصيت وأبعدت عباده المؤمنين عن سماع الهدى وتعلم الخير ولا علة لذلك إلا لأنهم فقراء ضعفاء تزدريهم أعينكم المريضة التي لا تقدر على رؤية الحق وأهله والداعين إليه. ثم قال لهم {أفلا تذكرون2} أي تتفكرون فتعلمون خطأكم وجهلكم فتثوبوا إلى رشدكم. وتتوبوا إلى ربكم فتؤمنوا به وبرسوله وتعبدوه وحده لا شريك له ثم قال لهم في الآية الأخيرة (31) {ولا أقول لكم عندي خزائن الله3} رداً على قولهم: {وما نرى لكم علينا من فضل} {ولا أعلم الغيب} فأعرف ما تخفيه صدور الناس فأطرد هذا وأبقي هذا، ولا أقول إني ملك حتى تقولوا ما نراك إلا بشراً مثلنا {ولا أقول للذين تزدري أعينكم}4 لفقرهم وضعفهم {لن يؤتيهم الله خيراً الله أعلم بما في أنفسهم} أي من صدق أو نفاق ومن حب لي أو بغض كأنهم طعنوا في المؤمنين واتهموهم بأنهم ينافقون أولهم أغراض فاسدة أو أطماع مادية من أجلها التفوا حول نوح، وقوله {إني إذاً لمن الظالمين} أي إني إذا قلت للمؤمنين من الضعفاء لن يؤتيكم الله خيراً كنت بعد ذلك من الظالمين5 الذين يعتدون على الناس بهضمهم حقوقهم وامتهان كرامتهم.
هداية الآيات:
__________
1 أي: مَنْ يرد عنّي عذابه أن استوجبته بطرد عباده المؤمنين؟ والجواب: لا أحد فكيف إذاً يسوغ لي أن أطردهم كما ترغبون.
2 {أفلا تذكرون} قرىء: تذكرون بحذف إحدى التائين وقرىء تذّكرون: بتشديد الذال، بإدغام إحدى التائين في الأخرى. والاستفهام للإنكار أي: ينكر عليهم غفلتهم وجهلهم وعدم تذكرهم ليتّعظوا.
3 اخبر عليه السلام بتذلله وتواضعه لربّه عزّ وجلّ فنفى عن نفسه القدرة على امتلاك خزائن الفضل والمال كما نفي عن نفسه علم الغيب وأن يكون ملكاً من الملائكة.
4 أي: تحتقر أعينكم. والأصل: تزدريهم، حذفت الهاء والميم لطول الاسم، والازدراء: افتعال من الزري الذي هو الاحتقار، وإلصاق العيب فالازدراء أصله الازتراء فقلبت فيه التاء دالاً فصار: الازدراء كما قلبت في : الازدياد.
5 في قوله : {من الظالمين} : تعريض بقومه ، فوصفهم بالظلم من حيث لا يشعرون.

من هداية الآيات:
1) كُرهُ الشيء يجعل صاحبه لا يراه ولا يسمعه ولا يفهم ما يقال له فيه.
2) كراهية أخذ الأجرة على الدعوة والتربية والتعليم الديني.
3) وجوب احترام الضعفاء وإكرامهم وحرمة احتقارهم وازدرائهم.
4) علم الغيب استأثر الله تعالى به دون سائر خلقه إلا من علمه الله شيئاً منه فإنه يعلمه.
5) حرمة غمط الناس وازدرائهم والسخرية منهم
قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ(33) وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(34 )
شرح الكلمات:
جادلتنا : أي خاصمتنا تريد إسقاطنا وعدم اعتبارنا في ديننا وما نحن عليه.
بما تعدنا : أي من العذاب إن لم نؤمن بما تدعونا إليه.
إن كنت من الصادقين : أي في دعواك النبوة والإخبار عن الله عز وجل.
بمعجزين : أي بغالبين ولا فائتين الله تعالى متى أراد الله عذابكم.
نصحي : أي بتخويفي إياكم عذاب ربكم إن بقيتم على الكفر به وبلقائه ورسوله.
أن يغويكم: أي يوقعكم في الضلال ويبقيكم فيه فلا يهديكم أبدا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصة نوح عليه السلام مع قومه فأخبر تعالى عن قول قوم نوح له عليه

السلام: فقال: {قالوا يا نوح قد جادلتنا1} أي خاصمتنا وأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين أي فعجل العذاب وأنزله علينا إن كنت من الصادقين فيما تقول وتدعو وتعد. فأخبر تعالى عن قول نوح لهم ردا على مقالتهم وهو ما علمه ربه تعالى أن يقوله: فقال {قل إنما يأتيكم به الله} أي بالعذاب الله إن شاء ذلك. {وما أنتم بمعجزين} أي فائتين الله ولا هاربين منه. وقوله: {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم 2 هو ربكم واليه ترجعون}. أي إن نصحي لا شفعكم بمعنى أنكم لا تقبلونه مهما أردت ذلك وبالغت فيه إن كان الله جل جلاله يريد أن يغويكم لما فرط منكم وما أنتم عليه من عناد وكفر ومجاحدة ومكابرة إذ مثل هؤلاء لا يستحقون هداية الله تعالى بل الأولى بهم الضلالة حتى3 يهلكوا ضالين فيشقوا في الدار الآخرة. وقوله تعالى: {هو ربكم وإليه ترجعون} أي فالأمر له ألستم عبيده وهو ربكم إن يشأ يرحمكم وإن يشأ يعذبكم وإن كانت حكمته تنفي أن يعذب الصالحين ويرحم الغواة الظالمين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية الجدال لإحقاق الحق وإبطال الباطل بشرط الأسلوب الحسن.
2- إرادة الله تعالى قبل كل إرادة وما شاءه الله يكون وما لم يشأه لم يكن.
3- لا ينفع نصح الناصحين ما لم يرد الله الخير للمنصوح له.
4- ينبغي عدم إصدار حكم على عبد لم يمت فيعرف بالموت مآله. إلاَّ قول الله أعلم به.
أَمْ يَقُولُونَ4 افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ(35)
__________
1 {جادلتنا} أي: خاصمتنا فأكثرت خصومتنا وبالغت فيها، والجدل في لغة العرب: المبالغة في الخصومة. مأخوذ من الجدل: الذي هو شدّة الفتل، وقالوا في الصقر أجدل: لشدته في الطيران.
2 فيه الرد على بطلان مذهب المعتزلة، والقدرية إذ زعموا أن الله لا يريد أن يعصي العاصي ولا أن يكفر الكافر ولا أن يغوي الغاوي وتجاهلوا أنه لا يقع في ملك الله إلا ما يريد، ولا يقع شيء إلاّ بإذنه فهو الهادي لمن شاء هدايته، والمضل لمن شاء إضلاله، ولكن كُلاَّ من هدايته وإضلاله يتمان حسب سنته في الهداية والإضلال فلم يظلم ربّك أحداً.
3 ومن فسّر {أن يغويكم} : يهلككم : أراد أنّ الهلاك سبب للإغواء، فمن أغواه أهلكه، إذ لا يُهلك إلاَّ الغاوي.
4 شرح هذه الآية في (ص 545) وأخرت على أنها معترضة لقصة نوح عليه السلام.

وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ(36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ(37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ(38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ(39 )
شرح الكلمات:
وأوحى إلى نوح : أي اعلم بطريق الوحي الذي هو الإعلام السريع الخفي.
فلا تبتئس : لا تحزن ولا يشتد بك الحزن فإني منجيك ومهلكهم.
الفلك : أي السفينة التي أمرناك بصنعها لحمل المؤمنين عليها.
سخروا منه : أي استهزئوا به كقولهم: تحمل هذا الفلك إلى البحر أو تحمل البحر إليه.
يخزيه : أي يذله ويهينه.
ويحل عليه عذاب مقيم : أي وينزل به عذاب النار يوم القيامة فلا يفارقه.
معنى الآيات:
عاد السياق بعد الاعتراض بالآية (35) إلى الحديث عن نوح وقومه فقال تعالى {وأوحى إلى نوح أنه1 لن يؤمن من قومك إلا من2 قد آمن}. وهذا بعد دعوة دامت قرابة ألف سنة إلا
__________
1 {أنّه} في موضع رفع نائب فاعل لأوحي أي: أوحي إلى نوح عدم إيمان قومه ومعنى الكلام: الإِياس من إيمانهم، واستدامة كفرهم تحقيقاً للوعيد بنزول العذاب بهم.
2 روي أنَّ رجلاً من قوم نوح مرّ بنوح وهو يحمل طفلهُ فلما رأى الطفل نوحاً قال لأبيه ناولني حجراً فناوله إياها فرمى بها نوحاً فأدماه، فأوحى الله تعالى إلى نوح: {أنه لن يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن..}.

خمسين عاماً أي فلم يؤمن بعد اليوم أحد من قومك وعليه فلا تبتئس1 أي لا تغتم ولا تحزن بسبب ما كانوا يفعلون من الشر والفساد والكفر والمعاصي فإني منجيك ومن معك من المؤمنين ومهلكهم بالغرق. وقوله تعالى في الآية الثانية (37) {واصنع الفلك بأعيينا ووحينا} أي وأمرناه أن يصنع الفلك أي السفينة تحت بصرنا وبتوجيهنا وتعليمنا. إذ لم يكن يعرف السفن ولا كيفية صنعها وقوله {ولا تخاطبني في الذين ظلموا} أي لا تسألني لهم صرف العذاب ولا تشفع لهم في تخفيفه عليهم، لأنا قضينا بإهلاكهم بالطوفان فهم لا محالة مغرقون قوله تعالى {ويصنع الفلك2 وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه} يخبر تعالى عن حال نوح وهو يصنع الفلك بقطع الخشب ونجره وتركيبه وقومه يمرون عليه وكلما مرّ عليه أشراف القوم وعليتهم يسخرون منه كقولهم يا نوح أصبحت نجاراً أو وهل تنقل البحر إليها، أو تنقلها إلى البحر فيرد عليهم نوح عليه السلام بقوله {إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون} أي منا فسوف تعلمون أي مستقبلاً من يأتيه عذاب يخزيه أي يذله ويهينه ويكسر أنف كبريائه، ويحل3 عليه عذاب مقيم وهو عذاب النار يوم القيامة وهو عذاب دائم لا ينتهى أبداً.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- كراهية الحزن والأسى والأسف على ما يقوم به أهل الباطل والشر والفساد.
2- بيان تاريخ صنع السفن وانها بتعليم الله لنوح عليه السلام.
3- بيان سنة البشر في الاستهزاء والسخرية بأهل الحق ودعاته لظلمة نفوسهم بالكفر والمعاصي.
4 بيان صدق وعد الله رسله.
حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا
__________
1 الابتئاس:افتعال من البؤس الذي هو الهمّ والحزن. قال الشاعر:
وكم من خليل أو حميم رزأته
فلم ابتئس والرزء فيه جليل
2 اختلفت الأقوال في مدّة صنع السفينة، أكثرها أنها: أربعون سنة. وجائز أن تكون أكثر، لأن عمل فرد واحد في صنع سفينة يتطلب وقتاً طويلاً أمّا حجمها فيدل على كبره ما حمل فيها، إذ حمل فيها كل مؤمن ومؤمنة ومن كل زوجين اثنين، فحجمها لا شك أنه واسع كبير، وقيل: كانت السفينة ثلاث طبقات: السفلى للدواب والوحوش، والوسطى للإنس، والعليا للطيور. والله اعلم، والحديث عن طول السفينة وعرضها ومادتها كله من باب علم لا ينفع وجهالة لا تضر.
3 أي: يجب عليه وينزل به.

مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ(40) وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ(42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ(43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(44)
شرح الكلمات:
فار التنور: أي خرج الماء وارتفع من التنور وهو مكان طبخ الخبز.
زوجين اثنين : أي من كل ذكر وأنثى من سائر أنواع المخلوقات اثنين.
وأهلك: أي زوجتك وأولادك.
مجريها ومرساها :أي إجراؤها وإرساؤها.
في موج كالجبال : الموج ارتفاع ماء البحر وكونه كالجبال أي في الارتفاع.
يعصمني من الماء : يمنعني من الماء أن يغرقني.
وغيض الماء: أي نقص بنضوبه في الأرض.
على الجودي : أي فوق جبل الجودي وهو جبل بالجزيرة غرب الموصل.
بعدا للقوم الظالمين: أي هلاكاً لهم.

شرح الكلمات:.
أم يقولون: أي بل يقولون افتراه.
افتراه : أي اختلقه وقال من نفسه ولم يوح به إليه.
فعلى إجرامي1: أي عاقبة الكذب الذي هو الإجرام تعود عليَّ لا على غيري.
وأنا بريء : أي أتبرأ وأتنصل من إجرامكم فلا أتحمل مسؤوليته.
مما تجرمون: أي على أنفسكم بإفسادها بالشرك والكفر والعصيان.
معنى الآية:
هذه الآية الكريمة أوقعها الله مُنَزِلُها سبحانه وتعالى بين أجزاء الحديث عن نوح وقومه، وحسن موقعها هنا لأن الحديث عن نوح وقومه لا يتأتى لأحد إلا لنبي يوحى إليه، وذلك لبعده في الحاريخ فَقَصُّ النبي له اليوم دليل على أنه نبي يُوحى إليه، فلذا قال أم يقولون افتراه2 أي يقولون افترى القرآن وكذبه ولم يوح إليه قل إن افتريته كما زعمتم فعليّ إجرامي أي أثم كذبي وأنا بريء مما تجرمون أنتم بتكذيبكم إياي وكفركم بربكم ورسوله ووعده ووعيده.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- جواز الاعتراض في الكلام إذا حسن موقعه لإقامته حجة أو إبطال باطل أو تنبيه على أمر مهم.
1- قص القصص أكبر دليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوى النبوة ودعوته إلى الله تعالى.
3- تقرير مبدأ تحمل كل إنسان مسؤولية عمله وأن لا تزر وازرة وزر أخرى.
__________
1 الإجرام: مصدر أجرم يجرم إجراماً: إذا اقترف السيئات وجرم الثلاثي كأجرم الرباعي، قال الشاعر وهو أحد لصوص بني سعد:
طريد عشيرة ورهين جرم
بما جرمت يدي وجنى لساني
2 فسرت الآية في التفسير بالقول الراجح وهو: أنّ المراد بمن يقول افتراه: النبي صلى الله عليه وسلم والآية معترضة أحاديث قصة نوح وذهب بعضهم نقلاً عن ابن عباس أنها من محاورة نوح عليه السلام مع قومه: واستظهروها من أجل السياق السابق واللاحق والله أعلم.

معنى الآيات:
مازال السياق في الحديث عن نوح وقومه قال تعالى {حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور} أي واصل صنع السفينة حتى إذا جاء أمرنا أي بإهلاك المشركين، وفار1 التنور أي خرج الماء من داخل التنور وفار وتلك علامة بداية الطوفان فاحمل فيها أي في السفينة التي صنعت من كل زوجين2 اثنين أي من كل نوع من أنواع الحيوانات زوجين أي ذكراً وأنثى. وأهلك أي واحمل أهلك من زوجة وولد كسام وحام ويافث إلا من سبق عليه القول أي بالإهلاك كامرأته واعلة وولده كنعان. ومن آمن3 أي واحمل من آمن من سائر الناس، {وما آمن معه إلا قليل} أي نحو من ثمانين رجلاً وامرأة هذا ما دلت عليه الآية الأولى (40) أما الثانية فقد أخبر تعالى فيها أن نوحاً قال لجماعة المؤمنين {اركبوا فيها} أي في السفينة {باسم الله مجراها4 ومرساها} أي باسم الله تجري وباسم الله ترسو أي تقف {إن ربي لغفور رحيم5} أي فهو لا يهلكنا بما قد يكون لنا من ذنب ويرحمنا فينجينا ويكرمنا. وقوله تعالى في الآية الثالثة (42) {وهي تجري بهم في موج كالجبال} وصف للسفينة وهي تغالب الماء وتمخر عبابه وأمواج الماء ترتفع حتى تكون كالجبال في ارتفاعها وقبلها نادى نوح ابنه كنعان، وهو في هذه الساعة في معزل6 أي من السفينة حيث رفض الركوب فيها لعقوقه وكفره7 فقال له {يا بني اركب8 معنا ولا تكن مع الكافرين} فتغرق كما يغرقون فأجاب الولد قائلاً
__________
1 الفوران: غليان القدر، ويطلق على نبع الماء بشدة تشبيها بفوران ماء في القدر إذا غلى، والتنور: اسم لموقد النار للخبز.
2 قرأ حفص { من كلٍ} بتنوين كل فالتنوين عوض عن مضاف إليه أي: من كل المخلوقات، و {زوجين} مفعول لـ (احمل)، واثنين: نعت له وقرأ الجمهور بإضافة كل إلى زوجين، والمراد بالزوجين هنا: الذكر والأنثى من كل نوع من أنواع الحيوانات.
3 ومن آمن: أي: كل المؤمنين.
4 جائز أن يكون القائل: {اركبوها} الله جلّ جلاله، وجائز أن يكون نوحاً عليه السلام والركوب: العلو على ظهر شيء، وقال: فيها، ولم يقل عليها لأنها ظرفٌ لهم يدخلون فيها.
5 قرأ الجمهور بضم الميم في كل من مجراها، ومرساها، وهما مصدران من: أجرى وأرسى، وقرأ عاصم بفتح ميم مجراها، وضم ميم مرساها كالجمهور، ولم يفتح ميم مرساها لاشتباهه. حينئذ المرسى مكان الرسو، وقرىء مجريها، ومرسيها باسم الفاعل أي: بسم الله مجريها ومرسيها.
6 روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في الفلك بسم الله الرحمن الرحيم" {وما قدروا الله حق قدره، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عمّا يشركون. {بسم الله مجراها ومرساها إن ربى لغفور رحيم}.
7 وقيل: في معزل أي: من دين أبيه.
8 قرأ حفص: {يا بنيَّ} بفتح الياء المشددة وكسرها غير عاصم.

سورة يوسف
...
في حب يوسف. وواصلت العير سيرها وبعد أيام وصلت وجاء يهودا يحمل القميص فألقاه على وجه يعقوب فارتد بصيراً كما أخبر يوسف إخوته بمصر. وهنا واجه أبناءه بالخطاب الذي أخبر تعالى به في قوله: {قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله مالا تعلمون} أي أعلم من لطف الله وحسن تدبيره ورحمته وإفضاله مالا تعلمون. وهنا طلبوا من والدهم أن يعفو عنهم ويستغفر لهم ربهم فقالوا ما أخبر تعالى به: {قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين، قال سوف استغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم}.
أجَّلَ لهم طلب المغفرة إلى ساعة الاستجابة كآخر الليل وقت السحر أو يوم الجمعة. وتنفيذاً لأمر يوسف إخوته بأن يأتوه بأهلهم أجمعين تحملت الأسرة بسائر أفرادها مهاجرين إلى مصر. وكان يوسف وملك مصر وألوف من رجال الدولة وأعيان البلاد في استقبالهم، وكان يوسف قد ضربت له خيمة أو فسطاط، ووصلت المهاجرة إلى مشارف الديار المصرية وكان يوسف في فسطاطه {فلما دخلوا عليه آوى إليه أبويه} أي ضمّهما إلى موكبه {وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} ولما انتهوا إلى القصر ودخلوا {ورفع} يوسف {أبويه} أمه وأباه {على العرش} سرير الملك {وخروا له سجداً} تحية وتشريفاً1. وهنا قال يوسف {يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً} إذ رأى في صباه أن أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رآهم له ساجدين. وقوله {وقد أحسن بي إذ أخرجني2 من السجن وجاء بكم من البدو3 من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي} هذا ثناء على الله بنعمه وتذكير للحاضرين، بالحادثة والطاف الله تعالى فيها. ومن كرم نفس يوسف وسمو آدابه لم يقل قد أحسن بي إذ أخرجني من الجب فيذكرهم بما يؤلمهم بل قال من السجن. ويعني بقوله وجاء بكم من البدو أي من أرض كنعان. ونسب الإساءة التي كانت من إخوته إلى الشيطان تلطيفاً للجو ومبالغة في إذهاب الهم من نفس إخوته، وختم حديث النعمة في أعظم فرحة {إن ربي4 لطيف لما يشاء انه هو العليم} أي بخلقه
__________
1 على عادة أهل ذلك الزمان، وهو سجود تحية لا عبادة.
2 أحسن بي وإليّ بممنى واحد أي قدم أي صنع إليّ معروفاً. بجلب خير أو دفع ضر.
3 أي: البادية، والبدو ضد الحضر، والاسم مشتق من البُدوّ الذي هو الظهور والنزغ عبارة عن إدخال الفساد في النفس، شبه بنزغ الراكب الدابة وهو يريدها تسرع.
4 اللطف: التدبير الملائم، واللطيف: صاحب اللّطف.

المجلد الثالث
سورة الرعد
...
سورة الرعد
مكية وآياتها ثلاث وأربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ(1) اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ(2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(3) وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(4)
شرح الكلمات:
المر : هذه الحروف المقطعة تكتب المر وتُقرأ ألف لاَمْ مِيْم را. والله أعلم بمراده بها.
بغير عمد ترونها: العمد جمع عمود أي مرئية لكم إذ الجملة نعت.

ثم استوى على العرش1: استواء يليق به عز وجل.
وسخر الشمس والقمر: أي ذللّها بمواصلة دورانها لبقاء الحياة إلى أجلها.
هو الذي مد الأرض : أي بسطها للحياة فوقها.
رواسي: أي جبال ثوابت.
زوجين اثنين: أي نوعين وضربين كالحلو والحامض والأصفر والأسود مثلا.
يغشى الليل النهار: أي يغطيه حتى لا يبقى له وجود بالضياء.
لآيات : أي دلالات على وحدانية الله تعالى.
قطع متجاورات : أي بقاع متلاصقات.
ونخيل صنوان: أي عدة نخلات في أصل واحد يجمعها، والصنو الواحد والجمع صنوان.
في الأكل: أي في الطعم هذا حلو وهذا مرّ وهذا حامض، وهذا لذيذ وهذا خلافه.
معنى الآيات:
قوله تعالى {المرَ} الله أعلم بمراده به. وقوله {تلك آيات الكتاب} الإشارة إلى ما جاء من قصص سورة يوسف، فالمراد بالكتاب التوراة والإنجيل فمن جملة آياتها ما قص الله تعالى على رسوله. وقوله: {والذي2 أنزل إليك من ربك} 3 وهو القرآن العظيم {الحق} أي هو الحق الثابت. وقوله {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} أي مع أن الذي أنزل إليك من ربك هو الحق فإن أكثر الناس من قومك وغيرهم لا يؤمنون بأنه وحي الله وتنزيله فيعملوا به فيكملوا ويسعدوا. وقوله تعالى: {الله الذي رفع السموات والأرض بغير عمد4
__________
1 عقيدة السلف في هذه الصفة: وجوب الإيمان بها وإمرارها كما ذكرها تعالى بلا تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل، وكذا سائر صفاته عزّ وجلّ.
2 يصح أن تكون الواو عاطفة صفة على أخرى، أي: عطفت الذي على الكتاب فالموصول في محل جرّ نعت للكتاب، وهو نظير قول الشاعرة
إلى الملِك القرم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم
ويكون المعنى: تلك آيات الكتاب الذي أنزل إليك من ربك والحق: مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو الحق. وما في التفسير واضح قال به مجاهد وقتاده.
3 قال مقاتل: نزلت هذه الآية رداً على المشركين القائلين: أن محمداً صلى الله عليه وسلم يأتي بالقرآن من تلقاء نفسه.
4 في الآيات استدلال بقدرة الله وعلمه وحكمته على أن القرآن الكريم وحيه أوحاه إلى رسوله وتنزيله أنزله عليه ليس كما يدّعي المشركون.

ترونها}: أي أن إلهكم الحق الذي يجب أن تؤمنوا به وتعبدوه وتوحدوه الله الذي رفع السموات على الأرض بغير عمد مرئية لكم ولكن رفعها بقدرته وبما شاء من سنن. وقوله: {ثم استوى على العرش} أي خلق السموات والأرض ثم استوى على عرشه استواء يليق بذاته وجلاله يدبر أمر الملكوت وقوله: {وسخر الشمس والقمر} أي ذللهما بعد خلقهما يسيران في فلكهما سيراً منتظماً إلى نهاية الحياة، وقوله {كل يجري} أي في فلكه فالشمس تقطع فلكها في سنة كاملة والقمر في شهر كامل وهما يجريان هكذا إلى نهاية الحياة الدنيا فيخسف القمر وتنكدر الشمس وقوله: {يدبر الأمر} أي يقضي ما يشاء في السموات والأرض ويدبر أمر مخلوقاته بالإماتة والإحياء والمنع والإعطاء كيف يشاء وحده لا شريك له في ذلك. وقوله: {يفصل الآيات} أي القرآنية بذكر القصص وضرب الأمثال وبيان الحلال والحرام كل ذلك ليهيئكم ويعدكم للإيمان بلقاء ربكم فتؤمنوا به وتعبدوا الله وتوحدوه في عبادته فتكملوا في أرواحكم وأخلاقكم وتسعدوا في دنياكم وآخرتكم. وقوله تعالى: {وهو الذي مد الأرض} 1 أي بسطها {وجعل فيها رواسي} أي جبالاً ثوابت {وأنهاراً} أي وأجرى فيها أنهاراً {ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} أي نوعين وضربين فالرمان منه الحلو ومنه الحامض والزيتون منه الأصفر والأسود، والتين منه الأبيض والأحمر وقوله: {يغشى الليل النهار} أي يغطي سبحانه وتعالى النهار بالليل لفائدتكم لتناموا وتستريح أبدانكم من عناء النهار وقوله: {إن في ذلك} أي المذكور في هذه الآية الكريمة من مد الأرض وجعل الرواسي فيها وإجراء الأنهار، وخلق أنواع الثمار واغشاء الليل النهار، في كل هذا المذكور {لآيات} أي علامات ودلائل واضحات على وجود الله تعالى وعلمه وقدرته وحكمته وعلى وجوب عبادته وتوحيده وعلى الإيمان بوعده ووعيده، ولقائه وما أعد من نعيم لأوليائه وعذاب لأعدائه، وقوله تعالى: {وفي الأرض قطع متجاورات} 2 أي بقاع من الأرض بعضها إلى جنب بعض متلاحقات هذه تربتها طيبة وهذه تربتها خبيثة ملح سبخة وفي الأرض أيضاً جنات أي بساتين من
__________
1 لمّا ذكر تعالى آياته الكونية في السماء ذكر آياته الكونية في الأرض استدلالاً بها على قدرته وعلمه وحكمنه الموجبة لتوحيده وعبادته دون سواه.
2 أي: وأخرى غير متجاورات فحدفت على حدّ قوله: {سرابيل تقيكم الحرّ} حيث حذف المقابل وهو: تقيكم البرد.

أعناب وفيها زرع ونخيل {صنوان} 1 النخلتان والثلاث في أصل واحد، {وغير صنوان} كل نخلة قائمة على أصلها، وقوله: {تسقى} أي تلك الأعناب والزروع والنخيل {بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل}2 وهو ما يؤكل منها فهذا حلو وهذا حامض وهذا لذيذ وهذا سمج، وقوله: {إن في ذلك} أي المذكور من القطع المتجاورات مع اختلاف الطيب وعدمه وجنات الأعناب والنخيل وسقيها بماء واحد واختلاف طعومها وروائحها وفوائدها {لآيات}3 علامات ودلائل باهرات على وجوب الإيمان بالله وتوحيده ولقائه، ولكن {لقوم يعقلون} أما الذين فقدوا عقولهم لاستيلاء المادة عليها واستحكام الشهوة فيها فإنهم لا يدركون ولا يفهمون شيئاً فكيف إذاً يرون دلائل وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته فيؤمنون به ويعبدونه ويتقربون إليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة الوحي الإلهي ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
2- تقرير عقيدة التوحيد وأنه لا إله إلا الله.
3- تقرير عقيدة البعث الآخر والجزاء على الكسب في الدنيا.
4- فضيلة التفكر في الآيات الكونية.
5- فضيلة العقل للاهتداء به إلى معرفة الحق وإتباعه للإسعاد والإكمال.
وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ
__________
1 الصنو: المثل، ومنه الحديث: "عمَ الرجل صنو أبيه" ولا فرق بين التثنية والجمع في: (صنوان) إلاّ بكسر نون المثنى، وتنوين نون الجمع، فتقول: هذان صنوان وهؤلاء صنوان.
2 كالدقل والحلو والحامض، وبنو آدم كذلك الأصل واحد والخلاف قائم هذا مؤمن وهذا كافر، هذا صالح وهذا فاسد، كما قال الشاعر:
الناس كالنبت والنبت ألوان
منها شجر الصندل والكافور والبان
ومنها شجر ينضح طول الدهر قطران
3 في هذه الآيات دلائل الوحدانية وعظم الصمدية والإرشاد لمن ضل عن معرفته حيث نبّه تعالى بقوله: {متجاورات} ومع تجاورها قطعة عذبة وأخرى ملحة، قطعة طيّبة وأخرى خبيثة كما أنّ التربة واحدة، وتسقى بماء واحد وتختلف طعوم الثمار وألوانه وخصائصه ومنافعه فهذا لن يكون صادراً إلاّ عن ذي قدرة لا تُحدّ وعلم لا ينتهي وحكمة لا يخلو منها شيء، وهو الله تعالى، وأين الطبيعة العمياء الصماء التي لا علم لها ولا إرادة من الله خالق كل شيء العليم بكل شيء؟

جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ(5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ(6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ(7) اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ(8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ(9)
شرح الكلمات:
وإن تعجب: أي يأخذك العجب من إنكارهم نبوتك والتوحيد.
فعجب: أي فأعجب منه إنكارهم للبعث والحياة الثانية مع وضوح الأدلة وقوة الحجج.
لفي خلق جديد: أي نرجع كما كنا بشراً أحياء.
الأغلال في أعناقهم : أي موانع من الإيمان والاهتداء في الدنيا، وأغلال تشد بها أيديهم إلى أعناقهم في الآخر.
بالسيئة: أي بالعذاب.
قبل الحسنة: أي الرحمة وما يحسن بهم من العاقبة والرخاء والخصب.
المثلات: أي العقوبات واحدها مَثُله التي قد أصابت المكذبين في الأمم الماضية.
لولا أنزل عليه: أي هلاَّ أنزل، ولولا أداة تحضيض كهلاَّ.

آية من ربه: أي معجزة كعصا موسى وناقة صالح مثلاً.
ولكل قوم هاد : أي نبي يدعوهم إلى ربهم ليعبدوه وحده ولا يشركون به غيره.
ما تحمل كل أنثى: أي من ذكر أو أنثى واحداً أو أكثر أبيض أو أسمر.
وما تغيض الأرحام: أي تنقص من دم الحيض، وما تزداد منه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة المشركين إلى الإيمان بالتوحيد والنبوة المحمدية والبعث يوم القيامة للحساب والجزاء، فقوله تعالى في الآية الأولى (5) {وإن تعجب} 1 يا نبينا من عدم إيمانهم برسالتك وتوحيد ربك فعجب أكبر هو عدم إيمانهم بالبعث الآخر، إذ قالوا في إنكار وتعجب: {أئذا متنا2 وكنا تراباً أئنا لفي خلق جديد} أي يحصل لنا بعد الفناء والبلى؟ قال تعالى مشيراً إليهم مسجلاً الكفر عليهم ولازمه وهو العذاب {أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال3 في أعناقهم} وهي في الدنيا موانع الهداية كالتقليد الأعمى والكبر والمجاحدة والعناد، وفي الآخرة أغلال توضع في أعناقهم من حديد تشد بها أيديهم إلى أعناقهم، {وأولئك أصحاب النار} أي أهلها {هم فيها خالدون} أي ماكثون أبداً لا يخرجون منها بحال من الأحوال.
وقوله تعالى في الآية الثانية (6) {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة} يخبر تعالى رسوله مقرراً ما قال أولئك الكافرون بربهم ولقائه ونبي الله وما جاء به، ما قالوه استخفافاً واستعجالاً وهو طلبهم العذاب الدنيوي، إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخوفهم من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فهم يطالبون به كقول بعضهم: {فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم،} قبل طلبهم الحسنة وهذا لجهلهم وكفرهم، وإلا لطالبوا بالحسنة التي هي العافية والرخاء والخصب قبل السيئة التي هي الدمار والعذاب.
__________
1 أصل التعجب: تغير النفس بما تخفي أسبابه، والمخاطب في هذا الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون تابعون له.
2 مثل هذا الاستفهام وقع في تسع سور من القرآن في أحد عشر موضعاً ومن القرّاء من استفهم في الموضعين أئذا كنا تراباً ائنا لمبعوثون ومنهم من استفهم في موضع واحد، فمن استفهم في الأول والثاني قصد المبالغة في الإنكار فأتى به في الجملة الأولى وأعاده في الثانية تأكيداً له ومن أتى به مرّة واحدة لحصول المقصود به لأنّ كل جملة مرتبطة بالثانية فإذا أنكر في إحداهما حصل الإنكار في الأخرى (أفادهُ الجمل).
3 الأغلال: جمع غل وهو طوق من حديد تشدّ به اليد إلى العنق.

وقوله تعالى: {وقد خلت من قبلهم المثلات}1 أي والحال أن العقوبات قد مضت في الأمم من قبلهم كعقوبة الله لعاد وثمود وأصحاب الأيكة والمؤتفكات فما لهم يطالبون بها استبعاداً لها واستخفافاً بها أين ذهبت عقولهم؟ وقوله تعالى: {وإن ربك لذو مغفرة للناس2 على ظلمهم} وهو ظاهر مشاهد إذ لو كان يؤاخذ بالظلم لمجرد وقوعه فلم يغفر لأصحابه لما ترك على الأرض من دابة، وقوله: {وإن ربك لشديد العقاب} أي على من عصاه بعد أن أنذره وبين له ما يتقي فلم يتق ما يوجب له العذاب من الشرك والمعاصي.
وقوله تعالى في الآية الثالثة (7) {ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه}! يخبر تعالى رسوله والمؤمنين عن قيل الكافرين بالتوحيد والبعث والنبوة: {لولا} أي هلا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم آية من ربه كعصا موسى وناقة صالح، حتى نؤمن بنبوته ونصدق برسالته، فيرد تعالى عليهم بقوله: {إنما أنت منذر} والمنذر المخوف من العذاب وليس لازماً أن تنزل معه الآيات، وعليه فلا تلتفت إلى ما يطالبون به من الآيات، واستمر على دعوتك فإن لكل قوم3 هادياً وأنت هادي هذه الأمة، وداعيها إلى ربها فادع واصبر.
وقوله تعالى في الآية الرابعة (8) {الله يعلم ما تحمل كل أنثى}4 أي من ذكر أو أنثى واحداً أو أثنين أبيض أو أسمر سعيداً أو شقياً، وقوله: {وما تغيض5 الأرحام وما تزداد} أي ويعلم ما تغيض الأرحام من دماء الحيض6 وما تزداد منها إذ غيضها ينقص من مدة الحمل وازديادها يزيد في مدة الحمل فقد تبلغ السنة أو أكثر، وقوله: {وكل شيء عنده بمقدار} أي وكل شيء في حكمه وقضائه وتدبيره بمقدار معين لا يزيد ولا ينقص في ذات ولا صفة
__________
1 المثلات: جمع مثلة، وهي العقوبة نحو: صدُقة وصدُقات، وتضم الميم وتسكن الثاء مثله كغرفة والجمع مُثل كقُرب وهي العقوبة الشديدة التي تكون مثالاً تمثل بها العقوبات.
2 قال ابن عباس رضي الله عنه هذه أرجى آية في كتاب الله، قال سعيد بن المسيّب، لمّا نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لولا عفو الله ورحمته وتجاوزه لما هنأ أحداً عيشُه ولولا عقابه ووعيده وعذابه لا تكل كل أحد".
3 هادي كل امة رسولها الذي بعث فيها وخلفاء الأنبياء وحواريوهم هداة يهدون من بعدهم والله يهدي من يشاء.
4 قال القرطبي: من ذكر أو أنثى: صَبيحٌ أو قبيح صالح أو طالح. وقوله: {كل أنثى} يفيد عموم كل أنثى في الإنسان والحيوان، وهو كذلك.
5 العادة أن انحباس الحيض دال على العلوق أي: الحمل، وفيضان الدم دال على عدم الحمل، وتفسير الآية بهذا حسن، فالله تعالى يعلم ما تغيض الأرحام من الدم، لانشغال الرحم بالعلقة ثمّ بالجنين، وما تزداد من الدم حتى يفيض عنها، ويخرج، وهو دم من لا حمل لها. وما في التفسير وجه وهذا الوجه أوضح.
6 استدل بالآية من قال: الحامل لا تحيض وهو أبو حنيفة. والجمهور على أنها تحيض كما استدل بها كل من قال: الحمل تزيد مدته إلى أربع سنوات، وهو الجمهور، وخالف الظاهرية في ذلك.

ولا حال، ولا زمان ولا مكان، وقوله: {عالم الغيب والشهادة} أي كل ما غاب عن الخلق، وما لم يغب عنهم مما يشاهدونه أي العليم بكل شيء، وقوله: {الكبير المتعال} أي الذي لا أكبر منه وكل كبير أمامه صغير المتعال على خلقه المنزه عن الشريك والشبيه والصاحبة والولد هذا هو الله وهذه صفاته فهل يليق بعاقل أن ينكر استحقاقه للعبادة دون سواه؟ فهل يليق بعاقل أن ينكر عليه أن يوحي بما شاء على من شاء من عباده؟ فهل يليق بعاقل أن ينكر على من هذه قدرته وعلمه أن يحيي العباد بعد أن يميتهم ليسألهم عن كسبهم ويحاسبهم عليه ويجزيهم به؟ اللهم لا إذاً فالمنكرون على الله ما دعاهم إلى الإيمان به لا يعتبرون عقلاء وإن طاروا في السماء وغاصوا في الماء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1-تقرير أصول العقيدة الثلاثة: التوحيد والنبوة البعث والجزاء الآخر.
2- صوارف الإيمان والتي هي كالأغلال ير التقليد الأعمى، والكبر والعناد.
3- عظيم قدرة الله تعالى وسعة علمه.
4-تقرير عقيدة القضاء والقدر.
سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ(10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ(11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا

وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ(12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ(13)
شرح الكلمات:
وسارب بالنهار: أي ظاهر في سربه أي طريقه.
له معقبات : أي ملائكة تتعقبه بالليل والنهار.
من أمر الله: أي بأمر الله تعالى وعن إذنه وأمره.
لا يغير ما بقوم: أي من عافية ونعمة إلى بلاء وعذاب.
ما بأنفسهم : من طهر وصفاء بالإيمان والطاعات إلى الذنوب والآثام.
وما لهم من دونه من وال : أي وليس لهم من دون الله من يلبي أمرهم فيدفع عنهم العذاب.
من خيفته: أي من الخوف منه وهيبته وجلاله.
وهو شديد المحال: أي القوة والمماحلة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر جلال الله وعظيم قدرته وسعة علمه، قال تعالى في هذه الآية: {سواء منكم1 من أسر القول ومن جهر به} فالله يعلم السر والجهر وأخفى {ومن هو مستخف بالليل} يمشى في ظلامه ومن هو {سارب بالنهار} أي يمشي في سربه2 وطر يقه مكشوفاً معلوماً لله تعالى، وقوله تعالى: {له معقبات3 من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من
__________
1 هذه الآية كالنتيجة لما تقدم من الدلائل على علم الله وقدرته وحكمته الموجبة لألوهيته وفيها تعريض بالمشركين المتآمرين على قتل النبي صلى الله عليه وسلم أو أذيته، وسواء: بمعنى مستو، وهو اسم يكون بين شيئين كالسر هنا والجهر أي: مستوى عنده السر والجهر.
2 السَّرب: بفتح السين وسكون الراء: الطريق، والسارب: اسم فاعل من سرب إذا ذهب.
3 جمع معقبة وهو مأخوذ من العقب الذي هو مؤخر الرجل فكل من اتبع آخر فقد تعقبه فهو متعقِّب له، وعقبه يعقبه فهو عاقب له: إذا جاء بعده، والمعقبات هنا: الملائكة لحديت "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار" إذا صعدت ملائكة النهار أعقبتها ملائكة الليل وهكذا.

أمر الله} جائز أن يعود الضمير في "له" على من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار، فيكون المراد من المعقبات الحرس والجلاوزة الذين يحرسون السلطان من أمر الله تعالى في نظرهم، ولكن إذا أراده الله بسوء فلا مرد له وما له من دون الله من وال يتولى حمايته والدفاع عنه، وجائز أن يعود على الله تعالى ويكون المراد من المعقبات الملائكة الحفظة1 والكتبة للحسنات والسيئات ويكون معنى من أمر الله2 أي بأمره تعالى وإذنه، والمعنى صحيح في التوجيهين للآية وإلى الأول ذهب ابن جرير وإلى الثاني ذهب جمهور المفسرين، وقوله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} يخبر تعالى عن سنة من سننه في خلقه ماضية فيهم وهي أنه تعالى لا يزيل نعمة أنعم بها على قوم من عافية وأمن ورخاء بسبب إيمانهم وصالح أعمالهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من طهارة وصفاء بسبب ارتكابهم للذنوب وغشيانهم للمعاصي نتيجة الإعراض عن كتاب الله وإهمال شرعه وتعطيل حدوده والانغماس في الشهوات والضرب في سبيل الضلالات، وقوله تعالى: {وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال} هذا إخبار منه تعالى بأنه إذا أراد بقوم أو فردٍ أو جماعة سوءاً ما أي ما يسوءهم من بلاء وعذاب فلا مرد له بحال من الأحوال بل لا بد وأن يمسهم، ولا يجدون من دون الله من وال يتولى صرف العذاب عنهم، أما من الله تعالى فإنهم إذا أنابوا إليه واستغفروه وتابوا إليه فإنه تعالى يكشف عنهم السوء ويصرف عنهم العذاب، وقوله تعالى: {هو الذي يريكم البرق خوفاً} من الصواعق من جهة وطمعاً في المطر من جهة أخرى {وينشىء السحاب الثقال} أي وهو الذي ينشئ3 أي يبدء السحاب الثقال الذي يحمل الأمطار {ويسبح الرعد بحمده}4 أي وهو الذي يسبح الرعد بحمده وهو ملك موكل بالسحاب يقول:
__________
1 الحفظة: جمع حافظ: ملائكة موكلون بالعبد يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من الجن، والشياطين، فإذا جاء أمر الله أي: قدره تخلّوا عنه والكتبة: جمع كاتب: ملك يكتب الحسنات وآخر يكتب السيئات.
2 ذكر القرطبي: أن العلماء رحمهم الله تعالى ذكروا أن الله سبحانه وتعالى جعل أوامره على وجهين. أحدهما: قضى وقوعه وحلوله بصاحبه فهذا لا يدفعه أحد، والثاني: قضى مجيئه ولم يقض حلوله ووقوعه بل قضى صرفه بالتوبة والدعاء والصدقة.
3 إنشاء السحاب: تكوينه من عدم بإثارة الأبخرة التي تتجمع سحاباً، والسحاب اسم جمع لسحابة، وسميت سحابة لأنها تسحب من مكان إلى مكان.
4 الباء للملابسة: أي يسبّح الله تسبيحاً ملابساً لحمده، والتسبيح، التنزيه.

سبحان الله وبحمده، وقوله: {والملائكة1 من خيفته}2 أي خيفة الله وهيبته وجلاله فهي لذلك تسبحه أي تنزهه عن الشريك والشبيه والولد بألفاظ يعلمها الله تعالى، وقوله تعالى: {ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله}3 أي في وجوده وصفاته وتوحيده وطاعته {وهو شديد المحال}4 هذه الآية نزلت فعلاً في رجل5 بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من يدعوه إلى الإسلام فقال الرجل الكافر لمن جاء من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رسول الله؟ وما الله أمن ذهب هو أم من فضة أم من نحاس؟ فنزلت عليه صاعقة أثناء كلامه فذهبت بقحف رأسه، ومعنى شديد المحال أي القوة والأخذ والبطش.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- سعة علم الله تعالى.
2- الحرس والجلاوزة لمن يستخدمهم لحفظه من أمر الله تعالى لن يغنوا عنه من أمر الله شيئاً.
3- تقرير عقيدة أن لكل فرد ملائكة يتعاقبون عليه بالليل والنهار منهم الكرام الكاتبون، ومنهم الحفظة للإنسان من الشياطين والجان.
4- بيان سنة أن النعم لا تزول إلا بالمعاصي.
5- استحباب قول سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته عند سماع الرعد لورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ مختلفة.
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ
__________
1 والملائكة تسبح أيضاً من خوف الله تعالى.
2 {من خيفته} من: تعليلية أي: لأجل الخوف منه تعالى.
3 {يجادلون}: المفعول محذوف تقديره: يجادلونك وأتباعك المؤمنين في شأن توحيد الله تعالى ولقائه ونبوة رسوله صلى الله عليه وسلم.
4 (المحال) إن كان من الحول والميم زائدة فهو بمعنى شديد القوى، وإن كانت الميم أصلية فالمحال: بكسر الميم: فهو فِعال بمعنى الكيد، وفعله محل وتمحّل إذا تحيّل، إذ المجادلون كانوا يتحيلون في أسئلتهم، فأعلمهم الله أنه أقوى منهم، وأشد كيداً منهم.
5 قيل: نزلت في يهودي، وقيل: في أربد بن ربيعة، وعامر بن الطفيل، وقد هلك أربد بصاعقة نزلت به، وهلك عامر بغدة نبتت في جسمه فمات منها وهو في بيت امرأة من بني سلول.

كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ(14) وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ(15) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(16)
شرح الكلمات:
له دعوة الحق : أي لله تعالى الدعوة1 الحق أي فهو الإله الحق الذي لا إله إلا هو.
ليبلغ فاه : أي الماء فمه.
إلا في ضلال : أي في ضياع لا حصول منه على طائل.
بالغدو والآصال: أي البُكُر جمع بكرة، والعشايا جمع عشية.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير عقيدة التوحيد بالأدلة والبراهين، قال تعالى: {له دعوة الحق} أي لله سبحانه وتعالى الدعوة الحق وهي أنه الإله الحق الذي لا إله إلا هو، أما غيره فإطلاق لفظ الإله إطلاق باطل، فالأصنام والأوثان وكل ما عبد من دون الله إطلاق لفظ إله عليه إطلاق باطل، والدعوة إلى عبادته باطلة، أما الدعوة الحق فإنها لله وحده.
وقوله تعالى: {والذين يدعون من دونه} أي من دون الله من سائر المعبودات {لا يستجيبون لهم بشيء} أي لا يجيبونهم بإعطائهم شيئاً مما يطلبون منهم {إلا كباسط
__________
1 أي: الدعوة الصدق لله تعالى لأنه هو الذي يستجيب ويعطي السؤال وأما دعوة الأصنام، فإنها دعوة كذب وباطل، فإطلاق الإله على الله إطلاق حق وصدق، وإطلاق إله على صنم أو مخلوق فهو إطلاق كذب وباطل.

كفيه إلى الماء}1 أي إلا كاستجابة2 من بسط يديه أي فتحهما ومدهما إلى الماء والماء في قعر البئر فلا كفاه تصل إلى الماء ولا الماء يصل إلى كفيه وهو عطشان ويظل كذلك حتى يهلك عطشاً، هذا مثل من يعبد غير الله تعالى بدعاء أو ذبح أو نذر أو خوف أو رجاء فهو محروم الاستجابة خائب في مسعاه ولن تكون له عاقبة إلا النار والخسران وهو معنى قوله تعالى {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال}3 أي بطلان وخسران، وقوله تعالى: {ولله يسجد من في السماوات} أي الملائكة {والأرض} أي من مؤمن يسجد طوعاً، ومنافق أي يسجد كرها، 4 {وظلالهم} تسجد أيضاً {بالغدو} أوائل النهار، {والآصال}5 أواخر النهار.
ومعنى الآية الكريمة: إذا لم يسجد الكافرون أي لم ينقادوا لعبادة الله وحده تعالى فإنَّ لله يسجد من في السماوات من الملائكة، ومن في الأرض من الجن والإنس المؤمنون يسجدون طائعين والكافرون يسجدون إذا أكرهوا على السجود والمنافقون يسجدون مكرهين، وظلالهم تسجد في البكر والعشايا كما أنهم منقادون لقضاء الله تعالى وحكمه فيهم لا يستطيعون الخروج عنه بحال فهو الذي خلقهم وصورهم كما شاء ورزقهم ما شاء ويميتهم متى شاء فأي سجود وخضوع وركوع أظهر من هذا؟ وقوله تعالى: {قل من رب السماوات والأرض} أي من خالقهما ومالكهما ومدبر الأمر فيهما؟ وأمر رسوله أن يسبقهم إلى الجواب {قل الله} إذ لا جواب لهم إلا هو، وبعد أن أقروا بأن الرب الحق هو الله، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم موبخاً مقرعاً {أفاتخذتم من دونه أولياء6} ، أي شركاء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فضلاً عن أن يملكوا لكم نفعاً أو يدفعون عنكم ضراً فأين يذهب بعقولكم أيها المشركون، ومبالغة في البيان وإقامة للحجة والبرهان على وجوب التوحيد وبطلان الشرك والتنديد أمر رسوله أن يقول لهم: {هل يستوى الأعمى
__________
1 ضرب الله تعالى هذا المثل المائي لأن العرب تضرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلا بالقابض الماء باليد، قال الشاعر:
فأصبحت فيما كان بيني وبينها
من الودّ مثل القابض الماء باليد
2 هذا التفسير مروي عن علي رضي الله عنه.
3 الضلال: التلف والضياع، والجملة. بيان لخيبة المشركين في عبادة أصنامهم ودعائها وتقرير لخسرانهم.
4 وكافر يسجد بخضوعه لأحكام الله تعالى الجارية عليه ولا يقدر على ردّها من غِنى وفقر، وصحة ومرض وسعادة وشقاوة.
5 الآصال: جمع أصل: وهو جمع أصيل وهو ما بين العصر والمغرب. وجمع الجمع أصائل، قال الشاعر:
لعمري لأنت البيت أكرم أهلّه
وأقعد في أفيائه بالأصائل
6 الاستفهام للتوبيخ والتقرير.

والبصير، أم هل تستوي الظلمات والنور1}؟ والجواب قطعاً لا إذاً فكيف يستوى المؤمن والكافر، وكيف يستوي الهدى والضلال، فالمؤمن يعبد الله على بصيرة على علم أنه خالقه ورازقه يعلم سره ونجواه يجيبه إذا دعاه أرسل إليه رسوله وأنزل عليه كتابه، والكافر المشرك يعبد مخلوقاً من مخلوقات الله لا تملك لنفسها فضلاً عن عابديها نفعاً ولا ضراً لا تسمع نداءً ولا تجيب دعاء، المؤمن يعبد الله بما شرع له من عبادات وبما طلب منه من طاعات وقربات، والكافر المشرك يعبد الباطل بهواه، ويسلك سبيل الغيّ في الحياة.
وقوله: {أم جعلوا2 لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم} أي بل جعلوا لله شركاء فخلقت تلك الشركاء مخلوقات كخلق الله فتشابه الخلق على المشركين فعبدوها ظناً منهم أنها خلقت كخلق الله؟ والجواب لا فإنها لم تخلق ولا تستطيع خلق ذبابة فضلاً عن غيرها إذاً فكيف تصح عبادتها وهي لم تخلق شيئاً، وقوله تعالى: {قل الله خالق كل3 شيء وهو الواحد القهار} أي قل أيها الرسول للمشركين عند اعترافهم بأن آلهتهم لم تخلق شيئاً قل لهم: الله خالق كل شيء وهو الواحد الذي لا شريك له ولا ند ولا مِثْلَ، القهار لكل جبار والمذل لكل معاند كفار، هو المستحق للعبادة الواجب له الطاعة، الإيمان به هدى والكفر به ضلال.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- دعوة الحق لله وحده فهو المعبود بحق لا إله غيره ولا رب سواه.
2- حرمان المشركين من دعائهم وسائر عباداتهم.
3- الخلق كلهم يسجدون لله طوعاً أو كرهاً إذ الكل خانع خاضع لحكم الله وتدبيره فيه.
__________
1 أم: للإضراب الانتقالي من قضية إلى أخرى واختيار العمى والبصر والنور والظلمات لبيان أنّ حال المؤمنين وحال الكافرين في تضاد فالمؤمنون مبصرون يمشون في النور، والكافرون عمي يمشون في الظلمات.
2 هذا من تمام الاحتجاج والاستفهام للإضراب الانتقالي، وهو للتهكم بالمشركين، فالمعنى: لو جعلوا لله شركاء يخلقون فخلقوا كما يخلق الله فتشابه الخلق عليهم لكانوا معذورين ولكنهم لم يخلقوا ولن يخلقوا.
3 في الآية رد على الملاحدة الشيوعيين الذين يكرون وجود الله جل جلاله ورد على القدرية الذين يزعمون أنهم يخلقون أفعالهم والله يقول: {والله خالق كل شيء} فلا يخرج شيء عن كونه مخلوقاً لله تعالى.

4- مشروعية السجود للقارئ والمستمع إذا بلغ هذه الآية {وظلالهم بالغدو والآصال} ويستحب أن يكون ظاهراً مستقبلاً القبلة، ويكبر عند الخفض والرفع ولا يسلم.
5- بطلان الشرك إذ لا دليل عليه من عقل ولا نقل1.
6- وجوب العبادة لله تعالى.
أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ(17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(18)
شرح الكلمات:.
فسالت أودية بقدرها: أي بمقدار مائها الذي يجري فيها.
زبداً رابياً: أي غثاء عالياً إذ الزبد هو وَضَرُ غليان الماء أو جريانه في الأنهار.
ومما يوقدون عليه في النار: أي كالذهب والفضة والنحاس.
ابتغاء حلية أو متاع2 .: أي طلباً لحلية من ذهب أو فضة أو متاع من الأواني.
زبد مثله: أي مثل زبد السيل.
فأما الزبد: أي زبد السبل أو زبد ما أوقد عليه النار.
__________
1 إذ الحقل لا يُجيز عبادة مخلوق مربوب لا يملك لنفسه فضلاً عن غيره موتاً ولا حياة بل ولا ضراً ولا نفعاً والنقل حرّم الشرك بجميع أنواعه الأكبر والأصغر والخفي والجلي قال تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً} من الشرك والشركاء.
2 {ابتغاء}: مفعول لأجله، والحلية: ما يتحلى به، أي يتزيّن، والمتاع ما يتمتع به وينتفع.

فيذهب جفاء1 : أي باطلاً مرمياً به بعيداً إذ هو غثاء ووضر لا خير فيه.
فيمكث في الأرض: أي يبقى في الأرض زمناً ينتفع به الناس.
للذين استجابوا لربهم الحسنى : أي للذين آمنوا وعملوا الصالحات الجنة.
لم يستجيبوا: أي لم يؤمنوا به ولم يطيعوه.
لافتدوا به: أي من العذاب.
سوء المهاد: وهي المؤاخذة بكل ذنب عملوه لا يغفر لهم منه شيء.
وبئس المهاد: أي الفراش الذي أعدوه لأنفسهم وهو جهنم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير التوحيد والتنديد بالكفر والشرك ففي هذه الآية الكريمة ضرب الله تعالى مثلاً للحق والباطل، للحق في بقائه، والباطل في اضمحلاله وتلاشيه فقال: {أنزل} أي الله {من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها2} أي بحسب كبرها وصغرها لأن الوادي قد يكون كبيراً وقد يكون صغيراً، فاحتمل السيل أي حمل سيل الماء في الوادي زبداً رابياً أي غثاء ووضراً عالياً على سطح الماء، هذا مثل مائي، ومثل ناري قال فيه عز وجل: {ومما يوقدون عليه في النار3} أي ومما يوقد عليه الصاغة والحدادون {ابتغاء حلية} أي طلباً للحلية ، {أو متاع} أي طلباً لمتاع يتمتع به كالأوانى إذ الصائغ أو الحداد يضع الذهب أو الفضة أو النحاس في البوتقة وينفخ عليها بالكير فيعلو ما كان فاسداً غير صالح على صورة الزبد4 وما كان صالحاً يبقى في البوتقة وهو الذي يصنع منه الحلية والمتاع، وقوله تعالى: {كذلك} أي المذكور من الأمور الأربعة مثلي الحق وهما الماء والجوهر ومثلي الباطل وهما زبد الماء وزبد الجوهر {فأما الزبد فيذهب جفاء} أي باطلاً
__________
1 الجفاء: ما أجفاه الوادي أي: رمى به.
2 {أودية} جمع واد، والوادي اسم للماء السائل هنا إذ الوادي وهو أخدود بين مرتفعين لا يسيل وإنما يسيل الماء فيه، ومعنى: {بقدرها}: أي: بقدر ملئها.
3 هذا المثل الثاني والأول هو مثل الماء السائل في الوادي وما يحمل من زبد عالٍ.
4 هو معنى قوله تعالى: {زبد مثله} أي زبد ما يعلو الذهب والفضة والحديد كزبد ما يعلو ماء السيل.

مرمياً به يرميه السيل إلى ساحل الوادي فيعلق بالأشجار والأحجار ويرميه الصائغ عن بوتقته، وأما ما ينفع الناس من الماء للسقي والري فيمكث في الأرض، وكذا ما ينفع من الحلي والمتاع يبقى في بوتقة الصائغ1 والحداد وقوله تعالى: {كذلك يضرب الله الأمثال} أي مثل هذا المثل الذي ضربه للحق في بقائه والباطل في ذهابه وتلاشيه وإن علا وطغا في بعض الأوقات، {يضرب} أي بين الأمثال، ليعلموا فيؤمنوا ويهتدوا فيكملوا ويسعدوا.
هذا ما تضمنته الآية الأولى (17) وأما الآية الثانية (18) فقد أخبر تعالى بوعد له ووعيد أما وعده فلأهل طاعته بأن لهم الحسنى2 الجنة وأما وعيده فلأهل معصيته وهو أسوأ وعيد وأشده، 3 فقال تعالى في وعده: {للذين استجابوا لربهم الحسنى} وقال في وعيده: {والذين لم يستجيبوا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً} أي من مال ومتاع {ومثله معه} أيضاً لافتدوا به من العذاب الذي تضمنه هذا الوعيد الشديد، ويعلن عن الوعيد فيقول: {أولئك} أي الأشقياء {لهم سوء الحساب} وهو أن يحاسبوا على كل صغيرة وكبيرة في أعمالهم ولا يغفر لهم منها شيء {ومأواهم جهنم} أي مقرهم ومكان إيوائهم {وبئس المهاد} أي الفراش جهنم لهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.
2- ثبات الحق، واضمحلال الباطل سنة من سنن الله تعالى.
3- بيان وعد الله للمستجيبين له بالإيمان والطاعة وهي الجنة.
4- بيان وعيد الله لمن يستجب له بالإيمان والطاعة.
__________
1 هذا مثل للحق والباطل إذا اجتمعا فإنه لإثبات للباطل ولا دوام له مثل الزبد مع الماء أو مع الحلية لا يبقى بل يذهب ويتلاشى ويضمحل والمراد من الحق والباطل: الإيمان والكفر، واليقين بذلك.
2 ومن الحسنى: النصر في الدنيا والتمكين فيها لأهل التوحيد.
3 وهو النار وبئس المهاد.

أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ(19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ(20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ(21) وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ(22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ(24)
شرح الكلمات:
كمن هو أعمى : أي لا يرى الحق ولا يعلمه ولا يؤمن به.
أولوا الألباب : أي أصحاب العقول.
يصلون ما أمر الله به أن يوصل : أي من الإيمان والتوحيد والأرحام.
ويدرءون بالحسنة: أي يدفعون بالحلم الجهل، وبالصبر الأذى.
عقبى الدار: أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة.
جنات عدن : أي جنات إقامة دائمة.
معنى الآيات:
لقد تضمنت هذه الآيات مقارنة ومفاضلة بين شخصيتين: الأولى شخصية مؤمن صالح كحمزة بن عبدالمطلب والثانية شخصية كافر فاسد كأبي جهل المخزومي وبين ما

لهما من جزاء في الدار الآخرة، مع ذكر صفات كل منهما، تلك الصفات المقتضية لجزائهما في الدار الآخرة قال تعالى: {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق} فيؤمن به بعد العلم ويستقيم على منهجه في عقيدته وعبادته ومعاملاته وسلوكه كله. هذه الشخصية الأولى {كمن هو أعمى1} لم يعلم الحق ولم يؤمن به ولم يعمل بما أنزل إلى الرسول من الشرع..
والجواب قطعاً أنهما لا يستويان ولا يكونان في ميزان العدل والحق متساويين وقوله تعالى: {إنما يتذكر أولو الألباب} أي يتعظ بمثل هذه المقارنة أصحاب العقول المدركة للحقائق والمفرقة بين المتضادّات كالحق والباطل والخير والشر والنافع والضار. وقوله تعالى: {الذين يوفون} هذا مشروع في بيان صفاتهم المقتضية إنعامهم وإكرامهم نذكر لهم ثماني صفات هي كالتالي: (1) الوفاء بالعهود وعدم نقضها: {الذين يوفون بعهد2 الله ولا ينقضون الميثاق}3 إذ لا دين لمن لا عهد له. (2) وصل ما أمر الله به أن يوصل من الإيمان والإسلام والإحسان والأرحام: {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل}. (3) خشية الله المقتضية لطاعته: {ويخشون ربهم}. (4) الخوف من سوء الحساب يوم القيامة المقتضي لمحاسبة النفس على الصغيرة والكبيرة: {ويخافون سوء الحساب}. (5) الصبر طلبا لمرضاة الله على الطاعات وعن المعاصي، وعلى البلاء: {والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم}. (6) إقامة الصلاة وهي أداؤها في أوقاتها جماعة بكامل الشروط والأركان والسنن والآداب: {وأقاموا الصلاة}. (7) الإنفاق مما رزقهم الله في الزكاة والصدقات الواجبة والمندوبة: {وأنفقوا مما رزقناهم}. (8) دفع السيئة بالحسنة فيدرءون سيئة الجهل عليهم بحسنة العلم، وسيئة الأذى بحسنة4 الصبر.
وقوله تعالى: {أولئك لهم عقبى الدار} أي العاقبة المحمودة وفسرها بقوله (جنات عدن} أ ي إقامة لا ظعن منها يدخلونها هم {ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذريّاتهم}
__________
1 المراد من العمى هنا : عمى القلب لا عمى البصر، والجهل هو سبب العمى.
2 العهد هنا: اسم جنس إذ المراد الوفاء بكافة عهود الله تعالى وهي أوامره ونواهيه التي وصي بها عباده.
3 الميثاق هنا: أيضاً اسم جنس يدخل فيه كل المواثيق أي: إذا عقدوا في طاعة الله عهداً لم ينقضوه، قال قتادة: ورد النهي عن نقض الميثاق في بضع وعشرين آية.
4 وسيئة المعصية بالتوبة منها. واللفظ العام الشامل هو أنهم يدفعون بالعمل الصالح كل عمل فاسد.

والصلاح هنا الإيمان والعمل الصالح. وقوله: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب} هذا عند دخولهم الجنة تدخل عليهم الملائكة تهنئهم بسلامة الوصول وتحقيق المأمول وتسلم عليهم قائلة: {سلام عليكم بما صبرتم} أي بسبب صبركم والإيمان والطاعة {فنعم عقبى الدار}1 . هذه تهنئة الملائكة لهم وأعظم بها تهنئة وأبرك بها بركة اللهم اجعلني منهم ووالدي وأهل بيتي والمسلمين أجمعين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- المؤمن حيّ يبصر ويعلم ويعمل والكافر ميت أعمى لا يعلم ولا يعمل.
2- الاتعاظ بالمواعظ يحصل لذي عقل راجح سليم.
3- فضل هذه الصفات الثمانية المذكورة في هذه الآيات. أولها الوفاء بعهد الله وآخرها درء السيئة بالحسنة.
4- تفسير عقبى الدار2 وأنها الجنة.
5- بيان أن الملائكة تهنىء أهل الجنة عند دخولهم وتسلم عليهم.
وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ(25) اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ(26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ(27) الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ
__________
1 جائز أن يكون معنى عقبى الدار: الجنسة وجائز أن يكون عقبى الدار: دار الدنيا إذ عقباها الدار الآخرة وفيها الجنة، إذا كانوا في دار الدنيا يعملون الصالحات فورثهم الله الجنة فكانت عقبى الدنيا إذ عقبى الدار بمعنى عاقبتها.
2 أي: فعقبى دار الدنيا الجنة هذا كقوله والعاقبة للتقوى، وقوله {ولنعم دار المتقين} أي الجنة.

قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ(28) الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ(29)
شرح الكلمات:
والذين ينقضون عهد الله: أي يحلونه ولا يلتزمون به فلم يعبدوا ربهم وحده.
ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل : أي من الإيمان والأرحام.
ويفسدون في الأرض.: أي بترك الصلاة ومنع الزكاة، وبارتكاب السيئات وترك الحسنات.
لهم اللعنة : أي البعد من رحمة الله تعالى.
ولهم سوء الدار: أي جهنم وبئس المهاد.
ويقدر : أي يضيق ويقتر.
إلا متاع: قدر يسير يمتع به زمناً ثم ينقضي.
طوبى لهم وحسن مآب: أي لهم طوبى شجرة في الجنة وحسن منقلب وهو دار السلام.
معنى الآيات:.
قوله تعالى: {والذين ينقضون} الآيات، هذا هو الطرف المقابل أو الشخصية الثانية وهو من لم يعلم ولم يؤمن كأبي جهل المقابل لحمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه ذكر تعالى هنا صفاته الموجبة لعذابه وحرمانه فذكر له ولمن على شاكلته الصفات التالية:
(1) نقض العهد فلم يعبدوا الله ولم يوحدوه وهو العهد الذي أخذ عليهم في عالم الأرواح: {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه}.
(2) قطع ما أمر الله به أن يوصل من الإيمان1 وصلة الأرحام: {ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل}.
__________
1 أي بسائر الأنبياء فلا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض كاليهود والنصارى.

(3) الإفساد في الأرض بالشرك والمعاصي: {ويفسدون في الأرض1}، بهذه الصفات استوجبوا هذا الجزاء، قال تعالى: {أولئك لهم اللعنة} أي البعد من الرحمة {ولهم سوء2 الدار} أي جهنم وبئس المهاد، وقوله تعالى: {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا، وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} يخبر تعالى عن سنة من سننه في خلقه وهي أنه يبسط الرزق أي يوسعه على من يشاء امتحانا هل يشكر أم يكفر ويضِّيق ويقتِّر على من يشاء ابتلاء هل يصبر أو يجزع، وقد يبسط الرزق لبعض إذ لا يصلحهم إلا ذاك، وقد يضيق على بعض إذ لا يصلحهم إلا ذاك، فلن يكون الغنى دالاً على رضى الله، ولا الفقر دالاً على سخطه تعالى على عباده، وقوله: {وفرحوا بالحياة الدنيا} أي فرح أولئك الكافرون بالحياة الدنيا لجهلهم بمقدارها وعاقبتها وسوء آثارها وما الحياة الدنيا بالنسبة إلى ما أعد الله لأوليائه وهم أهل الإيمان به وطاعته إلا متاع قليل كَكَفِّ التمر أو قرص الخبز يعطاه الراعي غذاء له طول النهار ثم ينفد، وقوله تعالى في الآية (27): {ويقول الذين كفروا لولا أنزل3 عليه آية من ربه} فقد تقدم مثل هذا الطلب من المشركين وهو مطالبة المشركين النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون له آية كناقة صالح أو عصا موسى ليؤمنوا به وهم في ذلك كاذبون فلم يحملهم على هذا الطلب إلا الاستخفاف والعناد وإلا آيات القرآن أعظم من آية الناقة والعصا، فلذا قال تعالى لرسوله: {قل إن الله يضل من يشاء} إضلاله ولو رأى وشاهد ألوف الآيات {4ويهدي إليه من أناب} لو لم ير آية واحدة إلا أنه أناب إلى الله فهداه إليه وقبله وجعله من أهل ولايته، وقوله تعالى في الآية (28) {الذين5 آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله} أولئك الذين أنابوا إليه تعالى إيماناً وتوحيداً فهداهم إليه صراطاًمستقيماً هؤلاء تطمئن قلوبهم أي تسكن وتستأنس بذكر الله وذكر وعده وذكر صالحي عباده محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقوله تعالى: {ألا بذكر الله تطمئن
__________
1 أي بالشرك وارتكاب المعاصي.
2 أي سوء المنقلب وهو جهنم.. قال سعد ابن أبي وقاص: والله الذي لا إله إلاّ هو أنهم الحرورية: بمعنى الخوارج.
3 المطالبون بالآيات المقترحون لها على رسول الله صلى الله عليه وسلم. من بينهم عبدالله بن أمية وأصحابه.
4 الضمير في قوله: {ويهدي إليه من أناب}: يعود على الحق أو الإسلام أو الله عز وجل. أي يهدي إلى جنته وطاعته من رجع إليه بقلبه والكل صالح ومراد.
5 الذين: في محل نصب لأنه مفعول يهدي، وتصح أن بكون بدلاً من قوله: {أناب} وذكر الله هو ذكره بألسنتهم وبقلوبهم وهو يشمل ذكر الوعد والوعيد وكمال الله كما يشمل قراءة كتابه وتلاوة آياته قال مجاهد: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحقاً هم ومن يأتي بعدهم يهج نهجهم في الإيمان والتقوى.

القلوب} أي قلوب المؤمنين أما قلوب الكافرين فإنها تطمئن لذكر الدنيا وملاذها وقلوب المشركين تطمئن لذكر أصنامهم، وقوله تعالى: {الذين آمنوا1 وعملوا الصالحات طوبى2 لهم وحسن مآب} إخبار من الله تعالى بما أعد لأهل الإيمان والعمل الصالح وهو طوبى حال من الحسن الطيب يعجز البيان عن وصفها أو شجرة في الجنة وحسن منقلب وهو الجنة دار السلام والنعيم المقيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة الاتصاف بصفات أهل الشقاء وهي نقض العهد، وقطع ما أمر الله به أن يوصل والإفساد في الأرض بالشرك والمعاصي.
2- بيان أن الغنى والفقر يتمان حسب علم الله تعالى امتحاناً وابتلاءً فلا يدلان على رضا الله ولا على سخطه.
3- حقارة الدنيا وضآلة ما فيها من المتاع.
- 4- فضل ذكر الله وسكون القلب إليه.
5- وعد الله تعالى لأهل الإيمان والعمل الصالح بطوبى وحسن المآب.
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ(30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ
__________
1 الذين آمنوا، هذا مبتدأ ، والخبر: طوبى لهم وحسن مآب يعطف عليه، وطوبى ورد أنها شجرة في الجنة، ففي البخاري: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها".
2 {طوبى} مصدر طاب يطيب طيباً إذا أحسن وهي بوزن البشرى، والزّلفى قلبت ياؤها واواً لمناسبة الضمة قبلها أي: الخير الكامل لأنهم اطمأنت قلوبهم بذكر الله فهم في طيب حال.

بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ(32) وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ(33)
شرح الكلمات.:
كذلك أرسلناك: أي مثل ذلك الإرسال الذي أرسلنا به رسلنا أرسلناك.
لتتلو عليهم : أي لتقرأ عليهم القرآن تذكيراً وتعليماً ونذارة وبشارة.
وهم يكفرون بالرحمن : إذ قالوا وما الرحمن وقالوا لا رحمن إلا رحمان اليمامة.
سيرت به الجبال: أي نقلت من أماكنها.
أو قطعت به الأرض : أي شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً.
أو كلم به الموتى: أي أحيوا وتكلموا.
أفلم ييأس : أي يعلم.
قارعة: أي داهية تقرع قلوبهم بالخوف والحزن وتهلكهم وتستأصلهم.
أو تحل قريباً من دارهم : أي القارعة أو الجيش الإسلامي.
فأمليت : أي أمهلت وأخرت مدة طويلة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير أصول العقائد: التوحيد والنبوة والبعث والجزاء الأخر ففي الآية الأولى من هذا السياق وهي توله تعالى {كذلك أرسلناك} فقرر نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم

بقوله كذلك أي الإرسال1 الذي أرسلنا من قبلك أرسلناك أنت إلى أمة قد خلت من قبلها أمم، وبين فائدة الإرسال فقال: {لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك} وهو الرحمة والهدى والشفاء {وهم يكفرون بالرحمن} الرحمن2 الذي أرسلك لهم بالهدى ودين الحق لإكمالهم وإسعادهم يكفرون به، إذاً فقل أنت أيها الرسول هو ربي لا إله إلا هو أي لا معبود بحق إلا هو عليه توكلت وإليه متاب أي توبتي ورجوعي فقرر بذلك مبدأ التوحيد بأصدق عبارة وقوله تعالى في الآية الثانية (31) {ولو أن قرآنا}ا لخ.. لا شك أن مشركي مكة كانوا طالبوه3 بما ذكر في هذه الآية إذ قالوا إن كنت رسولاً فادع لنا ربك فيسر عنا هذه الجبال التي تكتنف وادينا فتتسع أرضنا للزراعة والحراثة وقطع أرضنا فأخرج لنا منها العيون والأنهار وأحي لنا فلاناً وفلاناً حتى نكلمهم ونسألهم عن صحة ما تقول وتدعي بأنك نبي فقال تعالى: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى} أي لكان هذا القرآن، ولكن ليست الآيات4 هي التي تهدي بل لله الأمر جميعاً يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ولما صرفهم الله تعالى عن الآيات الكونية لعلمه تعالى أنهم لو أعطاهم إياها لما آمنوا عليها فيحق عليهم عذاب الإبادة كالأمم السابقة، وكان من المؤمنين من يود الآيات الكونية ظناً منه أن المشركين لو شاهدوا آمنوا وانتهت المعركة الدائرة بين الشرك والتوحيد قال تعالى: {أفلم ييأس5 الذين آمنوا} أي يعلموا {أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً} بالآيات وبدونها فليترك الأمر له سبحانه وتعالى يفعل ما لشاء ويحكم ما يريد، وقوله تعالى: {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا} أي من الشرك والمعاصي {قارعة} أي داهية تقرع قلوبهم بالخوف والفزع ونفوسهم بالهم والحزن وذلك كالجدب والمرض والقتل والأسر {أو تحل قريباً من دارهم} أي يحل الرسول بجيشه الإسلامي ليفتح مكة حتى يأتي وعد الله بنصرك أيها الرسول عليهم والآية
__________
1 هذا تشبيه في الإنعام أي: شبّه الإنعام على من أرسل إليهم محمد صلى الله عليه وسلم بالإنعام على من أرسل إليه الأنبياء قبله.
2 قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : اسجدوا للرحمن قالوا: وما الرحمن، والآية وإن لم تنزل بخصوص دعوى المشركين إلاّ أنها تحمل رداً عليهم في دعواهم الباطلة.
3 تقدّم أن من بين المطالبين أبا جهل، وعبدالله بن أمية المخزوميين إذ قالا له صلى الله عليه وسلم، إن سرّك أن نتبعك فسيّر لنا جبال مكة بالقرآن فاذهبها عنا.. الخ.
4 أي: فليس ما تطلبونه مما يكون بالقرآن، وإنّما يكون بأمر الله تعالى.
5 يئس ييأس بمعنى: علم يعلم لله النخع، والقرآن نزل بلغات العرب، وقيل: لغة هوازن قال شاعرهم:
أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني
ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم

عامة فيمن بعد قريش ويكون الوعيد متناولاً أمم الكفر عامة وها هي ذي الحروب تقرعهم كل قرن مرة ومرتين والحرب الذرية على أبوابهم ولا يزال أمرهم كذلك حتى يحل الجيش الإسلامي قريباً دارهم ليدخلوا في دين الله أو يهلكوا، {إن الله لا يخلف الميعاد} وقد أنجز ما وعد قريشاً، في الآية الأخيرة (32) يخبر تعالى رسوله مسلياً إياه عما يجد تعب وألم من صلف المشركين وعنادهم فيقول له: {ولقد استهزىء1 برسل من قبلك} أي كما استهزىء بك فصبروا فاصبر أنت، {فأمليت للذين كفروا} أي أمهلتهم وأنضرتهم حتى قامت الحجة عليهم ثم أخذتهم فلم أبق منهم أحداً {فكيف2 كان عقاب} أي كان شديداً عاماً واقعاً موقعه، فكذلك أفعل بمن استهزأ بك يا رسولنا إذا لم يتوبوا ويسلموا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد.
2- لا توكل إلا على الله، ولا توبة لأحد إلا إليه.
3- عظمة القرآن الكر يم وبيان فضله.
4- إطلاق لفظ اليأس3 المراد به العلم.
5- توعد الرب تعالى الكافرين بالقوارع في الدنيا إلى يوم القيامة.
6 - الله جل جلاله يملي ويمهل ولكن لا يهمل بل يؤاخذ ويعاقب.
أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(33) لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ
__________
1 أي: سُخر بهم أُزري عليهم، وذلك كما سخرت قوم نوح بنوح، وعاد بهود وثمود بصالح ومدين يشعيب.
2 الاستفهام للعجب.
3 في لغة النخع أو هوازن.

الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ(34) مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ(35)
شرح الكلمات:
أفمن هو قائم1 على كل نفس بما كسبت: أي حافظها ورازقها وعالم بها وبما كسبت و يجازيها بعملها.
قل سموهم.: أي صِفُوهم له مَنْ هُم؟
أم تنبئونه بما لا يعلم: أي أتخبرونه بما لا يعلمه؟
بظاهر من القول : أي بظن باطل لا حقيقة له في الواقع.
أشق: أي أشد.
واق : أي مانع يمنعهم من العذاب.
مثل الجنة: أي صفتها التي نقصها عليك.
أكلها دائم وظلها: أي ما يؤكل فيها دائم لا يفنى وظلها دائم لا ينسخ.
معنى الآيات.
ما زال السياق في تقرير التوحيد وإبطال التنديد بقوله تعالى. {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسيت2} أي حافظها ورازقها وعالم بها وبما كسبت من خير وشر ومجازيها كمن لا يحفظ ولا يرزق ولا يعلم ولا يجزي وهو الأصنام، إذاً فبطل تأليهها ولم يبق إلا الإله الحق الله الذي لا إله إلا هو ولا رب سواه، وقوله تعالى: {وجعلوا لله شركاء} أي
__________
1 ليس القيام هنا ضد القعود بل هو التولّي لأمور الخلق بالحفظ والتدبير.
2 الجواب محذوف في الآية، وقد ذكر في التفسير.

يعبدونهم معه {قل سموهم}1 أي قل لهم يا رسولنا سموا لنا تلك الشركاء صفوهم بينوا من هم؟ {أم تنبئونه بما لا يعلم2 في الأرض} أي أتنبئون الله بما لا يعلم في الأرض؟ {أم بظاهر من القول} أي بل بظاهر3 من القول أي بظن باطل لا حقيقة له في الواقع.
وقوله تعالى: {بل زين للذين كفروا مكرهم} أي قولهم الكاذب وافتراؤهم الماكر فبذلك4 صدوا عن السبيل سبيل الحق وصرفوا عنه فلم يهتدوا إليه، {ومن يضلل الله فما له من هاد} وقوله تعالى: {لهم عذاب في الحياة الدنيا} بالقتل والأسر، {ولعذاب الآخرة أشق} أي أشد من عذاب الدنيا مهما كان {وما لهم من الله من واق} 5 أي وليس لهم من دون الله من يقيهم فيصرفه عنهم ويدفعه حتى لا يذوقوه، وقوله تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون} أي لما ذكر عذاب الآخرة لأهل الكفر والفجور ذكر نعيم الآخرة لأهل الإيمان والتقوى، فقال: {مثل6 الجنة التي وعد المتقون} أي صفة الجنة ووصفها بقوله: {تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم7 وظلها} دائم كذلك فطعامها لا ينفد، وظلها لا يزول ولا ينسخ بشمس كظل الدنيا، وقوله: {تلك} أي الجنة {عقبى الذين اتقوا} أي ربهم فآمنوا به وعبدوه ووحدوه وأطاعوه في أمره ونهيه، {وعقبى8 الكافرين النار} والعقبى بمعنى العاقبة في الخير والشر.
__________
1 سموهم شركاء فإنهم ليس لهم حظ من ذلك إلاّ التسمية فيكون الأمر للإباحة كناية عن عدم المبالاة بادعائهم أنهم شركاء، وذكر هذا المعنى صاحب التحرير، وهو معنى جميل.
2 أم هي المنقطعة ودلّت على أنّ ما بعدها استفهام إنكاري توبيخي، وقوله، {بما لا يعلم في الأرض} وما لا يعلمه الله فليس بموجود إذ الله خالق كل شيء.
3 بل بظاهر من القول ليس بظاهر من الظهور بل هو بمعنى الزوال والبطلان وشاهده قول الشاعر، وتلك شكاة ظاهر عليك عارها. أي: باطل زائل.
4 إن بعض المشركين زيّن للمشركين عبادة الأصنام، ورغّبهم في عبادتها مكراً بهم فانخدعوا له، وحسبوه زيناً وذلك كعمرو بن لحيّ إذ هو أوّل من دعا إلى عبادة الأصنام في بلاد العرب.
5 واق، وقاض ووال: يوقف عليها بدون ياء، إلاّ إذا نودي نحو: يا قاضي يا والي فإنه يوقف عليه بالياء ومن: صلة لتقوية الكلام.
6 {مثل الجنة}: الخ: مبتدأ والخبر محذوف تقديره فيما يتلى عليكم: مثل الجنة، وقيل الخبر: تجري من تحتها الأنهار. والأوّل أولى.
7 في الآية ردّ على الجهمية القائلين بفناء نعيم الجنة.
8 أي: عاقبة أمر المكذبين وآخرتهم النار يدخلونها.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد إذ الأصنام لا تحفظ ولا ترزق ولا تحاسب ولا تجزي، والله هو القائم على كل نفس فهو الإله الحق وما عداه فآلهة باطلة لا حقيقة لها إلا مجرد أسماء.
2- استمرار الكفار على كفرهم هو نتيجة تزيين الشيطان لهم ذلك فصدهم عن السبيل.
3- ميزة القرآن الكريم في الجمع بين الوعد والوعيد إذ بهما تمكن هداية الناس.
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ(36) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ(37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ(38) يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ(39)
شرح الكلمات:
والذين آتيناهم الكتاب : أي كعبد الله بن سلام ومن آمن من اليهود.
يفرحون بما أنزل إليك : أي يسرون به لأنهم مؤمنون صادقون ولأنه موافق لما عندهم.
ومن الأحزاب : أي من اليهود والمشركين.
من ينكر بعضه : أي بعض القرآن فالمشركون أنكروا لفظ الرحمن وقالوا لا رحمن إلا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب.

وكذلك أنزلناه حكماً عربياً : أي بلسان العرب لتحكم به بينهم.
لكل أجل كتاب : أي لكل مدة كتاب كتبت فيه المدة المحددة.
يمحو الله ما يشاء: أي يمحو من الأحكام وغيرها ويثبت ما يشاء فما محاه هو المنسوخ وما أبقاه هو المحكم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير أصول العقيدة: التوحيد والنبوة والبعث والجزاء، فقوله تعالى: {والذين آتيناهم الكتاب} كعبد الله بن1 سلام يفرحون بما أنزل إليك وهو القرآن وفي هذا تقرير للوحي وإثبات له، وقوله: {ومن الأحزاب} ككفار أهل الكتاب2 والمشركين {من ينكر بعضه} فاليهود أنكروا أغلب ما في القرآن من الأحكام ولم يصدقوا إلا بالقصص، والمشركون أنكروا "الرحمن" وقالوا لا رحمن إلا رحمان اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب عليه لعائن الله، وقوله تعالى: {قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به} أي أمرني ربي أن أعبده ولا أشرك به، إليه تعالى أدعو الناس أي إلى الإيمان به وإلى توحيده وطاعته، {وإليه مآب3} أي رجوعي وإيابي وفي هذا تقرير للتوحيد، وقوله تعالى: {وكذلك أنزلناه حكماً عربياً4} أي وكهذا الإنزال للقرآن أنزلناه بلسان العرب لتحكم بينهم به، وفي هذا تقرير للوحي الإلهي والنبوة المحمدية، وقوله: {ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم} بأن وافقتهم على مللهم وباطلهم في اعتقاداتهم، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل وإنما الخطاب من باب.. إياك أعني واسمعي يا جارة.. {مالك من الله من ولي ولا واق} أي ليس لك من دون الله من ولي يتولى أمر نصرك وحفظك، ولا واق يقيك عذاب الله إذا أراده بك لإتباعك أهل الباطل5 وتركك الحق وأهله، وقوله تعالى: {ولقد أرسلنا
__________
1 اللفظ عام والمراد به الخصوص، ويدخل فيه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فهم يفرحون بنزول القرآن قاله قتادة. وهو كما قال فقد كانوا يفرحون بكل ما ينزل من وحي.
2 لفظ أهل الكتاب يشمل اليهود والنصارى معاً، لفظ البعض عام في القلة والكثرة ولذا فاليهود كالنصارى كالمشركين كالمجوس ينكرون من القرآن ما يتعارض مع معتقداتهم الباطلة ولا ينكرون ما لا يتعارض معها.
3 أي: أرجع في أموري كلها إليه دون غيره، وفي هذا معنى الاعتماد على الله والتوكل عليه في الأمر كله.
4 {حكماً عربياً}: حالان من أنزلناه، وقيل: المراد من {حكما} الحكمة كقوله: {وآتيناه الحكم صبيا} أي: الحكمة، فالقرآن يحوي الحكم المعبر عنها بالعربية وكونه من الحكم أولى لأنّه يحكم به في الأمور كلها.
5 في الآية إنذار وتحذير عظيمان لمن يترك أوامر الله تعالى أو يغشى محارمه موافقة لأهل الباطل طلباً لرضاهم أو خوفاً من غضبهم.

رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية} فلا معنى لما يقوله المبطلون1: لم يتخذ محمد أزواجاً ولم لكون له ذرية؟ وهو يقول أنه نبي الله ورسوله، فإن الرسل قبلك من نوح وإبراهيم إلى موسى وداوود وسليمان الكل كان لهم أزواج وذرية2، ولما قالوا {لولا أنزل عليه آية} رد الله تعالى عليهم بقوله: {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} فالرسل كلهم مربوبون لله مقهورون لا يملكون مع الله شيئاً فهو المالك المتصرف إن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وقوله: {لكل أجل كتاب} أي لكل وقت محدد يعطي الله تعالى فيه أو يمنع كتاب كتب فيه ذلك الأجل وعٌيِّن فلا فوضى ولا أُنُفَ3، وقوله: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} ردّ على قولهم لم يثبت الشيء ثم يبطله كاستقبال بيت المقدس ثم الكعبة وكالعدة من الحول إلى أربعة أشهر وعشرة أيام فأعلمهم أن الله تعالى ذو إرادة ومشيئة لا تخضعان لإرداة الناس ومشيئاتهم فهو تعالى يمحو ما يشاء من الشرائع والأحكام بحسب حاجة عباده ويثبت كذلك ما هو صالح لهم نافع، {وعنده أم الكتاب4} أي الذي حوى كل المقادير فلا يدخله تبديل ولا تغيير كالموت والحياة والسعادة والشقاء، وفي الحديث: "رفعت الأقلام وجفت الصحف" رواه مسلم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة الوحي والنبوة.
2 تقرير عقيدة التوحيد.
3- تقرير أن القضاء والحكم في الإسلام مصدره الأول القرآن الكريم ثم السنة لبيانها للقرآن، ثم القياس المأذون فيه فإجماع الأمة لاستحالة اجتماعها على غير ما يحب الله
__________
1 قيل: إن اليهود هم الذين عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأزواج وعيروه بذلك فقالوا ما نرى لهدا الرجل همة إلاّ النساء والنكاح، ولو كان نبياًَّ لشغله أمر النبوة عن النساء، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وعليه فالآية مدنية.
2 في الآية: الترغيب في النكاح والحض عليه، وهو كذلك فقد جاء في السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة" وفي الموطأ: "من وقاه الله شر اثنين ولج الجنة: ما بين لحييه وما بين رجليه".
3 أي: ولا بداء، والبداء: أن يبدو له الشيء بعد أن لم يكن يعلمه.
4 صح قوله صلى الله عليه وسلم: "من سرّة أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أجله فليصل رحمه" فهذا الحديث يفسر قوله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت} أي: ما يشاء، وقد تكلّم العلماء في هذا بشيء كثير وما أراه يوضح هذا هو أنّ الله تعالى لما كتب في اللوح المحفوظ كتب أنّ فلاناً يصل رحمه فيكون رزقه كذا سعة ويكون أجله كذا طولا، فصلة الرحم سبب في توسعة الرزق وطول العمر.

تعالى ويرضى به.
4- التحذير من اتباع أصحاب البدع والأهواء والمِلَلْ والنَّحَلْ الباطلة.
5- تقرير عقيدة القضاء والقدر.
6- بيان النسخ في الأحكام بالكتاب والسنة.
وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ(42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ(43)
شرح الكلمات:
نعدهم: أي من العذاب.
أو نتوفينك: أي قبل ذلك.
ننقصها من أطرافها: أي بلداً بعد بلد بالفتح ودخول الإسلام فيها وانتهاء الشرك منها.
لا معقب لحكمه: أي لا راد له بحيث لا يتعقب حكمه فيبطل.
ومن عنده علم الكتاب : من مؤمني اليهود والنصارى.
معنى الآيات:

قوله تعالى: {وإما نرينك1 بعض الذي نعدهم أو نتوفينك} أي إن أريتك بعض الذي نعد قومك من العذاب فذاك، وإن توفيتك قبل ذلك فليس عليك إلا البلاغ2 فقد بلغت وعلينا الحساب فسوف نجزيهم بما كانوا يكسبون، فلا تأس أيها الرسول ولا تضق ذرعاً بما يمكرون، وقوله: {أو لم يروا} أي المشركون الجاحدون الماكرون المطالبون بالآيات على صدق نبوة نبينا {أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها3} أي نفتحها للإسلام بلداً بعد بلد أليس ذلك آية دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة دعوته، وقوله: {والله يحكم ولا معقب لحكمه} أي والله جل جلاله يحكم في خلقه بما يشاء فيعز ويذل ويعطي ويمنع وينصر ويهزم، ولا معقب لحكمه أي ليسر هناك من يعقب على حكمه فيبطله فإذا حكم بظهور الإسلام وإدبار الكفر فمن يرد ذلك على الله، وقوله: {وهو سريع الحساب} إذا حاسب على كسب فحسابه سريع يجزي الكاسب بما يستحق دون بطء ولا تراخ وقوله تعالى : {وقد مكر الذين من قبلهم} أي وقد مكرت أقوام قبل قريش وكفار مكة فكيف كان عاقبة مكرهم؟ إنها دمارهم أجمعين، أما يخشى رؤساء الكفر في مكة من عاقبة كهذه؟ وقوله: {فلله المكر جميعاً} أي إذاً فلا عبرة بمكرهم ولا قيمة له فلا يرهب ولا يلتفت إليه وقوله: {يعلم ما تكسب كل نفس} من خير وشر فأين مكر من لا يعلم من مكر من يعلم كل شيء فسوف يصل بالممكور به إلى حافة الهلاك وهو لا يشعر، أفلا يعي هذا كفار قريش فيكفوا عن مكرهم برسول الله ودعوته؟ وقوله تعالى: {وسيعلم الكفار لمن4 عقبى الدار} أي سيعلم المشركون خصوم التوحيد يوم القيامة لمن عقبى الدار أي العاقبة الحميدة لمن دخل الجنة وهو محمد صلى الله عليه وسلم واتباعه أو لمن دخل النار وهم دعاة الشرك والكفر وأتباعهم، وقوله تعالى: {ويقول الذين كفروا لست مرسلاً} أي يواجهونك بالإنكار عليك والجحود لنبوتك ورسالتك قل لهم يا رسولنا الله شهيد بيني
__________
1 {ما} زائدة لتقوية الكلام والأصل وإن نرينك.
2 {البلاغ}: التبليغ و {الحساب}: الجزاء والعقوبة.
3 فسّر بعضهم الأطراف بالأشراف، وقال: المراد موت العلماء، وهو تفسير بعيد جداً، وما في التفسير أقرب وأوضح إلى معنى الآية الكريمة، ورد قول من قال هو نقصان الأرض بقول أحدهم لو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حشك أي: مكان قضاء حاجتك.
4 قرأ نافع {الكافر}: بالإفراد، وهو اسم جنس بمعنى الجمع، وقرأ الجمهور {الكفار} وقيل المراد بالكافر هنا. أبو جهل، والله أعلم، وفي الآية وعيد وتهديد للكفار مطلقاً.

وبينكم وقد شهد لي بالرسالة وأقسم لي عليها مرات في كلامه مثل {يسَ والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين} وكفى بشهادة الله شهادة، {ومن عنده علم الكتاب} الأول التوراة والإنجيل وهم مؤمنوا أهل الكتاب من اليهود والنصارى كعبد1 الله بن سلام وسلمان الفارسي والنجاشي وتميم الداري وغيرهم2.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- انتصار الإسلام وانتشاره في ظرف ربع قرن أكبر دليل على أنه حق.
2- أحكام الله تعالى لا ترد، ولا يجوز طلب الاستئناف على حكم من أحكام الله تعالى في كتابه أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
3- شهادة الله أعظم شهادة، فلا تطلب بعدها شهادة إذا كان الخصام بين مؤمنين.
4- فضل العالم على الجاهل، إذ شهادة مؤمني أهل الكتاب تقوم بها الحجة على من لا علم لهم من المشركين.

سورة إبراهيم
...
سورة إبراهيم
مكية
وآياتها اثنتان وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(1)
__________
1 عبدالله بن سلام كان اسمه في الجاهلية: حصين فسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله.

اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ(2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ(3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(5)
شرح الكلمات:
آلر : هذا أحد الحروف المقطعة تكتب آلر وتقرأ ألف لاَمْ رَا والتفويض فيها أسلم وهو قول الله أعلم بمراده بذلك1.
كتاب: أي هذا كتاب عظيم.
أنزلناه إليك: يا محمد صلى الله عليه وسلم.
من الظلمات : أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
العزيز الحميد: أي المحمود بآلائه.
عن سبيل الله : أي الإسلام.
عوجاً : أي معوجَّة.
بآياتنا: أي المعجزات التسع: العصا، اليد، الطوفان، الجراد، القمل،
__________
1 هذا مذهب السلف وهو: تفويض لهم معناها إلى الله تعالى منزلها ويعدونها من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل. وهو أسلم من القول بالإجهاد الفكري.

الضفادع، الدم، والطمس والسنين ونقص الثمرات.
وذكرهم بأيام الله: أي ببلائه ونعمائه.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {آلر} الله أعلم بمراده وقوله: {كتاب أنزلناه} أي هذا كتاب عظم القدر أنزلناه إليك يا رسولنا لتخرج الناس1 من الظلمات أي من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم الشرعي، وذلك {بإذن ربهم} أي بتوفيقه ومعونته {إلى صراط العزيز الحميد} أي إلى طريق العزيز2 الغالب الحميد أي المحمود بآلائه وافضالاته على عباده وسائر مخلوقاته {الله3 الذي له ما في السموات وما في الأرض} خلقا وملكا وتصريفا وتدبيرا، هذا هو الله صاحب الصراط الموصل إلى الإسعاد والإكمال البشرى، والكافرون معرضون بل ويصدون عنه فويل لهم من عذاب شديد، الكافرون {الذين يستحبون الحياة الدنيا} 4 أي يفضلون الحياة الدنيا فيعملون للدنيا ويتركون العمل للآخرة لعدم إيمانهم بها {ويصدون} أنفسهم وغيرهم أيضاً {عن سبيل الله} أي الإسلام {ويبغونها عوجاً} أي معوجة إنهم يريدون من الإسلام أن يوافقهم في أهوائهم وما يشتهون حتى يقبلوه ويرضوا به دينا قال تعالى: {أولئك في ضلال بعيد} إنهم بهذا السلوك المتمثل في إيثار الدنيا على الآخرة والصد عن الإسلام، ومحاولة تسخير الإسلام لتحقيق أطماعهم وشهواتهم في ضلال بعيد لا يمكن لصاحبه أن يرجع منه إلى الهدى، وقوله تعالى في الآية (4) من هذا السياق {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه}5 أي بلغتهم التي يتخاطبون بها ويتفاهمون لحكمة أن يبين لهم، والله بعد ذلك يضل من يشاء إضلاله
__________
1 لتخرج الناس: أي: بالقرآن العظيم الذي أنزلناه عليك.
2 الطريق هو الإسلام دين الله الذي لا يقل دينا غيره.
3 قرأ نافع برفع اسم الجلالة، وقرأ الجمهور بالجر، واستجب بعضهم الجر إذا وصل والرفع إذا وقف وهو حسن ومن وصل وقف على وما في الأرض.
4 قال ابن عباس وغيره: كل من آثر الدنيا وزهرتها واستحب البقاء في نعيمها على نعيم الآخرة وصد عن سبيل الله أي: صرف نفسه وغيره عن طاعة الله ورسوله فهو داخل في هذه الآية، وهي ذات وعيد شديد.
5 لا حجة لغير العرب في هذه الآية إذ كل من ترجم له الإسلام بلغته وجب عليه الدخول فيه والحمل بشرائعه ليكمل ويسعد، وقد استعمرت برطانيا نصف العالم فتكلم الناس بلغتها وتعاملوا بها وهي لغة دنيا لا غير. فالواجب على غير العربي أن يتعلم لغة الإسلام ما أمكنه ذلك.

حسب سنته في الإضلال ويهدي من يشاء كذلك {وهو العزيز} الغالب الذي لا يمانع في شيء أراده {الحكيم1} الذي يضع كل شيء في موضعه فلذا هو لا يضل إلا من رغب في الإضلال وتكلف له وأحبه وآثره، وتنكر للهدى وحارب المهتدين والداعين إلى الهدى، وليس من حكمته تعالى أن يضل من يطلب الهدى ويسعى إليه ويلتزم طريقه. ويحبه ويحب أهله، وقوله تعالى: {ولقد أرسلنا موسى} أي موسى نبي بني إسرائيل {بآياتنا} أي بحججنا وأدلتنا الدالة على رسالته والهادية إلى ما يدعو إليه وهي تسع آيات منها اليد والعصى {أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور}2 أي أخرج قومك من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، {وذكرهم بأيام الله}3 أي وقلنا له: ذكرهم بأيام الله وهي بلاؤه ونعمه إذ أنجاهم من عذاب آل فرعون وأنعم عليهم بمثل المن والسلوى، وذلك ليحملهم على الشكر لله بطاعته وطاعة رسوله، وقوله تعالى: {إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} أ ي إن في ذلك التذكير بالبلاء والنعماء لدلالات يستدل بها على إفضال الله وإنعامه الموجب للشكر، ولكن الذين يجدون تلك الدلالات في التذكير هم أهل الصبر والشكر بل هم الكثيروا الصبر4 والشكر، وأما غيرهم فلا يرى في ذلك دلالة ولا علامة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إقامة الحجة على المكذبين بالقرآن الكريم، إذ هو مؤلف من الحروف المقطعة مثل آلر وطسم وآلم وحم، ولم يستطيعوا أن يأتوا بمثله بل بسورة مثله.
2- بيان أن الكفر ظلام والإيمان نور.
3- بيان الحكمة في إرسال الله تعالى الرسل بلغات أقوامهم.
__________
1 من مظاهر حكمته أنه ختم الرسالة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وواجب على البشرية كلها الإيمان به ويما جاء به ومن أبى دخل النار، فقد روى مسلم قوله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار". فوحد بذلك البشرية توحيداً روحياً واجتماعياً وسياسياً لو أنها آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم وأخذت بهدايته لحصل لها من الكمال والإسعاد ما لم يخطر على بال.
2 أن: تفسيرية فسرت الإرسال لأنه فيه معنى القول.
3 التذكير إزالة نسيان شيء، ويكون بتعليم مجهول كان شأنه أن يعلم، ولما ضمّن التذكير معنى الإنذار والوعظ عدي بالباء أي: ذكرهم تذكير عظة بأيام الله.
4 الصبر مع البلاء، والشكر مع الرخاء، وخير الناس من إذا ابتلى صبر وإذا أعطي شكر ولا يكون كذلك إلاّ ذو علم وبصيرة.

4- تقرير أن الذي يخلق الهداية هو الله وأما العبد فليس له أكثر من الكسب.
5- فضيلة التذكير بالخير والشر ليشكر الله ويتقى.
6- فضيلة الصبر والشكر.
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ(6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ(7) وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ(8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ(9)
شرح الكلمات:
وإذ قال موسى : أي اذكر إذ قال موسى.
يسومونكم: يذيقونكم.
ويستحيون نساءكم: أي يستبقونهنَّ.

بلاء من ربكم عظيم: أي ابتلاء واختبار، ويكون بالخير والشر.
وإذ تأذن ربكم: أي أعلم ربكم.
بالبينات: بالحجج الواضحة على صدقهم في دعوة النبوة والتوحيد والبعث الآخر.
فردوا أيديهم في أفواههم: أي فرد الأمم أيديهم في أفواههم أي أشاروا إليهم أن اسكتوا.
مريب: موقع في الريبة.
معنى الآيات:
{وإذ قال موسى لقومه} أي اذكر يا رسولنا إذ قال موسى لقومه من بني إسرائيل {اذكروا نعمة الله عليكم} أي لتشكروها بتوحيده وطاعته، فإن من ذكر شكر وبين لهم نوع النعمة وهي إنجاؤهم من فرعون وملائه إذ كانوا يعذبونهم بالاضطهاد والاستعباد، فقال: {يسومونكم سوء العذاب} أي يذيقونكم سوء العذاب وهو أسوأه وأشده، {ويذبحون أبناءكم} أي الأطفال المولودين، لأن الكهنة أو رجال السياسة قالوا لفرعون: لا يبعد أن يسقط عرشك وتزول دولتك على أيدي رجل من بني إسرائيل قامر بقتل المواليد فور ولادتهم فيقتلون الذكور ويستبقون الإناث للخدمة ولعدم الخوف منهن وهو معنى قوله: {ويستحيون نساءكم} وقوله تعالى: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم} فهو بالنظر إلى كونه عذابا بلاء بالشر، وفي كونه نجاة منه، بلاء بالخير، وقوله تعالى: {وإذ تأذن1 ربكم} هذا من قول موسى لبني إسرائيل أي أذكر لهم إذ أعلم ربكم مقسماً لكم {لئن شكرتم}2 نعمي بعبادتي وتوحيدي فيها وطاعتي وطاعة رسولي بامتثال الأوامر واجتناب النواهي {لأزيدنكم} في الإنعام والإسعاد {ولئن كفرتم} فلم تشكروا نعمي فعصيتموني وعصيتم رسولي أي لأسلبنها منكم وأعذبكم بسلبها من أيديكم {إن عذابي
__________
1 أي: تكلم تكلماً علناً وهو يناجي موسى عليه السلام بجبل الطور وأذّن وتأذن أعلم، ومنه الأذان للصلاة، قال الشاعر:
فلم نشعر بضوء الصبح حتى
سمعنا في مجالسنا الأذينا
2 سئل بعض الصالحين عن الشكر لله تعالى فقال: ألاّ تتقوى بنعمه على معاصيه وحكي أن داود عليه السلام أنه قال: أي ربي كيف أشكرك وشكري لك نعمة متجددة منك عليّ؟ قال: "يا داود: الآن شكرتني"، وعيه فالشكر الاعتراف بالنعمة للمنعم ولا يصرفها في غير طاعته.

لشديد} فاحذروه واخشوني فيه، وقوله تعالى: {وقال موسى} أي لبني إسرائيل {إن تكفروا أنتم} نعم الله فلم تشكروها بطاعته {ومن في الأرض جميعاً} وكفرها من في الأرض جميعاً {فإن الله لغني} عن سائر خلقه لا يفتقر إلى أحد منهم1 {حميد} أي محمود بنعمه على سائر خلفه، وقوله: {ألم يأتكم} هذا قول موسى لقومه وهو يعظهم ويذكرهم : {ألم يأتكم2 نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم} أي لا يعلم عددهم ولا يحصيهم3 {إلا الله} {جاءتهم رسلهم بالبينات} أي بالحجج والبراهين على صدق دعوتهم وما جاء به من الدين الحق ليعبد الله وحده ويطاع وتطاع رسله فيكمل الناس بذلك ويسعدوا، وقوله: {فردوا أيديهم} أي ردت الأمم المرسل إليهم أيديهم إلى أفواههم تغيظاً على أنبيائهم وحنقاً، أو أشاروا إليهم بالسكوت فأسكتوهم رداً لدعوة الحق التي جاؤوا بها، وقالوا لهم: {إنا كفرنا بما أرسلتم به} أي بما جئتم به من الدين الإسلامي والدعوة إليه، {وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب} أي موقع في الريبة التي هي قلق النفس واضطرابها لعدم سكونها للخبر الذي يلقى إليها، هذا وما زال السياق طويلاً وينتهي بقوله تعالى: {واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد}.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية التذكير بنعم الله لنشكر ولا نكفر.
2- وعد الله تعالى بالمزيد من النعم لمن شكر نعم الله عليه.
3- كفر النعم سبب زوالها.
4- بيان غنى الله تعالى المطلق على سائر خلقه فالناس إن شكروا شكروا لأنفسهم وإن كفروا كفروا على أنفسهم أي شكرهم ككفرهم عائد على أنفسهم.
5- التذكير بقصص السابقين وأحوال الغابرين مشروع وفيه فوائد عظيمة.
__________
1 أي: لا يلحقه نقص بكفر الناس ولو كفروا أجمعون.
2 صالح لأن يكون من قول موسى عليه السلام، ومن قول الله تعالى تعليماً لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
3 ولا يعرف أنسابهم كذلك إلاّ الله وفي الحديث: " كذب النسابون إن الله يقول لا يعلمهم إلا الله" قاله لمّا زاد النسابون على معد بن عدنان، وقال: "لا ترفعوني فوق عدنان".

قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ(10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(11) وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ(12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ(13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ(14)
شرح الكلمات:
أفي الله شك: أي لا شك في وجود الله ولا في توحيده، إذ الاستفهام إنكاري.
إلى أجل مسمى : أي إلى أجل الموت.
بسلطان مبين : بحجة ظاهرة تدل على صدقكم.

يمن على من يشاء: أي بالنبوة والرسالة على من يشاء لذلك.
وقد هدانا سبلنا: أي طرقه التي عرفناه بها وعرفنا عظيم قدرته وعز سلطانه.
لنخرجنكم من أرضنا: أي من ديارنا أو لتعودون في ديننا.
لمن خاف مقامي: أي وقوفه بين يدي يوم القيامة للحساب الجزاء.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ما ذكر به موسى قومه بقوله: {ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح.....} فقوله تعالى: {قالت رسلهم} أي قالت الرسل إلى أولئك الأمم الكافرة {أفي الله شك1}؟ أي كيف يكون في توحيد الله شك وهو فاطر السموات2 والأرض، فخالق السموات والأرض وحده لا يعقل أن يكون له شريك في عبادته، انه لا إله إلا هو وقوله : {يدعوكم} إلى الإيمان والعمل الصالح الخالي من الشرك {ليغفر لكم من3 ذنوبكم} وهو كل ذنب بينكم وبين ربكم من كبائر الذنوب وصغائرها أما مظالم الناس فردوها إليهم تغفر لكم وقوله: {ويؤخركم إلى أجل مسمى} أي يؤخر العذاب عنكم لتموتوا بآجالكم المقدرة لكم، وقوله: {قالوا} أي قالت الأمم الكافرة لرسلهم {إن أنتم إلا بشر مثلنا} أي4 ما أنتم إلا بشر مثلنا، {تريدون أن تصدونا} أي تصرفونا {عما كان يعبد آباؤنا} من آلهتنا أي أصنامهم وأوثانهم التي يدَّعون أنها آلهة، وقولهم: {فأتونا بسلطان مبين} قال الكافرون للرسل ائتونا بسلطان مبين أي بحجة ظاهرة تدل على صدقكم أنكم رسل الله إلينا فأجابت الرسل قائلة ما أخبر تعالى به عنهم بقوله: {قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم} أي ما نحن إلا بشر مثلكم فمالا تستطيعونه أنتم لا نستطيعه نحن {ولكن الله يمن على من5 يشاء} أي إلا أن الله يمن على من يشاء بالنبوة
__________
1 الاستفهام إنكاري أي: لا شك في الله، أي في وجوده، وقدرته وعلمه وحكمته الموجبة لألوهيته، وهي عبادته وحده لا شريك له.
2 هذا الوصف الكامل لله وهو مقتضى وجوده وألوهيته عزّ وجل.
3 على ما في التفسير (من) للتبعيض، ويصح أن تكون زائدة، والمغفرة لكل الذنوب لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله من سائر الذنوب.
4 أي: في الهيئة تأكلون كما نأكل وتشربون كما نشرب، وتمرضون، وتصحون مثلنا ولستم ملائكة.
5 ومما منّ الله به عليهم، الحكمة والمعرفة والهداية إلى ما يوجب رضاه ومحبّته؟ وقيل: إنّ أعظم ما يمن به الله تعالى على عبده ذكره بأسمائه وصفاته.

فمن علينا بها فنحن ننبئكم بما أمرنا الله ربنا وربكم أن ننبئكم به كما نأمركم وندعوكم لا من تلقاء أنفسنا ولكن بما أمرنا أن نأمركم به وندعوكم إليه، {وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله} أي بإرادته وقدرته فهو ذو الإرادة التي لا تحد والقدرة التي لا يعجزها شيء ولذا توكلنا عليه وحده وعليه {فليتوكل المؤمنون} فإنه يكفيهم كل ما يهمهم، ثم قالت الرسل وهي تعظ أقوامها بما تقدم: {وما لنا ألا نتوكل1 على الله وقد هدانا سبلنا} أي طرقنا التي عرفناه بها وعرفنا عظمته وعزة سلطانه فأي شيء يجعلنا لا نتوكل عليه وهو القوي العزيز {ولنصبرن على ما آذيتمونا} بألسنتكم وأيديكم متوكلين على الله حتى ينتقم الله تعالى لنا منكم، {وعلى الله فليتوكل المتوكلون} إذ هو الكافل لكل من يثق فيه ويفوض أمره إليه متوكلا عليه وحده دون سواه، وقوله تعالى: {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا} هذا إخبار منه تعالى على ما قالت الأمم الكافرة لرسلها: قالوا موعدين مهددين بالنفي والإبعاد من البلاد لكل من يرغب عن دينهم ويعبد غير آلهتهم: {لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا} أي ديننا الذي نحن عليه وهنا أوحى الله تعالى إلى رسله بما أخبر تعالى به: {فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم} قال لنهلكن الظالمين ولم يقل لنهلكنهم إشارة إلى علة الهلاك وهي الظلم الذي هو الشرك والإفساد ليكون ذلك عظة للعالمين، وقوله تعالى: {ذلك} أي الإنجاء للمؤمنين والإهلاك للظالمين جزاءً2 {لمن خاف مقامي3} أي الوقوف بين يدي يوم القيامة {وخاف وعيد} على ألسنة رسلي بالعذاب لمن كفر بي وأشرك في عبادتي ومات على غير توبة إلىَّ من كفره وشركه وظلمه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بطلان الشك في وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته ووجوب عبادته وحده وذلك لكثرة
__________
1 وما: اسم استفهام مبتدأ، وما بعدها في موضع الحال، والتقدير: أي شيء لنا في ترك التوكل على الله؟ والاستفهام إنكاري.
2 وإسكان الصالحين الأرض بعد إهلاك الظالمين.
3 المقام: مصدر ميمي وقوله {مقامي}: أي قيامه بين يديّ للحساب، والوعيد هو عذاب النار، وقيل: مقامي: أي قيامي عليه، ومراقبتي له والمعنى إذاً خافني وراقبني، وهو معنى صحيح، والخوف من الله ومراقبته موجبة للصلاح المورث للأرض والدولة لقوله تعالى: {إن الأرض يرثها عبادي الصالحون}.

الأدلة وقوة الحجج، وسطوع البراهين.
2- بيان ما كان أهل الكفر يقابلون به رسل الله والدعاة إليه سبحانه وتعالى وما كانت الرسل ترد به عليهم.
3- وجوب التوكل على الله تعالى، وعدم صحة التوكل على غيره إذ لا كافي إلا الله.
4- وجوب الصبر على الأذى في سبيل الله وانتظار الفرج بأخذ الظالمين.
5- عاقبة الظلم وهي الخسران والدمار لا تتبدل ولا تتخلف وإن طال الزمن.
وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ(15) مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ(16) يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ(17) مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ(18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ(19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ(20)
شرح الكلمات:
واستفتحوا : أي طلب الرسل الفتح لهم أي النصر على أقوامهم الظالمين.
وخاب: أي خسر وهلك.

كل جبار عنيد: أي ظالم يجبر الناس على مراده عنيد كثير العناد.
من ماء صديد: أي هو ما يخرج سائلاً من أجواف أهل النار مختلطاً من قيح ودم وعرق.
يتجرعه ولا يكاد يسيغه: أي يبتلعه مرة بعد مرة لمرارته ولا يقارب ازدراده لقبحه ومراراته.
ويأتيه الموت من كل مكان : أي لشدة ما يحيط به من العذاب فكل أسباب الموت حاصلة ولكن لا يموت.
أعمالهم كرماد: أي الصالحة منها كصلة الرحم وبر الوالدين وإقراء الضيف وفك الأسير والفاسدة كعبادة الأصنام بالذبح لها والنذر والحلف والعكوف حولها كرماد.
لا يقدرون مما كسبوا على شيء: أي لا يحصلون من أعمالهم التي كسبوها على ثواب وإن قل لأنها باطلة بالشرك.
وما ذلك على الله بعزيز: أي بصعب ممتنع عليه.
معنى الآيات:
هذا آخر حديث ما ذكر به موسى قومه من أنباء الأمم السابقة على بنى إسرائيل، قال تعالى في الإخبار عنهم: {واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد} أي واستفتح الرسل أي طلبوا من الله تعالى أن يفتح عليهم1 بنصر على أعدائه وأعدائهم واستجاب الله لهم، {وخاب كل جبار عنيد1} أي خسر وهلك كل ظالم طاغ معاند للحق وأهله، وقوله2: {من ورائه جهنم3} أي أمامه جهنم تنتظره سيدخلها بعد هلاكه ويعطش ويطلب الماء
__________
1 كقولهم: {ربنا افتح بينا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} قالها شعيب والمؤمنون معه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو طالباً نصره وهزيمة أعدائه.
2 العنيد: المعاند للحق، والجبار: المتعاظم الشديد التكبر، وقيل هو من يجبر الناس على مراده، وهو وصف مذموم لغير الله تعالى.
3 لفظ وراء يطلق على ما كان خلفاً وما كان أماماً، لأنّ كل ما ووري أي: استتر فهو وراء. وقوله: {من ورائه جهنم}: صفة لجبار عنيد، والوراء مستعمل في معنى ما ينتظره ويحل به من بعد، قال الشاعر:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريب
أي بعده.

فتسقيه الزبانية {من ماء صديد1} أي وهو صديد أهل النار وهو ما يخرج من قيح ودم وعرق، {يتجرعه} أي يبتلعه جرعة بعد أخرى لمرارته2 {ولا يكاد يسيغه} أي يدخله جوفه الملتهب عطشاً لقبحه ونتنه ومرارته وحرارته، وقوله تعالى: {ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت} أي ويأتي هذا الجبار العنيد والذي هو في جهنم يقتله الظمأ فيسقى بالماء الصديد يأتيه الموت لوجود أسبابه وتوفرها من كل مكان إذ العذاب محيط به من فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله وما هو بميت لأن الله تعالى لم يشأ ذلك قال تعالى: {لا يموت فيها ولا يحيا} وقال: {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها} ومن وراء ذلك العذاب الذي هو فيه {عذاب} أي لون آخر من العذاب {غليظ} أي شديد لا يطاق، وقوله تعالى: {مثل3 الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد4 اشتدت به الريح في يوم عاصف} أي من شديد هبوب الريح فيه {لا يقدرون مما كسبوا} أي من أعمال في الدنيا {على شيء} أي من الثواب والجزاء الحسن عليها، هذا مثل أعمالهم الصالحة كأنواع الخير والبر والطالحة كالشرك والكفر وعبادة غير الله مما كانوا يرجون نفعه، الكل يذهب ذهاب رماد حملته الريح وذهبت به، مشتدة في يوم عاصف شديد هبوب الريح فيه.
وقوله تعالى: {ذلك هو الضلال البعيد} أي ذلك الذي دل عليه المثل هو الضلال البعيد لمن وقع فيه إذ ذهب كل عمله سدى بغير طائل فلم ينتفع بشيء منه وأصبح من ا لخاسرين.
وقوله تعالى: {ألم5 تر أن الله خلق السموات والأرض بالحق} أي ألم تعلم أيها الرسول أن الله خلق السموات والأرض بالحق أي من أجل الإنسان ليذكر الله تعالى ويشكره فإذا تنكر لربه فكفر به وأشرك غيره في عبادته عذبه بالعذاب الأليم الذي تقدم
__________
1 الصديد: المهلة، أي مثل الماء يسيل من الدمل ونحوه والتجرّع: تكلّف الجرع والجرع: بلع الماء.
2 روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قوله تعالى {يسقى من ماء صديد يتجرّعه..} قال: "يقرّب إلى فيه فيكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره.." الخ رواه الترمذي واستغربه.
3 المثل: الحال العجيبة أي حال أعمالهم كرماد.
4 الرماد: ما يبقى من احتراق الحطب والفحم، ضرب الله في هذه الآية مثلاً لأعمال الكفار في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف.
5 الرؤية هنا: رؤية القلب وهي العلمية.

وصفه في هذا السياق لأن الله تعالى لم يخلق السموات والأرض عبثاً وباطلاً بل خلقهما وخلق ما فيهما من أجل أن يذكر فيهما ويشكر فمن ترك الذكر والشكر عذبه أشد العذاب وأدومه وأبقاه، وقوله تعالى: {إن يشأ يذهبكم} أيها الناس المتمردون على طاعته المشركون به {ويأت بخلق جديد1} غيركم يعبدونه ويوحدونه { وما ذلك على الله بعزيز} أي بممتنع ولا متعذر لأن الله على كل شيء قدير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إنجاز وعد الله لرسله في قوله: {فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين} الآية.
2- خيبة وخسران عامة أهل الشرك والكفر والظلم.
3- عظم عذاب يوم القيامة وشدته.
4- بطلان أعمال المشركين والكافرين وخيبتهم فيها إذ لا ينتفعون بشيء منها.
5- عذاب أهل الكفر والشرك والظلم لازم لأنهم لم يذكروا ولم يشكروا والذكر والشكر علة الوجود كله فلما عبثوا بالحياة استحقوا عذاباً أبدياً.
وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ
__________
1 أي: أفضل منكم وأطوع وما في التفسير أدل على المقصود.

بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ(23)
شرح الكلمات:
وبرزوا لله جميعاً 1 : أي برزت الخلائق كلها لله وذلك يوم القيامة.
إنا كنا لكم تبعاً: أي تابعين لكم فيما تعقتدون وتعملون.
فهل أنتم مغنون عنا: أي دافعون عنا بعض العذاب.
ما لنا من محيص.: أي من ملجأ ومهرب أو منجا.
لما قضي الأمر: بإدخال أهل الجنة، الجنة وأهل النار النار.
ما أنا بمصرخكم: أي بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب والكرب.
تجري من تحتها الأنهار: أي من تحت قصورها وأشجارها الأنهار الأربعة: الماء واللبن والخمر والعسل.
معنى الآيات:
في هذه الآيات عرض سريع للموقف وما بعده من استقرار أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة يقرر مبدأ الوحي والتوحيد والبعث الآخر بأدلة لا ترد، قال تعالى : {وبرزوا لله جميعاً} أي خرجت البشرية من قبورها مؤمنوها وكافروها صالحوها وفاسدوها {فقال الضعفاء} أي الأتباع {للذين استكبروا} أي الرؤساء والموجهون للناس بما لديهم من قوة وسلطان {إنا كنا لكم تبعا2} أي أتباعاً في عقائدكم وما تدينون به، {فهل
__________
1 البروز: الظهور، وهو هنا الخروج من القبور والظهور خارجها للحشر حيث فصل القضاء، ومن هذا قولهم: امرأة برزة أي تظهر للناس.
2 {تبعاً}: يصح أن يكون مصدرا أي: ذوي. تبع، ويجوز أن يكون جمع تابع مثل: حرس وحارس، وخدم وخادم.

أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء} ؟ أي فهل يمكنكم أن ترفعوا عنا بعض العذاب بحكم تبعيتنا لكم فأجابوهم بما أخبر تعالى به عنهم؟ {قالوا لو هدانا الله لهديناكم}1 اعترفوا الآن أن الهداية بيد الله وأقروا بذلك، ولكنا ضللنا فأضللناكم {سواء علينا أجزعنا} اليوم {أم صبرنا مالنا من محيص}2 أي من مخرج من هذا العذاب ولا مهرب، وهنا يقوم إبليس خطيبا فيهم3 بما أخبر تعالى عنه بقوله: {وقال الشيطان} أي إبليس عدو بنى آدم {لما قضي الأمر} بأن أدخل أهل الجنة الجنة وأدخل أهل النار النار {إن الله وعدكم عد الحق4} بأن مم آمن وعمل صالحاً مبتعدا عن الشرك والمعاصي أدخله جنته وأكرمه في جواره، وأن من كفر وأشرك وعصى أدخله النار وعذبه عذاب الهون في دار البوار {ووعدتكم} بأن وعد الله ووعيده ليس بحق ولا واقع {فأخلفتكم} فيما وعدتكم به، وكنت في ذلك كاذباً عليكم مغرراً بكم، {وما كان لي عليكم من سلطان} أي من قوة مادية أكرهتكم بها على اتباعي ولا معنوية ذات تأثير خارق للعادة أجبرتكم بها على قبول دعوتي {إلا أن دعوتكم} أي لكن دعوتكم {فاستجبتم لي} إذاً {فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم} أي بمزيل صراخكم بما أغيثكم به من نصر وخلاص من هذا العذاب {وما أنتم} أيضاً {بمصرخي5}، أي بمغيثيَّ {إني كفرت بما أشركتمون من6 قبل} إذ كل عابد لغير الله في الواقع هو عابد للشيطان إذ هو الذي زين له ذلك ودعاه إليه، و {إن الظالمين لهم عذاب أليم} أي المشركين لهم عذاب أليم موجع، وقوله تعالى: {وأدخل7 الذين آمنوا} أي وأدخل الله الذين آمنوا أي صدَّقوا بالله وبرسوله وبما جاء به رسوله {وعملوا الصالحات} وهي العبادات التي تَعَبَّدَ الله بها عباده فشرعها
__________
1 أي: لو هدانا الله إلى الإيمان لهديناكم إليه أو لو هدانا الله إلى طريق الجنة لهديناكم إليها.
2 المحيص: مصدر ميمي كالمغيث والمشيب من غاب وشاب، وكذلك حاص يحيص حيصاً عن كذا: هرب ونجا، ويجوز أن يكون المحيص هنا اسم مكان أي: ما لنا من مكان نلجأ إليه وننجو فيه.
3 أي: على منبر من نار.
4 {وعد الحق}: يعني البعث والجنة والنار، وثواب المطيع وعقاب العاصي. فصدقكم وعده، ووعدتكم ألا بعث ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب. فأخلفتكم.
5 (الصارخ): والمستصرخ هو الذي يطلب النصر والمعاونة، المصرخ هو المغيث قال الشاعر:
ولا تجزعوا إني لكم غير مصرخ
وليس لكم عندي غَنَاء ولا نصر
6 {بما أشركتمونِ}: الميم مصدرية والتقدير كفرت بإشراككم إيّاي مع الله تعالى.
7 لمّا أخبر تعالى بحال أهل النار أخبر بحال أهل الجنة وهو أسلوب الترغيب والترهيب الذي امتاز به القرآن الكريم لأته كتاب هداية وإصلاح.

في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم {جنات}1 بساتين {تجري من تحتها الأنهار} أي من خلال قصورها وأشجارها أنهار الماء واللبن والخمر والعسل {خالدين فيها} لا يخرجون منها ولا يبغون عنها حولاً، وقوله تعالى: {بإذن ربهم}2 أي أن ربهم هو الذي أذن لهم بدخولها والبقاء فيها أبداً، وقوله: {تحيتهم فيها سلام} أي السلام عليكم يحييهم ربهم وتحييهم الملائكة ويحيى بعضهم بعضا بالسلام وهي كلمة دعاء بالسلامة من كل العاهات والمنغصات وتحية بطلب الحياة الأبدية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن التقليد والتبعية لا تكون عذراً لصاحبها عند الله تعالى.
2- بيان أن الشيطان هو المعبود من دون الله تعالى إذ هو الذي دعا إلى عبادة غير الله وزينها للناس.
3- تقرير لعلم الله بما لم يكن كيف يكون إذ ما جاء في الآيات من حوار لم يكن بعد ولكنه في علم الله كائن كما هو وسوف يكون كما جاء في الآيات لا يتخلف منه حرف واحد.
4- وعيد الظالمين بأليم العذاب.
5- العمل لا يدخل الجنة إلا بوصفه سبباً لا غير، وإلا فدخول الجنة يكون بإذن الله تعالى ورضاه.
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء(24)
__________
1 {جنات}: جمع جنة، وجنات: منصوب على نزع الخافض أي: في جنات لأنّ دخل كخرج لا يتعدى إلا بحرف الجر.
2 أي: بمشيئته وتيسيره.

تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(25) وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ(26) يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء(27) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ(28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ(29) وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ(30)
شرح الكلمات:
كلمة طيبة: هي لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كشجرة طيبة: هي النخلة.
كلمة خبيثة : هي كلمة الكفر.
كشجرة خبيثة : هي الحنظل.
اجتثت: أي اقتلعت جثتها أي جسمها وذاتها.
بالقول الثابت : هو لا إله إلا الله.
وفي الآخرة : أي في القبر فيجيب الملكين عما يسألانه عنه حيث يسألانه عن ربه ودينه ونبيه.
بدلوا نعمة الله كفراً : أي بدلوا التوحيد والإسلام بالجحود والشرك.
دار البوار: أي جهنم.
وجعلوا لله أندادا: أي شركاء.

معنى الآيات:
الآيات في تقرير التوحيد والبعث والجزاء، قوله تعالى: {ألم تر} أيها الرسول أي ألم تعلم { كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة}1 هي كلمة الإيمان يقولها المؤمن {كشجرة طيبة} وهي النخلة2 {أصلها ثابت} في الأرض {وفرعها} عال {في السماء}، {تؤتي أكلها} تعطي أكلها أي ثمرها الذي يؤكل منها كل حين بلحا وبسراً ومنصَّفاً ورطباً وتمراً وفي الصباح والمساء {بإذن ربها} أي بقدرته وتسخيره فكلمة الإيمان لا إله إلا الله محمد رسول الله تثمر للعبد أعمالاً صالحة كل حين فهي في قلبه والأعمال الصالحة الناتجة عنها ترفع إلى الله عز وجل، وقوله تعالى: {ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون} أي كما ضرب هذا المثال للمؤمن والكافر في هذا السياق يضرب الأمثال للناس مؤمنهم وكافرهم لعلهم يتذكرون أي رجاء أن يتذكروا فيتعظوا فيؤمنوا ويعملوا الصالحات فينجوا من عذاب الله، وقوله: {ومثل كلمة خبيثة} هي كلمة الكفر في قلب الكافر {كشجرة خبيثة} هي الحنظل مُرَّة ولا خير فيها ولا أصل لها ثابت ولا فرع لها في السماء {اجتثت} أي اقتلعت واستؤصلت {من فوق الأرض مالها من قرار} أي لا ثبات لها ولا تثمر إلا ما فيها من مرارة وسوء طعم وعدم بركة وقوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} هذا وعد من الله تعالى لعباده المؤمنين الصادقين بأنه يثبتهم على الإيمان مهما كانت الفتن والمحن حتى يموتوا على الإيمان {وفي الآخرة} أي في القبر إذ هو عتبة الدار الآخرة عندما يسألهم3 الملكان عن الله وعن الدين والنبي من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فيثبتهم بالقول الثابت وهو الإيمان وأصله لا إله إلا الله محمد رسول الله والعمل الصالح الذي هو الإسلام وقوله تعالى: {ويضل الله الظالمين} مقابل هداية المؤمنين فلا يوفقهم للقول الثابت حتى يموتوا على الكفر فيهلكوا ويخسروا، وذلك
__________
1 الكلمة الطيبة هي لا إله إلا الله، والشجرة الطيبة هي المؤمن، والشجرة المضروب بها المثل في النخلة، وفي الحديث الصحيح: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وهي مثل المؤمن خبروني ما هي؟ قال: هي النخلة" وورد: "مثل المؤمن كالنخلة إن صاحبته نفعك، دان جالسته نفعك، وإن شاورته نفعك كالنخلة كل شيء منها ينتفع به".
2 وورد أكرموا عمتكم النخلة، ومن وجه شبهها بالمؤمن أنها برأسها تبقى وبقلبها تحيا وفي اللقاح ورائحة طلع ذكرها كرائحة المني، وقيل: إنها خلقت من فضلة طينة آدم التي خلق منها، فهي لذا عمة بني آدم.
3 روى النسائي عن البراء قال: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} نزلت في عذاب القبر، يقال: من ربك فيقول ربي الله وديني دين محمد صلى الله عليه وسلم.

لإصرارهم على الشرك ودعوتهم إليه وظلم المؤمنين وأذيتهم من أجل إيمانهم، وقوله تعالى: {ويفعل الله ما يشاء} تقرير لإرادته الحرة فهو عز وجل يثبت من يشاء ويضل من يشاء فلا اعتراض عليه ولا نكير مع العلم أنه يهدي ويضل بحكم عالية تجعل هدايته كإضلاله رحمة وعدلاً.
وقوله تعالى: {ألم تر} أي ألم ينته إلى علمك أيها الرسول {إلى الذين بدلوا نعمة الله} إلتي هي الإسلام الذي جاءهم به رسول الله بما فيه من الهدى والخير فكذبوا رسول الله وكذبوا بما جاء به ورضوا بالكفر وأنزلوا بذلك قومهم الذين يحثونهم على الكفر ويشجعونهم على التكذيب أنزلوهم1 {دار البوار2} فهلك من هلك في بدر كافراً إلى جهنم، ودار البوار هي جهنم يصلونها أي يحترقون بحرها ولهيبها {وبئس القرار} أي المقر الذي أحلوا قومهم فيه، وقوله تعالى: {وجعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله} أي جعل أولئك الذين بدلوا نعمة الله كفراً وهم كفار مكة لله أنداداً أي شركاء عبدوها وهي اللات والعُزَّى وهُبل ومَناة وغيرها من آلهتهم الباطلة، جعلوا هذه الأنداد ودعوا إلى عبادتها ليضلوا ويضلوا غيرهم عن سبيل الله التي هي الإسلام الموصل إلى رضا الله تعالى وجواره الكريم، وقوله تعالى: {قل تمتعوا} 3 أي بما أنتم فيه من متاع الحياة الدنيا {فإن مصيركم} أي نهاية أمركم {إلى النار} حيث تصيرون إليها بعد موتكم إن أصررتم على الشرك والكفر حتى متم على ذلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.
2- المقارنة بين الإيمان والكفر، وكلمة التوحيد وكلمة الكفر وما يثمره كل واحد من هذه الأصناف من خير وشر.
__________
1 هذه الآية نزلت في قريش، وقيل: في هلكى بدر، وقيل: في متنصِّرة العرب: جبلة بن الأيهم وأصحابه، والظاهر أنها عامة في كل من كفر بالله ورسوله وحاد عن سبيلهما، وقال الحسن: إنها عامة في جميع المشركين.
2 {البوار}: الهلاك.
3 الأمر للتهديد والوعيد، وفي اللفظ إشارة إلى قلّة ما في الدنيا من ملاذ مع سرعة زوالها ولزوم انقطاعها.

3- بشرى المؤمن بتثبيت الله تعالى له على إيمانه حتى يموت مؤمناً وبالنجاة من عذاب القبر حيث يجيب منكراً ونكيراً على سؤالهما إياه بتثبيت الله تعالى له.
4- الأمر في قوله تعالى تمتعوا ليس للإباحة ولا للوجوب وإنما هو للتهديد والوعيد.
قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ(31) اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ(32) وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ(33) وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ(34)
شرح الكلمات:
لا بيع فيه ولا خلال: هذا يوم القيامة لا بيع فيه ولا فداء ولا مخالة تنفع ولا صداقة.
الفلك: أي السفن فلفظ الفلك دال على متعدد ويذكَّر ويؤنث.
دائبين: جاريين في فلكهما لا يفتران أبداً حتى نهاية الحياة الدنيا.
لظلوم كفار : كثير الظلم لنفسه ولغيره، كفار عظيم الكفر هذا ما لم يؤمن ويهتد فإن آمن واهتدى سلب هذا الوصف منه.
معنى الآيات:
لما أمر تعالى رسوله أن يقول لأولئك الذين بدلوا نعمة الله كفراً {قل تمتعوا فإن

مصيركم إلى النار} أمر رسوله أيضاً أن يقول للمؤمنين أن يقيموا الصلاة وينفقوا من أموالهم سراً وعلانية ليتقوا بذلك عذاب يوم القيامة الذي توعد به الكافرين فقال: {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة1} أي يؤدوها على الوجه الذي شرعت عليه فيتموا ركوعها وسجودها ويؤدوها في أوقاتها المعينة لها وفي جماعة وعلى طهارة كاملة مستقبلين بها القبلة حتى تثمر لهم زكاة أنفسهم وطهارة أرواحهم، {وينفقوا2} ويوالوا الإنفاق في كل الأحيان {سراً وعلانية}، {من قبل أن يأتي يوم} وهو يوم القيامة {لا بيع فيه ولا خلال3} لا شراء فيحصل المرء على ما يفدي به نفسه من طريق البيع، ولا خلة أي صداقة تنفعه ولا شفاعة إلا بإذن الله تعالى.
وقوله تعالى: {الله4 الذي خلق السماوات والأرض } أي انشأهما وابتدأ خلقهما {وأنزل من السماء ماء} هو ماء الأمطار {فأخرج به من الثمرات} والحبوب {رزقاً لكم}5 تعيشون به وتتم حياتكم عليه {وسخر لكم الفلك}6 أي السفن {لتجري في البحر بأمره} أي بإذنه وتسخيره تحملون عليها البضائع والسلع من إقليم إلى إقليم وتركبونها كذلك {وسخر لكم الأنهار} الجارية بالمياه العذبة لتشربوا وتسقوا مزارعكم وحقولكم {وسخر لكم الشمس والقمر دائبين7} لا يفتران أبداً في جريهما وتنقلهما في بروجهما لمنافعكم التي لا تتم إلا على ضوء الشمس وحرارتها ونور القمر وتنقله في منازله {وسخر لكم الليل والنهار} الليل لتسكنوا فيه وتستريحوا والنهار لتعملوا فيه وتكسبوا أرزاقكم {وآتاكم من كل ما سألتموه}8 مما أنتم في حاجة إليه لقوام حياتكم، هذا هو الله المستحق لعبادتكم
__________
1 هي الصلوات الخمس: الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء.
2 هي الزكاة ويدخل معها صدقة التطوع، إذ الكلّ انفاق، والسرية غالباً هي صدقة التطوع والعلانية هي الزكاة المفروضة.
3 {الخلال} جمع خلُة كقُلة وقلال، وهي المودة والصداقة والمنفي هنا هو آثارها بالنفع بالإرفاد والإسعاف بالثواب.
4 هذا استئناف واقع موقع الاستدلال على بطلان الشرك ووجوب التوحيد وما يترتب على ذلك من سعادة الموحدين وشقاء المشركين.
5 الرزق: القوت، وهو كل ما يقتات به من أنواع الحبوب والخضر والفواكه واللحوم.
6 التسخير هو التذليل والتطويع، وهو كناية عن كون الشيء قابلاً للتصرف فيه.
7 الدّؤوب: مرور الشيء في العمل على عادة جارية لا تختلف وفعله: دأب يدأب دؤوبا على الشر: إذا استمر عليه ولم يقطعه.
8 {من كل ما سألتموه} أي: من كل مسؤول سألتموه شيئاً فحذف مسؤول لدلالة الكلام عليه، والمقابل محذوف أي: ومن كل ما لم تسألوه، فإن هناك أشياء لم يسألها الإنسان، وأعطاه الله تعالى إيّاها، وهذا الحذف كقوله: {سرابيل تقيكم الحر..} وسرابيل تقيكم البرد: فحذف.

رغبة فيه ورهبة منه، هذا هو المعبود الحق الذي يجب أن يعبد وحده لا شريك له وليس تلك الأصنام والأوثان التي تعبدونها وتدعون إلى عبادتها حتى حملكم ذلك على الكفر والعناد بل والظلم والشر والفساد.
وقوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} أي بعد أن عدد الكثير من نعمه أخبر أنه لا يمكن للإنسان أن يعد نعم الله عليه ولا أن يحصيها عداً بحال من الأحوال، وقرر حقيقة في آخر هذه الموعظة والذكرى وهي أن الإنسان إذا حرم الإيمان والهداية الربانية {ظلوم} أي كثير الظلم كفور كثير الكفر عظيمه، والعياذ بالله تعالى من ذلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإكثار من الصدقات لاتقاء عذاب النار.
2- جواز صدقة العلن كصدقة السر وإن كانت الأخيرة أفضل.
3- التعريف بالله عز وجل إذ معرفة الله تعالى هي التي تثمر الخشية منه تعالى.
4- وجوب عبادة الله تعالى وبطلان عبادة غيره.
5- وصف الإنسان بالظلم والكفر وشدتهما ما لم يؤمن ويستقيم على منهج الإسلام.
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ(35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(36) رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ

تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ(37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء(38) الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء(39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء(40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ(41)
شرح الكلمات:
هذا البلد آمنا : أي اجعل مكة بلداً آمناً يأمن كل من دخله.
واجنبني: بعِّدْني.
أن نعبد الأصنام: عن أن نعبد الأصنام.
أضللن كثيراً من الناس: أي بعبادتهم لها.
من تبعني فإنه مني: أي من اتبعني على التوحيد فهو من أهل ملتي وديني.
من ذريتي : أي من بعض ذريتي وهو إسماعيل عليه السلام وأمه هاجر.
بواد غير ذي زرع.: أي مكة إذ لا مزارع فيها ولا حولها يومئذ.
تهوي إليهم: تَحِنُّ إليهم وتميل رغبة في الحج والعمرة.
على الكبر إسماعيل واسحق : أي مع الكبر إذ كانت سنه يومئذ تسعاً وتسعين سنه وولد له إسحق وسنه مائة واثنتا عشرة سنة.
ولوالدي : هذا قبل أن يعرف موت والده على الشرك.
يوم يقوم الحساب : أي يوم يقوم الناس للحساب.
معنى الآيات:
مازال السياق في تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء وقد تضمنت هذه الآيات ذلك،

فقوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم} أي اذكر إذ قال إبراهيم فكيف يذكر ما لم يوح الله تعالى إليه بذلك ففسر هذا نبوة رسول الله ونزول الوحي إليه، وقوله: {رب اجعل هذا البلد آمنا} إي ذا أمن فيأمن من دخله على نفسه وماله والمراد من البلد مكة.
وقوله: {واجنبني1 وبني أن نعبد الأصنام } فيه تقرير للتوحيد الذي هو عبادة الله وحده ومعنى أجنبني أبعدني أنا وأولادي وأحفادي وقد استجاب الله تعالى له فلم يكن في أولاده وأولاد أولاده مشرك، وقوله: {رب إنهن أضللن كثيراً من الناس} 2 تعليل لسؤاله ربه أن يجنبه وبنيه عبادتها، وإضلال الناس كان بعبادتهم لها فضلوا في أودية الشرك، وقوله: {فمن تبعني} أي من أولادي {فإنه مني} أي على ملتي وديني، {ومن عصاني} فلم يتبعني على ملة الإسلام إن تعذبه فذاك وإن تغفر له ولم تعذبه {فإنك غفور3 رحيم}، وقوله: {ربنا إني اسكنت من ذريتي}4 أي من بعض ذريتي وهو إسماعيل مع أمه هاجر {بواد غير ذي زرع} هو مكة إذ ليس فيها ولا حولها زراعة يومئذ وإلى آماد بعيدة وأزمنة عديدة {عند بيتك المحرم} قال هذا بإعلام من الله تعالى له أنه سيكون له بيت في هذا الوادي ومعنى المحرم أي الحرام وقد حرمه تعالى فمكة حرام إلى يوم القيامة لا يُصاد صيدها ولا يُختلي خلاها ولا تُسفك فيها دماء ولا يحل فيها قتال، وقوله: {ربنا ليقيموا الصلاة5 فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم} هذا دعاء بأن ييسر الله تعالى عيش سكان مكة ليعبدوا الله تعالى فيها بإقام الصلاة، فإن قلوب بعض الناس عندما تهفوا إلى مكة وتميل إلى الحج والعمرة تكون سبباً في نقل الأرزاق والخيرات إلى مكة، وقوله: {وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} دعاء آخر بأن يرزق الله بنيه من الثمرات ليشكروا الله تعالى على ذلك فوجود الأرزاق والثمرات موجبة للشكر، إذ النعم تقتضي
__________
1 أي: اجعلني جانباً عن عبادتها، وبنيه من صلبه وكانوا ثمانية: فما عبد منهم أحد صنماً قط. كان إبراهيم التميمي يقول: من يأمن البلاء بعد الخليل حتى يقول: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام.
2 نسب الإضلال إليهن وهن جمادات لا يفعلن شيئاً: لأنهن السبب في الإضلال.
3 فوّض الأمر لربه إن شاء غفر لمن عصاه رحمة، وإن شاء عذّبه. وقيل: قال إبراهيم هذا قبل أن يعلم أن الله لا يغفر الشرك لأصحابه.
4 ذكر البخاري قصّة إسكان إبراهيم عليه السلام هاجر مكة، بالتفصيل فليرجع إليها ومن في قوله: {من ذريتي} للتبعيض إذ لم يسكن مكة إلا إسماعيل وباقي أولاده كانوا بالشام.
5 خص الصلاة بالذكر لأنها العبادة التي تشتمل على الذكر والشكر، وهي علّة الحياة وسرّ هذا الوجود والكلام في قوله {ليقيموا الصلاة} لام كي: التعليلية والفعل متعلق بأسكنت أي: أسكنتهم بمكة ليقيموا الصلاة فيها.

شكراً، وقوله: {ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء} أراد به أن ما سأل ربه فيه من كل ما سأل إنما هو من باب إظهار العبودية لله والتخشع لعظمته والتذلل لعزته والافتقار إلى ما عنده، وإلا فالله أعلم بحاله وما يصلحه هو وبنيه، وما هم في حاجة إليه لأنه تعالى يعلم كل شيء ولا يخفي1 عنه شيء في الأرض ولا في السماء.. وقوله: {الحمد الله الذي وهب لي على الكبر2 إسماعيل واسحق إن ربي لسميع الدعاء} أراد به حمد الله وشكره على ما أنعم به عليه حيث رزقه إسماعيل واسحق على كبر سنه، والإعلام بأن الله تعالى سميع دعاء من يدعوه وينيب إليه، وقوله: {رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي} أيضاً من يقيم الصلاة، لأن الصلاة هي علة الحياة كلها إذ هي الذكر والشكر فمتى أقام العبد الصلاة فأداها بشروطها وأركانها كان من الذاكرين الشاكرين، ومتى تركها العبد كان من الناسين الغافلين وكان من الكافرين، وأخيراً ألحَّ على ربه في قبول دعائه وسأل المغفرة له ولوالديه3 وللمؤمنين يوم يقوم4 الناس للحساب وذلك يوم القيامة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضل مكة وشرفها وأنها حرم آمن أي ذو أمن.
2- الخوف من الشرك لخطره وسؤال الله تعالى الحفظ من ذلك.
3- علاقة الإيمان والتوحيد أولى من علاقة الرحم والنسب.
4- أهمية إقام الصلاة وأن من لم يرد أن يصلي لا حق له في الغذاء ولذا يعدم إن أصر على ترك الصلاة.
__________
1 قال ابن عباس في قوله تعالى: {إنك تعلم ما نخفي وما نعلن} أي: من الوجد بإسماعيل وأمّه حيث أُسكنا بواد غير ذي زرع، والوجد: الحزن.
2 قيل: ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له اسحق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة. قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
3 استغفر عليه السلام لوالديه قبل أن يتبين له عداوة أبيه آزر لله تعالى فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، كما تقدم في سورة التوبة، كما جاء فيها: {فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه} فلذا لا يجوز الاستغفار لمن مات مشركاً، كما لا يجوز الصلاة عليه إذا مات إجماعاً.
4 نسبة القيام إلى الحساب كقولهم: قامت الحرب على ساق: يعنون اشتداد الأمر، وصعوبة الحال.

5- بيان استجابة دعاء إبراهيم عليه السلام فيما سال ربه تعالى فيه.
6- وجوب حمد الله وشكره على ما ينعم به على عبده.
7- مشروعية الاستغفار للنفس وللمؤمنين والمؤمنات.
8- تقرير عقيدة البعث والحساب والجزاء.
وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ(42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء(43) وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ(44) وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ(45) وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ(46)
شرح الكلمات:
عما يعمل الظالمون : أي المشركون من أهل مكة وغيرهم.
ليوم تشخص فيه الأبصار : أي تنفتح فلا تغمض لشدة ما ترى من الأهوال.
مهطعين مقنعي رؤوسهم: أي مسرعين إلى الداعي الذي دعاهم إلى الحشر، رافعي رؤوسهم.

وأفئدتهم هواء : أي فارغة من العقل لشدة الخوف والفزع.
نجب دعوتك.: أي على لسان رسولك فنعبدك ونوحدك ونتبع الرسل.
ما لكم من زوال : أي عن الدنيا إلى الآخرة.
وقد مكروا مكرهم: أي مكرت قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث أرادوا قتله أو حبسه أو نفيه.
وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال: أي لم يكن مكرهم بالذي تزول منه الجبال فإنه تافه لا قيمة له فلا تعبأ به ولا تلتفت إليه.
معنى الآيات:
في هذا السياق الكريم تقوية رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر ليواصل دعوته إلى ربه إلى أن ينصرها الله تعالى وتبلغ المدى المحدد لها والأيام كانت صعبة على رسول الله وأصحابه لتكالب المشركين على أذاهم، وازدياد ظلمهم لهم فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون} من قومك إنه إن لم ينزل بهم نقمته ولم يحل عذابه إنما يريد أن يؤخرهم {ليوم تشخص1 فيه الأبصار} أي تنفتح فلا تغمض ولا تطرف لشدة الأهوال وصعوبة الأحوال، {مهطعين2} أي مسرعين {مقنعي رؤوسهم3} أي حال كونهم مهطعين مقنعي رؤوسهم أي رافعين رؤوسهم مسرعين للداعي الذي دعاهم إلى المحشر، قال تعالى: {واستمع يوم يناد المنادي من مكان قريب} {لا يريد إليهم طرفهم4} أي لا تغمض أعينهم من الخوف {وأفئدتهم} أي قلوبهم {هواء} أي5
__________
1 قال ابن عباس رضي الله عنهما: تشخص أبصار الخلائق يومئذ إلى الهواء لشدة الحيرة فلا يرمضون، وفعل الشخوص: شخص يشخص البصر: إذا سما وطمح من الخوف.
2 {مهطعين} اسم فاعل من أهطع يهطع إهطاعاً فهو مهطع إذا أسرع ومنه قوله تعالى: {مهطعين إلى الداع} أي: مسرعين، قال الشاعر:
بدجلة دارهم ولقد أراهم
بدجلة مهطعين إلى السماع
والمهطع أيضاً من ينظر في ذل وخشوع.
3 {مقنعي} الإقناع: رفع الرأس ومنه الإقناع في الصلاة وهو مكروه وقد يطلق الإقناع أيضاً على تنكيس الرأس، يقال: أقنع رأسه: إذا طأطأه أو رفعه، واللفظ يحتمل الوجهين.
4 الطرف: العين، قال الشاعر:
وأغمض طرفي ما بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي ماواها
يقال: طرف يطرف طرفاً إذا أطبق جفنه على الآخر، ولم يطرف: إذا فتح عينه ولم يغمضها.
5 هي كالهواء في الخلو من الإدراك لشدة الهول، والهواء: الخلاء.

فارغة من الوعي والإدراك لما أصابها من الفزع والخوف ثم أمر تعالى رسوله في الآية (44) بإنذار الناس مخوفاً لهم من عاقبة أمرهم إذا استمروا على الشرك بالله والكفر برسوله وشرعه، {يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا} أي أشركوا بربهم، وآذوا عباده المؤمنين {ربنا أخرنا إلى أجل قريب} أي يطلبون الإنظار والإمهال {نجب دعوتك} أي نوحدك ونطيعك ونطيع رسولك، فيقال لهم: توييخاً وتقريعاً وتكذيباً لهم: {أو لم تكونوا أقسمتم} أي حلفتم {من قبل ما لكم من زوال} أي أطلبتم الآن التأخير ولم تطلبوه عندما قلتم ما لنا من زوال ولا ارتحال من الدنيا إلى الآخرة، {وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم} بالشرك والمعاصي {وتبين لكم} أي عرفتم {كيف فعلنا بهم} أي بإهلاكنا لهم وضربنا لكم الأمثال في كتبنا وعلى ألسنة رسلنا فيوبخون هذا التوبيخ ولا يجابون لطلبهم ويقذفون في الجحيم، وقوله تعالى : {وقد مكروا مكرهم} أي وقد مكر كفار قريش برسول الله في حيث قرروا حبسه مغللاً في السجن حتى الموت أو قتله، أو نفيه وعزموا على القتل ولم يستطيعوه {وعند الله مكرهم} أي علمه وما أرادوا به، وجزاؤهم عليه، وقوله: {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال1} أي ولم يكن مكرهم لتزول منه الجبال فإنه تافه لا وزن له ولا اعتبار فلا تحفل به أيها الرسول ولا تلتفت، فإنه لا يحدث منه شيء، وفعلاً قد خابوا فيه أشد الخيبة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تأخير العذاب عن الظلمة في كل زمان ومكان لم يكن غفلة عنهم، وإنما هو تأخيرهم إلى يوم القيامة أو إلى أن يحين الوقت المحدد لأخذهم.
2- بيان أهوال يوم القيامة وصعوبة الموقف فيه حتى يتمنى الظالمون الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا ويوحدوا ربهم في عبادته.
3- التنديد بالظلم وبيان عقاب الظالمين بذكر أحوالهم.
__________
1 قرىء: {لتزول} بفتح اللام الأولى وضم الآخرة لتزول، وإن مخففة من الثقيلة، واللام لام الابتداء، ومعنى الآية. استعظام مكرهم حتى لتكاد الجبال تزول منه، وما في التفسير من قراءة وتوجيه هو الذي رجّحه ابن جرير الطبري. هنا ذكر القرطبي بإسهاب قصّة النمرود الجبار الذي حاج إبراهيم عليه السلام، ولا طائل تحتها.

4 – تقرير جريمة قريش في ائتمارها على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ(47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ(48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ(49) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ(50) لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(51) هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ(52)
شرح الكلمات:
إن الله عزيز : أي غالب لا يحال بينه وبين مراده بحال هن الأحوال.
ذو انتقام : أي صاحب انتقام ممن عصاه وعصى رسوله.
يوم تبدل الأرض: أي اذكر يا رسولنا للظالمين يوم تبدل الأرض.
وبرزوا لله: أي خرجوا من القبور لله ليحاسبهم ويجزيهم.
مقرنين: أي مشدودة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم.
في الأصفاد : الأصفاد جمع صفد وهو الوثاق من حبل وغيره.
سرابيلهم : أي قمصهم التي يلبسونها من قطران.
هذا بلاغ: أي هذا القرآن بلاغ للناس.
أولوا الألباب : أصحاب العقول.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهم يعانون من صلف المشركين

وظلمهم وطغيانهم فيقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله1} إنه كما لم يخلف رسله الأولين لا يخلفك أنت، إنه لابد منجز لك ما وعدك من النصر على أعدائك فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم. {إن الله عزيز2} أي غالب لا يغلب غالب على أمره ما يريده لا بد واقع {ذو انتقام} شديد ممن عصاه وتمرد على طاعته وحارب أولياءه، واذكر {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات3} كذلك {وبرزوا} أي ظهروا بعد خروجهم من قبورهم في طريقهم إلى المحشر إجابة منهم لدعوة الداعي وقد برزوا {لله الواحد القهار}، {وترى المجرمين يومئذ} يا رسولنا تراهم {مقرنين في الأصفاد}4 مشدودة أيديهم وأرجلهم إلى أعناقهم، هؤلاء هم المجرمون اليوم بالشرك والظلم والشر والفساد أجرموا على أنفسهم أولاً ثم على غيرهم ثانياً سواء ممن ظلموهم وآذوهم أو ممن دعوهم إلى الشرك وحملوهم عليه، الجميع قد أجرموا في حقهم، {سرابيلهم5} قمصانهم التي على أجسامهم {من قطران} وهو ما تدهن به الإبل: مادة سوداء محرقة للجسم أو من نحاس إذْ قرئ من قِطرآن أي من نحاس أُحمي عليه حتى بلغ المنتهى في الحرارة {وتغشى وجوههم النار} أي وتغطي وجوههم النار بلهبها، هؤلاء هم المجرمون في الدنيا بالشرك والمعاصي، وهذا هو جزاؤهم يوم القيامة، فعل تعالى هذا بهم {ليجزي الله كل نفس بما كسبت إن الله سريع الحساب} فما بين أن وجدوا في الدنيا وبين أن انتهوا إلى نار جهنم واستقروا في أتون جحيمها إلا كمن دخل
__________
1 { مخلف} مفعول ثان لحسب، ووعده: مجرور بالإضافة، ورسله: معمول لمخلف مؤخر، والأصل: مخلف رسله. وعده، وقدّم الوعد للاهتمام به.
2 جملة تعليلية للنهي عن حسبان خلف وعده تعالى.
3 الآية نصّ صريح في كون الأرض والسموات تتبدل في ذاتها وسائر صفاتها وتزول تماماً ويخلق الله تعالى أرضاً غير ذي وسماء غير هذه، وفي الحديثين الآتيين ما يقرر ذلك:
أ- حديث مسلم، وفيه: "إنّ يهوديا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال: في الظلمة دون الجسر".
ب- حديث ابن ماجه بإسناد مسلم قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : {يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات} فأين يكون الناس يومئذ؟ قال: على الصراط".
4 الأصفاد: جمع صفد بفتح كل من الصاد والفاء، وهو الغلّ والقيد يشد به ويربط الجاني قال الشاعر:
فآبوا بالنهاب وبالسبايا
وأُبنا بالملوك مصفدين
5 واحد السرابيل: سربال، وهو القميص، يقال: تسربل، إذا لبس السربال وكونها من قطران لشدّة حرارتها، واشتعال النار فيها.

مع باب وخرج مع آخر، وأخيراً يقول تعالى: {هذا بلاغ للناس1 وليذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب} أي هذا القرآن بلاغ للناس من رب الناس قد بلغه إليهم رسول رب الناس {ولينذروا به} أي بما فيه من العظات والعبر والعرض لألوان العذاب وصنوف الشقاء لأهل الإجرام والشر والفساد، {وليعلموا} أي بما فيه من الحجج والدلائل والبراهين {أنما هو إله واحد} أي معبود واحد لا ثاني له وهو الله جل جلاله، فلا يعبدوا معه غيره إذ هو وحده الرب والإله الحق، وما عداه فباطل، {وليذكر أولوا الألباب} أي وليتعظ بهذا القرآن أصحاب العقول المدركة الواعية فيعملوا على إنجاء أنفسهم من غضب الله وعذابه، وليفوزوا برحمته ورضوانه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان صدق وعد الله من وعدهم من رسله وأوليائه.
2- بيان أحوال المجرمين في العرض وفي جهنم.
3- بيان العلة في المعاد الآخر وهو الجزاء على الكسب في الدنيا.
4- قوله تعالى في آخر آية من هذه السورة: {هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب} هذه الآية صالحة لأن تكون عنواناً2 للقرآن الكريم إذ دلت على مضمونه كاملاً مع وجازة اللفظ وجمال العبارة، والحمد لله أولاً وآخراً.
__________
1 {بلاغ} أي: تبليغ للناس يقوم به الرسول صلى الله عليه وسلم.
2 قال هذا: العلامة الشيخ، البشير الإبراهيمي الجزائري، وظننا أنّه إلهام من الله تعالى له، د إذا بنا نعثر في كلام الأولين على من قاله، وسبق به وجائز أن يكون الشيخ ألهمه والآخر كذلك، وتوارد الخواطر معروف ولا مانع من النقل والسكوت على من نقل عنه، إذ العلم مشاع كالماء والهواء لا غنى لأحد عنهما، ولذا فلا بأس أن ينقل العلم ولا ينسب إلى قائله لكن لا ينسب إلى غير قائله، فتلك سرقة ممنوعة.

سورة الحجر
...
الجزء الرابع عشر
سورة الحجر
مكية
وآياتها تسع وتسعون
بسم الله الرحمن الرحيم
الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ(1) رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ(2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ(4) مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ(5)
شرح الكلمات:
آلر: الله أعلم بمراده بذلك، تُكتب آلر. ويقرأ: ألِفْ، لاَمْ، را.
تلك آيات الكتاب: الآيات المؤلفة مثل هذه الحروف المقطعة تلك آيات الكتاب أي القرآن.
يود: يحب ويرغب متمنياً أن لو كان من المسلمين.
ويتمتعوا: أي بالملذات الشهوات.
ويلههم الأمل : أي بطول العمر وبلوغ الأوطار وإدراك الرغائب الدنيوية.
إلا ولها كتاب معلوم : أي أجل محدود لإهلاكها.
ما تسبق من أمة أجلها: أي لا يتقدم أجلها المحدد لها ومن زائدة للتأكيد.
معنى الآيات:
بما أن السورة مكية فإنها تعالج قضايا العقيدة وأعظمها التوحيد والنبوة والبعث. قوله تعالى: {آلر}: الله أعلم بمراده به، ومن فوائد هذه الحروف المقطعة تنبيه السامع وشده بما يسمع من التلاوة، إذ كانوا يمنعون سماعه خشية التأثر به، فكانت هذه الفواتح التي لم يألفوا مثلها في كلامهم تشدهم إلى سماع ما بعدها من القرآن. وقوله: {تلك آيات

الكتاب} 1 من الجائز القول. الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف الر، آلم، طس، حمَ عَسَقَ. (تلك آيات الكتاب وقرآنٍ مبين} المبين: المبين للحق والباطل والهدى والضلال وقوله تعالى: {ربما2 يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين}: يخبر تعالى أن يوماً سيأتي هو يوم القيامة عندما يرى الكافر المسلمين يدخلون الجنة ويدخل هو النار يود يومئذ متمنياً أن لو كان من3 المسلمين. وقد يُحدث الله تعالى ظروفاً في الدنيا وأموراً يتمنى الكافر فيها لو كان من المسلمين. وقوله تعالى: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون} أي اتركهم يا رسولنا، أي اترك الكافرين يأكلوا ما شاءوا من الأطعمة، ويتمتعوا بما حصل لهم من الشهوات والملذات، ويلههم الأمل عن التفكير في عاقبة أمرهم. إذ همهم طولُ أعمارهم، وتحقيق أوطارهم، فسوف يعلمون إذا رُدّوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون أنهم كانوا في الدنيا مخطئين بإعراضهم عن الحق ودعوة الحق والدين الحق وقوله: {وما أهلكنا من4 قرية} أي من أهل قرية بعذاب الإبادة والاستئصال {إلا ولها كتاب}، أي لها أجل مكتوب في كتابٍ محدد اليوم والساعة. وقوله: {.. ما تسبق من أمةٍ أجلها وما يستأخرون} أي بناءً على كتاب المقادير فإن أمة كتب الله هلاكها لا يمكن أن يتقدم هلاكها قبل ميقاته المحدد، ولا أن يستأخر عنه ولو ساعة. وفي هذا تهديدٌ وتخويف لأهل مكة وهم يحاربون دعوة الحق ورسول الحق لعل قريتهم قد كتب لها كتابٌ وحدد لها أجل وهم لا يشعرون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- القرآن الكريم مبينٌ لكل ما يحتاج إليه في إسعاد الإنسان وإكماله.
__________
1 لفظ الكتاب الذي هو القرآن أصبح علماً بالغلبة على القرآن العظيم الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وسمي بالكتاب لأنه مأمور بكتابته وحفظه فسمي بالكتاب قبل أن يكتب للأمر بذلك، والقرآن: اسم ثان للكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم والكتاب مشتق من الكتب الذي هو الجمع، والقرآن من القرء الذي هو الجمع أيضاً فهو تجمع حروفه وكلماته.
2 ربّ: حرف جرٌ يدخل على الأسماء، وإن أريد إدخالها على الأفعال لحقت بها (ما) كما في الآية. وقرأ نافع {رُبَمَا} بالتخفيف، وشدّدها غيره في هذه الآية {ربما يودّ الذين كفروا..} الخ وأصل استعمالها في التقليل، وقد تستعمل في الكثير.
3 وقد ورد أنه لما يرى الكافرون وهم في النار أهل التوحيد يخرجون منها يودون لو كانوا موحدين، والكل وارد ولا مانع منه.
4 {من}: صلة لتقوية النفي وتأكيد الخبر.

2- إنذار الكافرين وتحذيرهم من مواصلة كفرهم وحربهم للإسلام فإن يوماً سيأتي يتمنون فيه أن لو كانوا مسلمين.
3- تقرير عقيدة القضاء والقدر فما من شيء إلا وسبق به علم الله وكتبه عنده في كتاب المقادير الحياة كالموت، والربح كالخسارة، والسعادة كالشقاء، جميع ما كان وما هو كائنٌ وما سكون سبق به علم الله وكتب في اللوح المحفوظ.
وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ(6) لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ(8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ(10) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ(11)
شرح الكلمات :
نزل عليه الذكر.: أي القرآن الكريم.
لو ما تأتينا بالملائكة: أي هلا تأتينا بالملائكة تشهد لك أنك نبي الله.
وما كانوا إذاً منظرين: أي ممهلين، بل يأخذهم العذاب فور نزول الملائكة.
إنا نحن نزلنا الذكر: أي القرآن.
في شيع الأولين: أي في فرق وطوائف الأولين.
معنى الآيات:
قوله تعالى {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر } أي قال الكافرون المنكرون للوحي والنبوة {إنك لمجنون} أي غير عاقل وإلا لما ادعيت النبوة. وفي قولهم هذا استهزاء

ظاهر بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو ثمرة ظلمة الكفر التي في قلوبهم وقوله: {لوما تأتينا1 بالملائكة} لو ما هنا بمعنى هلا التحضيضيه أي هلا تأتينا بالملائكة نراهم عياناً يشهدون لك بأنك رسول الله {إن كنت من الصادقين} في دعواك النبوة والرسالة فأت بالملائكة تشهد لك. قال تعالى {ما ننزل2 الملائكة إلا بالحق} أي نزولاً ملتبساً بالحق. أي لا تنزل الملائكة إلا لإحقاق الحق وإبطال الباطل لا لمجرد تشهي الناس ورغبتهم ولو نزلت الملائكة ولم يؤمنوا لنزل بهم العذاب فوراً {وما كانوا إذاً منظرين3} أي ممهلين بل يهلكون في الحال. وقوله تعالى في الآية (9) {إنا نحن نزلنا الذكر} أي القرآن {وإنا له لحافظون} أي من الضياع ومن الزيادة والنقصان لأنه حجتنا على4 خلقنا إلى يوم القيامة. أنزلنا الذكر هدى ورحمه وشفاء ونوراً. هم يريدون العذاب والله يريد الرحمة. مع أن القرآن نزلت به الملائكة، والملائكة إن نزلت ستعود إلى السماء ولم يبق ما يدل على الرسالة إلا القرآن ولكن القوم لا يريدون أن يؤمنوا وليسوا في ذلك الكفر والعناد وحدهم بل سبقتهم طوائف وأمم أرسل فيهم فكذبوا وجاحدوا وهو قوله تعالى: {ولقد5 أرسلنا من قبلك في شيع6 الأولين} أي في فرقهم وأممهم {وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به7 يستهزئون} لأن علة المرض واحدة إذاً فلا تيأس يا رسول الله ولا تحزن بل اصبر وانتظر وعد الله لك بالنصر فإن وعده حق: {كتب ألله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز}.
__________
1 {لوما} كلولا وهلاّ: حرف تحضيض على الفعل نحو: لو ما أكرمت عمراً ولولا أكرمت زيداً وهلا كذلك، وتأتي مع الخبر فلا يراد بها التحضيض نحو: لو ما خوف الله لقلت فيك كذا وكذا، قال الشاعر:
لو ما الحياء ولوما الدين عبتكما
ببعض ما فيكما إذ عبتما عَوَري
2 قرأ حفص: {ما ننزل الملائكة} وقرأ بعضهم {ما تنزّل} وقرأ ورش عن نافع {ما تُنَزَّل} بحذف إحدى التائين نخفيفاً، إذ الأصل: تتنزّل.
3 أصل: إذاً: إذ أن، ومعناها حينئذ أي: تنزّلت الملائكة بإهلاكهم لما كانوا حينئذ منظرين أي. ممهلين ساعة من الزمن.
4 قالت العلماء: لما وكل الله تعالى حفظ التوراة والإنجيل إلى أهل الكتاب في قوله {بما استحفظوا من كتاب الله} أضاعوه فزادوا فيه ونقصوا منه، ولمّا تولى الله تعالى حفظ القرآن، حفظه فلم يردْ فبه حرف ولم ينقص منه حرف.
5 {ولقد أرسلنا} الخ.. هذه الجملة إبطال لاستهزاء المشركين بالرسول صلى الله عليه وسلم على طريقة التمثيل بأشياعهم من الأمم السابقة.
6 الشِيعَ: جمع شيعة، وهي الفرقة المتآلفة المتفقة الكلمة، وفيه قوله تعالى {أو يلبسكم شيعا} أي: فرقاً كل فرقة تتألف مع أفرادها، وتحارب عن مبادئها وأفكارها وما هي عليه من دين وعادة.
7 تقديم الجار والمجرور (به) على فعل يستهزئون: لإفادة القصر للمبالغة أي: كأنهم لفساد قلوبهم لا شغل لهم إلا الاستهزاء برسول الله عز وجل.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان ما كان يلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من استهزاء وسخرية من المشركين.
2- مظهر من مظاهر رحمة الله بالإنسان، يطلب نزول العذاب والله ينزل الرحمة.
3- بيان حفظ الله تعالى للقرآن الكريم من الزيادة والنقصان ومن الضياع.
4- بيان سنة الله تعالى في الأمم والشعوب وهي أنهم ما يأتيهم من رسول ينكر عليهم مألوفهم ويدعوهم إلى جديد من الخير والهدى إلا وينكرون ويستهزئون.
كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ(12) لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ(13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ(14) لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ(15) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ(16) وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ(17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ(18)
شرح الكلمات:
كذلك نسلكه : أي التكذيب بالقرآن أو النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد خلت سنة الأولين: أي مضت سنة الأمم السابقة.
فظلوا فيه يعرجون : أي يصعدون.
إنما سُكِّرت : أي سدت كما يُسَكَّرُ النهر أو الباب.
في السماء بروجا : أي كواكب ينزلها الشمس والقمر.
شيطان رجيم : أي مرجومٌ بالشهب.
شهاب مبين: كوكب يُرجم به الشيطان يحرقه أو يمزقه أو يُخْبلُهُ أي يفسده.

معنى الآيات:
مازال السياق في المكذبين للنبي المطالبين بنزول الملائكة لتشهد للرسول بنبوته حتى يؤمنوا بها. قال تعالى: {كذلك نسلكه1} أي التكذيب في قلوب المجرمين من قومك، كما سلكناه حسب سنتنا في قلوب من كذبوا الرسل من قبلك فسلكه {في قلوب المجرمين} من قومك فلا يؤمنون بك ولا بالذكر الذي أنزل عليك. وقوله تعالى: {وقد خلت سنة الأولين2} أي مضت وهى تعذيب المكذبين للرسل المستهزئين بهم لأنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم. وقوله تعالى: {ولو فتحنا عليهم3 باباً من السماء فظلوا} أي الملائكة أو المكذبون {فيه} أي في ذلك الباب {يعرجون} أي يصعدون طوال النهار طالعين هابطين ولقالوا في المساء {إنما سكرت أبصارنا} أي منعت من النظر الحقيقي فلم نر الملائكة ولم نرى السماء {بل نحن4 قوم مسحورون} فأصبحنا نرى أشياء لا حقيقية لها، وقوله تعالى: {ولقد جعلنا5 في السماء بروجا} أي كواكب6 هي منازل للشمس والقمر ينزلان بها وعلى مقتضاها يعرف عدد السنين والحساب. وقوله: {زيناها} أي السماء بالنجوم {للناظرين } فيها من الناس. وقوله: {وحفظناها} أي السماء الدنيا {من كل شيطان رجيم} أي مرجوم ملعون. وقوله: {إلا من أسترق السمع} إلا مارد من الشياطين طلع إلى السماء لاستراق السمع من الملائكة لينزل بالخبر إلى وليه من الكهان من الناس {فاتبعه شهاب} من نار {مبين} أي يبين أثره في الشيطان إما بإخباله وإفساده وإما بإحراقه. هذه الآيات وهي قوله تعالى: {ولقد جعلنا
__________
1 عود الضمير في {نسلكه} على القرآن أولى إذ السياق تابع لقوله: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وقوله تعالى: {ولقد أرسلنا من قبلك من شيع الأولين} أي: أرسل فيهم رسلاً وكانوا ينزل عليهم آياتنا ولم ينتفعوا لإعراضهم عنها فلا تعيها قلوبهم ولا تدركها فُهو مُهم، ولا يتأثرون بها لوجود حرائل حالت دون ذلك، وهي الكبر والحسد والعناد وكذلك المسلك الذي سلكناه في قلوب الأولين نسلكه اليوم في قلوب المجرمين فيدخل القرآن عند سماعه إلى قلوبهم ولا يلامسها ولا يباشرها فلا تتأثر به وذلك لحوائل منها الحسد والعناد والكبر، وتلك سنّة الله تعالى في أمثالهم، وأصل السلك: إدخال الشيء في آخر.
2 في الآية تعريض للمجرين بالهلاك.
3 هذه الآية كقوله تعالى: {ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين}.
4 أي: أضربوا عن القول الأوّل. وهو قولهم: إنّما سكّرت أبصارنا إلى قلولهم بل نحن قوم مسحورون. أي ما رأينا شيئاً ثم أقرّوا بأنهم رأوا ولكن ما رأوه إنما هو تخيلات المسحور لا غير.
5 هذا شروع في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته الموجبة لتوحيد والمقررة للبعث والجزاء.
6 هذا كقوله تعالى: {تبارك الذي جعل في الماء بروجاً} أي:كواكب.

في السماء بروجاً} إلى آخر ما جاء في هذا السياق الطويل، القصد منه إظهار قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته وكلها مقتضية لإرسال الرسول وإنزال الكتاب لهداية الناس إلى عبادة ربهم وحده عبادة يكملون عليها ويسعدون في الدنيا والآخرة، ولكن المكذبين لا يعلمون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله تعالى في المكذبين المعاندين وهي أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.
2- مطالبة المكذبين المجرمين بالآيات كرؤية الملائكة لا معنى لها إذ القرآن أكبر آية ولم يؤمنوا به فلذا لو فتح باب من السماء فظلوا فيه يعرجون لما آمنوا.
3- بيان مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته فيما حملت الآيات من مظاهر لذلك، بدءاً من قوله: {ولقد جعلنا في السماء بروجاً1} إلى الآية السابعة والعشرين من هذا السياق الكريم.
وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ(19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ(20) وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ(21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ
__________
1 البروج : جمع برج وهو في الأصل البناء الكبير المحكم البناء الذي يظهر من بعيد قال تعالى :{ولو كنتم في بروج مشيدة} أي:قصور ظاهرة، ومنه: المرأة تتبرّج بزينتها: أي تظهرها، والمراد من البروج في الآية: كواكب ثابتة غير سيارة هي منازل الشمس والقمر، وسمى هذه البروج العرب بأسماء تخيلوا أشكالها في السماء وهي: برج الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، ابتداء من فصل الربيع وانتهاء بفصل الشتاء.

بِخَازِنِينَ(22) وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ(23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ(24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(25)
شرح الكلمات:
والأرض مددناها : أي بسطناها.
وألقينا فيها رواسي: أي جبالا ثوابت لئلا تتحرك الأرض.
موزون: أي مقدر معلوم المقدار لله تعالى.
معايش : جمع معيشة أي ما يعيش عليه الإنسان من الأغذية.
ومن لستم له برازقين: كالعبيد والإماء والبهائم.
وما ننزله إلا بقدر معلوم: أي المطر.
وأرسلنا الرياح لواقح: أي تلقح السحاب فيمتلىء ماءً كما تنقل مادة اللقاح من ذكر الشجر إلى أنثاه.
وما أنتم له بخارنين: أي لا تملكون خزائنه. فتمنعونه أو تعطونه من تشاءون.
المستقدمين منكم والمستأخرين : أي من هلكوا من بني آدم إلى يومكم هذا والمستأخرين ممن هم أحياء وممن لم يوجدوا بعد إلى يوم القيامة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته وهي موجبات الإيمان به وعبادته وتوحيده والتقرب إليه بفعل محابه وترك مساخطه1. قوله تعالى: {والأرض2 مددناها} أي بسطناها {وألقينا فيها رواسي} أي جبالاً ثوابت تثبت الأرض حتى لا
__________
1 وموجبة أيضاً للبعث الآخر والوحي الإلهي.
2 هنا انتقال من عرض آيات الله في السماء إلى آياته في الأرض.

تتحرك أو تميد بأهلها فيهلكوا، {وأنبتنا فيها في كل شيء موزون1} أي مقدر معلوم المقدار لله تعالى. وقوله: {وجعلنا لكم فيها معايش2} عليها تعيشون وهي أنواع الحبوب والثمار وغيرها، وقوله: {ومن لستم له برازقين3} بل الله تعالى هو الذي يرزقه وإياكم من العبيد والإماء والبهائم. وقوله: {وإن من شيء4 إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدرٍ معلوم} أي ما من شيء نافع للبشرية هي في حاجة إليه لقوام حياتها عليه إلا عند الله خزائنه، ومن ذلك الأمطار، لكن ينزله بقدرٍ معلوم حسب حاجة المخلوقات وما تتوقف عليه مصالحها، وهو كقوله: {بيده الخير وهو على كل شيء قدير} وكقوله: {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما شاء الله إنه بعباده خبير بصير} وقوله: {وأرسلنا الرياح لواقح5} أي تلقح السحاب فتمتلىء ماء، {فأنزلنا من السماء ماءاً} بقدرتنا وتدبيرنا {فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين} أي لا تملكون خزائنه فتمنعونه من تشاءون وتعطونه من تشاءون بل الله تعالى هو المالك لذلك، فينزله على أرض قوم ويمنعه آخرين وقوله: {إنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون، ولقد علمنا المستقدمين6 منكم} أي الذين ماتوا من لدن آدم {ولقد علمنا المستأخرين} ممن هم أحياء ومن لم يوجدوا وسيوجدون ويموتون إلى يوم القيامة، الجميع عَلِمَهُم الله، وغيره لا يعلم فلذا استحق العبادة وغيره لا يستحقها. وقوله {وإن ربك} أيها الرسول {هو يحشرهم} أي إليه يوم القيامة ليحاسبهم ويجازيهم، وهذا متوقفٌ على القدرة والحكمة والعلم، والذي أحياهم ثم أماتهم قادرٌ على إحيائهم مرةً أخرى والذي عَلِمهُمْ قبل خلقهم وعلمهم بعد خلقهم
__________
1 قال: {موزون}: لأنّ الوزن يعرف به مقدار الشيء، والموزون من الكلام وغير الخالي من النقص والزيادة، والمراد أن ما أنبته الله تعالى في الأرض من سائر النباتات والمعادن من الذهب والفضة والنحاس والرصاص والقصدير حتى الزرنيخ والكحل كل ذلك يكال ويوزن.
2 واحد المعايش: معيشة، وهي المطاعم والمشارب والملابس والمراكب أيضاً، إذ كل هذا يدخل تحت العيش حتى قيل: المعايش: إنها التصرف في أسباب الرزق مدّة الحياة.
3 الرزق: بفتح الراء مصدر رزقه يرزقه رزقاً، والرّزق بكسر الراء فهو الاسم وهو القوت.
4 أي: نافع للناس لا مطلق الأشياء التي لا نفع للناس فيها.
5 في قوله: {وأرسلنا الرياح لواقح} استدلال بظاهرة كرة الهواء بين السماء والأرض بعد الاستدلال بالسماء والأرض، ولواقح حال من الرياح ولواقح صالح لأن يكون جمع لاقح، وهي الناقة الحبلى أو ملقح وهو الذي يجعل غير لاقحاً.
6 ويدخل في معنى الآية المستقدمين في الطاعة والخير، والمستأخرين في المعصية والشر كما يدخل أيضاً المستقدمين في صفوف الحرب والصلاة، والمستأخرين في ذلك، والآية دليل على فضل السبق في الخير وعلى فضل الصف الأول في القتال والصلاة، وفي الحديث الصحيح: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا".

قادرٌ على حشرهم والحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه لا يخلقهم عبثاً بل خلقهم ليبلوهم ثم ليحاسبهم ويجزيهم إنه هو الحكيم العليم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته المتجلية فيما يلي:
أ- خلق الأرض ومدّها وإلقاء الجبال فيها. إرسال الرياح لواقح للسحب.
ب- إنبات النباتات بموازين دقيقة. إحياء المخلوقات ثم إماتتها.
ج- إنزال المطر بمقادير معينة. علمه تعالى بمن مات ومن سيموت.
2- تقرير التوحيد أن من هذه آثار قدرته هو الواجب أن يعبد وحده دون سواه.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
4- تقرير نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم إذ هذا الكلام كلام الله أوحاه إليه صلى الله عليه وسلم.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ(26) وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ(27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ(28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ(29) فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ(30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ(31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ(32) قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ(33)
شرح الكلمات:
ولقد خلقنا الإنسان : أي آدم عليه السلام.

من صلصال من حمإ مسنون: أي طين يابس له صلصلة من حمإ أي طين أسود متغير.
من نار السموم:. نار لا دخان لها تنفذ في المسام وهي ثقب الجلد البشري.
فإذا سويته : أي أتممت خلقه.
فقعوا له ساجدين: أي خِرّوا له ساجدين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته. قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان} أي آدم {من صلصال} أي طين يابس يسمع له صوت صلصلة. {من حمإ مسنون1} أي طين أسود متغير الريح، هذا مظهر من مظاهر القدرة والعلم. وقوله: {والجان خلقناه من قبل} من قبل خلق آدم والجان هو2 أبو الجن خلقناه {من نار السموم} ونار السموم نار لا دخان لها تنفذ في مسام الجسم.. وقوله: {وإذ قال ربك} أي اذكر يا رسولنا إذ قال ربك للملائكة اسجدوا لآدم أي سجود تحية وتعظيم لا سجود عبادةٍ لآدم، إذ المعبود هو الآمر المطاع وهو الله تعالى. فسجدوا {إلا إبليس3 أبى} أي امتنع أن يكون مع الساجدين. وقوله: {قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين} أي أيُ شيء حصل لك حتى امتنعت أن تكون من جملة الساجدين من الملائكة؟ فأظهر اللعين سبب امتناعه وهو حسده لآدم واستكباره، فقال {لم أكن لأسجد لبشرٍ خلقته من صلصالٍ من حماءٍ مسنون} وفي الآيات التالية جواب الله تعالى ورده عليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أصل خلق الإنسان وهو الطين، والجان وهو لهب النار.
2- فضل السجود، إذ أمر تعالى به الملائكة فسجدوا أجمعون إلا إبليس.
__________
1 ترتيب طينة آدم التي خلق منها كما في الآية هكذا: تراب بلّ بالماء فصار طينا ثمّ ترك حتى أنتن فصار حمأ مسنوناً أي: منغيّراً ثمّ يبس فصار صلصالا والمسنون: المتغير، بسب مكثه مدّة كسنة مثلا.
2 وفي صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: "خلقت الملائكة من نور، وخلقت الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم".
3 قال ابن عباس رضي الله عنهما: الجان: أبو الجن وليسوا شياطين، والشياطين ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس، والجنّ يموتون، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر فآدم أبو الإنس، والجان أبو الجن، وإبليس أبو الشياطين.

3- ذم الحسد وأنه شر الذنوب وأكثرها ضرراً.
4- ذم الكبر وأنه عائق لصاحبه عن الكمال في الدنيا والسعادة في الآخرة.
5- فصل الطين على النار لأن من الطين خلق آدم ومن النار خلق إبليس.
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ(34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ(35) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ(37) إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ(38) قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ(41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ(42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ(43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ(44)
شرح الكلمات:
قال فاخرج منها: أي من الجنة.
فإنك رجيم : أي مرجومٌ مطرودٌ ملعون.
إلى يوم الوقت المعلوم : أي وقت النفخة الأولى التي تموت فيها الخلائق كلها.
بما أغويتني : آي بسبب إغوائك لي أي إضلالك وإفسادك لي.
المخلصين: أي الذين استخلصتهم لطاعتك فإن كيدي لا يعمل فيهم.
هذا صراطٌ علي مستقيم: أي هذا طريقٌ مستقيم موصل اليَّ وعليَّ مراعاته وحفظه.
لها سبعة أبواب.: أي أبواب طبقاتها السبع التي هي جهنم، ثم لظى، ثم الحُطمة، ثم السعير، ثم سَقَر، ثم الجحيم، ثم الهاوية.

معنى الآيات:
قوله تعالى: {فاخرج منها} هذا جوابٌ عن قول إبليس، {لم أكن لأسجد لبشر}. الآية إذاً فاخرج منها أي من الجنة {فإنك رجيم} أي مرجوم مطرود مبعد، {وإن عليك} لعنتي أي غضبي وإبعادي لك من السموات {إلى يوم الدين} أي إلى يوم القيامة وهو يوم الجزاء. فقال اللعين ما أخبر تعالى به عنه: {قال رب فانظرني} أي أمهلني لا تمتني {إلى يوم يبعثون1} فأجاب الرب تعالى بقوله: {فإنك من المنظرين} أي الممهلين {إلى يوم الوقت المعلوم2} وهو فناء بني آدم حيث لم يبق منهم أحد وذلك عند النفخة الأولى. فلما سمع اللعين ما حكم به الرب تعالى عليه قال ما أخبر الله عنه بقوله: {قال رب بما أغويتني} أي بسبب إغوائك {لأزينن لهم في الأرض3} أي الكفر والشرك وكبائر الذنوب، و {لأغوينهم} أي لأضلنّهم {أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} فاستثنى اللعين من استخلصهم الله تعالى لطاعته وأكرمهم بولايته وهم الذين لا يَسْتَبِدُّ بهم غضبٌ ولا تتحكم فيهم شهوة ولا هوى. وقوله تعالى: {قال هذا صراط علي مستقيم} أي هذا طريق مستقيم إليَّ أرعاه وأحفظه وهو {إن عبادي4 ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين5} {وإن جهنم} لموعدك وموعد أتباعك الغاوين أجمعين {لها سبعة أبواب} إذ هي سبع طبقات لكل طبقة باب فوقها يدخل معه أهل تلك الطبقة، وهو معنى قوله تعالى: {لكل باب منهم جزء مقسوم} أي نصيبٌ معين وطبقاتها هي: جهنم، لظى، الحطمة، السعير، سقر، الجحيم، الهاوية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمان إبليس من التوبة لاستمرار غضب الله عليه إلى يوم القيامة.
2- استجاب الله لشر خلقه وهو إبليس فمن الجائز أن يستجيب الله دعاء الكافر لحكمة يريدها الله تعالى.
__________
1 أراد اللعين بسؤاله إلى يوم يبعثون ألاّ يموت، لأنّ يوم البعث لا موت فيه ولا بعده أيضاً.
2 قال ابن عباس: أراد به النفخة الأولى أي: حين تموت الخلائق.
3 التزيين: يشمل أمرين. الأول: تزيين المعاصي والثاني: شغلهم بزينة الدنيا عن فعل الطاعات.
4 أي: ليس له سلطان على قلوبهم، وقال ابن عيينة، أي: في أن يلقيهم في ذنب.
5 الغاوين: الفاسدين بالشرك والمعاصي.

3- أي سلاح يغوي به إبليس بني آدم هو التزين للأشياء حتى ولو كانت دميمة قبيحة يصيرها بوسواسه زينة حسنة حتى يأتيها الآدمي.
4- عصمة الرسل وحفظ الله للأولياء حتى لا يتلوثوا بأوضار الذنوب.
5- طريق الله مستقيم إلى الله تعالى يسلكه الناس حتى ينتهوا إلى الله سبحانه فيحاسبهم ويجزيهم بكسبهم الخير بالخير والشر بالشر.
6- بيان أن لجهنم طبقات واحدة فوق أخرى ولكل طبقةٍ بابها فوقها يدخل معه أهل تلك الطبقة لا غير.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(45) ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ(46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ(47) لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ(48) نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ(50) وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ(51) إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ(52) قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ(53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ(54) قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ(55) قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ(56)
شرح الكلمات:
إن المتقين : أي الذين خافوا ربهم فعبدوه وحده بما شرع لهم من العبادات.

ونزعنا ما في صدورهم من غل : أي حقد وحسد وعداوة وبغضاء.
على سرر متقابلين : أي ينظر بعضهم إلى بعض ما داموا جالسين وإذا انصرفوا دارت بهم الأسرة فلا ينظر بعضهم إلى قفا بعض.
لا يمسهم فيها نصب: أي تعب.
العذاب الأليم: أي الموجع شديد الإيجاع.
ضيف إبراهيم : هم ملائكة نزلوا عليه وهم في طريقهم إلى قوم لوط لإهلاكهم كان من بينهم جبريل وكانوا في صورة شباب من الناس.
إنا منكم وجلون: أي خائفون وذلك لمَّا رفضوا أن يأكلوا.
بغلام عليم .: أي بولد ذي علم كثير هو إسحق عليه السلام.
فبم تبشرون: أي تَعَجَّبَ من بشارتهم مع كبره بولد.
من القانطين : أي الآيسين.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى جزاء اتباع إبليس الغاوين، ناسب ذكر جزاء عباد الرحمن أهل التقوى والإيمان فقال تعالى مخبراً عما أعد لهم من نعيم مقيم: {إن المتقين1} أي الله بترك الشرك والمعاصي {في جنات وعيون2} يقال لهم {ادخلوها3 بسلامٍ آمنين} أي حال كونكم مصحوبين بالسلام آمنين من الخوف والفزع. وقوله: {ونزعنا ما في صدورهم من غل4} أي لم يُبقِ الله تعالى في صدور أهل الجنة ما يبغصُ نعيمها، أو يكدر صفوها كحقدٍ أو حسدٍ أو عداوةٍ أو شحناء. وقوله: {إخواناً على سررٍ متقابلين} لما طهر صدورهم مما
__________
1 روي أن سلمان الفارسي رضي الله عنه لما سمع هذه الآية: {إنّ جهنم لموعدهم أجمعين} فرّ ثلاثة أيام من الخوف فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: يا رسول الله أنزلت هذه الآية: {إن جهنم..} الخ فوالذي بعثك بالحق لقد قطّعت قلبي فأنزل الله تعالى: {إنّ المتقين في جنات وعيون}.
2 هي الأنهار الأربعة: ماء، وخمر، ولبن، وعسل المذكورة في سورة محمد صلى الله عليه وسلم.
3 بسلامة من كل داء وآفة، وقيل: بتحية من الله تعالى آمنين من الموت والعذاب.
4 قال ابن عباس: أول ما يدخل أهل الجنة الجنة تعرض لهم عينان فيشربون من إحدى العينين فيذُهب الله ما في قلوبهم من غل ثم يدخلون العين الأخرى فيغتسلون فيها فتشرق ألوانهم وتصفو وجوههم وتجري عليهم نضرة النعيم.

من شأنه أن ينغص أو يكدر،. أصبحوا في المحبة لبعضهم بعضاً إخوانا يضمهم مجلس واحد يجلسون فيه على سررٍ متقابلين وجهاً لوجه، وإذا أرادوا الانصراف إلى قصورهم تدور بهم الأسرة فلا ينظر أحدهم إلى قفا أخيه. وقوله تعالى: {لا يمسهم فيها نصبٌ وما هم منها بمخرجين} فيه الإخبار بنعيمين: نعيم الراحة الأبدية إذ لا نصب ولا تعب في الجنة ونعيم البقاء والخلد فيها إذ هم لا يخرجون منها أبداً. وفي هذا تقرير لمُعْتَقَدِ البعث والجزاء بأبلغ عبارة وأوضحها. وقوله تعالى: {نبىء عبادي1 أني أنا الغفور الرحيم} أي خبر يا رسولنا عبادنا المؤمنين الموحدين أن ربهم غفور لهم إن عصوه وتابوا من معصيتهم. رحيم بهم فلا يعذبهم. {وأن عذابي هو العذاب الأليم} ونبئهم أيضاً أن عذابي هو العذاب الأليم فليحذروا معصيتي بالشرك بي، أو مخالفة أوامري وغشيان محارمي. وقوله تعالى: {ونبئهم عن ضيف إبراهيم2. إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما} أي سلموا عليه فرد عليهم السلام وقدم لهم قِرَى الضيف وكان عجلاً حنيذاً، كما تقدم في هود وعرض عليهم الأكل فامتنعوا وهنا قال: {إنا منكم وجلون3} أي خائفون، وكانوا جبريل وميكائيل وإسرافيل في صورةِ لشباب حسان. فلما أخبرهم بخوفه منهم، لأن العادة أن النازل على الإنسان إذا لم يأكل طعامه دل ذلك على أنه يريد به سوءً. {قالوا لا توجل} أي لا تخف، {إنا نبشرك بغلامٍ عليم} أي بولدٍ ذي علم كثير. فرد إبراهيم قائلاً بما أخبر تعالى عنه بقوله: {قال أبشرتموني على أن مسني4 الكبر فبم5 تبشرون} أي هذه البشارة بالولد على كبر سني أمر عجيب، فلما تعجب من البشارة وظهرت عليه علامات الشك والتردد في صحة الخبر قالوا له: {بشرناك6 بالحق فلا تكن من القانطين7} أي
__________
1 شاهد هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنّته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد".
2 هم الملائكة الذين بشروه بالولد وبهلاك قوم لوط: هم جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام. والضيف: لفظ يطلق على الواحد والاثنين والجماعة.
3 قال هذا بعد أن قرّب إليهم العجل المشوي ليأكلوا فلم يأكلوا.
4 أن: مصدرية، والتقدير: على من الكبر إياي وزوجتي.
5 الاستفهام للتعجب أو هو على حقيقة.
6 أي: بما لا خلف فيه، وأن الولد لا بدّ منه.
7 قراءة العامة: {القانطين} ، وقرىء القنطين بدون ألف، ويكون الفعل حينئذ من قنط يقنط كفرح يفرح فهو فرح، وعلى قراءة الجمهور فهو من باب فعل يفعل كضرب يضرب فهو ضارب.

الآيسين. وهنا رد عليهم م قائلاً نافياً القنوط عنه لأن القنوط حرام. {ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون} أي الكافرون بقدرة الله ورحمته لجهلهم بربهم وصفاته المتجلية في رحمته لهم وإنعامه عليهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير نعيم الجنة، وأن نعيمها جسماني روحاني معاً دائم أبداً.
2- صفاء نعيم الجنة من كل ما ينغصه أو يكدره.
3- وعد الله بالمغفرة لمن تاب من أهل الإيمان والتقوى من موحديّه.
4- وعيده لأهل معاصيه إذا لم يتوبوا إليه قبل موتهم.
5- مشروعية الضيافة وأنها من خلال البر والكرم.
6- حرمة القنوط واليأس من رحمة الله تعالى.
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ(57) قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ(58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ(59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ(60) فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ(61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ(62) قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ(63) وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ(64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ(65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ(66)

شرح الكلمات:
قال فما خطبكم: أي ما شأنكم؟
إلى قوم مجرمين: هم قوم لوط علية السلام.
إنا لمنجوهم أجمعين : أي لإيمانهم وصالح أعمالهم.
الغابرين: أي الباقين في العذاب.
قوم منكرون : أي لا أعرفكم.
بما كانوا فيه يمترون : أي بالعذاب الذي كانوا يشكون في وقوعه بهم.
حيث تؤمرون : أي إلى الشام حيث أمروا بالخروج إليه.
وقضينا إليه ذلك الأمر: أي فرغنا إلى لوط من ذلك الأمر، وأوحينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن ضيف إبراهيم، وها هو ذا قد سألهم بما أخبر به تعالى عنه بقوله: {قال فما خطبكم1 أيها المرسلون} أي ما شأنكم أيها المرسلون من قبل الله تعالى إذ هم ملائكته {قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين2} أي على أنفسهم، وعلى غيرهم وهم اللوطيون لعنهم الله. قوله تعالى: {إلا آل لوط} آل بيته والمؤمنين معه، {إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا} أي قضينا3 {إنها لمن الغابرين} أي الباقين في العذاب، أي قضى الله وحكم بإهلاكها في جملة من يهلك لأنها كافرة مثلهم. إلى هنا انتهى الحديث مع إبراهيم وانتقلوا إلى مدينة لوط عليه السلام قال تعالى {فلما جآء آل لوط المرسلون} أي انتهوا إليهم ودخلوا عليهم الدار قال لوط عليه السلام لهم {إنكم قوم منكرون} أي لا أعرفكم وأجابوه قائلين: نحن رسل ربك جئناك بما كان قومك فيه يمترون أي يشكون وهو عذابهم العاجل جزاء كفرهم وإجرامهم، {وأتيناك بالحق} الثابت الذي لا شك فيه {وإنا لصادقون} فيما أخبرناك به وهو عذاب قومه المجرمين.
__________
1 الخطب: الأمر الخطير والشأن العظيم.
2 في الكلام إضمار جملة {لنُهلكهم} فلذا كان الاستثناء إلا آل لوط، وهم أتباعه وأهل بيته.
3 وكتبنا في كتاب المقادير.

وعليه {فاسر بأهلك بقطع من الليل} أي أسر بهم في جزء من الليل، و {اتبع أدبارهم} أي امش وراءهم1 وهم أمامك {ولا يلتفت منكم أحد} بأن ينظر وراءه، أي حتى2 لا يرى ما يسوءه عند نزول العذاب بالمجرمين، وقوله {وامضوا حيث تؤمرون} أي يأمركم ربكم وقد أمروا بالذهاب إلى الشام. وقوله تعالى: {وقضينا3 إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين}4 أي وفرغنا إلى لوط من ذلك الأمر، وأوحينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين، أي أنهم مهلكون عن آخرهم في الصباح الباكر ما أن يطلع الصباح حتى تُقلب بهم الأرض ويهلكوا عن آخرهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التنديد بالإجرام وبيان عقوبة المجرمين.
2- لا قيمة للنسب ولا للمصاهرة ولا عبرة بالقرابة إذا فصل الكفر والإجرام بين الأنساب والأقرباء فامرأة لوط هلكت مع الهالكين ولم يشفع لها أنها زوجة نبي ورسول عليه السلام.
3- مشروعية المشي بالليل لقطع المسافات البعيدة.
4- مشروعية مشي المسئول وكبير القوم وراء الجيش والقافلة لتفقد أحوالهم، والإطلاع على من يتخلف منهم لأمر، وكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل.
5- كراهية الإشفاق على الظلمة الهالكين، لقوله: ولا يلتفت منكم أحد أي: بقلبه.
وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ(67) قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا
__________
1 لئلا يتخلّف منهم أحد فيهلك مع الهالكين.
2 أو نهوا عن الالتفات ليجدّوا في السير ويتباعدوا عن القرية قبل أن يفاجئهم الصبح موعد هلاك القوم.
3 قضينا: قدرنا، وضمن معنى أوحينا فعدي بإلى، والقدير: وقضينا ذلك الأمر فأوحينا إليه بما قضينا، وجملة :{أنّ دابر هؤلاء مقطوع مصبحين}. مفسرة لذلك الأمر والإشارة للتهويل.
4 {مصبحين} أي: داخلين في الصباح، ومثله، مشرقين أي: داخلين في وقت الإشراق.

اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ(70) قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ(71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ(72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ(73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ(74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ(75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ(76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ(77) وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ(78) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ(79)
شرح الكلمات:
وجاء أهل المدينة يستبثسرون : أي مدينة سدُوم، أي فرحين بإتيانهم الفاحشة.
واتقوا الله ولا تخزون : أي لا تذلوني في انتهاك حرمة ضيفي.
أولم ننهك عن العالمين: أي عن إجارتك لهم واستضافتك.
لفي سكرتهم يعمهون: أي غوايتهم، وشدة غُلّمتهم1 التي أزالت عقولهم، يترددون.
مشركين: أي وقت شروق الشمس.
من سجيل : أي طين طُبِخَ بالنار.
لآيات للمتوسمين: أي الناظرين المعتبرين.
لبسبيل مقيم: أي طريق قريش إلى الشام مقيم دائم ثابت.
أصحاب الأيكة : أي قوم شعيب عليه السلام، والأيكة غيضة شجر بقرب مدين.
وإنهما لبإمام مبين: أي قوم لوط، وأصحاب الأيكة لبطريق مبين واضح.
معنى الآيات:
مازال السياق مع لوط عليه السلام وضيفه من الملائكة من جهة، وقوم لوط من جهة
__________
1 الغُلْمة: شدّة الشهوة الجنسية.

قال تعالى: {وجاء أهل المدينة} أي مدينة سدُوم وأهلها سكانها من اللوطيين، وقوله {يستبشرون} أي فرحين مسرورين لطمعهم في إتيان الفاحشة. فقال لهم لوط ما أخبر الله تعالى به: {قال إن هؤلاء} يشير إلى الملائكة {ضيفي فلا تفضحون} أي فيه أي بطلبكم إلى فاحشة، {واتقوا الله} أي خافوه {ولا تخزون} أي تهينوني وتذلوني. فأجابوا بما أخبر تعالى به عنهم: {قالوا أولم ننهك عن العالمين} أي أتقول ما تقول ولم تذكر أنا نهيناك عن استضافة أحد من الناس أو تجيره، فأجابهم لوط عليه السلام بما أخبر تعالى به عنه: {قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين} أي هؤلاء بناتي فتزوجوهن إن كنتم فاعلين ما أمركم به أو أرشدكم إليه. وقوله تعالى: {لعمرك إنهم1 لفي سكرتهم يعمهون} أي وحياتك يا رسولنا، إنهم أي قوم لوط {لفي سكرتهم} غوايتهم التي أذهبت عقولهم فهبطوا إلى درك أسفل من درك الحيوان، {يعمهون} أي حيارى يترددون. {فأخذتهم الصيحة مشرقين} أي صيحة جبريل عليه السلام مشرقين مع إشراق الشمس. وقوله تعالى {فجعلنا عاليها سالفها} أي جعلنا عالي المدن سافلها وهو قلبها ظهراً على بطن، {وأمطرنا عليهم} فوق ذلك {حجارة من سجيل} أي من طين مطبوخ بالنار. وقوله تعالى: {إن في ذلك لآيات للمتوسمين2} أي إن في ذلك المذكور من تدمير مدن كاملة بما فيها لآيات وعبر وعظات للمتوسمين أي الناظرين نظر تفكر وتأمل لمعرفة الأشياء بسماتها وعلاماتها. وقوله تعالى: {وإنها لسبيل مقيم} أي وإن تلك القرى الهالكة لبطريق ثابت باق يمر به أهل مكة في أسفارهم إلى الشام. وقوله { إن في ذلك لآية للمؤمنين} أي لعبرة للمؤمنين فلا يقدمون على محارم الله، ولا يرتكبون معاصيه. وقوله تعالى: {وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين}. هذه إشارة خاطفة إلى قصة شعيب عليه السلام مع قومه أصحاب الأيكة، والأيكة الفيضة من الشجر الملتف.. وكانت منازلهم
__________
1 هذا الإقسام بحياة النبي صلى الله عليه وسلم تشريفاً له، وأصل عمرك بضم العين وفتحت لكثرة الاستعمال، وجائز أن يكون القسم بحياة لوط أيضاً، وليس لأحد أن يجيز القسم بغير الله محتجاً بهذا القسم الإلهي فان لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه، فقد أقسم بالشمس وضحاها، وأقسم بالسماء والليل وغيرها من مخلوقاته ولا اعتراض عليه وأما العباد فقد أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم عن حرمة الحلف بغير الله فقد قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" رواه الترمذي.
2 روي أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر المتوسمين بالمتفرسين إذ قال: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ : {إن في ذلك لآيات للمتوسمين}" رواه الترمذي واستغربه، وقيل: للناظرين كما قال الشاعر:
أو كلما وردت عكاظ قبلية
بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم
وأصل التوسم: النظر بتثبت وتفكر وعليه فما ورد في التوسم من النظر والتفرس كله متقارب المعنى.

بها وكانوا مشركين وهو الظلم في قوله {وإن كان أصحاب الأيكة1 لظالمين} لأنفسهم بعبادة غير الله تعالى، وقوله تعالى: {فانتقمنا منهم} أي أهلكناهم بحر شديد يوم الظلة وسيأتي الحديث عنهم في سورة الشعراء قال تعالى هناك فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم. وقوله: {وإنهما لبإمام مبين} الإمام الطريق لأن الناس يمشون فيه وهو أمامهم، ومبين واضح. والضمير في قوله وإنهما عائد على قوم لوط، وقوم شعيب وهم أصحاب الأيكة لا أصحاب مدين لأنه أرسل إلى أصحاب الأيكة وإلى أهل مدين، والطريق طريق قريش إلى الشام، والقصد من ذكر هذا وعظ قريش وتذكرهم، فهل يتعظون ويتذكرون؟
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان إهلاك قوم لوط.
2- إنكار الفاحشة وأنها أقبح فاحشة تعرفها الإنسانية هي إتيان الذكور.
3- بيان دفاع لوط عليه السلام عن ضيفه حتى فداهم ببناته.
4- شرف النبي صلى الله عليه وسلم حيث أقسم الله تعالى بحياته في قوله {لعمرك}.
5- الحث على نظر التفكر والاعتبار والتفرس فإنه أنفع للعقل البشري.
6- بيان نقمة الله تعالى من الظالمين للاعتبار والاتعاظ.
7- تقرير نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم إذ مثل هذه الأخبار لن تكون إلا عن وحي إلهي.
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ(80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ(81) وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ(82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ(83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ(84)
__________
1 جمع الأيكة وهي جماعة الشجر الأيك، أو سميت القرية بالأيكة باعتبار الأصل.

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ(85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ(86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ(87) لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ(88)
شرح الكلمات:
أصحاب الحجر: هم قوم صالح ومنازلهم بين المدينة النبوية والشام.
وآتيناهم آياتنا : أي في الناقة وهي أعظم آية.
ما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون: من بناء الحصون وجمع الأموال.
الصفح الجميل: أي أعرض عنهم إعراضاً لا جزع فيه وهذا قبل الأمر بقتالهم.
سبعاً من المثاني: هي آيات سورة الفاتحة السبع.
أزاوجاً منهم: أي أصنافاً من الكفار.
واخفض جناحك: أي ألِن جانبك للمؤمنين.
معنى الآيات:
هذا شروع في موجز قصة أخرى هي قصة أصحاب الحجر وهم ثمود قوم صالح، قال تعالى: {ولقد كذب أصحاب الحجر1 المرسلين} وفي هذا موعظة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كذبه قومه من أهل مكة فليصبر على تكذيبهم فقد كذبت قبلهم أقوام. وقال تعالى {المرسلين} ولم يكذبوا إلا صالحاً باعتبار أن من كذب رسولا فقد كذب عامة الرسل، لأن دعوة الرسل واحدة وهي أن يعبد الله وحده بما شرع لإكمال الإنسان وإسعاده في
__________
1 لفظ الحجر يطلق على أمور عدّة منها العقل {لذي حجر} والحرام: {حجراً محجوراً} والفرس الانثى وحجر القميص، والفتح فيه أولى، وحجر إسماعيل إزاء الكعبة وديار ثمود: وهو المراد هنا.

الحالتين. وقوله {وآتيناهم1 آياتنا فكانوا عنها معرضين} إن المراد من الآيات القائمة بالناقة منها أنها خرجت من صخرة، وأنها تشرب ماء البلد يوما، وأنها تقف أمام كل بيت ليحلب أهله منها ما شاءوا، وإعراضهم عنها، عدم إيمانهم وتوبتهم إلى الله تعالى بعد أن آتاهم ما طلبوا من الآيات. وقوله {وكانوا ينحتون2 من الجبال بيوتا} أي كانوا يتخذون بالنحت بيوتاً داخل الجبال يسكنوها شتاء آمنين من أن تسقط عليهم لقوتها وست أن ينالهم برد أو حر لوقايتها لهم، وقوله تعالى {فأخذتهم الصيحة مصبحين3} وذلك صيحة اليوم الرابع وهو يوم السبت فهلكوا أجمعين، {فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون} من المال والعتاد وبناء الحصون بل4 هلكوا ولم ينج منهم أحد إلا من آمن وعمل صالحاً فقد نجاه الله تعالى مع نبيه صالح عليه السلام. وقوله تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق} أي إلا من أجل أن أُذكر وأُشكر، فلذا من كفر بي فلم يذكرني وعصاني فلم يشكرني أهلكته. لأني لم أخلق عدا الخلق العظيم لهواً وباطلاً وعبثاً. وقوله: {وإن الساعة لآتية5} أي حتماً لا محالة وثم يُجزي كلٌ بما كسب فلا تحزن على قومك ولا تجزع منهم فإن جزاءهم لازم وآت لابد، فاصبر واصفح عنهم وهو معنى قوله تعالى {فاصفح الصفح الجميل6} أي الذي لا جزع معه. وقوله {إن ربك هو الخلاق العليم} خلق كل شيء وعلم بما خلق فعلى كثرة المخلوقات يعلم نياتها، وأعمالها، وأحوالها، ولا يخفى عليه شيء من أمرها وسيعيدها كما بدأها ويحاسبها ويجزيها بما كسبت. وهذا من شأنه أن يساعد الرسول صلى الله عليه وسلم على الصبر والثبات على دعوته حتى ينصرها الله تعالى
__________
1 المراد بالآيات: الناقة لأنها تشمل على عدّة آيات، وجائز أن يكون هناك آيات أخرى أعطيها صالح غير الناقة.
2 النحت: البري والنجر، يقال نحته ينحته نحتاً إذا براه، والنحاته: البراية كالنجارة والخشارة، والمنحت: آلة النحت، وقوله: {آمنين} أي: من أن تسقط عليهم أو تخرب فلا تصلح للسكن فيها.
3 {مصبحين}: حال من أخذتهم الصيحة أي: حال كونهم داخلين في الصباح وهو أوّل النهار، فالأيام الثلاثة التي قيل لهم: {تمتعوا فيها} هي الأربعاء والخميس والجمعة، وصبيحة السبت كان هلاكهم والعياذ بالله من حال الهالكين.
4 صحّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين حذراً أن يصيبكم مثل ما أصابهم، وآمر بهرق ما استقوا من بئر ثمود وإلقاء ما عجن وخبز منه لأجل انه ماء سخط فلا يجوز الانتفاع به فراراً من سخط الله تعالى وقال: اعلفوه الإبل ففعلوا".
5 لآتية: جائية إذ الأيام تنصرم يوماً فيوماً إلى آخر يوم فالساعة الأخيرة لهذه الحياة آتية، وهي في طريقها.
6 هذا كان قبل الأمر بالجهاد إذ السورة مكية والجهاد فرض في المدينة فالآية منسوخة بمثل قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} الآية من التوبة المدنية.

في الوقت الذي حدده لها. وقوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} أي أعطيناك سورة الفاتحة1 أم القرآن وأعطيناك القرآن العظيم وهو خير عظيم لا يقادر قدره. إذاً {لا تمدن عينيك2} متطلعاً {إلى ما متعنا به أزواجاً منهم} أي أصنافاً من رجالات قريش، فما آتيناك خير مما هم عليه من المال والحال التي يتمتعون فيها بلذيذ الطعام والشراب. وقوله: {ولا تخزن عليهم} إن هم لم يؤمنوا بك ولم يتابعوك على ما جئت به، فإن أمرهم إلى الله تعالى، وأمره تعالى أن يلين جانبه لأصحابه المؤمنين فقال: {واخفض جناحك للمؤمنين} فحسبك ولاية الله لك فذر المكذبين أولي النعمة، وتعايش مع المؤمنين، ولين جانبك لهم، واعطف عليهم فإن الخير فيهم وليس في أولئك الأغنياء الأثرياء الكفرة الفجرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إذا أراد الله هلاك أمة فإن قوتها المادية لا تغني عنها شيئاً.
2- لم يخلق الله الخلق عبثاً بل خلقه ليعبد بالذكر والشكر، فمن عبده نجا، ومن أعرض عن ذكره وترك عبادته أذاقه عذاب الخزي في الدنيا والآخرة أو في الآخرة وهو أشد وأخزى.
3- بيان أن الصفح الجميل هو الذي لا جزع معه.
4- بيان أن ممن أتي القرآن لم يؤت أحد مثلها من الخير قط.
5- فضل الفاتحة إذ هي السبع المثاني.
6- على الدعاة إلى الله أدت لا يلتفتوا إلى ما في أيدي الناس من مالٍ ومتاع، فإن ما آتاهم الله من الإيمان والعلم والتقوى خير مما آتى أولئك من المال والمتاع.
7- استحباب لين الجانب للمؤمنين والعطف عليهم والرحمة لهم.
__________
1 كون الفاتحة هي السبع المثاني هو قول عليّ وأبي هريرة والحسن وغيرهم ويشهد له الحديث الصحيح: "الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني". روي عن ابن عباس أنه قال: هي السبع الطوال: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال والتوبة معاً.
2 هذه الآية تدعو إلى الإعراض عن زخارف الدنيا وعدم الإقبال عليها، والاكتفاء فيها بما أحل الله عمّا حرّم وبما تيسّر عما تعسر، وفيها: أن من أعطاه الله القرآن وجب عليه أن يشعر بالغنى وعدم الفقر لحديث " ليس منّا من لم يتغن بالقرآن" أي: لم يستغن به عن طلب غيره.

وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ(89) كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ(90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ(91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ(95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ(97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ(98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99)
شرح الكلمات:
النذير المبين : البين النذارة
على المقتسمين : أي الذين قسموا كتاب الله فقالوا فيه شعر، وقالوا سحر، وقالوا كهانة.
جعلوا القرآن عضين : هم المقسمون للقرآن وجعلوا عضين جمع عضة وهي القطعة والجزء من الشيء.
فاصدع بما تؤمر: أي اجهر به وأعرضه كما أمرك ربك.
يضيق صدرك بما يقولون : أي من الاستهزاء بك والتكذيب لك.
حتى يأتيك اليقين : أي الموت، أي إلى أن تتوفى وأنت تعبد ربك.
معنى الآيات:.
ما زال السياق في إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم وتعليمه ما ينبغي أن يكون عليه فأمره تعالى

بقوله: {وقل إني أنا النذير المبين1} أي أعلن لقومك بأنك النذير البين النذارة لكم يا قوم أن ينزل بكم عذاب الله إن أصررتم على الشرك والعناد والكفر، وقوله: {كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين2} انذركم عذاباً كالذي أنزله الله وينزله على المقتسمين الذين قسموا التوراة والإنجيل فآمنوا ببعض وكفروا ببعض وهم اليهود والنصارى، والمقتسمين الذين تقاسموا أن يبيتوا صالحاً فأنزل الله بهم عقوبته والمقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين أي أجزاء فقالوا فيه شعر وسحر وكهانة، المقتسمين الذين قسموا طرق مكة وجعلوها نقاط تفتيش يصدون عن سبيل الله كل من جاء يريد الإسلام وهؤلاء كلهم مقتسمون وحل بهم عذاب الله ونقمته. وقوله تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} 3 يقسم الجبار تبارك وتعالى لرسوله أنه ليسألنهم يوم القيامة عما كانوا يعملون ويجزيهم به فلذا لا يهولنَّك أمرهم واصبر على أذاهم. وقوله {فاصدع4 بما تؤمر} أي أجهر بدعوة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وما تؤمر ببيانه والدعوة إليه أو التنفير منه، {وأعرض عن المشركين} ولا تبال بهم، وقوله: {إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون} والمراد بهؤلاء المستهزئين الذين واعد تعالى بكفاية رسوله شرَّهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن عبد يغوث كلهم ماتوا بآفات مختلفة في أمدٍ يسير، عليهم لعائن الله تعالى. وقوله تعالى: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون} أي من الاستهزاء بك والسخرية، ومن المبالغة في الكفر والعناد فنرشدك إلى ما يخفف عنك الألم النفسي {فسبح بحمد ربك} أي قل سبحان الله وبحمده أي أكثر من هذا الذكر {وكن من الساجدين} أي المصلين إذ لا سجود إلا في الصلاة أو تلاوة القرآن5 إذاً فافزع عند الضيق إلى الصلاة
__________
1 في الكلام حذف، وهو لفظ عذابا. فحذت المفعول لدلالة لفظ النذير عليه أو لكون الكاف في قوله {كما أنزلنا} زائد ة ويصحّ التقدير هكذا:
أنا النذير المبين ما أنزلنا على المقتسمين أي: من العذاب.
2 واحد: (عضين) عضة من عضيت الشيء تعضيه أي: فرقته وكل فرقة عضة، وقيل: أصلها عضوة، فسقطت الواو، ولذا جمعت على عضين كعزين، إذ واحدها عزوة، وذلك أنهم فرقوا كلام الله فجعلوا بعضه سحراً وبعضه شعراً و.. و..
3 وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في قوله تعالى: {فوربك لنسألنّهم ..} إلى قوله {يعملون} قال: "عن قول لا إله إلا الله، إذ أبوا أن يقولوها فتمادوا في الكفر والشرّ والفساد ولو قالوا لما كان لهم سوى الخير والصلاح.
4 قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة من الزمن مستخفياً هو وأصحابه في دار الأرقم حتى نزلت فيه الآية: {فاصدع بما تؤمر} فخرج صلى الله عليه وسلم وأعلن الإسلام ودعا إليه جهرة.
5 قيل: إنّ هذه سجدة من سجدات القرآن، والجمهور على أنها ليست سجدة وإنما أرشد الله تعالى رسوله لتفريج همّه وتوسعة صدره مما يسمع ويقال له أمره بالتسبيح والصلاة وفعلا كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.

فلذا كان صلى الله عليه وسلم أحزنه أمر فزع إلى الصلاة. وقوله: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} أي واصل العبادة وهي الطاعة في غاية الذل والخضوع لله تعالى حتى يأتيك اليقين الذي هو الموت فإن القبر أول عتبة الآخرة وبموت الإنسان ودخوله في الدار الآخرة أصبح إيمانه يقيناً محضاً.
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
1- حرمة الاختلاف في كتاب الله تعالى على نحو ما اختلف فيه أهل الكتاب.
2- مشروعية الجهر بالحق وبيانه لاسيما إذا لم يكن هناك اضطهاد.
3- فضل التسبيح بجملة: سبحان الله وبحمده ومن قالها مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر وهذا مروي في الصحيح1.
4- مشروعية صلاة الحاجة فمن حزبه أمر أو ضاق به فليصل صلاة يفرج الله تعالى بها ما به أو يقضي حاجته إن شاء وهو العليم الحكيم.
__________
1 رواه مسلم.

سورة النحل
...
سورة النحل1
مكية
وآياتها مائة وثمان وعشرون
بسم الله الرحمن الرحيم
أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(1) يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ(2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ(4) وَالأَنْعَامَ
__________
1 وتسمّى أيضاً سورة النعم، لما عدد تعالى فيها من نعمه على عباده.

خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ(6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ(7)
شرح الكلمات:
أتى أمر الله : أي دنا وقرب أمر لله بعذابكم أيها المشركون فلا تستعجلون.
ينزل الملائكة بالروح: أي بالوحي الذي به حياة الأرواح والمراد من الملائكة جبريل.
خلق الإنسان من نطفة: أي قطرة من المني.
دفء ومنافع: أي ما تستدفئون به، ومنافع من العسل واللبن واللحم والركوب.
حين تريحون: أي حين تردونها من مراحها.
وحين تسرحون.: أي وحين إخراجها من مراحها إلى مسارحها أي الأماكن التي تسرح فيها.
إلا بشق الأنفس: أي بجهد الأنفس ومشقة عظيمة.
معنى الآيات:
لقد استعجل المشركون بمكة العذاب وطالبوا به غير مرة فأنزل الله تعالى قوله: {أتى أمر1 الله} أي بعذابكم أيها المستعجلون له. لقد دنا منكم وقرب فالنضر بن الحارث القائل: {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء أو أئتنا بعذاب أليم} ، جاءه بعد سُنيات قلائل فهلك ببدر صَبْراً، إلى جهنم، وعَذَابُ يوم القيامة لمن استعجله قد قرب وقته ولذا عبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه وقرب مجيئه فلا معنى لاستعجاله فلذا قال الله تعالى: {فلا تستعجلوه} وقوله {سبحانه وتعالى عما يشركون}.
__________
1 من الجائز أن يراد بـ {أتى أمر الله} القيامة لقول الله تعالى: {اقترب للناس حسابهم} وقوله: {اقتربت الساعة} وقول الرسول صلى الله عليه وسلم "بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بإصبعيه".

أي تنزه وتقدس عما يشركون به من الآلهة الباطلة إذ لا إله حق إلا هو. وقوله {ينزل الملائكة بالروح1 من أمره} أي بإرادته وإذنه {على من يشاء من عباده}. أي ينزل جبريل عليه السلام بالوحي على من يشاء من عباده2 وهو محمد صلى الله عليه وسلم وقوله {أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون} أي بأن انذروا3 أي خوفوا المشركين عاقبة شركهم فإن شركهم باطل سيجر عليهم عذاباً لا طاقة لهم به، لأنه لا إله إلا الله، وكل الآلهة دونه باطلة. إذاً فاتقوا الله بترك الشرك والمعاصي وإلا تعرضتم للعذاب الأليم. في هاتين الآيتين تقرير للوحي والنبوة للنبي صلى الله عليه وسلم وتقرير التوحيد أيضاً وقوله تعالى في الآيات التالية: {خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون} استدلال على وجوب التوحيد وبطلان الشر ك فالذي خلق السموات والأرض بقدرته وعلمه وحده دون ما مُعِين له ولا مساعد حُقَّ أن يعبد، لا تلك الآلهة الميتة التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنطق {تعالى عما يشركون} أي تنزه وتقدس تعالى عما يشركون به من أصنام وأوثان. وقوله: {خلق الإنسان من نطفة} أي من أضعف شيء وأحقره قطرة المني خلقه في ظلمات ثلاث وأخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئاً حتى إذا رباه وأصبح رجلاً إذا هو خصم لله يجادل ويعاند4، ويقول من يحيي العظام وهي رميم. وقوله تعالى {والأنعام خلقها لكم فيها دفء5 ومنافع ومنها تأكلون} فهذه مظاهر القدرة الإلهية والعلم والحكمة والرحمة وهي الموجبة لعبادته تعالى وترك عبادة ما سواه. فالأنعام وهي الإبل والبقر والغنم خلقها الله تعالى لبني آدم ولم يخلقها لغيرهم، لهم فيها دفء إذ يصنعون الملابس والفرش والأغطية من صوف الغنم ووبر الإبل ولهم فيها منافع كاللبن والزبدة والسمن والجبن والنسل حيث تلد كل سنة فينتفعون بأولادها. ومنها يأكلون اللحوم المختلفة فالمنعم بهذه النعم هو الواجب العبادة دون غيره من سائر
__________
1 بالروح، أي بالوحي بالنبوة نظيره قوله تعالى: {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده}.
2 أي: من الأنبياء ومحمد صلى الله عليه وسلم إمامهم وخاتمهم وقوله: {أن أنذروا}: تفسير لقوله: {ينزل الملائكة بالروح}.
3 أمر الله الأنبياء الذين أوحي إليهم بشرعه أن ينذروا المشركين عاقبة الشرك ويدعوهم إلى الإيمان والعمل الصالح بعد نبذ الشرك والعمل الفاسد.
4 هذا الإنسان الخصيم هو أبيّ بن خلف الجمحي، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم فقال: أترى يحيي الله هذا بعد ما قد رمّ؟ وفيه نزل: {أو لم ير الإنسان أنّا خلقناه من نطفة..} الخ من سورة يس.
5 الدفء: الشيء الذي يدفىء الإنسان، والجمع: ادفاء، ويقال: دفىء دفاءة ككره كراهة.

مخلوقاته وقوله: {ولكم فيها جمال}1 أي منظر حسن جميل حين تريحونها عشية من المرعى إلى المراح {وحين تسرحون} أي تخرجونها صباحاً من مراحها إلى مراعيها، فهذه لذة روحية ببهجة المنظر. وقوله {وتحمل أثقالكم إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيه إلا بشق2 الأنفس} أي إلا بجهد النفس والمشقة العظيمة. فالإبل في الصحراء كالسفن في البحر تحمل الأثقال من بلدٍ إلى بلد وقد تكون المسافة بعيدة لا يصلها الإنسان إلا بشق الأنفس وبذل الجهد والطاقة، لولا الإبل سفن الصحراء ومثل الإبل الخيل والبغال والحمير في حمل3 الأثقال. فالخالق لهذه الأنعام هو ربكم لا إله إلا هو فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وقوله تعالى: {إن ربكم} أي خالقكم ورازقكم ومربيكم وإلهكم الحق الذي لا إله لكم غيره لرؤوف رحيم، ومظاهر رحمته ورأفته ظاهره في كل حياة الإنسان فلولا لطف الله بالإنسان ورحمته له لما عاش ساعة في الحياة الدنيا فلله الحمد وله المنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- قرب يوم القيامة فلا معنى لاستعجاله فإنه آتٍ لا محالة، وكل آتٍ قريب.
2- تسمية الوحي بالروح من أجل أنه يحيى القلوب، كما تحيي الأجسام الأرواح.
3- تقرير التوحيد والنبوة والبعث الآخر بذكر مظاهر القدرة الإلهية والعلم والحكمة والرأفة والرحمة.
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ(8) وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ(9) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَآء لَّكُم مِّنْهُ
__________
1 الجمال يكون في الصورة، وهو تناسب أجزائها، ويكون في الأخلاق بأن يكون المرء على صفات محمودة كالعدل والعلم والحكمة وكظم الغيظ وإرادة الخير لكل أحد وجمال الأفعال يكون بملاءمتها لمصالح الخلق نافعة لهم غير ضارة بهم.
2 شق النفس: مشقتها، وغاية جهدها وعليه فالشق المشقة، والشق: الجانب من كل شيء.
3 في الآية دليل على جواز ركوب الإبل، والحمل عليها لكن لا تحمل أكثر مما تطيق فقد ضرب عمر حمالاً وقال: تحمل على بعيرك ما لا يطيق. وكان لأبي الدرداء جمل يقال له دمون يقول له: يا دمون لا تخاصمني عند ربك.

شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ(10) يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ(13)
شرح الكلمات:
ويخلق ما لا تعلمون: من سائر الحيوانات ومن ذلك السيارات والطائرات والقطر.
وعلى الله قصد السبيل : أي تفضلاً منه وامتناناً ببيان السبيل القاصدة وهي الإسلام.
ومنها جائر: أي عادل عن القصد وهو سائر الملل كاليهودية والنصرانية.
ومنه شجر: أي وبسببه يكون الشجر وهو هنا عام في سائر النباتات.
فيه تسيمون: ترعون مواشيكم.
مسخراتٍ بأمره : أي بإذنه وقدرته.
وما ذرأ لكم في الأرض: أي خلق لكم في الأرض من الحيوان والنباتات المختلفة.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في تقرير التوحيد بذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته إذ قال تعالى: {والخيل1 والبغال والحمير} أي خلقها وهو خالق كل شيء لعلة ركوبهم
__________
1 قيل: واحد الخيل: خائل، وقيل: هو اسم جنس لا واحد له، وهذه الثلاثة: الخيل والبغال والحمير لم تدخل في لفظ الأنعام، ونصب: (والخيل) على تقدير: (وخلق الخيل).

إياها إذ قال: {لتركبوها وزينة1} أي ولأجل أن تكون زينةً لكم في حياتكم وقوله {ويخلق مالا تعلمون} أي مما هو مركوب وغير مركوب من مخلوقات عجيبة ومن المركوب هذه السيارات على اختلافها والطائرات والقطر السريعة والبطيئة هذا كله إفضاله وإنعامه على عباده فهل يليق بهم أن يكفروه ولا يشكروه؟ وهل يليق بهم أن يشركوا في عبادته سواه. وقوله {وعلى الله قصد السبيل2} ومن إفضاله وإنعامه الموجب لشكره ولعبادته دون غيره أن بين السبيل القاصد الموصل إلى رضاه وهو الإسلام، في حين إن ما عدا الإسلام من سائر الملل كاليهودية والنصرانية والمجوسية وغيرها سبل جائره عن العدل والقصد سالكوها ضالون غير مهتدين إلى كمال ولا إلى إسعاد هذا معنى قوله تعالى {وعلى الله قصد السبيل} وقوله {ولو شاء لهداكم أجمعين} أي لو تعلقت بإرادته هداية الناس أجمعين لهداهم أجمعين وذلك لكمال قدرته وعلمه، إلا أن حكمته لم تقتض هداية لكل الناس فهدى من رغب في الهداية وأضل من رغب في الضلال. ومن مظاهر ربوبيته الموجبة لألوهيته أي عبادته ما جاء في الآيات التالية (10، 11، 12، 13، 14، 15) إذ قال تعالى: {هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب3} تشربون منه وتتطهرون، {ومنه} أي من الماء الذي أنزل من السماء شجر4 لأن الشجرة والمراد به هنا سائر النباتات يتوقف وجوده على الماء وقوله {فيه تسيمون5} أي في ذلك النبات ترعون مواشيكم. يقال سام الماشية أي ساقها إلى المرعى ترعى وسامت الماشية أي رعت بنفسها. وقوله تعالى: {ينبت لكم به} أي بما أنزل من السماء من ماء {الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات} كالفواكه والخضر على اختلافها إذ كلها متوقفة على الماء. وقوله {إن في ذلك} أي المذكور من نزول الماء وحصول المنافع الكثيرة به
__________
1 أخذ مالك من قوله تعالى: {لتركبوها وزينة} : حرمة أكل لحوم الخيل ووافقه أبو حنيفة، وأجاز الجمهور أكلها لأنّ الآية لم تحرّم شيئاً وإنّما ذكرت فائدة من فوائدها وهي الركوب، ومن أدلة الجمهور: الحديث الصحيح من ذلك قول الصحابي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن لنا في لحوم الخيل". وقال جابر رضي الله عنه: "كنا نأكل لحوم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" وحديث مسلم عن أسماء رضي الله عنها قالت: "فجزرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة وأكلناه".
2 أي: على الله بيان قصد السبيل، والسبيل هو الإسلام، أي: بيان شرائعه وأحكامه وحِكمه ومواعظه بواسطة كتبه ورسله. وقصد السبيل: استقامته كما أن جائر السبيل: هو الحائد عن الاستقامة.
3 الشراب: اسم لما يشرب وذكر للماء النازل من السماء فائدتين. الأولى: الشراب والثانية: إنبات النبات وهما نعمتان.
4 لفظ الشجر: يطلق على النبات ذي الساق الصلبة ويطلق على مطلق العشب والكلأ تغليباً.
5 الإسامة: إطلاق الإبل للسوم وهو الرعي يقال: سامت الماشية إذا رعت وأسامها: إذا رعاها.

{لآية} أي علامةً واضحةً على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته وهي مقتضية لعبادته وترك عبادة غيره. ولكن {لقوم يتفكرون} فيتعظون. أما اشباه البهائم الذين لا يفكرون في شيء فلا يجدون آية ولا شبة آية في الكون كله وهم يعيشون فيه. وقوله تعالى: {وسخر لكم الليل والنهار} الليل للسكون الراحة، والنهار للعمل ابتغاء الرزق وتسخيرهما كونهما موجودين باستمرار لا يفترقان أبداً إلى أن يأذن الله بانتهائهما وقوله: {والشمس والقمر} أي سخرهما كذلك للانتفاع بضوء الشمس وحرارتها، وضوء القمر لمعرفة عدد السنين والحساب، وقوله: {والنجوم مسخرات1 بأمره} كذلك ومن فوائد النجوم الاهتداء بها في ظلمات البر والبحر وكونها زينة وجمالاً للسماء التي هي سقف دارنا هذه.. وقوله {إن في ذلك} المذكور من تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم {لآيات} عدة يستدل بها على الخالق وعلى وجوب عبادته وعلى توحيده فيها، ولكن {لقومٍ يعقلون} أي الذين يستخدمون طاقة عقولهم في فهم الأشياء وإدراك أسرارها وحقائقها أما أشباه البهائم والمجانين الذين لا يفكرون ولا يتعقلون ولا يعقلون، فليس لهم في الكون كله آية واحدة يستدلون بها على ربهم ورحمته بهم وواجب شكره عليهم وقوله تعالى: {وما2 ذرأ لكم في الأرض} أي وما خلق لكم في الأرض من إنسان وحيوان ونبات {مختلفاً ألوانه} 3 وخصائصه وشيانه ومنافعه وآثاره {إن في ذلك} الخلق العجيب {لآية} أي في دلالة واضحة على وجود الخالق عز وجل ووجوب عبادته وترك عبادة غيره ولكن {لقوم يذكرون} فيتعظون فينتبهون إلى ربهم فيعبدونه وحده بامتثال أمره واجتناب نهيه فيكملون على ذلك ويسعدون في الحياتين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- كون الخيل4 والبغال والحمير خلقت للركوب والزينة لا ينفي منفعة أخرى فيها وهي أكل
__________
1 {مسخرات}: أي: مذللاّت لمعرفة الأوقات ونضج الثمار، والاهتداء بالنجوم في الظلمات.
2 الذرء: الخلق بالتناسل والتولّد بالحمل والتفريخ فليس الإنبات فقط.
3 المخلوقات قسمان: قسم منها مسخر مذلل كالدواب والأنعام والأشجار، وقسم غير مذلل ولا مسخر، وشاهد هذا: قول كعب الأحبار: لولا كلمات أقولهن لجعلتني يهود حماراً فقيل له وما هن؟ قال: أعوذ بكلمات الله التامة التي لا يجاوزهن برّ ولا فاجر، وبأسماء الله الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم من شرّ ما خلق وذرأ وبرأ.
4 ما في الآية: {والخيل والبغال والحمير} ما يدلى على وجوب الزكاة فيها، وفي الحديث الصحيح: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة" رواه مالك.

لحوم الخيل لثبوت السنة بإباحة لحوم الخيل، ومنع لحوم البغال والحمير كما في الصحيحين.
2- الإسلام هو السبيل التي بينها الله تعالى فضلاً منه ورحمة وما عداه فهي سبل جائرة عن العدل والحق.
3- فضيلة التفكر والتذكر والتعقل وذم أضدادها لأن الآيات الكونية كالآيات القرآنية إذا لم يتفكر فيها العبد لا يهتدي إلى معرفة الحق المنشود وهو معرفة الله تعالى ليعبده بالذكر والشكر وحده دون سواه.
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ1 الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(14) وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(15) وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ(16) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(18) وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ(19)
شرح الكلمات.
حلية تلبسونها: هي اللؤلؤ والمرجان.
مواخر فيه: أي تشقه بجريها فيه مقبلة ومدبرة بريح واحدة وبالبخار اليوم.
__________
1 تسخير البحر: هو تمكين البشر من التصرف فيه، وتذليله بالركوب والإرفاء وغيره وهي نعمة إذ لو شاء الله لسلّط البحر على العباد لأغرقهم.

من فضله: أي من فضل الله تعالى بالتجارة.
أن تميد بكم: أي تميل وتتحرك فيخرب ما عليها ويسقط.
لا تحصوها : أي عداً فتضبطوها فضلاً عن شكرها للمنعم بها عز وجل.
ما تسرون وما تعلنون: من المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن أذاه علانية هذا بالنسبة إلى أهل مكة، إذ الخطاب يتناولهم أولاً ثم اللفظ عام فالله يعلم كل سرٍ وعلانية في أي أحد.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته تلك المظاهر الموجبة لتوحيده وعبادته وشكره وذكره قال تعالى: {وهو الذي سخر لكم البحر} وهو كل ماء غمر كثير عذباً كان أو ملحاً وتسخيره تيسير الغوص فيه وجرى السفن عليه. وقوله {لتأكلوا منه لحماً1 طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها} بيان لعلة تسخير البحر وهي ليصيد الناس منه السمك يأكلونه، ويستخرجون اللؤلؤ والمرجان حلية لنسائهم2. وقوله: {وترى الفلك مواخر فيه} أي وترى أيها الناظر إلى البحر ترى السفن تمخر الماء أي تشقه ذاهبة وجائية. وقوله: {ولتبتغوا} أي سخَّر البحر والفلك لتطلبوا الرزق بالتجارة بنقل البضائع والسلع من إقليم إلى إقليم وذلك كله من فضل الله وقوله {لعلكم تشكرون} أي كي تشكروا الله تعالى. أي سخر لكم ذلك لتحصلوا على الرزق من فضل الله فتأكلوا وتشكروا الله على ذلك والشكر يكون بحمد الله والاعتراف بنعمته وصرفها في مرضاته وقوله: {وألقى في الأرض رواسي3} أي ألقى في الأرض جبالاً ثوابت {أن تميد بكم} كي لا تميد بكم، وميدانها ميلها وحركتها إذ لو كانت تتحرك لما استقام العيش عليها والحياة فيها. وقوله: {وأنهاراً} أي وأجرى لكم أنهاراً في الأرض كالنيل والفرات
__________
1 قسّم مالك اللحم ثلاثة أقسام وهي: لحم ذوات الأربع، ولحم ذوات الريش، ولحم ذوات الماء، ومنع بيع الجنس الواحد بجنسه متفاضلا أو نسيئة.
2 الإجماع على جواز تختم الرجل بخاتم الفضة للأحاديث الثابتة وذلك منها حديث البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من فضة ونقش فيه محمد رسول الله" ولذا جاز للقضاة وغيرهم أن ينقشوا أسماءهم على خواتمهم.
3 في هذه الآية دليل على استعمال الأسباب إذ كان الله قادراً على سكونها دون الجبال، ومع هذا أرساها، وسكنها بالجبال تعليما لعباده للأخذ بالأسباب، و {رواسي} جمع راس، على غير قياس، كفوارس، وعواذل جمع فارس وعاذل.

وغيرهما {وسبلا} أي وشَّق لكم طرقاً {لعلكم تهتدون} إلى منازلكم في بلادكم وقوله {وعلامات} أي وجعل لكم علامات للطرق وأمارات كالهضاب والأودية والأشجار وكل ما يستدل به على الطريق والناحية، وقوله {وبالنجم} أي وبالنجوم1 {هم يهتدون} فركاب البحر لا يعرفون وجهة سيرهم في الليل إلا بالنجوم وكذا المسافرون في الصحارى والوهاد لا يعرفون وجهة سفرهم إلا بالنجوم وذلك قبل وجود آلة البوصلة البحرية ولم توجد إلا على ضوء النجم وهدايته وقوله في الآية (17) {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} هذا تأنيب عظيم لأولئك الذين يصرون على عبادة الأصنام ويجادلون عليها ويجالدون فهل عبادة من يخلق ويرزق ويدبر حياة الإنسان وهو الله رب العالمين كعبادة من لا يخلق ولا يرزق ولا يدير؟ فمن يسوي من العقلاء بين الحي المحيي الفعال لما يريد واهب الحياة كلها وبين الأحجار والأوثان؟ فلذا وبخهم بقوله {أفلا تذكرون} فتذكرون فتعرفون أن عبادة الأصنام باطلة وأن عبادة الله حق فتتوبوا إلى ربكم وتسلموا له قبل أن يأتيكم العذاب. وقوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} بعدما عدد في هذه الآيات من النعم الكثيرة أخبر أن الناس لو أرادوا أن يعدوا نعم الله ما استطاعوا عدها فضلا عن شكرها، ولذا قال : {إن الله لغفور رحيم} ولولا أنه كذلك ليؤاخذهم على تقصيرهم في شكر نعمه عليهم ولسلبها منهم عند كفرها وعدم الاعتراف بالمنعم بها عز وجل وقوله تعالى: {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} هذه آخر مظاهر القدرة والعلم والحكمة والنعمة في هذا السياق الكريم فالله وحده يعلم سر الناس وجهرهم فهو يعلم إذاً حاجاتهم وما تتطلبه حياتهم، فإذا عادوه وكفروا به فكيف يأمنون على حياتهم ولما كان الخطاب في سياق دعوة مشركي مكة إلى الإيمان والتوحيد فالآية إخطار لهم بأن الله عليم بمكرهم برسوله وتبييت الشر له وأذاهم له بالنهار. فهي تحمل التهديد والوعيد لكفار مكة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان العلة في الرزق وأنها الشكر فالله سبحانه وتعالى يرزق لِيُشكر.
__________
1 وقد يراد بالنجم: الجدي خاصة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس وقد سأله عن النجم فقال له: "هو الجدي عليه قبلتكم وبه تهتدون في برّكم وبحركم" وكون المراد بالنجم النجوم لقوله تعالى: {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر}.

2- إباحة أكل الحوت وكل دواب البحر.
3- لا زكاة في اللؤلؤ والمرجان لأنه من حلية النساء.
4- المقارنة بين الحي الخلاق العليم، وبين الأصنام الميتة المخلوقة لتقرير بطلان عبادة غير الله تعالى لأن من يَخلُق ليس كمن لا يَخلَق.
5- عجز الإنسان عن شكر نعم الله تعالى يتطلب منه أن يشكر ما يمكنه منها وكلمة (الحمد لله) تعد رأس الشكر والاعتراف بالعجز عن الشكر من الشكر، والشكر صرف النعم فيما من أجله أنعم الله تعالى بها.
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ(20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ(21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ(22) لاَ جَرَمَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ(23) وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ(24) لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ(25)
شرح الكلمات:
وهم يخلقون: أي يصورون من الحجارة وغيرها.
وما يشعرون أيان يبعثون : أي وما تشعر الأصنام ولا تعلم الوقت الذي تبعث فيه وهو يوم القيامة. ولا يبعث فيه عابدوها من دون الله.

قلوبهم منكرة : أي جاحدة للوحدانية والنبوة والبعث والجزاء.
وهم مستكبرون : لظلمة قلوبهم بالكفر يتكبرون.
لا جرم : أي حقاً.
أساطير الأولين : أي أكاذيب الأولين.
ليحملوا أوزارهم : أي ذنوبهم يوم القيامة.
ألا ساء ما يزرون : أي بئس ما يحملون من الأوزار.
معنى الآيات:
في هذا السياق مواجهة صريحة للمشركين بعد تقدم الأدلة على اشراكهم وضلالهم فقوله تعالى: {والذين يدعون من1 دون الله} أي تعبدونهم أيها المشركون {أموات غير أحياء} أي هم أموات إذ لا حياة لهم ودليل ذلك أنهم لا يسمعون ولا يبصرون ولا ينطقون، وقوله {وما يشعرون أيان يبعثون2} أي لا يعلمون3 متى يبعثون كما أنكم أنتم أيها العابدون لهم لا تشعرون متى تبعثون. فكيف تصح عبادتهم وهم أموات ولا يعلمون متى يبعثون للاستنطاق والاستجواب والجزاء على الكسب في هذه الحياة، وقوله {إلهكم إله واحد} هذه النتيجة العقلية التي لا ينكرها العقلاء وهي أن المعبود واحد لا شريك له، وهو الله جل جلاله، إذ هو الخالق الرازق المدبر المحي المميت ذو الصفات العلا والأسماء الحسنى، وما عداه فلا يخلق ولا يرزق ولا يُدبِّر ولا يحيى ولا يميت فتأليهه سفه وضلال، وبعد تقرير ألوهية الله تعالى وإثباتها بالمنطق السليم قال تعالى: {فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون} ذكر علة الكفر لدى الكافرين والفساد عند المفسدين وهي تكذيبهم بالبعث الآخر إذ لا يستقيم عبد على منهج الحق والخير وهو لا يؤمن باليوم الآخر يوم الجزاء على العمل في الحياة الدنيا، فأخبر تعالى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة لكل ما يسمعون من الحق الذي يدعو إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنبيه آيات القرآن الكريم، وهم مع إنكار قلوبهم لما يسمعون من الحق مستكبرون عن
__________
1 قرأ عامة القراء {يدعون} بالتاء لأن ما قبله خطاب، وقرىء عن عاصم وحفص بالياء، وهي قراءة يعقوب أيضاً.
2 روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: تبعث الأصنام وتركب فيها الأرواح ومعها شياطينها فيتبرؤون من عبدتها، ثم يؤمر بالشياطين والمشركين إلى النار.
3 عبّر عنهم بصيغة من يعقل لأن المشركين يزعمون أنها تعقل عنهم وتشفع لهم عند الله تعالى، وتقرّبهم إلى الله زلفى.

قبول الحق والإذعان له. وقوله تعالى: {لا جرم1 أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين2} أي حقاً ان الله يعلم ما يسر أولئك المكذبون بالآخرة وما يعلنون وسيحصى ذلك عليهم ويجزيهم به لا محالة في يوم كانوا به يكذبون.. ويا للحسرة ويا للندامة!! وهذا الجزاء كان بعذاب النار متسبب عن بغض الله للمستكبرين وعدم حبه لهم، وقوله تعالى: {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين3} يخبر تعالى عن أولئك المنكرة قلوبهم للوحي الإلهي وما جاء به رسول الله هؤلاء المستكبرون كانوا إذا سئلوا عن القرآن من قبل من يريد أن يعرف ممن سمع بالدعوة المحمدية فجاء من بلاد يتعرف عليها قالوا: {أساطير الأولين4} أخبار كاذبة عن الأولين مسطره عند الناس فهو يحكيها ويقول بها، وبذلك يصرفون عن الإسلام ويصدون عن سبيل الله، قال تعالى: {ليحملوا أوزارهم} أي تبعة آثامهم وتبعة آثام من صدوهم عن سبيل الله كاملة غير منقوصة يوم القيامة، وهم لا يعلمون ذلك ولكن الحقيقة هي: ان من دعا إلى ضلالة كان عليه وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزار من عملها شيء، وكذا من دعا إلى5 هدى فله أجر من عمل به من غير أن ينقص من أجر العامل به شيء. وقوله تعالى: {ألا ساء ما يزرون} أي قُبح الوزر الذي يزرونه فإنه قائدهم إلى النار موبقهم في نار جهنم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بطلان الشرك وتقرير التوحيد.
2- التكذيب باليوم الآخر والبعث والجزاء هو سبب كل شر وفساد يأتيه العبد.
__________
1 {لا جرم}: كلمة تحقيق ولا تكون إلا جواباً، يقال: فعلوا كذا وكذا فيجاب بكلمة لا جرم أنهم سيندمون.
2 أي: فهو لا يثيبهم ولا يثني عليهم خيراً، وفي الحديث الصحيح: "إن المستكبرين يحشرون أمثال الذر يوم القيامة يطؤهم الناس بأقدامهم لتكبّرهم". قالت العلماء: كل ذنب يمكن التستر منه وإخفاؤه إلا الكبر، وهو أصل العصيان كله.
3 قيل: إن الآية نزلت في النضر بن الحارث وهو القائل: أساطير الأولين. والآية تشمله وغيره ممن قال ويقول هذه الكلمات الكاذبة الباطلة.
4 الأساطير: الأباطيل، والترهات، و {أساطير الأولين}: خبر والمبتدأ الذي أنزله أي: الذي أنزله أساطير الأوّلين.
5 وفي الصحيح شاهد هذا فقد روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً".

3- التنديد بجريمة الاستكبار عن الحق والإذعان له.
4- بيان إثم وتبعة من يصد عن سبيل الله بصرف الناس عن الإسلام.
5- بيان تبعة من يدعو إلى ضلالة فإنه يتحمل وزر كل من عمل بها.
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ(26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ(27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(28) فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ(29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ(30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ(31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(32) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ

أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ(34)
شرح الكلمات:
من قبلهم: أي من قبل كفار قريش بمكة كالنمرود وغيره.
فأتى الله بنيانهم : أي قصد إليه ليدمره فسلط عليه الريح والزلزلة فسقط من أسسه.
وخر عليهم السقف: أي سقط لتداعي القواعد وسقوطها.
كنتم تشاقون فيهم: أي تخالفون المؤمنين فيهم بعبادتكم إياهم وجدالكم عنه، وتشاقون الله بمخالفتكم إياه بترك عبادته وعبادتكم إياها.
وقال الذين أوتوا العلم : أي الأنبياء والمؤمنون.
ظالمي أنفسهم: بالشرك والمعاصي.
فألقوا السلم: أي استسلموا وانقادوا.
فلبئس مثوى المتكبرين: مثوى المتكبرين: أي قبح منزل المتكبرين في جهنم مثلاً.
وقيل للذين اتقوا: أي اتقوا الشرك والمعاصي.
للذين أحسنوا: أي أعمالهم وأقوالهم ونياتهم فأتوْا بها وفق مراد الله تعالى.
حسنة: أي الحياة الطيبة حياة العز والكرامة.
ولنعم دار المتقين: أي الجنة دار السلام.
طيبيين: أي الأرواح بما زكوها به من الإيمان والعمل الصالح. وبما أبعدوها عنه من الشرك والمعاصي.
يقولون سلام عليكم: أي يقول لهم ملك الموت "عزرائيل " وأعوانه.
هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة: أي لقبض أرواحهم وعند ذلك يؤمنون.
أو يأتي أمر ربك: أي بالعذاب أو بقيام الساعة وحشرهم إلى الله عز وجل.
وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون : أي نزل بهم العذاب وأحاط بهم وقد كانوا به يستهزئون.

معنى الآيات:
مازال السياق الكريم مع كفار قريش في تذكيرهم وتبصرهم بما هم فيه من الجهالة والضلالة. فيقول تعالى: {قد مكر الذين من قبلهم} أي من قبل مكر كفار قريش وذلك كالنمرود وفرعون وغيرهم من الجبابرة الذين تطاولوا على الله عز وجل ومكروا برسلهم، فالنمرود ألقى بإبراهيم في النار، وفرعون قال ذروني اقتل موسى وليدع ربه.. وقوله: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} أي أتاه أمر الله بهدمه وإسقاطه على الظلمة الطغاة {فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون1}. وذهب باطلهم وزال مكرهم. ألم يتعظ بهذا كفرة قريش وهم يمكرون بنبيهم ويبيَّتون له السوء بالقتل أو النفي أو الحبس؟ وقوله تعالى: {ثم يوم القيامة يخزيهم} أي يهينهم ويذلهم ويوبخهم بقوله: {أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم2} أي أصنامكم وأوثانكم الذين كنتم تخالفوني بعبادتكم إياهم دوني كما تشاقون أوليائي المؤمنين أي تخالفونهم بذلك وتحاربونهم فيه. وهنا يقول الأشهاد والذين أوتوا العلم من الأنبياء والعلماء الربانيين: {إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين} أي إن الذل والهون والدون على الكافرين. وقوله تعالى: {الذين تتوفاهم3 الملائكة ظالمي أنفسهم} بالشرك والمعاصي ومن جملة المعاصي ترك الهجرة والبقاء بين ظهراني الكافرين والفساق المجرمين حيث لا يتمكن المؤمن من عبادة الله تعالى بترك المعاصي والقيام بالعبادات. وقوله {فألقوا السلم} أي عند معاينتهم ملك الموت وأعوانه أي استسلموا وانقادوا وحاولوا الاعتذار بالكذب وقالوا {ما كنا نعمل من سوء} فترد عليهم الملائكة قائيلين: {بلى} أي كنتم تعملون السوء {إن الله عليم بما كنتم تعملون} ويقال لهم أيضاً {فادخلوا أبواب جهنم} أي أبواب طبقاتها {خالدين فيها فلبئس} جهنم {مثوى} أي مقاماً ومنزلاً {للمتكبرين} عن عبادة الله وحده. وقوله تعالى: {وقيل للذين اتقوا} أي ربهم فلم يشركوا به ولم يعصوه في أمره ولا نهيه وأطاعوا رسوله كذلك: {ماذا أنزل ربكم} أي إذا سألهم من أتى مكة يتعرف على ما بلغه من
__________
1 أي: من حيث ظنوا أنهم في أمان، وقال ابن عباس يعني البعوضة التي أهلك الله تعالى بها النمرود الكنعاني.
2 قرىء {تشاقون} بفتح النون وبكسرها على الإضافة، كما قرأ شركائي ابن كشر: شركاي بفتح الياء وبدون همزة.
3 قيل: الآية نزلت في الذين تركوا الهجرة إلى المدينة وبقوا في مكة يزاولون أعمال الشرك خوفاً من المشركين، ومن بينهم الذين لمّا رأوا قلّة المؤمنين رجعوا إلى الشرك.

دعوة الإسلام فيقولون له: {خيراً} أي أنزل خيراً لأن القرآن خير وبالخير نزل بخلاف تلاميذ المشركين يقولون أساطير الأولين كما تقدم في هذا السياق.
كما ذكر تعالى جزاء الكافرين وما يلقونه من العذاب في نار جهنم وهم الذين أساءوا في هذه الحياة الدنيا إلى أنفسهم بشركهم بالله ومكرهم وظلمهم للمؤمنين، ذكر جزاء المحسنين. فقال: {للذين أحسنوا} أي آمنوا وعملوا الصالحات متبعين شرع الله في ذلك فأخلصوا عبادتهم لله تعالى ودعوا الناس إلى عبادة الله وحثوهم على ذلك فكانوا بذلك محسنين لأنفسهم ولغيرهم لهؤلاء الذين أحسنوا في الدنيا {حسنة} وهي الحياة الطيبة حياة الطهر والعزة والكرامة1، ولدار الآخرة خيرٌ لهم من دار الدنيا مع ما فيها من حسنة وقوله تعالى: {ولنعم دار المتقين} ثناء ومدح لتلك الدار الآخرة لما فيها من النعيم المقيم وإضافتها إلى المتقين باعتبار أنهم أهلها الجديرون بها إذ هي خاصة بهم ورثوها بإيمانهم وصالح أعمالهم بتركهم الشرك والمعاصي.
وقوله تعالى: {جنات2 عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون} هو وصف وبيان لدار المتقين فأخبر أنها جنات جمع جنة وهي البستان المشتمل على الأشجار والأنهار والقصور وما لذ وطاب من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمراكب وقوله تعالى: {لهم فيها ما يشاءون} هذا نهاية لإكرام والإنعام إذ كون العبد يجد كل ما يشتهي ويطلب هو نعيم لا مزيد عليه وقوله تعالى: {كذلك يجزي الله المتقين} أي كهذا الجزاء الحسن العظيم يجزي الله المتقين في الدنيا والآخرة. وقوله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين3} أي طاهري الأرواح لأرواحهم ريح طيبة ثمرة إيمانهم وصالح أعمالهم ونتيجة بعدهم عما يدنس أنفسهم من أوضار الشرك وعفن المعاصي. وقوله: {يقولون} أي تقول لهم الملائكة وهم ملك الموت وأعوانه {سلام عليكم} 4 تحييهم وفي ذلك بشارة لهم برضا ربهم وجواره الكريم. {ادخلوا الجنة} بأرواحهم اليوم
__________
1 مع الفتح والنصر والغنائم أيضاً إذ الكل حسنة عظيمة.
2 {جنات عدن}: بدل من قوله: (دار المتقين).
3 طيّبين بإيمانهم وعملهم الصالح وبعدهم عن الشرك والمعاصي ووفاتهم أيضاً طيبة سهلة لا صعوبة فيها ولا ألم بخلاف ما تقبض به أرواح أهل الكفر والشرك والفساد.
4 قال ابن المبارك: إذا استقنعت نفس العبد المؤمن "أي: اجتمعت في فيه تريد الخروج" جاءه ملك الموت فقال له: السلام عليك وليَّ الله الله يقرأ عليك السلام، ثم قرأ هذه الآية: {الذين تتوفاهم الملائكة} الخ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن قال: ربّك يقرئك السلام.

وبأجسامهم غداً يوم القيامة. وقوله {بما كنتم تعملون} أي بسبب ما كنتم تعملونه من الطاعات والمسابقة في الخيرات بعد عمل قلوبكم بالإيمان واليقين والحب في الله والبغض فيه عز وجل والرغبة والتوكل عليه. هذا ما تضمنته الآيات (31، 32) وأما الآيات بعد ذلك فيقول الله مستبطئاً إيمان قريش وتوبتهم بعد تلك الحجج والبراهين والدلائل والبينات على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى وجوب التوحيد وبطلان الشرك وعلى الإيمان باليوم الآخر. {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة} أي ما ينظرون بعد هذا إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم {أو يأتي أمر ربك} بإبادتهم واستئصالهم، إذ لم يبق ما ينتظرونه إلا أحد هذين الأمرين وكلاهما مر وشر لهم. وقوله تعالى: {كذلك فعل الذين من قبلهم} من كفار الأمم السابقة فحلت بهم نقمة الله ونزل بهم عذابه فأهلكهم .{وما ظلمهم الله} تعالى في ذلك أبداً {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} بإصرارهم على الشرك والعناد والمجاحدة والمكابرة {فأصابهم سيئات} أي جزاء سيئات {ما عملوا} من الكفر والظلم {وحاق بهم} أي نزل بهم وأحاط بهم {ما كانوا به يستهزئون} إذ كانت رسلهم إذا خوفتهم من عذاب الله سخروا منهم واستهزأوا بالعذاب واستخفوا به حتى نزل بهم والعياذ بالله تعالى.
من هداية الآيات:
1- سوء عاقبه المكر وأنه يحيق بأهله لا محالة والمراد به المكر السيء.
2- بيان خزي الله تعالى يوم القيامة لأهل الشرك به والمعاصي له ولرسوله.
3- فضل أهل العلم إذ يتخذ منهم شهداء يوم القيامة ويشمتون بأهل النار.
4- بان استسلام الظلمة عند الموت وانهزامهم وكذبهم.
5- تقرير معتقد البعث والحياة الآخرة بأروع أسلوب وأحكمه وأمتنه.
آ- إطلاق لفظ خير على القرآن وهو حق خير فالذي أوتي القرآن أوتي الخير كله، فلا ينبغي أن يرى أحداً من أهل الدنيا خيراً منه وإلا سخط نعمة الله تعالى عليه.
7- سعادة الدارين لأهل الإحسان وهم أهل الإيمان والإسلام والإحسان في إيمانهم بالإخلاص وفي إسلامهم بموافقه الشرع ومراقبة الله تعالى في ذلك.

8- بشرى أهل الإيمان والتقوى عند الموت، وعند القيام من القبور بالنعيم المقيم في جوار رب العالمين.
9- إعمال القلوب والجوارح سبب في دخول الجنة وليست ثمناً لها لغلائها، وإنما الأعمال تزكي النفس وتطهر الروح وبذلك يتأهل العبد لدخول الجنة.
10- ما ينتظر المحرمون بإصرارهم على الظلم والشر والفساد إلا العذاب، عاجلاً أو آجلاً فهو نازل بهم حتما مقضياً إن لم يبادروا إلى التوبة الصادقة.
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ(35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(36) إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ(37) وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ(39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ(40)

شرح الكلمات:
وقال الذين أشركوا : هم كفار قريش ومشركوها.
ولا حرمنا من دونه من شيء: كالسوائب والبحائر والوصائل والحامات.
فهل على الرُّسل إلا البلاغ: أي ما على الرُّسل إلا البلاغ فالاستفهام للنفي.
واجتنبوا الطاغوت : أي عبادة الأصنام والأوثان.
حقت عليه الضلالة: أي وجبت في علم الله أزلا.
جهد أيمانهم: أي غايتها حيث بذلوا جهدهم فيها مبالغة منهم.
بلى وعداً عليه حقاً: أي بلى يبعث من يموت وقد وعد به وعداً وأحقه حقاً. فهو كائن لا محالة.
يختلفون فيه : أي بين المؤمنين من التوحيد والشرك.
انهم كانوا كاذبين : أي في قولهم "لا نبعث بعد الموت".
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحجاج مع مشركي قريش فيقول تعالى مُخْبراً عنهم {وقال الذين أشركوا} أي مع الله آلهةً أخرى وهي أصنامهم كهبل واللات والعُزَّى وقالوا لو شاء الله عدم إشراكنا به ما أشركنا نحن ولا آباؤنا، ولا حرمنا من دون تحريمه شيئاً فهل قالوا هذا إيمانا بمشيئة الله تعالى، أو قالوه استهزاء وسخرية دفاعاً عن شركهم وشرعهم الباطل في التحريم والتحليل بالهوى، والأمران محتملان. والرد عليهم بأمرين أولهما ما دام الله قد نهاهم عن الشرك والتشريع فإن ذلك أكبر دليل على تحريمه تعالى لشركهم ومحرماتهم من السوائب والبحائر وغيرها وثانيهما كونه لم يعذبهم عليها بعد ليس دليلاً على رضاه بها بدليل أن من سبقهم من الأمم والشعوب الكافرة قالوا قولتهم هذه محتجين به على باطلهم فلم يلبثوا حتى أخذهم الله، فدل ذلك قطعاً على عدم رضاه بشركهم وشرعهم إذ قال تعالى في سورة الأنعام رداً على هذه الشبهة كذلك قال الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا أي عذاب انتقامنا منهم لما كذبوا رسلنا وافتروا علينا. وقوله تعالى: {كذلك فعل الذين1
__________
1 الإشارة بذلك إلى الإشراك وتحريمهم أشياء من تلقاء أنفسهم أي: كفعل هؤلاء فعل الذين من قبلهم ممن مكروا برسلهم وأهلكم الله جل جلاله.

من قبلهم} من الأمم السابقة قالوا قول هؤلاء لرسلهم وفعلوا فعلهم حتى أخذهم الله بالعذاب. وقوله {فهل1 على الرسل2 إلا البلاغ المبين} أي ليس على الرسول إكراه المشركين على ترك الشرك ولا إلزامهم بالشرع وإنما عليه أن يبلغهم أمر الله تعالى ونهيه لا غير.. فلذا كان في الجملة تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر حتى يبلغ دعوة ربه وينصره على أعدائه. هذا ما دلت عليه الآية الأولى في هذا السياق (35) وقوله في الآية الثانية (36) {ولقد بعثنا3 في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} فأخبر تعالى بأنه ما أخلى أمة من الأمم من إرسال رسول إليها لهدايتها وبيان سبيل نجاتها وتحذيرها من طرق غوايتها وهلاكها. كما أخبر عن وحدة الدعوة بين الرسل وهي لا إله إلا الله المفسره بعبادة الله تعالى وحده، واجتناب الطاغوت وهو كل ما عبد من دون الله مما دعا الشيطان إلى عبادته بالتزيين والتحسين عن طريق الوسواس من جهة ومن طريق أوليائه من4 الناس من جهة أخرى.
وقوله تعالى: {فمنهم} أي من الأمم المرسل إليهم {من هدى الله} فعرف الحق واعتقده وعمل به فنجا وسعد، {ومنهم من حقت عليه الضلالة5} أزلاً في كتاب المقادير لأنه أصر على الضلال وجادل عنه وحارب من أجله باختياره وحريته فحرمه الله لذلك التوفيق فضلَّ ضلالاً لا أمل في هدايته. وقوله تعالى: {فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} أمرٌ لكفار قريش المجادلين بالباطل المحتجين على شركهم وشرعهم الباطل أمرٌ لهم أن يسيروا في الأرض جنوباً أو شمالاً فينظروا كيف كانت عاقبة المكذبين أمثالهم من أمة عاد في الجنوب وثمود في الشمال، ومدين ولوط وفرعون في الغرب. وقوله تعالى في تسلية رسوله والتخفيف من الهمَّ عنه: {إن تحرص} يا رسولنا
__________
1 الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، ولذا جاء الإسلام بعده أي: ما على الرسل إلا البلاغ، أي: ليس عليهم هداية الخلق إذ لا يملكون ذلك ولم يكلفوا به وإنما كلفوا بالبلاغ والبيان.
2 في الآية: {فهل على الرسل...} تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتعليم وفيها أيضاً التحريض بإبلاغ المشركين.
3 هذا الكلام معطوف على قوله: {كذلك فعل الذين من قبلهم} متضمن بياناً لسنة الله تعالى في إرسال الرسل لإحقاق الحق وإبطال الباطل ونصر المؤمنين، وهلاك الكافرين المكذبين.
4 أولياء الشيطان: هم الكهان ودعاة الضلال الذين يصدّون عن سبيل الله بتزيين الباطل وتحسين الشرك والخرافة.
5 في هذا ردّ على القدرية نفاة القدر إذ معنى: {حقت}: وجبت له أزلا في كتاب المقادير.

{على هداهم} أي هدايتهم إلى الحق {فإن الله لا يهدي من يضل1} فخفف على نفسك وهون عليها فلا تأسف ولا تحزن وادع إلى ربك في غير حرص يضر بك وقوله {لا يهدي من يضل} أي لا يقدر أحد أن يهدي من أضله الله، لأن اضلال الله تعالى يكون على سنن خاصة لا تقبل التبديل ولا التغيير لقوة سلطانه وسعة عمله. وقوله {وما لهم من ناصرين} أي وليس لأولئك الضلال الذين أضلهم الله حسب سنته من ناصرين ينصرونهم على ما سينزل بهم من العذاب وما سيحل بهم من خسرانٍ وحرمان. وقوله تعالى في الآية (38) {وأقسموا بالله جهد2 أيمانهم لا يبعث الله من يموت} اخبار عن قول المشركين والمكذبين باليوم الآخر أصحاب القلوب المنكرة، ومعنى {أقسموا بالله جهد أيمانهم3} أي حلفوا أشد الإيمان إذ كانوا في الأمور التافهة يحلفون بآلهتهم وآبائهم. وإذا كان الأمر ذا خطر وشأن أقسموا بالله وبالغوا في الإقسام حتى يبلغوا جهد أيمانهم والمحلوف عليه هو أنهم إذا ماتوا لا يبعثون أحياء فيحاسبون ويجزون فرد الله تعالى عليهم بقوله {بلى} أي تبعثون وعد الله حقاً فلا بد ناجز {ولكن أكثر الناس لا يعلمون4} فلذا ينفون البعث وينكرونه لجهلهم بأسرار الكون والحياة وعلل الوجود والعمل فيه فلذا أشار الله تعالى إلى بعض تلك العلل في قوله: {ليبين لهم الذي يختلفون فيه} فلولا البعث الآخر ما عرف المُحق من المبطل في هذه الحياة والخلاف سائد ودائم بين الناس. هذا أولاً. وثانياً: {وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين5} في اعتقاداتهم وأعمالهم ونفيهم الحياة الثانية للجزاء على العمل في دار العمل هذه أما استبعادهم البعث بعد الموت نظرا إلى وسائلهم ووسائطهم الخاصة بهم فقد أخبرهم تعالى بأن الأمر ليس كما تقدرون أنتم وتفكرون: إنه مجرد ما تتعلق إرادتنا بشيء نريد أن يكون، نقول له كن
__________
1 قرىء في السبع {يهدي} بضم الياء مبنياً للمجهول وقرىء: {يهدي} بفتح الياء مبنياً للمعلوم وقراءة لا يهدي هي التي فسر بها في التفسير. وقراءة يهدي، أي: أن الله إذا كتب على عبد شقاء لا يهديه للخلاص منه.
2 روي أن رجلاً من المسلمين كان له دَين على مشرك فقاضاه منه وقال في بعض كلامه: والذي أرجوه بعد الموت، أنه لكذا وكذا فأقسم المشرك بالله: لا يبعث الله من يموت، فنزلت الآية.
3 ذكر القرطبي عن قتادة أن رجلاً قال لابن عباس: إنّ ناسا يزعمون أنّ علياً مبعوث بعد الموت قبل الساعة يتأوّلون هذه الآية فقال ابن عباس: كذب أولئك إنما هذه الآية عامة للناس فلو كان عليَّ مبعوثاً قبل يوم القيامة ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه.
4 روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك".
5 أي: في نفيهم البعث وإقسامهم على عدم وقوعه، وفي إنكارهم التوحيد والنبوّة أيضاً.

فيكون فوراً، والبعث الآخر من ذلك. هذا ما دل عليه قوله في الآية (40) {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون1} ولا يقولن قائل كيف يخاطب غير الموجود فيأمره ليوجد فإن الله تعالى إذا أراد شيئاً علمه أولاً ثم قال له كن فهو يكون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الرد على شبهة المشركين في احتجاجهم بالمشيئة الإلهية.
2- تفسير لا إله إلا الله.
3- التحذير من تعمد الضلال وطلبه والحرص عليه فإن من طلب ذلك وأضله الله لا ترجى هدايته.
4- بيان بعض الحكم في البعث الآخر.
5- لا يستعظم على الله خلق شيء وإيجاده، لأنه يوجد بكلمة التكوين فقط.
وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ(41) الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(44)
شرح الكلمات:
والذين هاجروا في الله : أي خرجوا من مكة في سبيل الله نصرةً لدينه وإقامته بين الناس.
__________
1 قال أهل العلم في الآية دليل على عدم خلق القرآن إذ لو كان مخلوقاً لكان قوله: {كن} مخلوقاً، ولا يحتاج إلى قول ثانٍ، والثاني يحتاج إلى ثالث وتسلسل وهذا محال وفيها دليل على أن الله مريد لجميع الحوادث خيرها وشرها نافعها وضارها، والدليل أن من رأى في سلطانه ما يكرهه ولا يريده فلأحد شيئين إما لكونه جاهلاً لا يدري وإما لكونه مغلوياً لا يطيق وهذا محال في حقه سبحانه وتعالى وبذلك تأكد أن الله مريد لكل ما يجري من أحداث في الملكوت وحكمته لا يخلو منها شيء.

لنبوئنهم في الدنيا حسنة: أي لننزلنهم داراً حسنة هي المدينة النبوية هذا بالنسبة لمن نزلت فيهم الآية.
الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون : أي على أذى المشركين وهاجروا متوكلين على ربهم في دار هجرتهم.
فاسألوا أهل الذكر: أي أيها الشاكوّن فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فاسألوا أهل التوراة والإنجيل لإزالة شككم ووقوفكم على الحقيقة وأن ما جاء به محمد حق وأن الرسل قبله كلهم كانوا بشراً مثله.
بالبينات والزبر: أي أرسلناهم بشراً بالبينات والزبر1 لهداية الناس.
وأنزلنا إليك الذكر : أي القرآن.
لتبين للناس ما نزل إليهم: علة لإنزال الذكر إذ وظيفة الرسل، البيان.
معنى الآيات:
إنه بعد اشتداد الأذى على المؤمنين لعناد المشركين وطغيانهم، أذن الله تعالى على لسان رسوله للمؤمنين بالهجرة من مكة إلى الحبشة ثم إلى المدينة فهاجر رجال ونساء فذكر تعالى ثناء عليهم وتشجيعاً على الهجرة من دار الكفر فقال عز وجل {والذين هاجروا2 في الله} أي في ذات الله ومن أجل عبادة الله ونصرة دينه {من بعد ما ظلموا} أي من قبل المشركين {لنبوئنهم} أي لننزلهم ولنسكننهم {في الدنيا حسنة} وهي المدينة النبوية ولنرزقنهم فيها رزقاً حسناً هذا بالنسبة لمن نزلت3 فيهم الآية، وإلا فكل من هاجر في الله ينجز له الرب هذا الوعد كما قال تعالى: {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيرا وسعة} أي في العيش والرزق {ولأجر الآخرة} المعد لمن هاجر في سيبل
__________
1 {الزّبر}: الكتب.
2 أي: تركوا الوطن، والأهل، والقرابة كما تركوا السيئات. ومعنى: في الله أي: لأجل الله إذ بدار الكفر لا يتمكنون من عباده الله تعالى فإذا هاجروا تمكنوا فكانت هجرتهم إذا لله أي لعبادته التي خلقهم من أجلها.
3 قيل: نزلت الآية في صهيب وبلال وعمار، وخبّاب إذ عذّبهم المشركون أشد العذاب حتى هاجروا، ويدخل في هذا أيضاً أبو جندل وغيره.

الله {أكبر لو كانوا يعلمون1}. هذا ترغيب في الهجرة وتشجيع للمتباطئين على الهجرة وقوله: {الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون} 2 بيان لحالهم وثناء عليهم بخير لأنهم صبروا أولاً على الأذى في مكة ثم لما أذن لهم بالهجرة هاجروا متوكلين على الله تعالى مفوضين أمورهم إليه، واثقين في وعده. هذا ما دلت عليه الآيتان (41)، (42). وأما الآية الثالثة (43) والرابعة من هذا السياق فهما تقرير حقيقة علمية بعد إبطال شبهة المشركين القائلين كيف يرسل الله محمداً رسولاً وهو بشر مثلنا لم لا يرسل ملكاً.. وهو ما أخبر الله تعالى في قوله {وما أرسلنا من قبلك} أي من الرسل {إلا رجالاً} لا ملائكة {نوحي إليهم} بأمرنا وقوله: {فاسألوا} أيها المشركون المنكرون أن يكون الرسول بشراً، اسألوا أهل الذكر وهو الكتاب3 الأول أي أسألوا علماء أهل الكتاب اليهود والنصارى هل كان الله تعالى يرسل الرسل من غير البشر {إن كنتم لا تعمون} فإنهم يخبرونكم وما موسى ولا عيسى إلا بشر، وقوله: {بالبينات والزبر} أي أرسلنا أولئك الرسل من البشر بالبينات أي الحجج والدلائل الدالة على وجوب عبادتنا وترك عبادة من سوانا. والزبر أي الكتب. ثم يقول تعالى لرسوله: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} وفي هذا تقريرٌ لنبوته وقوله: {ولعلهم يتفكرون} فيعرفون صدق ما جئتهم به فيؤمنوا. ويتوبوا إلى ربهم فينجوا ويسعدوا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1-فضل الهجرة ووجوبها عند اضطهاد المؤمن وعدم تمكنه من عبادة الله تعالى.
2- وجوب سؤال أهل العلم على كل من لا يعلم أمور دينه من عقيدة وعبادة وحكم.
3- السنة لا غنى عنها لأنها المبينة لمجمل القرآن والموضحة لمعانيه.
__________
1 هذا صالح لكلّ من المؤمنين ومعذبيهم، غير أنه في المؤمنين أظهر إذ كان عمر رضي الله عنه إذا أعطى المهاجرين العطاء قال: هذا ما وعدكم الله في الدنيا وما ادخر لكم في الآخرة أكثر ثم يتلو هذه الآية: {ولأجر الآخرة خير لو كانوا يعلمون}.
2 قال العلماء: خيارُ المؤمنين من إذا نابه أمر صبر وإذا عجز عن أمر توكل وهو المراد من قوله تعالى: {الذين صبروا وعلى ربّهم يتوكلون}.
3 يدخل في أهل الذكر أهل القرآن، وهم علماء هذه الأمّة، وبهذا أمر الله تعالى غير العالمين أن يسألوا أهل العلم، وأمر العالمين أن يعلموا ويبيّنوا ومن كتم منهم عُذِّب.

أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ(45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ(46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ(47) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ(48) وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ(49) يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(50)
شرح الكلمات:
مكروا السيئات: أي مكروا المكرات السيئات فالسيئات وصف للمكرات التي مكروها.
في تقلبهم: أي في البلاد مسافرين للتجارة وغيرها.
على تخوف: أي تنقص.
يتفيئوا ظلاله:. أي تتميل من جهةٍ إلى جهة.
سجداً لله: أي خضعاً لله كما أراد منهم.
داخرون: أي صاغرون ذليلون.
من فوقهم: من أعلى منهم إذ هو تعالى فوق كل شيء ذاتاً وسلطاناً وقهراً.
ها يؤمرون: أي ما يأمرهم ربهم تعالى به.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تخويف المشركين وتُذكيرهم لعلهم يرجعون بالتوبة من الشرك والجحود للنبوة والبعث والجزاء. قال تعالى: {أفأمن الذين مكروا1} المكرات
__________
1 هذا وعيد للمشركين الذين احتالوا في إبطال الإسلام.

{السيئات} من محاولة قتل النبي صلى الله عليه وسلم والشرك والتكذيب بالنبوة والبعث وظلم المؤمنين وتعذيب بعضهم، أفأمنوا {أن يخسف الله بهم الأرض} من تحتهم فيقرون في أعمالها، {أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون1} ولا يتوقعون من ريح عاصف تعصف بهم أو وباء يشملهم أو قحط يذهب بما لهم. وقوله تعالى: {أو يأخذهم في تقلبهم} أي في تجارتهم وأسفارهم ذاهبين آيبين من بلدٍ إلى بلد. {فما هم بمعجزين} 2 له تعالى لو أراد أخذهم وإهلاكهم. وقوله تعالى: {أو يأخذهم على تخوف} أي3 تنقص4 بأن يهلكهم واحداً بعد واحد أو جماعة بعد جماعة حتى لا يبقى منهم أحداً، وقد أخذ منهم ببدرٍ من أخذ وفي أحد. وقوله تعالى: {فإن ربكم لرؤوف رحيم} تذكير لهم برأفته ورحمته إذ لو لا هما لأنزل بهم نقمته وأذاقهم عذابه بدون إنظار لتوبةٍ أو إمهال لرجوع إلى الحق، وقوله تعالى: {أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء5} من شجرٍ وجبل وإنسانٍ وحيوان {يتفيؤا ظلاله} بالصباح والمساء {عن اليمين والشمائل} " جمع شمال" {سجداً لله} خضعاً بظلالهم {وهم داخرون6} أي صاغرون ذليلون. أما يكفيهم ذلك دلالة على خضوعهم لله وذلتهم بين يديه، فيؤمنوا به ويعبدونه ويوحدوه فينجوا من عذابه ويفوزوا برحمته. وقوله تعالى: {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة} أي ولله لا لغيره يسجد بمعنى يخضع وينقاد لما يريده الله تعالى من إحياء أو إماتة أو صحة أو مرض أو خير أو غيره من دابةٍ أي من كل ما يدب من كائن على هذه الأرض {والملائكة}7
__________
1 وقد تمّ لهم وذاقوا مُرَّاً يوم بدر بقتل صناديدهم وأسرهم.
2 أي: بسابقين الله ولا فائتيه.
3 التخوف: مصدر لفعل تخوّف إذا حاف، ومصدر لتخوّف المتعدي الذي بمعنى تنقص، وهو لغة هذيل، فللآية معنيان. الأول: أن يكون المعنى: يأخذهم العذاب وهم في حالة توقع بنزول العذاب لوجود أماراته كالرعد والبرق مثلا. والثاني: أن يكون المعنى بأن يأخذهم وهم في حالة تنقص بأن يأخذ القرية فتخاف القرية الأخرى وهو واضح المعنى في التفسير.
4 ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما تفسير التخوّف: بأن يعاقب أو يتجاوز، ويشهد له الجملة التعليلية وهي {فإنّ ربكم لرؤوف رحيم} فهو لا يعاجل بالعقوبة.
5 أي: من أي جسم قائم له ظل كشجرة أو جبل ومعنى تفيء الظلال: ميلانه من جانب إلى جانب ومنه سمي الظل بالعشي فيء: لأنه فاء من المشرق إلى المغرب أي. رجع، والفيء: الغنائم التي ترجع إلى المسلمين من الكافرين لأنّهم أحق بها فرجعت إليهم.
6 أي: خاضعون، والدخور: الصغار والذل يقال: دخر الرجل فهو داخر وأدخره الله. قال ذو الرمّة:
فلم يبق إلا داخر في مخيس
ومنجحر في غير أرضك في حجر
والشاهد في قوله داخر أي خاضع ذليل والمخيس بناء من مدر يسجن فيه
7 قيل: المراد بالملائكة: ملائكة الأرض، وخضهم بالذكر وهم داخلون في عموم ما في السموات وما في الأرض لشرف منزلتهم عند ربّهم جلّ جلاله، والملائكة يطيرون ولا يَدِبّون، فلذا أخرجوا أيضاً بالذكر.

على شرفهم يسجدون {وهم لا يستكبرون} عن عبادة ربهم {ويخافون ربهم من فوقهم} إذ هو العلي الأعلى وكل الخلق تحته. {ويفعلون ما يؤمرون} فلا يعصون ربهم ما أمرهم. إذا كان هذا حال الملائكة فما بال هؤلاء المشركين يلجون في الفساد والاستكبار والجحود والمكابرة وهم أحقر سائر المخلوقات، وشر البريات إن بقوا على كفرهم وشركهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة الأمن من مكر الله.
2- كل شيء ساجد لله، أي خاضع لما يريده منهم، إلا أن السجود الطوعي الاختياري هو الذي يثاب عليه العبد، أما الطاعة اللا إرادية فلا ثواب فيها ولا عقاب.
3- فضل السجود الطوعي الاختياري.
4- مشروعية السجود عند هذه الآية: إذا قرأ القارىء أو المستمع: {ويخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون}، عليه أن يسجد إن كان متطهراً إلى القبلة إن أمكن ويسبح في السجود ويكبر في الخفض والرفع ولا يسلم، ولا يسجد عند طلوع الشمس ولا عند غروبها.
وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ1 إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ(51) وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ(52) وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ(53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ(54) لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(55) وَيَجْعَلُونَ
__________
1 جائز أن يكون سكّان شرق الجزيرة من العرب قد انتقلت إليهم عقيدة المجوس المبنية على إله الخير وهو يزدان وإله الشر الذي هو أهرمُنْ وذلك لمجاورتهم لحكومة المجوس الممتدة إلى العراق، ويكون النهي في الآية موجهاً إليهم.

لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ(56)
شرح الكلمات:
لا تتخذوا إلهين: أي تعبدونهما إذ ليس لكم إلا إله واحد.
وله ما في السموات والأرض: أي خلقاً وملكاً، إذاً فما تعبدونه مع الله هو لله ولم يأذن بعبادته.
وله الدين واصباً: أي خالصاً دائماً واجباً.
فإليه تجأرون: أي ترفعون أصواتكم بدعائه طالبين الشفاء منه.
فتمتعوا فسوف تعلمون : تهديدٌ على كفرهم وشركهم ونسيانهم دعاء الله تعالى.
ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً: أي يجعلون لآلهتهم نصيباً من الحرث والأنعام.
عما كنتم تفترون: أي تختلقون بالكذب وتفترون على الله عز وجل.
معنى الآيات:
بعد إقامة الحجج على التوحيد وبطلان الشرك أخبرهم أن الله ربهم رب كل شيء قد قال لهم: أيها الناس {لا تتخذوا إلهين اثنين} فلفظ اثنين توكيد للفظ إلهين أي لا تعبدوا إلهين بل اعبدوا إلهاً واحداً وهو الله إذ ليس من إله إلا هو فكيف تتخذون إلهين والحال انه {إله واحد} لا غير وهو الله الخالق الرازق المالك، ومن عداه من مخلوقاته كيف تُسوَّى به وتُعبَد معه؟ وقوله تعالى: {فإياي فارهبون1} أي ارهبوني وحدي ولا ترهبوا سواي إن بيدي كل شيء، وليس لغيري شيء فأنا المحيي المميت، الضار النافع، يوبخهم على رهبتهم غيره سبحانه وتعالى من لا يستحق أن يُرهب لعجزه وعدم قدرته على أن ينفع أو يضر. وقوله تعالى: {وله ما في السموات والأرض}2 برهان على بطلان رهبة غيره أو
__________
1 الرهبة: الخوف، فمعنى {فارهبون}: خافوني ولا تخافوا سواي، وتقديم المفعول: {فإيايّ} مؤذن بحصر الرهبة في الله تعالى ونفيها عمَّن سواه.
2 في الآية تقرير وحدانية الله تعالى إذ ما في السموات له، وما في الأرض له فهو إذاً إله واحد وبطل التعدد الذي يراه المجوس.

الرغبة في سواه ما دام له ما في السموات والأرض خلقاً وملكاً. وقوله {وله الدين واصباً} 1 أي العبادة والطاعة دائماً ثابتاً واجباً، ألا لله الدين الخالص. وقوله تعالى: {أفغير الله تتقون} يوبخهم على خوف سواه وهو الذي يجب أن يرهب ويخاف لأنه الملك الحق القادر على إعطاء النعم وسلبها، فكيف يُتقى من لا يملك ضراً ولا نفعاً ويُعصى من بيده كل شيء وإليه مرد كل شيء، وما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن. وقوله: {وما بكم من نعمةٍ فمن الله}2 يخبرهم تعالى بالواقع الذي يتنكرون له فيخبرهم أنه ما بهم من نعمة جلت أو صغرت من صحةٍ أو مالٍ أو ولد فهي من الله تعالى خالقهم وواهبهم حياتهم، وليست من أحدٍ غيره، ودلل على ذلك شعورهم الفطري وهو أنهم إذا مسهم الضر من فقرٍ أو مرض أو تغير حال كخوف غرقٍ في البحر فإنهم يرفعون أصواتهم إلى أعلاها مستغيثين بالله سائلينه أن يكشف ضرهم أو ينجيهم من هلكتهم المتوقعة لهم فقال عز وجل: {ثم إذا مسكم الضر فإليه} دون غيره {تجأرون} برفع أصواتكم بالدعاء والاستغاثة به سبحانه وتعالى وقوله. {ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريقٌ} كبير {منكم بربهم يشركون} فيعبدون غيره بأنواع العبادات متناسين الله الذي كشف ضرهم وأنجاهم من هلكتهم.
وقوله: {ليكفروا بما آتيناهم}3 أي ليؤول أمرهم إلى كفران ونسيان ما آتاهم الله من نعمٍ وما أنجاهم من محن. أفهكذا يكون الجزاء؟ أينعم بكل أنواع النعم وينجى من كل كرب ثم ينسى له ذلك كله، ويعبد غيره؟ بل ويحارب دينه ورسوله؟ إذاً {فتمتعوا4} أيها الكافرون {فسوف تعلمون} عاقبة كفركم وإعراضكم عن طاعة الله وذكره وشكره. وقوله تعالى: {ويجعلون لما لا يعلمون نصنيباً مما رزقناهم} وهذا ذكرٌ لعيب آخر من عيوبهم وباطلٍ من باطلهم أنهم يجعلون لأوثانهم التي لا يعلمون عنها شيئاً من نفعٍ أو ضر أو اعطاء أو منع أو إماتة أو إحياء يجعلونها لها طاعةً للشيطان نصيباً وحظاً من أموالهم
__________
1 لفظ الدّين هنا: صالح لأن يكون الطاعة يقال: دان فلان للملك: أطاعه وصالح لأن يكون الجزاء كقوله: { مالك يوم الدين} وصالح لأن يكون الديانة والكل لله. لا شريك له، فالطاعة واجبة له والجزاء هو الذي يملكه والديانة هو شارعها فهي له دون سواه.
2 فيه إشارة إلى بطلان إله الخير الذي يدين له المجوس الذين يقولون الخير من إله الخير، والشر من إله الشر.
3 وجائز أن تكون اللام: لام كي التعليلية.
4 الأمر للتهديد.

يتقربون به إليها فسيبوا لها السوائب، وبحروا لها البحائر من الأنعام، وجعلوا لها من الحرث والغرس كذلك كما جاء ذلك في سورة الأنعام والمائدة قبلها: وقوله تعالى: {تالله لتسئلن1 عما كنتم تفترون} أقسم الجبار لهم تهديداً لهم وتوعداً أنهم سيسألون يوم القيامة عما كانوا يفترون أي من هذا التشريع الباطل حيث يحرمون ويحللون ويعطون آلهتهم ما شاءوا وسوف يوبخهم عليه ويجزيهم به جهنم وبئس المهاد.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير التوحيد بعبادة الله تعالى وحده. 2- وجوب الرهبة من الله دون سواه.
3- وجوب الدين لله إذ هو الإله الحق دون غيره.
4- كل نعمة بالعبد صغرت أو كبرت فهي من الله سبحانه وتعالى.
5- تهديد المشركين إن أصروا على شركهم وعدم توبتهم.
6- التنديد بالمشركين وتشريعهم الباطل بالتحليل والتحريم والإعطاء والمنع.
وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ(57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ(58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ(59) لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ(61) وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ
__________
1 هذا سؤال توبيخ ويتم في عرصات القيامة أو في النار.

وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ(62)
شرح الكلمات:
ويجعلون لله البنات : إذ قالوا الملائكة بنات الله.
ولهم ما يشتهون: أي الذكور من الأولاد.
ظل وجهه مسوداً: أي متغيراً بالسواد لما عليه من كرب.
وهو كظيم: أي ممتلىء بالغم.
أم يدسه في التراب : أي يدفن تلك المولودة حية وهو الوأُد.
مثل السوء : أي الصفة القبيحة.
ولله المثل الأعلى: أي الصفة العليا وهي لا إله إلا الله.
أن لهم الحسنى : أي الجنة إذ قال بعضهم ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى.
وأنهم مفرطون: أي مقدمون إلى جهنم متروكون فيها.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان أخطاء المشركين في اعتقاداتهم وسلوكهم فقال تعالى: {ويجعلون1 لله البنات- سبحانه- ولهم ما يشتهون2} وهذا من سوء أقوالهم وأقبح اعتقادهم حيث ينسبون إلى الله تعالى البنات، إذ قالوا الملائكة بنات الله في الوقت الذي يكرهون نسبة البنات إليهم، حتى إذا بشر أحدهم بأنثى بأن أُخبر بأنه ولدت له بنت ظل نهاره كاملاً في غم وكرب {وجهه مسوداً وهو كظيم}3 ممتلىء بالغم والهم. {يتوارى} أي يستتر ويختفي عن أعين الناس خوفاً من المعرة، وذلك {من سوء ما بشر به} وهو البنت وهو في ذلك بين أمرين إزاء هذا المبَشرَّ به: إما أن يمسكه. أن يبقيه في بيته بين
__________
1 هذه الآية نزلت في خزاعة وكنانة إذ زعموا أنّ الملائكة بنات الله، وكانوا يقولون: ألحقوا البنات بالبنات.
2 (ما) موصولة، وهو وصلته مبتدأ في محل رفع، والخبر متعلّق الجار والمجرور أي: ثابت لهم.
3 الكظيم: مشتق من الكظامة وهو شدّ فم القربة، إذا الكظيم هو المغموم الذي يطبق فاه فلا يتكلّم من الغمّ.

أولاده {على هون} أي مذلة وهوان، وإما أن {يدسه في التراب}1 أي يدفنه حياً وهو الوأد المعروف عندهم. قال تعالى مندداً بهذا الإجرام: {ألا ساء ما يحكمون} في حكمهم هذا من جهة نسبة البنات لله وتبرّئهم منها، ومن جهة وأْد البنات2 أو إذلالهن، قبح حكمهم الجاهلي هذا من حكم. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (57) وهي قوله: {ويجعلون لله البنات} حيث قالوا الملائكة بنات الله {سبحانه} أي نزه تعالى نفسه عن الولد والصاحبة فلا ينبغي أن يكون له ولد ذكراً كان أو أنثى لأنه رب كل شيء ومليكه فما الحاجة إلى الولد إذاً؟ والآية الثانية (58) وهي قوله تعالى: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى3 ظل وجهه مسوداً} أي أقام النهار كله مسود الوجه من الغم {وهو كظيم} أي ممتلىء بالغم والهم، {يتوارى من القوم من سوء ما بشر به} أي من البنت {أيمسكه على هونٍ أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون} وقوله تعالى: {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء} يخبر تعالى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم منكروا البعث الآخر لهم المثل السوء4 أي الصفة السوء وذلك لجهلهم وظلمة نفوسهم لأنهم لا يعملون خيراً ولا يتركون شراً، لعدم إيمانهم بالحساب والجزاء فهؤلاء لهم الصفة السوأى في كل شيء، {ولله المثل5 الأعلى} أي الصفة الحسنى وهو أنه لا إله إلا الله منزه عن النقائص رب كل شيء ومالكه، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، لا شريك له ولا ند له ولا ولد وقوله: {وهو العزيز الحكيم} ثناء على نفسه بأعظم وصف العزة والقهر والغلبة لكل شيء والحكمة العليا في تدبيره وتصريفه شؤون عباده، وحكمه وقضائه لا إله إلا هو ولا رب سواه. وقوله تعالى في الآية (61) {ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليهما6} أي على الأرض
__________
1 دسّها: إخفاؤها في التراب عن الناس حتى لا تعرف، وفي الحديث: "من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهن كنّ له سترا من ا النار يوم القيامة".
2 كانت مضر وخزاعة يدفنون البنات أحياء، وأشدهم في هذا تميم زعموا خوف القهر عليهن وطمع غير الأكفاء فيهن وكان صعصع بن ناجية عمّ الفرزدق إذا أحسّ بشيء من ذلك وجّه إلى والد البنت إبلا يستحييها بذلك، قال الفرزدق يفتخر:
وعمّىٍ الذي منع الوائدات
فأحيى الوئيد فلم يوأد
3 تكرّر شرح هذه الآية في التفسير سهواً وهو غير ضار.
4 أي: صفة السوء من الجهل والكفر.
5 إن قيل: كيف أضاف المثل هنا إلى نفسه عزّ وجلّ وقد قال {فلا تضربوا لله الأمثال} فالجواب: إنّ قوله: {فلا تضربوا لله الأمثال} معناه الأمثال التي توجب الأشباه والنقائص أي: لا تضربوا له مثلا يقتضي نقصاً وتشبيها بالخلق والمثل الأعلى هو وصفه تعالى بما لا شبيه له ولا نظير.
6 قال ابن مسعود رضي الله عنه وقرأ هذه الآية: لو آخذ الله الخلائق بذنوب المذنبين لأصاب العذاب جميع الخلق حتى الجعلان في جحرها، ولأمسك الأمطار من السماء والنبات من الأرض فماتت الدّواب ولكن الله يأخذ بالعفو والفضل كما قال {ويعفو من كثير}.

{من دابةٍ} أي نسمة تدب على الأرض من إنسانٍ أو حيوان فهذه علة عدم مؤاخذة الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم يفسدون ويجرمون وهذا الإهمال تابع لحكم عالية أشار إلى ذلك بقوله: {ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى} أي وقت معين محدد قد يكون نهاية عمر كل أحد، وقد يكون نهاية الحياة كلها فإذا جاء ذلك الأجل لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون عنه أخرى ثم يجزيهم بأعمالهم السيئة بمثلها وما هو عز وجل بظلام للعبيد.
وآخر آية في هذا السياق (62) تضمنت التنديد بسوء حال الذين لا يؤمنون بالآخرة وذلك أنهم لجهلهم بالله وقبح تصورهم لظلمه نفوسهم أنهم يجعلون لله تعالى ما يكرهونه لأنفسهم من البنات والشركاء وسب الرسول وازدرائه، ومع هذا يتبجحون بالكذب بأن لهم الحسنى أي الجنة يوم القيامة. فرد تعالى على هذا الافتراء والهُراء السخيف بقوله: {لا جرم} أي حقاً وصدقاً ولا محالة {أن لهم النار} بدل الجنة {وأنهم مفرطون1} إليها مقدمون متروكون فيها أبداً. هذا ما تضمنته الآية في قوله تعالى: {ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب ان لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرَطون}2 وإن قرئ مفرطون باسم الفاعل فهم حقاً مفرِطون في الشر والفساد والكفر والضلال والانحطاط إلى أبعد حد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان الحال الاجتماعية التي كان عليها المشركون وهي كراهيتهم للبنات خوف العار.
2- بيان جهلهم بالرب تعالى فهم يؤمنون به ويجهلون صفاته حتى نسبوا إليه الولد والشريك.
3- بيان العلة في ترك الظلمة يتمادون زمناً في الظلم والشر والفساد.
4- بيان سوء اعتقاد الذين لا يؤمنون بالآخرة وهو أنهم ينسبون إلى نفوسهم الحسنى ويجعلون لله ما يكرهون من البنات والشركاء وسب الرسل وامتهانهم.
__________
1 أفرط يفرط: إذا تقدّم لطلب الماء فهو مفرط وهم مفرطون، وعليه فقوله تعالى: {مُفرِطون} معناه يتقدّمون غيرهم إلى النار وهي قراءة ورش عن نافع وقرأ حفص مُفرَطون باسم المفعول ومعناه متروكون في النار منسيون فيها.
2 مفرِّطون: اسم فاعل من فرّط المضاعف إذا ضيّع الحقوق الواجبة عليه.

تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(63) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(64) وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ(65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ(66)
شرح الكلمات:
تالله: أي والله.
أرسلنا إلى أمم من قبلك: أي رسلاً.
فزين لهم الشيطان أعمالهم: فكذبوا لذلك الرسل.
فهو وليهم اليوم: أي الشيطان هو وليهم اليوم أي في الدنيا.
إن في ذلك لآية: أي دلالة واضحة على صحة عقيدة البعث الآخر.
لآية لقومٍ يسمعون : أي سماع تدبر وتفهم.
لعبرةً : أي دلالة قوية يعبر بها من الجهل إلى العلم لأن العبرة من العبور.
من بين فرثٍ: أي ثَفَل الكِرْش، أي الرَّوْث الموجود في الكرش.
لبناً خالصاً : أي ليس فيه شيء من الفرث ولا الدم، لا لونه ولا رائحته ولا طعمه.
معنى الآيات:
يقسم الله تعالى بنفسه لرسوله فيقول بالله يا رسولنا {لقد أرسلنا} رسلاً {إلى أمم من قبلك} كانوا مشركين كافرين كأمتك {فزين لهم الشيطان أعمالهم} فقاوموا رسلنا

وحاربوهم وأصروا على الشرك والكفر فتولاهم الشيطان، لذلك {فهو وليهم اليوم1} ! أي في الدنيا {ولهم} في الآخرة {عذابٌ أليم}، والسياق الكريم في تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذا قال تعالى في الآية الثانية: {وما أنزلنا علمك الكتاب} أي لإرهاقك وتعذيبك ولكن لأجل أن تبين للناس الذي اختلفوا فيه من التوحيد والشرك والهدى والضلال. كما أنزلنا الكتاب هدىً يهتدى به المؤمنون إلى سبل سعادتهم ونجاحهم، ورحمةٌ تحصل لهم بالعمل به عقيدةً وعبادةً وخلقاً وأدباً وحكماً، فيعيشون متراحمين تسودهم الأخوة والمحبة وتغشاهم الرحمة والسلام.
بعد هذه التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عاد السياق إلى الدعوة إلى التوحيد وعقيدة البعث والجزاء بعد تقرير النبوة المحمدية بقوله تعالى: {تالله لقد أرسلنا} الآية فقال تعالى: {والله أنزل من2 السماء ماء فأحيا بها الأرض بعد موتها} الماء هو ماء المطر وحياة الأرض بالنبات والزرع بعدما كانت ميتة لا نبات فيها وقوله {إن في ذلك} المذكور من إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض بعد موتها {لآية} واضحة الدلالة قاطعة على وجوده تعالى وقدرته، وعلمه ورحمته كما هو آية على البعث بعد الموت من باب أولى. وقوله تعالى: {وإن لكم في الأنعام3 لعبرةً} 4 أي حالاً تعبرون بها عن الجهل إلى العلم.. من الجهل بقدرة الله ورحمته ووجوب عبادته بذكره وشكره إلى العلم بذلك والمعرفة به فتؤمنوا وتوحدوا وتطيعوا. وبين وجه العبرة العظيمة فقال: {نسقيكم مما في بطونه5} أي بطون المذكور من الأنعام {من6 بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين} فسبحان ذي القدرة العجيبة والعلم الواسع والحكمة التي لا يقادر قدرها.. اللبن يقع بين الفرث والدم
__________
1 الشيطان الذي ريّن للذين كفروا أعمالهم حتى ضلوا وهلكوا هو وليّ الذين كفروا اليوم يزيّن لهم أعمالهم ليضلّهم فيهلكوا كما هلك من قبلهم، وفي الآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم.
2 كون المسند فعلاً وهو: أنزل من السماء ماء أفاد التخصيص أي: الله وحده الذي أنزل من السماء ماء والمراد من السماء: السحاب.
3 هناك مناسبة ظاهرة بين الآيتين وهي: كما أنّ الأرض تحيى بماء السماء كذلك الإنسان يحيى بالألبان.
4 اسم جمع لكل جماعة من أحد أصناف الإبل والبقر والضأن والمعز والعبر: ما يتعظ به ويعتبر.
5 البطون: جمع بطن وهو اسم للجوف الحاوية للجهاز الهضمي كلَّه من معدة وكبد وأمعاء.
6 {من} زائدة لتوكيد التوسط أي: يفرز في حالة بين حالتي الفرث والدم وموقع: {من بين فرث ودم} موقع الصفة والموصوف: لبناً وقدّمت للاهتمام بها.
6 مفرِّطون: اسم فاعل من فرّط المضاعف إذا ضيّع الحقوق الواجبة عليه.

فينتقل الدم إلى الكبد فتوزعه على العروق لبقاء حياة الحيوان، واللبن يساق إلى الضرع، والفرث يبقى أسفل الكرش، ويخرج اللبن خالصاً من شائبة الدم وشائبة الفرث فلا يرى ذلك في لون اللبن ولا يشم في رائحته ولا يوجد في طعمه بدليل أنه سائغ للشاربين، فلا يغص به شارب ولا يشرق به، حقاً! انها عبرة من أجل العبر تنقل صاحبها إلى نور العلم والمعرفة بالله في جلاله وكماله، فتورثه محبة الله وتدفعه إلى طاعته والتقرب إليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان ان الله يقسم بنفسه وبما شاء من1 خلقه.
2- بيان أن الله أرسل رسلاً إلى أمم سبقت وأن الشيطان زين لها أعمالها فخذلها.
3- تقرير النبوة وتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم من جراء ما يلقاه من المشركين.
4- بيان مهمة رسول الله وأنها بيان ما أنزل الله تعالى لعباده من وحيه في كتابه.
5- بيان كون القرآن الكريم هدىً ورحمة للمؤمنين الذين يعملون به.
6- دليل البعث والحياة الثانية إحياء الأرض بعد موتها فالقادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الأموات بعد فنائهم وبلاهم.
وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ(68) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(69) وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ(70)
__________
1 نحو : {والفجر} ، {والتين} وما إلى ذلك إلاّ أنّ بعض أهل العلم كمالك يرون أنّ المقسم به محذوف تقديره: وربّ الفجر، وربّ التين وهكذا.

شرح الكلمات:
ومن ثمرات النخيل والأعناب : أي ومن بعض ثمرات النخيل والأعناب ثمرٌ تتخذون1 منه سكراً أي خمرا ورزقاً حسناً أي والتمر والزبيب والخل والدبس الرزق الحسن.
وأوحى ربك إلى النحل: أي ألهمها أن تفعل ما تفعله بإلهام منه تعالى.
ومما يعرشون: أي يبنون لها.
سبل ربك ذللاً: أي طرق ربك مذللةً فلا يعسر عليك السير فيها ولا تضلين عنها.
شراب : أي عسل.
فيه شفاء للناس : أي من الأمراض إن شرب بنية الشفاء، أش بضميمته إلى عقار آخر.
إلى أرذل العمر: أي أخَسَّه من الهرم والخرف، والخرف فساد العقل.
معنى الآيات:
مازال السياق في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته الموجبة لعبادته وحده والمقررة لعقيدة النبوة والبعث الآخر. قال تعالى في معرض بيان ذلك بأسلوب الامتنان المقتضي للشكر {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً} ورزقاً حسناً أي ومن بعض ثمرات النخيل والأعناب ثمرٌ تتخذون منه سكراً أي شراباً مسكراً. وهذا كان قبل تحريم2 الخمر {ورزقاً حسناً} وهو الزبيب والخل من العنب والتمر والدبس العسل من النخل وقوله {ان في ذلك لآية لقوم يعقلون} أي أن فيما ذكرنا لكم لآية أي دلالة واضحة على قدرتنا وعلمنا ورحمتنا لقومٍ يعقلون الأمور ويدركون نتائج المقدمات، فذو القدرة والعلم والرحمة هو الذي يستحق التأليه والعبادة.. وقوله: {وأوحى ربك إلى النحل ان اتخذى من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون} هذا مظهر آخر عظيم من مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته يتجلى بإعلامه حشرة
__________
1 قال ابن عباس رضي الله عنهما: السكر ما حرم من ثمرتيهما والرزق الحسن، ما أحل من ثمرتيهما، وليست الخمر مقصورة على العنب والتمر فقد خطب عمر وقال: "أيّها الناس إن الله قد حرّم الخمر وهي من خمسة، من العنب والعسل والتمر والحنطة والشعير". والإجماع على أنّ كل مسِكر حرام.
2 إن قيل: هذا خبر، والنسخ لا يكون في الأخبار؟ فالجواب: إن تضمّن الخبر حكماً شرعياً جاز نسخه، ومن أدلة ذلك هذا الخبر ونسخه.

النحل كيف تلد العسل وتقدمه للإنسان فيه دواء من كل داء. فقوله {وأوحى ربك} أيها الرسول {إلى النحل1} بأن ألهمها {أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر} أيضاً بيوتاً، {ومما يعرشون2} أي ومما يعرش الناس لَكِ أي يبنون لك، اتخذي من ذلك بيوتاً لَكِ إذ النحلة تتخذ لها بيتاً داخل العريش الذي يعرش لها تبنيه بما تفرزه من الشمع وقوله تعالى: {ثم كلي من كل الثمرات} أي ألهمها أن تأكل من كل ما تحصل عليه من الثمرات من الأشجار والنباتات أي من أزهارها ونوارها وقوله لها {فاسلكي سبل ربك ذللاً} 3 بإلهام منه تسلك ما سخر لها وذلك من الطرق فتنتقل من مكان إلى آخر تطلب غذاءها ثم تعود إلى بيوتها لا تعجز ولا تضل وذلك بتذليل الله تعالى وتسخيره لها تلك الطرق فلا تجد فيها وعورة ولا تنساها فتخطئها. وقوله تعالى {يخرج من4 بطونها} أي بطون النحل {شراب} أي عسل يشرب {مختلف5 ألوانه} ما بين أبيض وأحمر وأسود، أو أبيض مشرب بحمرة أو يضرب إلى صفرة. وقوله تعالى: {فيه شفاء للناس} أي من الأدواء، هذا التذكير في قوله شفاء دال على بعض دون بعض جائز هذا حتى يضم إليه بعض الأدوية أو العقاير الأخرى، أمّا مع النية أي أن يشرب بنية الشفاء من المؤمن فإنه شفاء لكل داء وبدون ضميمة أي شيء آخر له. وفي حديث الصحيح وخلاصته أن رجلاً شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم استطلاق بطن أخيه أي مشْي بطنه عليه فقال له اسقه العسل، فسقاه فعاد فقال ما أراه زاده إلا استطلاقا فعاد فقالت مثل ما قال أولاً ثلاث مرات وفي الرابعة أو الثالثة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه العسل فسقاه فقام كأنما نشط من عقال. وقوله تعالى: {إن في ذلك} أي المذكور من إلهام الله تعالى للنحل وتعليمها كيف تصنع العسل ليخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس لدلالة واضحة على
__________
1 قيل: سمي النحل نحلا: لأن الله تعالى نحله العسل الذي خرج منه.
2 بيوت النحل في ثلاثة، في الجبال وكواها، ومتجوّف الأشجار، وما يعرش لها من الأجباح والخلايا والحيطان، وعرش يعرش: إذا بنى عريشا من الأغصان والخشب، ومن عجيب ما ألهم الله النحل أنه يجعل بيوته مسدسة الشكل.
3 اللّفظ صالح لأن يكون لفظ ذللا المراد به النحلة نفسها وذلل جمع ذلول وهي المنقادة المطيعة المسخرة، وصالح أن يكون المراد به الطرق التي تسلكها النحلة كما في التفسير.
4 روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في تحقير الدنيا: أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة وأشرف شرابه فيها رجيع نحلة.
5 بحسب تنويع الغذاء كما أن الطعم يختلف باختلاف المراعي ومن هذا المعنى قول زينب رضي الله عنها جرست نحله العرفط حين شبهت رائحته برائحة المغافير والعرفط شجر الطلح له صمغ كريه الرائحة.

علم الله وقدرته ورحمته وحكمته المقتضية عبادته وحده وتأليهه دون سواه ولكن لقوم يتفكرون في الأشياء وتكوينها وأسبابها ونتائجها فيهتدون إلى المطلوب منهم وهو أن يذكروا فيتعظوا فيتوبوا إلى خالقهم ويسلموا له بعبادته وحده دون سواه وقوله تعالى في الآية الأخرى(70) {والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علمٍ شيئاً} هذه آية أخرى أجل وأعظم في الدلالة على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته، وهي موجبة لعبادته وحده وملزمة بالإيمان بالبعت الآخر فخلق الله تعالى لنا وحده وهو واحد ونحن لا يحصى لنا عد، ثم إماتته لنا موتاً حقيقياً بقبض أرواحنا ولا يستطيع أحد أن لا يموت ولا يتوفى أبداً ثم من مظاهر الحكمة أن يتوفانا من أجال مختلفة اقتضتها الحكمة لبقاء النوع واستمرار الحياة إلى نهايتها. فمن الناس من يموت طفلاً ومنهم من يموت شاباً، وكلها حسب حكمة الابتلاء والتربية الإلهية، وآية أخرى أن منا من يرد إلى أرذل عمره، أي أردأه وأخسَّه فيهرم ويخرف فيفقد ما كان له من قوة بدنٍ وعقل ولا يستطيع أحد أن يخلصه من ذلك إلا الله، مظهر قدرة ورحمة أرأيتم لو شاء الله أن يرد الناس كلهم إلى أرذل العمر ولو في قرنٍ أو قرنين من السنين فكيف تصبح حياة الناس يومئذ؟ وقوله: {إن الله عليم قدير} تقرير لعلمه وقدرته، إذ ما نتج وما كان ما ذكره من خلقنا ووفاتنا ورد بعضنا إلى أرذل العمر إلا بقدرة قادر وعلم عالم وهو الله العليم القدير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان منة الله تعالى على العباد بذكر بعض أرزاقهم لهم ليشكروا الله على نعمه.
2- بيان آيات الله تعالى الدالة على قدرته وعلمه وحكمته في خلق شراب الإنسان وغذائه ودوائه.
3- فضيلة العقل والتعقل والفكر والتفكر.
4- تقرير عقيدة الإيمان باليوم الآخر الدال عليه القدرة والعلم الإلهيين، إذ من خلق وأماتَ لا يستنكر منه أن يخلق مرة أخرى ولا يميت.
وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي

رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ(71) وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ(72) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ(73) فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(74)
شرح الكلمات
فضل بعضكم على بعض في الرزق: أي فمنكم الغني ومنكم الفقير، ومنكم المالك ومنكم المملوك.
برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم: أي بجاعلي ما رزقناهم شركة بينهم وبين مماليكهم من العبيد.
والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا: إذ حواء خلقت من آدم وسائر النساء من نطف الرجال.
وحفدة: أي خدماً من زوجه وولد وولد ولد وخادم وختن.
أفبالبالطل يؤمنون: أي بعبادة الأصنام يؤمنون.
رزقاً من السموات والأرض: أي بإنزال المطر من السماء، وإنبات النبات من الأرض.
معنى الآيات:
مازال السياق العظيم في تقرير التوحيد وإبطال التنديد. فقوله تعالى: {والله فضل

بعضكم على1 بعضٍ في الرزق} فمنكم من أغناه ومنكم من أفقره أيها الناس، 2 وقد يكون لأحدكم أيها الأغنياء عبيد مملوكين له، لم لا يرضى أن يشرك عبيده في أمواله حتى يكونوا فيها سواء لا فضل لأحدهما على الآخر؟ والجواب أنكم تقولون في استنكار عجيب كيف أُسوِّي مملوكي في رزقي فأصبح وإياه سواء؟ هذا لا يعقل أبداً! إذاً كيف جوزتم إشراك آلهتكم في عبادة ربكم وهي مملوكة له تعالى إذ هو خالقها وخالقكم ومالك جميعكم؟ فأين يذهب بعقولكم أيها المشركون؟ وقوله تعالى {أفبنعمة الله يجحدون}؟ حقاً إنهم جحدوا نعمة العقل أولاً فلم يعترفوا بها فلذا لم يفكروا بعقولهم، ثم جحدوا نعمة الله عليهم في خلقهم ورزقهم فلم يعبدوه بذكره وشكره وعبدوا غيره من أصنام وأوثان لا تملك ولا تضر ولا تنفع. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (71) أما الآية الثانية فيقول تعالى فيها مقرراً إنعامه تعالى على المشركين بعد توبيخهم على إهمال عقولهم في الآية الأولى وكفرهم بنعم ربهم فيقول: {والله} أي وحده {جعل لكم من3 أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات} أي جعل لكم من أنفسكم4 أزواجاً أي بشريَّات من جنسكم تسكنون إليهن وتتفاهمون معهن وتتعاونون بحكم الجنسية الآدمية وهي نعمة عظمى، وجعل لكم من أولئك الأزواج بنين بطريق التناسل والولادة وحفدة أيضاً والمراد من الحفدة كل من يحفد أي يسرع في خدمتك وقضاء حاجتك من زوجتك وولدك وولد ولدك وختنك أي صهرك، وخادمك إذ الكل يحفدون لك أي يسارعون في خدمتك بتسخير الله تعالى لك، وثالثاً {ورزقكم من الطيبات} أي حلال الطعام والشراب على اختلافه وتنوع مذاقه وطعمه ولذته. هذا هو الله الذي تُدعون إلى عبادته وحده فتكفرون فأصبحتم بذلك تؤمنون بالباطل وهي الأصنام
__________
1 هذا استدلال على قدرة الله وتدبيره وقهره لعباده إذ فضل بعضهم على بعض في الرزق تفضيلا عجيباً هذا غني، وهذا فقير، هذا موسر، وهذا معسر فقد يفتقر الذكي القوي ويستغني البليد الضعيف كما قيل:
ومن الدليل على القضاء وكونه
بؤس اللّبيب وطيب عيش الأحمق
والآية متضمنة مثلا ضربه لعبادة الأصنام، ونظير هذه المُثل في سورة الروم في قوله تعالى: {ضرب لكم مثلا من أنفسكم.. } الخ.
2 يريد أن أغنياءهم لا يشاطرون عبيدهم رزقهم فيستووا فيه فكيف يرضون لله مالا يرضونه لأنفسهم كما في قوله: {ويجعلون لله البنات ولهم ما يشتهون} أي: البنون.
3 أي: من نوعكم، ومِنْ للابتداء ومِنْ في قوله تعالى: {وجعل لكم من أزواجكم} للتبعيض.
4 الأزواج: جمع زوج وهو ما يُكوّن مع آخر اثنين.

وعبادتها، وتكفرون بالمنعم ونعمه ولذا استحقوا التوبيخ والتقريع فقال تعالى: {أفبالباطل1 يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون}؟ إذ عدم عبادتهم للمنعم عز وجل هو عين كفرانهم بنعمة الله تعالى. وقوله {ويعبدون من دون الله} أي أصناماً لا تملك لهم {رزقاً من السماء} بإنزال المطر، {والأرض} بإنبات الزروع والثمار شيئاً ولو قَلَّ ولا يستطيعون شيئاً من ذلك لعجزهم القائم بهم لأنهم تماثيل منحوتة من حجر أو خشب وفي هذا من التنبيه لهم على خطأهم مالا يقادر قدره. وقوله تعالى: {فلا تضربوا لله الأمثال إن2 الله3 يعلم وأنتم لا تعلمون} أي ينهاهم تعالى عن ضرب الأمثال لله باتخاذ الأصنام آلهة بإطلاق لفظ إله عليها، والله لا مثل له، وباعتقاد أنها شافعة لهم عند الله وأنها تقربهم إليه تعالى، وأنها واسطة بمثابة الوزير للأمير إلى غير ذلك، فنهاهم عن ضرب هذه الأمثال لله تعالى لأنه عز وجل يعلم أنه لا مثل له ولا مثال، بل هو الله الذي لا إله إلا هو تعالى عن الشبيه والمثيل والنظير، وهم لا يعلمون فلذا هم متحيرون متخبطون في ظلمات الشرك وأودية الضلال.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- قطع دابر الشرك في المثل الذي حوته الآية الأولى: {والله فضل بعضكم على بعضٍ في الرزق}.
2- وجوب شكر الله تعالى على نعمه وذلك بذكره وشكره وإخلاص ذلك له.
3- قبح كفر النعم وتجاهل المنعم بترك شكره عليها.
4- التنديد بمن يضربون لله الأمثال وهم لا يعلمون باتخاذ وسائط له تشبيهاً لله تعالى بعباده فهم يتوسطون بالأولياء والأنبياء بدعائهم والاستغاثة بهم بوصفهم مقربين إلى الله تعالى يستجيب لهم، ولا يستجيب لغيرهم.
__________
1 الباطل: ضد الحق لأنّ مالا يخلق لا يعبد، فإن عُبد فقد عبد بالباطل، والجملة تحمل توبيخاً كبيراً للمشركين.
2 الأمثال: جمع مثل بفتحتين بمعنى المماثل كشبه بمعنى مشابه، ومعنى. ضربهم الأمثال لله تعالى: هو أنهم أثبتوا للأصنام صفات الإلهية وشبّهوها بالخالق عز وجل حيث عبدوها بالنذر لها وبالذبح والدعاء والإقسام بها والعكوف حولها.
3 جملة: {إنّ الله يعلم وأنتم لا تعلمون} تعليلية لنهيهم عن ضرب الأمثال لله تعالى. فنهيه تعالى لهم عن ضرب الأمثال لعلمه عزّ وجلّ أنه لا مثل له، وأن ما يضربونه له باطل، وهو تعالى منزّه عنه.

ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(75) وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(76) وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(77) وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(78)
شرح الكلمات:
ضرب الله مثلاً: أي هو عبداً مملوكاً الخ..
عبداً مملوكاً: أي ليس بحُرٍ بل هو عبد مملوك لغيره.
هل يستوون: أي العبيد العجزة والحُر المتصرف، والجواب: لا يستوون قطعاً.
وضرب الله مثلاً : أي هو رجلين الخ..
أبكم: أي ولد أخرس وأصم لا يسمع.
لا يقدر على شيء: أي لا يَفهَمْ ولا يُفهِمْ غيره.
ولله غيب السموات والأرض: أي ما غاب فيهما.
وما أمر الساعة: أي أمر قيامها، وذلك بإماتة الأحياء وإحيائهم مع من مات قبل وتبديل صور الأكوان كلها.

الأفئدة: أي القلوب.
معنى الآيات:
مازال السياق في تقرير التوحيد والدعوة إليه وإبطال الشرك والتنفير منه وقد تقدم أن الله تعالى جهل المشركين في ضرب الأمثال له وهو لا مثل له ولا نظير، وفي هذا السياق ضرب تعالى مثلين وهو العليم الخبير.. فالأول قال فيه: {ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً} أي غير حر من أحرار الناس، {لا يقدر على شيء} إذ هو مملوك لاحق له في التصرف في مال سيده إلا بإذنه1، فلذا فهو لا يقدر على إعطاء أو منع شيء، هذا طرف المثل، والثاني {ومن رزقناه منا رزقاً حسناً} صالحاً واسعاً {فهو ينفق منه سراً وجهراً} ليلاً ونهاراً لأنه حر التصرف بوصفه مالكاًَ {هل يستوون2}؟ الجواب لا يستويان.. إذاً {الحمد لله بل أكثرهم3 لا يعلمون} والمثل مضروب للمؤمن والكافر، فالكافر أسير للأصنام عبدٌ لها لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، لا يعمل في سبيل الله ولا ينفق لأنه لا يؤمن بالدار الآخرة، والجزاء فيها، وأما المؤمن فهو حر يعمل بطاعة الله فينفق في سبيل الله سراً وجهراً يبتغي الآخرة والمثوبة من الله، ذا علمٍ وإرادة، لا يخاف إلا الله ولا يرجو إلا هو سبحانه وتعالى. وقوله: {وضرب الله مثلاً رجلين} هو المثال الثاني في هذا السياق وقد حوته الآية الثانية (76) فقال تعالى فيه {وضرب الله مثلاً} هو {رجلين أحدهما4 أبكم} ولفظ الأبكم قد يدل على الصمم فالغالب أن الأبكم لا يسمع {لا يقدر على شيء} فلا يفهم غيره لأنه أصم ولا يُفهم غيره لأنه أبكم، {وهو كلٌّ على5 مولاه} أي ابن عمه أو من يتولاه من أقربائه يقومون بإعاشته ورعايته لعجزه وضعفه وعدم قدرته على شيء. وقوله: {أينما يوجهه لا يأت بخير} أي أينما يوجهه مولاه وابن عمه ليأتي بشيء
__________
1 هذه الآية منزع الفقهاء في ملكية العبد وعدمها، فذهب مالك إلى أنّ العبد يملك بإذن سيده، وهو ناقص الملك، وقال أبو حنيفة والشافعي في الجديد: العبد لا يملك شيئاً، وقالوا: الرّق ينافي الملك، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أعتق عبداً وله مال" شاهد لمن قال يملك ملكاً ناقصا.
2 لم يقل يستويان لأنّ مَنْ صالحة للواحد والجماعة.
3 لا يعلمون أن الله هو المستحق للحمد دون آلهتهم لأن الله تعالى هو المنعم بالخلق والرزق، والأصنام لا تخلق ولا ترزق فلذا الحمد له وحده.
4 هذا مثل آخر ضربه تعالى لنفسه وللمؤمن. قاله قتادة وغيره.
5 أي: ثقل على وليّه وقرابته ووبال على صاحبه وابن عمّه.

لا يأتي بخير، وقد يأتي بشر، أمَّا النفع والخير فلا يحصل منه شيء.
وهذا مثل الأصنام التي تعبد من دون الله إذ هي لا تسمع ولا تبصر فلا تفهم ما يقال لها، ولا تُفهم عابديها شيئاً وهي محتاجة إليهم في صُنْعِها ووضعها وحملها وحمايتها. وقوله تعالى {هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراطٍ مستقيم} وهو الله تعالى يأمر بالعدل أي بالتوحيد والاستقامة في كل شيء، وهو قائم على كلى شيء، وهو على صراط مستقيم يدعو الناس إلى سلوكه لينجوا ويسعدوا في الدارين، فالجواب، لا يستويان بحال، فكيف يرضى المشركون بعبادة وولاية الأبكم الذي لا يقدر على شيء ويتركون عبادة السميع البصير، القوي، القدير، الذي يدعوهم إلى كمالهم وسعادتهم في كلتا حياتهم، أمر يحمل على العجب، ولكن لا عجب مع أقدار الله وتدابير الحكيم العليم. وقوله تعالى في الآية (77) {ولله غيب السموات1 والأرض} وحده يعلم ما غاب عنا فيهما فهو يعلم من كتبت له السعادة ومن حُكم عليه بالشقاوة، ومن يهتدي ومن لا يهتدي، والجزاء آت بإتيان الساعة {وما أمر الساعة2} أي إتيانها {إلا كلمح3 البصر أو هو أقرب}4 إذ لا يتوقف أمرها إلا على كلمة {كن} فقط فتنتهي هذه الحياة بكل ما فيها، وتأتي الحياة الأخرى وقد تبدلت صور الأشياء كلها {إن الله على كل شيء قدير} ومن ذلك قيام القيامة، ومجيء الساعة. وقوله تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا5 تعلمون6 شيئاً} حقيقة لا تُنكر، الله الذي أخرجنا من بطون أمهاتنا بعد أن صورنا في الأرحام ونمانا حتى صرنا بشراً ثم أذن بإخراجنا، فأخرجنا، وخرجنا لا نعلم شيئاً قط، هذه آية القدرة الإلهية والعلم الإلهي والتدبير الإلهي، فهل للأصنام شيء من ذلك، والجواب لا، لا وثانياً جعل الله تعالى لنا الأسماع والأبصار والأفئدة نعمة أخرى، إذ لو لا ذلك ما سمعنا ولا أبصرنا ولا عقلنا وما قيمة حياتنا يومئذٍ، إذْ العدم خيرٌ منها. وقوله:
__________
1 {ولله غيب السموات والأرض}: اللام لام الملك، والغيب مصدر بمعنى اسم الفاعل أي: الأشياء الغائبة، والغيب ما غاب عن أعين الناس.
2 الساعة: هي الوفت الذي تقوم فيه القيامة، سميت ساعة لأنها تفجأ الناس في ساعة فيموت الخلق بصيحة.
3 اللّمح: النظر بسرعة يقال لمحه لمحاً ولمحاناً.
4 ليس (أو) للشك وإنما هي بمعنى بل الانتقالية من شيء إلى آخر كقوله {فأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} أي: بل يزيدون.
5 البطون: جمع بطن وهو ما بين ضلوع الصدر إلى العانة، وفيه الأمعاء والمعدة والكبد والرحم.
6 الشكر: الاعتراف بالنعمة لله وحمده عليها وصرفها فيما يرضيه تعالى.

{لعلكم تشكرون} كشف كامل عن سر هذه النعمة وهي أنه جعلنا نسمع ونبصر ونعقل ليكلفنا فيأمرنا وينهانا فنطيعه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وذلك شكره منا مع ما في ذلك الشكر من خير.. إنه إعداد للسعادة في الدارين. فهل من متذكر يا عباد الله؟!
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- استحسان ضرب الأمثال وهو تشبيه حال بحال على أن يكون ضارب المثل عالماً.
2- بيان مثل المؤمن في كماله والكافر في نقصانه.
أ- بيان مثل الأصنام في جمودها وتعب عَبَدتِها عليها في الحماية وعدم انتفاعهم بها. ومثل الرب تبارك وتعالى في عدله، ودعوته إلى الإسلام وقيامه على ذلك مع استجابة دعاء أوليائه، ورعايتهم، وعلمه بهم وسمعه لدعائهم ونصرتهم في حياتهم وإكرامهم والإنعام عليهم في كلتا حياتهم. ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم.
أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(79) وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ(80) وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ(81) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ

الْبَلاَغُ الْمُبِينُ(82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ(83)
شرح الكلمات:
مسخراتٍ في جو السماء : أي مذللات في الفضاء بين السماء والأرض وهو الهواء.
ما يمسكهن: أي عند قبض أجنحتها وبسطها إلا الله تعالى بقدرته وسننه في خلقه.
من بيوتكم سكنا: أي مكاناً تسكنون فيه وتخلدون للراحة.
من جلود الأنعام بيوتاً: أي خياماً وقباباً.
يوم ظعنكم: أي ارتحالكم في أسفاركم.
أثاثاً ومتاعاً إلي حين : كبُسط وأكسية تبلى وتتمزق وتُرمى.
ظلالاً ومن الجبال أكناناً : أي ما تستظلون به من حر الشمس، وما تسكنون به في غيران الجبال.
وسرابيل: أي قمصاناً تقيكم الحر والبرد.
وسرابيل تقيكم بأسكم: أي دروعاً تقيكم الضرب والطعان في الحرب.
لعلكم تسلمون : أي رجاء أن تسلموا له قلوبكم ووجوهكم فتعبدوه وحده.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في تقرير التوحيد والدعوة إليه وإبطال الشرك وتركه فيقول تعالى: {ألم1 يروا إلى الطير مسخرات2 في جو السماء ما يمسكهن3 إلا الله} فإن في خلق الطير على اختلاف أنواعه وكثرة أفراده، وفي طيرانه في جو4 السماء، أي في الهواء وكيف يقبض جناحيه وكيف يبسطها ولا يقع على الأرض فمن يمسكه غير الله بما شاء من تدبيره في خلقه وأكوانه إن في ذلك المذكور لآياتٍ عدة تدل على الخالق وقدرته وعلمه وتوجب معرفته
__________
1 قرىء بالتاء: { ألم تروا} وقرىء بالياء وهي قراءة الأكثر.
2 {مسخرات}: أي: مذللات لأمر الله تعالى، ومذللات لمنافعكم أيضاً.
3 {ما يمسكهن} أي: في جال القبض والبسط والاصطفاف إلا الله عزّ وجلّ.
4 {جو السماء} هو الفضاء الذي بين السماء والأرض، وإضافته إلى السماء لأنه يبدو متصلا بالقبة الزرقاء فيما يخال الناظر.

والتقرب إليه وطاعته بعبادته وحده، كما تدل على بطلان تأليه غيره وعبادة سواه، وكون الآيات لقوم يؤمنون هو باعتبار أنهم أحياء القلوب يدركون ويفهمون بخلاف الكافرين فإنهم أموات القلوب فلا إدراك ولا فهم لهم، فلم يكن لهم في ذلك آية.. وقوله: {والله جعل1 لكم من بيوتكم سكناً} أي موضع سكونٍ وراحة، {وجعل لكم2 من جلود الأنعام} الإبل والبقر والغنم {بيوتاً} أي خياماً وقباباً {تستخفونها} أي تجدونها خفيفة المحمل {يوم ظعنكم} أي ارتحالكم في أسفاركم وتنقلاتكم {ويوم إقامتكم} في مكان واحد كذلك. وقوله: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها} أي جعل لكم منه {أثاثاً} كالبسط الفرش والأكسية (متاعاً) أي تتمتعون بها إلى حين بلاها وتمزقها3 وقوله: {والله جعل لكم مما خلق} من أشياء كثيرة {ظلالاً} تستظلون بها من حر الشمس {وجعل لكم من الجبال أكناناً}4 تكنون فيها أنفسكم من المطر والبرد أو الحر وهي غيران وكهوف في الجبال {وجعل لكم سرابيل} قمصان {تقيكم الحر} والبرد {وسرابيل} هي الدروع {تقيكم بأسكم} في الحرب تتقون بها ضرب السيوف وطعن الرماح. أليس الذي جعل لكم هذه كلها أحق بعبادتكم وطاعتكم، وهكذا {يتم نعتمه عليكم} فبعث إليكم رسوله وأنزل عليكم كتابه لِيُعِدّكم للإسلام فتسلموا. وهنا وبعد هذا البيان الواضح والتذكير البليغ يقول لرسوله {فإن تولوا} أي أعرضوا عما ذكرتهم به فلا تحزن ولا تأسف إذ ليس عليك هداهم {فإنما عليك البلاغ المبين} وقد بلغت وبينت. فلا عليك بعد شيء من التبعة والمسؤولية. وقوله: {يعرفون نعمت الله} أي نعمة الله عليهم كما ذكرناهم بها {ثم ينكرونها} فيعبدون غير المُنعم بها {وأكثرهم الكافرون} أي الجاحدون المكذبون بنبوتك ورسالتك والإسلام الذي جئت به.
__________
1 {جعل}: بمعنى أوجد وهذا شروع في تعداد النعم التي أنعم بها الخالق عزّ وجلّ على العباد، والسكن: مصدر والمنة في كونه تعالى جعل الإنسان يسكن ويتحرك ولو شاء لجعله متحركاً دائماً كالأفلاك في السماء أو جعله كالأرض ساكناً أبداً.
2 بعد أن ذكر تعالى السكن في الدور ذكر السكن في البيوت المتنقلة وهي الخيام والقباب.
3 في الآية دليل على حليذة جلود الميتة ولكن بعد دبغها لحديث: "أيّما إهاب دبغ فقد طهر".
4 الأكنان: جمع كن وهو: ما يكن عن الحرّ والريح والبرد وهو الغار في الجبل.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا ينتفع بالآيات إلا المؤمنون لحياة قلوبهم، أما الكافرون فهم في ظلمة الكفر لا يرون شيئاً من الآيات ولا يبصرون.
2- مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته ونعمه تتجلى في هذه الآيات الأربع ومن العجب أن المشركين كالكافرين عمي لا يبصرون شيئاً منها وأكثرهم الكافرون.
3- مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست هداية القلوب وإنما هي بيان الطريق بالبلاغ المبين.
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ(84) وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ(85) وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ(86) وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ(87) الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ(88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ(89)

شرح الكلمات:
ويوم نبعث: أي اذكر يوم نبعث.
شهيداً: هو نبيها.
لا يؤذن للذين كفروا : أي بالاعتذار فيعتذرون.
ولا هم يستعتبون : أي لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع إلى اعتقاد وقول وعمل ما يرضي الله عنهم.
وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم: أي الذين كانوا يعبدونهم من دون الله كالأصنام والشياطين.
فألقوا إليهم القول: أي ردوا عليهم قائلين لهم إنكم لكاذبون.
وألقوا إلى الله يومئذٍ السلم: أي ذلوا له وخضعوا لحكمه واستسلموا.
وضل عنهم ما كانوا يفترون: من أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وتنجيهم من عذابه، ومعنى ضل غاب.
عذاباً فوق العذاب: أنه عقارب وحيات كالنِّخل الطوال والبغال الموكفة.
ونزلنا عليك الكتاب: أي القرآن.
تبياناً لكل شيء: أي لكل ما بالأمة من حاجة إليه في معرفة الحلال والحرام والحق والباطل والثواب والعقاب.
معنى الآيات:
انحصر السياق !لكريم في هذه الآيات الست في تقرير البعث والجزاء مع النبوة فقوله تعالى: {يوم نبعث1} أي اذكر يا رسولنا محمد يوم نبعث {من كل أمة} من الأمم {شهيداً} هو نبيها الذي نبىء فيها وأرسل إليها {ثم لا يؤذن للذين كفروا} أي بالاعتذار فيعتذرون {ولا هم يستعتبون2} أي لا يطلب منهم العتبى3 أي الرجوع إلى اعتقاد وقول وعمل يرضي الله عنهم أي اذكر هذا لقومك، علهم يذكرون فيتعظون، فيتوبون، فينجون
__________
1 نظير هذه الآية آية النساء: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد..} الآية.
2 أي: لا يكلّفون أن يرضوا ربهم لأنّ الآخرة ليست دار تكليف ولا يمكنون من الرجوع إلى الدنيا فيتوبون.
3 العتبى: الرضا، والفعل: عتب يعتب عليه إذا وجد عليه في نفسه وأعتبه: إذا أزال الموجدة ورجع إلى مسرّته وفي الحديث:" لك العتبى حتى ترضى" والعتبى: رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب وهو المراد في الحديث.

ويسعدون. وقوله في الآية الثانية (85) {وإذا رأى الذين ظلموا العذاب} أي يوم1 القيامة {فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون} أي يمهلون. اذكر هذا أيضاً تذكيراً وتعليماً، واذكر لهم {إذا رأى الذين أشركوا شركاءهم} في عرصات القيامة أو في جهنم صاحوا قائلين {ربنا} أي يا ربنا {هؤلاء2 شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك} أي نعبدهم بدعائهم والاستغاثة بهم، {فألقوا إليهم القول} فوراً {إنكم لكاذبون}. {وألقوا إلى الله يومئذٍ السلم} أي الاستسلام فذلوا لحكمه {وضل عنهم ما كانوا يفترون} في الدنيا من ألوان الكذب والترهات كقولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وأنهم ينجون من النار بشفاعتهم، وأنهم وسيلتهم إلى الله كل ذلك ضل أي غاب عنهم ولم يعثروا منه على شيء. وقوله تعالى: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله} غيرهم بالدعوة إلى الكفر وأسبابه والحمل عليه أحياناً بالترهيب والترغيب {زدناهم عذاباً فوق العذاب} الذي استوجبوه بكفرهم. ورد أن هذه الزيادة من العذاب أنها عقارب كالبغال الدهم، وأنها حيات كالنخل الطوال والعياذ بالله تعالى من النار وما فيها من أنواع العذاب، وقوله تعالى: {ويوم نبعث} أي اذكر يا رسولنا يوم نبعث {في كل أمةٍ شهيداً} أي يوم القيامة {عليهم من أنفسهم3 وجئنا بك شهيداً على هؤلاء} أي على من أرسلت إليهم من أمتك. فكيف يكون الموقف إذ تشهد على أهل الإيمان بالإيمان وعلى أهل الكفر بالكفر. وعلى أهل التوحيد بالتوحيد، وعلى أهل الشرك بالشرك إنه لموقف صعب تعظم فيه الحسرة وتشتد الندامة.. وقوله تعالى في خطاب رسوله مقرراً نبوته والوحي إليه {ونزلنا عليك الكتاب} أي القرآن {تبياناً4 لكل شيء} الأمة في حاجة إلى معرفته من الحلال والحرام والأحكام والأدلة {وهدى} من كل ضلال {ورحمة} خاصة بالذين يعملون به ويطبقونه على أنفسهم وحياتهم فيكون
__________
1 أي: عذاب جهنم بالدخول فيها.
2 أي: أصنامهم وأوثانهم التي عبدوها، وذلك لأنّ الله تعالى يبعث معبوديهم فيتبعونهم حتى يوردوهم النار، روى مسلم: "من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت.." الحديث، وفي الترمذي: " فيمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون".
3 الشهداء: هم الأنبياء والعلماء، فالنبي يشهد على أمته والعالم يشهد على من أمره ونهاه ودلّ هذا على أنه لم تخل فترة من وجود داع إلى الله تقوم به الحجة لله تعالى فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل "يبعث امة وحده". ومثل زيد قس وورقة وسطيح.
4 التبيان: مصدر دال على المبالغة في المصدرية وأريد به هنا اسم الفاعل أي: المبيِّن لكل شيء.

رحمة عامة بينهم {وبشرى للمسلمين1} أي المنقادين لله في أمره ونهيه بشرى لهم بالأجر العظيم والثواب الجزيل يوم القيامة، وبالنصر والفوز والكرامة في هذه الدار. وبعد إنزالنا عليك هذا الكتاب فلم يبق من عذر لمن يريد أن يعتذر يوم القيامة ولذا ستكون شهادتك على أمتك أعظم شهادة وأكثرها أثراً على نجاة الناجين وهلاك الهالكين ولا يهلك على الله إلا هالك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث الآخر بما لا مزيد عليه لكثرة ألوان العرض لما يجرى في ذلك اليوم.
2- براءة الشياطين والأصنام الذين أشركهم الناس في عبادة الله من المشركين بهم والتبرؤ منهم وتكذيبهم.
3- زيادة العذاب لمن دعا إلى الشرك والكفر وحمل الناس على ذلك.
4- لا عذر لأحد بعد أن أنزل الله تعالى القرآن تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين.
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(90) وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ(91) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً
__________
1 خُصّ المسلمون دون غيرهم لأنّ غيرهم أعرضوا عنه فحرموا الهدى والرحمة والبشرى في الدارين.

بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(92) وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(93)
شرح الكلمات:
العدل: الإنصاف ومنه التوحيد.
الإحسان: أداء الفرائض وترك المحارم مع مراقبة الله تعالى.
وإيتاء ذوي القربى: أي إعطاء ذي القربى حقوقهم من الصلة والبر.
عن الفحشاء : الزنا.
يعظكم: أي يأمركم وينهاكم.
تذكرون: أي تتعظون.
توكيدها: أي تغليظها.
نقضت غزلها : أي أفسدت غزلها بعد ما غزلته.
من بعد قوة: أي أحكام له وبرم.
أنكاثاً: جمع نكث وهو ما ينكث ويحل بعد الإبرام.
كالتي نقضت غزلها: هي حمقاء مكة وتدعى رَيْطَة بنت سعد بن تيم القرشية.
دخلاً بينكم: الدخل ما يدخل في الشيء وهو ليس منه للإفساد والخديعة.
أربى من أمة: أي أكثر منها عددا ًوقوة.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل1} أي أن الله يأمر في الكتاب الذي أنزله تبياناً لكل شيء، يأمر بالعدل وهو الإنصاف ومن ذلك أن يعبد الله بذكره وشكره لأنه الخالق المنعم
__________
1 ورد في فضل هذه الآية أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه قال: ما أسلمت ابتداء إلاّ حياءٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أخاه من الرضاعة حتى نزلت هذه الآية وأنا عنده فاستقر الإيمان في قلبي فقرأتها على الوليد بن المغيرة فقال: يا ابن أخي أعِد فأعدت فقال: والله إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة وإن أصله لمورق وأعلاه لمثمر وما هو بقول بشر.

وتترك عبادة غيره لأن غيره لم يخلّق ولم يرزق ولم ينعم بشيء. ولذا فسر هذا اللفظ بلا إله إلا الله، {والإحسان1} وهو أداء الفرائض واجتناب المحرمات مع مراقبة الله تعالى في ذلك حتى يكون الأداء على الوجه المطلوب إتقاناً وجودة والاجتناب خوفاً من الله حياء منه، وقوله {وإيتاء ذي القربى} أي ذوي القرابات حقوقهم من البر والصلة. هذا مما أمر الله تعالى به في كتابه، ومما ينهى عنه الفحشاء وهو الزنا واللواط وكل قبيح اشتد قبحه وفحش حتى البخل {والمنكر} وهو كل ما أنكر الشرع وانكرته الفطر السليمة والعقول الراجحة السديدة، وينهى عن البغي2 وهو الظلم والاعتداء ومجاوزة الحد في الأمور كلها، وقوله {لعلكم تذكرون} أي أمر بهذا في كتابه رجاء أن تذكروا فتتعظوا فتمتثلوا الأمر وتجتنوا النهي. وبذلك تكملون وتسعدون. ولذا ورد أن هذه الآية: {أن الله يأمر بالعدل3 والإحسان4} إلى {تذكرون} هي أجمع آية في كتاب الله للخير والشر. وهي كذلك فما من خيرٍ إلا وأمرت به ولا من شرٍ إلا ونهت عنه. وقوله تعالى {وأفوا بعهد الله إذا عاهدتم} أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بالوفاء بالعهود فعلى كل مؤمن بايع إماماً أو عاهد أحداً على شيء أن يفي له بالعهد ولا ينقض. "إذ لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" كما في الحديث الشريف.. وقوله تعالى {ولا تنقضوا5 الإيمان بعد توكيدها} الإيمان جمع يمين وهو الحلف بالله وتوكيدها تغليظها بالألفاظ الزائدة {وقد جعلتم الله عليكم كفيلا} أي وكيلا، أي أثناء حلفكم به تعالى، فقد جعلتموه وكيلا، فهذه الآية حرمت نقض الإيمان وهو نكثها وعدم الالتزام بها بالحنث فيها لمصالح مادية6. وقوله
__________
1 الإحسان مصدر أحسن إحساناً وهو متعدّ بنفسه نحو: أحسنت كذا إذا أتقنته وحسّنته وجوّدته، ومتعدّ بحرف الجرّ نحو: أحسنت إلى فلان أي أوصلت إليه ما ينفعه أو دفعت عنه ما يضرّه، وكلا المعنيين مراد في الآية وما في حديث جبريل يتناول الأول لأن من راقب الله تعالى أتقن عمله وحسنه.
2 ورد في البغي: لا ذنب أسرع عقوبة من البغي، واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب، والباغي مصروع وقد وعد الله من بُغي عليه بالنصر في قوله: {ومن عاقب بمثل ما عوقب ثمّ بغى عليه لينصرنه الله}.
3 قال ابن مسعود رضي الله عنه: هذه الآية: أجمع آية في القرآن لخير يمتثل ولشرّ يجتنب.
4 روي أن جماعة رفعت شكوى بعاملها إلى أبي جعفر المنصور فحاجّها العامل فغلبها حيث لم يثبتوا عليه كبير ظلم ولا جور في شيء، فقام فتى منهم وقال يا أمير المؤمنين: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} وإنّه عدل ولم يحسن فعجب أبو جعفر المنصور من إصابته، وعزل العامل.
5 هذا في الإيمان المؤكد بها الحلف في الجاهلية لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم "لا حلف في الإسلام وأيّما حلف كان في الجاهلية فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة وأبطل صلى الله عليه وسلم الحلف في الإسلام، لأن الإسلام جاء بنصرة المظلوم وأخذ الحق له من الظالم كما هو مبين في شريعته.
6 أمّا إذا حلف العبد يميناً فرأى غيرها خيراً منها فإنه ينقض يمينه ويكفر كفّارة يمين لقوله صلى الله عليه وسلم: "إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلاّ أتيت الذي هو خير وكفّرت عن يميني".

تعالى {إن الله يعلم1 ما تفعلون} فيه وعيد شديد لمن ينقض أيمانه بعد توكيدها. وقول تعالى {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها}، وهى امرأة بمكة حمقاء2 تغزل ثم تنكث3 غزلها وتفسده بعد إبرامه وإحكامه فنهى الله تعالى المؤمنين أن ينقضوا أيمانهم بعد توكيدها فتكون حالهم كحال هذه الحمقاء. وقوله تعالى: {تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم} أي إفساداً وخديعة كأن تحالفوا جماعة وتعاهدوها، ثم تنقضون عهدكم وتحلون ما أبرمتم من عهد وميثاق وتعاهدون جماعة أخرى لأنها أقوى وتنتفعون بها أكثر. هذا معنى قوله تعالى {أن تكون أمة هي أربى من أمة} أي جماعة أكثر من جماعة رجالاً وسلاحاً أو مالاً ومنافع. وقوله تعالى: {إنما يبلوكم الله به} أي يختبركم فتعرض لكم هذه الأحوال وتجدون أنفسكم تميل إليها، ثم تذكرون نهي ربكم عن نقض الإيمان والعهود فتتركوا ذلك طاعة لربكم أولا تفعلوا إيثاراً للدنيا عن الآخرة، {وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون} ثم يحكم بينكم ويجزيكم، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.. وقوله تعالى {ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة} على التوحيد والهداية لفعل.. ولكن اقتضت حكمته العالية أن يهدي من يشاء هدايته لأنه رغب فيها وطلبها، ويضل من يشاء إضلاله لأنه رغب في الضلال وطلبه وأصر عليه بعد النهي عنه. وقوله تعالى: {لتسألن} أي4 سؤال توبيخ وتأنيب {عما كنتم تعملون} من سوء وباطل، ولازم ذلك الجزاء العادل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا بمثلها وهم لا يظلمون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أجمع آية للخير والشر في القرآن وهي آية {إن الله يأمر بالعدل والإحسان.. } الآية (90).
2- وجوب العدل والإحسان وإعطاء ذوي القربى حقوقهم الواجبة من البر والصلة.
__________
1 هذه الجملة ذكرت علّة لتحريم نقض العهد فهي تحمل وعيداً شديداً وتهديداً كبيراً لمن ينقض العهد.
2 يقال لها ريطة بنت عمر وكانت تغزل طول النهار، وفي المساء إذا غضبت لحمقها تحلّ ما أبرمته من غزلها، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا كهذه الحمقاء فيحلون ما يبرمون من عقود وعهود.
3 النكث والجمع أنكاث: وهو النقض والحل بعد الإبرام.
4 اللام دالة على قسم محذوف نحو: {والله لتسألن}.

3- تحريم الزنا واللواط وكل قبيح اشتد قبحه من الفواحش الظاهرة والباطنة.
4- لحريم البغي وهو الظلم بجميع صوره وأشكاله.
5- وجوب الوفاء بالعهود وحرمة نقضها.
6- حرمة نقض الإيمان بعد توكيدها وتوطين النفس عليها لتخرج لغو اليمين.
7- من بايع أميراً أو عاهد أحداً يجب عليه الوفاء ولا يجوز النقض والنكث لمنافع دنيوية أبداً.
وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(94) وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(95) مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(97)
شرح الكلمات:
دخلاً بينكم: أي لأجل الإفساد والخديعة.
وتذوقوا السوء : أي العذاب.
ما عندكم ينفد: يفنى وينتهي.
وهو مؤمن: أي والحال أنه عندما عمل صالحاً كان مؤمناً، إذ بدون إيمان لا عمل يقبل.
حياة طيبة : في الدنيا بالقناعة والرزق الحلال وفي الآخرة هي حياة الجنة.
بأحسن ما كانوا يعملون: أي يجزيهم على كل أعمالهم حسنها وأحسنها بحسب الأحسن فيها.

معنى الآيات:
مازال السياق في تربية المؤمنين أهل القرآن الذي هو تبيان كل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. وقال تعالى لهم {ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً} أي خديعة {بينكم} لتتوصلوا بالإيمان إلى غرضٍ دنيوي سافل، {فتزل قدم1 بعد ثبوتها} بأن يقع أحدكم في كبيرة من هذا النوع، يحلف بالله بقصد الخداع والتضليل فتذوقوا السوء في الدنيا بسبب صدكم عن سبيل الله من تعاهدونهم أو تبايعونهم وتعطونهم أيمانكم وعهودكم ثم تنقضوها فهؤلاء ينصرفون عن الإسلام ويعرضون عنه بسبب ما رأوا منكم من النقض والنكث، وتتحملون وزر ذلك، ويكون لكم العذاب العظيم يوم القيامة. فإياكم والوقوع في مثل هذه الورطة، فاحذروا أن تزل قدم أحدكم عن الإسلام بعد أن رسخت فيه. وقوله: {ولا تشتروا2 بعهد الله ثمناً قليلاً} وكل ما في الدنيا قليل وقوله تعالى إنما عند الله هو خير لكم قطعاً، لأن ما عندكُمْ من مالٍ أو متاعٍ ينفد أي يفنى، {وما عند الله باق} لا نفاذ له، فاذكروا هذا ولا تبيعوا الغالي بالرخيص والباقي بالفاني، وقوله تعالى: {ولنجزين الذين صبروا} على عهودهم {أجرهم} على صبرهم {بأحسن ما كانوا يعملون} أي يضاعف لهم الأجر فيعطيهم سائر أعمالهم حسنها وأحسنها بحسب أفضلها وأكملها حتى يكون أجر النافلة، كأجر الفريضة وهذا وعد من الله تعالى لمن يصبر على إيمانه وإسلامه ولا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، ووعدٌ ثان في قوله: {من عمل صالحاً من ذكرٍ وأنثى وهو مؤمن فلنحيينه3 حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} إلا أن أصحاب هذا الوعد هم أهل الإيمان والعمل الصالح، الإيمان الحق الذي يدفع إلى العمل الصالح، ولازم ذلك أنهم تخلوا عن الشرك والمعاصي، هؤلاء وعدهم ربهم بأنه يحييهم في الدنيا حياة طيبة لا خبث فيها قناعة وطيب طعام4 وشراب ورضا، هذا في
__________
1 هذه الجملة دلت على المبالغة في النهي اتخاذ الأيمان دخلا أي خديعة، إذ مَنْ وقع في ورطة يقال: زلت قدمه لأن القدم إذا زلت نقلت الإنسان من حال خير إلى حال شرٌ.
2 نهى تعالى المؤمنين عن الرُّشا وأخذ الأموال على نقض العهد أي: لا تنقضوا عهودكم لعرض قليل من الدنيا. روي أن امرؤ القيس بن عابس الكندي اختصم مع ابن أسوع في أرض فأراد امرؤ القيس أن يحلف فلمّا سمع هذه الآية نكل وقرأ لخصمه بالأرض.
3 اختلف في معنى الحياة الطيبة فقال بعضهم: هي الرزق الحلال، وقيل: هي القناعة وقيل: التوفيق إلى الطاعة الموجبة لرضوان الله تعالى، وقيل: هي حلاوة الطاعة، وقيل هي المعرفة بالله وصدق المقام بين يدي الله.
4 روى مسلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أفلح من أسلم ورُزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه".

الدنيا وفي الآخرة الجنة والجزاء يكون بحسب أحسن عمل عملوه من كل نوع، من الصلاة كأفضل صلاة وفي الصدقات بأفضل صدقة وهكذا. {ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وآتنا ما وعدتهم إنك برٌ رحيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة اتخاذ الإيمان طريقاً إلى الغش والخديعة والإفساد.
2- ما عند الله خير مما يحصل عليه الإنسان بمعصيته الرحمن من حطام الدنيا.
3- عظم أجر الصبر على طاعة الله تعالى فعلاً وتركاً.
4- وعد الصدق لمن آمن وعمل صالحاً من ذكر وأنثى بالحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ(100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ(101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ(102)
شرح الكلمات:
فإذا قرأت القرآن : أي أردت أن تقرأ القرآن.
فاستعذ بالله من الشيطان: أي قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لحمايتك منه وسواسه.
إنه ليس له سلطان: أي قوة وتسلط على إفساد الذين آمنوا وإضلالهم، ما داموا

متوكلين على الله.
وإذا بدلنا آية مكان آية : أي بنسخها وإنزاله آية أخرى غيرها لمصلحة العباد.
قل نزله روح القدس: أي جبريل عليه السلام.
ليثبت الذين آمنوا : أي على إيمانهم.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في هداية المسلمين وتكميلهم، فقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن} يا محمد أنت أو أحد من المؤمنين أتباعك {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} أي إذا كنت قارئاً عازماً على القراءة فقل أعوذ بالله1 من الشيطان الرجيم، فإن ذلك يقيك من وسواسه الذي قد يفسد عليك تلاوتك2، وقوله :{إنه ليس له} أي للشيطان {سلطان} يعني تسلط وغلبة وقهر {على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} وهذه بشرى خير للمؤمنين {إنما سلطانه على الذين يتولونه}3 بطاعته والعمل بتزيينه للشر والباطل4، {والذين هم به5 مشركون}. هؤلاء هم الذين يتسلط الشيطان عليهم فيغويهم ويضلهم حتى يهلكهم. وقوله تعالى: {وإذا بدلنا آية مكان آية} أي نسخنا حكماً بحكم آخر بآية أخرى قال المشركون المكذبون بالوحي الإلهي {إنما أنت} يا محمد {مفترٍ} تقول بالكذب والخرص، أي يقول اليوم شيئاً ويقول غداً خلافه. وقوله تعالى: {والله أعلم بما ينزل} فإنه ينزله لمصلحة عباده فينسخ ويثبت لأجل مصالح المؤمنين. وعلم الله تعالى رسوله كيف يرد على هذه الشبهة وقال له {قل نزله روح القُدس6 من ربك بالحق} فلست أنت الذي تقول ما تشاء وإنما هو وحي الله وكلامه ينزل به جبريل عليه السلام من عند ربك بالحق الثابت عند الله الذي لا يتبدل ولا بتغير، وذلك لفائدة تثبيت الذين آمنوا على إيمانهم وإسلامهم.
__________
1 هذه كآية الوضوء: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا..} أي : إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم على غير وضوء فاغسلوا وجوهكم أي: توضؤوا.
2 لقد صحت الأحاديث الكثيرة في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوّذ في صلاته قبل القراءة روي أن بعض السلف كان يتعوّذ بعد القراءة أخذاً بهذه الآية.
3 فائدة الاستعاذة قبل القراءة أن يحفظ المرء من أن يلبس عليه إبليس قراءته ويخلط عليه ويمنعه من التدبرّ.
4 قيل في قوله تعالى: {إنه ليس له سلطان}: أي أنه لا يوقعهم في ذنب لا يتوبون منه.
5 الضمير في {به} عائد إلى الشيطان ويصح عوده على الله تعالى.
6 روح القدس: جبريل عليه السلام: "فقد نزل بالقرآن كله ناسخه ومنسوخه ما عدا الفاتحة فقد نزل بها ملك لم ينزل إلى الأرض قط" رواه مسلم.

فكلما نزل قرآن ازداد المؤمنون إيماناً فهو كالغيث ينزل على الأرض كلما نزل ازدادت حياتها نضرة وبهجة فكذلك نزول القرآن تحيا به قلوب المؤمنين، وهو أي القرآن هدىً من كل ضلالة. وبشرى لكل المسلمين بفلاح الدنيا وفوز الآخرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استحباب الاستعاذة عند قراءة القرآن بلفظ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
2- بيان أنه لا تسلط للشيطان على المؤمنين المتوكلين على ربهم.
3- بيان أن سلطان الشيطان على أوليائه العاملين بطاعته المشركين بربهم.
4- بيان أن القرآن فيه الناسخ والمنسوخ.
5- بيان فائدة نزول القرآن بالناسخ والمنسوخ وهي تثبيت الذين آمنوا على إيمانهم وهدى من الضلالة وبشرى للمسلمين بالفوز والفلاح في الدارين.
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ(103) إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ(105) مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ

وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ(108) لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ(109)
شرح الكلمات:
بشر : يعنون قيناً (حداداً) نصرانياً في مكة.
لسان الذي يلحدون إليه: أي يميلون إليه.
وهذا لسان عربي: أي القرآن فكيف يعلمه أعجمي.
إلا من أكره: أي على التلفظ بالكفر فتلفظ به.
ولكن من شرح بالكفر صدرا: أي فتح صدره الكفر وشرحه له فطابت نفسه له.
وأولئك هم الغافلون : أي عما يراد بهم.
لا جرم: أي حقاً.
هم الخاسرون : أي لمصيرهم1 إلى النار خالدين فيها أبداً.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الرد على المشركين الذين اتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بالافتراء فقال تعالى: {ولقد نعلم2 أنهم يقولون إنما يعلمه بشر} أي يعلم محمداً بشر أي إنسان من الناس، لا أنه وحي يتلقاه من الله. قال تعالى في الرد على هذه الفرية وإبطالها {لسان الذي يلحدون إليه} أي يميلون إليه بأنه هو الذي يعلم محمد لسانه {أعجمي3} لأنه عبد رومي، {وهذا} أي القرآن {لسان عربي مبين} ذو فصاحة وبلاغة وبيان فكيف
__________
1 أي: لكون مصيرهم إلى النار وأيّ خسران أعظم من خسران من دخل النار فخسر نفسه وأهله قال تعالى فيه: {ألا ذلك هو الخسران المبين}.
2 اختلف في تعيين هذا الرجل فقيل: اسمه جبر ويكنى بأبي فكيهة، وقيل: اسمه عايش، وقيل: اسمه يعيش وكان روميًّا وكان صيقليا يشحذ السيوف ويحليها وكان يجلس إليه النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً فقالوا قولتهم هذه.
3 العجمة: الإخفاء وضد البيان ورجل أعجم وامرأة عجماء أي لا يفصح ولا يبين ومنه عجب الذنب لاستتاره والعجماء البهيمة والأعجمى من لا يتكلم العربية.

يتفق هذا مع ما يقولون انهم يكذبون لا غير، وقوله تعالى {إن الذين لا يؤمنون بآيات الله} وهي نورٌ وهدى وحججٌ قواطع، وبرهان ساطع {لا يهديهم الله} إلى معرفة الحق وسبيل الرشد لأنهم أعرضوا عن طريق الهداية وصدوا عن سبيل العرفان وقوله {ولهم عذاب أليم} أي جزاء كفرهم بآيات الله. وقوله {إنما يفتري1 الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون} أي إنما يختلق الكذب ويكذب فعلاً الكافر بآيات الله لأنه لا يرجو ثواب الله ولا يخاف عقابه، فلذا لا يمنعه شيء عن الكذب، أما المؤمن فإنه يرجو ثواب الصدق ويخاف عقاب الكذب فلذا هو لا يكذب أبداً، وبذا تعين أن النبي لم يفتر الكذب وإنما يفترى الكذب أولئك المكذبون بآيات لله وهم حقاً الكاذبون. وقوله تعالى: {من كفر2 بالله من بعد إيمانه إلا من أكره} 3 على التلفظ بالكفر {وقلبه مطمئن بالإيمان} لا يخامره شك ولا يجد اضطراباً ولا قلقاً فقال كلمة الكفر لفظاً فقط، فهذا كعمار بن ياسر كانت قريش تكرهه علي كلمة الكفر فأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم في قولها بلسانه ولكن المستحق للوعيد الآتي {من شرح بالكفر صدراً} أي رضي بالكفر وطابت نفسه وهذا وأمثاله {فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} أي باءوا بغضب الله وسخطه ولهم في الآخرة عذاب عظيم، وعلل تعالى لهذا الجزاء العظيم بقوله {ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة} بكفرهم بالله وعدم إيمانهم به لما في ذلك من التحرر من العبادات، فلا طاعة ولا حلال ولا حرام. وقوله تعالى: {وإن الله لا يهدي القوم الكافرين} هذا وعيد منه تعالى سبق به علمه وأن القوم الكافرين يحرمهم التوفيق للهداية عقوبة لهم على اختيارهم الكفر وإصرارهم عليه. وقوله تعالى: {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم} وعلى سمعهم وأبصارهم أولئك الذين توعدهم الله بعدم هدايتهم هم الذين طبع على قلوبهم فهم لا يفهمون {وسمعهم} فهم لا يسمعون المواعظ ودعاء الدعاة إلى
__________
1 هذا جواب وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالكذب فأعلم تعالى أنّ الذي يفتري الكذب هو الكافر بآيات الله الكاذب الذي لا يعرف الصدق أبداً.
2 قوله : {من كفر بالله بعد إيمانه}: عائد إلى قوله: {إنما يفتري الكذب الذي لا يؤمنون بآيات الله} . وقوله: {إلاّ من أكره}: نزلت في عمّار بن ياسر في قول أهل التفسير لأنه قارب أن يقول بعض ما طلبوه منه فرفع تعالى عنه الحرج وقال له الرسول صلى الله عليه وسلم "أعطهم يا عمار" وهو تحت العذاب وقال صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" واستثنى أهل العلم من أكره على قتل مؤمن أنه لا يقتله، وليكن المقتول ولا يقتل فلا يفد نفسه بأخيه حتى مجرد الضرب لا يضربه.
3 أهل العلم على أن المكره على الطلاق وعلى الحلف وعلى الحنث أنه لا شيء فيه.

الله تعالى {وأبصارهم} فهم لا يبصرون آيات الله وحججه في الكون، وما حصل لهم من هذه الحال سببه الإعراض المتعمد وإيثار الحياة الدنيا، والعناد، والمكابرة، والوقوف في وجه دعوة الحق والصد عنها. وقوله {وأولئك هم الغافلون} أي عمَّا خلقوا له، وعما يراد لهم من نكال في الآخرة وعذابٍ أليم. وقوله تعالى {لا جرم} أي حقاً {أنهم في الآخرة هم الخاسرون} المغبونون حيث وجدوا أنفسهم في عذاب أليم دائم لا يخرجون منه ولا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- دفاع الله تعالى عن رسوله ودرء كل تهمةٍ توجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- المكذبون بآيات الله يحرمون هداية الله، لأن طريق الهداية هو الإيمان بالقرآن. فلما كفروا به فعلى أي شيء يهتدون.
3- المؤمنون لا يكذبون لإيمانهم بثواب الصدق وعقاب الكذب، ولكن الكافرين هم الذين يكذبون لعدم ما يمنعهم من الكذب إذ لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً.
4- الرخصة1 في كلمة الكفر في حال التعذيب بشرط اطمئنان القلب إلى الإيمان وعدم انشراح الصدر بكلمة الكفر.
5- إيثار الدنيا على الآخرة طريق الكفر وسبيل الضلال والهلاك.
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ
__________
1 وكذلك الرخصة في العتاق والطلاق والنكاح والحلف والحنث ما دام مكرهاً فلا يلزمه شيء لحديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" الحديث، وكذا من أكره على تسليم زوجته فلا شيء عليه إذ أكره إبراهيم على ذلك وعصمه الله تعالى ومن صبر على ما أكره به من الضرب والتعذيب فله ذلك فقد صبر عبد الله بن حذافة السهمي على ألوان من التعذيب والتهديد على يد ملك الروم حيث أسر مع جمع من المسلمين فعذب ما شاء الله أن يعذّب ثم أطلق الأسرى، وقبّل عمر رضي الله عنه رأسه إكراماً له واعترافاً بفضله لأنّ ملك الروم أخذ ما أكرهه عليه تقبيل رأسه فقبّله.

نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(111) وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ(112) وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ(113)
شرح الكلمات،:
هاجروا : أي إلى المدينة.
من بعدما فتنوا : أي فتنهم المشركون بمكة فعذبوهم حتى قالوا كلمة الكفر مكرهين.
إن ربك من بعدها: أي من بعد الهجرة والجهاد والصبر على الإيمان والجهاد.
لغفور رحيم : أي غفورٌ لهم رحيم بهم.
يوم تأتي: أي اذكر يا محمد يوم تأتي كل نفسٍ تجادل عن نفسها.
مثلاً قرية: هي مكة.
رزقها رغداً : أي واسعاً.
فكفرت بأنعم الله: أي بالرسول والقرآن والأمن ورغد العيش.
فأذاقها الله لباس الجوع : أي بسبب قحطٍ أصابهم حتى أكلوا العهن لمدة سبع سنين.
والخوف : حيث أصبحت سرايا الإسلام تغزوهم وتقطع عنهم سبل تجارتهم.
معنى الآيات:
بعدما ذكر الله تعالى رخصة كلمة الكفر عند الإكراه وبشرط عدم انشراح الصدر بالكفر ذكر مخبراً عن بعض المؤمنين، تخلفوا عن الهجرة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أرادوا الهجرة منعتهم قريش وعذبتهم حتى قالوا كلمة الكفر، ثم تمكنوا من الهجرة فهاجروا وجاهدوا

وصبروا فأخبر الله تعالى عنهم بأنه لهم مغفرته ووحمته، فلا يخافون ولا يحزنون فقال تعالى {ثم إن 1ربك} أيها الرسول {للذين هاجروا2 من بعدما فتنوا} أي عُذِّبوا {ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من3 بعدها لغفورٌ رحيم} أي غفورٌ لهم رحيمٌ بهم.
وقوله تعالى: {يوم4 تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} أي اذكر ذلك واعظاً به المؤمنين أي تخاصم طالبةً النجاة لنفسها {وتوفى كل نفسٍ ما عملت} أي من خير أو شر {وهم لا يظلمون} لأن الله عدلٌ لا يجور في الحكم ولا يظلم. وقوله تعالى: {وضرب الله مثلاً قرية5} أي مكة {كانت آمنة} من غارات الأعداء {مطمئنة} لا ينتابها فزعٌ ولا خوف، لما جعل الله تعالى في قلوب العرب من تعظيم الحرم وسكانه، {يأتيها رزقها رغداً} أي واسعاً {من كل6 مكان} حيث يأتيها من الشام واليمن في رحلتيهما في الصيف والشتاء {فكفرت بأنعم الله} وهي تكذيبها برسول الله صلى الله عليه وسلم وإنكارها للتوحيد، وإصرارها على الشرك وحرب الإسلام {(فأذاقها الله لباس الجوع} فدعا عليهم الرسول اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف السبع الشداد، فأصابهم القحط سبع سنوات فجاعوا حتى أكلوا الجِيفْ والعهن، وأذاقها لباس الخوف إذ أصبحت سرايا الإسلام تعترض طريق تجارتها بل تغزوها في عقر دارها، وقوله تعالى {بما كانوا يصنعون7} أي جزاهم لله بالجوع والخوف بسبب صنيعهم الفاسد وهو اضطهاد المؤمنين بعد كفرهم وشركهم وإصرارهم على ذلك. وقوله تعالى: {ولقد جاءهم رسولٌ منهم} هو محمد صلى الله عليه وسلم {فكذبوه} أي جحدوا رسالته وانكروا نبوته وحاربوا دعوته {فأخذهم العذاب} عذاب الجوع والخوف والحال أنهم {ظالمون} أي مشركون وظالمون لأنفسهم حيث عرضوها
__________
1 لمّا كانت الهجرة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم قرن الله تعالى اسمه مع اسم نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {(ثم إن ربك} أي بمغفرته ورحمته للذين هاجروا.
2 هاجروا أولا إلى الحبشة ثم إلى المدينة النبوية.
3 أي: من بعد الحال التي كانت أيام تعذيبهم وفتنتهم على يد المشركين.
4 جائز أن يكون الظرف متعلقاً بقوله: {لغفور رحيم } وجائز أن يكون معمولاً لفعل محذوف تقديره: اذكر ومعنى تجادل: تخاصم وتحاج عن نفسها وفي الحديث: "أن كل نفس يوم القيامة تقول: نفسي نفسي" لشدة الهول.
5 هي مكة وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا على أهلها فقال: "اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف" فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام.
6 من البرّ والبحر، هذا كقوله تعالى: {يجبى إليه ثمرات كل شيء}.
7 وقيل: إنّ القرية هذه هي المدينة قالت هذا حفصة وعائشة زوجتا الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك لما قتل عثمان واشتد البلاء بأهل المدينة وعموم الآية ظاهر، وكونها مكة أظهر.

بكفرهم إلى عذاب الجوع والخوف.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- فضل الهجرة والجهاد والصبر، وما تكفر هذه العبادات من الذنوب وما تمحو من خطايا.،
2- وجوب التذكير باليوم الآخر وما يتم فيه من ثوابٍ وعقاب للتجافي عن الدنيا والإقبال على الآخرة.
3- استحسان ضرب الأمثال من أهل العلم.
4- كفر النعم بسبب زوالها والانتقام من أهلها.
5- تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم في ما جاء به، ولو بالإعراض عنه وعدم العمل به يجر البلاء والعذاب.
فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(115) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ(116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(118)

شرح الكلمات:
فكلوا : أي أيها الناس.
حلالاً طيباً : أي غير حرام ولا مستقذر.
واشكروا نعمة الله عليكم : أي بعبادته وحده وبالانتهاء إلى ما أحل لكم عما حرمه عليكم.
إن كنتم إياه تعبدون: أي إن كنتم تعبدونه وحده فامتثلوا أمره، فكلوا مما أحل لكم وذروا ما حرم عليكم.
الميتة: أي ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير تذكية شرعية.
والدم : أي الدم المسفوح السائل لا المختلط باللحم والعظم.
وما أهل لغير الله به : أي ما ذكر عليه غير اسم الله تعالى.
غير باغٍ ولا عاد : أي غير باغ على أحد، ولا عادٍ أي متجاوز حد الضرورة.
ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب: أي لا تحللوا ولا تحرموا بألسنتكم كذباً على الله فتقولوا هذا حلال وهذا حرام بدون تحليل ولا تحريم من الله تعالى.
وعلى الذين هادوا: أي اليهود.
حرمنا ما قصصنا عليك من قبل : أي في سورة الأنعام.
معنى الآيات:
امتن الله عز وجل على عباده، فأذن لهم أن يأكلوا مما رزقهم من الحلال الطيب ويشكروه على ذلك بعبادته وحده وهذا شأن من يعبد الله تعالى وحده، فإنه يشكره على ما أنعم به عليه، وقوله تعالى: {إنما حرم1 عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به} فلا تحرموا ما لم يحرم عليكم كالسائبة والبحيرة والوصيلة التي حرمها المشركون افتراء على الله وكذباً. وقوله {فمن اضطر} منكم أي خاف على نفسه ضرر الهلاك بالموت لشدة الجوع وكان {غير باغ} على أحد ولا معتدٍ ما أحل له إلى ما حرم عليه
__________
1 هذه الجملة بيان لمضمون جملة: {فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً} لتمييز الطيبّ من الخبيث وذكر تعالى هنا أربع محرمات وهي عشر جاءت في سورة المائدة إلا أنّ هذه الأربعة هي الأصول وما دونها تابع لها: المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب فالخمسة الأولى تابعة للميتة والسادسة تابعة لما أهل به لغير الله.

فليأكل ما يدفع به غائلة الجوع ولا إثم عليه {فإن الله غفور رحيم} فيغفر للمضطر كما يغفر للتائب ويرحم المضطر فيأذن له في الأكل دفعاً للضرر رحمة به كما يرحم من أناب إليه.
وقوله: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب1 هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} أي ينهاهم عن التحريم والتحليل من تلقاء أنفسهم بأن يسموا الشيء بأنه حلال أو حرام لمجرد قولهم بألسنتهم الكذب: هذا حلال وهذا حرام كما يفعل المشركون فحللوا وحرموا بدون وحي إلهي ولا شرع سماوي. ليؤول قولهم وصنيعهم ذلك إلى الافتراء على الله والكذب عليه. مع أن الكاذب على الله لا يفلح أبداً لقوله {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل}2 وإن تمتعوا قليلاً في الدنيا بمال أو ولد أو عزة وسلطان فإن ذلك متاع قليل جداً ولا يعتبر صاحبه مفلحاً ولا فائزاً. فإن وراء ذلك العذاب الآخروي الأليم الدائم الذي لا ينقطع. وقوله تعالى: {وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل} يخاطب الله تعالى رسوله فيقول: كما حرمنا على هذه الأمة المسلمة الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، حرمنا على اليهود ما قصصنا عليك من قبل في سورة الأنعام. إذ قال تعالى {وعلى الذين3 هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم}. وحرم هذا الذي حرم عليهم بسبب ظلم منهم فعاقبهم الله فحرم عليهم هذه الطيبات التي أحلها لعباده المؤمنين. ولذا قال تعالى {وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- يجب مقابلة النعيم بالشكر فمن غير العدل أن يكفر العبد نعم الله تعالى عليه فلا يشكره عليها بذكره وحمده وطاعته بفعل محابه وترك مساخطه.
__________
1 {الكذب} منصوب على المفعولية المطلقة أي: مطلق الكذب.
2 جملة: {متاع قليل} جملة بيانية في جواب قول من قال: كيف لا يفلحون وهم يمتعون بالطعام والشراب والنساء والأموال؟ فأجيب بأن هذا متاع قليل جداً بالنظر إلى ما في الآخرة.
3 تقديم الجار والمجرور: {وعلى الذين هادوا حرمنا} للاهتمام وللإشارة إلى أنّ ذلك التحريم كان انتقاماً منهم ولم يكن شرعاً لإكمالهم وإسعادهم.

2- بيان المحرمات من المطاعم وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله.
3- بيان الرخصة في الأكل من المحرمات المذكورة لدفع غائلة الموت.
4- حرمة التحريم والتحليل بغير دليل شرعي قطعي لا ظني إلا ما غلب على الظن تحريمه.
5- حرمة الكذب على الله وأن الكاذب على الله لا يفلح في الآخرة وفلاحه في الدنيا جزيء قليل لا قيمة له.. هذا إن أفلح.
6- قد يحرم العبد النعم بسبب ظلمه فكم حرمت أمة الإسلام من نعم بسبب ظلمها في عصور انحطاطها.
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(120) شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(121) وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ(122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(124)
شرح الكلمات:
ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة : أي ثم إن ربك غفورٌ رحيمٌ للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا.
من بعدها : أي من بعد الجهالة والتوبة.

إن إبراهيم كان أمة : أي إماماً جامعاً لخصال الخير كلها قدوة يقتدى به في ذلك.
لله حنيفاً: أي مطيعاً لله حنيفاً: مائلاً إلى الدين القيم الذي هو الإسلام.
اجتباه : أي ربه اصطفاه للخلة بعد الرسالة والنبوة.
وآتيناه في الدنيا حسنة : هي الثناء الحسن من كل أهل الأديان السماوية.
إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه : أن اليهود أمروا بتعظيم الجمعة فرفضوا وأبوا إلا السبت ففرض الله عليهم ذلك وشدد لهم فيه عقوبة لهم.
معنى الآيات:
بعدما نددت الآيات في سياق طويل بالشرك وإنكار البعث والنبوة من قبل المشركين الجاحدين المعاندين، وقد أوشك سياق السورة على الانتهاء فتح الله تعالى باب التوبة لهم وقال: {ثم إن ربك} أي بالمغفرة والرحمة {للذين عملوا السوء بجهالةٍ1} فأشركوا بالله غيره وأنكروا وحيه وكذبوا بلقائه {ثم تابوا من بعد ذلك} فوحدوه تعالى بعبادته وأقروا بنبوة رسوله وآمنوا بلقائه واستعدوا له بالصالحات {وأصلحوا} ما كانوا قد أفسدوه من قلوبهم وأعمالهم وأحوالهم {إن ربك من بعدها} من بعد هذه التوبة2 والأوبة الصحيحة {لغفور رحيم} بهم فكانت بشرى لهم على لسان كتاب ربهم. وقوله تعالى: {إن إبراهيم3 كان أمة4 قانتاً لله حنيفاً، ولم يك من المشركين. شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم. وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين. ثم أوحينا إليك أن اتبع5 ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} إنه لما كان من شبه المشركين أنهم على دين أبيهم إبراهيم باني البيت وشارع المناسك ومحرم الحرم، واليهود والنصارى كذلك يدعون أنهم على ملة إبراهيم فأصر الجميع على أنه متبع لملة إبراهيم وأنه على دينه ورفضوا الإسلام بدعوى ما هم عليه هو دين الله الذي جاء به إبراهيم أبو الأنبياء عليه
__________
1 الجهالة: انتفاء العلم بما يجب أن يعلم، والمراد بجهالتهم: جهالتهم بأدلة الشرع المحرّمة للشرك والكفر والفساد، والموجبة للتوحيد وطاعة الله ورسوله. والباء: في {بجهالة} : للملابسة وهي في موضع الحال من ضمير عملوا.
2 وجائز أن يعود الضمير على الجهالة أيضاً كما جائز أن يعود على التوبة.
3 {إنّ إبراهيم}؛ هذه الجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لغرض التنويه بدين الإسلام الذي هو دين إبراهيم من قبل.
4 الأمّة : الجامع للخير، والقانت: المطيع لله تعالى، والحنيف: المائل إلى الحق المجانب للباطل.
5 في الآية الدليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول ولا تبعة على الفاضل أي: لا غضاضة عليه ولا مساس بمقامه.

السلام، ومن باب إبطال الباطل وإزاحة ستار الشبه وتنقية الحق لدعوة الحي والدين الحق ذكر تعالى جملةً من حياة إبراهيم الروحية والدينية كمثال حي ناطق لكل عاقل إذا نظر إليه عرف هل هو متبع لإبراهيم يعيش على ملته أو هو على غير ذلك. فقال تعالى {إن إبراهيم كان1 أمة} أي إماماً صالحاً جامعاً لخصال الخير، يقتدي به كل راغب في الخير. هذا أولاً وثانياً أنه كان قانتاً أي مطيعاً لربه فلا يعصي له أمراً ولا نهياً ثالثاً لم يك من المشركين بحال من الأحوال بل هو بريء من الشرك وأهله، ورابعاً كان شاكراً لأنعم الله تعالى عليه أي صارفاً نعم الله عليه فيما يرضي الله، خامساً اجتباه ربه أي اصطفاه لرسالته وخلته لأنة أحب الله أكثر من كل شيء فتخلل حب الله قلبه فلم يبق لغيره في قلبه مكان. فخالّه الله أي بادله خلة بخلّة فكان خليل الرحمن. سادساً وهداه إلى صراط مستقيم الذي هو الإسلام، سابعاً وآتاه في الدنيا حسنة وهي الثناء الحسن والذكر الجميل من جميع أهل الأديان الإلهية الأصل. ثامناً وإنه في الآخرة لمن الصالحين الذين قال الله تعالى فيهم: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهي منزلة من أشرف المنازل وأسماها. تاسعاً مع جلالة قدر النبي محمد صلى الله عليه وسلم ورفعة مكانته أمره الله تعالى أن يتبع ملة إبراهيم حنيفاً.
هذا هو إبراهيم فمن أحق بالنسبة إليه، المشركون؟ لا! اليهود؟ لا، النصارى؟ لا! المسلمون الموحدون؟ نعم نعم اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وأكرمنا يوم تكرمهم.
وقوله تعالى: {إنما جعل السبت2 على الذين اختلفوا فيه} فيه دليل على بطلان دعوى اليهود أنهم على ملة إبراهيم ودينه العظيم، إذ تعظيم السبت لم يكن من دين إبراهيم،
__________
1 قال مالك: بلغني أنّ عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: يرحم الله معاذً كان امّة قانتاً فقيل له: يا أبا عبدالرحمن إنّما ذكر الله عزّ وجلّ بهذا إبراهيم عليه السلام فقال عبدالله: "إن الأمة الذي يعلم الناس الخير وإن القانت: هو المطيع".
2 أي: لم يكن في شرع إبراهيم ولا من دينه، إذ كان. دين إبراهيم سمحاً لا تغليظ فيه والسبت تغليظ على اليهود في ترك الأعمال وترك التبسّط في المعاش بسبب اختلافهم فيه أي: اختلفوا في يوم الجمعة بعدما أمروا بتعظيمه فأبت اليهود إلا السبت بدعوى أن الله فرغ من الخلق فيه. واختار النصارى الأحد: لأن الله ابتدأ الخلق فيه، وهدى الله أمّة الإسلام ليوم الجمعة الذي اختلفوا فيه ففي البخاري يقول صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون الأوّلون يوم القيامة، ونحن أوّل من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فيه فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له (يوم الجمعة".

وإنما سببه أن الله تعالى أوحى إلى أحد أنبيائهم أن يأمر بني إسرائيل بتعظيم الجمعة فاختلفوا في ذلك وآثروا السبت عناداً ومكابرة فكتب الله عليهم تعظيم السبت. وقوله {وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} فيه وعيد لهم وأنه سيجزيهم سوءاً على تمردهم على أنبيائهم واختلافهم عليهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- باب التوبة مفتوح لكل ذي ذنب عَظُم أو صغُر على شرط صدق التوبة بالإقلاع الفوري والندم والاستغفار الدائم وإصلاح المفاسد.
2- تقرير التوحيد والإعلان عن شان إبراهيم عليه السلام وييان كمالاته وإنعام الله عليه.
3- بيان أن سبت اليهود هو من نقم الله عليهم لا من نعمه وافضاله عليهم.
ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ(126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ(127) إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ(128)
شرح الكلمات:
إلى سبيل ربك : أي إلى طاعته إذ طاعة الله موصلة إلى رضوانه وإنعامه فهي سبيل الله.
بالحكمة : أي بالقرآن والمقالة المحكمة الصحيحة ذات الدليل الموضح للحق.
والموعظة الحسنة: هي مواعظ القرآن، والقول الرقيق الحسن.

وجادلهم بالتي هي أحسن: أي بالمجادلة التي هي أحسن من غيرها.
لهو خيرٌ للصابرين: أي خيرٌ من الانتقام عاقبةً.
ولا تك في ضيق مما يمكرون : أي لا تهتم بمكرهم، ولا يضيق صدرك به.
مع الذين اتقوا: أي اتقوا الشرك والمعاصي.
والذين هم محسنون: أي في طاعة الله، ومعصيته تعالى هي نصره وتأييده لهم في الدنيا.
معنى الآيات:
يخاطب الرب تعالى رسوله تشريفاً وتكليفاً: {ادع إلى سبيل ربك1} أي إلى دينه وهو الإسلام سائر الناس، وليكن دعاؤك {بالحكمة} التي هي القرآن الكريم الحكيم {والموعظة الحسنة} وهي مواعظ القرآن وقصصه وأمثاله، وترغيبه وترهيبه، {وجادلهم بالتي هي أحسن} أي خاصمهم بالمخاصمة التي هي أحسن وهي الخالية من السب والشتم والتعريض بالسوء، فإن ذلك أدعى لقبول الخصم الحق وما يدعي إليه، وقوله تعالى: {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله} من الناس {وهو أعلم بالمهتدين} وسيجزيهم المهتدي بهداه، والضال بضلاله، كما هو أعلم بمن ضل واهتدى أزلاً. فهون على نفسك ولا تشطط في دعوتك فتضر بنفسك، والأمر ليس إليك. بل لربك يهدي من يشاء ويضل من يشاء وما عليك إلا الدعوة بالوصف الذي وصف لك، بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، وقوله تعالى {وإن عاقبتم2 فعاتبوا بمثل ما عوقبتم به} لا أكثر، {ولئن صبرتم} وتركتم المعاقبة {لهو} أي صبركم {خيرٌ} لكم من المعاقبة على الذنب والجناية، وقوله تعالى: {واصبر} على ترك ما عزمت عليه أيها الرسول من التمثيل بالمشركين جزاء تمثيلهم بعمك حمزه، فأمره بالصبر ولازمه ترك المعاقبة والتمثيل معاً، وقوله: {وما صبرك إلا بالله} أي إلا بتوفيقه وعونه، فكن مع ربك
__________
1 قال القرطبي: هذه الآية نزلت بمكة في وقت مهادنة قريش، وأمره أن يدعو إلى دين لله وشرعه بتلّطف ولين دون مخاشنة وعنف، وهكذا ينبغي أن يدعو المسلمون إلى يوم القيامة.
2 جمهور المفسرين على أن هذه الآية: {وإن عاقبتم فعاقبوا...} الخ نزلت بالمدينة في شأن قتل حمزة والتمثيل به رضي الله عنه وأرضاه يوم أحد ذكر ذلك البخاري وغيره وفي الآية دليل على وجوب المماثلة في القصاص ويحرم عدمها. وفي الآية دليل لمن قال بجواز أخذ مال من أخذ مال غيره إذا لم يتمكن منه بعلمه ورضاه على شرط أن لا يأخذ أكثر مما أخذ.

تستمد منه الصبر كما تستمد منه العون والنصر. وقوله تعالى: {ولا تحزن عليهم} أي على عدم اهتدائهم إلى الحق والأخذ به والسير في طريقه الذي هو الإسلام {ولا تك في ضيق1} نفسي يؤلمك {مما يمكرون} بك فإن الله تعالى كافيك مكرهم وشرهم إنه معك فلا تخف ولا تحزن لأنه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأنت منهم. وقوله: {إن الله مع الذين2 اتقوا والذين هم محسنون} يخبر تعالى رسوله والمؤمنين أنه عز وجل بنصره وتأييده ومعونته وتوفيقه مع الذين اتقوا الشرك والمعاصي فلم يتركوا فرائض دينه، ولم يغشوا محارمه والذين هم محسنون في طاعة ربهم إخلاصاً في النية والقصد، وأداءً على نحوه، شرع الله وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الدعوة إلى الله تعالى أي إلى الإسلام وهو واجب كفائى، إذا قامت به جماعة أجزأ ذلك عنهم.
2- بيان أسلوب الدعوة وهو أن يكون بالكتاب والسنة وأن يكون خالياً من العنف والغلظة والشدة، وأن تكون المجادلة بالتي هي أحسن من غيرها.
3- جواز المعاقبة بالأخذ بقدر ما أخذ من المرء، وتركها صبراً واحتساباً أفضل.
!- معية الله تعالى ثابتة لأهل التقوى والإحسان، وهي معية نصرٍ وتأييد وتسديد.
__________
1 الضيق والضَيق: بالكسر والفتح، يقال: في صدره ضيق وضِيق بالكسر والفتح، وقيل: الضيق بالفتح في الصدر، والضيق بالكسر في الدار والثوب ونحوهما.
2 قيل: لهرم بن حبان عند موته: أوصنا فقال: أوصيكم بآيات الله وآخر سورة النحل: {ادع إلى سبيل ربك ..} إلى {محسنون}.

سورة الإسراء
...
الجزء الخامس عشر
سورة الإسراء
مكية
وآياتها عشر ومائة
بسم الله الرحمن الرحيم
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ
شرح الكلمات:
سبحان: أي تنزه وتقدس عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله وهو الله جل جلاله.
بعبده : أي بعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
من المسجد الحرام: أي الذي بمكة.
إلى المسجد الأقصى: أي الذي بيت المقدس.
من آياتنا: أي من عجائب قدرتنا ومظاهرها في الملكوت الأعلى.
معنى الآية الكريمة:
نزه الرب تبارك وتعالى نفسه عما نسب إليه المشركون من الشركاء والبنات وصفات المحدثين، فقال: {سبحان1 الذي أسرى بعبده2} أي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي العدناني {ليلاً من المسجد الحرام} أي بالليل من المسجد الحرام بمكة إذ أخرج من بيت أم هانىء
__________
1 روي أنّ طلحة بن عبيد الله الفيّاض أحد العشر المبشرين بالجنة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى سبحان الله فقال: "تنزيه الله عن كل سوء" وأسرى: فيها لغتان: أسرى وسرى فصيحتان، وجمع اللغتين في بيت واحد هو:
حيّ النضيرة ربُة الخدر
أسرت إليَّ ولم تكن تسري
وقيل: أسرى من أوّل الليل، وسرى من آخره، والإسراء، والسُّرى: سير الليل.
2 قالت العلماء: لو كان هناك اسم للنبي صلى الله عليه وسلم أشرف من اسم عبد لسمّاه به في هذه الحال العليّة، وفي معناه قال الشاعر:
يا قوم قلبي عند زهراء
يعرفه السامع والرائي
لا تدعُني إلاّ بياعبدها
فإنه أشرف أسمائي

وغسل قلبه بماء زمزم وحشي إيماناً وحكمة، ثم أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بيت المقدس، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه جمع الله تعالى له الأنبياء في المسجد الأقصى وصلى بهم إماماً فكان بذلك إمام الأنبياء وخاتمهم ثم عرج به إلى السماء سماء بعد سماء يجد في كل سماء مقربيها إلى أن انتهى إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى ثم عرج به إلى أن انتهى إلى مستوى سمع فيه صرير الأقلام وقوله تعالى: {الذي باركنا حوله} أي حول المسجد الأقصى1 معنى حوله خارجه وذلك بالأشجار والأنهار والثمار أما داخله فالبركة الدينية بمضاعفة الصلاة فيه أي أجرها إذ الصلاة فيه بخمسمائة صلاة أجراً ومثوبة وقوله تعالى {لنريه من آياتنا} تعليل للإسراء والمعراج وهو أنه تعالى أسرى بعبده وعرج به ليريه من عجائب صنعه في مخلوقاته في الملكوت الأعلى، وليكون ما علمه من طريق الوحي قد علمه بالرؤية والمشاهدة. وقوله تعالى {إنه هو السميع البصير} يعني تعالى نفسه بأنه هو السميع لأقوال عباده البصير بأعمالهم وأحوالهم فاقتضت حكمته هذا الاسراء العجب ليزداد الذين آمنوا إيماناً وليرتاب المرتابون ويزدادون كفراً وعناداً.
هداية الآية الكريمة:
من هداية الآية الكريمة:
1- تقرير عقيدة الإسراء والمعراج بالنبي صلى الله عليه وسلم بالروح والجسد2 معاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم إلى السماوات العلى، إلى مستوى سمع فيه صرير الأقلام وأوحى إليه تعالى ما أوحى وفرض عليه وعلى أمته الصلوات الخمس.
2- شرف المساجد الثلاثة: الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى أما المسجدان الحرام والأقصى فقد ذكرا بالنص وأما مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ذكر بالإشارة3 والإيماء إذ قول الأقصى يقتضي قصياً، فالقصي هو المسجد النبوي والأقصى هو مسجد بيت المقدس.
3- بيان الحكمة في الاسراء والمعراج وهي أن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم بعيني رأسه ما كان آمن به وعلمه
من طريق الوحي فأصبح الغيب لدى رسول الله شهادة.
__________
1 المسجد الحرام: أول مسجد بني في الأرض، ويليه المسجد الأقصى والزمن بينهما أربعون سنة، والمسجد النبوي بني بعدهما بقرون طويلة، فهذه الثلاثة أشرف المساجد على الإطلاق وعليه فمن نذر صلاة فيها وجب عليه الوفاء بالصلاة فيها، ومن نذر الصلاة في مسجدٍ غيرها جاز أن يصلي في أي مسجد آخر.
2 لا قيمة للقول بأن الإسراء كان بالروح فقط إذ لو كان بالروح لكان من المنام، ولما قال تعالى: {أسرى بعده ليلاً} ولما قالت أم هانىء: لا تحدّث الناس فيكذبوك، ولا فضّل أبو بكر بقلب الصديق ولا ما أمكن قريشا التشنيع والتكذيب، ولما ارتد أفراد عن الإسلام بتشنيع قريش، وأما إطلاق لفظ الرؤيا على المنام خاصة فليس بذاك إذ قد يطلق لفظ الرؤيا على الرؤية في اليقظة، وأعظم دليل في قوله تعالى: {ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المتهى} أي: رأي الرسول جبريل مرّة أخرى في الجنة في السماء ليلة الإسراء والمعراج كما رآه أول مرّة في جياد بمكة.
3 حدثنا شيخنا الطيب العقبى خريج المسجد النبوي الشريف: أنّه ألقى كلمة في الروضة بالمسجد النبوي ففتح الله تعالى عليه فذكر أنّ المسجد النبوي أشير إليه في آية الإسراء فهو إذاً مذكور في القرآن بالإيماء كما ذكرت في التفسير.

وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً(2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا(3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا(4) فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً(5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا(6)
شرح الكلمات:
وآتينا موسى الكتاب : أي التوراة.
وجعلناه هدى: أي جعلنا الكتاب أو موسى هدى أي هادياً لبني إسرائيل.
وكيلا: أي حفيظاً أو شريكاً.
من حملنا: أي في السفينة.
وقضينا: أي أعلمناهم قضاء نافيهم.
في الكتاب : أي التوراة.
علواً كبيراً: أي بغياً عظيماً.
أولاهما : أي أولى المرتين.
فجاسوا خلال : أي ترددوا جائين ذاهبين وسط الديار يقتلون ويفسدون.
وعداً مفعولا : أي منجزاً لم يتخلف.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أنه هو الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وأنه هو الذي آتى موسى الكتاب أي التوراة فهو تعالى المتفضل على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أمته بالإسراء به والمعراج

وعلى موسى بإعطائه الكتاب ليكون هدى وبياناً لبني إسرائيل فهو متفضل أيضاً على بني إسرائيل فله الحمد وله المنة.
وقوله: {جعلناه} أي الكتاب {هدى} أي بياناً لبني إسرائيل يهتدون إلى سبل الكمال والإسعاد وقوله: {ألا تتخذوا من دوني وكيلا} أي آتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل من أجل ألا يتخذوا من غيري حفيظاً لهم يشركونه بي بالتوكل عليه وتفويض أمرهم إليه ناسين لي وأنا ربهم وولي نعمتهم. وقوله تعالى: {ذرية من حملنا مع نوح} أي يا ذرية1 من حملنا مع نوح اشكروني كما شكرني نوح على انجائي إياه في السفينة مع أصحابه فيها، إنه أي نوحاً {كان عبداً2 شكوراً} فكونوا أنتم مثله فاشكروني بعبادتي ووحدوني ولا تتركوا طاعتي ولا تشركوا بي سِوَايَ وقوله تعالى (وقضينا إلى بني إسرائيل فى الكتاب لتفسدون في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً} يخبر تعالى بأنه أعلم بني اسرائيل بقضائه فيهم وذلك في كتابهم التوراة أنهم يفسدون في الأرض بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب، ويعلون في الأرض بالجراءة على الله وظلم الناس {علواً كبيراً} أي عظيماً. ولابد أن ما قضاه واقع وقوله تعالى: {فإذا جاء وعد أولهما} أي وقت المرة الأولى {بعثنا عليكم عباداً لنا أولى بأس3 شديد} أي قوة وبطش في الحرب شديد، وتم هذا لما أفسدوا وظلموا بانتهاك حدود الشرع والإعراض عن طاعة الله تعالى حتى قتلوا نبيهم "أرميا" عليه السلام وكان هذا على يد الطاغية جالوت فغزاهم من أرض الجزيرة ففعل بهم مع جيوشه ما أخبر تعالى به في قوله : {فجاسوا4 خلال الديار} ذاهبين جائين قتلاً وفتكاً وإفساداً نقمة الله على بني إسرائيل لإفسادهم وبغيهم البغي العظيم.
وقوله تعالى: {وكان وعداً مفعولا} أي ما حصل لهم في المرة الأولى5 من الخراب والدمار ومن
__________
1 قرىء ذَرية بفتح الذال، وقرىء ذرية بكسر الذال أيضاً فهي إذا مثلثة واللفظ مشتق من الذرء، الذي هو الخلق، فيقال: ذرأ يذرأ ذرأ: إذا خلق وفي الآية تذكير بني إسرائيل بواجب الشكر أي أشكروا كما شكر نوح، وفيها تعريض لهم بأنهم إذا لم يشكروا يؤخذوا كما أخذ قوم نوح.
2 أثنى تعالى على عبده نوح بكثرة الشكر لأنّ شكور: من صيغ المبالغة معناه كثيرالشكر روي أنه كان إذا أكل قال الحمد لله الذي أطعمني، ولو شاء لأجاعني، د إذا شرب قال: الحمد لله الذي أرواني ولوشاء لأظمأني، وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كساني ولو شاء لأعراني.
3 قال: {عباداً لنا} ولم يقل: عبادي لأنهم أهل كفر وشرك وفسق فلم يشرفهم بالإضافة إليه ووصفهم بأنهم من ملكه فسخرّهم لتأديب عباده الذين فسقوا عن أمره وخرجوا عن طاعته.
4 الجوس: وهو مصدر جاس يجوس جوساً معناه: التخلل في البلاد وطرقها ذهاباً وإياباً لتتبع ما فيها، والمراد به تتبع المقاتلة لقتالهم.
5 في هذه الآيات ذكر مجمل لتاريخٍ بني إسرائيل بدءاً من دولة يوشع بن نون بعد فتحه لبلاد القدس، وطرد العمالقة منها، وإقامة دولة فيها لأوّل مرة وختاماً بطردهم على أيدي الرومان وذلك سنة مائة وخمس وثلاثين بعد ميلاد عيسى عليه السلام، وقسمت الآيات هذا التاريخ قسمين معبرة عنه بالمرتين: الأولى بدءاً من دولة يوشع بن نون واستمرت إلى أن عاثوا في الأرض وفسدوا فيها بالفسق والفجور فسلط عليه البابليين فأسقطوا دولتهم، ومزّقوا ملكهم واستمروا مشتتين إلى أن ملّكوا طالوت وقاتلوا معه على عهد نبي الله حزقيل فهزموا جالوت البابلي، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: {ثم رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً} إذ تكونت لهم دولة عظيمة على عهد كل من طالوت وداود وسليمان واستمرّت حتي فسقوا وفجروا فاستحقوا العذاب فسلّط الله عليهم بختنصر البابلي أيضاً فأحرق هيكل سليمان، ودمّر أورشليم فتركها خراباً ودماراً، وهذه هي المرة الآخرة ثم أنجز لهم الله تعالى ما وعدهم بقوله: {عسى ربكم أن يرحمكم} فاجتمعوا وصلحوا وعاد لهم ملكهم فترة من الزمن، وعادوا إلى الفسق والعصيان فعاد الله تعالى عليهم فسلّط عليهم الرومان سنة 135 بعد الميلاد فاحتلوا بلادهم وشرّدوهم في الأرض.

أسبابه كان بوعد من الله تعالى منجزاً فوفاه لهم، لأنه قضاه وأعلمهم به قي كتابهم. وقوله: {ثم رددنا لكم الكرة عليهم} أي بعد سنين طويلة وبنو إسرائيل مضطهدون مشردون نبتت منهم نابتة وطالبت بأن يعين لهم ملكاً يقودهم إلى الجهاد وكان ذلك كما تقدم في سورة البقرة جاهدوا وقتل داود جالوت وهذا معنى {ثم رددنا لكم الكرة عليهم} وقوله: {وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً} أي رجالاً في الحروب وكثرت أموالهم وأولادهم وتكونت لهم دولة سادت العالم على عهد داود وسليمان عليهما السلام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان إفضال الله تعالى على الأمتين الإسلامية والإسرائيلية.
!- بيان سر إنزال الكتب وهو هداية الناس عبادة الله تعالى وتوحيده فيها.
3- وجوب شكر الله تعالى على نعمه إذ كان نوح عليه السلام إذا أكل الأكلة قال الحمد لله، وإذا شرب الشربة قال الحمد لله، وإذا لبس حذاءه قال الحمد لله وإذا قضى حاجة قال الحمد لله فسمي عبداً شكوراً وكذا كان رسول الله والصالحون من أمته إلى اليوم.
4- ما قضاه الله تعالى كائن، وما وعد به ناجز، والإيمان بذلك واجب.
5- التنديد بالإفساد والظلم والعلو في الأرض، وبيان سوء عاقبتها.
إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا(7) عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا(8)

شرح الكلمات:
إن أحسنتم: أي طاعة الله وطاعة رسوله بالإخلاص فيها وبأدائها على الوجه المشروع لها.
أحسنتم لأنفسكم : أي أن الأجر والمثوبة والجزاء الحسن يعود عليكم لا على غيركم.
وإن أسأتم: أي في الطاعة فإلى أنفسكم سوء عاقبة الإساءة.
وعد الآخرة: أي المرة الآخرة المقابلة للأولى وقد تقدمت.
ليسوءوا وجوهكم : أي يقبحوها بالكرب واسوداد الحزن وهم الذل.
وليدخلوا المسجد : أي بيت المقدس.
وليتبروا ما علو تتبيرا : أي وليدمروا ما غلبوا عليه من ديار بني إسرائيل تدميراً.
وإن عدتم عدنا : أي وإن رجعتم إلى الفساد والمعاصي عدنا بالتسليط عليكم.
حصيراً: أي محبساً وسجناً وفراشاً يجلسون عليها فهي من فوقهم ومن تحتهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن بني إسرائيل فبعد أن أخبرهم تعالى بما حكم به عليهم في كتابهم أنهم يفسدون في الأرض مرتين ويعلون علواً كبيراً. وأنه إذا جاء ميقات أولى المرتين بعث عليهم عباداً أشداء أقوياء وهم جالوت وجنوده فقتلوهم وسبوهم، أنه تعالى رد لهم الكرة عليهم فانتصروا عليهم وقتل داود جالوت وتكونت لهم دولة عظيمة كانت أكثر الدول رجالاً واوسعها سلطاناً وذلك لرجوعهم إلى الله تعالى بتطبيق كتابه والتزام شرائعه وهناك قال تعالى لهم: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} أي إن أحسنتم بإتباع الحق والتزام الطاعة لله ورسوله بفعل المأمورات واجتناب المنهيات والأخذ بسنن الله تعالى في الإصلاح البشري وإن أسأتم تعطيل الشريعة والانغماس في الملاذ والشهوات فإن نتائج ذلك عائدة على أنفسكم حسب سنة الله تعالى: {من يعمل سوءاً يجزيه ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً} وقوله تعالى: {فإذا جاء وعد الأخرة} أي وقتها المعين لها، وهي المرة الآخرة بعد الأولى بعث أيضاً عليهم عباداً له وهم بختنصّر وجنوده بعثهم عليهم ليسودوا وجوههم بما يصيبونهم به من الهم والحزن والمهانة والذل {وليدخلوا المسجد} أي بيت المقدس كما دخلوه أول مرة {وليتبروا} أي يدمروا ما علوا أي ما غلبوا عليه من ديارهم {تتبيرا} أي تدميراً كاملاً وتحطيماً تاماً وحصل لهم هذا لما قتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام وكثيراً من العلماء وبعد أن ظهر فيهم الفسق وفي نسائهم التبرج والفجور واتخاذ الكعب العالي. كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله تعالى: {عسى ربكم أن1 نرحمكم} فهذا خير عظيم لهم لو طلبوه بصدق لفازوا به ولكنهم أعرضوا عنه وعاشوا على التمرد على الشرع والعصيان لله ورسله. وقوله وإن عدتم عدنا أي وإن عدتم إلى الفسق والفجور عدنا بتسليط من نشاء من عبادنا فأنجزهم الله تعالى ما وعدهم فسلط عليهم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فأجلى بني قينقاع وبني النضير من المدينة وقتل بني قريضة كما سلط عليهم ملوك أروبا فطاردوهم وساموهم الخسف وأذاقوهم سؤ العذاب في قرون طويلة وقوله تعالى: {وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً2} أي إن كان عذاب الدنيا بالتسلط على الظالمين وسلبهم حريتهم وإذاقتهم عذاب القتل والأسر والتشريد فإن عذاب الآخرة هو الحبس والسجن في جهنم تكون حصيراً للكافرين لا يخرجون منها للكافرين أي الذين يكفرون شرائع الله ونعمه عليهم بتعطيل الأحكام وتضييع الفرائض وإهمال السنن والانغماس في الملاذ والشهوات.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- صدق وعد الله تعالى.
2- تقرير نبوة النبي صلى الله عليه وسلم إذ مثل هذه الأنباء لا يقصها إلا نبي يوحى إليه.
3- تقرير قاعدة {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها}.
4- وجوب الرجاء في الله وهو انتظار الفرج والخير منه وإن طال الزمن.
5- قد يجمع الله تعالى للكافرين بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، وكذا الفاسقون من المؤمنين.
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا(9) وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(10) وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً(11)
__________
1 تقدم أن الله تعالى أنجز لهم وعده في قوله {عسى ربكم أن يرحمكم} وأنه رحمهم فصلحوا واستقاموا، وأعادوا بناء دولتهم وسعدوا فيها زمناً ثم عادوا إلى الفسق والفجور فعاد تعالى عليهم فسلط الرومان فتقلوهم وشردوهم وذلك سنة 135 بعد الميلاد، ومن يومئذ انتهى ملك اليهود، واستمرت أورشليم تحت يد الرومان إلى الفتح الإسلامي حيث فتحت على يد عمر رضي الله عنه سنة 16 صالحاً مع أهلها وهي تسمى يومئذ (إلياء).
2 الحصير المكان الذي يحصر فيه فلا يستطاع الخروج منه ففعيل (حصير) إمَّا أن يكون بمعنى فاعل أي: حاصر أو بمعنى مفعول أي: محصور فيه، وفسّر في التفسير بالسجن وهو كذلك إذ السجن يحصر مَنْ فيه فلا يقدر على الخروج منه.

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً(12)
شرح الكلمات:
للتي هي أقوم: أي للطريقة التي هي أعدل وأصوب.
أن لهم أجراً كبيراً: إنه الجنة دار السلام.
أعتدنا لهم عذاباً أليما: انه عذاب النار يوم القيامة.
ويدع الإنسان بالشر : أي على نفسه وأهله إذا هو ضجر وغضب.
وكان الإنسان عجولا: أي سريع التأثر بما يخطر على باله فلا يتروى ولا يتأمل.
آيتين: أي علامتين دالتين على وجود الله وقدرته وعلمه ورحمته وحكمته.
فمحونا آية الليل : أي طمسنا نورها بالظلام الذي يعقب غياب الشمس.
مبصرة: أي يبصر الإنسان بها أي بسبب ضوء النهار فيها.
عدد السنين والحساب: . أي عدد السنين وانقضائها وابتداء دخولها وحساب ساعات النهار والليل وأوقاتها كالأيام والأسابيع والشهور.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أن هذا القران الكريم1 الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذي أسرى به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى يهدي بما فيه من الدلائل والحجج والشرائع والمواعظ للطريقة والسبيل التي هي أقوم2 أي أعدل واقصد من سائر الطرق والسبيل إنها الدين القيم الإسلام سبيل السعادة والكمال في الدارين، {ويبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي ويبشر القران الذين آمنوا بالله ورسوله ولقاء الله ووعده ووعيده وعملوا الصالحات وهي الفرائض والنوافل بعد تركهم الكبائر والمعاصي بأن لهم أجراً كبيراً ألا وهو الجنة، كما يخبر الذين لا يؤمنون بالآخرة أن الله تعالى
__________
1 قوله: {هذا القرآن} الإشارة بهذا إلى القرآن الحاضر بين أيدي الناس المحفوظ في الصدور المكتوب في السطور، وفي الإشارة إليه تنويه بشأنه وعلو مقامه بين الكتب الإلهية.
2 {أقوم} اسم تفضيل من القويم، وأقوم: صفة لمحذوف وهو الطريق أي: الطريق التي هي أقوم من هدي كتاب بني إسرائيل إذ قال فيه: {وجعلناه هدى لبني إسرائيل} فالقرآن أكثر هداية إلى السبيل الأقوم من التوراة.

أعد أي هيا لهم عذاباً أليمًا في جهنم.
وقوله تعالى {ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير1} يخبر تعالى عن الإنسان في ضعفه وقلة إدراكه لعواقب الأمور من أنه !ذا ضجر أو غضب يدعو على نفسه وأهله بالشر غير مفكر في عاقبة دعائه لو استجاب الله تعالى له. يدعو بالشر دعاءه بالخير أي كدعائه بالخير، وقوله: {وكان الإنسان عجولا2} أي كثير العجلة يستعجل في الأمور كلها هذا طبعه ما لم يتأدب بآداب القرآن ويتخلق بأخلاقه فإن هو استقام على منهج القرآن تبدل طبعه وأصبح ذا توأدة وحلم وصبر وأناة، وقوله تعالى: {وجعلنا الليل والنهار آيتين} أي علامتين على وجودنا وقدرتنا وعلمنا وحكمتنا، وقوله {فمحونا3 آية الليل} أي بطمس نورها، وجعلنا آية النهار مبصرة أي مضيئة وبين علة ذلك بقوله: {لتبتغوا فضلا من ربكم} أي لتطلبوا رزقكم بالسعي والكسب في النهار. هذا من جهة ومن جهة أخرى {لتعلموا عدد السنين والحساب} أي عدد السنين وانقضائها وابتداء دخولها وحساب ساعات النهار والليل وأوقاتها كالأيام والأسابيع والشهور. لتوقف مصالحكم الدينية4 والدنيوية على ذلك. وقوله تعالى : {وكل شيء فصلناه تفصيلا} أي وكل شيء يحتاج إليه في كمال الإنسان وسعادته بيناه تبييناً أي في هذا الكتاب الذي يهدي للتي هي أقوم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان فضل القرآن الكريم، بهدايته إلى الإسلام الذي هو سبيل السعادة للإنسان.
2- الوعد والوعيد بشارة المؤمنين العاملين للصالحات، ونذارة الكافرين باليوم الآخر.
3- بيان طبع الإنسان قبل تهذيبه بالآداب القرآنية والأخلاق النبوية.
4- كون الليل والنهار آيتين على الله تعالى وتقرران علمه وقدرته وتدبيره.
5- مشروعية علم الحساب وتعلمه.
__________
1 قال ابن عباس وغيره: هو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما يحب ألا يستجاب له: اللهم أهلكهم ونحوه. وحذفت الواو من {يدعُ} كما حذفت من {سندع الزبانية} و {يمح الله الباطل}: لأنه لا ينطق بها لأصلها الساكن.
2 روي أن آدم عليه السلام لما نفخ الله تعالى فيه الروح فانتهت الروح إلى سرّته نظر إلى جسده فذهب لينهض فلم يقدر فذلك قوله تعالى: {وكان الإنسان عجولا} قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومن مظاهر عجلة الإنسان انه يؤثر العاجل وإن قل على الآجل وإن كثر.
3 قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتادة رحمه الله: المراد بالمحو: اللطخة السوداء في القمر ليكون ضوء القمر أقلّ من ضوء الشمس فيتميّز الليل من النهار وما في التفسير أولى أي: جعل الله الليل مظلماً، والنهار مضيئاً لما يترتب على ذلك من مصالح العباد.
4 كمعرفة أوقات الصلاة، وشهر الصيام، والحج، وما إلى ذلك من آجال الديون ونحوها كالعِدد للنساء.

وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا(13) اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا(14) مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً(15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا(16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا(17)
شرح الكلمات:
طائره: أي عمله وما قدر له من سعادة وشقاء.
في عنقه : أي ملازم له لا يفارقه حتى يفرغ منه.
عليك حسيبا: أي كفى نفسك حاسباً عليك.
ولا تزر وازرة وزر أخرى: أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى.
مترفيها: منعميها من أغنياء ورؤساء.
فحق عليها القول : أي بالعذاب.
وكم أهلكنا: أي أهلكنا كثيراً.
من القرون : أي من أهل القرون السابقة.
خبيرا بصيرا : أي عليماً بصيراً بذنوب العباد.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أنه عز وجل لعظيم قدرته، وسعة علمه، وحكمته في تدبيره ألزم كل إنسان ما قضى به له من عمل وما يترتب على العمل من سعادة أو شقاء في الدارين، الزمه ذلك بحيث لا يخالفه ولا

يتأخر عنه بحال حتى كأنه مربوط بعنقه. هذا معنى قوله تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره1 في عنقه}. وقوله تعالى: {ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً2} أي وفي يوم القيامة يخرج الله تعالى لكل إنسان كتاب عمله فيلقاه منشوراً أي مفتوحاً أمامه. ويقال له: إقرأ كتابك الذي أحصى لك عملك كله فلم يغادر منه صغيرة ولا كبيرة. وقوله {كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} أي يكفيك نفسك حاسباً لأعمالك محصياً لها عليك أيها الإنسان. وقوله تعالى: {من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه} ، أي بعد هذا الإعلام والبيان ينبغي أن يعلم أن من اهتدى اليوم فآمن بالله ورسوله، ولقاء الله، ووعده ووعيده وعمل صالحاً وتخلّى عن الشرك والمعاصي فإنما عائد ذلك له، هو الذي ينجو من العذاب، ويسعد في دار السعادة، وان من ضل طريق الهدى فكذب ولم يؤمن، وأشرك ولم يوحِّد، وعصى ولم يطع فإن ذلك الضلال عائد عليه، هو الذي يشقى به ويعذب في جهنم دار العذاب والشقاء. وقوله {ولا تزر وازرة وزر3 أخرى} الوزر الإثم والذنب والوازرة الحاملة له لتؤخذ به ومعنى الكلام ولا تحمل يوم القيامة نفس آثمة إثم نفس أخرى، بل كل نفس تتحمل مسئوليتها بنفسها4، والكلام تقرير لقوله: {من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها}. وقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا5} أي لم يكن من شأن الله تعالى وهو العدل الرحيم أن يهلك أمة بعذاب إبادة واستئصال قبل أن يبعث فيها رسولاً يعرفها بربها وبمحابه ومساخطه، ويأمرها بفعل المحاب وترك المساخط التي هي الشرك والمعاصي. وقوله تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية} أي أهل قرية {أمرنا مترفيها} أي أمرنا منعميها من أغنياء ورؤساء وأشراف من أهل الحل والعقد أمرناهم بطاعتنا بإقامة الشرع وأداء الفرائض والسنن واجتناب كبائر الإثم والفواحش فلم يستجيبوا للأمر ولا النهي وهو معنى {ففسقوا6 فيها فحق عليها القول} أي وجب عليها العذاب {فدمرناها تدميراً} أي أهلكناها إهلاكاً كاملاً، وهذا الكلام بيان لقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث
__________
1 قال الزجّاج ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة للعنق، وقال ابن عباس طائره: عمله وما قدّر عليه من خير وشر وهو ملازمه أينما كان.
2 قالوا في علة: نشره أنه تعجيل للبشرى بالحسنات والتوبيخ بالسيئات.
3 قيل في هذه الآية {ولا تزر وازرة...} نزلت في الوليد بن المغيرة إذ قال لأهل مكة اتبعوني واكفروا بمحمد وعليَّ أوزاركم. وإن لم تنزل فيه فهي شاملة لكل من يقول بقوله تضليلاً وباطلاً.
4 استدلت عائشة رضي الله عنها بهذه الآية على بطلان حديث ابن عمر إذ قال: إنّ الميّت يعذّب ببكاء أهله، وردّ اعتراضها بأنّ الميت إذا أوصى بالبكاء كان ذلك من وزره لا من وزر غيره، وقد كانوا يوصون بذلك، قال طرفة بن العبد:
إذا مت فأتبعيني بما أنا أهله
وشُقّي عَلَيَّ الجيب يا بنت معبد
ومن الجائز أن يعذّب وإن لم يوص، إذا هو أهمل تأديب أهله.
5 أول المعتزلة الرسول (رسولا) بالعقل، وقالوا: العقل يحسن ويقبح ويبيح ويحظر، وهو تأويل باطل لا يتفق مع اللغة ولا مع الشرع.
6 شاهده حديث زينب في الصحيح: "أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم إذا كثر الخبث".

رسولا} إذ الرسول يأمر وينهى بإذن الله تعالى فإن لم يُطَعْ استوجب الناس العذاب فعذبوا. وقوله تعالى : {وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح} هو تقرير لهذا الحكم أيضاً إذ علمنا تعالى أن ما أخبر به كان واقعاً بالفعل فكثيراً من الأمم أهلكها من بعد هلاك قوم نوح كعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وآل فرعون.. وقوله: {وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً}: فإن القول وإن تضمَّن علم الله تعالى بذنوب عباده فإن معناه الوعيد الشديد والتهديد الأكيد، فإنه تعالى لا يرضى باستمرار الجرائم والآثام إنه يمهل لعل القوم يستفيقون، لعل الفساق يكفون، ثم إذا استمروا بعد الإعلام إليهم والتنديد بذنوبهم والتخويف بظلمهم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. ألا فليحذر ذلك المصرون على الشرك والمعاصي!!
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة القضاء والقدر.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
3- تقرير العدالة1 الإلهية يوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً.
4- بيان سنة الله تعالى في إهلاك الأمم غير أنها لا تهلك إلا بعد الإنذار والإعذار إليها.
5- التحذير من كثرة التنعم والترف فإنه يؤدي إلى الفسق بترك الطاعة ثم يؤدي الفسق إلى الهلاك والدمار.
مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا(18) وَمَنْ أَرَادَ
__________
1 تجلّت عدالة الله تبارك وتعالى في أنه عز وجل لا يعذِّب أمة من الأمم عذاب إبادة واستئصال إلا بعد أن يبعث إليها رسوله ينذرها ويبشرها، فإذا أصرّت على الكفر والتكذيب عذّبها. ومنا يرد موضوع أهل الفترة بين الرسل فهل يعذبون ولم تبلغهم دعوة الله أولا يعذبون فيكون حالهم أحسن ممن جاءتهم الرسل؟ والجواب على هذا الإشكال هو: فيما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وصح: " أن أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصمّ لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة فأمّا الأصم فيقول يا رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً، وأمّا الأحمق فيقول ربّ قد جاء الصبيان يقذفونني بالبعر، وأما الهرم فيقول: ربّ قد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، وأمّا الذي مات في الفترة فيقول: ربّ ما أتاني لك رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن: ادخلوا النار فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً. ومن لم يدخلها يسحب إليها" فظاهر الحديث أن من كان من أهل الجنة يطيع يوم القيامة ويدخل النار ثم لا يعذّب بها ويدخل الجنة، ومن كان من أهل النار يعصى يوم القيامة ويدخل النار يخلد فيها، والطاعة والعصيان في هذا الامتحان دالان على حال أهلهما في الدنيا لو توفرت لهم شروط التكليف التي هي: البلوغ، والعقل، والسمع، والبصر، وبلوغ الدعوة. فأولاد المشركين يدخلون ضمن هؤلاء الأربعة أيضاً.

الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا(19) كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا(20) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً(21) لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً(22)
شرح الكلمات
العاجلة : أي الدنيا لسرعة انقضائها.
يصلاها مذموما مدحورا: أي يدخلها ملوما مبعداً من الجنة.
وسعى لها سعيها : أي عمل لها العمل المطلوب لدخولها وهو الإيمان والعمل الصالح.
كان سعيهم مشكوراً: أي عملهم مقبولاً مثاباً عليه من قبل الله تعالى.
كلا نمد هؤلاء وهؤلاء : أي كل فريق من الفريقين نعطي.
وما كان عطاء ربك محظورا : أي لم يكن عطاء الله في الدنيا محظوراً أي ممنوعا عن أحد.
كيف فضلنا بعضهم على بعض : أي في الرزق والجاه.
لا تجعل مع الله إلها آخر: أي لا تعبد مع الله تعالى غيره من سائر المعبودات الباطلة.
فتقعد ملوماً مخذولاً : أي فتصير مذموماً من الملائكة والمؤمنين مخذولاً من الله تعالى.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في أخبار الله تعالى الصادقة والمتضمنة لأنواع من الهدايات الإلهية التي لا يحرمها إلا هالك، فقال تعالى في الآية الأولى (18) {من كان يريد العاجلة} أي الدنيا {عجلنا له فيها ما نشاء}، لا ما يشاؤه العبد، وقوله {لمن نريد} لا من يريد غيرنا فالأمر كله لنا، {ثم} بعد ذلك {جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً} أي ملوماً {مدحوراً1} أي مطروداً من رحمتنا التي هي الجنة دار الأبرار أي المطيعين الصادقين. وقوله تعالى في الآية الثانية (19) {ومن أراد الآخرة} يخبر
__________
1 قال القرطبي: {مذموماً مدحوراً} أي: مطروداً مبعداً من رحمة الله، وهذه صفة المنافقين الفاسقين والمرائين والمدّاحين يلبسون الإسلام والطاعة لينالوا عاجل الدنيا من الغنائم وغيرها، فلا يقبل ذلك العمل منهم في الآخرة ولا يعطون في الدنيا إلاّ ما قُسم لهم.

تعالى أن من أراد الآخرة أي سعادة الآخرة {وسعى لها سعيها} أي عمل، لها عملها اللائق بها وهو الإيمان الصحيح والعمل الصالح الموافق لما شرع الله في كتابه وعلى لسان رسوله، واجتنب الشرك والمعاصي وقوله {وهو مؤمن} قيد في صحة العمل الصالح أي لا يقبل من العبد صلاة ولا جهاد إلا بعد إيمانه بالله وبرسوله وبكل ما جاء به رسوله وأخبر به من الغيب.
وقوله {فأولئك} أي المذكورون بالإيمان والعمل الصالح {كان سعيهم مشكوراً1} أي كان عملهم متقبلاً يثابون عليه بالجنة ورضوان الله تعالى. وقوله تعالى: {كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا} إي أن كلا من مريدي الدنيا ومريدي الآخرة يمد الله هؤلاء وهؤلاء من عطائه أي فضله الواسع فالكل يأكل ويشرب ويكتسي بحسب ما قدر له من الضيق والوسع ثم يموت وثَمَّ يقع التفاضل بحسب السعي الفاسد أو الصالح وقوله {وما كان عطاء ربك محظورا2} يعني أن من أراد الله إعطاءه شيئاً لا يمكن لأحد أن يصرفه منه ويحرمه منه بحال من الأحوال وقوله تعالى: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} أي انظر يا رسولنا ومن يفهم خطابنا كيف فضلنا بعض الناس على بعض في الرزق الذي شمل الصحة والعافية والمال والذرية والجاه، فإذا عرفت هذا فاعرف أن الآخرة أكبر درجات3 وأكبر تفضيلا وذلك عائد إلى فضل الله أولا ثم إلى الكسب صلاحاً وفساداً وكثرة وقِلًَّةً كما هي الحال أيضاً في الدنيا فبقدر كسب الإنسان الصالح للدنيا يحصل عليها ولو كان كافراً لقوله تعالى من سورة هود4 {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون} أي لا ينقصون ثمرات عملهم لكونهم كفاراً مشركين.
وقوله تعالى: {لا تجعل مع5 الله إلهاً آخر} أي لا تجعل يا رسولنا مع الله إلها آخر تؤمن به وتعبده وتقرر إلهيته دوننا فإنك إن فعلت- وحاشاه أن يفعل لأن الله لا يريد له ذلك {فتقعد في جهنم مذموماً} أي ملوماً يلومك المؤمنون والملائكة مخذولاً من قبل ربك لا ناصر لك والسياق وإن كان في خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم فإن المراد به كل إنسان فالله تعالى ينهى عبده أن يعبد معه غيره فيترتب على ذلك شقاؤه والعياذ بالله تعالى.
__________
1 وجائز أن يكون مضاعفاً أي تضاعف لهم الحسنات إلى عشر إلى سبعين إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، فقد قيل لأبي هريرة، أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألف ألف حسنة؟ قال: سمعته يقول: "إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة".
2 لفظ الحظر لغة: المنع، محظوراً أي ممنوعاً يقال: حظره كذا يحظره حظراً وحظاراً: إذا حبسه عنه ومنعه منه.
3 ورد أن أهل الجنة يتفاوتون في درجاتهم إذ الجنة مائة درجة، ما بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض، وفي الصحيح: "أن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء".
4 آية 15.
5 الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به أمّته.

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- كلا الدارين السعادة فيها أو الشقاء متوقف على الكسب والعمل هذه سنة الله تعالى في العباد.
2- سعى الدنيا التجارة والفلاحة والصناعة.
3- سعى الآخرة الإيمان وصالح الأعمال والتخلية عن الشرك والمعاصي.
4- يعطي الله تعالى الدنيا من يحب ومن لا يحب وعطاؤه قائم على سنن له في الحياة يجب معرفتها والعمل بمقتضاها لمن أراد الدنيا والآخرة.
5- ما أعطاه الله لا يمنعه أحد فوجب التوكل على الله والإعراض عما سواه.
6- تحريم الشرك والوعيد عليه بالخلود في نار جهنم.
وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا(23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا(24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا(25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا(26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا(27)
شرح الكلمات:
وقضى ربك : أي أمر وأوصى.
وبالوالدين إحساناً : أي وأن تحسنوا بالوالدين إحساناً وذلك ببرورهما.
فلا تقل لهما أف : أي تباً أو قبحاً أو خسراناً.

ولا تنهرهما: أي ولا تزجرهما بالكلمة القاسية.
قولاً كريما: جميلاً ليناً.
جناح الذل: أي ألن لهما جانبك وتواضع لهما.
كان للأوابين: أي الرجاعين إلى الطاعة بعد المعصية.
وآت ذا القربى: أي أعط أصحاب القرابات حقوقهم من البر والصلة.
ولا تبذر تبذيرا: أي ولا تنفق المال في غير طاعة الله ورسوله.
لربه كفورا: أي كثير الكفر كَبِيرَهُ لنعم ربه تعالى، فكذلك المبذر أخوه.
معنى الآيات:
لما حرم الله تعالى الشرك ونهى عنه رسوله بقوله {ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولا} أمر بالتوحيد فقال: {وقضى1 ربك} أي حكم وأمر ووصى {ألا تعبدوا إلا إياه} أي بأن لا تعبدوا إلا الله عز وجل، وقوله تعالى: {وبالوالدين إحسانا2} أي وأوصى بالوالدين وهما الأم والأب إحساناً وهو برهما وذلك بإيصال الخير إليهما وكف الأذى عنهما، وطاعتهما في3 غير معصية الله تعالى. وقوله تعالى: {إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما4} أي إن يبلغ سن الكبر عندك واحد منهما الأب أو الأم أو يكبران معاً وأنت حي موجود بينهما في هذه الحال يجب أن تخدمهما خدمتهما لك وأنت طفل فتغسل بولهما وتطهر نجاستهما وتقدم لهما ما يحتاجان إليه ولا تتضجّر أو تتأفف من خدمتهما كما كانا هما يفعلان ذلك معك وأنت طفل تبول وتخرأ وهما يغسلان وينظفان ولا يتضجران أو يتأففان، وقوله: {ولا تنهرهما} أي لا تزجرهما بالكلمة العالية النابية {وقل لهما قولاً كريماً5} أي جميلاً سهلا لينا يشعران معه بالكرامة والإكرام لهما وقوله تعالى: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة6} أي ألن لهما وتطامن وتعطف عليهما وترحم. وادع لهما طوال
__________
1 فعل قضي يكون لمعان عدّة منها قضى بمعنى: أمركما هنا، وقضى بمعنى: فرغ كقوله تعالى: {فإذا قضيتم مناسككم} أي فرغتم منها، ويكون بمعنى حكم نحو: {فاقض ما أنت قاض} وبمعنى العهد نحو: {إذ قضينا إلى موسى الأمر} ويكون بمعنى الخلق نحو: {فقضاهن سبع سموات} أي: خلقهن.
2 هذه الآية نص في برّ الوالدين وحرمة عقوقهما، وشاهد ذلك من السنة قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن أحب الأعمال إلى الله تعالى فقال: "بر الوالدين" وقال: "إن من الكبائر شتم الرجل والديه. قالوا: وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسبّ الرجل أبا الرجل فيسبّ أباه ويسبّ أمّه فيسبّ أمّه".
3 من شواهد الطاعة أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كانت تحتي امرأة أحبّها وكان أبي يكرهها فأمرني أن أطلقها فأبيت، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عبدالله بن عمر طلّق امرأتك" وللأم ثلاثة أرباع الطاعة وللأب الربع لحديث الصحيح: رواه الترمذي وصححه: "من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: أمّك قال: ثم من قال أمّك. قال: ثم من قال:أمّك. قال: ثم قال: أبوك".
4 أي: لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرّم وعدم رضا، وأف: اسم فعل كصَه ومَهْ منوّن وفيه لغات.
5 الكريم من كل شيء أرفعه في نوعه.
6 ال: في الرحمة نابت عن المضاف، إذ التقدير: من رحمتك إياهما.

حياتك بالمغفرة والرحمة إن كانا موحدين وماتا على ذلك لقوله تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى} وهو معنى قوله تعالى: {وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً}، وقوله تعالى: {ربكم أعلم بما في نفوسكم ان تكونوا صالحين1 فإنه كان للأوابين غفوراً}.
يخبر تعالى بأنه أعلم بنا من أنفسنا فمن كان يضمر عدم الرضا عن والديه والسخط عليهما فالله يعلمه منه، ومن كان يضمر حبهما واحترامهما والرضا بهما وعنهما فالله تعالى يعلمه ويجزيه به فالمحسن يجزيه بالإحسان والمسيء يجزيه بالإساءة، وقوله: {إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين2 غفوراً} بحكم ضعف الإنسان فإنه قد يضمر مرة السوء لوالديه أو تبدر منه البادرة السيئة من قول أو عمل وهو صالح مؤدٍ لحقوق الله تعالى وحقوق والديه وحقوق الناس فهذا العبد الصالح يخبر تعالى أنه غفور له متى آب إلى الله تعالى مستغفراً مما صدر منه نادماً عليه.
وقوله تعالى: {وآت ذا القربى3 حقه والمسكين وابن السبيل} هذا أمر الله للعبد المؤمن بإيتاء قرابته حقوقهم من البر والصلة وكذا المساكين وهم الفقراء الذي مسكنتهم الفاقة وأذلهم الفقر فهؤلاء أمر تعالى المؤمن بإعطائهم حقهم من الإحسان إليهم بالكساء أو الغذاء والكلمة الطيبة، وكذا ابن السبيل وهو المسافر يعطي حقه من الضيافة والمساعدة على سفره إن احتاج إلى ذلك مع تأمينه وإرشاده إلى طريقه. وقوله تعالى {ولا تبذر4 تبذيرا} أي ولا تنفق مالك ولا تفرقه في غير طاعة الله تعالى. وقوله {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} لأنهم بتبذيرهم المال في المعاصي كانوا عصاة لله فاسقين عن أمره وهذه حال الشياطين فتشابهوا فكانوا إخواناً، وقوله إن الشيطان كان لربه كفوراً لأنه عصى الله تعالى وكفر نعمه عليه ولم يشكره بطاعته فالمبذر للمال في المعاصي فسق عن أمر ربه ولم يشكر نعمه عليه فهو إذاً شيطان فهل يرضى عبد الله المسلم أن يكون شيطانا؟
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب عبادة الله تعالى وحده ووجوب بر الوالدين، وهو الإحسان بهما، وكف الأذى عنهما، وطاعتهما في المعروف.
__________
1 {صالحين}: أي: مؤدين لحقوق الله تعالى وافية وحقوق عباده كذلك.
2 الأوّاب: الذي كلما أذنب تاب. والأوّاب، الحفيظ: الذي كلما ذكر ذنبه استغفر ربّه. وصلاة الأوّابين: صلاة الضحى حين ترمض الفصلان أي تحترق أخفافها من الرمضاء فتبرك من شدة الحر.
3 هم قرابة المرء من قبل أبيه وأمّه معاً. قاله ابن عباس والحسن.
4 قال مجاهد: لو أنفق ماله كله في حق ما كان مبذرا، ولو أنفق مُداً في غير حق كان مبذراً.

2-وجوب الدعاء للوالدين بالمغفرة والرحمة. 1
3- وجوب مراقبة الله تعالى وعدم إضمار أي سوء في النفس.
4- من كان صالحاً وبدرت منه البادرة وتاب منها فإن الله يغفر له ذلك.
5- وجوب إعطاء ذوي القربى حقوقهم من البر والصلة، وكذا المساكين وابن السبيل.
6- حرمة التبذير وحقيقته إنفاق المال في المعاصي والمحرمات.
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا(28) وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا(29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا(30) وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا(31) وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً(32) وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا(33)
شرح الكلمات:
وإما تعرضن عنهم: أي عن المذكورين من ذي القربى والمساكين وابن السبيل فلم تعطهم شيئاً.
ابتغاء رحمة من ربك ترجوها : أي طلباً لرزق ترجو من الله تعالى.
__________
1 روى أبو داود وغيره أن رجلا من الأنصار جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله: "هل بقي من برّ والدي من بعد موتهما شيء أبرهما به؟ قال: نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلاّ من قِبلهما فهذا الذي بقي عليك" وفي الصحيح عن ابن عمر قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنّ من أبرّ البِرّ صلة الرجل أهل ودّ أبيه بعد أن يولي".

قولا ميسوراً : أي ليناً سهلاً بأن تعدهم بالعطاء عند وجود الرزق.
مغلولة إلى عنقك: أي لا تمسك عن النفقة كأن يدك مربوطة إلى عنقك فلا تستطيع أن تعطي شيئاً.
ولا تبسطها كل البسط : أي ولا تنفق كل ما بيدك ولم تبق شيئاً.
فتقعد ملوما: أي يلومك من حرمتهم من الإنفاق.
محسورا: أي منقطعا عن سيرك في الحياة إذ لم تبق لك شيئاً.
و يبسط الرزق ويقدر : أي يوسعه، ويقدر أي يضيقه امتحانا وابتلاء.
خشية إملاق : أي خوف الفقر وشدته.
خطئاً كبيراً: أي إثماً عظيماً.
فاحشة وساء سبيلاً : أي خصلة قبيحة شديدة القبح،، وسبيلا بئس السبيل.
لوليه سلطان: أي لوارثه تسلطاً على القاتل.
فلا يسرف في القتل : أي لا يقتل غير القاتل.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في وصايا الرب تبارك تعالى والتي هي حكم أوحاها الله تعالى إلى رسوله للاهتداء بها، والكمال والإسعاد عليها. فقوله تعالى: {وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولاً ميسوراً} أي إن أعرضت عن قرابتك أو عن مسكين سألك أو ابن سبيل احتاج إليك ولم تجد ما تعطيهم فأعرضت عنهم بوجهك أيها الرسول {فقل لهم قولاً ميسوراً1} أي سهلا ليناً وهو العدة الحسنة كقولك إن رزقني الله سأعطيك أو عما قريب سيحصل لي كذا وأعطيك وما أشبه ذلك من الوعد الحسن، فيكون ذلك عطاء منك عاجلاً لهم يسرون به، ولا يحزنون. وقوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} أي لا تبخل بما آتاك الله فتمنع ذوي الحقوق حقوقهم كأن يدك مشدودة إلى عنقك فلا تستطيع أن تنفق، وقوله: {ولا تبسطها كل البسط} أي تفتح يديك بالعطاء فتخرج كل ما بجيبك أو خزانتك فلا تبق شيئاً لك ولأهلك. وقوله: {فتقعد ملوماً محسوراً} أي إن أنت أمسكت ولم تنفق لامك سائلوك إذ لم تعطهم، وإن أنت أنفقت كل
__________
1 روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل وليس عنده ما يعطي سكت انتظاراً للرّزق يأتي من الله تعالى كراهة الردّ فنزلت هذه الآية. فكان صلى الله عليه وسلم: إذا سئل وليس عنده ما يعطى قال: "يرزقنا الله وإياكم من فضله" فالرحمة في الآية: الرزق المنتظر ولقد أحسن مَنْ قال:
إلاّ تكن ورِق يوماً أجود بها
للسائلين فإني ليّن العودِ
لا يعدم السائلون الخير من خلقي
إمّا نوالي وإمّا حسن مردودي

شيء عندك انقطعت بك الحياة ولم تجد ما تواصل به سيرك في بقية عمرك فتكون كالبعير الذي أعياه السير فانقطع عنه وترك محسوراً في الطريق لا يستطيع صاحبه رده إلى أهله، ولا مواصلة السير عليه إلى وجهته. وقوله: {إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء} أي يوسع على من يشاء امتحاناً له أيشكر أم يكفر ويقدر لمن يشاء أي يضيق على من يشاء ابتلاء له أيصبر أم يضجر ويسخط، {إنه كان بعباده خبيراً بصيراً} فلذا هو يوسع ويضيق بحسب علمه وحكمته، إذ من عباده من لا يصلحه إلا السعة، ومنهم من لا يصلحه إلا الضيق، وقوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} أي ومما حكم به وقضى ووصى {ألا تقتلوا أولادكم} أي أطفالكم1 {خشية إملاق} أي مخافة الفاقة والفقر، إذ كان العرب يئدون البنات خشية العار ويقتلون الأولاد الذكور كالإناث مخافة الفقر فأوصى تعالى بمنع ذلك وقال متعهداً متكفلاً برزق الأولاد وآبائهم فقال: {نحن نرزقهم وإياكم} وأخبر تعالى أن قتل الأولاد {كان خطئاً2 كبيراً} أي إثماً عظيماً فكيف يقدم عليه المؤمن؟.
وقوله: {ولا تقربوا3 الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً4} أي ومن جملة ما حكم به ووصى أن لا تقربوا أيها المؤمنون الزنا مجرد قرب منه قبل فعله، لأن الزنا كان في حكم الله فاحشة أي خصلة قبيحة شديدة القبح ممجوجة طبعاً وعقلاً وشرعاً، وساء طريق هذه الفاحشة سبيلاً أي بئس الطريق الموصل إلى الزنا طريقا للآثار السيئة والنتائج المدمرة التي تترتب عليه أولها أذية المؤمنين في أعراضهم وآخرها جهنم والاصطلاء بحرها والبقاء فيها أحقاباً طويلة. وقوله: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} أي ومما حكم تعالى به وأوصى أن لا تقتلوا أيها المؤمنون النفس التي حرم الله أي قتلها إلا بالحق، وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحق الذي تقتل به نفس المؤمن وهو واحدة من ثلاث: القتل العمد العدوان، الزنا بعد الاحصان، الكفر بعد الإيمان. وقوله: {ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً5} أي من قتل له قتيل ظلماً وعدواناً أي غير خطأ فقد أعطاه تعالى سلطة كاملة على قاتل وليه إن شاء قتله وإن شاء أخذ دية منه، وإن شاء عفا عنه لوجه الله تعالى: وقوله: {فلا يسرف6 في القتل إنه كان منصوراً7} أي لا يحل لولي الدم أي لمن قتل له
__________
1 الإملاق: الفقر، وعدم الملك، يقال: أملق الرجل: إذا لم يبق له إلا الملقات، وهي الحجارة العظام المُلس.
2 يقال: خطىء يخطأ خطئاً، وخطأ: إذا أذنب. وأخطأ يُخطىء: خطأً إذا سلك سبيل خطإٍ عمداً.
3 قالت العلماء: قول: {ولا تقربوا الزنى}: أبلغ من قول: ولا تزنوا، فإن معناه لا تدنوا من الزنى والزنى يمدّ ويقصر لغتان.
4 قبح سبيلا إي: طريقاً لأنه يؤدي إلى النار.
5 الولي: هو المستحق الدّم رجلاً كان أو امرأة، والسلطان معناه التسليط فهو إن شاء قتل وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية.
6 أي: فلا يقتل غير قاتله، ولا يمثّل بالقتيل، ولا يقتل بالواحد اثنين أو أكثر ولا بالعبد الحر.
7 جملة: إنه كان منصورا: تعليلية أي: علّة للنهي عن الإسراف في القتل.

قتيل أن يسرف في القتل فيقتل بدل الواحد أكثر من واحد أو بدل المرأة رجلا. أو يقتل غير القاتل، وذلك أن الله تعالى أعطاه سلطة تمكنه من قتل قاتله فلا يجوز أن يقتل غير قاتله كما كانوا في الجاهلية يفعلون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- العدة الحسنة تقوم مقام الصدقة لمن لم يجد ما يتصدق به على من سأله.
2- حرمة البخل، والإسراف معاً وفضيلة الاعتدال والقصد.
3- تجلى حكمة الله تعالى في التوسعة على أناس، والتضييق على آخرين.
4- حرمة قتل الأولاد بعد الولادة أو إجهاضاً قبلها خوفا من الفقر أو العار.
5- حرمة مقدمات الزنا كالنظر بشهوة والكلام مع الأجنبية ومسها وحرمة الزنا وهو أشد.
6- حرمة قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق والحق قتل عمد عدواناً، وزناً بعد إحصان، وكفر بعد إيمان1.
وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً(34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً(35) وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً(36) وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً(37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا(38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا(39)
__________
1 لحديث الصحيحين: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزاني المحصن والتارك لدينه المفارق للجماعة" وفي السنن: "لزوال الدنيا عند الله أهون من قتل مسلم".

شرح الكلمات:
إلا بالتي هي أحسن : أي ألا بالخصلة التي هي أحسن من غيرها وهي تنميته والإنفاق عليه منه بالمعروف.
حتى يبلغ أشده: أي بلوغه سن التكليف وهو عاقل رشيد.
وأوفوا بالعهد: أي إذا عاهدتم الله أو العباد فأوفوا بما عاهدتم عليه.
إن العهد كان مسئولا : أي عنه وذلك بأن يسأل العبد يوم القيامة لم نكثت عهدك؟
أوفوا الكيل: أي اتموه ولا تنقصوه.
بالقسطاس المستقيم: أي الميزان السوي المعتدل.
وأحسن تأويلاً: أي مآلاً وعاقبة.
ولا تقف: أي ولا تتبع.
والفؤاد: أي القلب.
كان عنه مسئولاً : أي عن كل واحد من هذه الحواس الثلاث يوم القيامة.
مرحاً: أي ذا مرح بالكبر والخيلاء.
لن تخرق الأرض : أي لن تثقبها أو تشقها بقدميك.
من الحكمة: أي التي هي معرفة المحاب لله تعالى للتقرب بها إليها ومعرفة المساخط لتتجنبها تقربا إليه تعالى بذلك.
ملوما مدحوراً: أي تلوم نفسك على شركك بربك مبعداً من رحمة الله تعالى.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في بيان ما قضى به الله تعالى على عباده المؤمنين ووصاهم به فقال تعالى: {ولا تقربوا} أي أيها المؤمنون {مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} أي بالفعلة التي هي أجمل وذلك بأن تتصرفوا فيه بالتثمير له والإصلاح فيه، والإنفاق منه على اليتيم بالمعروف أما أن تقربوه لتأكلوه إسرافاً وبداراً فلالا. وقوله: حتى يبلغ أشده أي حتى يبلغ سن الرشد فتحاسبوه وتعطوه ماله يتصرف فيه حسب المشروع من التصرفات المالية. وقوله تعالى: {وأوفوا بالعهد1} أي ومما أوصاكم به أن توفوا بعهودكم التي بينكم وبين ربكم وبينكم وبين سائر الناس مؤمنهم وكافرهم فلا يحل لكم أن لا توفوا بالعهد وأنتم قادرون على الوفاء بحال من الأحوال. وقوله: {إن العهد كان مسئولاً2} تأكيد للنهي عن نكث العهد إذ أخبر تعالى أن العبد
__________
1 التعريف في "العهد" للجنس ليشمل سائر العهود.
2 الجملة تعليلية علل بها الأمر بالوفاء بالعهود، وحذف متعلق مسئولا لظهوره: وهو عنه أي مسئولا عنه.

سيسأل عن عهده الذي لم يف به يوم القيامة، ومثل العهد سائر العقود من نكاح وبيع وإيجار وما إلى ذلك لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} أي العهود، وقوله: {وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس1 المستقيم} هذا مما أمر الله تعالى وهو إيفاء الكيل والوزن أي توفيتهما وعدم بخسهما ونقصهما شيئاً ولو يسيراً ما دام في الإمكان عدم نقصه، أما ما يعسر التحرز منه فهو من العفو لقوله تعالى: {لا نكلف نفساً إلا وسعها}. وقوله {ذلك خير وأحسن تأويلا} أي ذلك الوفاء والتوفية في الكيل والوزن خير لبراءة الذمة وطيب النفس به وأحسن تأويلا أي عاقبة إذ يبارك الله تعالى في ذلك المال بأنواع من البركات لا يعلمها إلا هو عز وجل. ومن ذلك أجر الآخرة وهو خير فإن من ترك المعصية وهو قادر عليها أثابه الله تعالى على ذلك بأحسن ثواب. وقوله تعالى: {ولا تقف2 ما ليس لك به3 علم} أي لا تتبع بقول ولا عمل ما لا تعلم، ولا تقل رأيت كذا وأنت لم تر، ولا سمعت كذا وأنت لم تسمع. وقوله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد} أي القلب {كل أولئك كان عنه4 مسئولاً} أي لا تقف ما ليس لك به علم، لأن الله تعالى سائل هذه الأعضاء يوم القيامة عما قال صاحبها أو عمل فتشهد عليه بما قال أو عمل مما لا يحل له القول فيه أو العمل. ومعنى أولئك أي تلك المذكورات من السمع والبصر والفؤاد. وقوله تعالى: {ولا تمش في الأرض مرحاً} أي خيلاء وتكبراً أي مما حرم تعالى وأوصى بعدم فعله المشي في الأرض مرحاً أي تكبراً واختيالاً، لأن الكبر حرام وصاحبه لا يدخل الجنة، وقوله {إنك لن تخرق الأرض} أي برجليك أيها المتكبر لأن المتكبر يضرب الأرض برجليه اعتزازاً واهتزازاً، ولن تبلغ الجبال طولا مهما تعاليت وتطاولت فإنك كغيرك من الناس لا تخرق الأرض أي تثقبها أو تقطعها برجليك ولا تبلغ علو الجبال فلذا أترك مشية الخيلاء والتكبر، لأن ذلك معيب ومنقصة ولا يأتيه إلا ذو حماقة وسفه. وقوله تعالى: {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً} أي كل ذلك المأمور به
__________
1 القسطاس بضم القاف قراءة الجمهور وبكسرها قراءة حفص وهو اسم للميزان أي آلة الوزن، واسم للعدل أيضاً وقيل هو معرب من الرومية مركب من قسط أي عدل وطاس وهو كفة الميزان والأصل ضم القاف وكسره العرب لأنه أعجمي وهم يقولون أعجمي العب به ما شئت.
2 القفو: الاتباع يقال قفاه يقفوه إذا اتبعه وهو مشتق من القفا وهو وراء العنق.
3 بهذه الحكمة وهي ولا تقف ما ليس لك به علم: وضع حد لكثير من المفاسد التي كانت تقع لسبب القول بدون علم منها: الطعن في الأنساب لمجرد ظن. ومنها القذف بالفاحشة. ومنها الكذب، ومنها شهادة الزور إلى غير ذلك من الأضرار التي تتم بسبب القول بالظن وبدون علم.
4 كل أولئك: المفروض أن يقال: كلها ولكن عدل إلى أولئك لأهمية تلك الحواس ونظير هذا في كلام العرب قول الشاعر:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى
والعيش بعد أولئك الأيام

والمنهي عنه من قوله تعالى: {وقضى ربك} إلى قوله {كل ذلك كان سيئه1 عند ربك مكروها} سيئة كالتبذير والبخل وقتل الأولاد والزنا وقتل النفس وأكل مال اليتيم، وبخس الكيل والوزن، والقول بلا علم كالقذف وشهادة الزور، والتكبر كل هذا الشيء مكروه عند الله تعالى إذا فلا تفعله يا عبد الله وما كان من حسن فيه كعبادة الله تعالى وحده وبر الوالدين والإحسان إلى ذوي القربى والمساكين وابن السبيل والعدة الحسنة فكل هذا الحسن هو عند ألله حسن فأته يا عبد الله ولا تتركه ومن قرأ كنافع كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها فإنه يريد ما اشتملت عليه الآيات من التبذير والبخل وقتل النفس إلى آخر المنهيات.
وقوله تعالى: {ذلك2 مما أوحى إليك ربك من الحكمة} أي ذلك الذي بيَّنَّا لك يا رسولنا من الأخلاق الفاضلة والخلال الحميدة التي أمرناك بالأخذ بها والدعوة إلى التمسك بها، ومن الخلال القبيحة والخصال الذميمة التي نهيناك عن فعلها وحرمنا عليك إتيانها مما أوحينا إليك في كتابنا هذا من أنواع الحكم وضروب العلم والمعرفة، فلله الحمد وله المنة.
وقوله: {ولا تجعل3 مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً4} هذه أم الحكم بدأ بها السياق وختمه بها تقريراً وتأكيداً إذ تقدم قوله تعالى: {ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً}. والخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كل أحد معني به فأي إنسان يشرك بربه أحداً من خلقه في عبادته فقد جعله إلهاً مع الله، ولابد أن يلقى في جهنم ملوماً من نفسه مدحوراً مبعداً من رحمة ربه التي هي الجنة. وهذا إذا مات قبل أن يتوب فيوحد ربه في عباداته. إذ التوبة إذا صحت جَبَّت ما قبلها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة مال اليتيم أكلا أو إفساداً أو تضييعاً وإهمالاً.
2- وجوب الوفاء بالعهود وسائر العقود.
!- وجوب توفية الكيل والوزن وحرمة بخس الكيل والوزن.
__________
1 قرأ الجمهور: سيئة، وقرأ حفص: سيئه، والسيئة ضد الحسنة.
2 الإشارة إلى ما تقدم، والجملة مذيّل بها الكلام تنبيها على ما اشتملت عليه الآيات السبع عشرة من الحكمة تحريضاً على إتباع ما فيها وانه خير عظيم كما فيها الامتنان على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أمته بهذه الحكم والمعارف النافعة في الدنيا والآخرة.
3 هذه الجملة معطوفة على مثيلاتها المتضمنة للنهي عن كبائر الذنوب وهي مؤكدة لمضمون جملة: {وقضى ربك ألاّ تعبدوا إلاّ إياه}.
4 المدحور: هو المطرود من رحمة الله المغضوب عليه من الله تعالى.

4- حصول البركة لمن يمتثل أمر الله في كيله ووزنه.
5- حرمة القول أو العمل بدون علم لما يُقْضِي إليه ذلك من المفاسد ولأن الله تعالى سائل كل الجوارح ومستشهدها على صاحبها يوم القيامة.
6- حرمة الكبر ومقت المتكبرين.
7- انتظام هذا السياق لخمس وعشرين حكمة الأخذ بها خير من الدنيا وما فيها، والتفريط فيها هو سبب خسران الدنيا والآخرة.
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا(40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا(41) قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً(42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا(43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا(44)
شرح الكلمات:
أفأصفاكم: الاستفهام للتوبيخ والتقريع ومعنى أصفاكم خصكم بالبنين واختارهم لكم.
ولقد صرفنا في هذا القرآن: أي بينا فيه من الوعد والوعيد والأمثال والعظات والأحكام والعبر.
ليذكروا : أي ليذكروا فيتعظوا فيؤمنوا ويطيعوا.
لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا: أي لَطَلَبوا طريقا إلى الله تعالى للتقرب إليه وطلب المنزلة عنده.
ومن فيهن: أي في السموات من الملائكة والأرض من إنسان وجان وحيوان.

وإن من شيء إلا يسبح : أي وما من شيء إلا يسبح بحمده من سائر المخلوقات.
حليما غفوراً : حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على معصيتكم إياه وعدم طاعتكم له.
معنى الآيات:
يقول تعالى مقرعاً موبخاً المشركين الذين يئدون البنات ويكرهونهنّ ثم هم يجعلون الملائكة إناثاً {أفأصفاكم ربكم1 بالبنين} أي أخصكم بالبنين {واتخذ من الملائكة إناثاً إنكم لتقولون قولا عظيماً} أيها المشركون إذ تجعلون لله ما تكرهون افترءً وكذباً على الله تعالى، وقوله تعالى: {ولقد صرفنا2 في هذا القرآن} أي من الحجج والبينات والأمثال والمواعظ الشيء الكثير من أجل أن يُذّكروا فيذكروا ويتعظوا فيُنيبوا إلى ربهم فيوحدونه وينزهونه عن الشريك والولد، ولكن ما يزيدهم القرآن وما فيه من البينات والهدى إلا نفوراً وبعداً عن الحق. وذلك لغلبة التقليد عليهم، والعناد والمكابرة والمجاحدة. وقوله تعالى: {قل لو كان معه آلهة كما تقولون} أي قل يا نبينا لهؤلاء المشركين المتخذين لله أنداداً يزعمون أنها آلهة مع الله قل لهم لو كان مع الله آلهة كما تقولون وإن كان الواقع يكذبكم إذ ليس هناك آلهة مع الله ولكن على فرض أنه لو كان مع ا لله آلهة {لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً} أي لطلبوا طريقاً إلى ذي العرش سبحانه وتعالى يلتمسون فيها رضاه ويطلبون القرب منه والزلفى إليه لجلاله وكماله، وغناه وحاجتهم وافتقارهم3 إليه. ثم نزه سبحانه وتعالى نفسه أن يكون معه آلهة فقال {سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً}. وقوله: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن4} فأخبر تعالى منزهاً نفسه مقدّساً ذاته عن الشبيه والشريك والولد والعجز، فأخبر أنه لعظمته وكماله تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن بكلمة: سبحان الله وبحمده {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} كما أخبر أنه ما من شيء من المخلوقات إلا ويسبح بحمده
__________
1 الجملة متفرعة عن جملة: {ولا تجعل مع الله إلهاً آخر} وهي متضمنة للإنكار على المشركين في تسميتهم الملائكة إناثاً ونسبتهم إلى الله تعالى إذ قالوا: الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك، كما هي متضمنة توييخ المشركين على سوء فهمهم وقبيح قولهم بدليل قوله: {انكم لتقولون قولاً عظيماً}.
2 من الجائز أن تكون (في) مزيدة، والقرآن: معمول لصرّفنا، إذ التصريف: صرف الشيء من جهة إلى جهة، والمراد به هنا: البيان والتكرير والانتقال من حكمة إلى حكمة ومن عبرة إلى موعظة.
3 روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "لطلبوا مع الله منازعة وقتالاً كما تفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض، وقال سعيد بن جبير المعنى: إذاً لطلبوا طريقاً إلى الوصول إليه ليزيلوا ملكه لأنهم شركاؤه، وما قاله ابن عباس كالذي قاله سعيد جائز لكن ما ذهبنا إليه في التفسير أولى وألصق بمعنى الآيات والسياق.
4 من الملائكة والجنّ والإنس.

بلسان قَالِهِ وحَالِه1 معاً فيقول سبحان الله وبحمده وقوله: {ولكن لا تفقهون تسبيحهم2} لاختلاف الألسنة واللغات. وقوله إن كان أي {الله حليماً}: أي لا يعاجل بالعقوبة من عصاه {غفوراً} يغفر ذنوب وزلات من تاب إليه وأناب طالباً مغفرته ورضاه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة القول على الله تعالى بالباطل ونسبة النقص إليه تعالى كاتخاذه ولداً أو شريكاً.
2- مشروعية الاستدلال بالعقليات، على إحقاق الحق وإبطال الباطل.
3- فضيلة التسبيح وهو قول: سبحان الله وبحمده حتى إن من قالها مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت في الكثرة مثل زبد البحر.
4- كل المخلوقات في العوالم كلها تسبح الله تعالى أي تنزهه كن الشريك والولد والنقص والعجز ومشابهة الحوادث إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
5- حلم الله يتجلى في عدم تعجيل عقوبة من عصاه ولولا حلمه لعجل عقوبة مشركي مكة وأكابر مجرميها. ولكن الله أمهلهم حتى تاب أكثرهم.
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا(45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا(46) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا(47) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً(48)
__________
1 المراد من لسان الحال: هو تسبيح الدلالة، إذ كل محدث شاهد على أن الله خالق قادر، ولا مانع من أن يسبّح كل شيء من إنسان وحيوانات ونبات وجماد والجن والملائكة إلا ذرية إبليس فإنهم لا يسبّحون بلسان القال ولكن بلسان الحال.
2 قوله: {لا تفقهون تسبيحهم} دليل على أن تسبيح كل شيء بلسان قاله ويؤيد هذا تسبيح الطعام، وسلام الحجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدل من هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يسمع صوت مؤذن من جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر ولا شيء إلاّ شهد له يوم القيامة".

شرح الكلمات:
حجابا مستورا : أي ساتراً لهم فلا يسمعون كلام الله تعالى.
وجعلنا على قلوبهم أكنة: أي أغطية على القلوب فلا تعي ولا تفهم.
وفي آذانهم وقراً: أي ثقلاً فلا يسمعون القرآن ومواعظه.
ولو على أدبارهم نفوراً: أي فراراً من السماع حتى لا يسمعوا.
بما يستمعون به: أي بسببه وهو الهزء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وإذ هم نجوى: أي يتناجون بينهم يتحدثون سراً.
رجلا مسحوراً: أي مغلوياً على عقله مخدوعاً.
ضربوا لك الأمثال : أي قالوا ساحر، وقالوا كاهن وقالوا شاعر.
فضلوا: أي عن الهدى فلا يستطيعون سبيلاً.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {وإذا قرأت القرآن}1 يخبر تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أنه إذا قرأ القرآن على المشركين ليدعوهم به إلى الله تعالى ليؤمنوا به ويعبدوه وحده جعل الله تعالى بينه وبين المشركين حجاباً2 ساتراً، أو مستوراً لا يُرى وهو حقاً حائل بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يسمعوا القرآن الذي يقرأ عليهم فلا ينتفعون به. وهذا الحجاب ناتج عن شدة بغضهم للرسول صلى الله عليه وسلم وكراهيتهم لدعوته فهم لذلك لا يرونه ولا يسمعون قراءته. وقوله تعالى: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن3 يفقهوه} جمع كنان وهو الغطاء حتى لا يصل المعنى المقروء من الآيات إلى قلوبهم فيفقهوه، وقوله: {وفي آذانهم وقراً} أي وجعل تعالى في آذان أولئك المشركين الخصوم ثقلاً في آذانهم فلا يسمعون القرآن الذي يتلى عليهم، وهذا كله من الحجاب الساتر والأكنة، والوقر في الآذان عقوبة من الله تعالى لهم حرمهم بها من الهداية بالقرآن لسابقة الشر لهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين ببغضهم للرسول وما جاء به وحربهم له ولما جاء به من التوحيد والدين الحق، وقوله
__________
1 روي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنها قالت: لما نزلت (سورة تبّت يدا أبي لهب) أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها (حجر ملء الكف) وهي تقول مذمّما عصينا وأمره أبينا، ودينه قلينا، والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد ومعه أبو بكر قال: يا رسول الله: لقد أقبلت وأنا أخاف أن تراك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها لن تراني فقرأ صلى الله عليه وسلم قرآنا، فوقفت على أبي بكر ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت لأبي بكر بلغني أنّ صاحبك هجاني قال لا ورب هذا البيت ما هجاك فولّت.
2 ساتراً أي: للرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يراه من أراده بسوء، ومستوراً أي: الحجاب لا يراه المشركون وهو موجود فعلاً، ولكن لا يُرى.
3 أن يفقهوه أي: لئلا يفقهوه أو كراهية أن يفقهوه.

تعالى: {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده} بأن قلت لا إله إلا الله1، أو ما أفهم معنى2 لا إله إلا الله ولى المشركون على أدبارهم3 نفوراً من سماع التوحيد لحبهم الوثنية وتعلق قلوبهم بالشرك. وقوله تعالى {نحن أعلم بما يستمعون به} يقول تعالى لرسوله نحن أعلم بما يستمع به المشركون أي بسبب أنهم يستمعون من أجل الاستهزاء بك والسخرية منك ومما تتلوه لا أنهم يستمعون للعلم والمعرفة ولطلب الحق والاهتداء إليه. وقوله: {إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى} أي يناجي بعضهم بعضا {إذ يقول الظالمون4} أي المشركون {إن تتبعون} أي لا تتبعون {إلا رجلاً مسحوراً} أي مخدوعاً مغلوباً على أمره، فكيف تتبعونه إذاً؟.
وقوله تعالى : {انظر كيف5 ضربوا لك الأمثال} أي انظر يا رسولنا كيف ضرب لك هؤلاء المشركون المعاندون الأمثال فقالوا عنك: ساحر، وشاعر، وكاهن ومجنون فضلوا في طريقهم {فلا يهتدون سبيلا} إنهم عاجزون عن الخروج من حيرتهم هذه التي أوقعهم فيها كفرهم وعنادهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير قاعدة حبك الشيء يعمى ويصم: فإن الحجاب المذكور في الآية وكذا الأكنة والثقل في الآذان هذه كلها حالت دون سماع القرآن من أجل بغضهم للرسول صلى الله عليه وسلم وللقرآن وما جاء به عن الدعوة إلى التوحيد.
2- بيان مدى كراهية المشركين للتوحيد وكلمة الإخلاص لا إله إلا الله.
3- بيان مدى ما كان عليه المشركون من السخرية والاستهزاء بالرسول والقرآن.
4- بيان اتهامات المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم بالسحر مرة والكهانة ثانية والجنون ثالثة بحثاً عن الخلاص من دعوة التوحيد فلم يعثروا على شيء كما قال تعالى: {فضلوا فلا يستطيعون سبيلا}.
__________
1 أي: وأنت تقرأ القرآن.
2 أي: دلّ على معنى لا إله إلا الله.
3 يجوز أن يكون نفور جمع نافر كشهود جمع شاهد، ويجوز أن يكون مصدراً من نفر نفوراً أي: نفروا نفوراً.
4 قولهم هذا وهم يتناجون يقولون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً أي: مطبوباً قد خبله السحر فاختلط عليه أمره. يقولون هذا حتى ينفروا الناس عنه ولا يتبعوه.
5 عجّبه من صنعهم كيف يقولون تارة ساحر وتارة مجنون وأخرى شاعر فضلّوا فلا يستطيعون سبيلا يرجعون معه من حيرتهم أو يتمكنون به من صدّ الناس عنك وصرفهم عن دعوتك.

وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا(49) قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا(50) أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا(51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً(52)
شرح الكلمات :
وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتاً : الاستفهام للإنكسار الاستبعاد والرُّفات الأجزاء المتفرقة.
مما يكبر في صدوركم : أي يعظم عن قبول الحياة في اعتقادكم.
فطركم: خلقكم.
فسينغضون : أي يحركون رؤوسهم تعجباً.
متى هو؟ : الاستفهام للاستهزاء أي متى هذا البعث الذي تعدنا.
يوم يدعوكم: أي يناديكم من قبوركم على لسان إسرافيل.
فتستجيبون: أي تجيبون دعوته قائلين سبحانك اللهم وبحمدك.
وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً: وتظنون أنكم ما لبثتم في قبوركم إلا قليلا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير العقيدة ففي الآيات قبل هذه كان تقرير التوحيد والوحي وفي هذه الآيات تقرير البعث والجزاء الآخر ففي الآية (47) يخبر تعالى عن إنكار المشركين للبعث واستبعادهم له بقوله: {وقالوا1 أئذا كنا عظاماً ورفاتاً2} أي أجزاء متفرقة كالحطام {أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً3} وفي الآية الثانية (48) يأمر تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم
__________
1 هذا من قولهم الذي قالوا وهم يسمعون القرآن، ويتناجون بينهم فيقولون كذا وكذا.
2 الرفات: ما تكسّر ويَلي من كل شيء كالفتات، والحطام والرّضاض يقال: رُفِت الشيء رفتا أي: حطم والاستفهام إنكاري.
3 الاستفهام للاستهزاء مع الجحد والإنكار، و {خلقاً}: منصوب على الحال من ضمير {لمبعوثون}.

كونوا ما شئتم فإن الله تعالى قادر على إحيائكم وبعثكم للحساب والجزاء وهو قوله تعالى: قل كونوا حجارة أو حديداً1 أو خلقا مما يكبر في2 صدوركم أي مما يعظم في نفوسكم أن يقبل الحياة كالموت3 مثلا فإن الله تعالى سيحييكم ويبعثكم. وقوله تعالى: فسيقولون من يعيدنا؟ يخبر تعالى رسوله أن منكري البعث سيقولون له مستبعدين البعث: من يعيدنا وعلمه الجواب فقال له قل الذي فطركم أي خلقكم أول مرة وهو جواب مسكت فالذي خلقكم ثم أماتكم هو الذي يعيدكم كما بدأكم وهو أهون عليه. وقوله تعالى {فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو} يخبر تعالى رسوله بما سيقوله منكروا البعث له فيقول تعالى {فسينغضون} أي يحركون إليك رؤوسهم خفضاً ورفعاً استهزاء ويقولون: {متى هو؟} أي متى البعث أي في أي يوم هو كائن. وقوله تعالى: { قل عسى أن يكون قريباً} علمه تعالى كيف يجيب المكذبين. وقوله {يوم يدعوكم فتستجيبون4 بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً} أي يكون بعثكم الذي تنكرونه يوم يدعوكم بأمر الله تعالى إسرافيل من قبوركم فتستجيبون أي فتجيبونه بحمد5 الله {وتظنون إن لبثتم} أي لبثتم إلا قليلاً أي ما لبثتم في قبوركم إلا قليلا6 من اللبث وذلك لما تعاينون من الأهوال وتشاهدون من الأحوال المفزعة المرعبة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء وبيان حتميتها.
2- بيان ما كان عليه المشركون من شدة إنكارهم للبعث الآخر.
3- تعليم الله تعالى لرسوله كيف يجيب المنكرين المستهزئين بالتي هي أحسن.
4- بيان الأسلوب الحواري الهادي الخالي من الغلظة والشدة.
__________
1 الحديد: تراب معدني لا يوجد إلا في مغاور الأرض، وهو تراب غليظ وأصنافه ثمانية وأشهر أنواعه الأحمر وهو صنفان، ذكر وأنثى.
2 قال مجاهد: يعني السموات والأرض والجبال لعظمها في النفوس.
3 لأنّ الموت لا شيء أكبر منه في نفوس بني آدم، قال أمية بن الصلت:
وللّموت خلق في النفوس فظيع
وخلقاً بمعنى مخلوق،، ومن يكبر في صدوركم صفة له.
4 روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "انكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم".
5 قال سعيد بن جبير يخرج الكفار من قبورهم وهم يقولون: سبحانك وبحمدك.
6 وقيل: هذا ما بين النفختين، وذلك أنّ العذاب يكفّ عن المعذّبين بين النفختين وذلك أربعين عاماً فينامون فإذا نفخ النفخة الثانية قالوا: من بعثنا من مرقدنا وظنّوا أنهم ما لبثوا إلاّ قليلا.

5- استقصار مدة اللبث في القبور مع طولها لما يشاهد من أهوال البعث.
وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا(53) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً(54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا(55)
شرح الكلمات:
التي هي أحسن: أي الكلمة التي هي أحسن من غيرها للطفها وحسنها.
ينزغ : أي يفسد بينهم1.
عدواً مبيناً : أي بيّن العداوة ظاهرها.
ربكم أعلم بكم: هذه هي الكلمة التي هي أحسن.
وما أرسلناك عليهم وكيلا: أي فيلزمك إجبارهم على الإيمان.
فضلنا بعض النبيين : أي بتخصيص كل منهم بفضائل أو فضيلة خاصة به.
وآتينا داود زبورا : أي كتابا هو الزبور هذا نوع من التفضيل.
معنى الآيات:
مازال السياق في طلب هداية أهل مكة، من طريق الحوار والمجادلة وحدث أن بعض المؤمنين واجه بعض الكافرين أثناء الجدال بغلظة لفظ كان توعده بعذاب النار فأثار ذلك حفائظ المشركين فأمر تعالى رسوله أن يقول للمؤمنين إذا خاطبوا المشركين أن لا يغلظوا لهم القول فقال تعالى: {وقل لعبادي2} أي المؤمنين {يقولوا التي هي أحسن} من الكلمات لتجد طريقاً إلى قلوب الكافرين، وعلل لذلك تعالى فقال {إن الشيطان ينزغ بينهم} بالوسواس فيفسد العلائق التي
__________
1 روي أن الآية نزلت في عمر بن الخطاب وذلك أن رجلاً من العرب شتمه وسبه عمر وهم بقتله فكادت تثير فتنة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فلذا الآية دعوة عامة لإحسان القول في أثناء دعوة الناس وهدايتهم.
2 أي بالكلمات التي هي أحسن.

كان في الامكان التوصل بها إلى هداية الضالين، وذلك أن الشيطان كان ومازال للإنسان عدواً مبيناً أي بين العداوة ظاهرها فهو لا يريد للكافر أن يسلم، ولا يريد للمسلم أن يؤجر ويثاب في دعوته. وقوله تعالى: {ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم} فيتوب عليكم فتسلموا. {أو إن يشأ يعذبكم} بأن يترككم تموتون على شرككم فتدخلوا النار. مثل هذا الكلام ينبغي أن يقول المؤمنون للكافرين لا أن يصدروا الحكم عليهم بأنهم أهل النار والمخلدون فيها فيزعج ذلك المشركين فيتمادوا في العناد والمكابرة. وقوله تعالى: {وما أرسلناك عليهم1 وكيلا}. يقول تعالى لرسوله إنا لم نرسلك رقيبا عليهم فتجبرهم على الإسلام وإنما أرسلناك مبلغا دعوتنا إليهم بالأسلوب الحسن وهدايتهم إلينا، وفي هذا تعليم للمؤمنين كيف يدعون الكافرين إلى الإسلام. وقوله تعالى: {وربك أعلم بمن في السموات والأرض} يخبر تعالى رسوله والمؤمنين ضمناً أنه تعالى أعلم بمن في السموات والأرض فضلا عن هؤلاء المشركين فهو أعلم بما يصلحهم وأعلم بما كتب لهم أو عليهم من سعادة أو شقاء، وأسباب ذلك من الإيمان أو الكفر، وعليه فلا تحزنوا على تكذيبهم ولا تيأسوا من إيمانهم، ولا تتكلفوا ما لا تطيقون في هدايتهم فقولوا التي هي أحسن واتركوا أمر هدايتهم لله تعالى هو ربهم وأعلم بهم وقوله تعالى: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبوراً2}، يخبر تعالى عن انعامه بين عباده فالذي فاضل بين النبيين وهم أكمل الخلق وأصفاهم فهذا فضله بالخلة كإبراهيم وهذا بالتكليم كموسى، وهذا بالكتاب الحافل بالتسابيح والمحامد والعبر والمواعظ كداود، وأنت يا محمد بمغفرته لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وبإرسالك إلى الناس كافة إلى غير ذلك من الإفضالات وإذا تجلت هذه الحقيقة لكم وعرفتم أن الله أعلم بمن يستحق الهداية وبمن يستحق الضلالة، وكذا الرحمة والعذاب ففوضوا الأمر إليه، وادعوا عباده برفق ولين وبالتي هي أحسن من غيرها من الكلمات.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- النهي عن الكلمة الخشنة المسيئة إلى المدعو إلى الإسلام.
__________
1 الرقيب والحفيظ والوكيل والكفيل كلها بمعنى واحد في هذا السياق ومن إطلاق الوكيل وإرادة الرقيب قول الشاعر:
ذكرت أبا أروى فبتّ كأنني
برد الأمور الماضيات وكيل
2 الزبور: كتاب ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود لعدم الحاجة إلى ذلك لوجود التوراة بينهم، وإنما هو دعاء وتحميد وتمجيد والآية صالحة لحجاج اليهود منكري نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم.

2- بيان أن الشيطان يسعى للإفساد دائماً فلا يمكن من ذلك بالكلمات المثيرة للغضب والحاملة على اللجج والخصومة الشديدة.
3- بيان نوع الكلمة التي هي أحسن مثل {ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم وإن يشأ يعذبكم}.
4- بيان أن الله تعالى أعلم بخلقه فهو يهب كل عبد ما أهله له حتى إنه فاضل بين أنبيائه ورسله عليهم السلام في الكمالات الروحية والدرجات العالية.
قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً(56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا(57) وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا(58) وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا(59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا(60)
شرح الكلمات:
فلا يملكون : أي لا يستطيعون.
كشف الضر: أي إزالته بشفاء المريض.
ولا تحويلا : أي للمرض من شخص مريض إلى آخر صحيح ليمرض به.

يدعون : أي ينادونهم طالبين منهم أو متوسلين بهم.
يبتغون إلى ربهم الوسيلة: أي يطلبون القرب منه بالطاعات وأنواع القربات.
كان محذورا : أي يحذره المؤمنون ويحترسون منه بترك معاصي الله تعالى.
في الكتاب مسطورا : أي في كتاب المقادير الذي هو اللوح المحفوظ مكتوبا.
أن نرسل بالآيات : أي بالآيات التي طلبها أهل مكة كتحويل الصفا إلى جبل ذهب. أو إزالة جبال مكة لتكون أرضاً زراعية وإجراء العيون فيها.
إلا ان كذب بها الأولون : إذ طالب قوم صالح بالآية ولما جاءتهم كفروا بها فأهلكهم الله تعالى.
الناقة مبصرة: أي وأعطينا ثمود قوم صالح الناقة آية مبصرة واضحة بينة.
فظلموا بها: أي كفروا بها وكذبوا فأهلكهم الله تعالى.
إلا تخويفا: إلا من أجل تخويف العباد بأنا إذا أعطيناهم الآيات ولم يؤمنوا أهلكناهم.
أحاط بالناس : أي قدرة وعلما فهم في قبضته وتحت سلطانه فلا تخفهم.
وما جعلنا الرؤيا1 : هي ما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج من عجائب خلق الله تعالى.
والشجرة الملعونة2 : هي شجرة الزقوم الوارد لفظها في الصافات والدخان.
ونخوفهم : بعذابنا في الدنيا بالإهلاك والإبادة وفي الآخرة بالزقوم والعذاب الأليم.
فما يزيدهم: أي التخويف إلا طغيناناً وكفراً.
معنى الآيات:
مازال السياق في تقرير التوحيد فيقول تعالى لرسوله قل يا محمد صلى الله عليه وسلم لأولئك المشركين أدعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله سبحانه وتعالى فإنهم لا يملكون أن يكشفوا الضر عن مريض ولا يستطيعون تحويله عنه إلى آخر عدو له يريد أن يمسه الضر لأنهم أصنام وتماثيل لا يسمعون
__________
1 لفظ الرؤيا يطلق في لب على الرؤيا في المنام، ويطلق على رؤية العين كما في هذه الآية رواية صحيحة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفي البخاري والترمذي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا..} الخ قال هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس.
2 قيل فيها ملعونة جرياً على عادة العرب في كل طعام مكروه يقولون فيه ملعون، وجائز أن يكون المراد باللعن لعن آكلها أي: الشجرة الملعون آكلها.

ولا يبصرون فضلا عن أن يستجيبوا دعاء من دعاهم لكشف ضر أو تحويله إلى غيره، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (54) {قل أدعوا1 الذين زعمتم من دونه، فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا}.
وقوله تعالى: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته} {ويخافون عذابه}. يخبرهم تعالى بأن أولئك الذين يعبدونهم من الجن2 أو الملائكة أو الأنبياء أو الصالحين هم أنفسهم يدعون ربهم ويتوسلون للحصول على رضاه. بشتى أنواع الطاعات والقربات فالذي يَعْبُدُ لا يُعْبَد، والذي يتقرب إلى الله بالطاعات لا يتقرب إليه وإنما يتقرب إلى من هو يتقرب إليه ليحظى بالمنزلة عنده، وقوله {يرجون رحمته ويخافون3 عذابه}، أي أن أولئك الذين يدعوهم الجهال من الناس ويطلبون منهم قضاء حاجاتهم هم أنفسهم يطلبون الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه. لأن عذابه تعالى كان وما زال يحذره العقلاء، لأنه شديد لا يطاق. فكيف يُدعى ويرجى ويخاف من هو يدعو ويرجو ويخاف لو كان المشركون يعقلون.
وقوله تعالى: {وإن من قرية} أي مدينة من المدن {إلا نحن مهلكوها} أي بعذاب إبادة قبل يوم القيامة، {أو معذبوها عذاباً شديداً} بمرض أو قحط أو خوف من عدو {كان ذلك في الكتاب مسطورا} أي مكتوباً في اللوح المحفوظ، فلذا لا يستعجل أهل مكة العذاب فإنه إن كان قد كتب عليهم فإنه نازل بهم لا محالة وإن لم يكن قد كتب عليهم فلا معنى لاستعجاله فإنه غير واقع بهم وهم مرجون للتوبة أو لعذاب يوم القيامة وقوله تعالى: {وما منعنا4 أن نرسل بالآيات} أي بالمعجزات وخوارق العادات {إلا أن كذب بها} أي بالمعجزات الأولون من الأمم فأهلكناهم5 بتكذيبهم بها، فلو أرسلنا نبينا محمداً بمثل تلك الآيات وكذبت بها قريش
__________
1 قيل: إنه لما ابتليت قريش بالقحط، وشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الله تعالى هذه الآية أي: ادعوا الذين تعبدون من دون الله وزعمتم أنهم آلهة لكم.
2 روى مسلم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه في قول الله تعالى: {أولئك الذين يدعون} قال: نفر من الجنّ أسلموا، وكانوا يُعْبَدون فبقي الذين كانوا يعبدونهم على عبادتهم وقد أسلم النفر من الجنّ، وفي رواية قال: أنزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجنّ فأسلم الجنيّون، والذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون أي: بإسلامهم فبقوا يعبدونهم.
3 في الآية الجمع بين الخوف والرجاء وهما كجناحي الطائر إن انكسر أحدهما لم يطر بالأخر،. ولذا فلابد للمؤمن منهما فالخوف يحمل على أداء الفرائض واجتناب المحرمات، والرجاء يحمل على المسابقة في الخيرات، وبذلك تتم ولايته لربه ويأمن عاقبة أمره.
4 {وإن من قرية} أي: ظالمة حذفت الصفة للعلم بها إذ لا يأخذ الله أهل قرية إلاّ بعد ظلمهم إذ هو أعدل من يعدل وعدل، وأرحم من يرحم ورحم وقد جاء هذا الوصف في عدّة آيات منها: {وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون} وفي الآية تهديد ووعيد عرفه ابن مسعود رضي الله عنه فقال: إذا ظهر الزنى والربا في قرية أذن الله في هلاكهم.
5 أي: وما صرفنا عن إرسالك يا رسولنا بالمعجزات التي يطالب بها المشركون إلاّ تكذيب الأولين بها وهؤلاء مثلهم لو أرسلناك بها فكذبوا بها واستحقوا الهلاك ونحن لا نريد لهم ذلك.

لأهلكهم، وهو تعالى لا يريد إهلاكهم بل يريد هدايتهم ليهتدي على أيديهم خلقاً كثيراً من العرب والعجم والأبيض والأصفر فسبحان الله العليم الحكيم وقوله تعالى {وآتينا ثمود الناقة مبصرة} أي آية مبصرة أي مضيئة بينة فظلموا بها أي كذبوا بها فعقروها فظلموا بذلك أنفسهم وعرضوها لعذاب الإبادة فأبادهم الله فأخذتهم الصيحة وهم ظالمون هذا دليل على أن المانع من الإرسال بالآيات هو ما ذكر تعالى في هذه الآية وقوله تعالى: {وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً1} يخبر تعالى أنه ما يرسل الرسل مؤيدين بالآيات التي هي المعجزات والعبر والعظات إلا لتخويف الناس عاقبة الكفر والعصيان لعلهم يخافون فيؤمنون ويطيعون قوله تعالى {وإذا قلنا لك إن ربك أحاط بالناس} أي اذكر يا محمد إذ قلنا لك بواسطة وحينا هذا إن ربك أحاط بالناس. فهم في قبضته وتحت قهره وسلطانه فلا ترهبهم ولا تخش منهم أحداً فإن الله ناصرك عليهم، ومنزل نقمته بمن تمادى في الظلم والعناد، وقوله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك} يريد رؤيا الإسراء والمعراج حيث أراه الله من آياته وعجائب صنعه وخلقه، ما أراه {إلا فتنة للناس} أي لأهل مكة اختباراً لهم هل يصدقون أو يكذبون، إذ ليس لازماً لتقرير نبوتك وإثبات رسالتك وفضلك أن نريك الملكوت الأعلى وما فيه من مظاهر القدرة والعلم والحكمة والرحمة.
وقوله تعالى: {والشجرة الملعونة} أي وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن الكريم وهي شجرة الزقوم وأنها {تخرج في أصل الجحيم} إلا فتنة كذلك لأهل مكة حيث قالوا كيف يصح وجود نخلة ذات طلع في وسط النار، كيف لا تحرقها النار قياساً للغائب على الشاهد وهو قياس فاسد، وقوله تعالى {ونخوفهم} بالشجرة الملعونة وأنها {طعام الأثيم تغلي في البطون كغلي الحميم} وبغيرها من أنواع العذاب الدنيوي والأخروي، وما يزيدهم ذلك إلا طغياناً كبيراً أي ارتفاعاً وتكبراً عن قبول الحق والاستجابة له لما سبق في علم الله من خزيهم وعذابهم فاصبر أيها الرسول وامض في دعوتك فإن العاقبة لك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد بالحكم على عدم استجابة الآلهة المدعاة لعابديها.
!- بيان حقيقة عقليه وهي أن دعاء الأولياء والاستغاثة بهم والتوسل إليهم بالذبح والنذر هو أمر
__________
1 في السياق ما يدل على أن هناك رغبة في المعجزات من الكافرين والمؤمنين ولذا ذكر تعالى علل عدم إعطائها لرسوله صلى الله عليه وسلم، فالعلة الأولى تكذيب الأولين بها ودلل بتكذيب ثمود بها والثانية أنه ما يرسل بالمعجزات من أرسلهم بها إلا لعلة التخويف فقط والثالثة إعلامه تعالى رسوله بأن ربك محيط بعباده قادر عليهم فلا تخفهم ولا تطلب الآية لهم، والرابعة: أن معجزة الإسراء والمعراج لم تكن للهداية وإنما هي للفتنة لا غير.

باطل ومضحك في نفس الوقت، إذ الأولياء كانوا قبل موتهم يطلبون الوسيلة إلى ربهم بأنواع الطاعات والقربات ومن كان يَعْبُدْ لا يُعْبَدْ. ومن كان يَتَقرب لا يُتقَرَّب إليه، ومن كان يَتَوَسَّلْ لا يُتَوسلْ إليه بل يعبد الذي كان يُعْبَد ويَتُوَسل إلى الذي كان يُتَوسل إليه ويتقرب إلى الذي كان يتقرب إليه، وهو الله سبحانه وتعالى.
3- تقرير عقيدة القضاء والقدر.
4- بيان المانع من عدم إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم الآيات على قريش.
5- بيان علة الإسراء والمعراج، وذكر شجرة الزقوم في القرآن الكريم.
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا(61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً(62) قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا(63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا(64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً(65)
شرح الكلمات:
لمن خلقت طيناً : أي من الطين.
أرأيتك : أي أخبرني.
كرمت على : أي فضّلْته علي بالأمر بالسجود له.
لأحتنكن : لأستولين عليهم فأقودهم إلى الغواية كالدابة إذا جعل الرسن في

حنكها، تقُاد حيث شاء راكبها!.
اذهب: أي منظراً إلى وقت النفخة الأولى.
جزاءً موفوراً: أي وافراً كاملاً.
واستفزز : أي واستخفف.
بصوتك: أي بدعائك إياهم إلى طاعتك ومعصيتي بأصوات المزامير والأغاني واللهو.
وأجلب عليهم: أي صِحْ فيهم بركبانك ومُشاتك.
وشاركهم في الأموال: بحملهم على أكل الربا وتعاطيه.
والأولاد: بتزيين الزنا ودفعهم إليه.
وعدهم: أي بأن لا بعث ولا حساب ولا جزاء.
إلا غرورا : أي باطلاً.
ليس لك عليهم سلطان: أي إن عبادي المؤمنين ليس لك قوة تتسلط عليهم بها.
وكفى بربك وكيلاً: أي حافظاً لهم منك أيها العدوّ.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} أي اذكر يا رسولنا لهؤلاء المشركين الجهلة الذين أطاعوا عدوهم وعدو أبيهم من قبل، وعصوا ربهم، اذكر لهم كيف صدّقوا ظنّ إبليس فيهم، واذكر لهم {إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} فامتثلوا أمرنا {فسجدوا إلا إبليس} قال منكراً أمرنا، مستكبراً عن آدم عبدنا {أأسجد1 لمن خلقت طيناً}؟ أي لمن خلقته من الطين لأن آدم خلقه الله تعالى من أديم الأرض عذبها وملحها ولذا سمى آدم آدم ثم قال في صلفه وكبريائه {أرأيتك} أي أخبرني أهذا {الذي كرمت علي2}؟ ! قال هذا استصغار لآدم واستخفافا بشأنه، {لئن أخرتني} أي وعزتك لئن أخرْت موتي {إلى يوم يبعثون لأحتنكن ذريته} أي لأستولين عليهم وأسوقهم إلى أودية الغواية والضلال حتى يهلكوا مثلي {إلا قليلاً}3 منهم ممن
__________
1 الاستفهام انكاري.
2 أي: فضلت، والإكرام: اسم جامع لكل ما يحمد، وفي الكلام حذف تقديره أخبرني عن هذا الذي فضلته عليَّ لمَ فضلته وقد خلقتني من نار وخلقته من طين، ويصح بدون تقدير المحذوف أي: أترى هذا الذي كرمته عليَّ لأفعلن به كذا وكذا.
3 {إلا قليلا}: يعني المعصومين وهم الذين قال تعالى فيهم: {إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان} واستثناء إبليس القليل كان ظنا منه فقط كما قال تعالى: {ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه} وقال الحسن: ظن ذلك لأنه وسوس لآدم في الجنة ولم يجد له عزماً فحصل له بذلك هذا العلم المعبّر عنه بالظنّ إذ يطلق لفظ الظن، ويراد به العلم.

تستخلصهم لعبادتك فأجابه الرب تبارك وتعالى: {قال اذهب1} أي مُنَظراً وممهلاً إلى وقت النفخة الأولى وقوله تعالى: {فمن تبعك منهم} أي عصاني وأطاعك {فإن جهنم جزآؤكم جزآءً موفوراً} أي وافراً كاملاً.
وقوله تعالى: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك} قال هذا لإبليس بعد أن أنظره إلى يوم الوقت المعلوم أذن له في أن يعمل ما استطاع في إضلال أتباعه، {واستفزز2 من استطعت منهم بصوتك} أي واستخفف منهم بدعائك إلى الباطل بأصوات المزامير والأغاني وصور الملاهي وأنديتها وجمعياتها، {وأجلب3 عليهم} أي صِح على خيلك ورجلك4 الركبان والمشاة وسقهم جميعاً على بني آدم لإغوائهم وإضلالهم {وشاركهم في الأموال} بحملهم على الربا وجمع الأموال من الحرام وفي {الأولاد} بتزيين الزنا وتحسين الفجور وعدهم بالأماني الكاذبة وبأن لا بعث يوم القيامة ولا حساب ولا جزاء قال تعالى: {وما يعدهم الشيطان إلا غروراً} أي باطلاً وكذباً وزوراً. وقوله تعالى: {إن عبادي} أي المؤمنين بي، المصدقين بلقائي ووعدي ووعيدي ليس لك عليهم قوة تتسلط عليهم بها، {وكفى بربك وكيلا} أي حافظاً لهم: منك فلا تقدر على إضلالهم ولا إغوائهم يا عدوي وعدوهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية التذكير بالأحداث الماضية للتحذير من الوقوع في الهلاك.
2- ذم الكبر وأنه من شر الصفات.
3- تقرير عداوة إبليس والتحذير منها.
4- بيان مشاركة إبليس أتباعه في أموالهم وأولادهم ونساءهم.
5- بيان أن أصوات الأغاني والمزامير والملاهي وأندية الملاهي وجمعياتها الجميع من جند إبليس الذي يحارب به الآدمي المسكين الضعيف.
6- بيان حفظ الله تعالى لأوليائه، وهم المؤمنون المتقون، جعلنا الله تعالى منهم وحفظنا بما يحفظهم به إنه بركريم.
__________
1 الأمر هنا: للإهانة والطرد والاحتقار والصغار.
2 الاستفزاز: طلب الفز، وهو الخفة والانزعاج، وترك التثاقل، والسين والتاء فيه لشدة طلب الاستخفاف والإزعاج.
3 الإجلاب: جمع الجيوش وسوقها مشتق من الجلبة التي هي الصياح إذ الجيوش تجمع بالجلبة فيهم والصياح بهم.
4 قرأ حفص: { ورَجِلِك} بكسر الجيم لغة في رجل وقرأ غيره و {رجْلك} بسكون الجيم، والمعنى بخيلك: أي فرسانك ورجالك.

رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا(66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا(67) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً(68) أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا(69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً(70)
شرح الكلمات:
يزجي لكم الفلك : أي يسوقها فتسير فيه.
لتبتغوا من فضله : أي لتطلبوا رزق الله بالتجارة من إقليم إلى آخر.
وإذا مسكم الضُر: أي الشدة والبلاء والخوف من الغرق.
ضل من تدعون إلا إياه: أي غاب عنكم من كنتم تدعونهم من آلهتكم.
أعرضتم : أي عن دعاء الله وتوحيده في ذلك.
أو يرسل عليكم حاصباً : أي ريحاً ترمى بالحصباء لشدتها.
ثم لا تجدوا لكم وكيلا : أي حافظاً منه أي من الخسف أو الريح الحاصب.
قاصفاً من الريح: أي ريحاً شديدة تقصف الأشجار وتكسرها لقوتها.
علينا به تبيعاً: أي نصيراً ومعيناً يتبعنا ليثأر لكم منا.
ولقد كرمنا بني آدم : أي فضلناهم بالعلم والنطق واعتدال الخلق.
حملناهم في البر والبحر: في البر على البهائم والبحر على السفن.

معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في تقرير التوحيد والدعوة إليه. فقوله تعالى: {ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله} يخبرهم تعالى بأن ربهم الحق الذي يجب أن يعبدوه ويطيعوه بعد أن يؤمنوا به هو الذي {يزجي1 لهم الفلك} أي السفينة {في البحر} أي يسوقها فتسير بهم في البحر إلى حيث يريدون من أجل أن يطلبوا رزق الله لهم بالتجارة من إقليم لآخر. هذا هو إلهكم2 الحق، أما الأصنام والأوثان فهي مخلوقة لله مربوبة له، لا تملك لنفسها فضلاً عن غيرها، نفعاً ولا ضراً.
وقوله تعالى: {إنه كان بكم رحيماً} ومن رحمته تعالى تسخيره البحر لهم وإزجاء السفن وسوقها فيه ليحصلوا على أقواتهم عن طريق السفر والتجارة. وقوله تعالى: {وإذا مسكم الضر3 في البحر ضل من تدعون إلا إياه} يذكرهم بحقيقة واقعة لهم وهي أنهم إذا ركبوا في الفلك وأصابتهم شدة من مرض أو ضلال طريق أو عواصف بحرية اضطربت لها السفن وخافوا الغرق دعوا الله وحده ولم يبق من يدعوه سواه تعالى لكنهم إذا نجاهم من الهلكة التي خافوها ونزلوا بشاطئ السلامة اعرضوا عن ذكر الله وذكروا آلهتهم ونسوا ما كانوا يدعونه وهو الله من قبل {وكان الإنسان كفوراً} هذا طبعه وهذه حاله سرعة النسيان، وشدة الكفران. قوله تعالى: وهو يخاطبهم لهدايتهم {أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر} يقرعهم على إعراضهم فيقول {أفأمنتم} الله تعالى {أن يخسف4 بكم} جانب الأرض الذي نزلتموه عند خروجكم من البحر {أو يرسل عليكم حاصباً} أي ريحاً شديدة تحمل الحصباء5 فيهلككم كما أهلك عادا {ثم لا تجدوا لكم} من غير الله {وكيلاً} يتولى دفع العذاب عنكم ويقول: {أم أمنتم} الله تعالى {أن يعيدكم فيه} أي في البحر {تارة أخرى} أي مرة أخرى {فيرسل عليكم قاصفاً من الريح} أي ريحاً شديدة تقصف الأشجار وتحطمها {فيغرقكم بما كفرتم} أي بسبب كفركم كما أغرق آل فرعون {ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا} أي تابعاً يثأر لكم منا ويتبعنا مطالباً بما نلنا منكم من العذاب.
__________
1 الإزجاء: السوق قال تعالى: { ألم تر أنّ الله يزجي سحاباً} وقال الشاعر:
يا أيها الراكب المزجي مطيته
سائل بني أسد ما هذه الصوت
2 أي: الذي يجب أن يشكروه بعبادته وحده دودن من سواه.
3 لفظ الضرّ يعم المرض وخوف الغرق والإمساك عن الجري وأهوال حالة اضطراباته.
4 الخسف: انهيار الأرض بالشيء فوقها، وجانب البر: ناحية الأرض إذ البحر جانب والأرض جانب.
5 يقال لكل ريح تحمل التراب والحصباء: حاصب، قال الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام يضربنا
بحاصب كنديف القطن منثور

فما لكم إذاً لا تؤمنون وتوحدون وبالباطل تكفرون. وقوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} أي فضلناهم بالنطق والعقل والعلم واعتدال الخلق {وحملناهم في البر والبحر} على ما سخرنا لهم من المراكب {ورزقناهم من الطيبات1 } أي المستلذات من اللحوم والحبوب والفواكه والخضر والمياه العذبة الفرات. وقوله تعالى: {وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} فالآدميون أفضل من الجن وسائر الحيوانات، وخواصهم أفضل من الملائكة، وعامة الملائكة أفضل من عامة الآدميين ومع هذا فإن الآدمي إذا كفر ربه وأشرك في عبادته غيره، وترك عبادته، وتخلى عن محبته ومراقبته أصبح شر الخليقة كلها. قال تعالى: { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها، أولئك هم شر البرية}.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تعريف الله تعالى بذكر صفاته الفعلية والذاتية.
2- تذكير المشركين بحالهم في الشدة والرخاء حيث يعرفون الله في الشدة ويخلصون له الدعاء، وينكرونه في الرخاء ويشركون به سواه.
3- تخويف المشركين بأن الله تعالى قادر على أن يخسف بهم الأرض أو يرسل عليهم حاصباً من الريح فيهلكهم أو يردهم إلى البحر مرة أخرى ويرسل عليهم قاصفاً من الريح فيغرقهم بسبب كفرهم بالله، وعودتهم إلى الشرك بعد دعائه تعالى والتضرع إليه حال الشدة.
4- بيان منن الله تعالى على الإنسان وأفضاله عليه في تكريمه وتفضيله.
5- حال الرخاء أصعب على الناس من حال الشدة بالقحط والمرض، أو غيرهما من المصائب.
6- الإعلان عن كرامة الآدمي وشرفه على سائر المخلوقات الأرضية.
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ2 أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً(71) وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ
__________
1 في الآية دليل على إبطال الزهد في لذيد الطعام كالعسل والسمن واللحم والفواكه والاكتفاء بالخبز بالملح ونحوه مع توفر طيب الطعام والشراب لأنه مخالف لمنهج السلف وفيه كفر ما أنعم الله تعالى به على عباده من طيب الرزق.
2 {فمن أوتي} معطوف على مقدر اقتضاه قوله : {تدعو كل اناس بإمامهم} أي فيؤتون كتبهم {فمن أوتي كتابه ...} الخ.

أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً(72) وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً(73) وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً(74) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا(75) وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً(76) سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً(77)
شرح الكلمات:
بإمامهم : أي الذي كانوا يقتدون به ويتبعونه في الخير أو الشر.
فتيلا: أي مقدار فتيل وهو الخيط الذي يوجد وسط النواة.
ومن كان في هذه أعمى: من كان في الدنيا أعمى عن حجج الله تعالى الدالة على وجوده وعلمه وقدرته، فلم يؤمن به ولم يعبده فهو في الآخرة أشد عمى وأضل سبيلا.
وإن كادوا: أي قاربوا.
ليفتنونك : أي يستنزلونك عن الحق، أي يطلبون نزولك عنه.
لتفتري علينا غيره : أي لتقول علينا افتراء غير الذي أوحينا إليك.
إذاً لاتخذوك خليلاً: أي لو فعلت الذي طلبوا منك فعله لاتخذوك خليلاً لهم.
ضعف الحياة وضعف الممات: أي لعذبناك عذاب الدنيا مضاعفاً وعذاب الآخرة كذلك.
ليستفزونك من الأرض : أي ليستخفونك من الأرض أرض مكة.
لا يلبثون خلافك : أي لا يبقون خلفك أي بعدك إلا قليلاً ويهلكهم الله.
سنة من قد أرسلنا من قبلك : أي لو خرجوك لعذبناهم بعد خروجك بقليل، سنتنا في الأمم.
ولا تجد لستتنا تحويلاً : أي عما جرت به في الأمم السابقة.

معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله في تقرير عقيدة البعث والجزاء، اذكر يا رسولنا، {يوم ندعو كل أناس بإمامهم} الذي كانوا يقتدون به ويتبعون فيتقدم ذلك الإمام ووراءه أتباعه وتوزع الكتب عليهم واحداً واحداً فمن أعطى كتابه بيمينه تشريفاً له وتكريماً، فأولئك الذين أكرموا بإعطائهم كتبهم بإيمانهم، يقرأون كتابهم ويحاسبون بما فيه {ولا يظلمون} أي لا ينقصون مقدار فتيل لا تنقص حسناتهم، ولا بزيادة سيئاتهم1. واذكر هذا لهم تعضهم به لعلهم يتعظون، وقوله تعالى: {ومن كان في هذه} أي الدنيا {أعمى} ، لا يبصر هذه الحجج والآيات والدلائل وأصر على الشرك، والتكذيب والمعاصي {فهو في الآخرة أعمى} أي أشد عمى {وأضل سبيلا} فلا يرى طريق النجاة ولا يسلكه حتى يقع في جهنم. وقوله: {وان كادوا ليفتنونك2} أي يصرفونك {عن الذي أوحينا3 إليك} من توحيدنا والكفر بالباطل وأهله. {لتفتري علينا غيره} أي لتقول علينا غير الحق الذي أوحيناه إليك، وإذاً لو فعلت بأن وافقتهم على ما طلبوا منك، من الإغضاء على شركهم و التسامح معهم إقراراً لباطلهم، ولو مؤقتاً، {لاتخذوك خليلاً} لهم وكانوا أولياء لك، وذلك أن المشركين في مكة والطائف، واليهود في المدينة كانوا يحاولون جهدم أن يستنزلوا الرسول على شيء من الحق الذي يأمر به ويدعو إليه مكراً منهم وخديعة سياسية إذ لو وافقهم على شيء لطالبوا بآخر، ولقالوا قد رجع إلينا، فهو إذًا يَتَقَوَّل، وليس بالذي يوحى إليه بدليل قبوله منا كذا وكذا وتنازله عن كذا وكذا. وقوله تعالى: {ولولا أن ثبتناك} أي على الحق حيث عصمناك {لقد كدت} أي قاربت {تركن}4 ، أي تميل {إليهم شيئاً قليلاً} بقبول بعض اقتراحاتهم {إذاً} أي لو ملت إليهم، وقبلت منهم ولو شيئاً يسيراً {لأذقناك ضعف5 الحياة وضعف الممات6}، أي لضاعفنا عليك العذاب في الدنيا والآخرة ثم لا تجد لك نصيراً ينصرك إذا نحن خذلناك وعذبناك وقوله تعالى في حادثة أخرى وهي أنهم لمّا فشلوا في المحاولات السلمية أرادوا استعمال القوة فقرروا إخراجه من مكة بالموت أو الحياة فأخبر تعالى
__________
1 لم يذكر من أوتي كتبهم بشمائلهم إذ هم الذين خسروا أنفسهم اكتفاء بذكر من أوتوا كتبهم بأيمانهم، وقد ذكر في أول السورة: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} وذكر في سورتي الحاقة والانشقاق.
2 عدي فعل يفتنونك بعن لأنه مضمن معنى فعل يتعدّى بها وهو الصرف يقال: صرفه عن كذا. أي يصرفونك.
3 الآية مسوقة مساق الامتنان على النبي صلى الله عليه وسلم حيث عصمه، وفيها بيان مدى ما كان المشركون يريدونه من صرف النبي صلى الله عليه وسلم عن الحق الذي جاءه وهو يدعو إليه من التوحيد.
4 الركون: الميل بالركن الذي هو الجانب من جسد الإنسان واستعمل في الموافقة بعلاقة القرب.
5 هذه الجملة جزاء لجملة: {لقد كدت تركن إليهم} إذ تقدير الكلام لو ركنت إليهم لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات.
6 جائز أن يكون المراد بعذاب الدنيا: تراكم المصائب والأزراء في مدّة الحياة وعذاب الممات أن يموت مكموداً مستذلاً بين من فازوا عليه بشرف سقوطه بينهم وضياع ما كان يأمله ويدعو إليه.

رسوله بذلك إعلاماً وإنذاراً، فقال: {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض} أرض مكة {ليخرجوك منها وإذاً}، أي لو فعلوا لم يلبثوا بعد إخراجك إلا زمنا قليلاً ونهلكهم كما هي سنتنا في الأمم السابقة التي أخرجت أنبياءها أو قتلتهم هذا معنى قوله تعالى: {وإن كادوا ليستفزونك1} أي يستخفونك {من الأرض ليخرجوك منها وإذاً لا يلبثوا خلافك2 إلا قليلاً سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا} أي عما جرت به في الأمم السابقة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الترغيب في الإقتداء بالصالحين ومتابعتهم والترهيب من الإقتداء بأهل الفساد ومتابعتهم.
2- عدالة الله تعالى في الموقف بإقامة الحجة على العبد وعدم ظلمه شيئاً.
2- عمى الدنيا عن الحق وشواهده سبب عمى الآخرة وموجباته من السقوط في جهنم.
3- حرمة الركون أي الميل لأهل الباطل بالتنازل عن شيء من الحق الثابت إرضاءً لهم.
4- الوعيد الشديد لمن يرضى أهل الباطل تملقاً لهم طمعاً في دنياهم فيترك الحق لأجلهم.
6- إمضاء سنن الله تعالى وعدم تخلفها بحال من الأحوال.
أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا(78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا(79) وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا(80) وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا(81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء
__________
1 الاستفزاز: الحمل على الترحل، وهو استفعال من فزّ يفزّ بمعنى: بارح المكان، والمعنى: كادوا: أن يخرجوك من بلدك كرهاً ثم صرفهم الله عنك حتى خرجت برضاك واختيارك فلذا لم تنزل بهم العقوبة بخروجك من بلدك.
2 قرأ نافع : {خلفك} أي بعدك، وقرأ حفص {خلافك} وهي لغة في خلف بمعنى :بعد.

وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا(82) وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا(83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً(84)
شرح الكلمات:
لدلوك الشمس: أي زوالها من كبد السماء ودحوضها إلى جهة الغرب.
إلى غسق الليل : أي إلى ظلمة الليل، إذ الغسق الظلمة.
وقرآن الفجر: صلاة الصبح.
كان مشهوداً: تشهده الملائكة، ملائكة الليل وملائكة النهار.
فتهجد به1: أي بالقرآن.
نافلة: أي زائدة عن الغرض وهي التهجد بالليل.
مقاماً محموداً: هو الشفاعة العظمى يوم القيامة حيث يحمده الأولون والآخرون.
أدخلني مدخل صدق : أي المدينة، إدخالاً مرضياً لا أرى فيه مكروهاً.
وأخرجني مخرج صدق: أي من مكة إخراجاً لا ألتفت بقلبي إليها.
وقل جاء الحق وزهق الباطل: أي عند دخولك مكة فاتحاً لها بإذن الله تعالى.
زهق الباطل : أي ذهب واضمحل.
أعرض ونأ بجانبه: أعرض عن الشكر فلم يشكر، ونأ بجانبه: أي ثنى عطفه متبختراً في كبرياء.
على شاكلته : أي طريقته ومذهبه الذي يشاكل حاله في الهدى والضلال.
معنى الآيات:
بعد ذلك العرض الهائل لتلك الأحداث الجسام أمر تعالى رسوله بإقام الصلاة فإنها مأمن الخائفين، ومنار السالكين، ومعراج الأرواح إلى ساحة الأفراح فقال: {أقم الصلاة لدلوك
__________
1 تهجّد: إذا ألقى الهجود عنه، وهو النوم، وقام يصلّي، والتهجّد من الهجود وهو من الأضداد هجد: نام، وهجد: سهر.

الشمس} أي لأول دلوكها1 وهو ميلها من كبد السماء إلى الغرب وهو وقت الزوال ودخول وقت الظهر، وقوله {إلى غسق2 الليل} أي إلى ظلمته، ودخلت صلاة العصر3 فيما بين دلوك الشمس وغسق الليل، ودخلت صلاة المغرب وصلاة العشاء في غسق الليل الذي هو ظلمته، وقوله: {وقرآن الفجر4} أي صلاة الصبح وهذه هي الصلوات الخمس المفروضة على أمة الإسلام، النبي وأتباعه سواء وقوله {إن قرآن الفجر كان مشهوداً} يعني محضوراً، تحضره ملائكة النهار لتنصرف ملائكة الليل، لحديث الصحيح "يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ..." وقوله {ومن الليل فتهجد5 به نافلة لك} أي صلاة زائدة على الفرائض الخمس وهي قيام الليل، وهى واجب عليه صلى الله عليه وسلم بهذه الآية، وعلى أمته مندوب إليه، مرغب فيه.
وقوله: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} عسى من الله تعالى تفيد الوجوب، ولذا فقد أخبر تعالى رسوله مبشراً إياه بأن يقيمه يوم القيامة {مقاماً محموداً} يحمده عليه الأولون والآخرون. وهو الشفاعة العظمى حيث يتخلى عنها ادم فمن دونه... حتى تنتهي إليه صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها، أنا لها، ويأذن له ربه فيشفع للخليقة في فضل القضاء، ليدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، وتستريح الخليقة من عناء الموقف وطوله وصعوبته.
وقوله تعالى: {وقل رب6 أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق}. هذه بشارة أخرى أن الله تعالى أذن لرسوله بالهجرة من تلقاء نفسه لا بإخراج قومه وهو كاره. فقال له: قل في دعائك ربي أدخلني المدينة دار هجرتي {مدخل صدق} بحيث لا أرى فيها مكروها، وأخرجني من مكة يوم تخرجني {مخرج صدق} غير ملتفت إليها بقلبي شوقاً وحنيناً إليها. {واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً} أي وسلني أن أجعل لك من لدني سلطاناً نصيراً لك على من بغاك بسوء، وكادك بمكر وخديعة، وحاول منعك من إقامة دينك، ودعوتك إلى ربك،
__________
1 ما في التفسير أشهر وأولى بالأخذ به وهو ما ذهب إليه عمر وابنه وأبو هريرة وابن عباس ومالك، ويرى غير هؤلاء من بعض الصحابة والتابعين: أن دلوك الشمس هو غروبها وعليه فلم تشمل الآية أوقات الصلوات الخمس بخلاف القول بدلوك الشمس: زوالها عن كبد السماء.
2 غسق الليل: سواده وظلمته قال ابن قيس الرّقيّات:
إنّ هذا الليل قد غسقاَ
واشتكيت الهمّ والأرقا
3 وقت العصر إذا زاد ظل كل شيء مثله، ووقت المغرب: غروب الشمس، ووقت العشاء: ذهاب الشفق الأحمر، ووقت الصبح طلوع الفجر ووقت الظهر: زوال الشمس عن كبد السماء.
4 {قرآن}: منصوب على الاغراء أي: والزم قرآن الفجر لأهميته ويصح أن ينصب على العطف أي: أقم الصلاة وأقم قرآن الفجر أي: صلاته.
5 {نافلة لك}: أي نافلة لأجلك خاصة بك دون سائر أمتك.
6 روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثمّ أمر بالهجرة فنزلت: {وقل ربّ أدخلني..} الخ وهو تعليم من الله لرسوله هذا الدعاء يقوله في صلاته وخارجها.

وقوله تعالى: {وقل جاء الحق وزهق الباطل} هذه بشارة أخرى بأن الله تعالى سيفتح له مكة، ويدخلها ظافراً منتصراً وهو يكسر الأصنام حول الكعبة وكانت ثلاثمائة وستين صنماً‍ ويقول جاء الحق وزهق الباطل أي ذهب الكفر واضمحل. {إن الباطل كان زهوقاً}. لا بقاء له ولا ثبات إذا صاول الحق، ووقف في وجهه، وجائز أن يكون المراد بالحق، القرآن وبالباطل الكذب والافتراء، وجائز أن يكون الحق الإسلام والباطل الكفر والشرك وأعم من ذلك، أن الحق هو كل ما هو طاعة لله عز وحل، والباطل كل طاعة للشيطان من الشرك والظلم وسائر المعاصي. وقوله تعالى: {وننزل من1 القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} أي وننزل عليك يا رسولنا محمد من القرآن ما هو شفاء2 أي ما يستشفى به من مرض الجهل والضلال والشك والوساوس ورحمة للمؤمنين دون الكافرين، لأن المؤمنين يعملون به فيرحمهم الله تعالى بعملهم بكتابه، وأما الكافرون، فلا رحمة لهم فيه، لأنهم مكذبون به تاركون للعمل بما فيه. وقوله: {ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} أي ولا يزيد القرآن الظالمين وهم المشركون المعاندون الذين أصروا على الباطل عناداً ومكابرة، هؤلاء لا يزيدهم ما ينزل من القرآن ويسمعونه إلا خساراً لازدياد كفرهم وظلمهم وعنادهم. وقوله تعالى: {وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض3 ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤوساً} يخبر الله تعالى عن الإنسان الكافر المحروم من نور الإيمان وهداية الإسلام أنه إذا أنعم عليه بنعمة النجاة من الهلاك وقد أشرف عليه بغرق أو مرض أو جوع أو نحوه أعرض عن ذكر الله ودعائه كما كان يدعوه في حال الشدة، ونأى بجانبه أي، بعد عنا فلا يلتفت إلينا بقلبه، وذهب في خيلائه وكبريائه وقوله تعالى: {وإذا مسه الشر كان4 يؤوساً} أي قنوطاً. هذا هو الكافر، ذو ظلمة النفس لكفره وعصيانه. إذا مسه الشر من جوع أو مرض أو خوف أحاط به كان يؤوساً أي كثير اليأس والقنوط تامهما، لعدم إيمانه بالله ورحمته وقدرته على إنجائه وخلاصه. وقوله تعالى: {قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا} أي قل يا رسولنا للمشركين، كل منا ومنكم يعمل على طريقته ومذهبه بحسب حاله هداية وضلالاً، والله تعالى ربكم أعلم بمن هو أهدى منا ومنكم سبيلا. ويجزي الكل بحسب عمله وسلوكه. وهذه كلمة
__________
1 {من}: بيانية أي: مبينة للموصول، ما هو شفاء وليست للابتداء ولا هي زائدة أي: وننزّل القرآن الذي هو شفاء وهدى ورحمة للمؤمنين.
2 وقد يستشفى بالقرآن من الأمراض الجسمية ففي البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ رسول صلى الله عليه وسلم بعثهم وكانوا ثلاثين راكباً فنزلوا على قوم من العرب فسألوهم أن يضيفوهم فأبوا فلدغ سيد الحي فأتاهم آت وقال لهم: فيكم من يرقي من العقرب؟ قلنا: نعم لكن حتى تعطونا فقالوا: إنا نعطيكم ثلاثين شاة فرقاه بفاتحة الكتاب قرأها عليه سبع مرات فشفي فأخذوا الثلاثين شاة فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم "كلوا وأطعمونا من الغنم".
3 المراد بالإنسان هنا: الكافر لا المؤمن وال فيه للجنس فيشمل اللّفظ كل إنسان كافر لم يهتد إلى الإسلام.
4 كونه يؤوساً: لا يتعارض مع كثرة دعائه كما في قوله تعالى: {فذو دعاء عريض} إذ يدعو وهو قانط.

مفاصلة قاطعة، للنزاع الناجم عن كون كل يدعى أنه على الحق وأن دينه أصوب، وطريقته أمثل وسبيله أجدى وأنفع.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب إقامة الصلاة وبيان أوقاتها المحددة لها.
2- الترغيب في النوافل، وخاصة التهجد أي "نافلة الليل".
3- تقرير الشفاعة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم.
4- ضعف الباطل وسرعة تلاشيه إذا صاوله الحق ووقف في وجهه.
5- القرآن شفاء لأمراض القلوب عامة ورحمة بالمؤمنين خاصة.
6- بيان طبع المرء الكافر وبيان حال الضعف الملازم له.
7- تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كيف يتخلصون من الجدال الفارغ والحوار غير المثمر.
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً(85) وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً(86) إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا(88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا(89)
شرح الكلمات:
يسألونك : أي يسألك المشركون بواسطة أهل الكتاب عن الروح الذي يحيا به البدن.

من أمر ربي: أي من شأنه وعلمه الذي استأثر به ولم يعلمه غيره.
لنذهبن بالذي أوحينا إليك : أي القرآن بأن نمحوه من الصدور والمصاحف لفعلنا.
لك به علينا وكيلا: يمنع ذلك منا ويحول دون ما أردناه منك.
إلا رحمة من ربك: أي لكن أبقيناه عليك رحمة من ربك فلم نذهب به.
بمثل هذا القرآن: من الفصاحة والبلاغة والمحتوى من الغيوب والشرائع والأحكام.
ظهيراً : أي معيناً ونصيراً.
صرفنا: بينا للناس مثلاً من جنس كل مثل ليتعظوا به فيؤمنوا ويوحدوا.
فأبى أكثر الناس : أي أهل مكة إلا كفوراً أي جحوداً للحق وعناداً فيه.
معنى الآيات:
يقول تعالى: {ويسألونك1 عن الروح} إذ قد سأله المشركون عن الروح وعن أصحاب الكهف، وذي القرنين بإيعاز من يهود المدينة فأخبره تعالى: بذلك وعلمه الرد عليهم فقال: {قل الروح من أمر ربي2} وعلمه الذي لا يعلمه إلا هو، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً لأن سؤالهم هذا ونظائره دال على إدعائهم العلم فأعلمهم أن ما أوتوه من العلم إلا قليل بجانب علم الله تعالى3 وقوله تعالى: {ولئن شئنا لنذهبن4 بالذي أوحينا إليك} هذا امتنان من الله على رسوله الذي أنزل عليه القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين بأنه تعالى قادر على محوه من صدره. وسطره، فلا تبقى منه آية ثم لا يجد الرسول وكيلاً له يمنعه من فِعْلِ الله به ذلك ولكن رحمة منه تعالى لم يشأ ذلك بل يبقيه إلى قرب قيام الساعة حجة الله على عباده وآية على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصدق رسالته، وليس هذا بأول إفضال من الله تعالى على رسوله، بل فضل الله عليه كبير، ولنذكر من ذلك طرفاً وهو
__________
1 روى ابن إسحق أن قريشاً بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود ويثرب يسألانهم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال اليهود لهما: سلوه عن ثلاثة وذكروا لهما أهل الكهف وذا القرنين وعن الروح، فإن أخبركم عن اثنين وأمسك عن واحدة فهو نبي وإلاّ فروا رأيكم فيه فأنزل الله تعالى سورة الكهف وفيها الجواب عن أصحاب الكهف، وذي القرنين، وأنزل هذه الآية: {يسألونك عن الروح}.
2 يطلق الروح على ملك من الملائكة عظيم ويطلق على جبريل ويطلق على هذا الموجود الخفي المنتشر في سائر الجسد الإنساني الذي دلت عليه آثاره من الإدراك والتفكير وهو المسؤول عنه في هذه الآية، وسؤالهم كان عن بيان حقيقته وماهيته.
3 لفظ الآية عام وإن كان سبب نزولها خاصاً إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فإنه ما أوتي أحد علماً إلا وهو إلى جانب علم الله تعالى قليل.
4 روي عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قوله: إن هذا القرآن الذي أظهركم يوشك أن ينزع منكم. قالوا: كيف ينزع منا وقد أثبته الله في قلوبنا وكتبناه في المصاحف قال: يسرى عليه في ليلة واحدة فينزع ما في القلوب ويذهب ما في المصاحف ويصبح الناس منه فقراء ثمّ قرأ: {ولئن شئنا لنذهبنّ} الآية.

عموم رسالته، كونه خاتم الأنبياء، العروج به إلى الملكوت الأعلى، إمامته للأنبياء الشفاعة العظمى، والمقام المحمود.
وقوله تعالى: {قل لئن اجتمعت1 الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً} لاشك أن هذا الذي علم الله رسوله أن يقوله له سبب وهو ادعاء بعضهم أنه في إمكانه أن يأتي بمثل هذا القرآن الذي هو آية صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وبذلك تبطل الدعوى، وينتصر باطلهم على الحق. فأمر تعالى رسوله أن يرد على هذا الزعم الباطل بقوله: قل يا رسولنا لهؤلاء الزاعمين الإتيان بمثل هذا القرآن لئن اجتمعت الإنس والجن متعاونين متظاهرين على الإتيان بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ذلك لأنه وحي الله وكتابه، وحجته على خلقه، وكفى. فكيف إذا يمكن للإنس والجن أن يأتوا بمثله؟!
وقوله: {ولقد صرفنا في هذا القرآن} أي بينا مثلاً من جنس كل مثل من أجل هداية الناس وإصلاحهم علهم يتذكرون فيتعظون، فيؤمنون ويوحدون فأبى أكثر الناس إلا كفوراً أي جحوداً بالحق، وإنكارا للقرآن وتكذيباً به وبما جاء فيه من الحق والهدى والنور، لما سبق القضاء الالهي من امتلاء جهنم بالغاوين وجنود إبليس أجمعين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- علم الروح مما استأئر الله تعالى به.
2- ما علم أهل العلم إلى علم الله تعالى إلا كما يأخذ الطائر بمنقاره من ماء المحيط.
3- حفظ القرآن في الصدور والسطور إلى قرب الساعة.
4- عجز الإنس والجن عن الإتيان بقرآن كالقرآن الكريم.
5- لما سبق في علم الله من شقاوة الناس تجد أكثرهم لا يؤمنون.
وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا(90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا(91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا
__________
1 نزلت هذه الآية ردَّاً على كفار قريش عندما قال النضر بن الحارث وغيره لو نشاء لقلنا مثل هذا. ومعنى ظهيراً: أي: عنوناً ونصيراً كما يتعاون الشعراء على قصيد الشعر.

زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً(92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً(93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً(94) قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً(95)
شرح الكلمات:
ينبوعاً: عيناً لا ينضب ماؤها فهي دائمة الجريان.
جنة: بستان كثير الأشجار.
كسفاً: قطعاً جمع كسفة كقطعة.
قبيلاً: مقابلة لنراهم عياناً.
من زخرف : من ذهب.
ترقى: تصعد في السماء
مطمئنين: ساكنين في الأرض لا يبرحون منها.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في الدعوة إلى التوحيد والنبوة والبعث وتقرير ذلك. فقال تعالى مخبراً عن قيلهم لرسول الله وهم يجادلون في نبوته: فقالوا: {لن1 نؤمن لك} أي لن نتابعك على ما تدعو إليه من التوحيد والنبوة لك والبعث والجزاء لنا {حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا} أي
__________
1 نزلت هذه الآية في رؤساء قريش مثل: عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبي سفيان والنضر بن الحارث وأبي جهل وأمية بن خلف وغيرهم حيث اجتمعوا حول الكعبة ليلا وبعثوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وكان حريصاً على هدايتهم فأتاهم فقالوا له كلاماً طويلاً ثم خلصوا إلى ما ذكر تعالى في هذه الآية وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا الخ.

عيناً يجري ماؤها على وجه الأرض لا ينقطع {أو تكون لك جنة} أي بستان من نخيل وعنب، {فتفجر الأنهار خلالها} أي خلال الأشجار تفجيراً، {أو تسقط السماء كما زعمت علينا1 كسفاً} أي قطعاً، {أو تأتي بالله والملائكة قبيلا2} أي مقابلة نراهم معاينة، {أو يكون لك بيت من زخرف} أي من ذهب تسكنه بيننا {أو ترقى في السماء} أي تصعد بسلم ذي درج في السماء، {ولن نؤمن لرقيك3} إن أنت رقيت {حتى تنزل علينا كتاباً} من عند الله {نقرأه} يأمرنا فيه بالإيمان بك واتباعك! هذه ست طلبات كل واحدة اعتبروها آية متى شاهدوها زعموا أنهم يؤمنون، والله يعلم أنهم لا يؤمنون، فلذا لم يستجب لهم وقال لرسوله: قل يا محمد لهم. {سبحان الله} متعجباً من طلباتهم {هل كنت إلا بشراً رسولاً}! ؟! أي هل كنت غير بشر رسول؟ وإلا كيف يطلب مني هذا الذي طلبوا، إن ما تطلبونه لا يقدر عليه عبد مأمور مثلي، وإنما يقدر عليه رب عظيم قادر، يقول للشيء كن.... فيكون! وأنا ما ادعيت ربوبية، وإنما أصرح دائماً بأني عبد الله ورسوله إليكم لأبلغكم رسالته بأن تعبدوه وحده ولا تشركوا به سواه وتؤمنوا بالبعث الآخر وتعملوا له بالطاعات وترك المعاصي. وقوله تعالى: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى} أي وما منع أهل مكة أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى4 على يد رسولهم {إلا أن قالوا} أي إلا قولهم {أبعث الله بشراً رسولاً} منكرين على الله أن يبعث رسولاً من البشر!
وقوله تعالى: {قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً} أي قل يا رسولنا لهؤلاء المنكرين أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم بشراً، المتعجبين من ذلك، قل لهم: لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين ساكنين في الأرض لا يغادرونها لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً يهديهم بأمرنا ويعلمهم ما يطلب منهم فعله بإذننا لأنهم يفهمون عنه لرابطة الجنس بينهم والتفاهم الذي يتم لهم. ولذا بعثنا إليكم رسولاً من جنسكم تفهمون ما يقول لكم يقدر على إفهامكم والبيان لكم فكيف إذا تنكرون الرسالة للبشر وهي أمر لا بد منه؟!
__________
1 الكسف: بفتح السين جمع كسفة بإسكانها، قرأ نافع كسفاً بفتح السين وكذا عاصم وقرأ غيرهما كسفاً بإسكان السين أي: قطعة.
2 فسر قبيلاً بعدّة تفسيرات قال ابن عباس: كفيلا، وقال مقاتل: شهيداً، وقال مجاهد جمع القبيلة أي: بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة، وقيل ضمناء يضمنون لنا إتيانك به وما في التفسير أولى وأظهر في تفسير الآية.
3 الرقى: مصدر رقى يرقي رقياً ورُقيا أي: صعد المنبر ونحوه.
4 الهدى: أي ما يحقق الهداية من الكتب والرسل من عند الله تعالى.

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
2- بيان شدة عناد مشركي قريش، وتصلبهم وتحزبهم إزإء دعوة التوحيد.
3- بيان سخف عقول المشركين برضاهم للألوهية بحجر وإنكارهم الرسالة للبشر!
4- تقرير أن التفاهم حسب سنة الله لا يتم إلا بين المتجانسين فإذا اختلفت الأجناس فلا تفاهم إلا أن يشاء الله فلا يتفاهم إنسان مع حيوان أو جان.
قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا(96) وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا(97) ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا(98) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا(99)
شرح الكلمات :
شهيداً : على أني رسول الله إليكم وقد بلغتكم وعلى أنكم كفرتم وعاندتم.
فلن تجد لهم أولياء: أي يهدونهم.
على وجوههم : أي يمشون على وجوههم.
عمياً وبكماً وصماً : لا يبصرون ولا ينطقون ولا يسمعون.

كلما خبت : أي سكن لهبها زدناهم سعيراً أي تلهباً واستعاراً.
وقالوا :أي منكرين للبعث.
مثلهم : أي أناساً مثلهم.
أجلا: وقتاً محدداً.
معنى الآيات:
مازال السياق في تقرير النبوة المحمدية إذ يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: قل لأولئك المنكرين أن يكون الرسول بشرًا، {كفى1 بالله شهيداً بيني وبينكم} على أني رسوله وأنتم منكرون عليَّ ذلك.
إنه تعالى كان وما زال {بعباده خبيراً} أي ذا خبرة تامة بهم {بصيراً} بأحوالهم يعلم المحق منهم من المبطل، والصادق من الكاذب وسيجزي كلاً بعدله ورحمته.
وقوله تعالى: {ومن يهد الله فهو المهتد2} يخبر تعالى أن الهداية بيده تعالى فمن يهده الله فهو المهتدي بحق، {ومن يضلل فلن تجد لهم3 أولياء من دونه} أي يهدونهم بحال من الأحوال، وفي هذا الكلام تسلية للرسول وعزاء له في قومه المصرين على الجحود والإنكار لرسالته.
وقوله: {ونحشرهم يوم القيامة} أي أولئك المكذبين الضالين الذين ماتوا على ضلالهم وتكذيبهم فلم يتوبوا نحشرهم يوم القيامة، يمشون على وجوههم4 حال كونهم عمياً لا يبصرون، بكماً لا ينطقون، صماً5 لا يسمعون وقوله تعالى: {مأواهم جهنم} أي محل استقرارهم في ذلك اليوم جهنم الموصوفة بأنها {كلما خبت} أي سكن لهبها عنهم زادهم الله سعيراً أي تلهباً
__________
1 روي أن نفراً من قريش قالوا حين سمعوا قوله: {هل كنت إلاّ بشراً رسولاً} فمن يشهد لك أنك رسول الله؟ فنزل: {قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيراً بصيراً}.
2 حذفت الياء ليوقف على الدّال بالسكون وهي لغة فصيحة وفي حال الوصل يؤتى بالياء نطقا بها.
3 جمع الضمير (لهم) مراعاة إلى أن (من) تكون للواحد والمتعدد.
4 أي: يسحبون على وجوههم إهانة لهم كما يفعل في الدنيا بمن ينتقم منه حيث يسحبونه على وجهه في الأرض إهانة، ومن سورة القمر قال تعالى: {يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مسّ سقر} وجائز أن يمشوا على وجوههم عند حشرهم إلى جهنم فإذا دخلوها سحبوا على وجوههم لحديث أنس: "أليس الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه؟" في جواب سائل قال: أفيحشر الكفّار على وجوههم؟
5 هذا في حال حشرهم إلى جهنم وكانوا قبل ذلك يسمعون ويبصرون وينطقون ثم إذا دخلوها عادت إليهم حواسهم للآيات القرآنية المصرّحة بذلك منها: {ورأى المجرمون..} ومنها: {سمعوا لها تغيظاً وزفيرا} ومنها: {قالوا يا مالك ليقض علينا ربك..}.

واستعاراً. وقوله تعالى: {ذلك جزاؤهم} أي ذلك العذاب المذكور جزاؤهم بأنهم كفروا بآيات الله أي بسبب كفرهم بآيات الله. وقولهم إنكارا للبعث الآخر واستبعاداً له: {أإذا كنا عظاماً ورُفاتاً} أي تراباً {أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً} ورد الله تعالى على هذا الاستبعاد منهم للحياة الثانية فقال: {أو لم يروا} أي أينكرون البعث الآخر؟ ولم يروا بعيون قلوبهم {أن الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم} ؟؟! بلى إنه لقادر لو كانوا يعلمون!
وقوله تعالى: {وجعل1 لهم أجلاً} أي وقتاً محدوداً معينا لهلاكهم وعذابهم {لا ريب فيه} وهم صائرون إليه لا محالة، وقوله: {فأبى الظالمون إلا كفوراً} أي مع هذا البيان والاستدلال العقلي أبى الظالمون إلا الجحود والكفران ليحق عليهم كلمة العذاب فيذوقوه والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- عظم شهادة الله تعالى ووجوب الاكتفاء بها.
2- الهداية والإضلال بيد الله فيجب طلب الهداية منه والاستعاذة به من الضلال.
3- فظاعة عذاب يوم القيامة إذ يحشر الظالمون يمشون على وجوههم كالحيات وهم صم بكم عمي والعياذ بالله تعالى من حال أهل النار.
4- جهنم جزاء الكفر بآيات الله والإنكار للبعث والجزاء يوم القيامة.
5- دليل البعث عقلي كما هو نقلي فالقادر على البدء، قادر عقلاً على الإعادة بل الإعادة - عقلاً- أهون من البدء للخلق من لاشيء.
قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا(100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا(101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ
__________
1 جملة: {وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه} معطوفة على جملة {أو لم يروا} لتأويلها بمعنى: قد رأوا ذلك لو كانوا يعقلون. الأجل: الزمن المجعول غاية يبلغ إليها في حال من الأحوال والمراد به هنا مدّة حياتهم.

هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا(102) فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا(103) وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا(104)
شرح الكلمات:
خزائن رحت ربي : أي من المطر والأرزاق.
لأمسكتم: أي منعتم الإنفاق.
خشية الإنفاق: خوف النفاد.
قتوراً : أي كثير الإقتار أي البخل والمنع للمال.
تسع آيات بينات : أي معجزات بينات أي واضحات وهو اليد والعصا والطمس الخ.
مسحوراً: أي مغلوباً على عقلك، مخدوعاً.
ما أنزل هؤلاء: أي الآيات التسع.
مثبوراً: هالكاً بانصرافك عن الحق والخير.
فأراد أن يستفزهم : أي يستخفهم ويخرجهم من ديار مصر.
اسكنوا الأرض: أي أرض القدس والشام.
الآخرة: أي الساعة.
لفيفاً: أي مختلطين من أحياء وقبائل شتى.
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، قل يا محمد لأولئك الذين يطالبون بتحويل جبل الصفا إلى ذهب، وتحويل المنطقة حول مكة إلى بساتين من نخيل وأعناب تجري الأنهار من خلالها، قل لهم، لو كنتم أ نتم تملكون خزائن رحمة ربي من الأموال والأرزاق لأمسكتم بخلا بها ولم تنفقوها خوفاً من نفادها إذ هذا طبعكم، وهو البخل، {وكان الإنسان} قبل هدايته وإيمانه {قتوراً} أي كثير التقتير بخلاً وشحاً نفسياً ملازماً له حتى يعالج هذا الشح بما وضع الله تعالى من دواء نافع جاء بيانه في سورة المعارج1 من هذا
__________
1 هو قوله تعالى: {إنّ الإنسان خلق هلوعاً إذا مسّه الشر جزوعاً وإذا مسّه الخير منوعاً إلاّ المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون} إلى قوله: {والذين هم على صلاتهم يحافظون}.

الكتاب الكريم.
وقوله تعالى: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات1} أي، ولقد أعطينا موسى بن عمران نبي بني إسرائيل تسع آيات وهي: اليد، والعصا والدّم2، وانفلاق البحر، والطمس على أموال آل فرعون، والطوفان والجراد والقمل والضفادع، فهل آمن عليها آل فرعون؟! لا، إذاً، فلو أعطيناك ما طالب به قومك المشركون من الآيات الست التي اقترحوها وتقدمت في هذه السياق الكريم مبينة، ما كانوا ليؤمنوا بها، ومن هنا فلا فائدة من إعطائك إياها.
وقوله تعالى: {فاسأل بني إسرائيل} أي سل يا نبينا علماء بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وغيره، إذ جاءهم موسى بطالب فرعون بإرسالهم معه ليخرج بهم إلى بلاد القدس، وأرى فرعون الآيات الدالة على صدق نبوته ورسالته وأحقية ما يطالب به فقال له فرعون: {إني لأظنك يا موسى مسحوراً} أي ساحراً لإظهارك ما أظهرت من هذه الخوارق، ومسحوراً بمعنى مخدوعاً مغلوباً على عقلك فتقول الذي تقول مما لا يقوله العقلاء فرد عليه موسى بقوله بما أخبر تعالى به في قوله {لقد علمت} أي فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات البينات إلا رب السماوات أي خالقها ومالكها والمدبر لها {بصائر} أي آيات واضحات مضيئات هاديات لمن طلب الهداية، فعميت عنها وأنت تعلم صدقها {وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً3}! أي من أجل هذا أظنك يا فرعون ملعوناً، من رحمة الله مبعداً مثبوراً هالكاً. فلما أعيته أي فرعون الحجج والبينات لجأ إلى القوة، {فأراد أن يستفزهم من الأرض} أي يستخفهم من أرض مصر بالقتل الجماعي استئصالاً لهم، أو بالنفي والطرد والتشريد، فعامله الرب تعالى بنقيض، قصده فأغرقه الله تعالى هو وجنوده أجمعين، وهو معنى قوله تعالى: {فأغرقناه ومن معه} أي من الجنود {أجمعين} وقوله تعالى:
__________
1 روى الترمذي وصححه والنسائي عن صفوان بن عسال المرادي: " أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله، فقال: لا تقل له نبي فإنه إن سمعنا كان له أربعة أعين، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه عن قول الله تعالى: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بيّنات} فقال: لا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله، ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف، وعليكم يا معشر يهود خاصة ألاّ تعدوا في السبت فقبّلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبي قال: ما يمنعكما أن تؤمنا؟ قالا: إن داود دعا الله ألاّ يزال في ذريته نبي وإنّا نخاف إن أسلمنا أن تقتلنا اليهود". وعليه فالمراد بالآيات: آيات التشريع في التوراة، وهذا وجه. ولا منافاة مع تفسير الآيات بالمعجزات التسع كما في التفسير.
2 لا خلاف في اليد والعصا والطوفان والجراد والقمّل والدم وإنما الخلاف في الثلاث الباقية وانفلاق البحر مجمع عليه وإنما في الطمس والحجر لأن الحجر كان في التيه بعد نجاة بني إسرائيل.
3 الظنّ هنا بمعنى التحقيق، وذكر لكلمة مثبور عدة معان كلها صحيحة منها: الهلاك والخسران والخبال والمنع من الخير، قال ابن الزّبعرى:
إذ أجاري الشيطان في سنن الغيِّ ومَنْ مال مَيْلَةُ مثبورُ
أي هالك وخاسر.

{وقلنا من بعده} أي من بعد هلاك فرعون وجنوده لبني إسرائيل على لسان موسى عليه السلام {اسكنوا الأرض} أي أرض القدس والشام إلى نهاية آجالكم بالموت. {فإذا جاء وعد الآخرة} أي يوم القيامة بعثناكم أحياء كغيركم، {وجئنا بكم لفيفاً} أي مختلطين من أحياء وقبائل أجناس شتى لا ميزة لأحد على آخر، حفاة عراة لفصل القضاء ثم الحساب والجزاء.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الشح من طبع الإنسان إلا أن يعالجه بالإيمان والتقوى فيقيه الله منه1.
2- الآيات وحدها لا تكفي لهداية الإنسان بل لا بد من توفيق إلهي.
9- مظاهر قدرة الله تعالى وانتصاره لأوليائه وكبت أعدائه.
4- بيان كيفية حشر الناس يوم القيامة لفيفاً أخلاطاً من قبائل وأجناس شتى.
وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(105) وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً(106) قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا(107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً(108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا(109)
شرح الكلمات:
وبالحق أنزلناه : أي القرآن.
وبالحق نزل : أي نزل ببيان الحق في العبادات والعقائد والأخبار والمواعظ والحكم والأحكام.
وقرآناً فرقناه : أن نزلناه مفرقاً في ظرف ثلاث وعشرين سنة لحكمة اقتضت ذلك.
على مكث : أي على مهل وتؤده ليفهمه المستمع إليه.
__________
1 قال تعالى : {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}.

ونزلناه تنزيلا: أي شيئاً فشيئاً حسب مصالح الأمة لتكمل به ولتسعد عليه.
أوتوا العلم من قبله : أي مؤمنوا أهل الكتاب من اليهود والنصارى كعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي.
للأذقان سجداً: أي سجداً على وجوههم، ومن سجد على وجهه فقد خرَّ على ذقنه ساجداً.
إن كان وعد ربنا لمفعولاً : منجزاً، واقعاً، فقد أرسل النبي الأمي الذي بشرت به كتبه وأنزل عليه كتابه.
معنى الآيات:
يقول تعالى: {وبالحق أنزلناه} أي ذلك الكتاب الذي جحد به الجاحدون، وكذب به المشركون أنزلناه بالحق الثابت حيث لا شك أنه كتاب الله ووحيه إلى رسوله، و {بالحق نزل} فكل ما جاء فيه ودعا إليه وأمر به. وأخبر عنه من عقائد وتشريع وأخبار ووعد ووعيد كله حق ثابت لا خلاف فيه ولا ريبة منه. وقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً} أي لم نرسلك لخلق الهداية في قلوب عبادنا ولا لإجبارهم بقوة السلطان على الإيمان بنا وتوحيدنا، وإنما أرسلناك للدعوة والتبليغ {مبشراً} من أطاعنا بالجنة ومنذراً من عصانا مخوفاً من النار. وفي هذا تقرير لرسالته صلى الله عليه وسلم ونبوته وقوله تعالى: {وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث} أي أنزلنا القرآن وفرقناه في خلال ثلاث وعشرين سنة لحكمة منا اقتضت ذلك وقوله {لتقرأه على الناس على مكث} آيات بعد آيات ليكون ذلك أدْعَى إلى فهم من يسمعه ويستمع إليه، وقوله تعالى: {ونزلناه1 تنزيلاً} أي شيئاً فشيئاً حسب2 مصالح العباد وما تتطلبه تربيتهم الروحية والإنسانية ليكملوا به، عقولاً وأخلاقاً وأرواحاً ويسعدوا به في الدارين وقوله تعالى: {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا} أي قل يا رسولنا للمنكرين للوحي القرآني من قومك، آمنوا به أو لا تؤمنوا فإن إيمانكم به كعدمه لا يغير من واقعه شيئاً فسوف يؤمن به ويسعد عليه غيركم إن لم تؤمنوا أنتم به وهاهم أولاء الذين أوتوا العلم من قبله من علماء أهل الكتابين اليهود والنصارى قد آمنوا به، يريد أمثال عبدالله بن سلام وسلمان الفارسي والنجاشي أصحم الحبشي وإنهم {إذا يتلى عليهم} أي يُقرأ عليهم {يخرون للأذقان سجداً} أي يخرون ساجدين على أذقانهم ووجوههم ويقولون حال سجودهم {سبحان ربنا}3
__________
1 قال القرطبي: لا خلاف في أنه نزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة.
2 {تنزيلا}: مصدر مؤكد لنزوله نجما بعد نجم وهو معنى مفرّقا آية بعد آية وسورة بعد سورة حتى اكتمل نزوله.
3 في الآية دليل على مشروعية التسبيح في السجود وشاهده من السنة رواية مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في سجوده وركوعه سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" وورد أنه فعله استجابة لقول الله تعالى {فسبّح بحمد ربك واستغفره} آخر سورة النصر.

أي تنزيهاً له أن يخلف وعده إذ وعد أنه يبعث نبي آخر الزمان وينزل عليه قرآناً، {إن كان وعد ربنا لمفعولا} إقراراً منهم بالنبوة المحمدية والقرآن العظيم، أي ناجزاً إذ وعد بإرسال النبي الخاتم وإنزال الكتاب عليه فأنجز ما وعد، وهكذا وعد ربنا دائماً ناجز لا يتخلف. وقوله {ويخرون1 للأذقان يبكون2} أي عندما يسمعون القرآن لا يسجدون فحسب بل يخرون يبكون ويزيدهم سماع القرآن وتلاوته خشوعاً في قلوبهم واطمئناناً في جوارحهم لأنه الحق سمعوه من ربهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- القرآن حق من الله وما نزل به كله حق.
2- الندب إلى ترتيل القرآن لاسيما عند قراءته على الناس لدعوتهم إلى الله تعالى.
3- تقرير نزول القرآن مفرقاً في ثلاث وعشرين سنة.
4- تقرير النبوة المحمدية بنزول القرآن وإيمان من آمن به من أهل الكتاب.
5- بيان حقيقة السجود وأنه وضع الوجه على الأرض.
6- مشروعية السجود للقارىء أو المستمع وسنية ذلك عند قراءة هذه الآية وهي {يخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً} فيخر ساجداً مكبراً في الخفض وفي الرفع قائلاً: الله أكبر ويسبح ويدعو في سجوده بما يشاء.
قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً(110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا(111)
__________
1 {الأذقان} جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين، والسجود على الجبهة والأنف وإنما ذكر الأذقان هنا لأنّ اللحية تصل إلى الأرض قبل الجبهة والأنف إذا كانت طويلة كما هي السنة.
2 دلت الآية على أن البكاء في الصلاة لا يقطعها، والخلاف في النفخ والأنين والتنحنح والصحيح أنّ ما كان بحروف تسمع كان كلاماً ويقطع الصلاة وما لم يكن بحرف فلا فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبكي في صلاته ويسمع له أزير كأزير المرجل.

شرح الكلمات:
ادعوا الله أو ادعوا الرحمن: أي سموه بأيهما ونادوه بكل واحد منهما الله أو الرحمن.
أياما تدعوا: أي إن تدعوه بأيهما فهو حسن لأن له الأسماء الحسنى وهذان منها.
ولا تجهر بصلاتك: أي بقراءتك في الصلاة كراهة أن يسمعها المشركون فيسبوك ويسبوا القرآن ومن أنزله.
ولا تخافت بها: أي ولا تسر به إسراراً حتى ينتفع بقراءتك أصحابك الذين يصلون وراءك بصلاتك.
وابتغ بين ذلك سبيلا: أي اطلب بين السر والجهر طريقاً وسطاً.
لم يتخذ ولداً : كما يقول الكافرون.
ولم يكن له شريك : كما يقول المشركون.
ولم يكن له ولي من الذل: أي لم يكن له ولي ينصره من أجل الذل إذ هو العزيز الجبار مالك الملك ذو الجلال والإكرام.
وكبره تكبيرا: أي عظمه تعظيماً كاملاً عن اتخاذ الولد والشريك والولي من الذل.
معنى الآيات:
كان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه يا الله. يا رحمن، يا رحمن يا رحيم فسمعه المشركون وهم يتصيدون له أية شبهة ليثيروها ضده فلما سمعوه يقول: يا الله، يا رحمن قالوا: أنظروا إليه كيف يدعو إلهين وينهانا عن ذلك فأنزل الله تعالى1: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} أي قل لهم يا نبينا أدعوا الله أو أدعوا الرحمن فالله هو الرحمن الرحيم فـ {أياما تدعوا} منهما الله أو الرحمن فهو الله ذو الأسماء الحسنى والصفات العلى وقوله تعالى: {ولا تجهر2 بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا} أي وسطاً بين السر والجهر، وذلك أن المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن سبُّوا قارئه ومن أنزله، فأمر الله تعالى رسوله والمؤمنون تابعون له إذا قرأوا في صلاتهم أن لا يجهروا حتى لا
__________
1 فنزلت الآية مبيّنة أنهما الله والرحمن اسمان لمسمى واحد فإن دُعي يا الله فهو ذاك وإن دعي يا رحمن فهو ذاك.
2 روى مسلم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك} الخ قوله نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوارٍ بمكة وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به". فقال الله تعالى: {ولا تجهر بصلات ك ،} فيسمع المشركون قراءتك {ولا تخافت بها} عن أصحابك أي: أسمعهم القرآن ولا تجهر ذلك الجهر { وابتغ بين ذلك سبيلا} أي: بين الجهر والمخافتة كان هذا في مكة ثم استقرت السنة بالجهر في صلاة الصبح والمغرب والعشاء في الركعتين الأولتين والسر في صلاة الظهر والعصر وثالثة المغرب والأخيرتين من صلاة العشاء.

يسمع المشركون قراءتهم ولا يسروا حتى لا يحرم سماع القرآن من يصلي وراءهم فأمر رسول الله بالتوسط بين الجهر والسر.
وقوله تعالى: {وقل الحمد لله1 الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً} أي أمر الله تعالى الرسول أن يحمد الله الذي لم يتخذ ولداً كما زعم ذلك بعض العرب، إذ قالوا الملائكة بنات الله! وكما زعم ذلك اليهود إذ قالوا عزير بن الله والنصارى إذ قالوا عيسى بن الله! {ولم يكن له شريك في الملك} كما قال المشركون من العرب: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إلا شريكاً هولك، تملكه وما ملك !{ولم يكن له ولي من الذل} كما قال الصابئون والمجوس: لو لا أولياء الله لذل الله! {وكبره} أنت أو عظمه يا رسولنا تعظيماً من أن يكون له وصف النقص والافتقار والعجز.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إن لله الأسماء الحسنى وهي مائة اسم إلا اسماً واحداً2 فيدعى الله تعالى وينادى بأيّها،: وكلها حسنى كما قال تعالى في سورة الأعراف: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}.
2- بيان ما كان عليه المشركون في مكة من بغض للرسول والقرآن والمؤمنين.
3- مشروعية الأخذ بالاحتياط للدين كما هو للدنيا.
4- وجوب حمد الله تعالى والثناء عليه وتنزيهه عن كل عجز ونقص.
5- هذه الآية {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل} تسمى آية العز هكذا سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
1 روي عن عمر أنه قال: الله أكبر خير من الدنيا وما فيها، وورد أنّ هذه الآية {وقل الحمد لله} الخ خاتمة التوراة وفاتحتها أوّل سورة الأنعام.
2 الإجماع على أنه لا يصح وضع اسم لله تعالى بالنظر والاجتهاد وإنما أسماؤه وصفاته توقيفية مصدرها الوحي الإلهي: الكتاب والسنة.

سورة الكهف
...
سورة الكهف1
مكية
وآياتها عشر ومائة
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا(1) قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا(2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا(3) وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا(4) مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا(5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا(6)
شرح الكلمات:
الحمد لله : الحمد الوصف بالجميل، والله عَلَم على ذات الرب تعالى.
الكتاب : القرآن الكريم.
ولم يجعل له عوجاً: أي ميلاً عن الحق والاعتدال في ألفاظه ومعانيه.
قيماً: أي ذا اعتدال لا إفراط فيه ولا تفريط في كل ما حواه ودعا إليه من التوحيد والعبادة والآداب والشرائع والأحكام.
بأساً شديداً : عذاباً ذا شدة وقسوة وسوء عذاب في الآخرة.
__________
1 روى مسلم: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال" وروى الدارمي في مسنده عن أبي سعيد الخدري رصي الله عنه: "من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق".. وروي أيضاً "أن من قرأها يوم الجمعة غفر له إلى الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام وأعطي نوراً يبلغ السماء ووقي فتنة الدجال".

من لدنه: من عنده سبحانه وتعالى.
أجراً حسناًَ: أي الجنة إذ هي أجر المؤمنين العاملين بالصالحات.
كبرت كلمة: أي عظمت فريه وهي قولهم الملائكة بنات الله.
إن يقولون إلاّ كذباً : أي ما يقولون إلاّ كذباً بحتاً لا واقع له من الخارج.
باخع نفسك: قاتل نفسك كالمنتحر.
بهذا الحديث أسفاً : أي بالقرآن من أجل الأسف الذي هو الحزن الشديد.
معنى الآيات:
أخبر تعالى في فاتحة سورة الكهف1 بأنه المستحق للحمد، وأن الحمد لله وذكر موجب ذلك، وهو إنزاله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب الفخم العظيم وهو القرآن العظيم الكريم فقال: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب} وقوله تعالى : {ولم يجعل له عوجاً2} أي ولم يجعل لذلك الكتاب العظيم عوجاً أي ميلاً عن الحق والاعتدال في ألفاظه ومعانيه فهو كلام مستقيم محقق للأخذ به كل سعادة وكمال في الحياتين. وقوله {قيماً} أي معتدلاً خالياً من الإفراط والتفريط قيماً على الكتب السابقة مهيمناً عليها الحق فيها ما أحقه والباطل ما أبطله.
وقوله: {لينذر بأساً شديداً من لدنه} أي أنزل الكتاب الخالي من العوج القيم من أجل أن ينذر الظالمين من أهل الشرك والمعاصي عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة ينزل بهم من عند ربهم الذين كفروا به وأشركوا وعصوه وكذبوا رسوله وعصوه. ومن أجل أن يبشر بواسطته أيضاً {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي يخبرهم بما يسرهم ويفرح قلوبهم وهو أن لهم عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً وقوله تعالى : {وينذر} بصورة خاصة أولئك المتقولين على الله المفترين عليه بنسبتهم الولد إليه فقالوا: {اتخذ الله ولداً} وهم اليهود والنصارى وبعض مشركي العرب الذين قالوا إن الملائكة بنات الله! هذا ما دل عليه قوله تعالى: {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً} وهو قول تَوَارَثُوهُ لا علم لأحد منهم به، وإنما هو مجرد كذب يتناقلونه
__________
1 روى ابن اسحق في سبب نزول سورة الكهف حديثاً طويلاً خلاصته أن وفداً من قريش أتوا اليهود بالمدينة وقالوا لهم أنتم أهل الكتاب فأخبرونا عن صاحبنا هذا- محمد صلى الله عليه وسلم- فقالت اليهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل فإن لم يفعل فهو رجل متقوّل فروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم فإنه كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طوافة قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟؛ وسلوه عن الروح ما هي؟ فان أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه فإنه نبي وإن لم يفعل فهو رجل متقوِّل فانظروا في أمره ما بدالكم وأتى الوفد مكة وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أخبركم بما سألتم عنه غداً؛ ولم يستثن أي: لم يقل إن شاء الله فانقطع الوحي نصف شهر ثم نزلت سورة الكهف وفيها جواب ما سألوا.
2 العوج: ضد الاستقامة وهو الانحراف في الذوات والمعاني وتكسر عينه وتقع، وقيل: الكسر في المعاني والفتح في الذّوات.

بينهم لذا قبح الله قولهم هذا وعجّب منه العقلاء، فقال: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم} أي عظم قولهم {اتخذ الله ولداً} كلمة قالوها تخرج من أفواههم لا غير إذ لا واقع لها أبداً، وقرر الإنكار عليهم فقال: {إن يقولون إلاّ كذباً} أي ما يقولون إلاّ الكذب البحت الذي لا يعتمد على شيء من الصحة البتة. وقوله: {فلعلك باخع1 نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً} يعاتب الله تعالى رسوله ويخفف عنه ما يجده في نفسه من الحزن على عدم إيمان قومه واشتدادهم في الكفر والتكذيب وما يقترحونه عليه من الآيات أي فلعلك يا رسولنا قاتل نفسك على إثر رفض قومك للإيمان بك وبكتابك وما جئت به من الهدى، حزناً عليهم، وجزعاً منهم، فلا تفعل واصبر لحكم ربك فإنه منجز وعده لك بالنصر على قومك المكذبين لك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب حمد الله تعالى على آلائه وعظيم نعمه.
2- لا يحمد إلاّ من له ما يقتضي حمده، وإلاّ كان المدح كذباً وزوراً.
3- عظم شأن القرآن الكريم وسلامته من الإفراط والتفريط والانحراف في كل ما جاء به.
4- بيان مهمة القرآن وهي البشارة لأهل الإيمان والإنذار لأهل الشرك والكفران.
5- التنديد بالكذب على الله ونسبة ما لا يليق بجلاله وكماله إليه كالولد ونحوه.
6- تحريم الانتحار وقتل النفس من الحزن أو الخوف ونحوه من الغضب والحرمان.
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا(7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا(9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا(10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي
__________
1 {باخع} مهلك نفسك، قال ذو الرّمة:
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه
بشيء نحته عن يديه المقادر
وفسّر ابن عباس رضي الله عنهما الباخع بقاتل نفسه من شدّة الحزن.

الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
شرح الكلمات:
صعيداً جرزاً: أي تراباً لا نبات فيه، فالصعيد هو التراب والجرز1 الذي لا نبات فيه.
الكهف: النقب الواسع في الجبل والضيق منه يقال له "غار".
والرقيم: لوح حجري رقمت فيه أسماء أصحاب الكهف.
أوى الفتية إلى الكهف : اتخذوه مأوى لهم ومنزلاً نزلوا فيه.
الفتية: جمع فتى وهم شبان مؤمنون.
هيئ لنا من أمرنا رشداً : أي ييسر لنا طريق رشد وهداية.
فضربنا على آذانهم : أي ضربنا على آذانهم حجاباً يمنعهم من سماع الأصوات والحركات.
سنين عددا : أي أعواماً عدة.
ثم بعثناهم : أي من نومهم بمعنى أيقظناهم.
أحصى لما لبثوا : أي أضبط لأوقات بعثهم في الكهف.
أمداً: أي مدة محدودة معلومة.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها} من حيوان وأشجار ونبات وأنهار وبحار، وقوله {لنبلوهم} أي لنختبرهم {أيهم أحسن عملا} أي أيهم أترك لها وأتبع لأمرنا ونهينا وأعمل فيها بطاعتنا وقوله: {وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً} أي وإنا لمخربوها في يوم، من الأيام بعد عمارتها ونضارتها وزينتها نجعلها {صعيداً2 جرزاً} أي تراباً لا نبات فيه، إذاً فلا تحزن يا رسولنا ولا تغتم مما تلاقيه من قومك فإن مآل الحياة التي من أجلها عادوك وعصوننا إلى أن
__________
1 الجرز: القاحل الأجرد الذي لا نبات فيه.
2 الصعيد: وجه الأرض والجمع صُعُد، والصعيد: الطريق أيضاً لحديث الصحيح: "إياكم والقعود على الصعدات" أي: الطرق، وجمع الجرز: أجراز يقال سنين أجراز لا مطر فيها ولا عشب ولا نبات.

تصبح صعيداً جرزاً. وقوله تعالى : {أم حسبت1 أن أصحاب الكهف والرقيم2 كانوا من آياتنا عجباً} أي أظننت أيها النبي أن أصحاب الكهف أي الغار في الكهف والرقيم وهو اللوح الذي كتبت عليه ورقم أسماء أصحاب الكهف وأنسابهم وقصتهم {كانوا من آياتنا عجباً3} أي كان أعجب من آياتنا في خلق ومخلوفات، السموات والأرض بل من مخلوقات الله ما هو أعجب بكثير. وقوله: {إذْ أوى الفتية إلى الكهف} هذا شروع في ذكر قصتهم العجيبة، أي اذكر للسائلين لك عن قصة هؤلاء الفتية، إذ أووا إلى الغار في الكهف فنزلوا فيه، واتخذوه مأوى لهم ومنزلاً هروباً من قومهم الكفار أن يفتنوهم في دينهم وهم سبعة شبان ومعهم كلب لهم فقالوا سائلين ربهم: {ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشداً} أي أعطنا من عندك رحمة تصحبنا في هجرتنا هذه للشرك والمشركين {وهيء لنا من أمرنا رشداً} أي ويسر لنا من أمرنا في فرارنا من ديار المشركين خوفاً على ديننا {رشداً4} أي سداداً وصلاحاً ونجاة من أهل الكفر والباطل، قال ابن جرير الطبري في تفسيره لهذه الآيات وقد اختلف أهل العلم في سبب مصير هؤلاء الفتية إلى الكهف الذي ذكره الله في كتابه فقال بعضهم: كان سبب ذلك أنهم كانوا مسلمين على دين عيسى وكان لهم ملك عابد وثن دعاهم إلى عبادة الأصنام فهربوا بدينهم منه خشية أن يفتنهم عن دينهم أو يقتلهم فاستخفوا منه في الكهف وقوله تعالى: {فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً} أي فضربنا على آذانهم حجاباً5 يمنعهم من سماع الأصوات والحركات فناموا في كهفهم سنين معدودة أي ثلاثمائة وتسع سنين، وكانوا يتقلبون بلطف الله وتدبيره لهم من جنب إلى جنب حتى بعثهم من نومهم وهذا استجابة الله تعالى لهم إذ دعوه قائلين: {ربنا آتنا من لدنك رحمة} وقوله تعالى: {ثم بعثناهم} أي من نومهم ورقادهم {لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا} أي في الكهف {أمداً} أي لنعلم عِلّمَ مشاهدة ولينظر عبادي فيعلموا أي الطائفتين6 اللتين اختلفتا في قدر لبثهم في الكهف كانت أحصى لمدة لبثهم في الكهف حيث اختلف الناس إلى حزبين حزب يقول لبثوا في كهفهم كذا سنة وآخر يقول لبثوا إلى مدى أي غاية كذا من السنين.
__________
1 (أم) هذه هي المنقطعة التي تقدّر ببل والاستفهام للتعجيب.
2 ويجمع الرقيم على رُقُم، والرقيم: فعيل بمعنى مفعول أي: مرقوم بمعنى مكتوب.
3 إنّ إماتة الأحياء أعجب من إماتة أصحاب الكهف.
4 الرشد: بفتحتين: الخير، وإصابة الحق والنفع والصلاح أيضاً.
5 أي: حائلاً كغشاوة ونحوها مما يحول دون السمع، ومعنى ضربنا، جعلنا أو وضعنا كقوله: {ضربت عليهم الذلّة} أي: جعلت وألصقت بهم.
6 يبعد أن يكون المراد بالحزبين: هم أصحاب الكهف أنفسهم بل الذين اختلفوا فيهم حزبان من الأمة التي اكتشفتهم بعد مضيّ سنين عديدة.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان العلة في وجود الزينة على هذه الأرض، وهي الابتلاء والاختبار للناس ليظهر الزاهد فيها، العارف بتفاهتها وسرعة زوالها، وليظهر الراغب فيها المتكالب عليها الذي عصى الله من أجلها.
2- تقرير فناء كل ما على الأرض حتى تبقى صعيداً جرزاً وقاعاً صفصفاً لا يرى فيها عوج ولا أمت.
3- تقرير نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم بإجابة السائلين عن أصحاب الكهف بالإيجاز والتفصيل.
4- تقرير التواحيد ضِمْنَ قصة أصحاب الكهف إذ فروا بدينهم خوفاً من الشرك والكفر.
5- استجابة الله دعاء عباده المؤمنين الموحدين حيث استجاب للفتية فآواهم الدار ورعاهم حتى بعثهم بعد تغير الأحوال وتبدل العباد والبلاد.
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا (16)
شرح الكلمات:
نبأهم بالحق : أي خبرهم العجيب بالصدق واليقين.
وزدناهم هدى : أي إيماناً وبصيرة في دينهم ومعرفة ربهم حتى صبروا على الهجرة.

وربطنا على قلوبهم : أي شددنا عليها فقويت عزائم حتى قالوا كلمة الحق عند سلطان جائر.
لن ندعوا من دونه إلها : لن نعبد من دونه إلهاً آخر.
لو لا يأتون عليهم بسلطان : أي هلا يأتون بحجة قوية تثبت صحة عبادتهم.
على الله كذباً : أي باتخاذ آلهة من دونه تعالى يدعوها ويعبدها.
فأووا إلى الكهف: أي انزلوا في الكهف تستترون به على أعين أعدائكم المشركين.
ينشر لكم ربكم من رحمته: أي يبسط من رحمته عليكم بنجاتكم مما فررتم منه.
ويهيء لكم من أمركم : وييسر لكم من أمركم الذي أنتم فيه من الغم والكرب.
مرفقا: أي ما ترتفقون به وتنتفعون من طعام وشراب وإواء.
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى موجز قصة أصحاب الكهف أخذ في تفصيلها فقال {نحن نقص عليكم نبأهم بالحق1} أي نحن رب العزة والجلال نقص عليك أيها الرسول خبر أصحاب الكهف بالحق الثابت الذي لا شك فيه {إنهم فتية2}، جمع فتى {آمنوا بربهم} أي صدقوا بوجوده ووجوب عبادته وتوحيده فيها وقوله {وزدناهم هدى} أي هداية إلى معرفة الحق من محاب الله تعالى ومكارهه.
وقوله تعالى: {وربطنا على قلوبهم} أي قوّينا عزائمهم بما شددنا على قلوبهم حتى قاموا وقالوا على رؤوس الملأ وأمام ملك كافر {ربنا رب السموات والأرض} أي ليس لنا رب سواه، لن ندعوا من دونه إلهاً مهما كان شأنه، إذ لو اعترفنا بعبادة غيره لكنا قد قلنا إذاً شططاً من القول وهو الكذب والغلو فيه وقوله تعالى: {هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة} يخبر تعالى عن قيل الفتية لما ربط الله على قلوبهم إذ قاموا في وجه المشركين الظلمة وقالوا: {هؤلاء قومنا اتخذوا3 من دون الله آلهة، لو لا يأتون عليهم بسلطان بين} أي هلا يأتون عليهم بسلطان بيّن أي بحجة واضحة تثبت عبادة هؤلاء الأصنام من دون الله؟ ومن أين ذلك والحال أنه لا إله إلاّ الله؟!
وقوله تعالى: {فمن أظلم4 ممن افترى} ينفي الله عز وجل أن يكون هناك أظلم ممن افترى
__________
1 الحق هنا بمعنى الصدق في الإخبار والباء في قوله {بالحق} للملابسة أي: القصص المصاحب للصدق والنبأ: الخبر ذو الشأن والأهمية.
2 الجملة بيانية أي: مبينة للقصص.
3 {من} ابتدائية، أي آلهة ناشئة من غير الله تعالى.
4 {من} اسم استفهام، ومعناه الإنكار والنفي، الإنكار على من اتخذ آلهة دون الله تعالى، والنفي لوجود آلهة حق مع الله تعالى.

على الله كذباً باتخاذ آلهة يعبدها معه باسم التوسل بها وشعار التشفع والتقرب إلى الله زلفى بواسطتها!! وقوله تعالى عن قيل أصحاب الكهف لبعضهم1: {وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلاّ الله} من الأصنام والأوثان {فأووا إلى الكهف} أي فصيروا إلى غار الكهف المسمى "بنجلوس" {ينشر لكم ربكم من رحمته} أي يبسط لكم من رحمته بتيسيره لكم المخرج من الأمر الذي رميتم به من الكافر "دقينوس " {ويهيىء لكم من أمركم مرفقاً} أي ما ترتفقون به من طعام وشراب وأمن في مأواكم الجديد الذي أويتم إليه فراراً بدينكم واستخفائكم من طالبكم المتعقب لكم ليفتنكم في دينكم أو يقتلكم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية بذكر قصة أصحاب الكهف.
2- تقرير زيادة الإيمان ونقصانه.
3- فضيلة الجرأة في الحق والتصريح به ولو أدى إلى القتل أو الضرب أو السجن.
4- تقرير التوحيد وأنه لا إله إلاّ الله على لسان أصحاب الكهف.
5- بطلان عبادة غير الله لعدم وجود دليل عقلي أو نقلي عليها.
6- الشرك ظلم وكذب والمشرك ظالم مفتر كاذب.
7- تقرير فرض الهجرة في سبيل الله.
8- فضيلة الالتجاء إلى الله تعالى وطلب حمايته لعبده وكفاية الله من لجأ إليه في صدق.
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا(17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم
__________
1 أي: قالوا ما قالوه على سبيل النصح والمشورة الصائبة.

بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
شرح الكلمات:
تزاور : أي تميل.
تقرضهم: تتركهم وتتجاوز عنهم فلا تصيبهم.
في فجوة منه: متسع من الكهف ينالهم برد الريح ونسيمها.
من آيات الله : أي دلائل قدرته.
أيقاظاً : جمع يقظ أي منتبهين لأن أعينهم منفتحة.
بالوصيد: فناء الكهف.
رُعباً: منعهم الله بسببه من الدخول عليهم.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في عرض قصة أصحاب الكهف يقول تعالى في خطاب رسوله صلى الله عليه وسلم {وترى الشمس إذا طلعت تزاور1 عن كهفهم} أي تميل عنه ذات اليمين {وإذا غربت تقرضهم} أي تتركهم وتتجاوز عنهم فلا تصيبهم ذات الشمال. وقوله تعالى: {وهم في فجوة2 منه} أي متسع من الكهف ينالهم برد الريح ونسيمها، وقوله {ذلك من آيات الله} أي وذلك المذكور من ميلان الشمس عنهم إذا طلعت وقرضها لهم إذا غربت من دلائل قدرة الله تعالى ورحمته بأوليائه ولطفه بهم3، وقوله تعالى: {من يهد الله فهو المُهْتَدِ ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً} يخبر تعالى أن الهداية بيده وكذلك الإضلال فليطلب العبد من ربه الهداية إلى صراطه المستقيم، وليستعذ به من الضلال المبين إذ من يضله الله لن يوجد له ولي يرشده بحال من الأحوال، وقوله تعالى: {وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود4} أي انك إذا نظرت إليهم تظنهم أيقاظاً
__________
1 {تزاور}: تتنحى أو تميل من الازورار والزور: الميل، والأزور من الناس: المائل النظر إلى ناحية وازورّ: مال ومنه قول عنترة:
فازورّ من وقع القّنا بلبانه
وشكا إليَّ بعبرة وتحمحم
الللّبان: الصدر، والتحمحم: صوت دون الصهيل.
2 الفجوة: والجمع فجوات وفجاء وهو المتسع.
3 والمقصود بيان حفظهم من تطرق البلاء، وتغير الأبدان والأبدان والتأذي بحرّ أو برد.
4 {رقود}: جمع راقد كراكع وركوع، وساجد وسجود، والتقليب: تغيير وضع الشيء من ظاهره إلى باطنه وفعل الله تعالى هذا لحكمة وهي: حتى لا تؤثر الأرض على أجسامهم فتبلى، ولم يعرف كم مرّة يقلبون فيها في الشهر أو العام أو في أقل أو أكثر.

أي منتبهين لأن أعينهم متفتحة وهم رقود نائمون لا يحسّون بأحد ولا يشعرون، وقوله تعالى : {ونقلبهم ذات اليمين} أي جهة اليمين {وذات الشمال} أي جهة الشمال حتى لا تَعْدو التربة على أجسادهم فتبليها. وقوله: {وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد} أي: وكلبهم الذي خرج معهم، وهو كلب صيد {باسط ذراعية بالوصيد1} أي: بِفناء الكهف. وقوله تعالى: {لو اطلعت عليهم} أي لو شاهدتهم وهم رقود وأعينهم مفتحة {لوليت منهم فراراً} لرجعت فاراً منهم {ولملئت منهم رعباً} أي خوفاً وفزعاً، ذلك أن الله تعالى ألقى عليهم من الهيبة والوقار حتى لا يدنو منهم أحد ويمسهم بسوء إلى أن يوقظهم عند نهاية الأجل الذي ضرب لهم، ليكون أمرهم آية من آيات الله الدالة على قدرته وعظيم سلطانه وعجيب تدبيره في خلقه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان لطف الله تعالى بأوليائه بإكرامهم في هجرتهم إليه.
2- تقرير أن الهداية بيد الله فالمهتدي من هداه الله والضال من أضله الله ولازم ذلك طلب الهداية من الله، والتعوذ به من الضلال لأنه مالك ذلك.
3- بيان عجيب تدبير الله تعالى وتصرفه في مخلوقاته فسبحانه من إله عظيم عليم حكيم.
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ
__________
1 فناء عند مدخل الكهف فشبّه بالباب الذي هو الوصيد لأنه يوصد ويغلق.

السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا (21)
شرح الكلمات:
كذلك بعثناهم: أي كما أنمناهم تلك النومة الطويلة الخارقة للعادة بعثناهم1 من رقادهم بعثاً خارقاً للعادة أيضاً فكان في منامهم آية وفي إفاقتهم آية.
كم لبثتم: أي في الكهف نائمين.
يوماً أو بعض يوم: لأنهم دخلوا الكهف صباحاً واستيقظوا عشية.
بورقكم: بدراهم الفضة التي عندكم.
إلى المدينة : أي المدينة التي كانت تسمى أفسوس وهي طرسوس اليوم.
أزكى طعاماً: أي أيُّ أطعمة المدينة أحلُّ أي أكثر حِلِّيَّةً.
وليتلطف: أي يذهب يشتري الطعام ويعود في لطف وخفاء.
يرجموكم: أي يقتلوكم رمياً بالحجارة.
أعثرنا عليهم: أطلعنا عليهم أهل بلدهم.
ليعلموا: أي قومهم أن البعث حق للأجساد والأرواح معاً.
إذ يتنازعون: أي الكفار قالوا ابنوا عليهم أي حولهم بناء يسترهم.
فقالوا : أي المؤمنون والكافرون في شأن البناء عليهم.
وقال الذين غلبوا على أمرهم : وهم المؤمنون لنتخذن حولهم مسجداً يصلى فيه.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في الحديث عن أصحاب الكهف فقوله تعالى : {وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم} أي كما أنمناهم ثلاثمائة سنة وتسعا وحفظنا أجسادهم وثيابهم من البلى
__________
1 البعث: التحريك من سكون أي: كما ضربنا على آذانهم وزدناهم هدىً وقلبناهم بعثناهم أيضاً أي: أيقظناهم من رقادهم على ما كانوا عليه من ثيابهم وأحوالهم.

ومنعناهم من وصول أحد إليهم، وهذا من مظاهر قدرتنا وعظيم سلطاننا بعثناهم من نومهم الطويل ليتساءلوا بينهم فقال قائل منهم مستفهماً كم لبثتم يا إخواننا فأجاب بعضهم قائلاً {لبثنا يوماً أو بعض يوم} لأنهم آووا إلى الكهف في الصباح وبعثوا من رقادهم في المساء وأجاب بعض آخر بقول مُرْضٍ للجميع وهو قوله: {ربكم أعلم بما لبثتم} فسلموا الأمر إليه، وكانوا جياعاً فقالوا لبعضهم {فابعثوا أحدكم بورقكم1 هذه} يشيرون إلى عملة من فضة كانت معهم {إلى المدينة} وهي أفسوس التي خرجوا منها هاربين بدينهم. وقوله: {فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه} أي فلينظر الذي تبعثرنه لشراء الطعام أي أنواع الأطعمة أزكى أي أطهر من الحرام والاستقذار {فليأتكم2 برزق منه} لتأكلوه سداً لجوعكم وليتلطف3 في شرائه وذهابه وإيابه حتى لا يشعر بكم أحداً وعلل لقوله هذا بقوله {إنهم إن يظهروا عليكم} أي يطلعوا {يرجموكم} أو يقتلوكم رجماً بالحجارة4 {أو يعيدوكم في ملتهم} ملة الشرك بالقسر والقوة. {ولن تفلحوا إذاً أبداً} أي ولن تفلحوا بالنجاة من النار ودخول الجنة إذا أنتم عدتم للكفر والشرك.. فكفرتم وأشركتم بربكم.
وقوله تعالى: {وكذلك أعثرنا عليهم} أي وكما أنمناهم تلك المدة الطويلة وبعثناهم ليتساءلوا بينهم فيزدادوا إيماناً ومعرفة بولاية الله تعالى وحمايته لأوليائه {أعثرنا عليهم5} أهل مدينتهم الذين انقسموا إلى فريقين فريق يعتقد أن البعث حق وأنه بالأجسام، والأرواح، وفريق يقول البعث الآخر للأرواح دون الأجسام كما هي عقيدة النصارى إلى اليوم، فأنام الله الفتية وبعثهم وأعثر عليهم هؤلاء القوم المختلفين فأتضح لهم أن الله قادر على بعث الناس أحياء أجساماً وأرواحاً كما بعث أصحاب الكهف وهو معنى قوله تعالى {وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا} أي أولئك المختلفون في شأن البعث أن وعد الله حق وهو ما وعد به الناس من أنه سيبعثهم بعد موتهم يوم القيامة ليحاسبهم ويجزيهم بعملهم. {وأن الساعة لا ريب فيها} وقوله تعالى: {إذ
__________
1 قال ابن عباس كان معهم دراهم فضة عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم والورق: الفضة، وقرىء بكسر الراء وقرىء بسكونها.
2 في هذه الآية دليل على جواز الوكالة في كل مباح مأذون فيه وسواء كان الموكل عاجزاً أو قادراً ورأى بعضهم أنّ القادر لا يوكل، والصحيح جوازه، وقد وكل النبي صلى الله عليه وسلم وهو صحيح حاضر، ووكّل عليّ رضي الله عنه ووكل كثير من الصحابة من ينوب عنهم في أمورهم.
3 الجمهور على أن نصف حروف القرآن التاء من قوله: {وليتلّطف} أي: نصف القرآن من الفاتحة إلى {وليتلّطف } والنصف الآخر والأخير منها إلى الناس.
4 القتل بالرجم بالحجارة أشفى لصدور أهل الدين لأنهم يشاركون في القتل بالرجم.
5 أطعلنا عليهم. يقال عثر على كذا: وقف عليه برجله ومنه العثار للرجل وأعثر عليه: جعل غيره يعثر عليه بمعنى يقف عليه مطلعاً عليه ظاهراً.

يتنازعون بينهم أمرهم} أي أعثرناهم عليهم في وقت كان أهل البلد يتنازعون في شأن البعث والحياة الآخرة هل هي بالأجسام والأرواح أو بالأرواح دون الأجسام. فتبين لهم بهذه الحادثة أن البعث حق وأنه بالأجسام والأرواح معاً. وقوله تعالى: {فقالوا ابنوا عليهم بنياناً} واتركوهم في الكهف أي سدوا عليهم باب الكهف واتركوهم فيه لأنهم بعد أن عثروا عليهم ماتوا {ربهم أعلم بهم} وبحالهم.
وقوله تعالى: {قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً} أي قال الذين غلبوا على أمر الفتية لكون الملك كان مسلماً معهم {لنتخذن عليهم مسجداً1} أي للصلاة فيه وفعلاً بنو على مقربة من فم الغار بالكهف.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته.
2- وجوب طلب الحلال في الطعام والشراب وغيرهما.
3- الموت على الشرك والكفر مانع من الفلاح يوم القيامة أبداً.
4- تقرير معتقد البعث والجزاء الذي ينكره أهل مكة.
5- مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وقوله "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق يوم القيامة" (في الصحيحين).
6- مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم "لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع". إذ قد بنى2 المسلمون على قبور الأولياء والصالحين المساجد. بعد القرون المفضلة حتى أصبح يندر وجود مسجد عتيق خال من قبر أو قبور. 3.
__________
1 اتخاذ المساجد على القبور من عمل أهل الكتاب قبل هذه الأمّة، وقد بيّن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذّر منه وحرّمه على أمته لما يفضي به إلى الشرك وعبادة غير الله تعالى فقد روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما ذكرتا كنيسة رأتاها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: "إنّ أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوّروا تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة". وروى مسلم: "لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها" وفي الصحيحين: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا".
2 روى الترمذي وصححه عن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجصص القبور وأن يكتب عليها أو يبنى عليها وأن توطأ" وروى أبو داود والترمذي وغيرهما أن علياً قال لأحد رجاله أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاّ تدع تمثالاً إلاّ طمسته ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته ولا صورة إلاّ طمستها" والمراد بالمشرف: العالي المرتفع أما تسنيم القبر شبراً وأي ليعرف فلا بأس به.
3 ذكر القرطبي هنا أنّ الدفن في التابوت جائز لاسيما في الأرض الرخوة وقال: روي أنّ دانيال عليه السلام كان في تابوت من حجر وأنّ يوسف عليه السلام أوصى بأن يتخذ له تابوت من زجاج.

سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
شرح الكلمات:
رجماً بالغيب: أي قذفاً بالظن غير يقين علم.
ما يعلمهم إلاّ قليل : أي من الناس.
فلا تمار فيهم: لا تجادل في عدتهم.
ولا تستفت فيهم منهم أحداً : أي من أهل الكتاب، الاستفتاء: الاستفهام والسؤال.
إلاّ أن يشاء الله: أي إلاّ أن تقول إن شاء الله.
لأقرب من هذا رشداً: هداية وأظهر دلالة على نبوتي من قصة أصحاب الكهف.
له غيب السموات والأرض : أي علم غيب السموات والأرض وهو ما غاب فيهما.
أبصر به وأسمع : أي أبصر بالله واسمع به صيغة تعجب! والأصل ما أبصره وما أسمعه.
ما لم من دونه من ولي: أي ليس لأهل السموات والأرض من دون الله أي من ناصر.

ولا يشرك في حكمه أحداً : لأنه غني عما سواه ولا شريك له.
معنى الآيات:
مازال السياق في الحديث عن أصحاب الكهف يخبر تعالى بأن الخائضين في شان أصحاب الكهف سيقول بعضهم بأنهم ثلاثة رابعهم كلبهم ويقول بعض آخرهم خمسة سادسهم كلبهم1 {رجماً بالغيب} أي قذفاً بالغيب من غير علم يقيني، ويقول بعضهم هم سبعة وثامنهم كلبهم، ثم أمر الله تعالى رسوله أن يقول لأصحابه تلك الأقوال: {ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلاّ قليل} أي ما يعلم عددهم إلاّ قليل من الناس قال ابن عباس أنا من ذلك القليل فعدتهم سبعة وثامنهم كلبهم ولعله فهم ذلك من سياق الآية إذ ذكر تعالى أن الفريقين الأول والثاني قالوا ما قالوه من باب الرجم بالغيب لا من باب العلم والمعرفة، وسكت عن الفريق الثالث، فدل ذلك على أنهم سبعة وثامنهم كلبهم والله أعلم. وقوله تعالى: {فلا تمار فيهم إلاّ مراءً ظاهراً2} أي ولا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلاّ جدالاً بيناً ليناً بذكرك ما قصصنا عليك دون تكذيب لهم، ولا موافقة لهم. وقوله تعالى: {ولا تستفت فيهم3} أي في أصحاب الكهف {منهم} أي من أهل الكتاب {أحداً} وذلك لأنهم لا يعلمون عدتهم وإنما يقولون بالخرص والتخمين لا بالعلم واليقين. وقوله تعالى : {ولا تقولن لشيء4 إني فاعل ذلك غداً إلاّ أن يشاء الله} أي لا تقل يا محمد في شأن تريد فعله مستقبلاً أي سأفعل كذا إلاّ أن تقول إن شاء الله5 وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما سأله وفد قريش بإيعاز من اليهود عن المسائل الثلاث: الروح، وأصحاب الكهف وذي القرنين، قال لسائليه: أجيبكم غداً انتظاراً للوحي ولم يقل إن شاء الله، فأدبه ربه تعالى بانقطاع الوحي عنه نصف شهر، وأنزل هذه السورة وفيها هذا التأديب له صلى الله عليه وسلم وقوله: {واذكر ربك إذا نسيت} أي إذا نسيت الاستثناء الذي علمناك فاذكره ولو بعد حين لتخرج من الحرج.
أما الكفارة فلازمة إلاّ أن يكون الاستثناء متصلاً بالكلام وقوله تعالى: {وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً} أي وقل بعد النسيان والاستثناء المطلوب منك {عسى أن يهديني
__________
1 أصل الرجم هو الرجم بالحجارة ونحوها والمراد به هنا، رمي الكلام من غير روّية ولا تثبّت، والمراد أنّ ما قالوه في بيان عددهم هو من باب القول بالظن بدون علم.
2 المراد: بالظاهر هو الذي لا سبيل إلى إنكاره ولا يطول الخوض فيه.
3 الاستفتاء: طلب الفتيا وهي الخبر عن أمر لا يعلمه إلاّ ذوو العلم روي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سأل بعض نصارى نجران فنهي عن ذلك.
4 لشيء أي: في شيء أو لأجل شيء.
5 أي: إلاّ أن تذكر مشيئة الله تعالى.

ربي لأقرب من هذا رشداً} أي لعل الله تعالى أن يهديني فيسددني لأَسَدَّ ما وعدتكم أن أخبركم به مما هو أظهر دلالة على نبوتي مما سألتموني عنه اختباراً لي. وقوله تعالى: {ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة1 سنين وازدادوا تسعا} يخبر تعالى أن الفتية لبثوا في كهفهم رقوداً من ساعة دخلوه إلى أن أعثر الله عليهم قومهم ثلاثمائة سنين بالحساب الشمسي وزيادة تسع سنين بالحساب القمري.
وقوله: {قل الله أعلم بما لبثوا} رد به على من قال من أهل الكتاب إن الثلاثمائة والتسع سنين هي من ساعة دخولهم الكهف إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأبطل الله هذا بتقرير الثلثمائة والتسع أولاً وبقوله {الله أعلم بما لبثوا} ثانياً وبقوله: {له غيب السموات والأرض} أي ما غاب فيهما، ثالثاً، وبقوله : {أبصر به وأسمع} أي ما أبصره بخلفه وما أسمعه لأقوالهم حيث لا يخفى عليه شيء من أمورهم وأحوالهم خامساً، وقوله (ليس لهم} أي لأهل السموات والأرض من دونه تعالى {من ولي} أيْ ولا ناصر {ولا يشرك في حكمه أحداً} لغناه عما سواه ولعدم وجود شريك له بحال من الأحوال.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان اختلاف أهل الكتاب وعدم ضبطهم للأحداث التاريخية.
2- بيان عدد فتية أصحاب الكهف وأنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
3- من الأدب مع الله تعالى أن لا يقول العبد سأفعل كذا مستقبلاً إلاّ قال بعدها إن شاء الله.
4- من الأدب من نسي الاستثناء أن يستثني ولو بعد حين فإن حلف لا ينفعه الاستثناء إلاّ إذا كان متصلاً بكلامه.
5- تقرير المدة التي لبثها الفتية في كهفهم وهي ثلاث مائة وتسع سنين بالحساب القمري.
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ
__________
1 قرأ الجمهور {ثلثمائةٍ} بالتنوين و {سنين} منصوب على التمييز أو على البدلية، فهو مجرور، وقرأ خلافهم بإضافة ثلثمائة إلى سنين.

يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
شرح الكلمات:
واتل ما أوحي إليك من الكتاب: أي اقرأ القرآن تعبداً ودعوة وتعليماً.
لا مبدل لكلماته : أي لا مغير لكلمات الله في ألفاظها ولا معانيها وأحكامها.
ملتحداً : أي ملجأ تميل إليه إحتماءاً به.
واصبر نفسك : أي إحبسها.
يريدون وجهه : أي طاعته ورضاه، لا عرضاً من عرض الدنيا.
ولا تعد عيناك عنهم : أي لا تتجاوزهم بنظرك إلى غيرهم من أبناء الدنيا.
تريد زينة الحياة الدنيا : أي بمجالستك الأغنياء تريد الشرف والفخر.
من أغفلنا قلبه: أي جعلناه غافلاً عما يجب عليه من ذكرنا وعبادتنا.
وكان أمره فرطاً: أي ضياعاً وهلاكاً.
أحاط بهم سرادقها: حائط من نار أحيط بهؤلاء المعذبين في النار.

بماء كالمهل: أي كعكر الزيت أي الدردي وهو ما يبقى في أسفل الإناء ثخناً رديئاً.
من سندس واستبرق: أي مَارَقَّ من الديباج، والاستبرق ما غلظ منه أي من الديباج.
معنى الآيات:
بعد نهاية الحديث عن أصحاب الكهف أمر تعالى رسوله بتلاوة كتابه فقال: {واتل1} أي واقرأ {ما أوحي إليك من كتاب ربك} تعبداً به ودعوة للناس إلى ربهم به وتعليماً للمؤمنين بما جاء فيه من الهدى.
وقوله: {لا مبدل لكلماته} أي لا تتركن تلاوته والعمل به والدعوة إليه فتكون من الهالكين فإن ما وعد ربك به المعرضين عنه المكذبين به كائن حقاً وواقع صدقاً فإن ربك {لاّ مبدل لكلماته} المشتملة على وعده لأوليائه ووعيده لأعدائه ممن كفروا به وكذبوا بكتابه فلم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه.
وقوله تعالى : {ولن تجد من دون ملتحداً} أي انك إن لم تتل كتابه الذي أوحاه إليك وتعمل بما فيه فَنَالَكَ ما أوعد به الكافرين المعرضين عن ذكره. {لن تجد من دون الله ملتحداً} أي موئلاً تميل إليه وملجأ تحتمي به وإذا كان مثل هذا الوعيد الشديد يوجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم فغيره ممن تركوا تلاوة القرآن والعمل به فلا أقاموا حدوده ولا أحلوا حلاله ولا حرموا حرامه أولى بهذا الوعيد وهو حائق بهم لا محالة إن لم يتوبوا قبل موتهم وقوله تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} نزل هذا التوجيه للرسول صلى الله عليه وسلم عندما عرض عليه المشركون إبعاد أصحابه الفقراء كبلال وصهيب وغيرهما ليجلسوا إليه ويسمعوا منه فنهاه ربه عن ذلك وأمره أن يحبس نفسه مع أولئك الفقراء المؤمنين {الذين يدعون} ربهم في صلاتهم في الصباح والمساء لا يريدون بصلاتهم وتسبيحهم ودعائهم عرضاً من أعراض الدنيا وإنما يريدون رضا الله ومحبته بطاعته في ليلهم ونهارهم.
وقوله تعالى: {ولا تعد عيناك2 عنهم} أي لا تتجاوز ببصرك هؤلاء المؤمنين الفقراء إلى أولئك الأغنياء تريد مجالستهم للشرف والفخر وقوله {ولا تطع3 من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} فجعلناه غافلاً
__________
1 تضمنت هذه الآية: {واتل} الخ الرد على المشركين إذ المعنى: لا تعبأ بهم إن كرهوا تلاوة بعض القرآن لأن فيها التعريض بآلهتهم والتنديد بها حتى طالبوك بأن تجعل بعض القرآن للثناء عليها أو عليهم.
2 لا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة.
3 روي أنها نزلت في أمية بن خلف الجمحي لأنه دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمر كرهه وهو إبعاد الفقراء وتقريب صناديد قريش.

عن ذكرنا وذكر وعدنا ووعيدنا ليكون من الهالكين لعناده وكبريائه وظلمه. {وكان أمره فرطاً1} أي ضياعاً وهلاكاً، وقوله تعالى في الآية الثالثة من هذا السياق {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن2 ومن شاء فليكفر} أي هذا الذي جئت به وأدعو إليه من الإيمان والتوحيد والطاعة لله بالعمل الصالح هو {الحق من ربكم} أيها الناس. {فمن شاء} الله هدايته فآمن وعمل صالحاً فقد نجاه ومن لم يشأ الله هدايته فبقي على كفره فلم يؤمن فقد خاب وخسر.
وقوله: {إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها} أي جدرانها النارية. {وإن يستغيثوا} من شدة العطش {يغاثوا بماء كالمهل} رديئاً ثخناً {يشوي الوجوه} إذا أدناه الشارب من وجهه ليشرب شوى جلده ووجهه ولذا قيل فيه ذم له. {بئس الشراب وساءت} أي جهنم {مرتفقاً} في منزلها وطعامها وشرابها إذ كله سوء وعذاب هذا وعيد من اختار الكفر على الإيمان وأما وعد من آمن وعمل صالحاً وقد تضمنته الآيتان (31-32) إذ قال تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} هذا حكمنا الذي لا تبديل له وبين تعالى أجرهم على إيمانهم وإحسان أعمالهم فقال: {أولئك لهم جنات عدن} أي إقامة دائمة {تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثياباً خضراً من سندس واستبرق، متكئين فيها على الآرائك} وهي الأسرة بالحجلة(). ثم أثنى الله تعالى على نعيمهم الذي أعده لهم بقوله: {نعم الثواب} الذي3 أثيبوا به {وحسنت} الجنة في حليها وثيابها وفرشها وأسرتها وطعامها وشرابها وحورها ورضوان الله فيها {حسنت4 مرتفقاً} يرتفقون فيه وبه، جعلنا الله من أهلها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان خيبة وخسران المعرضين عن كتاب الله فلم يتلوه ولم يعملوا بما جاء فيه من شرائع وأحكام.
__________
1 الفرط: الظلم والاعتداء وهو مشتق من الفروط وهو السبق لأنّ الظلم سبق في الشر والظلم يؤدي إلى الهلاك والضياع والخسران.
2 الأمر في قوله {فليؤمن} و{فليكفر} للتسوية بينهما وليس في هذا إذن لهما بالكفر وإنما الخطاب للتهديد والوعيد لمن اختار الكفر على الإيمان بدليل الجملة التعليلية: {إنا أعتدنا للظالمين ناراً} الخ، والمراد بالظالمين المشركون لقوله تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم}.
3 {الأرائك}: جمع أريكة وهي مجموع سرير وحجلة، والحجلة: قبة من ثياب تكون في البيت تجلس فيها المرأة أو تنام فيها ولذلك يقال للنساء ربات الحجال فإذا وضع فيها سرير فهي أريكة يجلس فيها وينام.
4 (المرتفق): محل الارتفاق، وإطلاق المرتفق على النار تهكّم، إذ النار لن تكون محل راحة وارتفاق أبداً بل هي دار شقاء وعذاب.

2- الترغيب في مجالسة أبناء الآخرة وهم الفقراء الصابرون وترك أبناء الدنيا والإعراض عما هم فيه.
3- على الداعي إلى الله تعالى أن يبين الحق، والناس بعد بحسب ما كتب لهم أو عليهم.
4- الترغيب والترهيب بذكر جزاء الفريقين المؤمنين والكافرين.
5- عذاب النار شر عذاب، ونعيم الجنة، نعم النعيم ولا يهلك على الله إلاّ هالك.
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا(34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)
شرح الكلمات:
واضرب لهم مثلاً : أي اجعل لهم مثلاً هو رجلين .. الخ.
جنتين : أي بستانين.
وحففناهما بنخل : أي أحطناهما بنخل.
آتت أكلها : أي أعطت ثمارها وهو ما يؤكل.
ولم تظلم منهم شيئاً : أي وَلَمْ تنقص منه شيئاً بل أتت به كاملاً ووافياً.

خلالهما نهراً : أي خلال الأشجار والنخيل نهراً جارياً.
وهو يحاوره : أي يحادثه ويتكلم معه.
وأعز نفراً: أي عشيرة ورهطاً.
تبيد: أي تفنى وتذهب.
خيراً منها منقلباً: أي مرجعاً في الآخرة.
أكفرت بالذي خلقك من تراب؟ ! : الاستفهام للتوبيخ والخلق من تراب باعتبار الأصل هو آدم.
من نطفة : أي مني.
ثم سواك : أي عدلك وصيرك رجلاً.
لكنا : أي لكن أنا، حذفت الألف وأدغمت النون في النون فصارت لكنا.
هو الله ربي : أي أنا أقول الله ربي.
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: واضرب لأولئك المشركين المتكبرين الذين اقترحوا عليك أن تطرد الفقراء المؤمنين من حولك حتى يجلسوا إليك ويسمعوا منك {اضرب1 لهم} أي اجعل لهم مثلاً: {رجلين} مؤمناً وكافراً {جعلنا لأحدهما} وهو الكافر {جنتين من أعناب وحففناهما بنخل} أي أحطناهما بنخل، {وجعلنا بينهما} أي بين الكروم والنخيل {زرعاً} {كلتا الجنتين2 آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً} أي لم تنقص منه شيئاً {وفجرنا خلالهما نهراً} ليسقيهما. {وكان3 له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره} أي في الكلام يراجعه، ويُفاخره: {أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً4} أي عشيرة ورهطاً، قال هذا فخراً وتعاظماً. {ودخل جنته} والحال أنه {ظالم لنفسه} بالكفر والكبر وقال: {ما أظن5 أن تبيد هذه} يشير إلى جنته {أبداً} أي لا تفنى {وما أظن الساعة
__________
1 اختلف في تحديد الفريقين الذين ضرب لهما المثل، وفي الرجلين اللّذين ضرب بهما المثل، والظاهر أنّ الفريقين الذين ضرب لهما المثل هم المؤمنون والكافرون المستنكفون عن مجالسة المؤمنين، وأما الرجلان فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهما من بنى إسرائيل وهو الظاهر والله أعلم.
2 قال سيبويه: أصل كلا كِّلْوَ وأصل كلتا كلوا فحذفت لام الفعل من كلتا وعوضت التاء عن اللام المحذوفة لتدل التاء على التأنيث.
3 {وكان له ثمر..} الجملة في محل نصب على الحال، والثمر بضم الثاء والميم المال الكثير المختلف من النقدين والأنعام والجنات والمزارع مأخوذ من: ثمر ماله: إذا كثر، وقرأ الجمهور بضم الثاء والميم وقرأ حفص بفتحهما.
4 أعزّ أي أشد عزّة، والنفر: عشيرة الرجل الذين ينفرون معه للدفاع أو القتال والمراد بالنفر هنا أولاده.
5 الظنّ هنا بمعنى الاعتقاد ومعنى تبيد: تفنى وتهلك.

قائمة ولئن رددت إلى ربي} كما تقول أنت {لأجدن خيراً منها1} أي من جنتي {منقلباً} أي مرجعاً إن قامت الساعة وبعث الناس وبعثت معهم. هذا القول من هذا الرجل هو ما يسمى بالغرور النفسي الذي يصاب به أهل الشرك والكبر. وهنا قال له صاحبه المسلم {وهو يحاوره} أكفرت بالذي خلقك من تراب}؟ وهو الله عز وجل حيث خلق أباك آدم من {تراب ثم من نطفة2} أي ثم خلقك أنت من نطفة أي من مني {ثم سواك رجلاً} وهذا توبيخ من المؤمن للكافر المغرور ثم قال له: {لكنا هو الله ربي} أي لكن أنا أقول: هو الله ربي، {ولا أشرك بربي أحداً} من خلقه في عبادته.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استحسان ضرب الأمثال للوصول بالمعاني ا الخفية إلى الأذهان.
2- بيان صورة مثالية لغرس بساتين النخل والكروم.
3- تقرير عقيدة التوحيد والبعث والجزاء.
4- التنديد بالكبر والغرور حيث يفضيان بصاحبهما إلى الشرك والكفر.
وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُن لَّهُ
__________
1 قرأ الجمهور (منهما) بالتثنية وقرأ عاصم (منها) بالإفراد.
2 النطفة: ماء الرجال مشتقة من النطف الذي هو السيلان.

فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
شرح الكلمات:
ما شاء الله: أي يكون وما لم يشأ لم يكن.
حسباناً من السماء: أي عذاباً ترمى به فتؤول إلى أرض ملساء دحضاً لا يثبت عليها قدم.
أو يصبح ماؤها غوراً : أي غائراً في أعماق الأرض فلا يَقْدِرُ على استنباطِه وإخراجه.
وأحيط بثمره: أي هلكت ثماره، فلم يبق منها شيء.
يقلب فكفيه: ندماً وحسرة على ما أنفق فيها من جهد كبير ومال طائل.
وهي خاوية على عروشها : أي ساقطة على أعمدتها التي كان يُعرش بها للكرم، وعلى جدران مبانيها.
فئة : جماعة من الناس قوية كعشيرته من قومه.
هنالك: أي حين حل العذاب بصاحب الجنتين أي يوم القيامة.
الولاية: أي الملك والسلطان الحق لله تعالى.
خير ثواباً وخير عقباً: أي الله تعالى خير من يثيب وخير من يُعقب أي يحزي بخير.
معنى الآيات:.
ما زال السياق الكريم في المثل المضروب للمؤمن الفقير والكافر الغني فقد قال المؤمن للكافر ما أخبر تعالى به في قوله: {ولو لا إذ دخلت جنتك} أي هلا إذ دخلت بستانك قلت عند تعجبك من حسنه وكماله {ما شاء الله} أي1 كان {لا قوة إلا2 بالله} أي لا قوة لأحد على فعل شيء
__________
1 هذا وجه في إعراب (ما شاء الله) ما: مبتدأ والخبر كان، وهناك وجه آخر حسّنه بعضهم وهو: هذه الجنة ما شاء الله. فما خبر عن مبتدأ محذوف ويجوز تقديره أيضاً: الأمر الذي شاء الله إعطاءه.
2 قال مالك.: ينبغي لكل من دخل داره أو بستانه أن يقول: ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله، وروي أنه كان مكتوباً على باب وهب بن منبّه ما شاء الله لا قوّة إلاّ بالله، وروى مسلم أن: لا حول ولا قوة إلاّ بالله كنز من كنوز الجنة وورد استحباب قول بسم الله آمنت بالله توكلت على الله لا قوة إلاّ بالله.

أو تركه إلاّ بإقدار الله تعالى له وإعانته عليه قال هذا المؤمن نصحاً للكافر وتوبيخاً له. ثم قال له1 {إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً} ا ليوم {فعسى2 ربي} أي فرجائي في الله {أن يؤتيني خيراً من جنتك ويرسل عليها} أي على جنة الكافر {حسبانا3 من السماء} أي عذاباً ترمى به . {فتصبح صعيداً زلقاً}؟ أي تراباً أملس لا ينبت زرعاً ولا يثبت عليه قدم. {أو يصبح ماؤها غوراً} الذي تسقى به غائراً في أعماق الأرض فلن تقدر على إستخراجه مرة أخرى، وهو معنى {فلن تستطيع له طلباً}.
وقوله تعالى: في الآيات (40)، (41)، (42) يخبر تعالى أن رجاء المؤمن قد تحقق إذ قد أحيط فعلاً ببستان الكافر فهلك بكل ما فيه من ثمر {فأصبح يقلب كفيه} ندماً وتحسراً {على ما أنفق فيها} من جهد ومال في جنته {وهي خاوية على عروشها} أي ساقطة على أعمدة الكرم التي كان يعرشها للكرم أي يحمله عليها كما سقطت جدران مبانيها على سقوفها وهو يتحسر ويتندم ويقول: {يا ليتني لم أشرك بربي أحداً، ولم تكن له} جماعة قوية تنصره {من دون الله وما كان} المنهزم {منتصراً} لأن من خذله الله لا ناصر له. قال تعالى: في نهاية المثل الذي هو أشبه بقصة {هنالك} أي يوم القيامة {الولاية} أي القوة والملك والسلطان {لله} أي المعبود {الحق} لا لغيره من الأصنام والأحجار {هو} تعالى {خير ثواباً} أي خير من يثيب على الإيمان والعمل الصالح. {وخير عقباً4} أي خير من يعقب أي يجزي بحسن العواقب
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1 بيان مآل المؤمنين كصهيب وسلمان وبلال، وهو الجنّة ومآل الكافرين كأبي جهل وعقبة بن أبي معيط وهو النار.
2- استحباب قول من أعجبه شيء: {ما شاء الله، لا قوة إلاّ بالله} فإنه لا يرى فيه مكروهاً إن شاء الله.
__________
1 أنا: ضمير فصل وأقل مفعول ثانٍ لترن وحذفت ياء التكلم بعد نون الوقاية تخففاً.
2 (عسى) للرجاء وهو طلب الأمر القريب الحصول وأراد به هنا الدعاء لنفسه وعلى صاحبه الكافر المشرك.
3 الحسبان: مصدر كالغفران وهو هنا وصف لمحذوف تقديره: هلاكاً حسباناً أي: مقدراً من الله تعالى، وقيل هو اسم جمع حسبانة أي: صاعقة، وقيل: اسم للجراد وهو محتمل لكل ما ذكر.
4 العقب: بمعنى العاقبة وقرىء: بضمتين عُقُب وقرىء بضم العين وسكون القات بمعنى: عاقبة وهي آخرة الأمر وما يرجوه المرء من سعيه وعمله ولذا فسرت الآية بهو خير عاقبة لمن رجاه وآمن به، يقال: هذا عاقبة أمر فلان وعقباه وعقبه: أي آخره.

3- استجابة الله تعالى لعباده المؤمنين وتحقيق رجائهم فيه سبحانه وتعالى.
4- المخذول من خذلة الله تعالى فإنه لا ينصر أبداً.
5- الولاية بمعنى1 الموالاة النافعة للعبد هي موالاة الله تعالى لا موالاة غيره.
6- الولاية بمعنى الملك والسلطان لله يوم القيامة ليست لغيره إذ الملك والأمر كلاهما لله تعالى.
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
شرح الكلمات:
المثل : الصفة المعجبة.
هشيماً : يابساً متفتتاً.
تذروه الرياح : أي تنثره الرياح وتفرقه لخفته ويبوسته.
مقتدراً : أي كامل القدرة لا يعجزه شيء.
زينة الحياة الدنيا: أي يتجمل بما فيها.
والباقيات الصالحات : هي الأعمال الصالحة من سائر العبادات والقربات.
وخير أملاً : أي ما يأمله الإنسان وينتظره من الخير.
معنى الآيات:
هذا مثل آخر مضروب أي مجعول للحياة الدنيا حيث اغتر بها الناس وخدعتهم فصرفتهم عن الله تعالى ربهم فلم يذكروه ولم يشكروه فاستوجبوا غضبه وعقابه.
__________
1 {الولاية}: بفتح الواو: الموالاة، وبكسرها: الملك والسلطان.

قال تعالى: في خطاب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {واضرب لهم} أي لأولئك المغرورين بالمال والسلطان {مثل الحياة الدنيا} أي صفتها الحقيقية التي لا تختلف عنها بحال {كماء أنزلناه من1 السماء، فاختلط به نبات الأرض} فَزَهَا وازدهر واخضرّ وأنظر، فأعجب أصحابه، وأفرحهم وسرهم ما يأملون منه. وفجأة أتاه أمر الله برياح لاحِفَة، محرقة، {فأصبح2 هشيماً} أي يابساً متهشماً متكسراً {تذروه الرياح} هنا وهناك {وكان الله على كل شيء مقتدراً} أي قادراً كامل القدرة، فأصبح أهل الدنيا مبلسين آيسين من كل خير.
وقوله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً} إنه بعد أن ضرب المثل للحياة الدنيا التي غرت أبناءها فأوردتهم موارد الهلاك أخبر بحقيقة أخرى، يعلم فيها عباده لينتفعوا بها، وهي أن {المال والبنون} أو الأولاد {زينة الحياة3 الدنيا} لا غير أي يتجمل بهما ساعة ثم يبيدان ويذهبان، فلا يجوز الاغترار بهما، بحيث يصبحان همَّ الإنسان في هذه الحياة فيصرفانه عن طلب سعادة الآخرة بالإيمان وصالح الأعمال، هذا جزء الحقيقة في هذه الآية، والجزء الثاني هو أن {الباقيات الصالحات} والمراد بها أفعال البر وضروب العبادات ومنها سبحان الله4، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، أي هذه {خير ثواباً} أي جزاءً وثماراً، يجنيه العبد من الكدح المتواصل في طلب الدنيا مع الإعراض عن طلب الآخرة، {وخير أملاً} يأمله الإنسان من الخير ويرجوه ويرغب في تحصيله.
__________
1 بعض الحكماء شبّه الحياة الدنيا بالماء للاتصالات الآتية:
1- الماء لا يستقر في موضع والحياة كذلك.
2- الماء يتغيّر والدنيا كذلك.
3- الماء لا يبقى والدنيا كذلك.
4- الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل والدنيا لا يدخلها أحد ويسلم من فتنها وآفاتها.
5- الماء إذا كان بقدر كان نافعاً منبتاً وإذا جاوز المقدار كان ضاراً مهلكاً وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر.
وفي الصحيح "قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنّعه الله بما آتاه" رواه مسلم.
2 يقال: هشمه يهشمه إذا كسره وفتّته وهشيم بمعنى: مهشوم فهو فعيل بمعنى مفعول كقتيل بمعنى مقتول، وهشم الثريد إذا فتته وبه سمي هاشم بن مناف وكان اسمه عمرو وفيه يقول عبدالله بن الزبعري:
عمر العُلا هشم الثريد لقومه
ورجال مكة مسنتون عجاف
3 قيل: في المال والبنين زينة الحياة الدنيا: لأن في المال جمالاً ونفعاً وفي البنين قوة ودفعاً والمثال مضروب لحقارة الدنيا وسرعة زوالها ولذا قيل: لا تعقد قلبك مع المال لأنه فيء ذاهب ولا مع النساء لأنها اليوم معك وغداً مع غيرك ولا مع السلطان لأنه اليوم لك وغداً لغيرك.
4 روى مالك في الموطأ: أن الباقيات الصالحات هنّ: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.==

ج6. أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان حقارة الدنيا وسوء عاقبتها.
2- تقرير أن المال والبنين لا يعدوان كونهما زينة، والزينة سريعة الزوال وهما كذلك فلا يجوز الاغترار بهما، وعلى العبد أن يطلب ما يبقى على ما يفنى وهو الباقيات الصالحات من أنواع البر والعبادات من صلاة وذكر وتسبيح وجهاد، ورباط، وصيام وزكاة.
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49 )
شرح الكلمات:
نُسير الجبال : أي تقتلع من أصولها وتصير هباءً منبثاً.
بارزة : ظاهرة إذ فنى كل ما كان عليها من عمران.
فلم نغادر : لم نترك منهم أحداً.
موعداً : أي ميعاداً لبعثكم أحياء للحساب والجزاء.
ووضع الكتاب : كتاب الحسنات وكتاب السيئات فيؤتاه المؤمن بيمينه والكافر بشماله.
مشفقين : خائفين.
يا ويلتنا: أي يا هلكتنا احضري هذا أوَان حُضُورك.
لا يغادر صغيرة: أي لا يترك صغيرة من ذنوبنا ولا كبيرة إلاّ جمعها عَدَّاً.

ما عملوا حاضراً: مثبتاً في كتابهم، مسجلاً فيها.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى مآل الحياة الدنيا وأنه الْفَناء والزوال ورغِّب في الصالحات وثوابها المرجوا يوم القيامة، ناسب ذكر نبذة عن يوم القيامة، وهو يوم الجزاء على الكسب في الحياة الدنيا قال تعالى: {ويوم نسير الجبال} أي اذكر {يوم نسير} أي تقتلع1 من أصولها وتصير هباءً منبثاً، {وترى الأرض بارزة} ظاهرة ليس عليها شيء فهي قاع صفصف {وحشرناهم} أي جمعناهم من قبورهم للموقف {فلم نغادر2 منهم أحداً} أي لم نترك منهم أحداً كائناً من كان، {وعرضوا على ربك} أيها الرسول صفاً وقوفاً أذلاء، وقيل لهم توبيخاً وتقريعاً: {لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة3} لا مال معكم ولا سلطان لكم بل حفاة عراة غُرلاً4، جمع أغرل، وهو الذي لم يختتن.
وقوله تعالى: {بل زعمتم5} أي ادعيتم كذباً أنا لا نجمعكم ليوم القيامة، ولن نجعل لكم موعداً فها أنتم مجموعون لدينا تنتظرون الحساب والجزاء، وفي هذا من التوبيخ والتقريع ما فيه، وقوله تعالى في الآية {ووضع الكتاب} يخبر تعالى عن حال العرض عليه فقال: {ووضع الكتاب6} أي كتاب الحسنات والسيئات وأعطى كل واحد كتابه فالمؤمن يأخذه بيمينه والكافر بشماله، {فترى المجرمين} في تلك الساعة {مشفقين} أي خائفين {مما فيه} أي في الكتاب من السيئات {ويقولون: يا وليتنا} 7 ندماً وتحسراً ينادون يا ويلتهم وهي هلاكهم قائلين:
__________
1 هذا على قراءة تُسير بالتاء المضمومة للبناء للمفعول وقراءة الجمهور {نُسير الجبال} والفاعل هو الله تعالى، وقرىء أيضاً: تسير الجبال بفتح التاء مضارع سار يسير كقوله تعالى: {وتسير الجبال سيراً}.
2 المغادرة الترك ومنه الغدر لأنه ترك الوفاء، وسمي الغدير من الماء غديراً لأنه ترك بعد السيل، ومنه غدائر المرأة وهو شعرها تضفره وتتركه خلفها.
3 أخرج الحافظ أبو القاسم بن مندة في كتاب التوحيد له عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تبارك وتعالى ينادي يوم القيامة بصوت رقيع غير فظيع: يا عبادي أنا الله لا إله إلاّ أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين يا عبادي لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون احضروا حجتكم ويسروا جوابكم فإنكم مسؤولون محاسبون يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفاً على أنامل أقدامهم للحساب" تضمن هذا الحديث تفسيراً كاملاً لهذه الآيات.
4 روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غرلاً" غير مختونين".
5 هذا الخطاب لمنكري البعث والجزاء من أهل الكفر والشرك.
6 {الكتاب}: اسم جنس يشمل كل الكتب التي يُعطاها العباد في المحشر.
7 الويلة: مؤنث الويل للمبالغة وهي سوء الحال والهلاك كما أنّت الدار على داره للدلالة على سعة المكان، ونداء الويلة معناه: الدعاء على أنفسهم بالهلاك لمشاهدتهم عظائم الأهوال وما ينتظرهم من صنوف العذاب نادوا ويلتهم طالبين حضورها .

{ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة1 ولا كبيرة} من ذنوبنا {إلاّ أحصاها} أي أثبتها عَدّاً.
وقوله تعالى في آخر العرض {ووجدوا ما عملوا حاضراً} أي من خير وشر مثبتاً في كتابهم، وحوسبوا به، وجوزوا عليه {ولا يظلم ربك أحداً} بزيادة سيئة على سيئاته أو بنقص حسنة من حسناته، ودخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرضها على مسامع المنكرين لها.
2- يبعث الإنسان كما خلقه الله ليس معه شيء، حافياً عارياً لم يقطع منه غفلة الذكر.
3- تقرير عقيدة كتب الأعمال في الدنيا وإعطائها أصحابها في الآخرة تحقيقاً للعدالة الإلهية.
4- نفي الظلم عن الله تعالى وهو غير جائز عليه لغناه المطلق وعدم حاجته إلى شيء.
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
شرح الكلمات:
اسجدوا لآدم : أي حيّوه بالسجود له كما أمرتكم طاعة لي.
إلا إبليس : أي الشيطان أبى السجود ورفضه وهو معنى {فسق عن أمر ربه} أي
__________
1 أصغر الصغائر: النظر بغير قصد وأكبر الكبائر الشرك بالله تعالى ولا ضابط حق الكبيرة إلا أن هناك ضابطاً يستأنس به وهو: ما توعد عليه أو لعن عليه أو وضع حدّ له في الكتاب أو السنة فهو كبيرة.

خرج عن طاعته، ولم يكن من الملائكة، بل كان من الجن، لذا أمكنه أن يعصي ربه!
أفتتخذونه وذريته أولياء؟ : الاستفهام للاستنكار، ينكر تعالى على بني آدم اتخاذ الشيطان وأولاده أولياء يطاعون ويوالون بالمحبة والمناصرة، وهم لهم عدو، عجباً لحال بني آدم كيف يفعلون ذلك!؟.
بئس للظالمين بدلاً : قبح بدلاً طاعة إبليس وذريته عن طاعة الله ورسوله.
المضلين عضداً: أي ما كنت متخذ الشياطين من الإنس والجن أعواناً في الخلق والتدبير، فكيف تطيعونهم وتعصونني.
موبقاً: أي وادياً من أودية جهنم يهلكون فيه جميعاً هذا إذا دخلوا النار، أما ما قبلها فالموبق، حاجز بين المشركين، وما كانوا يعبدون بدليل قوله: {ورأي المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها}.
مواقعوها : أي واقعون فيها ولا يخرجون منها أبداً.
ولم يجدوا عنها مصرفاً: أي مكاناً غيرها ينصرفون إليه لينجوا من عذابها.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في إرشاد بني آدم وتوجيههم إلى ما ينجيهم من العذاب ويحقق لهم السعادة في الدارين، قال تعالى في خطاب رسوله واذكر لَهُم {إذ قلنا للملائكة} وهم عبادنا المكرمون {اسجدوا لآدم} فامتثلوا أمرنا وسجدوا إلاّ إبليس. لكن إبليس الذي يطيعه الناس اليوم كان من الجن وليس من الملائكة لم يسجد، ففسق1 بذلك عن أمرنا وخرج عن طاعتنا. {أفتتخدونه2} أي أيصح منكم يا بني آدم أن تتخذوا عدو أبيكم وعدو ربكم وعدوكم أيضاً ولياً توالونه وذريته3 بالطاعة لهم والاستجابة لما يطلبون منكم من أنواع الكفر والفسق {بئس للظالمين} أنفسهم {بدلاً} طاعة الشيطان وذريته4 وولايتهم عن
__________
1 الفسق: مشتق من: فسقت الرطبة: إذا خرجت من قشرتها، والفأرة من جحرها، وفسق العبد: خرج عن طاعة ربه متجاوزاً الطاعة إلى المعصية، فكل من ترك واجباً وفعل حراماً فقد فسق بذلك عن طاعة ربه أي خرج عنها.
2 الاستفهام للتوبيخ والإنكار، وذرية الشيطان بيّنت السنة كيفية وجودهم فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "لا تكن أوّل من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فيها باض الشيطان وفرَّخ"، فهذا دال على أن للشيطان ذرية من صلبه.
3 في مسلم: "أن للصلاة شيطاناً يسمى خنزب مهمته الوسوسة فيها" وروى الترمذي أن للوضوء شيطاناً يسمى الولهان يوسوس فيه.
4 روى مسلم رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الشيطان يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا فيقول: ما صنعت شيئاً قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال: فيدنيه وقال: فيلتزمه ويقول: نعم أنت!!".

طاعة الله ورسوله وولايتهما.
وقوله تعالى: {ما أشهدتهم1 خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً} يخبر تعالى بأنه المنفرد بالخلق والتدبير ليس له وزير معين فكيف يُعْبَدُ الشيطان وذريته، وأنا الذي خلقتهم وخلقت السموات والأرض2 وخلقت هؤلاء الذين يعبدون الشيطان، ولم أكن {متخذ المضلين} وهم الشياطين من الجن والإنس الذين يضلون عبادنا عن طريقنا الموصل إلى رضانا وجنتنا، أي لم أكن لأجعل منهم معيناً لي يعضدنى ويقوي أمري وخلاصة ما في الآية أن الله تعالى ينكر على الناس عبادة الشياطين وهي طاعتهم وهم مخلوقون وهو خالقهم وخالق كل شيء.
وقوله تعالى: {ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم} أي أذكر يا رسولنا لهؤلاء المشركين المعرضين عن عبادة الله إلى عبادة عدوه الشيطان، أذكر لهم يوم يقال لهم في عرصات القيامة {نادوا شركائي الذين} أشركتموهم في عبادتي زاعمين أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم فيخلصونكم من عذابنا.
قال تعالى {فدعوهم3} يا فلان!! يا فلان.. {فلم يستجيبوا لهم} إذ لا يجرؤ أحد ممن عبد من دون الله أن يقول رب هؤلاء كانوا يعبدونني. قال تعالى: {وجعلنا بينيهم موبقاً4} أي حاجزاً وفاصلاً من عداوتهم لبعضهم. وحتى لا يتصل بعضهم ببعض في عرصات القيامة. وقوله تعالى: {ورأى المجرمون النار} أي يؤتى بها تُجَرُّ بالسلاسل حتى تبرز لأهل الموقف فيشاهدونها وعندئذ يظن5 المجرمون أي يوقنوا {أنهم مواقعوها} أي داخلون فيها. {ولم يجدوا عنها مصرفاً6} أي مكاناً ينصرفون إليه لأنهم محاطون بالزبانية، والعياذ بالله من النار وعذابها.
__________
1 أي: ما أحضرتهم لأستعين بهم على خلق السموات والأرض ولا أحضرت بعضهم لأستعين به على خلق البعض الآخر.
2 في الآية رد على أهل الضلال كافة من شيطان وكاهن ومنجم وطبعيّ وملحد إذ الجميع مخلوق مربوب والله خالق كل شيء ومليكه وربّه ومدبّره.
3 أي: امتثلوا الأمر ودعوهم فلم يستجيبوا لهم.
4 فسّر الموبق ابن عباس رضي الله عنهما: بالحاجز، وفسره أنس بن مالك رضي الله عنه بواد في جهنم من قيح ودم، وفسر بالمهلك والتفسير بالمهلك يدخل فيه كل ما ذكر، ومن الجائز أن يتعدد الحاجز ويكون أنواعا منها: عداوة بعضهم لبعض فإنها حاجز والنار نفسها أعظم موبق ولعلها هي المراد بالموبق.
5 {ظنوا} أي: أيقنوا إذ يطلق الظن ويراد به اليقين وهو كثير في القرآن الكريم. قال الشاعر:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجّج
سراتهم في الفارسيّ المسرد
6 {مصرفا}: أي: مهرباً لإحاطتها بهم من كل جانب ولا ملجأ ولا معدلا.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عداوة إبليس وذريته لبني آدم.
2- العجب من بني آدم كيف يطيعون عدوهم ويعصون ربهم!!
3- لا يستحق العبادة أحد سوى الله عز وجل لأنه الخالق لكل معبود مما عُبِدَ من سائر المخلوقات.
4- بيان خزي المشركين يوم القيامة حيث يطلب إليهم أن يدعوا شركاءهم لإغاثتهم فيدعونهم فلا يستجيبون لهم.
5- جمع الله تعالى المشركين وما كانوا يعبدون من الشياطين في موبق واحد في جهنم وهو وادي من شر أودية جهنم وأسوأها.
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا (58)

وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا (59)
شرح الكلمات:
صرفنا: أي بيّنا وكررنا البيان
من كل مثل: المثل الصفة المستغربة العجيبة.
جدلاً: أي مخاصمة بالقول.
سنة الأولين: أي العذاب بالإبادة الشاملة والاستئصال التام.
قبلا: عياناً ومشاهدة.
ليدحضوا به الحق : أي يبطلوا به الحق.
هزواً : أي مهزوءاً به.
أكنة: أغطية.
وفي آذانهم وقراً : أي ثقلاً فهم لا يسمعون.
موئلاً: أي مكاناً يلجأون إليه.
لمهلكهم موعداً: أي وقتاً معيناً لإهلاكهم.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في بيان حجج الله تعالى على عباده ليؤمنوا به ويعبدوه وحده فينجوا من عذابه ويدخلوا دار كرامته فقال تعالى: {ولقد صرفنا1 في هذا القرآن من كل مثل} أي ضربنا فيه الأمثال الكثيرة وبيّنا فيه الحجج العديدة، {وصرفنا فيه} من الوعد والوعيد ترغيباً وترهيباً، وقابلوا كل ذلك بالجحود والمكابرة، {وكان الإنسان2 أكثر شيء جدلاً} فأكثرهم الإنسان يصرفه في الجدل والخصومات حتى لا يذعن للحق ويسلم به ويؤديه إن كان عليه. هذا ما دلت عليه الآية الأولى: (54) أما الآية الثانية فقد أخبر تعالى فيها أن الناس ما منعهم {أن يؤمنوا إذ جاءهم
__________
1 قال القرطبي: يحتمل أي: هذا الكلام وجهين: أحدهما ما ذكره لهم من العبر والقرون الخالية والثاني: ما أوضحه لهم من دلائل الربوبية وما في التفسير لم يخرج عن هذا فتأمّله.
2 يحتمل اللفظ الكافر لقوله تعالى: {ويجادل الذين كفروا بالباطل} ويحتمل المسلم إلاّ أنه في الكافر أظهر وأكثر وروي مسلم عن علي رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة فقال: ألا تصلون؟ فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت له ذلك ثمّ سمعته وهو مدبر يضرب فخذه ويقول : { وكان الإنسان أكثر شيء جدلا}.

الهدى} وهو بيان1 طريق السعادة والنجاة بالإيمان وصالح الأعمال بعد التخلي عن الكفر والشرك وسوء الأعمال {ويستغفروا ربهم إلاّ أن تأتيهم سنة الأولين} بعذاب الاستئصال والإبادة الشاملة، {أو يأتيهم} عذاب يوم القيامة معاينة2 وهو معنى قوله تعالى: {أو يأتيهم العذاب قبلاً3} وحينئذ لا ينفع الإيمان. وقوله تعالى: {وما نرسل المرسلين إلاّ مبشرين ومنذرين} أي دعاة هداة يبشرون من آمن وعمل صالحاً بالجنة وينذرون من كفر، وعمل سوءاً بالنار. فلم نرسلهم جبارين ولم نكلفهم بهداية الناس أجمعين، لكن الذين كفروا يتعامون عن هذه الحقيقة ويجادلون {بالباطل ليدحضوا به الحق}. {واتخذوا} آيات الله وحججه {وما أنذروا} به من العذاب اللازم لكفرهم وعنادهم اتخذوه سخرية وهزءاً يهزءون به ويسخرون منه وبذلك أصبحوا من أظلم الناس. وهو ما قررته الآية (57) إذ قال تعالى فيها: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه} أي من الإجرام والشر والشرك. اللهم إنه لا أحد أظلم من هذا الإنسان الكافر العنيد. ثم ذكر تعالى سبب ظلم وإعراض ونسيان هؤلاء الظلمة المعرضين الناسين وهو أنه تعالى حسب سنته فيمن توغل في الشر والظلم والفساد يجعل على قلبه كناناً يحيطه به فيصبح لا يفقه شيئاً. ويجعل في أذنيه ثقلاً فلا يسمع الهدى. ولذا قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً} أي بعد ما جعل على قلوبهم من الأكنة وفي آذانهم من الوقر {أبداً}.
وقوله تعالى: {وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا} أي لو يؤاخذ هؤلاء الظلمة المعرضين {لعجل لهم العذاب}، ولكن مغفرته ورحمته تأبيان ذلك وإلاّ لعجل لهم العذاب فأهلكهم أمامكم وأنتم تنظرون. ولكن {لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً4} يئلون إليه ولا ملجأ يلجأون إليه. ويرجح أن يكون ذلك يوم بدر لأن السياق في الظلمة المعاندين المحرومين من هداية الله كأبي جهل وعقبة ابن أبي معيط والأخنس بن شريق، هذا أولاً. وثانياً قوله تعالى: {وتلك5 القرى أهلكناهم لما ظلموا} يريد أهل القرى من قوم هود وقوم صالح وقوم لوط.
__________
1 أي: بواسطة القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم.
2 أي: عياناً، وفسّره بعضهم بعذاب السيف يوم بدر.
3 قراءة الجمهور: (قبلا) بكسر القاف أي: المقابل الظاهر، وقراء (قُبلا) بضم القاف والباء وهو جمع قبيل أي: يأتيهم العذاب أنواعاً متعدّدة.
4 {موئلا}: أي: منجىً أو محيصاً يقال: وأل يئل وألاّ وؤولاً أي: لجأ تقول العرب: لا وألت نفسه أي: لا نجت ومنه قول الشاعر:
لا وألت نفسك خليتها
للعامريين ولم تكلَم
5 تلك: مبتدأ وأهلكناهم الخبر، ويصح أن تكون تلك في محل نصب والعامل: أهلكنا نحو: زيداً ضربته.

{ وجعلنا لمهلكهم موعداً} أي لهلاكهم موعداً محدداً فكذلك هؤلاء المجرمون من قريش، وقد أهلكهم ببدر ولعنهم إلى الأبد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لقد أعذر الله تعالى إلى الناس بما يبين في كتابه من الحجج وما ضرب فيه من الأمثال.
2- بيان غريزة الجدل في الإنسان والمخاصمة.
3- بيان مهمة الرسل وهي البشارة والنذارة وليست إكراه الناس على الإيمان.
4- بيان عظم ظلم من يُذَكَّرُ بالقرآن فيعرض ويواصل جرائمه ناسياً ما قدمت يداه.
5- بيان سنة الله في أن العبد إذا ا واصل الشر والفساد يحجب عن الإيمان والخير ويحرم الهداية أبداً حتى يهلك كافراً ظالماً فيخلد في العذاب المهين.
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ

مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)
شرح الكلمات:
وإذ قال موسى لفتاه : أي أذكر إذ قال موسى بن عمران نبي بني إسرائيل لفتاه يوشع بن نون بن افرايم بن يوسف عليه السلام.
مجمع البحرين: أي حيث التقى البحران بحر فارس وبحر الروم.
حقباً: الحقب الزمن وهو ثمانون سنة والجمع أحقاب.
سبيله في البحر سرباً: أي طريقه في البحر سرباً أي طريقاً كالنفق.
فلما جاوزا: أي المكان الذي فيه الصخرة ومنه اتخذ الحوت طريقه في البحرسرباً.
في البحر عجباً : أي عجباً لموسى حيث تعجب من إحياء الحوت واتخاذه في البحر طريقاً كالنفق في الجبل.
قصصاً: أي يتتبعان آثار أقدامهما.
عبداً من عبادنا: هو الخضر عليه السلام.
مما علمت رشداً: أي ما هو رشاد إلى الحق ودليل على الهدى.
ما لم تحط به خبراً: أي علماً.
ولا أعصي لك أمراً: أي انتهى إلى ما تأمرني به وإن لم يكن موافقاً هواي.
معنى الآيات:
هذه قصة موسى1 مع الخضر عليهما السلام وهي تقرر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتؤكدها. إذ مثل هذا القصص الحق لا يتأتى لأحد أن يقصه ما لم يتلقه وحياً من الله عز وجل. قال تعالى: {وإذ قال موسى} أي أذكر يا رسولنا تدليلاً على توحيدنا ولقائنا ونبوتك. إذ قال موسى بن عمران نبينا إلى بني إسرائيل لفتاه2 يوشع بن نون {لا أبرح} أي سائراً {حتى أبلغ مجمع3 البحرين} حيث أرشدني ربي إلى لقاء عبدٍ هناك من عباده هو أكثر مني علماً حتى
__________
1 ذهب نوف البكالي إلى أن موسى هذا هو موسى بن منشا بن يوسف عليه السلام وردّ هذا عليه ابن عباس رضي الله عنهما رداً عنيفاً كما في البخاري فالصحيح أنه موسى بن عمران رسول الله إلى بني إسرائيل.
2 اختلف في فتى موسى مَنْ هو؟ قيل: إنه كان شاباً يخدمه ولذا أطلق عليه لفظ الفتى على جهة حسن الأدب، قال ابن العربي. ظاهر القرآن أنه عبد وما دام صح الحديث بأنه يوشع بن نون فلا حاجة إلى البحث والتنقيب.
3 أي ملتقاهما. وهما بحر الأردن وبحر القلزم على الراجح الصحيح.

اتعلم منه علماً أزيده على علمي، { أو أمضي حقباً1} أي أواصل سيري زمناً طويلاً حتى أظفر بهذا العبد الصالح لأتعلم عنه. قوله تعالى: {فلما بلغا مجمع بينهما} أي بين البحرين وهما بحر الروم وبحر فارس عند باب المندب حيث التقى البحر الأحمر والبحر الأبيض. أو البحر الأبيض والأطلنطي عند طنجة والله أعلم بأيهما أراد. وقوله {نسيا حوتهما} أي نسي الفتى الحوت، إذ هو الذي كان يحمله، ولكن نسب النسيان إليهما جرياً على المتعارف من لغة العرب2، وهذا الحوت قد جعله الله تعالى علامة لموسى على وجود الخضر حيث يفقد الحوت، إذ القصة كما في البخاري تبتدىء بأن موسى خطب يوماً في بنى إسرائيل فأجاد وأفاد فأعجب به شاب من بني إسرائيل فقال له: هل يوجد من هو أعلم منك يا موسى؟ فقال: لا. فأوحى إليه ربه فوراً بلى عبدنا خضر، فتاقت نفسه للقياه للتعلم عنه، فسأل ربه ذلك، فأرشده إلى مكان لقياه وهو مجمع البحرين، وجعل له الحوت علامة فأمره أن يأخذ طعامه حوتاً وأعلمه أنه إذا فقد الحوت فثم يوجد عبد الله خضر ومن هنا لما بلغا مجمع البحرين واستراحا فنام موسى3 والفتى شبه نائم وإذا بالحوت يخرج من المكتل "وعاء" ويشق طريقه إلى البحر فينجاب عنه البحر فيكون كالطاق أو النفق آية لموسى. ويغلب النوم على يوشع فينام فلما استراحا قاما مواصلين سيرهما ونسي الفتى وذهب من نفسه خروج الحوت من المكتل ودخوله في البحر لغلبة النوم فلما مشيا مسافة بعيدة وشعرا بالجوع وقد جاوزا المنطقة التي هي مجمع البحرين4 قال موسى للفتى {آتنا5 غداءنا} وعلل ذلك بقوله: {لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً} أي تعباً. هنا قال الفتى لموسى ما قصَّ الله تعالى: قال مجيباً لموسي {أرأيت} أي أتذكر {إذ أوينا إلى الصخرة} ا لتي استراحا عندها {فإني نسيت الحوت} وقال كالمعتذر، {وما أنسانيه إلاّ الشيطان أن أذكره6، واتخذ سبيله} أي طريقه {في البحر عجباً} أي حيي بعد موت
__________
1 قال النحاس: الحقب: زمان من الدهر مبهم غير محدود وجمعه أحقاب وورد الحقب مقدراً بثمانين سنة، إلاّ أنه في قول موسى هذا مراده الأوّل وهو زمن غير محدود.
2 نحو قوله: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} مع أنه لا يخرج إلاّ من البحر الملح ونحو قوله: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } مع العلم أن الرسل من الإنس فقط.
3 في البخاري: أن موسى عليه السلام قال ليوشع لا أكلفك إلاّ أن تخبرني حيث يفارقك الحوت قال الفتى: ما كلّفت كثيراً.
4 هذا يُرجح أن يكون البحران: نهر الأردن وبحيرة طبريّة.
5 في الآية دليل على وجوب حمل الزاد في السفر ففي هذا رد على المتصوفة الذين يخرجون بلا زاد بدعوى التوكل ثمّ هم يسألون الناس، وشاهد هذا آية البقرة إذ نزلت في أناس من اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون فنزل قوله تعالى : {وتزودّوا ..} الآية.
6 أن: وما دخلت عليه تسبك بمصدر فيقال: وما أنساني ذكره إلاّ الشيطان.

ومشى حتى انتهى إلى البحر وانجاب له البحر فكان كالسرب فيه أي النفق فأجابه مرسى بما قص تعالى: {قال ذلك ما كنا نبغ} وذلك لأن الله تعالى جعل لموسى فقدان الحوت علامة على مكان الخضر الذي يوجد فيه {فارتدا} أي رجعا {على آثارهما قصصا} أي يتتبعان آثار أ قدامهما {فوجدا} خضراً كما قال تعالى: {فوجدا عبداً1 من عبادنا} وهو خضر {آتيناه رحمة من عندنا} أي نبوة {وعلمناه من لدنا علماً} وهو علم غيب خاص به {قال له موسي} مستعطفاً له {هل أتبعك على أن تعلمني هما علمت رشداً} أي مما علمك الله رشداً أي رشاداً يدُلني على الحق وتحصل لي به هداية فأجابه خضر بما قال تعالى: {قال إنك لن تستطيع معي صبراً} يريد أنه يرى منه أموراً لا يقره عليها وخضر لابد يفعلها فيتضايق موسى لذلك ولا يطيق الصبر، وعلل له عدم استطاعته الصبر بقوله {وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً} أي علماً كاملاً. فأجابه موسى وقد صمم على الرحلة لطلب العلم مهما كلفه الثمن فقال {ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً} أي سأنتهي إلى ما تأمرني وإن لم يكن موافقاً لما أحب وأهوى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عتب الله تعالى على رسوله موسى عليه السلام عندما سئل هل هناك من هو أعلم منك فقال لا وكان المفروض أن يقول على الأقل الله أعلم. فعوقب لذلك فكلف هذه الرحلة الشاقة.
2- استحباب الرفقة في السفر، وخدمة التلميذ للشيخ، إذ كان يوشع يخدم موسى بحمل الزاد.
3- طروء النسيان على الإنسان مهما كان صالحاً.
4- مراجعة الصواب بعد الخطأ خير من التمادي على الخطأ {فارتدا على آثارهما قصصا}.
5- تجلى قدرة الله تعالى في إحياء الحوت بعد الموت، وانجياب الماء عليه حتى كان كالطاق فكان للحوت سرباً ولموسى وفتاه عجباً. وبه استدل موسى أي بهذا العجب على مكان خضر فوجده هناك.
6- استحباب طلب المزيد من العلم مهما كان المرء عالماً وهنا أورد الحديث التالي وهو خير من قنطار ذهباً لمن حفظه وعمل به وهو قول ابن عباس رضي الله عنه قال سأل موسى ربه: قال رب أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني، قال: فأي عبيدك أقضى؟ قال الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال: أي رب أي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى
__________
1 في البخاري: "فوجدا خضراً على طنْفَسة خضراء على كبد البحر مسجىَّ بثوبه قد جعل طرفه تحت رجليه وطرفه تحت رأسه فسلّم عليه موسى فكشف عن وجهه فقال: هل بأرضك من سلام؟ من أنت؟ قال: أنا موسى.." الخ.

علم نفسه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى. وللأثر بقية ذكره ابن جرير عند تفسير هذه الآيات.
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا (74)
شرح الكلمات:
ذكراً : أي بياناً وتفصيلاً لما خفي عليك.
لقد جئت شيئاً إمراً : أي فعلت شيئاً منكراً.
لا ترهقني: أي لا تغشني بما يعسر علي ولا أطيق حمله فتضيق علي صحبتي إياك.
نفساً زكية: أي طاهرة لم تتلوث روحها بالذنوب.
بغير نفس. أي بغير قصاص.
نكراً: الأمر الذي تنكره الشرائع والعقول من سائر المناكر! وهو المنكر الشديد النكارة.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في الحوار الذي دار بين موسى عليه السلام والعالم الذي أراد أن يصحبه لطلب العلم منه وهو خضر. قوله تعالى: {قال} أي خضر {فإن اتبعتني} مصاحباً لي لطلب العلم {فلا تسألني1 عن شيء} أفعله مما لا تعرف له وجهاً شرعياً {حتى أحدث لك منه ذكراً} أي حتى أكون أنا الذي يبين لك حقيقته وما جهلت منه. وقوله تعالى: {فانطلقا} أي
__________
1 في قول موسى: {هل أتبعك} من حسن الأدب والتلطف في السؤال وتواضع الطالب للشيخ الشيء الكثير، وفي الآية دليل على أن المتعلم تابع للعالم وإن تفاوتت مرتبتهما، وما كان موسى إلاّ أفضل من خضر ولكنه بحكم أنه تابع للخضر العالم تواضع في لطف.

بعد رضا موسى بمطلب خضر انطلقا يسيران في الأرض1 فوصلا ميناء من المواني البحرية، فركبا سفينة كان خضر يعرف أصحابها فلم يأخذوا منهما أجر الإركاب فلما أقلعت السفينة، وتوغلت في البحر أخذ خضر فأساً فخرق السفينة، فجعل موسى يحشو بثوب له الخرق ويقول: {أخرقتها لتغرق أهلها} على أنهما حملانا بدون نَوْل {لقد جئت شيئاً إمراً} أي أتيت يا عالم منكراً فظيعاً فأجابه خضر بما قص تعالى: {قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً} فأجاب موسى بما ذكر تعالى عنه: {قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً} أي لا تعاقبني بالنسيان فإن الناسي لا حرج عليه. وكانت هذه من موسى2 نسياناً حقاً ولا تغشني بما يعسر علي ولا أطيقه فأتضايق من صحبتي إياك.
قال تعالى: {فانطلقا} بعد نزولهما من البحر إلى البر فوجدا غلاماً جميلاً وسيماً يلعب مع الغلمان فأخذه خضر جانباً وأضجعه3 وذبحه فقال له موسى بما أخبر تعالى عنه: {أقتلت نفساً زكية بغير نفس} زاكية طاهرة لم يذنب صاحبها ذنباً تتلوث به ش روحه ولم يقتل نفساً يستوجب بها القصاص {لقد جئت شيئاً نكراً} أي أتيت منكراً عظيماً بقتلك نفساً طاهرة لم تذنب ولم تكن هذه نسياناً من موسى بل كان عمداً إذ لم يطق فعل منكر كهذا لم يعرف له وجهاً4 ولا سبباً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- جواز الاشتراط في الصحبة وطلب العلم وغيرهما للمصلحة الراجحة.
2- جواز ركوب السفن في البحر.
3- مشروعية إنكار المنكر على من علم أنه منكر.
4- رفع الحرج عن الناس.
5- مشروعية القصاص وهو النفس بالنفس.
__________
1 في البخاري: "فانطلقا يسيران على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول أي (أجرة)".
2 في البخاري: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الأولى من موسى نسياناً قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر نقرة في البحر فقال له الخضر ما علمي وعلمك من علم الله إلاّ مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر" حرف السفينة: طرفها، وحرف كل شيء طرفه.
3 في الترمذي: "أنه أخذ رأسه بيده فاقتلعه فقتله" وفي بعض الروايات "أنه أخذ حجراً فضرب بها رأس الغلام فقتله" وما في التفسير أصح وأوضح.
4 سيأتي بيان علّة القتل وأنها حق والقتل كان بإذن الله تعالى وما مات أحد ولا قتل إلاّ بإذن الله تعالى.

الجزء السادس عشر
قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا (75) قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا (76) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (78)
شرح الكلمات:
قال ألم أقل لك : أي قال خضر لموسى عليهما السلام.
بعدها: أي بعد هذه المرة.
فلا تصاحبني : أي لا تتركني أتبعك.
من لدني عذراً: أي من قبلي (جهتي) عذراً في عدم مصاحبتي لك.
أهل قرية : مدينة أنطاكية.
استطعما أهلها: أي طلبا منهم الطعام الواجب للضيف.
يريد أن ينقض: أي قارب السقوط لميلانه.
فأقامه: أي الخضر بمعنى أصلحه حتى لا يسقط.
أجرًا : أي جعلا على إقامته لإصلاحه.
هذا فراق بيني وبينك: أي قولك هذا {لو شئت لاتخذت عليه أجراً} هو نهاية الصحبة وبداية المفارقة.
بتأويل: أي تفسير ما كنت تنكره على حسب علمك.
معنى الآيات:
مازال السياق في محاورة الخضر مع موسى عليهما السلام، فقد تقدم إنكار موسى على

الخضر قتله الغلام بغير نفس، ولا جرم إرتكبه، وبالغ موسى في إنكاره إلى أن قال: {لقد جثت شيئاً نكراً1} فأجابه خضر بما أخبر تعالى به في قوله: { ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا} لما سألتني الصحبة للتعليم، فأجاب موسى بما أخبر تعالى به في قوله: {قال إن سألتك عني شيء بعدها} أي بعد هذه المرة {فلا تصاحبني} أي اترك صحبتي فإنك {قد بلغت من2 لدني} أي من جهتي وقبلي عذراً في تركك إياي.
قال تعالى: {فانطلقا} في سفرهما {حتى إذا أتيا أهل قرية} (أي مدينة) قيل إنها انطاكية ووصلاها في الليل والجو بارد فاستطعما أهلها أي طلبا منهم طعام الضيف الواجب له {فأبوا أن يضيفوهما3، فوجدا فيها} أي في القرية {جداراً يريد أن ينقض} أي يسقط فأقامه الخضر وأصلحه فقال موسى له: {لو شئت لاتخذت عليه أجراً} أي جعل مقابل إصلاحه، لاسيما أن أهل هذه القرية لم يعطونا حقنا من الضيافة. وهنا قال الخضر لموسى: {هذا فراق بيني وبينك} لأنك تعهدت إنك إذا سألتني بعد حادثة قتل الغلام عن شيء أن لا تطلب صحبتي وها أنت قد سألتني، فهذا وقت4 فراقك إذاً {سأنبئك} أي أخبرك {بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً} من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الوفاء بما التزم به الإنسان لآخر.
2- وجوب الضيافة لمن استحقها.
3- جواز التبرع بأي خير أو عمل ابتغاء وجه الله تعالى.
__________
1 اختلف في أيهما أبلغ: إمراً أو نكراً، ورجّح بعضهم أن إمراً فيما لم يحدث من فعل منكر فيكون خاصاً بالمستقبل، ومعناه: أمر فظيع مهيل ونكراً: يكون فيما وقع فهو بيّن الفساد بالغ في النكر واجب الإنكار.
2 قرىء: {من لدني} بتخفيف الدال وقرىء في السبع بتشديدها وقرىء عذراً بسكون الذال وقرىء في السبع أيضاً بضمهما، وضمّ العين قبلها كنُذُر ونُذُر.
3 في الحديث: "إنهم كانوا لئاماً بخلاء" وهو تعليل لعدم استضافة موسى والخضر.
4 في البخاري: هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله موسى لوددت أنه كان صبر حتى يقص علينا من أخبارهما".

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (82)
شرح الكلمات:
لمساكين: جمع مسكين وهو الضعيف العاجز عن الكسب.
يعملون في البحر: أي يؤجرون سفينتهم للركاب.
أعيبها: أي أجعلها معيبة حتى لا يرغب فيها.
غصباً: أي قهراً.
أن يرهقهما طغياناً وكفراً : أي يغشاهما: ظلماً وجحوداً
وأقرب رحما : أي رحمة إذ الرحم والرحمة بمعنى واحد.
وما فعلته عن أمري : أي عن اختيار مني بل بأمر ربي جل جلاله و عظم سلطانه.
معنى الآيات:
هذا آخر حديث موسى والخضر عليهما السلام، فقد واعد الخضر موسى عندما أعلن له عن فراقه أن يبين له تأويل ما لم يستطع عليه صبراً، وهذا بيانه، قال تعالى (حكاية عن

الخضر) {أما السفينة} التي خرقتُها وأنكرتَ عليَّ ذلك {فكانت1 لمساكين يعملون في البحر} يؤجرون سفينتهم بما يحصل لهم بعض القوت {فأردت أن أعيبها2} لا لأغرق أهلها، {وكان وراءهم3 ملك4} ظالم {يأخذ كل سفينة} صالحة {غصباً} أي قهراً وإنما أردت أن أبقيها لهم إذ الملك المذكور لا يأخذ إلاّ السفن الصالحة {وأمّا الغلام} الذي قتلته وأنكرتَ عليَّ قتله {فكان أبواه مؤمنين فخشينا} إن كبر {أن يرهقهما5} أي يُغشيهما {طغياً وكفراً فأردنا أن يبدلهما6 ربهما خيراً منه زكاة} أي طهراً وصلاحاً {وأقرب7 رحماً} أي رحمة وبراً بهما فلذا قتلته، {وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما} أي سن الرشد {ويستخرجا كنزهما رحمة من8 ربك} أي كان ذلك رحمة {وما فعلته عن أمري} أي عن إرادتي واختياري بل كان بأمر الله وتعليمه. {ذلك} أي هذا {تأويل ما لم تسطع عليه صبراً}.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان ضروب من خفي ألطاف الله تعالى فعلى المؤمن أن يرضى بقضاء الله تعالى وإن كان ظاهره ضاراً.
2- بيان حسن تدبير الله تعالى لأوليائه بما ظاهره عذاب ولكن في باطنه رحمة.
3- مراعاة صلاح الأباء في إصلاح حال الأبناء.
__________
1 بهذه الآية استدل من قال من الفقهاء بأنّ المسكين أقلّ فقراً من الفقير لأنّ من ملك سفينة لا يعتبر فقيراً، وردّ هذا بأنّ أصحاب السفينة كانوا سبعة أفراد، وخمسة منهم زمنى ورثوا السفينة من أبيهم وبذا هم فقراء مساكين.
2 أعيبها: أي أجعلها ذات عيب، يقال: عبت الشيء فعاب أي: صار ذا عيب فهو معيب.
3 جائز أن يكون الوراء على حقيقته أي: خلفهم، وإذا رجعوا أخذ السفينة منهم، وجائز أن يكون وراء بمعنى أمام، ويؤيده قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير: {وكان أمامهم ملِك}.
4 قيل: الملك هو هدد بن بدد، واسم الغلام المقتول: جيسور.
5 وفسّر أيضاً: يجشمهما ويحملهما على الرهق وهو الجهل والمعنى: أنه يحملهما حبه على الغلو فيه فيطغيان ويكفران.
6 الرحم والرحمة بمعنى واحد قال الشاعر:
وكيف بظلم جارية
ومنها اللّين والرُّحم
7 قيل: اسم الغلامين: أصرم وصريم، وكان الكنز ذهباً وفضة لحديث الترمذي عن أبي الدرداء، وشاهده من اللغة فإنّ الكنز: المال المدفون المدّخر، وجائز أن يكون مع المال كتاب فيه علم.
8 تسطع وتستطيع بمعنى..

4- كل ما أتاه الخضر كان بوحي إلهي وليس هو مما يدعيه جُهال الناس ويسمون بالعلم اللَّدنيِّ وأضافوه إلى من يسمونهم الأولياء، وقد يسمونه كشفاً، ويؤكد بطلان هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الخضر قال لموسى: أنا على علم مما علمني ربي وأنت على علم مما علمك الله وإن علمي وعلمك إلى علم الله إلاّ كما يأخذ الطائر بمنقاره من البحر.
وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
شرح الكلمات:
ويسألونك : أي كفار قريش بتعليم يهود لهم.
ذي القرنين : الإسكندر باني الاسكندرية المصرية الحميري أحد الملوك التبابعة وكان عبداً صالحاً.

سأتلوا عليكم منه ذكراً : سأقص عليكم من حاله خيراً يحمل موعظة وعلماً.
مكنا له في الأرض : بالحكم والتصرف في ممالكها.
من كل شيء سبباً: أي يحتاج إليه سبباً موصلاً إلى مراده.
فأتبع سبباً: أي فأتبع السبب سبباً آخر حتى انتهى إلى مراده.
تغرب في عين حمئة: ذات حماة وهي الطين الأسود وغروبها إنما هو في نظر العين وإلاّ فالشمس في السماء والبحر في الأرض.
قوماً: أي كافرين.
عذاباً نكراً: أي عظيماً فظيعاً.
يسرا: أي ليناً من القول سهْلا من العمل.
مطلع الشمس: أي مكاناً تطلع منه.
قوم لم نجعل لهم من دونها سترا : القوم هم الزِّنْج ولم يكن لهم يومئذ ثياب يلبسونها ولا منازل يسكنونها وإنما لهم أسراب في الأرض يدخلون فيها.
كذلك : أي الأمر كما قلنا لك ووصفنا.
بين السدين : السدان جبلان شمال شرق بلاد الترك سد ذو القرنين ما بينهما فقيل فيهما سدان.
قوماً لا يكادون يفقهون قولاً: لا يفهمون كلام من يخاطبهم إلاّ بشدة وبطء وهم يأجوج ومأجوج.
معنى الآيات:
هذه قصة العبد الصالح ذي القرنين الحمْيَري التُّبعي على الراجح من أقوال العلماء، وهو الأسكندر باني الأسكندرية المصرية، ولأمر ما لقَّب بذي القرنين1، وكان قد تضمن سؤال قريش النبي صلى الله عليه وسلم بإيعاذ من يهود المدينة ذا القرنين إذ قالوا لقريش سلوه عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين فإن أجابكم عنها فإنه نبي، وإلاّ فهو غير نبي فَرَوْا رأيكم فيه فكان الجواب عن الروح في سورة الإسراء وعن الفتية وذي القرنين في سورة الكهف هذه وقد تقدم.
__________
1 اختلفوا في اسم ذي القرنين على أربعة أقوال هي: عبدالله أو الاسكندر أو عبّاس أو جابر، كما اختلفوا في تلقيبه بذي القرنين على عشرة أقوال أمثلها أنه ملك فارس والروم أو أنه كان له ضفيرتان من شعر رأسه فلقب لذلك بذي القرنين، واختلف في نبوته، والظاهر أنه كان نبيًّا يوحى إليه وكان ملكاً حاكماً.

الحديث التفصيلي عن أصحاب الكهف في أول السورة وهذا بدء الحديث المتضمن للإجابة عن الملك ذي القرنين عليه السلام قال تعالى: {ويسألونك} يا نبينا {عن ذي القرنين قل} للسائلين من مشركي قريش {سأتلوا عليكم منه1 ذكراً} أي سأقرأ عليكم من أمره وشأنه العظيم ذكراً خبراً يحمل الموعظة والعلم والمعرفة: وقوله تعالى: {إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً} هذه بداية الحديث عنه فأخبر تعالى أنه مكن له في الأرض بالملك والسلطان، وأعطاه من كل شيء يحتاج إليه في فتحه الأرض ونشر العدل والخير فيها سبباً يوصله إلى ذلك، وقوله {فأتبع سبباً} 2 حسب سنة الله في تكامل الأشياء فمن صنع إبرة وتابع الأسباب التي توصل بها إلى صنع الإبرة فإنه يصنع المسلة، وهكذا تابعه بين أسباب الغزو والفتح والسير في الأرض {حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة} وهي على ساحل المحيط الأطلنطي، وكونها تغرب فيها هو بحسب رأي العين، وإلاّ فالشمس في السماء والعين الحمئة3 والمحيط إلى جنبها في الأرض وقوله تعالى: {ووجد عندها} أي عند تلك العين في ذلك الإقليم المغربي {قوماً} أي كافرين غير مسلمين فأذن الله تعالى له في التحكم والتصرف فيهم إذ يسر له أسباب الغلبة عليهم وهو معنى قوله تعالى : {قلنا يا ذا القرنين} وقد يكون نبياً ويكون قوله الله تعالى هذا له وحياً وهو {إما أن تعذب} بالأسر والقتل، {وإما أن تتخذ فيهم حسنا} وهذا بعد حربهم والتغلب عليهم فأجاب ذو القرنين ربه بما أخبر تعالى به: {أما من ظلم4} أي بالشرك والكفر {فسوف نعذبه} بالقتل والأسر، {ثم يرد إلى ربه} بعد موته {فيعذبه عذاباً نكراً} أي فظيعاً أليمًا. {وأما من آمن وعمل صالحاً} أي أسلم وحسن إسلامه {فله جزاء5} على إيمانه وصالح أعماله {الحسنى} أي الجنة في الآخرة {وسنقول له من أمرنا يسراً} فلا نغلظ له في
__________
1 {ذكراً} أي: خيراً يتضمن ذكره.
2 أصل: السبب: الحبل واستعير لكل ما يتوصل به إلى شيء، وأوتي ذو القرنين من كل شيء علماً يتسبب به إلى ما يريد فتوصّل إلى فتح البلاد وقهر الأعداء وقرىء فأتبع سببا بقطع الهمزة وقرأ أهل المدينة فاتَّبع سبباً بهمزة وصل وتشديد التاء.
3 قرأ الجمهور: (حمئة) من الحماة أي كثيرة الحمأة وهي الطين الأسود وقرأ بعضهم حامية أي: حارة وجائز أن تكون حامية من الحمأة فخففت الهمزة وقلبت ياء.
4 أي: قال لأولئك القوم أمّا مَنْ ظلم.. الخ.
5 قراءة أهل المدينة (فله جزاءُ الحسنى) برفع جزاء بدون تنوين والحسني مضاف إليه والخبر تقديره: عند الله. وقرأ غيرهم بنصب جزاء على التمييز أي: فله الحسنى جزاء ًويجوز أن يكون منصوباً على المصدرية.

القول ولا نكلفه ما يشق عليه ويرهقه.
وقوله تعالى: {ثم أتبع سبباً} أي ما تحصل عليه من القوة في فتح المغرب استخدمه في مواصلة الغزو والفتح في المشرق {حتى إذا بلغ مطلع الشمس1 وجدها تطلع على2 قوم} بدائيين لم تساعدهم الأرض التي يعيشون عليها على التحضر فلذا هم لا يبنون الدور ولا يلبسون الثياب، ولكن يسكنون الكهوف والمغارات والسراديب وهو ما دل عليه قوله تعالى: {لم نجعل لهم من دونها} أي الشمس {سترا}. وقوله تعالى : {كذلك3} أي القول الذي قلنا والوصف الذي وصفنا لك من حال ذي القرنين {وقد أحطنا بما لديه} من قوة وأسباب مادية وروحية {خبراً} أي علماً كاملاً. وقوله تعالى: {ثم أتبع} أي ذو القرنين {سبباً} أي واصل طريقه في الغزو والفتح {حتى إذا بلغ بين السدّين4} وهما جبلان بأقصى الشمال الشرقي للأرض بنى ذو القرنين بينهما سداً عظيماً حال به دون غزو يأجوج ومأجوج للإقليم المجاور لهم، وهم القوم الذين قال تعالى عنهم {وجد من دونهما5 قوماً لا يكادون يفقهون قولاً} فلا يفهمون ما يقال لهم ويخاطبون به إلاّ بشدة وبطء كبير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إذ هذا جواب آخر أسئلة قريش الثلاثة. قرأه عليهم قرآناً موحى به إليه.
2- إتباع السبب السبب يصل به ذو الرأي والإرادة إلى تحقيق ما هو كالمعجزات.
3- قول: ذو القرنين: {أما من ظلم....} الخ يجب أن يكون مادة دستورية يحكم به الأفراد والجماعات لصدقها وإجابتها وموافقتها لحكم الله تعالى ورضاه، ومن الأسف أن
__________
1 المطلع: يجوز فيه كسر الميم وفتحها مثل المنسك والمجزر والمسكن والمنبت هذه يجوز فيها وجهان الكسر والفتح في ميمها.
2 قال صاحب النوير: والظاهر أنه بلغ ساحل اليابان في حدود منشورياً أو كورياً شرقاً.
3 جائز أن يكون المعنى: كذلك أمرهم كما قصصنا عليك وهو معنى ما في التفسير وجائز أن يكون كما بلغ مغرب الشمس بلغ مطلعها كذلك.
4 قرأ حفص بفتح السين، وقرأ نافع بضمها، ونظير السد في الفتح والضم الضعف والقر والقر.
5 قوله: من دونهما يعني أمام ا لدين لا خلفهما إذ خلفهما يأجوج ومأجوج.

يعكس هذا القول السديد والحكم الرشيد فيصبح أهل الظلم مكرمين لدى الحكومات، وأهل الإيمان والاستقامة مهانين!!
4- بيان وجود أمم بدائية إلاّ عهد ما بعد ذي القرنين لا يلبسون ثيابا ولا يسكنون سوى الكهوف والمغارات ويوجد في البلاد الكينية إلى الآن قبائل لا يرتدون الثياب، وإنما يضعون على فروجهم خيوط وسيور لا غير.
5- تقرير أن هذا الملك الصالح قد ملك الأرض فهو أحد أربعة1 حكموا الناس شرقاً وغرباً.
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
__________
1 هم : مسلمان وهما ذو القرنين وسليمان عليهما السلام، وكافران وهما: النمرود وبختنصر. كذا قيل والله أعلم.

شرح الكلمات:
يأجوج ومأجوج: قبيلتان من أولاد يافث بن نوح عليه السلام والله أعلم.
نجعل لك خرجاً: أي جعلاً مقابل العمل.
سداً: السد بالفتح والضم الحاجز المانع بين شيئين.
ردماً: حاجزاً حصيناً وهو السد.
زبر الحديد: جمع زبرة قطعة من حديد على قدر الحجرة التي يبنى بها.
بين الصدفين: أي صدف الجبلين أي جانبهما.
قطراً: القطر النحاس المذاب.
فما استطاعوا أن يظهروه: أي عجزوا عن الظهور فوقه لعلوه وملاسته.
نقبا: أي فتح ثغرة تحت تحته ليخرجوا معها.
جعله دكا : أي تراباً مساوياً للأرض.
وتركنا بعضهم: أي يأجوج ومأجوج أي يذهبون ويجيئون في اضطراب كموج البحر.
أعينهم في غطاء عن ذكري: أي عن القرآن لا يفتحون أعينهم فيما تقرأه عليهم بغضا له أو أعين قلوبهم وهي البصائر فهي في أكنة لا تبصر الحق ولا تعرفه.
لا يستطيعون سمعاً : لبغضهم للحق والداعي إليه.
معنى الآيات:
مازال السياق في حديث ذي القرنين إذ شكا إليه سكان المنطقة الشمالية الشرقية من الأرض بما أخبر تعالى به عنهم إذ قال: {قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج1 ومأجوج مفسدون في الأرض} أي بالقتل والأكل والتدمير والتخريب، {فهل نجعل لك خرجاً} أي أجراً2 {على
__________
1 يأجوج ومأجوج: اسمان أعجميان يهمزان ولا يهمزان ولذا قرىء في السبع بهما وهما ابنا يافث بن نوح عليه السلام ورد وصفهم أن صنفاً منهم يفرش أحدهم أذنه ويلتحف بالأخرى، ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا جمل ولا خنزير إلاّ أكلوه، ومن مات منهم أكلوه مقدّمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية، وذلك يوم يفتح سدهم ويهدم، وخروجهم من أشراط الساعة الكبرى.
2 الخرج والخراج: لغتان، وقيل الخرج: ما يعطى تطوعاً والخراج: ما يلزم عطاؤه والمراد به هنا الأجر مقابل العمل المطلوب من إقامة السدّ.

أن تجعل بيننا وبينهم سداً} أي حاجزاً قوياً لا يصلون معه إلينا. فأجابهم ذو القرنين بما أخبر الله تعالى به في قوله: {قال ما مكني فيه ربي} من المال القوة والسلطان {خير} أي من جعلكم وخرجكم {فأعينوني1 بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً2} أي أي سداً قوياً وحاجزاً مانعاً {آتوني زبر الحديد} أي قطع الحديد كل قطعة كالَّلِبنة المضروبة، فجاءوا به إليه فأخذ يضع الحجارة وزبر الحديد ويبْني حتى ارتفع البناء فساوى بين الصدفين جانبي الجبلين، وقال لهم {انفحوا} أي النار على الحديد {حتى إذا جعله نارا} قال آتوني بالنحاس المذاب أفرغ عليه3 قطراً فأتوه به فأفرغ عليه من القطر ما جعله كأنه صفيحة واحدة من نحاس {فما استطاعوا} أي يأجوج ومأجوج {أن يظهروه} أي يعلوا فوقه، {وما استطاعوا له نقباً} أي خرقاً فلما نظر إليه وهو جبل شامخ وحصن حصين قال هذا من رحمة ربي أي من أثر رحمة ربي عليَّ وعلى الناس وأردف قائلاً {فإذا جاء وعد ربي} وهو خروج يأجوج ومأجوج عند قرب الساعة {جعله دكاً} أي تراباً مساوياً للأرض، {وكان وعد ربي حقاً} وهذا مما وعد به وأنه كائن لا محالة قال تعالى: {وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض} أي مختلطين مضطربين إنسهم4 وجنهم {ونفخ في الصور} نفخة البعث {فجمعناهم} للحساب والجزاء {جمعاً وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً} حقيقياً يشاهدونها فيه من قرب، ثم ذكر ذنب الكافرين وعلة عرضهم على النار فقال: وقوله الحق: {الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري} أي أعين قلوبهم وهي البصائر فلذا هم لا ينظرون في آيات الله الكونية فيستدلون بها على وجود الله ووجوب عبادته وتوحيده فيها، ولا في آيات الله القرآنية فيهتدون بها إلى أنه لا إله إلاّ الله ويعبدونه بما تضمنته الآيات القرآنية، {وكانوا لا يستطيعون سمعاً} للحق ولما يدعوا إليه رسل الله من الهدى والمعروف
__________
1 القوة: الرجال والمال.
2 الردم أعظم من السدّ.
3 جائز أن يكون المراد بالقطر النحاس المذاب وهذا الظاهر، وجائز أن يكون الحديد المذاب والثالث: أنه الصفر والرابع أنه الرصاص. روى أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما خلاصته أنّ يأجوج ومأجوج يحفران يومياً السدّ حتى إذا كادوا يخرقونه يقولون غدا نتم حفره وإذا جاء الغد حفروا ولم يقولوا إن شاء الله حتى إذا جاء وعد الله قالوا: إن شاء الله ففتح لهم.
4 جائز أن يكون المراد بمن يموج بعضهم في بعض: يأجوج ومأجوج وجائز أن يكون الإنس والجن وذلك يوم القيامة.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية الجعالة للقيام بالمهام من الأعمال.
2- فضيلة التبرع بالجهد الذاتي والعقلي.
3- مشروعية التعاون على ما هو خير، أو دفع للشر.
4- تقرير وجود أمة يأجوج ومأجوج، وأن خروجهم من أشراط الساعة.
5- تقرير البعث والجزاء.
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
شرح الكلمات:
أفحسب الذين كفروا : الاستفهام للتقريع والتوبيخ.
أن يتخذوا عبادي : كالملائكة وعيسى بن مريم والعزير وغيرهم.
أولياء: أرباباً يعبدوهم بأنواع من العبادات.
نزلا: النزل: ما يعد للضيف من قرى وهو طعامه وشرابه ومنامه.
ضل سعيهم: أي بطل عملهم وفسد عليهم فلم ينتفعوا به.
يحسنون صنعا: أي بعمل يعمل يجازون عليه بالخير وحسن الجزاء.
وآيات ربهم: أي بالقرآن وما فيه من دلائل التوحيد والأحكام الشرعية.
ولقائه: أي كفروا بالبعث والجزاء.
وزناً : أي لا نجعل لهم قدراً ولا قيمة بل نزدريهم ونذلهم.

ذلك: أي أولئك جزاؤهم جهنم وأطلق لفظ ذلك بدل أولئك، لأنهم بكفرهم وهبوط أعمالهم أصبحوا غثاء كغثاء السيل لا خير فيه ولا وزن له يستحسن أن يشار إليه بذلك.
معنى الآيات:
ينكر تعالى على المشركين شركهم ويوبخهم مقرعاً لهم على ظنهم أن اتخاذهم1 عِبادَهُ من دونه أولياء يعبدونهم كالملائكة حيث عبدهم بعض العرب والمسيح حيث عبده النصارى، والعزير حيث عبده بعض اليهود، لا يغضبه تعالى ولا يعاقبهم عليه. وكيف لا يغضبه ولا يعاقبهم عليه وقد أعد جهنم للكافرين نزلاً أي دار ضيافة لهم فيها طعامهم وفيها شرابهم وفيها فراشهم كما قال تعالى {لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش} هذا ما دلت عليه الآية الأولى (102) وهي قوله تعالى {أفحسب2 الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء 3 إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا}. وقوله تعالى في الآية الثانية (103) يخبر تعالى بأسلوب الاستفهام للتشويق للخبر فيقول {قل هل ننبئكم} أيها المؤمنون {بالأخسرين أعمالاً} إنهم {الذين ضل سعيهم4 في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً} أي عملاً، ويعرفهم فيقول {أولئك الذين كفروا بآيات ربهم} فلم يؤمنوا بها، وبلقاء ربهم فلم يعملوا العمل الذي يرضيه عنهم ويسعدهم في وهو الدين الصحيح والعمل الصالح الذي شرعه الله لعباده المؤمنين به يتقربون به إليه. فلذلك حبطت أعمالهم لأنها شرك وكفر وشر وفساد، {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً5} إذ لا قيمة لهم ولا لأعمالهم الشركية الفاسدة الباطلة فإن أحدهم لا يزن جناح بعوضة لخفته.
__________
1 قال ابن عباس رضي الله عنهما إنهم الشياطين. وهو صحيح إذ الشياطين هم الذين زينوا لهم عبادة الملائكة والأنبياء والأولياء والأصنام ودعوهم إلى عبادتهم.
2 قرىء: (أفحسب) بإسكان السين وضم الباء أي. أفيكفيهم أن يتخذوهم أولياء؟
3 جواب الاستفهام محذوف تقديره: كلا بل هم أعداء يتبرؤن منهم وجائز أن يكون: ولا أغضب ولا أعاقبهم، وكلا المعنيين يراد.
4 يدخل في هذا كل من المشركين واليهود والنصارى والحرورية والمراءون بأعمالهم، وكل من يعمل الأعمال، وهو يظن أنه محسن وقد حبطت أعماله لفساد اعتقاده ولمراءاته أو لعمله بما شرع الله كأنواع البدع المكفرّة.
5 روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه ليؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال: اقرأوا إن شئتم: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً}.

وأخيراً أعلن تعالى عن حكمه فيهم وعليهم فقال {ذلك1} أي المذكور من غثاء الخلق {جزاؤهم جهنم} وعلل للحكم فقال : {بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزواً} أي بسبب كفرهم واستهزائهم بآيات ربهم وبرسله فكان الحكم عادلاً، والجزاء موافقاً والحمد لله رب العالمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير شرك من يتخذ الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء آلهة يعبدوهم تحت شعار التقرب إلى الله تعالى والاستشفاع بهم والتوسل إلى الله تعالى بحبهم والتقرب إليهم.
2- تقرير هلاك أصحاب الأهواء الذين يعبدون الله تعالى بغير ما شرع ويتوسلون إليه بغير ما جعله وسيلة لرضاه وجنته. كالخوارج والرهبان من النصارى والمبتدعة الروافض والإسماعيلية، والنصيرية والدروز ومن إليهم من غلاة المبتدعة في العقائد والعبادات والأحكام الشرعية.
3- لا قيمة ولا ثقل ولا وزن لعمل لا يوافق رضا الله تعالى وقبوله له، كما لا وزن عند الله تعالى لصاحبه، وإن مات خوفا من الله أو شوقاً إليه.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ
__________
1 وجائز أن تكون الإشارة بذلك إلى ترك الوزن وخسة القدر والخبر: جزاؤهم جهنم. و (جهنم) بدل من (جزاؤهم) بدلا مطابقاً فيه زيادة توكيد.

إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
شرح الكلمات:
كانت لهم : أي جزاء إيمانهم وعملهم الصالح.
الفردوس نزلاً : هو وسط الجنة وأعلاها ونزلاً منزل إكرام وإنعام.
لا يبغون عنها حولا: أي لا يطلبون تحولاً منها لأنها لا خير منها أبداً.
لو كان البحر: أي ماؤه مداداً.
قبل أن تنفد كلمات ربي: أي قبل أن تفرغ.
لنفد البحر : أي ولم تنفد هي أي لم تفرغ.
يرجو لقاء ربه: يأمل وينتظر البعث والجزاء يوم القيامة حيث يلقى ربه تعالى.
ولا يشرك بعبادة ربه أحدا : أي لا يرائي بعمله أحداً ولا يشرك في عبادة الله تعالى غيره تعالى.
معنى الآيات:
بعدما ذكر تعالى جزاء أهل الشرك والأهواء وأنه جهنم ناسب ذكر جزاء أهل الإيمان والتقوى التي هي عمل الصالحات واجتناب المحرمات فقال: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي صدقوا الله ورسوله وآمنوا بلقاء الله، ووعده لأوليائه، ووعيده لأعدائه من أهل الشرك والمعاصي، وعملوا الصالحات فأدوا الفرائض والواجبات وسارعوا في النوافل والخيرات هؤلاء {كانت لهم} في علم الله وحكمه {جنات الفردوس1} أي بساتين الفردوس منزلا ينزلونه ودار كرامة يكرمون فيها وينعمون، والفردوس أعلى الجنة وأوسطها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم واصفاً لها ومرغباً فيها وقد ارتادها وانتهى إلى مستوى فوقها ليلة الإسراء والمعراج قال: "إن سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقها عرش الرحمن تبارك وتعالى، ومنه تفجر أنهار الجنة" ، كما في الصحيح2، وقوله تعالى {خالدين فيها لا يبغون
__________
1 روى الشيخان من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "جنان الفردوس أربع: ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما وليس بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلاّ رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن".
2 وروى البخاري وغيره عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، الفردوس أعلاها، ومنها تفجر أنهار الجنة فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس".

عنها حولا} أي ماكثين فيها أبداً لا يطلبون متحولاً عنها إذ نعيمهما لا يمل وسعادتها لا تنقص، وصفْوها لا يكدر وسرورها لا ينغض بموت ولا بمرض ولا نصب ولا تعب جعلني الله ومن قال آمين من أهلها. آمين. وقوله تعالى: {قل لو كان البحر مدادا1 لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا} تضمنت هذه الآية رداً على اليهود الذين لما نزل قول الله تعالى {وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً} في الرد عليهم لما سألوا عن الروح بواسطة وفد قريش إليهم. فقالوا: أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فأنزل الله تعالى قل لو كان البحر مداداً الآية رداً عليهم وإبطالاً لمزاعمهم فأعلمهم وأعلم كل من يدعي العلم الذي ما فوقه علم بأنه لو كان ماء البحر مداداً وكان كل غصن وعود في أشجار الدنيا كلها قلماً، وكتب بهما لنفد ماء البحر وأغصان الشجر ولم تنفد كلمات ربي التي تحمل العلوم والمعارف الإلهية وتدل عليها وتهدي إليها فسبحان الله وبحمده، سبحانه الله العظيم سبحان الله الذي انتهى إليه علم كل شيء وهو على كل شيء قدير. وقوله تعالى: {قل إنما أنا بشر2 مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد}. يأمر تعالى رسوله بأن يقول للمشركين الذين يطلبون منه المعجزات كالتي أوتى موسى وعيسى: إنما أنا بشر مثلكم لا أقدر على ما لا تقدرون عليه أنتم، والفرق بيننا هو أنه يوحى إلي الأمر من ربي وأنتم لا يوحى إليكم يوحى إليّ أنما إلهكم أي معبودكم الحق وربكم الصدق هو إله واحد الله ربكم ورب آبائكم الأولين. وقوله {فمن3 كان يرجو4} أي يأمل وينتظر {لقاء ربه} خوفاً منه وطمعاً فيه {فليعمل عملاً صالحاً} وهو مؤمن موقن، {ولا يشرك بعبادة5 ربه أحداً} فإن الشرك محبط للعمل مبطل له، وبهذا يكون رجاءه صادقاً وانتظاره صالحاً صائباً.
__________
1 المداد في أوّل الآية والمداد في آخرها بمعنى واحد واشتقاقها لا يختلف.
2 قال ابن عباس رضي الله عنهما علّم الله تعالى رسوله التواضع لئلا يزهى على خلقه فأمره أن يقرّ على نفسه بأنّه آدميٌ كغيره إلاّ أنه أكرم بالوحي.
3 روي في سبب نزول هذه الآية ما يلي: أتى جندب بن زهير الغامدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أعمل لله تعالى فإذا اطلع عليه سرّني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله طيّب لا يقبل إلاّ طيّباً ولا يقبل ما ررئي فيه. فنزلت هذه الآية.
4 فسر {يرجو} بمعنى: يأمل وبمعنى يخاف وكلاهما مطلوب الخوف من الله ومن عذاب الآخرة والأمل في فضل الله وإحسانه وثوابه في الدنيا والآخرة.
5 فسّر سعيد بن جبير رحمه الله {ولا يشرك} بأن لا يرائي. وهو صحيح ولفظ الشرك أعم من الرياء.

-هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- بيان أفضل الجنان وهو الفردوس الأعلى.
3- علم الله غير متناهي لأن كلماته غير متناهية.
4- تقرير صفة الكلام لله تعالى.
5- تقرير بشرية النبي صلى الله عليه وسلم وأنه ليس روحاً ولا نوراً فحسب كما يقول الغلاة الباطنية.
6- تقرير التوحيد والتنديد بالشرك.
7- تقرير أن الرياء شرك لما ورد أن الآية نزلت في بيان حكم المرء يجاهد1 يريد وجه الله ويرغب أن يرى مكانه بين الناس، يصلى ويصوم ويحب أن يثنى عليه بذلك.
__________
1 قال ابن عباس وطاووس: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني أحب الجهاد في سبيل الله وأحب أن يُرى مكاني فنزلت هذه الآية وجائز تعدد النزول من أجل أن يجاب السائل بنفس الآية التي كانت جواباً لسؤال مماثل.

سورة مريم
...
سورة مريم
مكية
وآياتها ثمان وتسعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
كهيعص(1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا (7)

شرح الكلمات:
كَهَيَعَص 1: هذه من الحروف المقطعة تكتب كهيعص وتُقرأ كاف، هاء يا عين صاد. ومذهب السلف أن يقال فيها: الله أعلم بمراده بذلك.
ذكر رحمة ربك : أي هذا ذكر رحمة ربك.
نادى ربه: أي قال: يا رب ليسأله الولد.
نداءً خفيا: أي سر بعداً عن الرياء.
وهن العظم مني : أي رق وضعف لكبر سني.
واشتعل الرأس شيبا: أي انتشر الشيب ثما شعر رأسي انتشار النار في الحطب.
ولم أكن بدعائك رب شقيا: أي إنك لم تخيبني فيما دعوتك فيه قبل، فلا تخيبني اليوم فيما أدعوك فيه.
وإني خفت الموالي : أي خشيت بني عمي أن يضيعوا الدين بعد موتي.
إمرأتي عاقراً: لا تلد واسمها أشاع فهي أخت حنة أم مريم.
فهب لي من لدنك وليا : أي ارزقي من عندك ولداً.
ويرث من آل يعقوب: أي جدي يعقوب العلم والنبوة.
واجعله رب رضيا : أي مرضياً عندك.
سميا: أي مسمى يحيى.
معنى الآيات:
أما قوله تعالى: {كَهَيَعص2 } فإن هذا من الحروف المقطعة والراجح أنها من المتشابه الذي نؤمن به ونفوض فهم معناه لمنزله سبحانه وتعالى فنقول: {كهيعص } ألله أعلم بمراده به.
وأما قوله تعالى: {ذكر3 رحمة ربك عبده زكريا} فإن معناه: مما تتلو4 عليك في هذا القرآن يا نبينا
__________
1 روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن الكاف من كافٍ والهاء من هادٍ والياء من حكيم والعين من عليم والصاد من صادق. وعن قتادة أنه اسم من أسماء القرآن، وقيل: هو اسم للسورة وقيل: هي اسم الله الأعظم، وكان علي يقول: يا كهيعص اغفر لي.
2 كهيعص: هذه حروف هجاء مكتوبة بمسمياتها مقروءة بأسمائها.
3 {ذكر} خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا ذكر رحمة ربك وعبده: منصوب بالمصدر الذي هو ذكر.
4 بناء على أن ذكر رحمة ربك: خبر والمبتدأ محذوف فإنه يصح تقديره. هذا ذكر وذكر رحمة ربك، وهذا الذي نتلوه عليك ذكر رحمة ربك.

فيكون دليلاً على نبوتك ذكر رحمة ربك التي رحم بها عبده زكريا حيث كبرت سنه، وامرأته عاقر لا يولد لها ورغب في الولد لمصلحة الدعوة الإسلامية إذ لا يوجد من يخلفه فيها إذا مات نظراً إلى أن الموجود من بني عمه ومواليه ليس بينهم كفؤ لذلك بل هم دعاة إلى السوء فنادى1 ربه نداء خفياً قائلاً: {رب إني وهن العظم مني} أي رق وضعف، {واشتعل الرأس شيباً} أي شاب شعر رأسي لكبر سني، {ولم أكن بدعائك رب شقياً} أي في يوم من الأيام بمعنى أنك عودتني الاستجابة لما أدعوك له ولم تحرمني استجابة دعائي فأشقى به دون الحصول على رغبتي. {وإني} يا ربي قد {خفت2 الموالي} أن يضيعوا هذه الدعوة دعوة الحق التي هي عبادتك بما شرعت وحدك لا شريك لك، وذلك بعد موتي {فهب لي من لدنك} أي من عندك تفضلاً به علي إذ الأسباب غير متوفرة للولد: المرأة عاقر وأنا شيخ كبير هرم، {ولياً} أي ولداً يلي أمر هذه الدعوة بعد وفاتي فيرثني فيها {ويرث3 من آل يعقوب} جدي ما تركوه بعدهم من دعوة أبيهم إبراهيم وهي الحنيفية عبادة الله وحده لا شريك له {واجعله رب رضيا} أي واجعل الولد الذي تهبني يا ربي {رضيا} أي عبداً صالحاً ترضاه لحمل رسالة الدعوة إليك، فأجابه الرب تبارك وتعالى بما في قوله: {يا زكريا4 إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى5، لم نجعل له من قبل سميا} أي من سمي باسمه يحيى قط.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بإخباره بهذا الذي أخبر به عن زكريا عليه السلام.
2- استحباب السرية في الدعاء لأنه أقرب إلى الاستجابة.
__________
1 النداء هنا: الدعاء والرغبة إلى الله تعالى، وفيه استحباب دعاء السرّ والمناجاة الخفية، وقد أسرّ مالك القنوت وجهر به الشافعي لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جهر به.
2 الموالي هنا: الأقارب وبنوا العم والعصبة الذين يلونه في النسب لأنّ العرب تسمّي بني العم موالي قال شاعرهم: مهلا بني عمّنا مهلا موالينا لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
3 المراد من الإرث هو: إرثه في دعوته لأنّ مواليه كانوا مهملين للدّين والدعوة فخاف ضياع ذلك فسأل ربه ولداً يقوم بذلك، أمّا المال فإنّ الأنبياء لا يورثون وما يتركونه فهو صدقة.
4 في الكلام حذف تقديره: فاستجاب الله دعاءه فقال: يا زكريا.. الخ.
5 تضمنت هذه البشرى ثلاثة أمور: أحدها: إجابة دعائه وهي كرامة. الثاني: إعطاؤه الولد وهو قوّة له، والثالث: إفراده بتسمية لم يسمّ بها أحد قبله، قيل في قوله: {من قبل} إشارة إلى أنه سيخلف بعده من هو أشرف اسماً وذاتاً وحالاً وهو محمد صلى الله عليه وسلم .

3- وجود العقم في بعض النساء.
4- قدرة الله تعالى فوق الأسباب وإن شاء تعالى أوقف الأسباب وأعطى بدونها.
5- تقرير مبدأ أن الأنبياء لا يورثون فيما يخلفون من المال كالشاه والبعير1 وإنما يورثهم الله أولادهم في النبوة والعلم والحكمة.
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
شرح الكلمات:
أنى يكون لي غلام؟ : أي ن أي وجهٍ وَجِهَةٍ يكون لي ولد.
عتيا : أي يبست مفاصي وعظامي.
آية : أي علامة تدلني على حمل امرأتي.
سويا : أي حال كونك سويَّ الخَلّقِ ما بك عليه خرس.
__________
1 والدينار والدرهم.

من المحراب1: المصلى الذي يصلى فيه وهو المسجد.
فأوحى إليهم: أومأ إليهم وأشار عليهم.
وآتيناه الحكم صبيا: الحكم والحكمة بمعنى واحد وهما الفقه في الدين ومعرفة أسرار الشرع.
وحناناً من لدنا : أي عطفاً على الناس موهوباً له من عندنا.
وزكاة : أي طهارة من الذنوب والآثام.
جباراً عصياً: أي متعالياً لا يقبل الحق عصياً لا يطيع أمر الله عز وجل وأمر والديه.
وسلام عليه : أي أمان له من الشيطان أن يمسه بسوء يوم يولد، وأمان له من فتاني القبر يوم يموت، وأمان له من الفزع الأكبر يوم يبعث حياً.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في ذكر رحمة الله عبده زكريا إنه لما بشره ربه تعالى بيحيى قال: ما أخبر به تعالى عنه في قوله: {قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتيا 2} أي من أي وجه وجهة يأتيني الولد أمن إمرأة غير امرأتي، أم منها ولكن تهبني قوة على مباضعتها3 وتجعل رحمها قادرة على العلوق4، لأني كما تعلم يا ربي قد بلغت من الكبر حداً بس فيه عظمي ومفاصلي وهو العتى كما أن امرأتي عاقر لا يولد لها. فأجابه الرب تبارك وتعالى بما في قوله عز وجل: {قال كذلك} أي الأمر كما قلت يا زكريا، ولكن {قال ربك هو على هين} أي إعطاؤك الولد على ما أنت عليه من الضعف والكبر وامرأتك من العقر سهل يسير لا صعوبة فيه ويدلك على ذلك أني {قد خلقتك من5 قبل ولم تك شيئاً}، فكما قدر ربك على خلقك ولم تك شيئاً فهو قادر على هبتك الولد على ضعفك وعقر امرأتك وهنا طالب زكريا ربه بأن يجعل له علامة تدله على وقت حمل امرأته بالولد فقال ما أخبر به تعالى في قوله: {قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً} فأعطاه تعالى علامة على وقت حمل امرأته بالولد وهي أنه يصبح يوم بداية الحمل لا يقدر على الكلام
__________
1 المحراب: مكان مرتفع، ومن هنا كره مالك أن يصلي الإمام في مكان أرفع من المكان الذي يصلي فيه الناس وراءه خشية الكبر عليه، والكبر من كبائر الذنوب ولم يكره أحمد رحمه الله تعالى.
2 قرأ نافع (عُتيا) بضم أوله كما: بُكيَّا وصليَّا، وبكسرها قرأ حفص، والعتي: هو قحول العظم ويبوسته.
3 أي: جماعها من إدخال البضع في البضع.
4 أي: علوق النطفة في الرحم.
5 أي: فخلق الولد كخلقك.

وهو سوي البدن ما به خرس ولا مرض يمنعه من الكلام، {فخرج على قومه من المحراب} أي المصلى الذي يصلي فيه {فأوحى إليهم} أي أومأ وأشار1 إليهم {أن سبحوا2 بكرة وعشياً3} أي اذكروا الله في هذين الوقتين بالصلاة والتسبيح. وهنا علم بحمل امرأته إذ إمتناعه عن الكلام مع سلامة جسمه وحواسه آية على بداية الحمل. وقوله تعالى: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} هذا قول الله تعالى للغلام بعد بلوغه ثلاث سنين أمره الله تعالى أن يتعلم التوراة ويعمل بها بقوة جد وحزم وقوله {وآتيناه الحكم4 صبيا} أي وهبناه الفقه في الكتاب ومعرفة أسرار الشرع وهو صبي لم يبلغ سن الاحتلام. وقوله تعالى: {وحناناً5 من لدنا وزكاة وكان تقياً} أي ورحمة منا به ومحبة له آتيناه الحكم صبياً كما أنه عليه السلام كان ذا حنان على أبويه وغيرهما من المسلمين وقوله {وزكاة} أي طهارة من الذنوب باستعمال بدنه في طاعة ربه عز وجل {وكان تقياً} أي خائفاً من ربه فلا يعصه بترك فريضة ولا يفعل حرام.
وقوله تعالى: {وبرا بوالديه} أي محسناً بهما مطيعاً لهما لا يؤذيهما أدنى أذى وقوله {ولم يكن جباراً عصياً} أي لم يكن عليه السلام مستكبراً ولا ظالماً، ولا متمرداً عاصياً لربه ولا لأبويه وقوله: {وسلام عليه يوم6 ولد} أي أمان له من الشيطان يوم ولد، وأمان له من فتانى القبر يوم يموت، وأمان له من الفزع الأكبر يوم يبعث حياً، فسبحان الله ما أعظم فضله وأجزل عطاءه على أوليائه، اللهم أمنا كما أمنته فإنك ذو فضل عظيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- طلب معرفة السبب الذي يتأتى به الفعل غير قادح في صاحبه فسؤال زكريا عن الوجه الذي يأتي به الولد، كسؤال إبراهيم عن كيفية إحياء الموتى.
__________
1 أو كتب إليهم كتابة.
2 إذ كان يأمرهم بالصلاة بكرة وعشيا فلما حملت امرأته أمرهم بالصلاة بالإشارة لأنه لم يقدر على الكلام إذ جعل الله تعالى عجزه عن الكلام علامة الحمل لامرأته.
3 بكرة وعشياً ظرفان في الصباح والمساء.
4 يروى أنه قال له الأولاد: هيا بنا نلعب فقال لهم: ما للعب خلقت، فهذا مما أوتيه من الحكم صبياً.
5 الحنان: التعطف والترحم وأصله من حنين الناقة إلى فصيلها، ويقال: حنانك وحنانيك وهما بمعنى واحد. قال طرفة:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
حنانيك بعض الشر أهو من بعض
6 وجائز أن يكون المراد بالسلام هنا: التحية منه تعالى وهي أشرف من غيرها.

2- جواز طلب العلامات الدالة على الشيء للمعرفة.
3- آية عجيبة أن يصبح زكريا لا يتكلم فيفهم غيره بالإشارة فقط.
4- فضل التسبيح في الصباح والمساء.
5- وجوب أخذ القرآن بجد وحزم قراءة وحفظاً وعملاً بما فيه.
6- صدق قول أهل العلم من حفظ القرآن في سن ما قبل البلوغ فقد أوتي الحكم صبياً.
7- وجوب البر بالوالدين ورحمتهما والحنان عليهما والتواضع لهما.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لاهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21)
شرح الكلمات:
واذكر في الكتاب :أي القرآن مريم أي خبرها وقصتها.
مريم : هي بنت عمران والدة عيسى عليه السلام.
إذ انتبذت : أي حين اعتزلت أهلها باتخاذها مكاناً خاصاً تخلو فيه بنفسها.
شرقيا : أي شرق الدار التي بها أهلها.
حجابا : أي ساتراً يسترها عن أهلها وذويها.
روحنا : جبريل عليه السلام.

بشراً سوياً: أي تام الخلق حتى لا تفزع ولا تروع منه.
إن كنت تقياً : أي عاملاً بإيمانك وتقواك لله فابتعد عنى ولا تؤذني.
غلاماً زكياً: ولداً طاهراً لم يتلوث بذنب قط.
ولم يمسسني بشر : أي لم أتزوج.
ولم أك بغيّاً: أي زانية.
قال كذلك : أي الأمر كذلك وهو خلق غلام منك من غير أب.
هو على هين : ما هو إلاّ أن ينفخ رسولنا في كم درعك حتى يكون الولد.
ولنجعله آية للناس : أي على عظيم قدرتنا.
ورحمة منا: أي وليكون الولد رحمة بمن آمن به واتبع ما جاء به.
أمراً مفضياً: أي حكم الله به وفرغ منه فهو كائن حتماً لا محالة.
معنى الآيات:.
هذه بداية قصة مريم عليها السلام إذ قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {واذكر في الكتاب} أي القرآن الكريم {مريم} أي نبأها وخبرها ليكون ذلك دليلاً على نبوتك وصدقك في رسالتك وقوله {إذ انتبذت} أي اعتزلت {من أهلها} هذا بداية القصة وقوله {مكاناً شرقياً} أي موضعاً شرقي دار قومها وشرق المسجد، ولذا اتخذ النصارى المشرق قبلة لهم في صلاتهم ولا حجة لهم في ذلك إلاّ الابتداع وإلاّ فقبلة كل مصلي لله الكعبة بيت الله الحرام قوله تعالى: {فاتخذت من دونهم} أي من دون أهلها {حجاباً} ساتراً لها عن أعينهم1، ولما فعلت ذلك أرسل الله تعالى إليها جبريل في صورة بشر سوي الخلقة معتد لها، فدخل عليها فقالت ما قص الله تعالى في كتابه {إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} أي أحتمي بالرحمن الذي يرحم الضعيفات مثلي إن كنت مؤمناً تقياً فاذهب عني ولا تروعني أو تمسني بسوء. فقال لها جبريل عليه السلام ما أخبر تعالى به وهو {قال إنما أنا رسول ربك لأهب2 لك غلاماً زكياً} أي طاهراً لا يتلوث بذنب قط. فأجابت بما أخبر تعالى عنها في قوله: {أنى يكون لي
__________
1 قيل: استترت عن أهلها لتغتسل من حيضتها وتمتشط، وذلك لكمال حيائها.
2 قرأ ورش عن نافع: (ليهب) بالياء بغير همزة، وقرأ غيره: (لأهب) بالهمزة فعلى قراءة نافع المعنى: أرسلني ليهب لك، وعلى قراءة غيره أرسلني يقول لك أرسلت رسولي إليك لأهب لك.

غلام} أي من أي وجه يأتيني الولد، {ولم يمسسني بشر} أي وأنا لم أتزوج، {ولم أك بغيا1} أي ولم أكزانية،فأجابها جبريل بما أخبر تعالى به في قوله: {قال كذلك} أي الأمر كما قلت ولكن ربك قال: {هو علي هين} أي خلقه بدون أب من نكاح أو سفاح، لأنه هين علينا من جهة، {ولنجعله2 آية للناس} دالة على قدرتنا على خلق آدم بدون أب ولا أم، والبعث الآخر من جهة أخرى. وقوله تعالى {رحمة منا وكان أمراً مقضياً3} أي ولنجعل الغلام المبشر به رحمة منا لكل من آمن به واتبع طريقته في الإيمان والاستقامة وكان هذا الخلق للغلام وهبته لك أمراً مقضياً أي حكم الله فيه وقضى به فهو كائن لا محالة ونفخ جبريل في جيب قميصها فسرت النفخة في جسمها فحملت به كما سيأتي بيانه في الآيات التالية.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان شرف مريم وكرامتها على ربها.
2- فضيلة العفة والحياء.
3- كون الملائكة يتشكلون كما أذن الله تعالى لهم.
4- مشروعية التعوذ بالله من كل ما يخاف من إنسان أو جان.
ه – التقوى4 مانعة من فعل الأذى بالناس أو إدخال الضرر عليهم.
6- خلق عيسى آية مبصرة تتجلى فيها قدرة الله تعالى على الخلق بدأ وإعادة.
__________
1 لم تقل بغيّة لأنه وصف يغلب على النساء فقلما تقول العرب رجل بغي فجرى بغيا مجرى حائض وعاقر، وقيل هو فعيل بمعنى فاعل والأوّل أولى.
2 {ولنجعله} متعلق بمحذوف تقديره: ونخلقه لنجعله.
3 أي: مقدرا في اللوح المحفوظ كتاب المقادير العام.
4 بخلاف الفجور فإنه مصدر كل ضرّ وشرّ.

فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26)
شرح الكلمات:
فانتبذت به : فاعتزلت به.
مكاناً قصيا: أي بعيداً من أهلها.
فأجاءها المخاض: أي ألجأها الطلق واضطرها وجع الولادة.
إلى جذع النخلة: لتعتمد عليها وهي تعاني من آلام الولادة.
نسياً منسياً: أي شيئاً متروكا لا يعرف ولا يذكر.
فناداها من تحتها: أي عيسى عليه السلام بعدما وضعته.
تحتك سريا: أي نهراً يقال له سري.
رطباً جنياً : الرطب الجني: ما طاب وصلح للإجتناء.
فكلي وأشربي: أي كل من الرطب واشربي من السري.
وقري عينا : أي وطيبي نفساً وافرحي بولادتك إياي ولا تحزني.
نذرت للرحمن صوماً: أي إمساكاً عن الكلام وصمتاً.

معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في قصة مريم إنه بعد أن بشرها جبريل بالولد وقال لها وكان أمراً مقضياً ونفخ في كم درْعها أو جيب قميصها فحملته1 فوراً {وانتبذت به مكاناً قصياً} أي فاعتزلت به في مكان بعيد2 {فأجاءها المخاض3} أي ألجأها وجع النفاس {إلى جذع النخلة} لتعتمد عليه وهي تعاني من آلام الطلق وأوجاعه، ولما وضعته قالت متأسفة متحسرة ما أخبر تعالى به: {قالت يا ليتني4 مت قبل هذا} أي الوقت الذي. أصبحت فيه أم ولد، {وكنت نسياً منسياً5} أي شيئاً متروكا لا يذكر ولا يعرف وهنا {فنادها} عيسى6 عليه السلام {من تحتها ألاّ تحزني} يحملها على الصبر والعزاء وقوله تعالى: {قد جعل ربك تحتك سريا} أي نهر ماء يقال له سري، {وهزىء إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي} أي كلي من الرطب واشربي من ماء النهر، {وقري عينا} أي طيبي نفسا وافرحي بولدك، {فإما ترين من البشر أحداً} أي فسألك عن حالك أو عن ولدك فلا تكلميه واكتفي بقولك {إني نذرت للرحمن صوماً} أي صمتاً {فلن أكلم اليوم إنسياً} هذا كله من قول عيسى لها أنطقه الله كرامة لها ليذهب عنها حزنها وألمها النفسي من جراء الولادة وهي بكر لم تتزوج.
__________
1 قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما هو إلاّ أن حملت فوضعت في الحال. قال القرطبي: هذا هو الظاهر لأنّ الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل: {فحملته فانتبذت به} والفاء للترتيب والتعقيب.
2 انتحت بالحمل إلى مكان بعيد قال ابن عباس: إلى أقصى الوادي وادي بيت لحم بينه وبين إيلياء أربعة أميال وإنما بعدت فراراً من تعيير قومها بالولادة من غير أب.
3 يقال: جاء به وأجاءه إلى موضع كذا: اضطره وألجأه.
4 تمني الموت لا يجوز لحديث: "لاّ يتمنّين أحدكم الموت لضرّ نزل به" الحديث وتمنّته مريم عليها السلام لا لصالح نفسها ولكن لله تعالى، وذلك أنها خافت أن يظنّ بها الشرّ في دينها وتُعَيَّر فتفتن بذلك، وهذا لله، وثانياً خافت أن يقع بعض الناس في البهتان والنسبة إلى الزنى فيهلكون. وهذا أيضاً لله لا لها.
5 النسي: الشيء الحقير الذي شأنه أن ينسى ولا يُتألم لفقده كالوتد والحبل ونحوهما، ويجمع النسي على أنساء قال الكميت رضي الله عنه:
أتجعلنا جسرا لكب قضاعة
ولست بنسي في معدّ ولا دخل
والنسي أيضاً: خرق الحيض التي ترمى بدمها من الحيض.
6 قرأ نافع (مِن) بكسر الميم حرف جر، وقرأ حفص مَن بفتحها، اسم موصول والمراد بالموصول عيسى عليه السلام ناداها قبل أن ترضعه من تحتها تعجيلا للمسرة والبشرى لها به فأنْ في ألا تحزني تفسيرية لأنّ النداء قول.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- من مظاهر قدرة الله تعالى حملها ووضعها في خلال ساعة من نهار.
2- إثبات كرامات الله لأوليائه إذ أكرم الله تعالى مريم بنطق عيسى ساعة وضعه فأرشدها وبشرها وأذهب عنها الألم والحزن، وأثمر لها النخلة فأرطبت وأجرى لها النهر بعد يبسه.
3- تقرير نظام الأسباب التي في مكنة الإنسان القيام بها فإن الله تعالى قد أثمر لمريم النخلة إذ هذا لا يمكنها القيام به ثم أمرها أن تحرك النخلة من جذعها ليتساقط عليها الرطب1 الجني إذ هذا في استطاعتها.
4- مشروعية النذر إلاّ أنه بالامتناع2 عن الكلام منسوخ في الإسلام.
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
__________
1 قالت العلماء: أكل الرطب للنفساء من أنفع الأغذية لها نظراً إلى أنّ الله تعالى اختاره لمريم عليها السلام.
2 قولها { إني نذرت للرحمن صوماً} فسر الصوم بالصمت كما في التفسير وأولى من هذا أن يكون صوم النذر في دينهم مستلزماً للصمت وعدم الكلام، والسياق دلّ عليه ظاهر فيه، وما زال النصارى يعتبرون الصمت عبادة فيصمتون دقائق على أرواح موتاهم ونسخ الإسلام هذا كما في الصحيح حيث أمر من نذر أن لا يتكلم أن يتكلم، ومن سنن الهدى في الإسلام الامتناع عن الكلام القبيح في الصيام لحديث الصحيح : "إذا كان صومٍ أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن امرئ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم" وهو كقول مريم: {فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلّم اليوم إنسياً}.

شرح الكلمات:.
قأتت به : أي بولدها عيسى عليه وعليها السلام.
جئت شيئاً فرياً1 : أي عظيماً حيث أتيت بولد من غير أب.
يا أخت هارون: أي يا أخت الرجل الصالح هارون.
امرأ سوء : أي رجلاً يأتي الفواحش.
فأشارت إليه: أي إلى عيسى وهو في المهد.
آتاني الكتاب: أي الإنجيل باعتبار ما يكون مستقبلاً.
مباركاً أينما كنت: أي حيثما وجدت كانت البركة فيَّ ومعي ينتفع الناس بي.
وبرا بوالدتي: أي محسناً بها مطيعاً لها لا ينالها مني أدنى أذى.
جباراً شقيا : ظالماً متعالياً ولا عاصياً لربي خارجاً عن طاعته.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في قصة مريم مع قومها: إنها بعد أن تماثلت للشفاء حملت ولدها وأتت به قومها وَما ان رأوهما حتى قال قائلهم: {يا مريم لقد جئت شيئاً فريا} أي أمراً عظيماً وهو إتيانك بولد من غير أب. {يا أخت هارون2} نسبوها إلى عبد صالح يسمى هارون: {ما كان أبوك} عمران {امرأ سوء} يأتي الفواحش {وما كانت أمك} "حنة" {بغيا} أي زانية فكيف حصل لك هذا وأنت بنت البيت الطاهر والأسرة الشريفة. وهنا أشارت إلى عيسى الرضيع في قماطته أي قالت لهم سلوه يخبركم الخبر وينبئكم بالحق، لأنها علمت أنه يتكلم لما سبق أن ناداها ساعة وضعه من تحتها وقال لها ما ذكر تعالى في الآيات السابقة.
__________
1 (فريًّا): أي: مختلقاً مفتعلاً من الافتراء الذي هو الكذب يقال: فرى وأفرى: كذب ومن كراماتها أن امرأة مدّت لها يدها لتضرّبها أصيبت بالشلل الفوري فحملت كذلك وقالت لها: أخرى ما أراك إلاّ زنيت فأخرسها الله فوراً فصارت لا تتكلم ومن ثم ألانوا لها الكلام واحترموها.
2 من الجائز أن يكون لمريم أخ صالح من أبيها أو من أبويها نسبوها إليه ومن الجائز أن تنسب إلى هارون الرسول عليه السلام كقول العرب يا أخا تميم ويا أخا العرب، وما في التفسير إجمال يشمل الكلّ فتأمّل، وفي الآية دليل على جواز التسمية بالأنبياء والصالحين، ولا خلاف في ذلك.

فردوا عليها مستخفين بها منكرين عليها متعجبين منها: {كيف نكلم من كان1 في المهد صبيا؟} فأنطق الله عيسى الرضيع فأجابهم بما أخبر تعالى عنه في قوله: {قال إني عبد2 الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً وبراً3 بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً} 4 فأجابهم بكل ما كتب الله وأنطقه به، وكان عيسى كما أخبر عن نفسه لم ينقص من ذلك شيئاً كان عبداً لله وأنزل عليه الإنجيل ونبأه وأرسله إلى بني إسرائيل وكان مباركاً يشفي المرضى ويحيي الموتى بإذن الله تنال البركة من صحبته وخدمته والإيمان به وبمحبته وكان مقيماً للصلاة مؤدياً للزكاة طوال حياته وما كان ظالماً ولا متكبراً عاتياً ولا جباراً عصياً. فعليه كما أخبر السلام أي الأمان التام يوم ولد فلم يقربه شيطان ويوم يموت فلا يفتن في قبره ويوم يبعث حياً فلا يحزنه الفزع الأكبر، ويكون من الآمنين السعداء في دار السلام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعبودية عيسى ونبوته عليهما السلام.
2- آية نطق عيسى في المهد وإخباره بما أولاه الله من الكمالات.
3- وجوب بر الوالدين بالإحسان بهما وطاعتهما والمعروف وكف الأذى عنهما.
4- التنديد بالتعالى والكبر والظلم والشقاوة التي هي التمرد والعصيان.
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ
__________
1 كان: هنا زائدة للتوكيد، ومن: مبتدأ والخبر في المهد وصبياً: حالي من الموصول.
2 قيل: لما سمع كلامهم ترك الرضاعة وأقبل عليهم بوجهه وقال مشيراً بسبابته اليمنى: {إني عبد الله} فكان أول ما نطق به الاعتراف بعبوديته لله تعالى، وفي هذا ردّ على الذين ألّهوه وعبدوه من دون الله تعالى.
3 البر: بمعنى البار وخص بهذه الصفة لأن قومهم قل فيهم البرور بالوالدين وكثر فيهم العقوق نظراً إلى فشو الباطل فيهم ورقة حبل الدين بينهم، والجبّار: المتكبر على الناس الغليظ في معاملتهم، والشقي ضدّ السعيد.
4 لما قال ما قال في المهد: إني عبد الله.. إلى قوله: {ويوم أبعث حيًّا} لم يتكلم حتى بلغ سن التكلم.

فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الاحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (38) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الامْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الارْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
شرح الكلمات:
ذلك عيسى ابن مريم : أي هذا الذي بينت لكم صفته وأخبرتكم خبره هو عيسى بن مريم.
قول الحق: أي وهو قول الحق الذي أخبر تعالى به.
يمترون: يشكون.
ما كان لِله أن يتخذ من ولد: أي ليس من شأن الله أن يتخذ ولداً وهو الذي يقول للشيء كن فيكون.
سبحانه: أي تنزيهاً له عن الولد والشريك والشبيه والنظير.
صراط مستقيم : أي طريق مستقيم لا يضل سالكه.
فاختلف الأحزاب: أي في شأن عيسى فقال اليهود هو ساحر وابن زنا، وقال النصارى هو الله وابن الله تعالى الله عما يصفون.
من مشهد يوم عظيم : هو يوم القيامة.
أسمع بهم وأبصر: أي ما أسمعهم وما أبصرهم يوم القيامة عند معاينة العذاب.
وأنذرهم يوم الحسرة: أي خوفهم بما يقع في يوم القيامة من الحسرة والندامة وذلك عندما يشاهدون أهل الجنة قد ورثوا منازلهم فيها وهم ورثوا منازل أهل الجنة في النار فتعظم الحسرة ويشتد الندم.

معنى الآيات:
بعد أن قص الله تعالى قصة مريم من ساعة أن اتخذت من دون أهلها حجاباً معتزلة أهلها منقطعة إلى ربها إلى أن أشارت إلى عيسى وهو في مهده فتكلم فقال: إني عبد الله، فبين تعالى أن جبريل بشرها، وأنه نفخ في كم درعها فحملت بعيسى وأنه ولد في ساعة من حمله وأنها وضعته تحت جذع النخلة وأنه ناداها من تحتها: أن لا تحزني، وأرشدها إلى القول الذي تقول لقومها إذا سألوها عن ولادتها المولود بدون أب، وهو أن تشير إليه تطلب منهم أن يسألوه وسألوه فعلا فأجاب بأنه عبد الله وأنه آتاه الكتاب وجعله نبياً ومباركاً وأوصاه بالصلاة والزكاة ما دام حياً وأنه بر بوالدته، ولم يكن جباراً شقياً فأشار تعالى إلى هذا بقوله في هذه الآية (34) {ذلك} أي هذا الذي بينت لكم صفته وأخبرتكم خبره هو {عيسى ابن مريم}، وما أخبرتكم به هو {قول1 الحق الذي فيه يمترون} أي يشكون إذ قال اليهود في عيسى أنه ابن زنا وانه ساحر وقال النصارى هو الله وابن الله وثالث ثلاثة حسب فرقهم وطوائفهم المتعددة وقوله تعالى: {ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه} ينفي تعالى عنه اتخاذ الولد وكيف يصح ذلك له أو ينبغي وهو الغني عما سواه والمفتقر إليه كل ما عداه، وأنه يقول للشيء كن فيكون فعيسى عليه السلام كان بكلمه الله تعالى له كن فكان وهو معنى قوله تعالى {إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون2}. وقد نزه تعالى نفسه عن الولد والشريك والشبيه والنظير، والافتقار والحاجة إلى مخلوقاته بقوله: سبحانه أي تنزيها له عن صفات المحدثين وقوله تعالى: {وأن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم3} هذا من قول4 عيسى عليه السلام لبني إسرائيل أخبرهم أنه عبد الله وليس بابن لله ولا بإله مع الله وأخبرهم
__________
1 قرأ الجمهور برفع قول وقرأ عاصم بنصبها، فأما الرفع فهو خبر ثانٍ عن اسم الإشارة أو وصف لعيسىأ و بدل منه، وأمّا النصب فعلى الحال من اسم الإشارة.
2 في هذا ردّ على النصارى القائلين بأن المكوّن بأمر التكوين من غير سبب معتاد لا يكون إلاّ ابن الله تعالى فبيّنت الآية أن أصول الموجودات كلها كانت بأمر التكوين فهل يقال فيها أبناء الله؟! والجواب قطعاً لا، وعليه فقد بطل قولهم: عيسى ابن الله لأنّه كان بكلمة التكوين.
3 جملة: {هذا صراط مستقيم} تذييل وفذلكة لما سبق من الكلام وإشارة إلى مضمون ما تقدّم على اختلاف وجوهه، في تقرير الحق وإبطال الباطل.
4 نعم الظاهر أنه من قول عيسى عليه السلام، والجمل قبله من قوله تعالى: {ذلك عيسى بن مريم} اعتراض بين قول عيسى الأوّل: { إني عبد الله} وبين قوله {وإن الله ربّي وربكم}.

أن الله تعالى هو ربه وربهم فليعبدوه جميعاً بما شرع لهم ولا يعبدون معه غيره إذ لا إله لهم إلاّ هو سبحانه وتعالى، وأعلمهم أن هذا الاعتقاد الحق والعبادة بما شرع الله هو الطريق المفضي بسالكه إلى السعادة ومن تنكب عنه وسلك طريق الشرك والضلال أفضى به إلى الخسران وقوله تعالى في الآية (37) {فاختلف الأحزاب من بينهم1} أي في شأن عيسى فمن قائل هو الله، ومن قائل هو ابن الله ومن قائل هو وأمه الهين من دون الله والقائلون بهذه المقالات كفروا بها فتوعدهم الله تعالى بالعذاب الأليم فقال {فويل للذين كفروا} بنسبَتِهم الولد والشريك لله، والويل واد في جهنم فهم إذا داخلوها لا محالة، وقوله {من مشهد يوم عظيم} يعني به يوم القيامة وهو يوم ذو أهوال وشدائد لا يقادر قدرها.
وقوله تعالى في الآية (38) {أسمع2 بهم وأبصر يوم يأتوننا} يخبر تعالى أن هؤلاء المتعامين اليوم عن الحق لا يريدون أن يبصروا آثاره الدالة عليه فيؤمنوا ويوحدوا ويعبدوا، والمتصاممين عن سماع الحجج والبراهين وتوحيد الله وتنزيهه عن الشريك والولد هؤلاء يوم يقدمون عليه تعالى في عرصات القيامة يصبحون أقوى ما يكون أبصاراً وسمعاً، ولكن حين لا ينفعهم سمع ولا بصر، وقوله تعالى: {لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين} يخبر تعالى أن أهل الشرك والكفر وهم الظالمون في ضلال مبين أي عن طريق الهدى وهو سبب عدم إبصارهم للحق وسماعهم لحججه التي جاءت بها رسل الله ونزلت بها كتبه.
وقوله تعالى في آية (39) {وأنذرهم يوم الحسرة3 إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون} يأمر تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بأن ينذر الكفار والمشركين أي يخوفهم عاقبة شركهم وكفرهم وضلالهم يوم القيامة حيث تشتد فيه الحسرة وتعظم الندامة وذلك عندما يتوارث الموحدون مع المشركين فالموحدون يرثون منازل المشركين في الجنة، والمشركون يرثون منازل
__________
1 (من): زائدة واختلاف الأحزاب، وجهه: أن اليهود قادحون والنصارى مادحون، فاليهود قالوا: ساحر وابن زنية، والنصارى فرقة: قالت هو الله وأخرى قالت: ابن الله، وثالثة قالت: ثالث ثلاثة، وهذه الفرق هي الملكانية، واليعقوبية، والنسطورية ثم تشعبت وأشهرها الآن: الملكائية أي الكاثوليك واليعقويية: أي أرثذوكس والاعتراضية أي: البروتستانت.
2 هذا الكلام ظاهر أنه أمر لحمل السامع على التعجب من حال المذكورين، ومعناه الخبر أي: لا أحد أسمع منهم ولا أبصر يوم يقفون في عرصات القيامة، ويشاهدون النار ويسمعون زفيرها.
3 روي في مسند أحمد وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت، كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ قال فيشرئبون وينظرونه ويقولون: نعم هذا الموت. قال: فيقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ قال: فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت. قال: فيؤمر به فيذبح. قال. ويقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت، ثمّ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم :{ وأنذرهم يوم الحسرة ..} الآية .

الموحدين في النار، وعندما يؤتى بالموت في صورة كبش فيذبح بين الجنة والنار، وينادي منادٍ يا أهل الجنة خلود فلا موت؟ ويا أهل النار خلود فلا موت عندها تشتد الحسرة ويعظم الندم هذا معنى قوله تعالى {أنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة} عما حكم عليهم به من الخلود في نار جهنم {وهم لا يؤمنون} بالبعث ولا بما يتم فيه من نعيم مقيم وعذاب أليم. وقوله تعالى: {إنا نحن1 نرث الأرض ومن عليها، وإلينا يرجعون} يخبر تعالى عن نفسه بأنه الوارث للأرض ومن عليها ومعنى هذا أنه حكم بفناء، هذه المخلوقات وأن يوماً سيأتي يفنى فيه كل من عليها، والجميع سيرجعون إليه ويقفون بين يديه ويحاسبهم بما كتبت أيديهم ويجزيهم به، ولذا فلا تحزن أيها الرسول وامض في دعوتك تبلغ عن ربك ولا يضرك تكذيب المكذبين ولا شرك المشركين.
هداية الآيات
هن هداية الآيات:
1- تقرير أن عيسى عبد الله ورسوله، وليس كما قال اليهود، ولا كما قالت النصارى.
2- استحالة اتخاذ الله الولد وهو الذي يقول للشيء كن فيكون.
3- تقرير التوحيد على لسان عيسى عليه السلام.
4- الإخبار بما عليه النصارى من خلاف في شأن عيسى عليه السلام.
5- بيان سبب الحسرة يوم القيامة وهو الكفر بالله والشرك به.
6- تقرير فناء الدنيا، ورجوع الناس إلى ربهم بعد بعثهم وهو تقرير لعقيدة البعث والجزاء التي تعالجها السور المكية في القرآن الكريم.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إبراهيم إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لابِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ
__________
1 هذه الجملة ذيّل بها الكلام السابق فتمت به القصة وضمير(نحن) للتأكيد والأرض: المراد بها ما فيها من غير العقلاء (ومن عليها) المراد بهم العقلاء وهم البشر.

إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
شرح الكلمات:
اذكر في الكتاب: أي في القرآن.
إنه كان صديقا: أي كثير الصدق بالغ الحد الأعلى فيه.
يا أبت: يا أبي وهو آزر.
صراطا سويا: أي طريقا مستقيما لا اعوجاج فيه يفضي بك إلى الجنة.
لا تعبد الشيطان: أي لا تطعه في دعوته إياك إلى عبادة الأصنام.
عصيا: أي عاصياً لله تعالى فاسقاً عن أمره.
فتكون للشيطان ولياً: أي قريباً منه قرينا له فيها أي النار.
معنى الآيات:
هذه بداية قصة إبراهيم الخليل عليه السلام مع والده آزر عليه لعائن الرحمن قال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم {واذكر} يا نبينا {في الكتاب} أي القرآن الكريم {إبراهيم} خليلنا {إنه كان صديقا} أي صادقاً في أقواله وأعماله بالغاً مستوى عظيماً في الصدق {نبياً} من أنبيائنا فهو جدير بالذكر في القرآن ليكون قدوة صالحة للمؤمنين. واذكره {إذ قال لأبيه} آزر {يا أبت1 لم تعبد} أي تسأله بالدعاء والتقرب بأنواع القربات ما لا يسمع ولا يبصر من الأصنام أي لا يبصرك ولا يسمعك {ولا يغني عنك شيئاً} لا يدفع عنك ضراً ولا يجلب لك نفعاً فأي حاجة لك إلى عبادته {يا أبت إني قد جاءني من العلم2} أي من قبل ربي تعالى {ما لم يأتك} أنت {فاتبعني} فيما أعتقده وأعمله وأدعو إليه {أهدك صراطا3 سويا} أي مستقيما يفضي
__________
1 الاستفهام للإنكار أي: لأيّ شيء تعبد.
2 أي: من اليقين والمعرفة بالله وبما يكون بعد الموت وأنّ من عبد غير الله يعذّب أبداً.
3 أرشدك إلى دين قيّم فيه نجاتك وسعادتك.

بك إلى السعادة والنجاة، {يا أبت لا تعبد الشيطان } أي بطاعته فيما يدعوك إليه من عبادة غير الله تعالى من هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع لأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تعطي ولا تمنع، {إن الشيطان كان للرحمن عصياً1} أي عاصياً أمره فأبى طاعته وفسق عن أمره. {يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن2} إن أنت بقيت على شركك وكفرك ولم تتب منهما حتى مت فيمسك عذاب من الرحمن {فتكون} أي بذلك {للشيطان ولياً} أي قريباً منه قريناً له في جهنم فتهلك وتخسر.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد بالدعوة إليه.
!- كمال إبراهيم بذكره في الكتاب.
3- بطلان عبادة غير الله تعالى.
4- عبادة الأوثان والأصنام وكل عبادة لغير الله تعتبر عبادة للشيطان لأنه الآمر بها والداعي إليها.
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إبراهيم لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا(46) قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا(49) وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
__________
1 الجملة تعليلية للنهي عن عبادة الشيطان واتباع وسوسته وما يدعو إليه من الشرك.
2 أي: إني أخاف أن تموت على الكفر فيمسك العذاب الأليم.

شرح الكلمات:
لئن لم تنته : أي عن التعرض لها وعيبها.
لأرجمنك: بالحجارة أو بالقول القبيح فاحذرني.
واهجرني مليا1: أي سليما من عقوبتي.
سلام عليك.: أي أمنةٌ مني لك أن أعاودك فيما كرهت مني.
إنه كان بي حفيا : أي لطيفاً بي مكرماً لي يجيبني لما أدعوه له.
عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا : بل يجيب دعائي ويعطني مسألتي.
فلما اعتزلهم : بأن هاجر إلى أرض القدس وتركهم.
وهبنا له اسحق ويعقوب : أي وهبنا له ولدين يأنس بهما مجازاة منا له على هجرته قومه.
ووهبنا لهم من رحمتنا : خيراً كثيراً المال والولد بعد النبوة والعلم.
لسان صدق عليا: أي رفيعاً بأن يُثنى عليهم ويذكرون بأطيب الخصال.
معنى الآيات:
مازال السياق في قصة إبراهيم مع أبيه آزار إنه بعد تلك الدعوة الرحيمة بالألفاظ الطيبة الكريمة التي وجهها إبراهيم لأبيه آزر ليؤمن ويوحد فينجو ويسعد قال آزر راداً عليه بعبارات خالية من الرحمة والأدب بل ملؤها الغلظة والفظاظة والوعيد والتهديد وهي ما أخبر به تعالى عنه في قوله: في الآية (46) {قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم} أي أكاره لها تعيبها، {لئن لم تنته} أي عن التعرض لها بأي سوء2 {لأرجمنك} بأبشع الألفاظ وأقبحها، {واهجرني مليا3} أي وابعد عني ما دمت معافى سليم البدن سويه قبل أن ينالك مني ما تكره. كان هذا رد آزر الكافر المشرك. فيما أجاب إبراهيم المؤمن الموحد أجاب بما أخبر تعالى به عنه في قوله في آية (47) {قال سلام4 عليك5} أي أمان لك مني يا أبتاه فلا أعاودك
__________
1 {واهجرني مليا} أي: اتركني وشأني وابعد عنّي طويلا تسلم من عقوبتي.
2 أي: كعيبها وشتمها.
3 وقيل في معناه: اجتنبني سالماً قبل أن تصيبك عقوبتي، وقيل: اهجرني طويلا.
4 هذا يسمى سلام المتاركة، وليس هو بالتحية وهل يجوز بدء الكافر بالسلام؟ في المسألة خلاف، والراجح: جواز السلام إذا كان لغرض سليم ككونه جاراً لك أو رفيقاً أو مصاحباً لك في عمل أو لك إليه حاجة وما إلى ذلك إذ سلم الرسول صلى الله عليه وسلم على جماعة فيهم مشركون كما في الصحيح، وأمّا حديث: "لاّ تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام" فهو إذا لم يكن هناك غرض صحيح.
5 (سلام): نكرة وصح الابتداء بها لما فيها من معنى التخصيص فقاربت لذلك المعرفة وصحّ الابتداء بها. وعليك الخبر.

فيما كرهت مني قط وسأقابل إساءتك بإحسان {سأستغفر لك ربي} أي أطلب منه أن يهديك للإيمان والتوحيد فتتوب فيغفر لك {إنه كان} سبحانه وتعالى {بي حفيا} لطيفا بي مكرما لي لا يخيبني فيما أدعوه فيه.
وقوله تعالى حكاية عن قيل إبراهيم: {وأعتزلكم وما تدعون من دودن الله} أي أذهب بعيداً عنكم تاركاً لكم ولما تعبدون من دون الله من أصنام وأوثان، {وأدعو ربي عسى إلاّ أكون بدعاء ربي شقياً 1} أي رجائي في ربي كبير أن لا أشقى بعبادته كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام. قال تعالى مخبراً عنه فلما حقق ما واعدهم به من هجرته لديارهم إلى ديار القدس تاركاً أباه وأهله وداره كافأناه بأحسن حيث أعطيناه ولدين يأنس بهما في وحشته وهما إسحق ويعقوب وكلا منهما جعلناه نبيا رسولاً، ووهبنا لجميعهم وهم ثلاثة الوالد إبراهيم وولداه اسحق ويعقوب بن اسحق عليهم السلام من رحمتنا الخير العظيم من المال والولدّ والرزق الحسن هذا معنى قوله تعالى: {فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحق ويعقوب} وهو ابن ولده إسحق {وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا}. وقوله تعالى عنهم {وجعلنا لهم لسان صدق عليا} هذا إنعام آخر مقابل الهجرة في سبيل الله حيث جعل الله تعالى لهم لسان الصدق في الآخرة فسائر أهل الأديان الإلهية يثنون على إبراهيم وذريته بأطيب الثناء وأحسنه وهو لسان الصدق العلي الرفيع الذي حظى به إبراهيم وولديه إكراماً من الله تعالى وإنعاماً عليهم جزاء صدق إبراهيم وصبره وبالتالي هجرته للأصنام وعابديها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان الفرق بين ما يخرج من فم المؤمن الموحد من طيب القول وسلامة اللفظ ولين الجانب والكلام، وبين ما يخرج من فم الكافر المشرك من سوء القول وقبح اللفظ وقسوة الجانب وفظاظة الكلام.
2- مشروعية سلام المتاركة والموادعة وهو أن يقال للسيء من الناس سلام عليك وهو لا يريد
__________
1 أراد بهذا الدعاء أن يهب الله تعالى له أهلاً وولداً يتقوى بهم حتى لا يستوحش بالاعتزال، وفي قوله تعالى {فلما اعتزلهم} وهنا له دليل يرجح هذا القول. والله أعلم.

بذلك تحيته ولكن تركه وما هو فيه.
3- مشروعية الهجرة وبيان فضلها وهجرة إبراهيم هذه أول هجرة كانت في الأرض.
4- الترغيب في حسن الأحدوثة بأن يكون للمرء حسن ثناء بين الناس لما يقدم من جميل وما يورث من خير وإفضال.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الايْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
شرح الكلمات:
واذكر في الكتاب: أي في القرآن تشريفا وتعظيما.
موسى : أي ابن عمران نبي بني إسرائيل عليه السلام.
مخلصا : أي مختاراً مصطفى على قراءة فتح اللام "مخلَصاً" وموحداً لربه مفرداً إياه بعبادته بالغاً في ذلك أعلى المقامات على قراءة كسر اللام.
جانب الطور: الطور جبل بسيناء بين مدين ومصر.
وقربناه نجيا: أي أدنيناه إدناء تشريف وتكريم مناجياً لنا مكلما من قبلنا.
أخاه هارون نبيا : إذ سأل ربه لأخيه الرسالة فأعطاه فنبَّأهُ وأرسله معه إلى فرعون.
معنى الآيات:
هذا موجز قصة موسى عليه السلام قال تعالى في ذلك وهو يخاطب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم {واذكر} في هذه السلسلة الذهبية من عباد الله الصالحين أهل التوحيد واليقين موسى ابن عمران انه جدير بالذكر في القرآن وعلة ذلك في قوله تعالى: {إنه كان مخلصاً} أي مختاراً مصطفى للإبلاغ عنا عبادنا ما خلقناهم لأجله وهو ذكرنا وشكرنا ذكرنا بألسنتهم وقلوبهم وشكرهم لنا بجوارحهم وذلك بعبادتنا وحدنا دون مَن سوانا، وكان موسى كذلك، وقول تعالى: {وكان رسولاً نبيا} أي ومن افضالنا عليه وإكرامنا له أن جعلناه نبياً رسولاً نبأناه

وأرسلناه إلى فرعون وملائه، {وناديناه}1 وهو في طريقه من مدين إلى مصر في جانب الطور الأيمن2 حيث نبأناه وأرسلناه وبذلك {وقربناه نجيا} فصار يناجينا فنُسمعه كلامنا ونسمع3 كلامه وأعظم بهذا التكريم من تكريم، وقوله: {ووهبنا له من4 رحمتنا أخاه هارون نبيا} هذا إنعام آخر من الله تعالى على موسى النبي إذ سأل ربه أن يرسل معه أخاه هارون إلى فرعون فبرحمة من الله تعالى استجاب له ونبأ هارون وأرسله معه رسولاً وما كان هذا إلاّ برحمة خاصة إذ النبوة لا تطلب ولا يتوصل إليها بالاجتهاد والعبادة ولا بالدعاء والصراعة إذ هي هبة إلهية خاصة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضيلة الإخلاص، وهو إرادة الله تعالى بالعبادة ظاهراً وباطناً.
2- إثبات صفة الكلام والمناجاة لله تعالى.
3- بيان إكرام الله تعالى وإنعامه على موسى إذ أعطاه ما لم يعط أحداً من العالمين باستجابة دعائه بأن جعل أخاه هارون رسولاً نبياً.
4- تقرير أن كل رسول نبياً والعكس لا أي ليس كل نبي رسولاً.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ
__________
1 قيل: كان هذا الكلام والمناجاة ليلة الجمعة. ذكره القرطبي.
2 هو بالنسبة إلى يمين موسى عليه السلام أما الجبل فلا يمين له ولا شمال "ابن جرير الطبري".
3 أي: من غير وحي بل كفاحاً وجها لوجه لا واسطة.
4 وذلك حين سأل ربه قائلاً: {واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي} الآية.

أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
شرح الكلمات:
واذكر في الكتاب إسماعيل: أي اذكر في القرآن تشريفا وتعظيما إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام.
صادق الوعد: لم يخلف وعد قط.
بالصلاة والزكاة: أي بإقامة الصلاة لإيتاء الزكاة.
مرضيا: أي رضى الله تعالى قوله وعمله ليقينه وإخلاصه.
إدريس : هو جد أبي نوح عليه السلام.
ورفعناه مكاناً عليا: إلى السماء الرابعة.
إسرائيل : أي يعقوب بن اسحق بن إبراهيم عليهم السلام.
وممن هدينا واجتبينا : أي من جملة من هديناهم لطريقنا واجتبيناهم بنبوتنا.
إذا تتلى عليهم آيات الرحمن: أي تقرأ عليهم وهم يستمعون إليها.
سجداً وبكيا : جمع ساجد وباك أي ساجدين وهم يبكون.
معنى الآيات:
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم كما ذكرت من ذكرت من مريم وابنها وإبراهيم وموسى اذكر كذلك إسماعيل1 فإنه {كان صادق الوعد}2 لم يخلف وعداً قط وكان ينتظر الموعود الليالي حتى يجىء وهو قائم في مكانه ينتظره، {وكان رسولاً نبيا} نبأه تعالى بمكة المكرمة إذ عاش بها وأرسله إلى قبيلة جرهم العربية ومنها تزوج وأنجب وكان من ذريته محمد صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى:
__________
1 هو إسماعيل بن إبراهيم والذي أمّه هاجر عليهما السلام ولا التفات إلى قول من قال: إنه إسماعيل بن حزقيل الذي بعثه الله إلى قوم فسلخوا جلد رأسه.. الخ كما في القرطبي.
2 في الآية دليل على وجوب صدق الوعد وفي الحديث: "إنّ الخُلف من آيات النفاق" . وقد انتظر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام وهو مقيم في مكان ينتظر من واعده اللقاء فيه وذلك قبل بعثته صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود والترمذي، والرجل هو: أبو الحمساء وقال له: يا فتى لقد شققت عليّ أنا هنا منذ ثلاث أنتظرك !!

{وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة} المراد من الأهل أسرته وقومه من قبيلة جرهم والمراد من الصلاة إقامتها ومن الزكاة أداؤها، وهذا مما أعلى شأنه ورفع قدره فاستحق ذكره في القرآن العظيم، وقوله: {كان عند ربه مرضيا} موجب آخر لإكرامه والإنعام عليه بذكره في القرآن الكريم في سلسلة الأنبياء والمرسلين، ومعنى {كان عند ربه مرضيا} أي أقواله وأفعاله كلها كانت مقبولة مرضية فكان بذلك هو مرضيا من1 قبل ربه عز وجل. وقوله تعالى {واذكر في الكتاب إدريس2} وهو جد أبي نوح واستوجب الذكر في القرآن لأنه {كان صديقا} كثير الصدق مبالغا فيه حتى إنه لم يجر على لسانه كذب قط، وصديقا في أفعاله وما يأتيه فلم يعرف غير الصدق في قول ولا عمل وكان نبياً من أنبياء الله، وقوله {ورفعناه مكاناً علياً} إلى السماء الرابعة3 في حياته كما رفع تعالى عيسى ورفع محمد إلى ما فوق السماء السابعة. وقوله تعالى: {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم} كإدريس4، {وممن حملنا مع نوح} أي في الفلك كإبراهيم، {ومن ذرية إبراهيم} كإسحاق وإسماعيل، {واسرائيل} أي ومن ذرية إسرائيل كموسى وهارون وداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى، {وممن هدينا} لمعرفتنا وطريقنا الموصل إلى رضانا وذلك بعبادتنا والإخلاص لنا فيها {واجتبينا} لوحينا وحمل رسالتنا. وقوله {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً5} أي أولئك الذين هديناهم واجتبينا من اجتبينا منهم. والاجتباء الاختيار والاصطفاء بأخذ الصفوة {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن} الحاملة للعظات والعبر والدلائل والحجج {خروا سجدا} لله ربهم {وبكياً} عما يرون من التقصير أو التفريط في جنب ربهم جل وعظم سلطانه.
__________
1 قيل: إن إسماعيل عليه السلام لم يعد شيئاً إلاّ وفىّ به وهو صحيح يقتضيه ظاهر الآية الكريمة، وقد قيل العِدة دَين، وفي الأثر: وأي المؤمن واجب. والوأي. الوعد. قال الشاعر:
متى يقل حرّ لصاحب حاجة
نعم يقضها والحر للرأي ضامن
وقال مالك: إذا سأل الرجل الرجل شيئاً فوعده ثم بدا له عدم إنجاز ما وعد لا شيء عليه ولا يقضي عليه بذلك لأنّ العدة بخير من باب الإحسان وليس على المحسنين من سبيل.
2 قيل: إنّ إدريس هو أوّل من خط بالقلم وأوّل من خاط الثياب ولبس المخيط وأنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة كما في حديث أبي ذر.
3 كما في حديث المعراج في رواية مسلم وجاء فيه: "لما عرج بي إلى السماء أتيت على إدريس في السماء الرابعة".
4 فنال ادريس الشرف بالقرب من آدم، ونال إبراهيم الشرف بالقرب من نوح ونال إسماعيل الشرف واسحق ويعقوب بالقرب من إبراهيم عليهم السلام أجمعين.
5 البكيّ: مصدر من مصادر بكى يبكي بكاء وبُكىً وبكيًّا، ويكون البكي جمع باكٍ نحو: قعود، وقاعد وسجود جمع ساجد وأصل بكي: بكوي على وزن فعول فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة إذ الذي نبأ هؤلاء وأرسلهم لا ينكر عليه أن ينبىء محمداً ويرسله.
2- فضيلة الأمر بالصلاة والزكاة.
3- فضيلة الوفاء بالوعد والصدق في القول والعمل.
4- سنية السجود لمن تلا هذه الآية أو تليت وهو يستمع إليها . {خروا سجدا وبكيا}.
5- فضيلة البكاء حال السجود فقد كان عمر إذا تلا هذه الآية سجد ثم يقول هذا السجود فأين البكيُّ يعني البكاء.
فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا (63)
شرح الكلمات:
خلف1 : أي عقب سوء.
أضاعوا الصلاة : أهملوها فتركوها فكانوا بذلك كافرين.
اتبعوا الشهوات: انغمسوا في الذنوب والمعاصي كالزنا وشرب الخمر.
يلقون غياً : أي وادياً في جهنم يلقون فيه.
ولا يظلمون شيئاً : أي لا ينقصون من ثواب حسناتهم.
__________
1 الخلف: بإسكان اللام خلف سوء وبفتحها خلف خير وصلاح.

جنات عدن: أي إقامة دائمة.
بالغيب: أي وعدهم بها وهي غائبة عن أعينهم لغيابهم عنها إذ هي في السماء وهم في الأرض.
مأتياً : أي موعوده وهو ما يعد به عباده آتياً لا محالة.
لغواً: أي فضل الكلام وهو ما لا فائدة فيه.
بكرة وعشياً : أي بقدرهما في الدنيا وإلاّ فالجنة ليس فيها شمس فيكون فيها نهار وليل.
من كان تقياً: أي من كان في الحياة الدنيا تقياً لم يترك الفرائض ولم يغش المحارم.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف} مخبر تعالى عن أولئك الصالحين ممن اجتبى وهدى من النبيين وذرياتهم، انه خلف من بعدهم خلف سوء كان من شأنهم أنهم {أضاعوا1 الصلاة} فمنهم من أخرها عن أوقاتها ومنهم من تركها {واتبعوا الشهوات2} فانغمسوا في حمأة الرذائل فشربوا الخمور وشهدوا الزور وأكلوا الحرام ولهوا ولعبوا وزنوا وفجروا، بعد ذهاب أولئك الصالحين كما هو حال النصارى واليهود اليوم وحتى كثير من المسلمين، فهؤلاء الخلف السوء يخبر تعالى أنهم {فسوف يلقون غياً} بعد دخولهم نار جهنم. والغي: ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بئر في جهنم وعن ابن مسعود أنه واد في جهنم3، والكل صحيح إذ البئر توجد في الوادي وكثيراً ما توجد الآبار في الأودية.
وقوله تعالى: {إلاّ من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً} أي لكن من تاب من هذا الخلف السوء وآمن أي حقق إيمانه وعمل صالحاً فأدى الفرائض. وترك غشيان المحارم. فأولئك أي فهؤلاء التائبون المنيبون {يدخلون الجنة} مع سلفهم
__________
1 جائز أن يراد بهذا الخلف السيء كل من أضاع الصلاة بتركها أو بعدم إقامتها بإخلاله بشروطها وأركانها وواجباتها وسننها، واتبع الشهوات من أهل الكتاب ومن المسلمين.
2 اتباع الشهوات لازم لإضاعة الصلاة لقول عمر: مَن أضاعها فهو لما سواها أضيع، ولأنّ اقام الصلاة ينهى عن الفحشاء والمنكر.
3 قال ابن عباس رضي الله عنهما: غيّ: واد في جهنم وإن أودية جهنم لتستعيذ من حره أعدّ الله تعالى ذلك الوادي للزاني المصرّ على الزنى ولشارب الخمر المدمن عليه ولآكل الربا لا ينزع عنه، ولأهل العقوق ولشاهد الزور ولامرأة أدخلت على زوجها ولداً ليس منه.

الصالح، {ولا يظلمون شيئاً} أي ولا ينقصون ولا يبخسون شيئاً من ثواب أعمالهم.
وقوله تعالى: {جنات عدن} أي بساتين إقامة أبدية {التي وعد الرحمن عباده بالغيب} أي وعدهم بها وهي غائبة عنهم لم يروها لأنها في السماء وهم في الأرض.
وقوله: {إنه كان وعده مأتيا} أي كونهم ما رأوها غير ضار لأن ما وعد به الرحمن لا يتخلف أبداً لابد من الحصول عليه ومعنى مأتياً يأتيه صاحبه قطعاً.
وقوله تعالى في الآية (62) {لا يسمعون فيها لغواً} يخبر تعالى أن أولئك التائبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات ودخلوا الجنة لا يسمعون فيها أي في الجنة لغواً وهو الباطل من القول وما لا خير فيه من الكلام اللهم إلاّ السلام فإنهم يتلقونه من الملائكة فيسمعونه منهم وهو من النعيم الروحاني في الجنة دار النعيم.
وقوله تعالى: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا} أي ولهم طعامهم فيها وهو ما تشتهيه أنفسهم من لذيذ الطعام والشراب {بكرة وعشيا} أي في وقت الغداة في الدنيا وفي وقت العشي في الدنيا إذ لا ليل في الجنة ولا نهار1 وإنما هي أنوار وجائز إذا وصل وقت الغداء أو العشاء تغير الأنوار من لون إلى آخر أو تغلق الأبواب وترخى الستائر ويكون ذلك علامة على وقت الغداء والعشاء.
وقوله تعالى: {تلك الجنة2} آية (63) يشير تعالى إلى الجنة دار السلام تلك الجنة العالية {التي نورث من عبادنا من كان تقيا} منهم، أما الفاجر فإن منزلته فيها نورثها المتقي كما أن منزل التقي في النار نورثه فاجراً من الفجار، إذ هذا معنى التوارث: هذا يرث هذا وذاك يرث ذا، إذ ما من إنسان إلاّ وله منزلة في الجنة ومنزل في النار فمن آمن وعمل صالحاً دخل الجنة ونزل في منزلته، ومن كفر وأشرك وعمل سوءاً دخل النار ونزل في منزله فيها، ويورث الله تعالى الأتقياء منازل الفجار التي كانت لهم في الجنة.
__________
1 روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في الجنة ليل ولا نهار وإنما هم في نور أبداً وإنما يعرفون مقدار الليل من النهار بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب". ذكره أبو الفرج ابن الجوزي، والمهدوي وغيرهما (القرطبي).
2 الجملة مستأنفة، واسم الإشارة فيها للتنوبه بها وبعلو مقامها وعظم الكرامة فيها لأهل التقوى.

هداية الآيات.
من هداية الآيات:
1- التنديد بخلف السوء وهو من يضيع الصلاة ويتبع الشهوات.
2- الوعيد الشديد لمن ينغمس في الشهوات ويترك الصلاة فيموت على ذلك.
3- باب التوبة مفتوح والتوبة مقبولة من كل من أرادها وتاب.
4- بيان نعيم الجنة دار المتقين الأبرار.
5- تقرير مبدأ التوارث بين أهل الجنة وأهل النار.
6- بيان أن ورثة الجنة هم الأتقياء، وأن ورثة النار هم الفجار.
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
شرح الكلمات:
وما تتنزل: التنزل النزول وقتا بعد وقت.
إلاّ بأمر ربك: أي إلاّ بإذنه لنا في النزول على من يشاء.
له ما بين أيدينا: أي مما هو مستقبل من أمر الآخرة.
وما خلفنا: أي ما مضى من الدنيا.
وما بين ذلك: مما لم يمض من الدنيا إلى يوم القيامة أي له علم ذلك كله.
وما كان ربك نسيا: أي ذا نسيان فإنه تعالى لا ينسى فكيف ينساك ويتركك؟.
رب السموات والأرض : أي مالكهما والمتصرف فيهما.
واصطبر لعبادته: أي اصبر وتحمل الصبر في عبادته حتى الموت.
هل تعلم له سمياً: أي لا سميَّ له ولا مثل ولا نظير فهو الله أحد، لم يكن له كفوا أحد.

معنى الآيتين:
لنزول هاتين الآيتين سبب وهو ما روى واستفاض أن الوحي تأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم والذي يأتي بالوحي جبريل عليه السلام فلما جاء بعد بطءٍ قال له النبي صلى الله عليه وسلم ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فأنزل الله تعالى قوله: جواباً لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم : {وما نتنزل1} أي نحن الملائكة وقتا بعد وقت على من يشاء ربنا {إلاّ بأمر ربك} أيها الرسول أي إلاّ بإذنه لنا فليس لأحد منا أن ينزل من سماء إلى سماء أو إلى أرض إلاّ بإذن ربنا عز وجل، {له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك} أي له أمر وعلم ما بين أيدينا أي ما أمامنا من أمور الآخرة وما خلفنا أي مما مضى من الدنيا علماً وتدبيراً، وما بين ذلك إلى يوم القيامة علماً وتدبيراً، وما كان ربك عز وجل يا رسول الله ناسيا2 لك ولا تاركاً فإنه تعالى لم يكن النسيان وصفاً له فينسى.
وقوله تعالى: {رب السموات والأرض وما بينهما} يخبر تعالى رسوله بأنه تعالى مالك السموات والأرض وما بينهما والمتصرف فيهما فكل شيء له وبيده وفي قبضته وعليه {فاعبده} أيها الرسول بما أمرك بعبادته به {واصطبر لعبادته3} أي تحمل لها المشاق، فإنه لا إله إلاّ هو، فـ { هل تعلم له سمياً 4} أي نظيراً أو مثيلاً والجواب لا: إذاً فاعبده وحده وتحمل في سبيل ذلك ما استطعت تحمله. فإنه لا معبود بحق إلاّ هو إذ كل ما عداه مربوب له خاضع لحكمه وتدبيره فيه.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين :
1- تقرير سلطان الله على كل الخلق وعلمه بكل الحلق وقدرته على كل ذلك.
__________
1 روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام: "ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فنزلت: {وما نتنزّل إلاّ بأمر ربك} الآية، وقال مجاهد: أبطأ الملك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ أتاه فقال: ما الذي أبطأك؟ قال: كيف نأتيكم وأنتم لا تقصّون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم ولا تنقون رواجبكم ولا تستاكون. قال مجاهد: فنزلت الآية في هذا والمراد بالمعيب عليهم: بعض المؤمنين لا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاشاه أن يكون معيباً وهو على أكمل الأحوال.
2 هذا تفسير لقوله تعالى: {وما كان ربك نسيّا} أي: ناسيا إذا شاء أن يرسل إليك أرسل.
3 أي: لطاعته، واللام بمعنى: على أي: على طاعته، ولا تحزن لتأخّر الوحي عنك، وأصل اصطبر: اصتبر فقلبت التاء طاءً تخفيفاً في النطق.
4 ولذا إجماع أهل الإسلام من عهد آدم أنه لا يجوز أن يسمى مخلوق باسم الله عزّ وجل "الله".

2- استحالة النسيان على الله عز وجل.
3- تقرير ربوبية الله تعالى للعالمين، وبذلك وجبت له الألوهية على سائر العالمين.
4- وجوب عبادة الله تعالى ووجوب الصبر عليها حتى الموت.
5- نفي التشبيه والمثل والنظير لله إذ هو الله أحد لم يكن له كفواً أحد.
وَيَقُولُ الانسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الانسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
شرح الكلمات:
ويقول الإنسان : أي الكافر بلقاء الله تعالى.
ولم يك شيئاً: أي قبل خلقه فلا ذات له ولا اسم ولا صفة.
جثياً: أي جاثمين على ركبهم في ذل وخوف وحزن.
من كل شيعة: أي طائفة تعاونت على الباطل وتشيع بعضها لبعض فيه.
عتياً: أي تكبراً عن عبادته وظلماً لعباده.
أولى بها صلياً: أي أحق بها اصطلاء واحتراقاً وتعذيباً في النار.
إلاّ واردها: أي ماراً بها إن وقع بها هلك، وإن مر ولم يقع نجا.
حتماً مقضياً : أي أمراً قضى به الله تعالى وحكم به وحتَّمه فهو كائن لابد.
فيها جثياً: أي في النار جاثمين على ركبهم بضهم إلى بعض.

معنى الآيات:
الآيات في سياق تقرير عقيدة البعث والجزاء يقول تعالى وقوله الحق: {ويقول الإنسان} أي المنكر للبعث والدار الآخرة وقد يكون القائل أُبي بن خلف أو العاص بن وائل وقد يكون غيرهما إذ هذه قولة كل من لا يؤمن بالآخرة يقول: {أ إذا مت لسوف1 أخرج حياً} يقول هذا استنكاراً وتكذيباً قال تعالى: راداً على هذا الإنسان قولته الكافرة {أو لا يذكر2 الإنسان} أي المنكر للبعث الآخر {أنا خلقناه من3 قبل ولم يك شيئاً} أيكذب بالبعث وينكره ولا يذكر خلقنا له من قبل، ولم يك شيئاً.
أليس الذي قدر على خلقه قبل أن يكون شيئاً قادراً على إعادة خلقه مرة أخرى أليست الإعادة أهون من الخلق الأول والإيجاد من العدم، ثم يقسم الله تبارك وتعالى لرسوله على أنه معيدهم كما كانوا ويحشرهم جميعاً مع شياطينهم الذين يضلونهم ثم يحضرنهم حول جهنم جثيا على ركبهم أذلاء صاغرين. هذا معنى قوله تعالى في الآية (68) {فوربك لنحشرنهم4 والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا}.
وقوده تعالى: {ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا} يخبر تعالى بعد حشرهم إلى ساحة فصل القضاء أحياء مع الشياطين الذين كانوا يضلونهم، يحضرهم حول جهنم جثياً، ثم يأخذ تعالى من كل طائفة من تلك الطوائف التي أحضرت حول جهنم وهي جاثية تنتظر حكم الله تعالى فيها أيهم كان أشد على الرحمن عتيا أي تمرداً عن طاعته وتكبراً عن الإيمان به وبرسوله ووعده ووعيده وهو معنى قوله تعالى في الآية (69) {ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا} وقوله تعالى: {ثم لنحن أعلم بالذين هم
__________
1 اللام في: (لسوف) للتأكيد والاستفهام: (أ إذا): للإنكار، واللام: لام الابتداء جاء بها المتكلم لتأكيد إنكاره للبعث بعد الموت والخروج من قبره حيًّا.
2 الاستفهام للإنكار على منكر البعث، والتعجب من عقليته وعمى قلبه من عدم النظر في عدم أصل خلقه فإنه لو أبصر وزالت غفلته لما أنكر البعث فالذي خلقه اليوم يخلقه غداً ولا عجب.
3 قبل كبعد: ملازمة للإضافة فإذا حذف المضاف بنيت على الضم، والمضاف المحذوف هنا تقديره: من قبل كونه شيئاً يذكر في الوجود وقد أوجده الآن ولعدمه غداً ويحييه بعد موته يوم يريد ذلك.
4 الفاء: للتفريع، والضمير في: (لنحشرنهم) عائد على جنس الإنسان المكذّب بالبعث الآخر، والمشرك بالله المصر على ذلك، وذكر حشو الشياطين معهم تحقيراً لشأنهم حيث يحشرون مع أخس الخلق وأحطه ثمّ أشار إلى أنّ شركهم وكفرهم كان بتزيين الشياطين لهم ذلك، والجثي: جمع جاثٍ مثل: قاعد وقعود، فجثي: أصلها جثوي قلبت الواو ياء، وأدغمت، والجاثي هو البارك على ركبتيه عجزاً عن القيام.

أولى بها صليا} يخبر تعالى بعلمه بالذين هم أجدر وأحق بالاصطلاء بعذاب النار، وسوف يدخلهم النار قبل غيرهم ثم يدخل باقيهم بعد ذلك وهو معنى قوله عزّ وجلّ: {ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا}1.
وقوله: {وإن منكم إلاّ واردها كان على ربك حتما مقضيا} ، فإنه يخبر عز وجل عن حكمٍ حكم به وقضاء قضى به وهو أنه ما من واحد منا معشر بني آدم إلاّ وارد جهنم وبيان ذلك كما جاء في الحديث أن الصراط جسر يمد على ظهر جهنم والناس يمرون فوقه فالمؤمنون يمرون ولا يسقطون في النار والكافرون يمرون فيسقطون في جهنم. وهو معنى قوله في الآية (72) {ثم ننجي الذين اتقوا2} أي ربهم فلم يشركوا به ولم يعصوه بترك واجب ولا بارتكاب محرم { ونذر الظالمين } بالتكبر والكفر وغشيان الكبائر من الذنوب {فيها جثياً} أي ونترك الظالمين فيها أي جهنم جاثمين على ركبهم يعانون أشد أنواع العذاب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بالحشر والإحضار حول جهنم والمرور على الصراط.
2 - تقرير معتقد الصراط في العبور عليه إلى الجنة.
3- تقديم رؤساء الضلال وأئمة الكفر إلى جهنم قبل الأتباع الضالين.
4- تقرير حتمية المرور على الصراط.
5 - بيان نجاة الأتقياء، وهلاك الفاجرين الظالمين بالشرك والمعاصي.
__________
1 يقال: صلى يصلى صُليّا كمضى يمضي مُضيا وهوى يهوي هويّا، وصِليّا بكسر الصاد: قراءة حفص، وبضمها: قراءة نافع، وهو مصدر صلي النار كرضي وهو مصدر سماعي بوزن فعول، قلبت فيه الواو ياء وأدغمت في الياء فصار صليَّا كما تقدّم في جثيا.
2 حاول صاحب التحرير أن يردّ مذهب الجمهور في ورود المؤمنين على الصراط كسائر الخلق ثمّ ينجي الله الذين اتقوا حيث يجتازونه بسلام ويقع فيه الكافرون فلا يخرجون وما هناك حاجة إلى ردّ مذهب الجمهور من أئمة الإسلام إذ حديث الصراط والمرور به ثابت قطعيّاً ففي صحيح مسلم: "ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة فيقولون: اللهم سلم سلم قيل: يا رسول الله: وما الجسر؟ قال: دحض مزلّة فيه خطاطيف وكلاليب وحسك تكون فيها شويكة يقال لها: السعدان، فيمرّ المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناجٍ مسلّم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم، وبهذا الصراط.. فسّر السلف الورود على جهنم، ولم يقولوا بلازم الورود وهو الدخول، إذ قد يَرد المرء على الحوض ويقف على طرفه ولا يدخل فيه وورد وصحّ قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن مات له ثلاثة ولد لم يبلغوا الحنث لا تمسه النار إلاّ تحلة القسم" وهو الورود على متن جهنم نظراً إلى الآية {وإن منكم إلاّ واردها}.

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا (76)
شرح الكلمات:
آياتنا بينات: أي آيات القرآن البينات الدلائل الواضحات الحجج.
خير مقاماً: نحن أم أنتم والمقام المنزل ومحل الإقامة والمراد هنا المنزلة.
وأحسن ندياً: أي ناديا وهو مجتمع الكرام ومحل المشورة وتبادل الآراء.
أحسن أثاثا ورئيا : أي مالا ومتاعا ومنظراً.
إما العذاب وإما الساعة: أي بالقتل والأسر وأما الساعة القيامة المشتملة على نار جهنم.
من هو شر مكانا: أي منزلة.
وأضعف جنداً: أي أقل أعواناً.
وخير مرداً: أي ما يرد إليه ويرجع وهو نعيم الجنة.
معنى الآيات:
مازال السياق في تقرير النبوة والتوحيد والبعث الآخر يقول تعالى {وإذا تتلى1 عليهم آياتنا2 بينات} أي وإذا قرئت على كفار قريش المنكرين للتوحيد والنبوة المحمدية والبعث والجزاء
__________
1 المراد بهم الكفار الذين سبق ذكرهم في الآيات قبل هذه إذا قرئت عليهم الآيات تعزّزوا بالدنيا وقالوا فما بالنا إن كنا على باطل أكثر أموالاً وأعز نفرا وقصدهم إدخال الشبهة على المستضعفين من المؤمنين
2 (بينات) حال مؤكدة.

يوم القيامة إذا قرأ عليهم رسول الله أو أحد المؤمنين من أصحابه بعض الآيات من القرآن البينات في معانيها ودلائلها على التوحيد والنبوة والبعث {قال الذين1 كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاماً وأحسن نديا} ، وقولهم هذا هو رد فعل لا غير، إذ أنهم لما يسمعون الآيات تحمل الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين مثلهم لا يجدون ما يخففون به ألم نفوسهم فيقولون هذا الذي أخبر تعالى به عنهم {أي الفريقين} أي فريق المؤمنين أو فريق الكافرين خير مقاماً أي منزلاً ومسكناً وأحسن نديا أي نادياً ومجتمعاً يجتمع فيه، لأنهم يقارنون بين منازل فقراء المؤمنين ودار الأرقم بن أبي الأرقم التي يجتمع فيها الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون وبين دور ومنازل أبي سفيان وأغنياء مكة ونادي قريش وهو مجلس شوراهم فرد تعالى عليهم بقوله: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثاً ورئياً2} أي لا ينبغي أن يغرهم هذا الذي يتبجحون به ويتطاولون فإنه لا يدوم لهم ما داموا يحاربون دعوة الحق والقائمين عليها فكم من أهل قرون أهلكناهم لما ظلموا وكانوا أحسن من هؤلاء مالاً ومتاعاً ومناظرحسنة جميلة.
وقوله تعالى: {قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً} أي اذكر لهم سنتنا في عبادنا يا رسولنا وهى أن من كان في ضلالة الشرك والظلم والمكابرة والعناد فإن سنة الرحمن فيه أن يمد له بمعنى يمهله ويملي له استدراجا حتى إذا انتهوا إلى ما حدد لهم من زمن يؤخذون فيه بالعذاب جزاء كفرهم وظلمهم وعنادهم وهو إما عذاب دنيوي بالقتل والأسر ونحوهما أو عذاب الآخرة بقيام الساعة حيث يحشرون إلى جهنم عمياً وبكماً وصماً جزاء التعالي والتبجح بالكلام وهو معنى قوله تعالى : {حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون3 من هو شر مكاناً وأضعف جنداً} أي شر منزلة وأقل ناصراً أهم الكافرون أم المؤمنون، ولكن حين لا ينفع العلم. إذ التدارك أصبح غير ممكن وإنما هي
__________
1 الذين كفروا كالنضر بن الحارث وأبي جهل والمؤمنون هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كعمار وبلال وصهيب.
2 الأثاث: متاع البيت من فرش وغيرها مما هو جديد، فإن استعمل قيل فيه:. الخرثى قال الشاعر:
تقادم العهد من أم الوليد بنا
دهراً وصار أثاث البيت خرثياً
الرئي: المنظر الحسن. وفيه قراءات خمس أشهرها قراءة الجمهور ورئيا بالهمزة، وقراءة نافع ريّا بدون همزة واشتقاقه من الرؤية أي: المنظر، ومن الريّ ضد العطش، إذ الريّان هو المنعم ذو الحال الحسنة.
3 في الآية ردّ على قولهم: { أي الفريقين خير مقاماً وأحسن نديا} أي سوف تنكشف الحقائق في يوم القيامة، ويعلمون يقيناً من هو الأفضل حالاً والأحسن مآلاً.

الحسرة والندامة لا غير.
وقوله تعالا: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى1} أي إذا كان تلاوة الآيات البينات تحمل المشركين على العناد والمكابرة وذلك لظلمة كفرهم فيزدادون كفراً وعناداً فإن المؤمنين المهتدين يزدادون بها هداية لأنها تحمل لهم الهدى في كل جملة وكلمة منها وهم لإشراق نفوسهم بالإيمان يرون ما تحمل الآيات من الدلائل والحجج والبراهين فيزداد إيمانهم وتزداد هدايتهم في السير في طريق السعادة والكمال بأداء الفرائض واجتناب المناهي.
وقوله تعالى: {والباقيات2 الصالحات خير عند ربك} أيها الرسول {ثواباً وخير مردّاً} في هذه الآية تسلية للرسول والمؤمنين بأن ما يتبجح به المشركون من المال والمتاع وحسن الحال لا يساوى شيئاً أمام الإيمان وصالح الأعمال لأن المال فانٍ، والصالحات باقية فثواب الباقيات الصالحات من العبادات والطاعات خير من كل متاع الدنيا وخير مرداً أي مردوداً على صاحبها إذ هو الجنة دار السلام والتكريم والإنعام.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الكشف عن نفسيات الكافرين وهي الإعتزاز بالمال والقوة إذا اعتز المؤمنون بالإيمان وثمراته في الدنيا والآخرة من حسن العاقبة.
2- بيان سنة الله تعالى في امهال الظلمة والإملاء لهم استدراجاً لهم حتى يهلكوا خاسرين.
3- بيان سنة الله تعالى في زيادة إيمان المؤمنين عند سماع القرآن الكريم، أو مشاهدة أخذ الله تعالى للظالمين.
4- بيان فضيلة الباقيات الصالحات ومنها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
1 وفي الآية وجه آخر مشرق صالح وهو: أن الله تعالى يمدّ لأهل الضلالة في ضلالتهم، ويزيد لأهل الهداية في هدايتهم إذ قال: {من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدًّا}. وقال: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدىً} وما في التفسير صالح ومشرق أيضاً.
2 أي: الأعمال الصالحة التي يعمل العبد إيماناً وإحساناً كالصلاة والصيام والصدقات والجهاد وذكر الله ثوابها لأهلها المدّخر لهم عند الله تعالى خير من أعمال أهل الكفر والشرك والظلم إذ هي ذاهبة هباء منثوراً فيم يتعزّز الكافرون؟

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لاوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا (77) أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
شرح الكلمات:
الذي كفر بآياتنا: هو العاص بن وائل.
لأوتين مالا وولداً: يريد في الآخرة.
أطلع الغيب : أي فعرف أنه يعطى مالاً وولداً يوم القيامة.
كلا: ردع ورد فإنه لم يطلع الغيب ولم يكن له عند الله عهداً.
ونمد له من العذاب مداً : أي نضاعف له العذاب يوم القيامة.
ونرثه ما يقول : أي نسلبه ما تبجح به من المال والولد ويبعث فرداً ليس معه مال ولا ولد.
معنى الآيات:
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم معجباً له {أفرأيت1 الذي كفر بآياتنا} أي كذب بالوحي وما يدعوا له من التوحيد والبعث والجزاء وترك الشرك والمعاصي. وهو العاص بن وائل المسمى أبو عمرو بن العاص. {وقال لأوتين مالاً وولداً} قال هذا لخباب بن الأرت حينما طالبه بدين له عليه فأبى أن يعطيه استصغاراً له لأنه قيِّن "حداداً" وقال له لا أعطيكه حتى تكفر بمحمد فقال له خباب والله ما أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى تموت ثُم تبعث فقال له العاص إذا أنا مِتُّ ثم بُعثت كما تقول ثم جئتني ولي مال وولد قضيتك دينك فأكذبه الله تعالى ورد عليه قوله بقوله عز وجل: {أطلع الغيب2} فعرف أن له يوم القيامة مالاً وولداً. {أم اتخذ عند
__________
1 الأئمة ومن بينهم مسلم في صحيحه على أن هذه الآية نزلت في الخباب والعاص بن وائل إذ كان لخباب دَين على العاص فطالبه فأجابه بما خلاصته في التفسير أعلاه.
2 {أطلع الغيب} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنظر في اللوح المحفوظ. وقال مجاهد: أعلِم الغيب حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا؟

الرحمن عهداً} بذلك بأن سيعطيه مالا وولداً يوم القيامة {كلا1} لم يطلع على الغيب ولم يكن له عند الرحمن عهداً. وقوله تعالى: {سنكتب ما يقول} من الكذب والإفتراء ونحاسبه به ونضاعف له العذاب به العذاب وهو معنى قوله تعالى: {ونمد له من العذاب مدا} ، وقوله تعالى: {ونرثه2 ما يقول ويأتينا فرداً} أي ونسلبه ما يقول من المال والولد حيث يموت ويترك ذلك أو ينصر رسوله على قومه فيسلبهم المال والولد. ويأتينا في عرصات القيامة للحساب فرداً لا مال معه ولا ولد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الكشف عن نفسيات الكافرين لاسيما إذا كانوا أقوياء بمال أو ولد أو سلطان فإنهم يعيشون على الغطرسة منه والاستعلاء وتجاهل الفقراء واحتقارهم.
2- تقرير البعث والحساب والجزاء.
3- مضاعفة العذاب على الكافرين الظالمين لظلمهم بعد كفرهم.
4- تقرير معنى آية: إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون.
وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
__________
1 كلا: ردّ عليه أي: لم يكن له ذلك. أي : لم يطلع على الغيب ولم يتخذ عند الرحمن عهداً.
2 وقيل: نحرمه ما تمناه في الآخرة من مال وولد إذ قال: لأوتين مالاً وولداً ورد تعالى عليه قوله بقوله: {اطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهداً}.

شرح الكلمات:
ليكونوا لهم عزاً : أي منعة لهم وقوة يشفعون لهم عند الله حتى لا يعذبوا.
سيكفرون بعبادتهم: أي يوم القيامة يجحدون أنهم كانوا يعبدونهم.
ضداً1: أي أعداء لهم وأعوانا عليهم.
تؤزهم أزاً: أي تزعجهم إزعاجاً وتحركهم حراكاً شديداً نحو الشهوات والمعاصي.
وفداً : أي راكبين على النُّجُب تحوطهم الملائكة حتى ينتهوا إلى ربهم فيكرمهم.
إلى جهنم ورداً : أي يساق المجرمون كما تساق البهائم مشاة عطاشاً.
عهداً: هو شهادة أن لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
معنى الآيات:
يخبر تعالى مندداً بالمشركين فيقول: {واتخذوا من دون الله آلهة} أي معبودات من الأصنام فعبدوها بأنواع من العبادات، {ليكونوا لهم }- في نظرهم الفاسد- {عزاً2} أي شفعاء لهم عندنا يعزون بواسطتهم ولا يُهانون، {كلا}3 أي ليس الأمر كما يظنون {سيكفرون بعبادتهم} وذلك يوم القيامة حيث ينكرون أنهم أمروهم بعبادتهم، {ويكونون عليهم ضداً} أي خصوماً، ومن ذلك قولهم4 {وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون}. وقولهم. {بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون}.
وقوله تعالى في الآية الثانية (83) {ألم تر5 أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا}
__________
1 الضدّ: ما يخالف ضده في الماهية أو المعاملة، ومن هذا تسمية العدو ضدّ لأن معاملته تخالف معاملة نظيره، ويكون ضدّ في معنى المصدرعاملوه معاملة المصدر فلا يثني ولا يجمع ولا يؤنث.
2 العزّ: ضد الذلّ، وأطلق العزّ هنا وأريد به سببه وهو الشفعاء والأعوان إذ بهم تحصل العزة وتكون المنعة.
3 {كلا}: جائز أن تكون نافية بمعنى: لا وليس وجائز أن تكون بمعنى: حقاً أي: حقاً سيكفرون بعبادتهم.. الخ.
4 أي: فيما أخبر تعالى به في قوله: {وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون} فها هم قد وقفوا ضدّهم بتكذيبهم إياههم. ورأى بعض أهل التفسير أنّ من الجائز أن تكون الآية مبشرة بنصر الرسول صلى الله عليه وسلم وأن يوماً سيأتي يكفر المشركون بآلهتهم وذلك بعد إسلامهم.
5 الاستفهام للتقرير وفيه معنى التعجب أي: كيف لم تَرَ ذلك والأمر واضح لوجود آثاره يشاهدها كل أحد. وأرسلنا بمعنى سلطناهم أو خلّيناهم يفعلون بهم ما أرادوا من الإغواء والفتنة.

يقول تعالى لرسوله ألم ينته إلى علمك يا رسولنا أنا أرسلّنا الشياطين أي شياطين الجن والإنس على الكافرين بنا وبآياتنا ورسولنا ولقائنا تؤزهم أزاً أي تحركهم بشدة نحو الشهوات والجرائم والمفاسد، وتزعجهم إلى ذلك بالإغراء إزعاجاً كبيراً. أي فلا تعجب من حال مسارعتهم إلى الشر والفساد ولا تعجل عليهم بمطالبتنا بهلاكهم إنما نعد لهم كل أعمالهم ونحصيها عليهم حتى أنفاسهم ونحاسبهم على كل ذلك ونجزيهم به. هذا معنى قوله تعالى: {فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا1}.
وقوله تعالى في الآية (85) {يوم نحشر المتقين} أي أذكر يا رسولنا يوم نحشر المتقين {إلى الرحمن وفداً}. والمتقون هم أهل الإيمان بالله وطاعته وتوحيده ومحبته وخشيته وطاعة رسوله ومحبته وفداً أي راكبين على النجائب من النوق عليها رِحال الذهب إلى الرحمن إلى جوار الرحمن عز وجل في دار المتقين الجنة دار الأبرار والسلام.
وقوله تعالى: {ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً}: أي ونسوق المجرمين على أنفسهم بالشرك والمعاصي مشاة على أرجلهم عطاشاً يُساقون سوق البهائم إلى جهنم وبئس2 الورد المورود جهنم.
وقوله تعالى {لا يملكون الشفاعة إلاّ من3 اتخذ عند الرحمن عهداً} 4 أخبر تعالى أن المشركين المجرمين على أنفسهم بالشرك والمعاصي فدسوها لا يملكون الشفاعة يوم القيامة لا يشفع بعضهم في بعض كالمتقين ولا يشفع لهم أحد أبداً لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً بالإيمان به وبطاعته بأداء الفرائض وترك المحرمات يملك إن شاء الله الشفاعة بأن يشفعه الله في غيره إكراماً له أو يشفع فيه غيره إكراما للشافع أيضاً وإنعاماً على المشفوع له. كما أن أهل لا إله إلاّ الله محمد رسول الله المتبرئين من حولهم وقوتهم إلى الله الراجين رجهم يملكون الشفاعة إن دخلوا النار بذنوبهم فيخرجون منها بشفاعة من أراد الله أن يشفعه فيهم.
__________
1 أي: لا تطالب بهلاكهم الفوري فإنا نعدّ لهم الأيام والليالي والشهور والسنين إلى انتهاء آجالهم.
2 يطلق لفظ الورد على الماشية عندما تساق إلى الماء لترده، ويطلق على السير إلى الماء أيضاً كما يطلق على الماء المورود ومنه قوله تعالى: {وبئس الورد المورود}.
3 الاستثناء منقطع، والمنقطع هو: استثناء الشيء من غير جنسه، ولذا يؤتى بعده بلكن كما هو في التفسير أي: لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً يشفع.
4 من لهم عهد بالشفاعة حيث عهد الله تعالى إليهم بذلك هم الملائكة والأنبياء والشهداء أيضاً بدليل السنة الصحيحة، وفسّر ابن عباس رضي الله عنهما العهد أيضاً بشهادة أن لا إله إلاّ الله محمد رسول الله والقيام بحقها مع التبرؤ من الحول والقوة لله تعالى.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- براءة سائر المعبودات من دون الله من عابديها يوم القيامة خزياً لهم وإحقاقاً للعذاب عليهم.
2- لا عجب مما يشاهد من مسارعة الكافرين إلى الشر والفساد والشهوات لوجود شياطين تحركهم بعنف إلى ذلك وتدفعهم إليه.
3- لا ينبغي طلب العذاب العاجل لأهل الظلم لأنهم كلما ازدادوا ظلماً ازداد عذابهم شدة يوم القيامة إذ كل شيء محصىً عليهم حتى أنفاسهم محاسبون عليه ومجزيون به.
4- بيان كرامة المتقين، ومهانة المجرمين.
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الارْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)
شرح الكلمات:
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا : أي قال العرب الملائكة بنات الله وقال النصارى عيسى ابن الله.
جئتم شيئاً إداً : أي منكراً عظيماً.
يتفطرن : يتشققن من عظم هذا القول وشدة قبحه.
وتخر الجبال هداً : أي تسقط وتتهدم وتنهدم.
أن دعوا للرحمن ولداً : أي من أجل إدعائهم أن للرحمن عز وجل ولدا.

ولا ينبغي : أي لا يصلح ولا يليق به ذلك لأنه رب كل شيء ومليكه.
إلا آتى الرحمن عبداً : أي خاضعا منقاداً كائناً من كان.
فرداً: أي ليس معه شيء لا مال ولا سلطان ولا ناصر.
معنى الآيات:
مازال السياق في ذكر مقولات أهل الشرك والجهل والرد عليها من قبل الحق تبارك وتعالى قال تعالى مخبراً عنهم: {وقالوا} أي أولئك الكافرون {اتخذ الرحمن ولداً} 1 إذ قالت بعض القبائل العربية الملائكة بنات الله، وقالت اليهود عزير بن الله وقالت النصارى المسيح بن الله. يقول تعالى لهم بعد أن ذكر قولهم {لقد جئتم شيئاً إداً2} أي أتيتم بشيء منكر عظيم، {تكاد3 السموات يتفطرن منه} أي يتشققن منه لقبح هذا القول وسوئه، {وتنشق الأرض وتخر الجبال4 هدا} أي تسقط لعظم هذا القول لأنه مغضب للجبار عزّ وجلّ ولو لا حلمه ورحمته لمس الكون كله عذاب أليم. وقوله: {أن دعوا للرحمن ولداً5} أي أن نسبوا للرحمن ولداً، {وما ينبغي للرحمن} أي لا يصلح له ولا يليق بجلاله وكماله الولد، لأن الولد نتيجة شهوة بهيمية عارمة تدفع الذكر إلى إتيان الأنثى فيكون بإذن الله الولد، والله عز وجل منزه عن مشابهته لمخلوقاته وكيف يشبههم وهو خالقهم وموجدهم من العدم؟
وقوله تعالى {إن كل من6 في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً} هذا برهان على بطلان قولة الكافرين الجاهلين، إذ الذي ما من أحد في السموات أو في الأرض من ملائكة
__________
1 قرىء: (وُلداً) بضم الواو وسكون اللام، وقراءة الجمهور (ولدا) بفتح الواو واللام وهما لغتان مثل: العُرب والعَرب. والعُجم والعَجم قال الشاعر:
ولقد رأيت معاشرا
قد ثمّروا مالا ووُلداً
وقال آخر:
مهلا فداءً لك الأقوام كلهم
وما أثمر من مال ومن وَلَد
ففي البيت الأول شاهد وُلد بسكون اللام وفي الثاني شاهد لفتحها مع ضم الواو في الأول وفتحا في الثاني.
2 الإد والإدة: الداهية والأمر الفظيع. قال ابن عباس: الإدّ: المنكر العظيم.
3 (تكاد) بالتاء قراءة العامة، وقرأ نافع بالياء (يكاد).
4 الهدّ: الهدم بصوت شديد، والهدّة: صوت وقع الحائط ونحوه.
5 روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "يقول الله تبارك وتعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك. فأمّا تكذيبه إياي فقوله: ليس يعيدني كما بدأني، وليس أوّل الخلق بأهون عليّ من إعادته. وأمّا شتمه إيّاي: فقوله: اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
6 (إنْ) نافية بمعنى ما. في الآية دليل على عدم جواز ملك الوالد للولد ولا الولد للوالد، وفي الحديث الصحيح: "لا.. ولد والدا إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه". فإذا لم يملك الأب ابنه فلأن لا يملك الابن أباه من باب أولى.

وإنس وجن إلاّ آتى الرحمن عبداً خاضعاً ذليلاً منقاداً يوم القيامة كيف يعقل اتخاذه ولداً1، إذ الولد يطلب للحاجة إليه، والغنى عن كل خلقه ها هي حاجته إلى عبد من عباده يقول هذا ولدي اللهم إنا نبرؤا إليك مما يقوله الجاهلون بك الضالون عن طريق هدايتك.
وقوله تعالى: {لقد أحصاهم وعدهم عدأعداً} أي علمهم واحداً واحداً فلو كان بينهم إله معه أو ولد له لعلمه، فهذا برهان آخر على بطلان تلك الدعوة الجاهلية الباطلة الفاسدة وقوله: {وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً} هذا رد على أولئك الذين يدعون أنهم إن بعثوا يكون لهم المال والولد والشفيع والنصير. فأخبر تعالى أنه ما من أحد إلاّ ويأتيه يوم القيامة فرداً ليس معه شافع ولا ناصر، ولا مال ولا سلطان.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عظم الكذب على الله بنسبة الولد أو الشريك إليه أو القول عليه بدون علم.
2- بيان أن كل المخلوقات من أجلّها إلى أحقرها ليس فيها غير عبد لله فنسبة الإنسان أو الجان أو الملك إلى الله تعالى هي عبد لرب مالك قاهر عزيز حكيم.
3- بيان إحاطة الله بخلقه ومعرفته لعددهم فلا يغيب عن علمه أحد منهم، ولا يتخلف عن موقف القيامة فرد منهم إذ الكل يأتي الله تعالى يوم القيامة فردا.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
__________
1 روي أحمد في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله أن يشرك به ويجعل له ولد وهو يعافيهم ويدفع عنهم ويرزقهم" أخرجاه في الصحيحين: وفي لفظ إ "نهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم.

شرح الكلمات:
وداً : أي حبا فيعيشون متحابين فيما بينهم ويحبهم ربهم تعالى.
فإنما يسرناه بلسانك: أي يسرنا القرآن أي قراءته وفهمه بلغتك العربية.
قوما لداً: أي ألداء شديدوا الخصومة والجدل بالباطل وهم كفار قريش.
وكم أهلكنا: أي كثيراً من أهل القرون من قبلهم أهلكناهم.
هل تحس منهم من أحد: أي هل تجد منهم أحداً.
أو تسمح لهم ركزاً: أي صوتا خفياً والجواب لا لأن الاستفهام إنكاري.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أن الذين آمنوا بالله وبرسوله وبوعد الله ووعيده فتخلوا عن الشرك والكفر وعملوا الصالحات وهي أداء الفرائض وكثير من النوافل هؤلاء يخبر تعالى أنه سيجعل لهم في قلوب عباده المؤمنين محبة1 ووداً وقد فعل سبحانه وتعالى فأهل الإيمان والعمل الصالح متحابون متوادون، وهذا التوادد بينهم ثمرة لحب الله تعالى لهم. وقوله تعالى: {فإنما يسرناه} أي هذا القرآن الذي كذب به المشركون سهلنا قراءته عليك إذ أنزلناه بلسانك {لتبشر به المتقين} من عبادنا المؤمنين وهم الذين اتقوا عذاب الله بالإيمان وصالح الأعمال بعد ترك الشرك والمعاصي، {وتنذر به قوما لداً} 2 وهم كفار قريش وكانوا ألداء أشداء في الجدل والخصومة، وقوله تعالى: {وكم أهلكنا قبلهم3 من قرن} أي وكثيراً من أهل القرون السابقة لقومك أهلكناهم لما كذبوا رسلنا وحاربوا دعوتنا فـ {هل تحس4 منهم من أحد} فتراه بعينك أو تمسه بيدك، {أو تسمع5 لهم ركزاً} أي صوتاً خفياً اللهم لا فهلا يذكر هذا قومك
__________
1 روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ الله تعالى إذا أحبّ عبداً دعا جبريل عليه السلام فقال: إني أحب فلاناً فأحبّه فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء- قال: ثم يوضع له القبول في الأرض وإذا أبغض عبداً دعا جبريل عليه السلام وقال: إني أبغض فلاناً فأبغضه فيبغضه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه قال: فيبغضونه ثم يوضع له البغضاء في الأرض".
2 (لُدًَّا): جمع الألد، وهو: الشديد الخصومة، ومنه قوله تعالى: {ألدّ الخصام} وقال الشاعر:
أبيت نجيا للهموم كأنني
أخاصم أقواما ذوي جدل لدّا
3 في الآية تهديد وتخويف لأهل مكة المصرين على الكفر والشرك والتكذيب. وكم: خبرية، والقرن: الجيل والأمة. ويطلق على الزمان الذي تعيش فيه الأمة وشاع إطلاقه على المائة سنة.
4 والإحساس: الإشراك بالحس. والاستفهام إنكاري.
5 قيل: الرّكز: ما لا يفهم من صوت أو حركة.

فيتعظوا فيتوبوا إلى ربهم بالإيمان به وبرسوله ولقائه ويتركوا الشرك والمعاصي.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- أعظم بشرى تحملها الآية الأولى وهي حب الله وأوليائه لمن آمن وعمل صالحاً.
2- بيان كون القرآن ميسراً أن نزل بلغة النبي صلى الله عليه وسلم من أجل البشارة لأهل الإيمان والعمل الصالح والنذارة لأهل الشرك والمعاصي.
3- إنذار العتاة والطغاة من الناس أن يحل بهم ما حل بمن قبلهم من هلاك ودمار والواقع شاهد أين أهل القرون الأولى؟

سورة طه
...
سورة طه
مكية
وآياتها مائة وخمس وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى(2) إِلا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى (3) تَنزِيلا مِّمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأسْمَاء الْحُسْنَى (8)
شرح الكلمات:
طه : أي يا رجل.
إلا تذكرة : أي يتذكر بالقرآن من يخشى عقاب الله عز وجل.

على العرش استوى: أي ارتفع عليه وعلا.
وما تحت الثرى: الثرى التراب الندي يريد ما هو أسفل الأرضين السبع.
وأخفى: أي من السر، وهو ما علمه الله وقدر وجوده وهو كائن ولكن لم يكن بعد.
الحسنى : الحسنى مؤنث الأحسن المفضل على الحسن.
معنى الآيات:
قوله تعالى {طه}1 لفظ طه جائز أن يكون من الحروف المقطعة، وجائز أن يكون معناه يا رجل2 ورجح الأمر ابن جرير لوجوده في لغة العرب طه بمعنى يا رجل وعلى هذا فمعنى الكلام يا رجل ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى رداً على النضر بن الحارث الذي قال إن محمداً شقي بهذا القرآن الذي أنزل عليه لما فيه من التكاليف فنفى الحق عزّ وجلّ ذلك وقال {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلاّ تذكرة لمن يخشى} وإنما أنزلناه ليكون3 تذكرة ذكرى يذكر بها من يخشى ربه فيقبل على طاعته متحملاً في سبيل ذلك كل ما قد يلاقي في طريقه من أذى قومه المشركين بالله الكافرين بكتابه والمكذبين لرسوله، وقوله: {تنزيلاً4 ممن خلق الأرض والسموات العلى} أي هذا القرآن الذي مما أنزلناه لتشقى به ولكن تذكرة لمن يخشى نُزِّل تنزيلاً من الله الذي خلق الأرض والسموات العلى: {الرحمن5 على العرش استوى} أي رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما الذي استوى على عرشه استواءً يليق به يدبر أمر مخلوقاته، الذي {له6 ما في السموات وما في
__________
1 نزلت (طه) تبل إسلام عمر رضي الله عنه لما روي: أنه دخل على بيت ختنه سعيد بن زيد فوجده يقرأها مع زوجه فاطمة بنت الخطاب أخت عمر رضي الله عنهم أجمعين فطلبها فلم يُعطها حتى اغتسل فلمّا قرأها لان قلبه ورق للإسلام.
2 قيل: إن طه بمعنى: يا رجل لغة معروفة في عكل حتى إنك إذا ناديت المرء بيا رجل لم يجبك حتى تقول: طه وأنشد الطبري في هذا قول الشاعر:
دعوت بطه في القتال فلم يجب
فخفت عليه أن يكون مزيلاً
3التذكرة: خطور المنسي بالذهن لأنّ التوحيد مستقر في الفطرة والإشراك مناف لها فسماع القرآن كقراءته يثير كامن التوحيد في فطرة الإنسان.
4 (تنزيلا) حال من القرآن، المراد منها التنويه بشأن القرآن والإعلان عن خطره.
5 (الرحمن) يجوز أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف أي: هو الرحمن جل جلاله. ويجوز أن تكون مبتدأ واختير اسم الرحمن لأن المشركين ينكرون اسم الرحمن جهلاً منهم وعناداً.
6 تقديم الجار والمجرور: مؤذن بالحصر، وهو كذلك، إذ ليس لأحد ملك السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وما تحت الثرى سواه عزّ وجلّ.

الأرض وما بينهما وما تحت الثرى1} من الأرضين السبع. وقوله {وإن تجهر بالقول} أيها الرسول أو تُسِر {فإنه يعلم السر وأخفى2 } من السر؛ وهو ما قدره الله وهو واقع في وقته المحدد له فعلمه تعالى ولم يعلمه الإنسان بعد. وقوله: {الله لا إله إلاّ هو} أي الله المعبود بحق الذي لا معبود بحق سواه {له الأسماء الحسنى} التي لا تكون إلاّ له، ولا تكون لغيره من مخلوقاته. وهكذا عرّف تعالى عباده به ليعرفوه فيخافونه ويحبونه فيؤمنون به ويطيعونه فيكملون على ذلك ويسعدون فلله الحمد وله المنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إبطال نظرية أن التكاليف الشرعية شاقة ومرهقة للعبد.
2- تقرير عقيدة الوحي وإثبات النبوة المحمدية،
3- تقرير الصفات الإلهية كالاستواء ووجوب الإيمان بها بدون تأويل أو تعطيل أو تشبيه بر بل اثباتها على الوجه الذي يليق بصاحبها عزّ وجلّ.
4- تقرير ربوبية الله لكل شيء.
5- تقرير التوحيد وإثبات أسماء الله تعالى الحسنى وصفاته العلى.
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا
__________
1 ما تحت الثرى: هو باطن الأرض كله.
2 وجائز أن يكون أخفى السر: حديث النفس إذ هو أخفى من السر إذ السر ينطق به، وخاطر النفس لا ينطق به.

فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
شرح الكلمات:
هل أتاك: قد أتاك فالاستفهام للتحقيق..
حديث موسى: أي خبره وموسى هو ابن عمران نبي بني إسرائيل
إذ رأى ناراً : أي حين رؤيته ناراً.
لأهله : زوجته بنت شعيب ومن معها من خادم أو ولد.
آنست ناراً: أي أبصرتها من بعد.
بقبس1 : القبس عود في رأسه نار.
على النار هدى: أي ما يهديني الطريق وقد ضل الطريق إلى مصر.
فلما أتاها : أي النار وكانت في شجرة من العوسج ونحوه تتلألؤ نوراً لا ناراً.
نودي يا موسى : أي ناداه ربه قائلاً له يا موسى....!
المقدس طوى2: طوى اسم للوادي المقدس المطهر.
اخترتك: من قومك لحمل رسالتي إلى فرعون وبني إسرائيل.
فاستمع لما يوحى: أي إليك وهو قوله تعالى: {إنني أنا الله لا إله إلاّ أنا}.
لذكري : أي لأجل أن تذكرني فيها.
أكاد أخفيها3: أي أبالغ في اخفائها حتى لا يعلم وقت مجيئها أحد.
__________
1 القبس والمقباس يقال: قبست منه ناراً أقبس قبساً فقبسنى أي: أعطاني منه قبساً بتحريك السين مفتوحة، واقتبست منه علماً لأن العلم نور، من مادة النار التي هي الضياء والإشراق.
2 طوى بالكسر وبالضم أشهر وبه قراءة عامة القراء، وهو اسم للوادي وفي لفظه ما يشير إلى أنه مكان فيه ضيق كالثوب المطوي أو لأن موسى طواه سيراً.
3 لما كانت الساعة مخفية الوقوع أثار قوله تعالى {أكاد أخفيها} تساؤلات كثيرة أقربها إلى الواقع ثلاثة. الأول: إخفاء الحديث عنها لأن الحديث عنها لا يزيد المعاندين من منكري البعث إلاّ عناداً. والثاني: أنّ كاد زائدة والتقدير: أنّ الساعة آتية أخفيها، والثالث: أن أخفيها بمعنى: أزيل خفاءها بأن أظهرها فتكون الهمزة للسلب نحو أعجم الكتاب: أزال عجمته وأشكى زيداً: إذا أزال شكواه.

بما تسعى : أي سعيها في الخير أو في الشر.
فتردى : أي تهلك.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في تقرير التوحيد ففي نهاية الآية السابقة (8) كان قوله تعالى {الله لا إله إلاّ هو له الأسماء الحسنى} تقريراً للتوحيد وإثباتاً له وفي هذه الآية (9) يقرره تعالى عن طريق الإخبار عن موسى، وأن أول ما أوحاه إليه من كلامه كان إخباره بأنه لا إله إلاّ هو أي لا معبود غيره وأمره بعبادته. فقال تعالى: {وهل أتاك1} أي يا نبينا {حديث موسى2 إذ رأى ناراً}، وكان في ليلة مظلمة شاتية وزنده الذي معه لم يقدح له ناراً {فقال لأهله} أي زوجته ومن معها وقد ضلوا طريقهم لظلمة الليل، {امكثوا} أي ابقوا هنا فقد آنست ناراً أي أبصرتها {لعلي آتيكم منها بقبس} فنوقد به ناراً تصطلون بها أي تستدفئون بها، {أو أجد على النار هدى} أي أجد حولها ما يهدينا طريقنا الذي ضللناه.
وقوله تعالى: {فلما أتاها} أي أتى النار ووصل إليها وكانت شجرة3 تتلألؤ نوراً {نودي يا موسى} أي ناداه ربه تعالى قائلاً يا موسى {إني4 أنا ربك } أي خالقك ورازقك ومدبر أمرك {فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى} وذلك من أجل أن يتبرك بملامسة الوادي المقدس بقدميه. وقوله تعالى {وأنا أخترتك} أي لحمل رسالتي إلى من أرسلك إليهم. {فاستمع لما يوحى5} أي إليك وهو: {إنني أنا الله لا إله إلاّ أنا} أي أنا الله المعبود بحق ولا معبود بحق غيري وعليه فاعبدني وحدي، {وأقم الصلاة لذكري6} ، أي لأجل أن تذكرني فيها وبسببها. فلذا من لم يصل لم يذكر الله تعالى وكان بذلك كافراً لربه تعالى. وقوله {إن الساعة آتية7} أي ان الساعة التي يقوم فيها الناس أحياء من قبورهم للحساب والجزاء
__________
1 هذا الاستفهام أريد به التشويق لما يلقى لعظيم فائدته، وهل هنا بمعنى قد المفيدة للتحقيق هي كما في قوله: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} أي قد أتى.
2 الحديث: الخبر، ويجمع على غير قياس: أحاديث، وقيل: واحده أحدوثة واستغنوا به عن جمع فعلاء لأن فعيل يجمع على فعلاء. كرحيم ورحماء وسعيد وسعداء وهو اسم للكلام الذي يحكى به أمر قد حدث في الخارج.
3 قيل: هي شجرة عنّاب.
4 قرأ حمزة وحده، وانَّا اخترناك بضمير العظمة.
5 في هذه الآية إشارة إلى أن التعارف بين المتلاقين حسن فقد عرفه تعالى بنفسه في أوّل لقاء معه، روى أنه وقف على حجر واستند على حجر ووضع يمينه على شماله، وألقى ذقنه على صدره وهذه حالة الاستماع المطلوبة من صاحبها.
6 استدل مالك على أن من نام عن صلاة أو نسيها فإنه يصليها مستدلا بقوله تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} أي: لأول وقت ذكرك لها والسنة صريحة في هذا إذ قال صلى الله عليه وسلم "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها فلا كفارة لها إلاّ ذاك"
7 الساعة علم بالغلبة على ساعة البعث والحساب.

آتية لا محالة. من أجل مجازاة العبادّ على أعمالهم وسعيهم طوال أعمارهم من خير وشر، وقوله: {أكاد أخفيها} أي أبالغ في إخفائها حتى أكاد أخفيها عن نفسي. وذلك لحكمة أن يعمل الناس ما يعملون وهم لا يدرون متى يموتون ولا متى يبعثون فتكون أعمالهم بإراداتهم لا إكراه عليهم فيها فيكون الجزاء على أعمالهم عادلا، وقوله: {فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها فتردى} ينهى تعالى موسى أن يَقبل صدّ صادٍ من المنكرين للبعث متبعي الهوى عن الإيمان بالبعث والجزاء والتزود بالأعمال الصالحة لذلك اليوم العظيم الذي تجزى فيه كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون، فإن من لا يؤمن بها ولا يتزود لها يردى أي يهلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم.
2- تقرير التوحيد وإثباته، وأن الدعوة إلى لا إله إلاّ الله دعوة كافة الرسل.
3- إثبات صفة الكلام لله تعالى.
4- مشروعية التبرك بما جعله الله تعالى مباركاً، والتبرك التماس البركة حسب بيان الرسول وتعليمه.
5- وجوب إقام الصلاة وبيان علة ذلك وهو ذكر الله تعالى.
6- بيان الحكمة في إخفاء الساعة مع وجوب إتيانها وحتميته.
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولىَ (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ

مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
شرح الكلمات:
وما تلك بيمينك يا موسى: الاستفهام للتقرير ليرتب عليه المعجزة وهي انقلابها حية.
أتوكأ عليها: أي أعتمد عليها.
وأهش بها على غنمي : أخبط بها ورق الشجر فيتساقط فتأكله الغنم.
ولي فيها مآرب أخرى : أي حاجات أخرى كحمل الزاد بتعليقه فيها ثم حمله على عاتقه، وقتل الهوام.
حية تسعى : أي ثعبان عظيم، تمشي على بطنها بسرعة كالثعبان الصغير المسمى بالجان.
سيرتها الأولى : أي إلى حالتها الأولى قبل أن تنقلب حيّة.
إلى جناحك: أي إلى جنبك الأيسر تحت العضد إلى الإبط.
بيضاء من غير سوء: أي من غير برص تضيء كشعاع الشمس.
اذهب إلى فرعون: أي رسولاً إليه.
إنه طغى.: تجاوز الحد في الكفر حتى ادعى الألوهية.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم مع موسى وربه تعالى إذ سأله الرب تعالى وهو أعلم به وبما عنده قائلاً: {وما تلك بيمينك يا موسى1؟} يسأله ليقرر بأن ما بيده عصا من خشب يابسة، فإذا تحولت إلى حية تسعى علم أنها آية له أعطاه إياها ربه ذو القدرة الباهرة ليرسله إلى فرعون وملائه. وأجاب موسى ربه قائلاً: {هي عصاي أتوكأ عليها وأهش2 بها على غنمي } يريد يخبّط بها الشجر اليابس فيتساقط الورق فتأكله الغنم {ولي فيها مآرب3} أي حاجات
__________
1 الجملة معطوفة على الجمل قبلها، وهي استفهامية أي: وما التي بيمينك؟ والمقصود تقرير الأمر حتى يقول موسى: هي عصاي.
2 في هذه الآية دليل على جواز إجابة السائل بأكثر مما سأل عنه. وفي الحديث وقد سئل عن ماء البحر فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" فزاد جملة: "الحل ميتته" وقوله للتي سألته قائلة: ألهذا حج؟ قال : نعم ولك أجر" فزاد "ولك أجر" وفي البخاري: باب من أجاب السائل بأكثر مما سأل.
3 الواحد: مأربة مثلثة الراء.

{أخرى1} كحمل الزاد والماء يعلقه بها ويضعه على عاتقه كعادة الرعاة وقد يقتل بها الهوام الضارة كالعقرب والحية. فقال له ربه عز وجل {ألقها يا موسى فألقاها} من يده {فإذا هي حية تسعى2} أي ثعبان عظيم تمشي على بطنها كالثعبان الصغير المسمى بالجان فخاف موسى منها وولى هارباً فقال له الرب تعالى: {خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى3} أي نعيدها عصا كما كانت قبل تحولها إلى حية وفعلا أخذها فإذا هي عصاه التي كانت بيمينه. ثم أمره تعالى بقوله: {واضمم يدك} أي اليمنى {إلى جناحك4} الأيسر {تحرج بيضاء من غير سوء} أي برص وفعل فضم يده تحت عضده إلى إبطه تم استخرجها فإذا هي تتلألؤ كأنها فلقة قمر، أو كأنها الثلج بياضا أو أشد، وقوله تعالى {آية أخرى} أي آية لك دالة على رسالتك أخرى إذ الأولى هي انقلاب العصا إلى حية تسعى كأنها جان. وقوله تعالى: {لنريك من آياتنا الكبرى} أي حولنا لك العصا حية وجعلنا يدك تخرج بيضاء من أجل أن نريك من دلائل قدرتنا وعظيم سلطاننا. وقوله تعالى: {إذهب إلى فرعون إنه طغى} لما أراه من عجائب قدرته أمره أن يذهب إلى فرعون رسولاً إليه يأمره بعبادة الله وحده وأن يرسل معه بني إسرائيل ليخرج بهم إلى أرض المعاد بالشام وقوله {إنه طغى} أي تجاوز قدره، وتعدى حده كبشر إذ أصبح يدعي الربوبية والألوهية إذ فقال: {أنا ربكم الأعلى} وقال: {ما علمت لكم من إله غيري } ، فأي طغيان أكبر من هذا الطغيان.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير نبغ الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إذ مثل هذه الأخبار لا تصح إلاّ ممن يوحى إليه.
2- استحباب تناول الأشياء غير المستقذرة باليمين.
3 - مشروعية حمل العصا5.
__________
1 أطنب موسى في الجواب طلبا لمزيد الأنس بالوقوف بين يدي ربّه يناجيه ويوحي إليه.
2 الحية: اسم لصنف من الحنش مسموم إذا عض بنابيه قتل المعضوض.
3 السيرة في الأصل: هيئة السير ونقلت إلى العادة والطبيعة.
4 الجناح: العضد وما تحته من الإبط فهو مع اليد كجناح الطائر.
5 كان خطاء العرب يحملونها في أثناء الخطاب يشيرون بها، وكره هذا الشعوبيون من غير العرب وهم محجوجون بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وللّعصا فوائد كثيرة آخر فوائدها أنها تذكر بالسفر إلى الآخرة.

4- سنة رعي الغنم للأنبياء.
5- مشروعية التدريب على السلاح قبل استعماله في المعارك.
6- آية موسى في انقلاب العصا حية وخروج اليد بيضاء كأنها الثلج أو شعاع شمس.
7- بيان الطغيان: وهو ادعاء العبد ما ليس له كالألوهية ونحوها.
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
شرح الكلمات:
اشرح لي صدري : أي وسعه لي لأتحمل الرسالة.
ويسر لي أمري: أي سهله حتى أقوى على القيام به.
واحلل عقدة من لساني1: أي حبسة حتى أُفهم من أُخاطب.
اشدد به أزري : أي قوي به ظهري.
وأشركه في أمري: أي اجعله نبياً كما نبأتني2.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في حديث موسى عليه السلام مع ربه سبحانه وتعالى إنه بعد أن أمر الله تعالى موسى بالذهاب إلى فرعون ليدعوه إلى عبادة الله وحده وإرسال بني إسرائيل مع موسى ليذهب به إلى أرض القدس قال موسى عليه السلام لربه تعالى {اشرح لي صدري} لأتحمل أعباء الرسالة {ويسر لي أمري} أي سهل مهمتي عليَّ وارزقني العون
__________
1 أصل العقدة: موضع ربط بعض الخيط أو الحبل ببعض آخر وهي فُعلة كغرفة وشرفة أطلقت على عسر النطق بالكلام أو ببعض الحروف ويقال: حُبسة فشبه موسى حبسة لسانه بالعقدة في الحبل ونحوه.
2 يقال: ما برّ أخ أخاه كما برّ موسى أخاه هارون إذ طلب له أشرف مطلب الرسالة والنبوة.

عليها فإنها صعبة شاقة. {واحلل عقدة من لساني } تلك العقدة التي نشأت بسبب الجمرة التي ألقاها في فمه بتدبير الله عزّ وجلّ حيث عزم فرعون على قتله لما وضعه في حجره يلاعبه فأخذ موسى بلحية فرعون ونتفها فغضب فقالت له آسية إنه لا يعقل لصغر سنه وقالت له تختبره بوضع جواهر في طبق وجمر في طست ونقدمهما له فإن أخذ الجواهر فهو عاقل ودونك افعل به ما شئت، وإن أخذ الجمر فهو غير عاقل فلا تحفل به ولا تغتم لفعله، وقدم لموسى الطبق والطست فمد يده إلى الطست بتدبير الله فأخذ جمرة فكانت سبب هذه العقدة فسأل موسى ربه أن يحلها من لسانه ليفصح إذا خاطب فرعون ويبين فيفُهم قوله، وبذلك يؤدي رسالته. هذا معنى قوله: {واحلل عقدة من لسان يفقهوا قولي}1.
وقوله تعالى فيما أخبر عن موسى {واجعل لي وزيراً2 من أهلي هارون أخي} أي طلب من الله تعالى أن يجعل له من أخيه هارون معيناً على تبليغ الرسالة وتحمل أعبائها. وقوله: {اشدد به أزري3} أي قو به ظهري. وقوله: {وأشركه في أمري} وذلك بتنبئته وإرساله ليكون هارون نبياً رسولاً. وعلل موسى عليه الصلاة والسلام لطلبه هذا بقوله: {كي نسبحك4 كثيراً ونذكرك كثيراً} ، وقوله {إنك كنت بنا بصيرا} أي أنك كنت ذا بصر بنا لا يخفى عليك شيء من أمرنا وهذا من موسى توسل إلى الله تعالى في قبول دعائه وما طلبه من ربه توسل إليه بعلمه تعالى به وبأخيه وبحالهما.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب اللجأ إلى الله تعالى في كل ما يهم العبد.
2 مشروعية الأخذ بالأُهبة والاستعداد لما يعتزم العبد القيام به.
3- فضيلة التسبيح والذكر، والتوسل بأسماء الله وصفاته.
__________
1 اختلف في هل انحلّت تلك العقدة أو لم تنحل، والصحيح أنها انحلّت إجابة الله تعالى لدعوة موسى إذ قال: {قد أجيبت دعوتكما} وأما قول فرعون: ولا يكاد يبين فهو تكرار لما سبق ولأجل الانتقاص من كمال موسى عليه السلام.
2 الوزير: المؤزار كالأكيل للمؤاكل، وفي حديث النسائي: "من ولي منكم عملاً فأراد الله به خيراً جعل له وزيراً صالحاً إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه".
3 الأزر: الظهر من موضع الحقوين، والأزر: القوة أيضاً وآزره أي: قواه، وقيل: الأزر العون، ومنه قول أبي طالب.
أليس أبونا هاشم شدّ أزره
وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب
4 في هذه الآية دليل على فضل التسبيح والذكر إذ لولا أن موسى علم حب الله تعالى لهما لما توسل بهما لقضاء حاجته.

قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
شرح الكلمات:
قد أوتيت سؤلك1 : أي مسؤولك من انشراح صدرك وتيسير أمرك وانحلال عقدة لسانك، وتنبئة أخيك.
ولقد مننا عليك مرة أخرى: أي أنعمنا عليك مع مرة أخرى قبل هذه.
مما يوحى: أي في شأنك وهو قوله: أن اقذفيه الخ.
في التابوت : أي الصندوق.
فاقذفيه في اليم: أي في نهر النيل.
ولتصنع على عيني2: تربى بمرأى مني ومحبة وإرادة.
على من يكفله : ليكمل له رضاعه.
وقتلت نفسا : هو القبطي الذي قتلته بمصر وهو في بيت فرعون.
فنجيناك من الغم-: إذ استغفرتنا فغفرنا لك وأئتمروا بك ليقتلوك فنجيناك منهم.
وفتناك فتونا :أي اختبرناك اختبارا وابتليناك ابتلاء عظيما.
__________
1 سؤل بمعنى مسؤول كخبز بمعنى مخبوز وأكل بمعنى مأكول.
2 الصنع هنا: بمعنى التربية والتنمية.

جئت على قدر1 : أي جئت للوقت الذي أردنا إرسالك إلى فرعون.
واصطنعتك لنفسي: أي أنعمت عليك بتلك النعم اجتباءً منا لك لتحمل رسالتنا.
معنى الآيات:
مازال السياق في حديث موسى مع ربه تعالى فقد تقدم أن موسى عليه السلام سأل ربه أموراً لتكون عوناً له على حمل رسالته فأجابه تعالى بقوله: في هذه الآية (36) {قال قد أوتيت سؤلك يا موسى} أي قد أعطيت ما طلبت، {ولقد مننا عليك مرة أخرى} أي قبل هذه الطلبات وهي أنه لما أمر فرعون بذبح أبناء بني إسرائيل2: {إذ أوحينا3 إلى أمك أن اقذفيه في التابوت} أي في الصدوق4 {فاقذفيه في اليم} أي نهر النيل {فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو5 له} فهذه النجاة نعمة، ونعمة أخرى تضمنها قوله تعالى: {وألقيت عليك محبة مني} أي أضفيت عليك محبتي فأصبح من يراك يحبك، ونعمة أخرى وهي: من أجل أن تُربَّى وتغذى على مرأى مني وإرادة لي أرجعتك بتدبيري إلى أمك لترضعك وتقر عينها ولا تحزن على فراقك، وهو ما تضمنه قوله تعالى: {إذ تمشي أختك6} فتقول: {هل أدلكم على من يكفله } لكم أي لإرضاعه وتربيته. {فرجعناك إلى أمك كي تقرعينها ولا تحزن}، ونعمة أخرى وهي أعظم إنجاؤنا لك من الغم الكبير بعد قتلك النفس وائتمار آل فرعون على قتلك {فنجيناك من الغم} من القتل وغفرنا لك خطيئة القتل. وقوله تعالى: {وفتناك فتوناً} 7 أي ابتليناك ابتلاءً عظيماً وها هي ذي خلاصته في الأرقام التالية:
1- حمل أمك بك في السنة التي يقتل فيها أطفال بني إسرائيل.
2- إلقاء أُمك بك في اليم.
3- تحريم المراضع عليك حتى رجعت إلى أمك.
4- أخذك بلحية فرعون وهمه بقتلك.
__________
1 كما قال الشاعر:
نال الخلافة أو كانت له قدرا
كما أتى موسى ربه على قدر
2 أوحى الله تعالى إلى أم موسى: {أن اقذفيه..} الآية.
3 هذا إلهام لها أو منام إذ لم تكن نبيّة إجماعاً.
4 الساحل: الشاطىء، وهو ساحل معهود وهو الذي يقصده آل فرعون للسباحة. واللام في (فليلقه) لام التكوين الإلهي.
5 هذا العدو: فرعون عدو الله تعالى وعدو موسى وبني إسرائيل.
6 أخت موسى تسمى مريم بنت عمران.
7 الفتون: مصدر كالدخول والخروج وهو كالفتنة، وهي اضطراب حال المرء في مدة حياته.

5- قتلك القبطي وائتمار آل فرعون بقتلك.
6- إقامتك في مدين وما عانيت من آلام الغربة.
7 - ضلالك الطريق بأهلك وما أصابك من الخوف والتعب.
هذه بعض ما يدخل تحت قوله تعالى: وفتناك فتوناً وقوله {فلبثت سنين في أهل مدين1} ترعى غنم شعيب عشراً من السنين {ثم جئت} من مدين إلى طور سينا {على قدر} منا مقدر ووعد محدد ما كنت تعلمه حتى لاقيته. واصطنعتك لنفسي أي خلقتك وربيتك وابتليتك واتيت بك على موعد قدَّرْته لك لأُحمِّلك عبء الرسالة إلى فرعون وبني إسرائيل: إلى فرعون لتدعوه إلى عبادتنا وإرسال بني إسرائيل معك إلى أرض المعاد. وإلى بني إسرائيل لهدايتهم وإصلاحهم وإعدادهم للإسعاد والإكمال في الدارين إن هم آمنوا واستقاموا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مظاهر لطف الله تعالى وحسن تدبيره في خلقه.
2- مظاهر إكرام الله تعالى ولطفه بعبده ورسوله موسى عليه السلام.
3- آية حب الله تعالى لموسى، وأثر ذلك في حب الناس له.
4- تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بإخباره في كتابه بمثل هذه الأحداث في قصص موسى عليه السلام.
اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى (45) قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
__________
1 مدين أحد أبناء إبراهيم عليه السلام، وأهل مدين: أي : البلاد التي سميت باسم ابن إبراهيم هم قوم شعيب، والبلاد على ساحل البحر الأحمر جنوب العقبة.

وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
شرح الكلمات:
بآياتي: أي بالمعجزات التي آتيتك كالعصا واليد وغيرها.
ولا تنيا في ذكري : أي لا تفترا ولا تقصرا في ذكري فإنه سر الحياة وعونكما على أداء رسالتكما.
إنه طغى : تجاوز قدره بادعائه الألوهية والربوبية.
قولا لينا : أي خالياً من الغلظة والعنف.
لعله يتذكر : أي فيما تقولان فيهتدي إلى معرفتنا فيخشانا فيؤمن ويسلم ويرسل معكما بني إسرائيل.
يفرط علينا : أي يعجل بعقوبتنا قبل أن ندعو، ونبين له.
أو أن يطغى: أي يزداد طغيانا وظلما.
أسمع وأرى : أي اسمع ما تقولانه وما يقال لكما، وأرى ما تعملان وما يعمل لكما.
فأرسل معنا بني إسرائيل : أي لنذهب بهم إلى أرض المعاد أرض أبيهم إبراهيم.
بآية: أي معجزة تدل على صدقنا في دعوتنا وأنا رسولاً ربك حقاً وصدقاً.
والسلام على من اتبع الهدى : أي النجاة من العذاب في الدارين لمن آمن واتقى، إذ الهدى إيمانٌ وتقوى.
من كذب وتولى : أي كذب بالحق ودعوته وأعرض عنهما فلم يقبلهما.
معنى الآيات
مازال السياق الكريم في الحديث عن موسى مع ربه تبارك وتعالى فقد أخبره تعالى في

الآية السابقة أنه صنعه لنفسه، فأمره في هذه الآية بالذهاب مع أخيه هارون مزودين بآيات الله وهي حججه التي أعطاهما من العصا واليد البيضاء، ونهاهما عن التواني في ذكر الله بأن يضعفا في ذكر وعده ووعيده فيقصرا في الدعوة إليه تعالى فقال : {اذهب أنت وأخوك بآياتي1 ولا تنيا في ذكرى2} وبين لهما إلى من يذهبا وعلة ذلك فقال: {إذهبا إلى فرعون إنه طغى} أي تجاوز قدره وتعدى حده من إنسان يعبد الله إلى إنسان كفار ادعى أنه رب وإله، وعلمهما اسلوب الدعوة فقال لهما: {فقولا له قولاً ليناً} أي خاليا من الغلظة والجفا وسوء الإلقاء وعلل لذلك فقال {لعله يتذكر أو يخشى3} أي رجاء أن يتذكر، معاني كلامكما وما تدعوانه إليه فيراجع نفسه فيؤمن ويهتدي4 أو يخشى العذاب إن بقى على كفره وظلمه فيسلم لكما بني إسرائيل ويرسلهم معكما، فأبدى موسى وأخو هارون تخوفاً فقال ما أخبر تعالى به عنهما في قوله: فقالا {إنا نخاف أن يفرط علينا} أي يعجل بعقوبتنا بالضرب أو القتل، {أو أن يطغى5} أي يزداد طغياناً وظلماً. فطمأنهما ربهما عز وجل بأنه معهما بنصره وتأييده وهدايته إلى كل ما فيه عزهما فقال لهما: {لا تخافا} أي من فرعون وملائه: {إنني معكما أسمع وأرى} اسمع ما تقولان لفرعون وما يقول لكما. وأرى ما تعملان من عمل وما يعمل فرعون وإني أنصركما عليه فأحق عملكما وأبطل عمله. فأتياه إذاً ولا تترددا فقولا أي لفرعون {إنا رسولاً ربك} أي إليك {فأرسل معنا بني إسرائيل } لنخرج بهما حيث أمر الله، {ولا تعذبهم} بقتل رجالهم واستحياء نسائهم واستعمالهم في أسوء الأعمال وأحطها، {قد جئناك بآية من6 ربك} أي بحجة من ربك دالة على أنا رسولا ربك إليك وأنه يأمرك بالعدل والتوحيد
__________
1 يروى أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الآيات التسع. وهذا باعتبار ما يكون وإلاّ فما حصل هو آية العصا واليد لا غير.
2 ولا تنيا؛ أي: ولا تضعفا. يقال: وني يني ونىً أي: ضعف في العمل. أي: لا تني أنت وأبلغ هارون أن لا يني.
3 لعل: حرف ترج ولكن هي هنا بالنسبة إلى موسى وهارون معناه: لعل رجاءكما وطمعكما. فالتوقع فيها إنما هو راجع إلى جهة البشر.
4 لقد تذكر فرعون وخشي وذلك ساعة غرقه ولم ينفعه ذلك إذ قال: آمنت أنه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو إسرائيل.
5 قوله تعالى: {قالا ربنا إنا نخاف} الخ هذه بداية كلام موسى وهارون بعد أن انتهى كلام موسى مع ربه وحده. قبل أن يصل إلى مصر، ومعنى: يفرط يبادر بعقوبتهما ويعجلها، يقال: فرط منه أمر أي: بدر، وأفرط: أسرف وفرط: ترك وأضاع، وفي الآية دليل عدم المؤاخذة بالخوف مما من شأنه أن يخاف، ولكن لا يمنع من عبادة الله تعالى التي هي علّة الخلق والوجود.
6 هي اليد والعصا.

وينهاك عن الظلم والكفر ومنع بني إسرائيل من الخروج إلى أرض المعاد معنا. {والسلام على من اتبع الهدى} أي واعلم يا فرعون أن الأمان والسلامة يحصلان لمن اتبع الهدى الذي جئناك به، فاتبع الهدى تسلم1، وإلاّ فأنت عرصة للمخاوف والهلاك والدمار وذلك لأنه {قد أوحى إلينا} أي أوحى إلينا ربنا، {أن العذاب2 على من كذب} بالحق الذي جئناك به {وتولى} عنه فأعرض عنه ولم يقبله كبرياءً وعناداً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عظم شأن الذكر بالقلب واللسان والجوارح أي بالطاعة فعلاً وتركاً.
2- وجوب مراعاة الحكمة في دعوة الناس إلى ربهم .
3- تقرير معية الله تعالى مع أوليائه وصالح عباده بنصرهم وتأييدهم.
4- تقرير أن السلامة من عذاب الدنيا والآخرة هي من نصيب متبعي الهدى.
5- شرعية إتيان الظالم وأمره ونهيه والصبر على أذاه.
6- عدم المؤاخذة على الخوف حيث وجدت أسبابه.
قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأوْلِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)
__________
1 والسلام هنا ليس سلام تحية.
2 قوله تعالى : { إن العذاب على من كذّب وتولّى} هذه أرجى أية للموحدين لأنهم لم يكذّبوا ولم يتولوا.

شرح الكلمات:
أعطى كل شيء خلقه: أي خلقه الذي هو عليه متميز به عن غيره.
ثم هدى: أي الحيوان منه إلى طلب مطعمه ومشربه ومسكنه ومنكحه.
قال فما بال القرون الأولى: أي قال فرعون لموسى ليصرفه عن دلائه بالحجج حتى لا يفتضح فما بال القرون الأولى كقوم نوح وعاد وثمود في عبادتهم الأوثان؟
قال علمها عند ربي: أي لم علم أعمالهم وجزائهم عليها عند ربي دعنا من هذا فإنه لا يعنينا.
في كتاب لا يضل ربي: أي أعمال تلك الأمم في كتاب محفوظ عند ربي وسيجزيهم بأعمالهم إن ربي لا يخطىء ولا ينسى فإن عذب أو أخر العذاب فإن ذلك لحكمة اقتضت منه ذلك.
مهاداً وسلك لكم فيها سبلاً : مهاداً، فراشا وسلك: سهل، وسبلاً طرقاً.
أزواجاً من نبات شتى : أزواجاً: أصنافاً: شتى: مختلفة الألوان والطعوم.
إن في ذلك لآيات: لدلائل واضحات على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته.
لأولى النهى: أي أصحاب العقول لأن النُهية العقل وسمي نهية لأنه ينهى صاحبه عن ارتكاب القبائح كالشرك والمعاصي.
منها خلقناكم: أي من الأرض وفيها نعيدكم بعد الموت ومنها نخرجكم عند البعث يوم القيامة.
تارة أخرى: أي مرة أخرى إذ الأولى كانت خلقاً من طين الأرض وهذه إخراجاً من الأرض.
معنى الآيات:
السياق الكريم في الحوار الذي دار بين موسى عليه السلام وفرعون إذ وصل موسى وأخوه إلى فرعون وَدَعَوَاهُ إلى الله تعالى ليؤمن به ويعبده وبأسلوب هادىء لين كما أمرهما ا لله تعالى: فقالا له: {والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحي علينا أن العذاب على من

كذب وتولى}؟ ولم يقولا له لا سلام عليك، ولا أنت مكذب ومعذب، وهنا قال لهما فرعون ما أخبر به تعالى في قوله: {قال فمن ربكما يا موسى؟} أفرد اللعين موسى بالذكر لإدلائه عليه بنعمة التربية في بيته ولأنه الرسول الأول فأجابه موسى بما أخبر تعالى به بقوله: {ربنا الذي أعطى1 كل شيء خلقه ثم هدى2} أي كل مخلوق خلقه الذي هو عليه متميز به من شكل ولون وصفة وذات ثم هدى الأحياء من مخلوقاته إلى طلب رزقها من طعام وشراب، وطلب بقائها بما سن لها وهداها إليه من طرق التناسل إبقاء لأنواعها. وهنا وقد أفحم موسى فرعون وقطع حجته بما ألهمه الله من علم وبيان قال فرعون صارفاً موسى عن المقصود خشية الفضيحة من الهزيمة أمام ملائه قال: {فما3 بال القرون الأولى} أخبرنا عن قوم نوح وهود وصالح وقد كانوا يعبدون الأوثان. وعرف موسى أن اللعين يريد صرفه عن الحقيقة فقال له ما أخبر تعالى به في قوله: {علمها عند ربي في كتاب4، لا يضل ربي ولا ينسى5} فإن ما سألت عنه لا يعنينا فعلم حال تلك الأمم الخالية عند ربي في لوح محفوظ عنده وسيجزيها بعملها، وما عجل لها من العقوبة أو أخر إنما لحكمة يعلمها فإن ربي لا يخطىء ولا ينسى وسيجزى كلاً بكسبه. ثم أخذ موسى يصف ربه ويعرفهم به وهي فرصة سنحت فقال {الذي جعل لكم الأرص مهداً} أي فراشاً مبسوطة للحياة عليها {وسلك لكم فيها سبلا} أي سهل لكم للسير عليها طرقاً تمكنكم من الوصول إلى حاجاتكم فوقها، {وأنزل من السماء ماء} وهو المطر المكون للأنهار والمغذي الممد للآبار. هذا هو ربي وربكم فاعرفوه واعبدوه ولا تعبدوا معه سواه. وقوله تعالى: {فأخرجنا6 به أزواجاً من نبات شتى} أي بالمطر أزواجاً أي أصنافاً من نباتٍ شتى أي مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخصائص. كان هذا من قول الله
__________
1 أعلمه عليه السلام بأنّ ربه تعالى يعرف بصفاته لا بذاته ولا باسم يعرف به ولم يقل له موسى: إنه الله، لأنّ الاسم العلم لا يهدي إلى معرفته تعالى كما تهدي إليه الصفات العُلى التي لا يقدر فرعون على جحدها وإنكارها.
2 قال ابن عباس: أعطى كل زوج من جنسه ثمّ هداه إلى منكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه. وقال مجاهد: أعطى كل شيء صورته ولم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان. قال الشاعر:
وله في كل شيء خلقه
وكذا الله ما شاء فعل
3البال: الحال أي: ما حالها وما شأنها؟ فأعلمه موسى عليه السلام أن علمها عند الله أي: إن ما سألت عنه من علم الغيب الذي استأثر الله به درن سواه.
4 في هذه الآية دليل على مشروعية كتابة العلوم وتدوينها، حتى لا تنسى فتضيع وفي الحديث مشاهد آخر ففي صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده. إن رحمتي تغلب غضبي".
5 الضلال: الخطأ في العلم شبّه بخطإ الطريق، والنسيان: عدم تذكر الأمر المعلوم في الذهن.
6 في الكلام التفات من ضمير الغيبة إلى ضمير التكلم والخطاب تنويعاً للأسلوب وتحريكاً للضمير الجامد.

تعالى تتميماً لكلام موسى وتذكيراً لأهل مكة المتجاهلين لله وحقه في التوحيد. وقوله: {كلوا وارعوا أنعامكم} أي مما ذكرنا لكم من أزواج النبات.وارعوا إبلكم وأغنامكم وسائر بهائمكم واشكروا لنا هذا الإنعام بعبادتنا وترك عبادة غيرنا. وقوله تعالى: {إن في ذلك لآيات لأولي النهى} أي إن في ذلك المذكور من إنزال المطر وإنبات النبات لتغذية الإنسان والحيوان لدلالات على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته وانه بذلك مستحق للعبادة دون سواه إلاّ أن هذه الدلائل لا يعقلها إلاّ أصحاب العقول وذوو النهى فهم الذي يستدلون بها علم معرفة الله ووجوب عبادته وترك عبادة غيره. وقوله تعالى: {منها} أي من الأرض التي فيها حياة النبات والحيوان خلقناكم أي خلق أصلكم الأول وهو آدم، وفيها نعيدكم بالموت فتقبرون فيها، {ومنها1 نخرجكم تارة أخرى2} أي مرة أخرى وذلك يوم القيامة إذ نبعثكم من قبوركم أحياء للحساب والجزاء بالنعيم المقيم أو العذاب المهين بحسب صفات نفوسكم فذو النفس الطاهرة ينعم وذو النفس الخبيثة من الشرك والمعاصي يعذب.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تعين إجابة السائل ولتكن بالعلم الصحيح النافع.
2- تقرير مبدأ من حسن3 إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
3- تنزه الرب تعالى عن الخطأ والنسيان.
4- الاستدلال بالآيات الكونية على الخالق عز وجل وقدرته وألوهيته.
5- احترام العقول وتقديرها لأنها تعقل4 صاحبها دون الباطل والشر.
6- تسمية العقل نهية لأنه ينهى صاحبه عن القبائح.
__________
1 بمناسبة ذكر دلائل وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته الموجبة لألوهيته دون سواه ذكّرهم بعقيدة البعث والجزاء مستدلاً عليها بقدرة الله تعالى وعلمه.
2 تجمع التارة على تارات كالمرة على المرّات، والتارة: اسم جامد غير مشتق.
3 هذا حديث الصحيح: "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه".
4 تعقل: أي: تحجزه أو تصرفه عما يضرّ حالاً أو مآلاً.

وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)
شرح الكلمات:
أريناه آياتنا كلها : أي أبصرناه حججنا وأدلتنا على حقيقة ما أرسلنا به رسولينا موسى وهارون إليه كلها فرفضها وأبى أن يصدق بأنهما رسولين إليه من رب العالمين.
من أرضنا: أي أرض مصر التي فرعون ملك عليها.
بسحرك يا موسى : يشير إلى العصا واليد البيضاء.
مكانا سوى: أي مكان عدل بيننا وبينك ونَصَفٍ، صالحاً للمباراة حيث يكون ساحة كبرى مكشوفة مستوية يرى ما فيها كل ناظر إليها.
يوم الزينة: أي يوم عيد يتزينون فيه ويقعدون عن العمل.
وأن يحشر الناس ضحى: أي وأن يؤتى بالناس من كل أنحاء البلاد للنظر في المباراة.
فتولى فرعون: أي انصرف من مجلس الحوار بينه وبين موسى وهارون في كبرياء وإعراض.
فيجمع كيده: أي ذوى كيده وقوته من السحرة.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في الحوار بين موسى وهارون من جهة وفرعون وملائه من جهة

أخرى فقال تعالى: {ولقد أريناه} أي أرينا فرعون {آياتنا كلها} أي أدلتنا وحججنا1 على أن موسى وهارون رسولان من {قبلنا} أرسلناهما إليه، فكذب برسالتهما وأبى الاعتراف بهما، وقال ما أخبر تعالى به عنه: {قال أجئتنا2} أي يا موسى {لتخرجنا من أرضنا} أي منازلنا وديارنا ومملكتنا {بسحرك} الذي انقلبت به عصاك حية تسعى، {فلنأتينك بسحر مثله، فاجعل بيننا وبينك موعداً} نتقابل فيه، {لاّ نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى}3 عدلاً بيننا وبينك يكون من الاعتدال والاتساع بحيث كل من ينظر إليه يرى ما يجرى فيه من المباراة بيننا وبينك. فأجاب موسى بما أخبر تعالى به عنه فقال : {موعدكم يوم الزينة} وهو يوم عيد للأقباط يتجملون فيه ويقعدون عن العمل، {وأن يحشر الناس ضحى4} أي في يوم يجمع فيه الناس ضحى للتفرج في المباراة من كل أنحاء المملكة وهنا تولى فرعون بمعنى انصرف من مجلس المحاورة وكله كبر وعناد فجمع قواته من السحرة لإنفاذ كيده في موسى وهارون. وفي الآيات التالية تظهر الحقيقة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان كبر فرعون وصلفه وطغيانه.
2- للسحر آثار وله مدارس يتعلم فيها ورجال يحذقونه ويعلمونه.
3- مشروعية المبارزة والمباراة لإظهار الحق وإبطال الباطل.
4- مشروعية اختيار المكان والزمان اللائق للقتال والمباراة ونحوهما.
قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ
__________
1 أي: الدالة على وجود الله تعالى ووجوب ألوهيته وعلى صحة نبوّة موسى وهارون.
2 لما رأى الآيات وبهرته احتال في دفعها اللعين بدعواه أن موسى جاء ليخرج فرعون وقومه من بلادهم ليستقل بها دونهم، وهذا من الكذب السياسي الممقوت.
3 قرأ حفص (سُوى) كطوى بضم السين، وقرأ نافع (سوى) بكسرها كطوى، والكسر أفصح. أي: وسطاً في المدينة لا يشق على من يأتيه.
4 اختار موسى اليوم والساعة، وهي: الضحى لعلمه أنه سيغلب السحرة ويهزمون أمامه، فأحب أن يكون الوقت مناسباً الكثرة المتفرّجين ووضوح الرأي لهم في شباب النهار (الضحى).

وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)
شرح الكلمات:
ويلكم: دعاء عليهم معناه: ألزمكم الله الويل وهو الهلاك.
فيسحتكم بعذاب: أي يهلككم بعذاب من عنده.
فتنازعوا أمرهم: أي في شأن موسى وهارون أي هل هما رسولان أو ساحران.
وأسروا النجوى: وهي قولهم: ان هذان لساحران يريدان الخ....
بطريقتكم المثلى: أي ويغلبا على طريقة قومكم وهما أشرافهم وساداتهم.
فأجمعوا كيدكم : أي أحكموا أمر كيدكم حتى لا تختلفوا فيه.
قد أفلح من استعلى: أي قد فاز من غلب.
إما أن تلقي: أي عصاك.
فخيل إليه أنها تسعى: أي فخيل إلى موسى أنها حية تسعى، لأنهم طلوها بالزئبق فلما ضربت الشمس عليها اضطربت واهتزت فخيل إلى موسى أنها تتحرك.
معنى الآيات:
مازال السياق في الحوار الدائر بين موسى عليه السلام والسحرة الذين جمعهم فرعون

للمباراة فأخبر تعالى عن موسى أنه قال لهم مخوفا إياهم علهم يتوبون: {ويلكم1 لا تفتروا على الله كذباً} أي لا تتقولوا على الله فتنسبوا إليه ما هو كذب {فيسحتكم2 بعذاب} أي يهلككم بعذاب إبادة واستئصال، {وقد خاب من افترى} أي خسر من كذب على الله أو على الناس. ولما سمعوا كلام موسى هذا اختلفوا فيما بينهم هل صاحب هذا الكلام ساحر أو هو كلام رسول من في السماء؟ وهو ما أخبر تعالى به عنهم في قوله:
{فتنازعوا3 أمرهم بينهم} وقوله {وأسروا النجوى} أي أخفوا ما تناجوا به بينهم وهو ما أخبر تعالى به في قوله: {إن4هذان لساحران} أي موسى وهارون {يريدان أن يخرجاكم من أرضكم} أي دياركم المصرية، {ويذهبا بطريقتكم المثلى5} أي باشرافكم وساداتكم من بني إسرائيل وغيرهم فيتابعوهما على ما جاءا به ويدينون بدينهما، وعليه فأجمعوا أمركم حتى لا تختلفوا فيما بينكم، {ثم ائتوا صفا} واحداً متراصاً، {وقد أفلح اليوم من استعلى} أي غلب، وهذا بعد أن اتفقوا على أسلوب المباراة قالوا بأمر فرعون: {يا موسى إما أن تلقي} عصاك، وإما أن نلقي نحن فنكون أول من ألقى. فقال لهم موسى: {بل ألقوا}، فالقوا عندئذ {فإذا حبالهم وعصيهم} وكانت ألوفاً فغطت الساحة وهي تتحرك وتضطرب لأنها مطلية بالزئبق فلما سخنت بحر الشمس صارت تتحرك وتضطرب الأمر الذي خيل فيه لموسى أنها تسعى (باقي الحديث في الآيات بعد).
__________
1 الويل: الهلاك وهو شبه مصدر، ونصبه إما على تقدير: ألزمهم الله أو على النداء أي: يا ويلهم. كقوله: {يا ويلنا من بعثنا).
2 سحت وأسحت بمعنى، وأصله من استقصاء الشعر في إزالته قرأ أهل الكوفة: (فيُسحتكم) بضم الياء من أسحت، وقرا أهل الحجاز بفتح الياء من: سحت قال الشاعر:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع
من المال إلاّ مُسحتا أو مجلّفا
والشاهد في: مسحت من أسحت.
3 التنازع: مشتق من جذب الدلو من البئر وجذب الثوب من الجسد والتنازع تفاعل إذ كل ذي رأي يريد نزع رأي صاحبه لرأيه لما يراه من الصواب.
4 قراءة الجمهور بكسر إنّ وتشديد النون، وبلغ الخلاف في هذا الحرف أشدّه فبلغوا فيه إلى ستة تخريجات أمثلها: أن (إن) حرف جواب بمعنى نعم قال الشاعر:
ويقلن شيب علا
ك وقد كبرت فقلت إنّه
والشاهد في إنه جواب لما في البيت من كلام، والهاء في إنه هاء السكت، وشاهد آخر وهو: أنّ عبدالله بن الزبير قال لأعرابي استجداه فلم يعطه: إنّ وراكبها. لما قال الأعرابي: لعن الله ناقة حملتني إليك. فقوله: إن: أي: نعم وراكبها أي: ملعون كذلك.
5 المثلى: مؤنث: الأمثل، من المثالية التي هي حسن الحال. أراد فرعون إثارة الحمية في قومه ليدافعوا عن عاداتهم وشرائعهم وأخلاقهم.

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمة الكذب على الله تعالى، وإنه ذنب عظيم يسبب دمار الكاذب وخسرانه.
2- من مكر الإنسان وخداعه1 أن يحول القضية الدينية البحتة إلى سياسة خوفاً من التأثير على النفوس فتؤمن وتهتدي إلى الحق.
3- معية الله تعالى لموسى وهارون تجلت في تصرفات موسى إذ الإذن لهم بالإلقاء أولا من الحكمة وذلك أن الذي يبقى في نفوس المتفرجين والنظارة هو المشهد الأخير والكلمة الأخيرة التي تقال لاسيما في موقف كهذا.
قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى (67) قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلاقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلاصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
شرح الكلمات:
فأوجس في نفسه خيفة: أي أحس بالخوف في نفسه.
أنت الأعلى : أي الغالب المنتصر.
تلقف : أي تبتلع بسرعة ما صنع السحرة من تلك الحبال والعصي .
كيد ساحر : أي كيد ساحر لا بقاء له ولا ثبات.
__________
1 المراد به الإنسان الذي لا يؤمن بالله ولقائه ولا يتحلى بالصبر والتقوى.

لا يفلح الساحر: أي لا يفوز بمطلوبة حيثما كان.
فألقي السحرة سجداً: أي ألقوا بأنفسهم ورؤوسهم على الأرض ساجدين.
إنه لكبيركم : أي لمعلمكم الذي علمكم السحر.
من خلاف : أي يد يمنى مع رجل يسرى.
في جذوع النخل: أي على أخشاب النخل.
أينا أشد عذاباً وأبقى: يعني نفسه- لعنه الله- ورب مرسى اشد عذاباً وأدومه على مخالفته وعصيانه.
معنى الآيات:
مازال السياق في الحديث عن المباراة التي بين موسى عليه السلام وسحرة فرعون إنه لما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم وتحركت واضطربت ومتلأت بها الساحة شعر موسى بخوف في نفسه فأوحى إليه ربه تعالى في نفس اللحظة: {لا تخف إنك أنت الأعلى} أي الغالب القاهر لهم.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (67) فأوجس1 في نفسه خيفة موسى والثانية (68) {قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى} وقوله تعالى: {وألق ما في يمنيك2 تلقف ما صنعوا} أي تبتلع بسرعة وعلل لذلك فقال: {إنما صنعوا كيد ساحر3} أي هو مكر وخدعة من ساحر {ولا يفلح الساحر حيث أتى} أي لا يفوز الساحر بما أراد ولا يظفر به أبداً لأنه مجرد تخيلات يريها غيره. وليس لها حقيقة ثابتة لا تتحول ولما شاهد السحرة ابتلاع العصا لكل حبالهم وعصيتهم عرفوا أن ما جاء به موسى ليس سحراً وإنما هو معجزة سماوية ألقوا بأنفسهم على الأرض ساجدين لله رب العالمين لما بهر نفوسهم من عظمة المعجزة وقالوا في وضوح {آمنا برب هارون وموسى}. وهنا صاح فرعون مزمجراً مهدداً ليتلافى في نظره شر الهزيمة فقال
__________
1 (أوجس): أي أحس ووجد أي: خاف أن يفتتن الناس قبل أن يلقي العصا.
2 لم يقل له: ألق العصا لأن فيها إكباراً لشأن العصا وأنها بحق قادرة على إبطال باطل السحرة.
3 قرأ الجمهور: {كيد ساحر} وقرأ بعضهم: {كيد سحر} بكسر السين أي: كيد ذي سحر، وكيد: خبر مرفوع، والمبتدأ: ما الموصولية في قوله: {إن ما صنعوا} وصنعوا: صلتها، وكيد: الخبر. وقرىء بنصب كيد على أنّ ما كافة. وكيد معمول لصنعوا.

للسحرة {آمنتم له قبل أن آذن لكم } بذلك {إنه لكبيركم1} أي معلمكم العظيم {الذي علمكم السحر} فتواطأتم معه على الهزيمة. {فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف} تعذيباً وتنكيلاً فاقطع يمين أحدكم مع يسرى رجليه، أو العكس {ولأصلبنكم2 في جذوع النخل} أي لأشدنكم على أخشاب النخل واترككم معلقين عبرة ونكالاً لغيركم {ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى} أي أدومه: رب موسى الذي آمنتم به أو أنا "فرعون عليه لعائن الله" هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الشعور بالخوف والإحساس به عند معاينة أسبابه لا يقدح في الإيمان.
2- تقرير أم ما يظهر السحرة من تحويل الشيء إلى آخر إنما هو مجرد تخييل لا حقيقة له.
3- حرمة السحر لأنه تزوير وخداع.
4- قوة تأثير المعجزة في نفس السحرة لما ظهر لهم من الفرق بين الآية والسحر.
5- شجاعة المؤمن لا يرهبها خوف بقتل ولا بصلب.
قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ
__________
1 أراد فرعون بقوله هذا التشبيه على الناس والتمويه حتى لا يتبعوا السحرة فيؤمنوا كإيمانهم لا أنّ موسى استاذهم في السحر وأنه أحذق منهم له وأعلم منهم به.
2 حروف الجر تتناوب، والفاء هنا: (في جذع النخل) بمعنى : على. قال الشاعر:
هم صلبوا العبديّ في جذع نخلة
فلا عطست شيبان إلاّ بأجدعا

تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى (76)
شرح الكلمات:
لن نؤثرك : أي لن نفضلك ونختارك.
والذي فطرنا: أي خلقنا ولم نكن شيئا.
فاقض ما أنت قاض: أي اصنع ما قلت إنك تصنعه بنا.
والله خير وأبقى : أي خير منك ثواباً إذا أطيع وأبقى منك عذاباً إذا عصى.
مجرما: مجرما أي على نفسه مفسداً لها بآثار الشرك والكفر والمعاصي.
جزاء من تزكى: أي ثواب من تتطهر من آثار الشرك والمعاصي وذلك بالإيمان والعمل الصالح.
معنى الآيات:
مازال السياق مع فرعون والسحرة المؤمنين انه لما هددهم فرعون بالقتل والصلب على جذوع النخل لإيمانهم بالله وكفرهم به وهو الطاغوت قالوا له ما أخبر تعالى به عنهم في هذه الآية (72) {قالوا لن نؤثرك } يا فرعون {على ما جاءنا من البينات} الدلائل والحجج القاطعة على أن رب1 موسى وهارون هو الرب الحق الذي تجب عبادته وطاعته فلن نختارك على الذي خلقنا فنؤمن بك ونكفر به لن يكون هذا أبداً واقض ما أنت عازم على قضائه علينا من القتل والصلب. {إنما تقضى هذه الحياة الدنيا} في هذه الحياة الدنيا لما لك من السلطان فيها أما الآخرة فسوف يقضى عليك فيها بالخلد في العذاب المهين.
وأكدوا إيمانهم في غير خوف ولا وجل فقالوا: {إنا آمنا بربنا} أي خالقنا ورازقنا ومدبر أمرنا {ليغفر لنا خطايانا} أي ذنوبنا، {وما أكرهتنا عليه من السحر} أي من تعلمه والعمل به، ونحن لا نريد ذلك ولا شك أن فرعون كان قد ألزمهم بتعلم السحر والعمل به من أجل محاربة موسى وهارون لما رأى من معجزة العصا واليد. وقولهم {والله خير وأبقى}
__________
1 روي أن آسيا امرأة فرعون لما بدأت المباراة قالت لهم: أخبروني عمّن يغلب فأخبرت أن موسى وهارون غلبا فقالت: آمنت بربّ موسى وهرون. فأمر فرعون بأعظم صخرة فإذا أصرّت على قولها قألقوها عليها فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فرأت منزلها في الجنة بعد أن قالت {ربّ ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين} وخرجت روحها فألقيت عليها الصخرة وهي جسد لا روح فيها استجاب الله لها عليها السلام.

أي خير ثواباً وجزاء حسناً لمن آمن به وعمل صالحاً، وأبقى عذاباً لمن كفر به وبآمن بغيره وعصاه. هذا ما دلت عليه الآيتان (72) و (73).
أما الآية الثالثة (74) وهي قوله تعالى: {إنه من يأت ربه مجرماً1} أي على نفسه بإفسادها بالشرك والمعاصي {فإن له2 جهنم لا يموت فيها3} فيستريح من العذاب فيها، {ولا يحيى} حياة يسعد فيها.
وقولهم {ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات} أي مؤمناً به كافراً بالطاغوت قد عمل بشرائعه فأدى الفرائض واجتنب المناهي { فأولئك4 هم} جزاء إيمانهم وعملهم الصالح {الدرجات العلى جنات عدن} أي في جنات عدن {تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} لا يموتون ولا يخرجون منها، {وذلك جزاء من تزكى} أي تتطهر بالإيمان وصالح الأعمال بعد تخليه عن الشرك والخطايا والذنوب. لا شك أن هذا العلم الذي عليه السحرة كان قد حصل لهم من طريق دعوة موسى وهارون إذ أقاموا بينهم زمناً طويلاً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا يؤثر الكفر على الإيمان والباطل على الحق والخرافة على الدين الصحيح إلاّ أحمق جاهل.
2- تقرير مبدأ أن عذاب الدنيا يتحمل ويصبر عليه بالنظر إلى عذاب الآخرة.
3- الإكراه نوعان: ما كان بالضرب الذي لا يطاق يغفر لصاحبه وما كان لمجرد تهديد ومطالبة فإنه لا يغفر إلاّ بالتوبة الصادقة وإكراه السحرة كان من النوع الآخر.
4- بيان جزاء كل من الكفر والمعاصي، والإيمان والعمل الصالح في الدار الآخرة.
__________
1 المجرم: فاعل الجريمة، وهي المعصية، والفعل الخبيث، والمجرم في اصطلاح القرآن: الكافر غالباً.
2 اللام في: له جهنم لام الاستحقاق أي: هو صائر إليها لا محالة.
3 لا يموت فيها ولا يحيى، لأن عذابها متجدد فيها فلا هو ميّت لأنه يحس بالعذاب ولا هو حي لأنه في حالة الموت أهون منها، وهذا كقول عباس بن مرداس:
وقد كنت في الحرب ذا تُدْرَءٍ
فلم أُعط شيئاً ولم أمنع
4 {فأولئك..} الآية أوتي باسم الإشارة إلى أنهم أحياء بهذا النعيم في جنات ويؤكده قوله {ذلك جزاء من تزكى}.

وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
شرح الكلمات:
أن أسر بعبادي: أي سر ليلاً من أرض مصر.
طريقاً في البحر يبساً: طريقاً في وسط البحر يابساً لا ماء فيه.
لا تخاف دركاً : أي لا تخش أن يدركك فرعون، ولا تخشى غرقاً.
فغشيهم من اليم: أي فغطاهم من ماء البحر ما غطاهم حتى غرقوا فيه.
وأضل فرعون قومه: أي بدعائهم إلى الإيمان به والكفر بالله رب العالمين.
وما هدى: أي لم يهدهم كما وعدهم بقوله: {وما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد}.
جانب الطور الأيمن: أي لأجل إعطاء موسى التوراة التي فيها نظام حياتهم دينا ودنيا.
المن والسلوى: المن: شيء أبيض كالثلج، والسلوى طائر يقال له السماني1.
ولا تطغوا فيه: أي بالإسراف فيه، وعدم شكر الله تعالى عليه.
__________
1 السُّمانى: بضم السين، وفتح النون ممدودة، والجمع سمانيات والواحدة سماناة كمناجاة: نوع من الطيور.

ثم اهتدى: أي بالاستقامة على الإيمان والتوحيد والعمل الصالح حتى الموت.
معنى الآيات:
إنه بعد الجدال الطويل والخصومة الشديدة التي دامت زمناً غير قصير وأبى فيها فرعون وقومه قبول الحق والإذعان له أوحى تعالى إلى موسى عليه السلام بما أخبر به في قوله عز وجل: {ولقد أوحينا إلى موسى} وبأي شيء أوحى إليه. بالسرى ببني إسرائيل وهو قوله تعالى {ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي } قوله {فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا} 1 أي اجعل لهم طريقاً في وسط البحر، وذلك حاصل بعد ضربه البحر بالعصي فانفلق البحر فرقتين والطريق وسطه يابساً لا ماء فيه حتى اجتاز بنو إسرائيل البحر، ولما تابعهم فرعون ودخل البحر بجنوده أطبق الله تعالى عليهم البحر فأغرقهم أجمعين، بعد أن نجى موسى وبني إسرائيل، وهو معنى قوله تعالى: {فأتبعهم2 فرعون بجنوده فغشيهم من اليم} أي من ماء البحر {ما غشيهم3} أي الشيء العظيم من مياه البحر. وقوله لموسى {لا تخاف4 دركاً ولا تخشى} أي لا تخاف أن يدركك فرعون من ورائك ولا تخشى غرقا في البحر.
وقوله تعالى: {وأضل فرعون قومه وما هدى5} إخبار منه تعالى أن فرعون أضل أتباعه حيث حرمهم من الإيمان بالحق وإتباع طريقه، ودعاهم إلى الكفر بالحق وتجنب طريقه فاتبعوه على ذلك فضلوا وما اهتدوا، وكان يزعم أنه ما يهديهم إلاّ سبيل الرشاد وكذب.
وقوله تعالى: {يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم} أي فرعون، {وواعدناكم جانب الطور الأيمن} أي مع نبينا موسى لإنزال التوراة لهدايتكم وحكمهم بشرائعها، وأنزلنا عليكم المن والسلوى غذاء لكم في التيه، {كلوا من طيبات ما رزقناكم } أي قلنا لكم: كلوا من طيبات ما رزقناكم من حلال الطعام والشراب، {ولا تطغوا فيه } بترك
__________
1 اليبس: محرّك الياء والباء، وتسكن الباء أيضاً: وصف بمعنى اليابس وأصله مصدركالقدم، والعدم بفتح العين وضمها.
2 قرىء: (فأتبعهم) وبالياء في بجنوده للمصاحبة فهي بمعنى مع أي مع جنوده.
3 ما غشهم في هذا تهويل عظيم لما غشيهم من الماء الذي غمرهم وغطّاهم بحيث يستحيل النجاة معه.
4 {دركاً} أي: لحاقاً بك وبمن معك من بني إسرائيل.
5 {وما هدى}: توكيد لقوله: {فأضل قومه} لأن الهدى ضد الضلال فما دام قد أضلهم فإنه ما هداهم كقوله: {أموات غير أحياء} وكقول الشاعر:
إما ترينا حفاة لا نعال لنا
إنا كذلك ما نحفى وننتعل
وفي الآية: التهكم بفرعون إذ قال لهم: وما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد.

الحلال إلى الحرام وبالأسراف في تناوله وبعدم شكر الله تعالى، وقوله تعالى: {فيحل عليكم غضبي} أي أن أنتم طغيتم فيه. {ومن يحلل عليه غضبي} أي ومن يجب عليه غضبي {فقد هوى} أي في قعر جهنم وهلك.
وقوله تعالى : {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى1} يعدهم تعالى بأن يغفر لمن تاب منهم ومن غيرهم فآمن وعمل صالحاً أي أدى الفرائض واجتنب المناهي ثم استمر على ذلك ملازماً له حتى مات.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- تقرير النبوة المحمدية إذ مثل هذا القصص لا يقصه إلاّ بوحي إليه إذ لا سبيل إلى معرفته إلاّ من طريق الوحي الإلهي.
2- آية انفلاق البحر ووجود طريق يابس فيه لبني إسرائيل حتى اجتازوه دالة على جود الله تعالى وقدرته وعلمه ورحمته وحكمته.
3- تذكير اليهود المعاصرين للدعوة الإسلامية بإنعام الله تعالى على سلفهم لعلهم يشكرون فيتوبون فيسلمون.
4- تحريم الإسراف والظلم، وكفر النعم.
5- الغضب صفة لله تعالى كما يليق ذلك بجلاله وكماله لا كصفات المحدثين.
وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ
__________
1 ثم اهتدى بأن لزم طريق الهداية حتى مات على ذلك أما من تاب وعمل صالحاً ثم ضل بعد ذلك ومات على ضلالة، فلا يناله هذا الوعد ففي قوله : {ثم اهتدى} احتراس ممن يتوب ثم يعود فيموت على غير هداية.

الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا (89)
شرح الكلمات:
وما أعجلك: أي شيء جعلك تترك قومك وتأتي قبلهم.
هم على أثري: أي آتون بعدي وليسوا ببعيدين مني.
وعجلت إليك ربي لترضى: أي استعجلت المجىء إليك طلباً لرضاك عني.
قد فتنا قومك: أي ابتليناهم أي بعبادة العجل.
وأضلهم السامري : أي عن الهدى الذي هو الإسلام إلى الشرك وعبادة غير الرب تعالى.
غضبان أسفاً : أي شديد الغضب والحزن.
وعداً حسناً: أي بأن يعطيكم التوراة فيها نظام حياتكم وشريعة ربكم لتكملوا عليها وتسعدوا.
أفطال عليكم العهد: أي مدة الموعد وهي ثلاثون يوماً قبل أن يكملها الله تعالى أربعين يوما.
فأخلفتم موعدي : بترككم المجيء بعدي.
بملكنا1: أي بأمرنا وطاقنا، ولكن غلب علينا الهوى فلم نقدر على انجاز الوعد بالسير وراءك.
__________
1 ميم ملكنا مثلثة تفتح وتضم وتكسر والمعنى واحد كما في التفسير أي: لم يكن ذلك بإرادتنا واختيارنا.

أوزاراً: أي أحمالاً من حلي نساء الأقباط وثيابهن.
فقذفناها: أي القيناها في الحفرة بأمر هارون عليه السلام.
ألقى السامري : السامري هو موسى بن ظفر من قبيلة سامرة1 الإسرائيلية، وما ألقاه هو التراب الذي أخذه من تحت حافر فرس جبريل ألقاه أي قذفه على الحلي.
عجلاً جسداً : أي ذا جثة.
له خوار: الخوار صوت البقر.
فنسي: أي موسى ربه هنا وذهب يطلبه.
ألا يرجع إليهم قولاً: أنه لا يكلمهم إذا كلموه لعدم نطقه بغير الخوار.
معنى الآيات:
بعد أن نجى الله تعالى بني إسرائيل من فرعون وملائه حيث اجتاز بهم موسى البحر وأغرق الله فرعون وجنوده أخبرهم موسى أن ربه تعالى قد أمره أن يأتيه ببني إسرائيل وهم في طريقهم إلى أرض المعاد إلى جبل الطور ليؤتيهم التوراة فيها شريعتهم ونظام حياتهم دنيا ودينا وأنه واعدهم جانب الطور الأيمن، واستعجل2 موسى في المسير إلى الموعد فاستخلف أخاه هارون على بني إسرائيل ليسير بهم وراء موسى ببطء حتى يلحقوا به عند جبل الطور، وحدث أن بني إسرائيل فتنهم السامري بصنع العجل ودعوتهم إلى عبادته وترك المسير وراء موسى عليه السلام فقوله تعالى: {وما أعجلك عن قومك يا موسى} هو سؤال من الله تعالى لموسى ليخبره بما جرى لقومه بعده وهو لا يدري فلما قال تعالى لموسى: {وما أعجلك} عن المجيء وحدك دون بني إسرائيل مع ان الأمر أنك تأتي معهم أجاب موسى بقوله
__________
1 نفى بعضهم أن تكون هناك قبيلة من بني إسرائيل تدعى السامرة وإنما السامرة أمة من سكان فلسطين في جهة نابلس قبل أن تكون فلسطين لبني إسرائيل، ثم امتزجوا ببني إسرائيل لما دخلوها واتبعوا معهم شريعة موسى، وبما أن السامري كان في مصر جائز أن يكون من قرية بمصر تسمى سامرة، والمراد من هذا أن السامري لم يكن من بني إسرائيل أصلاً ومحتداً ثم بمرور الأيام وجدت طائفة من بني إسرائيل تدعى السامرية، وهي عبارة عن طريقة ضالة تنتمي إلى شريعة التوراة وهي منحرفة فنشأت عن فتنة السامري الأولى كالطرق المنحرفة لدى المسلمين.
2 لهذا الاستعجال لامه ربّه وعتب عليه في قوله: {وما أعجلك من قومك يا موسى) حتى تركتهم وجئتنا وحدك، وقد ترتب على هذا الاستعجال شر كبير باتخاذ بني إسرائيل عجلاً عبدوه دون الله تعالى، ولذا قيل: تأن ففي العجلة الندامة وفي التأني السلامة.

{هم أولاء على أثري1} آتون بعدي، وعجلت المجئ إليك لترضى عني. هنا أخبره تعالى بما حدث لقومه فقال عز وجل: {إنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري} أي بصنع العجل لهم ودعوتهم إلى عبادته بحجة انه الرب تعالى وأن موسى لم يهتد إليه. ولما انتهت المناجاة وأعطى الله تعالى موسى الألواح التي فيه التوراة {فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً} أي حزيناً إلى قومه فقال لهم بما أخبر تعالى عنه بقوله: {قال يا قوم2 ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً} فذكرهم بوعد الله تعالى لهم بإنجائهم من آل فرعون وإكرامهم بالملك والسيادة موبخاً لهم على خطيئتهم بتخلفهم عن السير وراءه وانشغالهم بعبادة العجل والخلافات الشديدة بينهم، وقوله {أفطال عليكم3 العهد} أي لم يطل فالمدة هي ثلاثون يوماً فلم تكتمل حتى فتنتم وعبدتم غير الله تعالى، قوله {أم أردتم أن4 يحل عليكم غضب من ربكم} أي بل أردتم بصنيعكم الفاسد أن يجب عليكم غضب من ربكم فحل بكم، {فأخلفتم موعدي5} بعكوفكم على عبادة العجل وترككم السير على أثرى لحضور موعد الرب تعالى الذي واعدكم.
وقوله تعالى {قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا} هذا ما قاله قوم موسى كالمعتذرين به إليه فزعموا أنهم ما قدروا على عدم اخلاف الموعد لغلبة الهوى عليهم فلم يطيقوا السير وراءه مع وجود العجل وما ضللهم به السامري من أنه هو إلههم وأن موسى أخطأ الطريق إليه. هذا معنى قولهم: {ما أخلفنا موعدك بملكنا} أي بأمرنا وقدرتنا إذ كنا مغلوبين على أمرنا. وقولهم: {ولكنا حملنا6 أوزاراً من زينة القوم فقذفناها} هذا بيان لوجه الفتنة وسببها وهي أنهم لما كانوا خارجين من مصر استعار نساؤهم حلياً من نساء القبط بدعوى عيد لهم،
__________
1 أثري، وإثري: لغتان، والأثر: ما يتركه الماشي على الأرض من علامات قدم أو حافر أو خف، والمعنى: هم سائرون على مواضع أقدامي وقرىء (إثري) بكسر الهمزة والجمهور قرؤا بالفتح.
2 هذا ابتداء كلام يحمل اللوم والعتاب والتأديب حيث جمع موسى بني إسرائيل وفيهم هارون وخاطبهم قائلاً: يا قوم.. الخ.
3 الاستفهام تابع للاستفهام الأول: ألم يعدكم، وهو للتقرير والإنكار معاً.
4 {أم} بمعنى: بل والاستفهام بعدها إنكاري أي: أنكر عليهم إرادتهم حلول غضب الله عليهم بسبب شركهم بعبادة العجل.
5 المراد من موعده إياهم: هو ما عهد به إليهم بأن يلزموا طاعة هارون ويسيروا معه بدون تأخر حتى يلحقوا به في جبل الطور فأخلفوا ذلك فعصوا هارون وعكفوا على عبادة العجل وتركوا السير على إثره كما طلب منهم.
6 الأوزار: جمع وزر، وهو الحمل الثقيل والمراد بها: الحلي الذي استعاره نساؤهم من جاراتهن القبطيات بمصر بقصد الفرار به للنفع الخاص، وخافوا تلاشي الحلي فرأوا أن يصوغوه في قطع كبيرة يحفظ بها من الضياع.

وأصبحوا خارجين مع موسى في طريقهم إلى القدس، وتم إنجاؤهم وإغراق فرعون ولما نزلوا بالساحل استعجل موسى موعد ربه وتركهم تحت إمرة هارون أخيه على أن يواصلوا سيرهم وراء موسى إلى جبل الطور غير أن موسى الملقب بالسامري استغل الفرصة وقال لنساء بني إسرائيل هذا الحلى الذي عندكن لا يحل لَكُنَّ أخذه إذ هي ودائع كيف تستحلونها وحفر لهم حفرة وقال ألقوها فيها وأوقد فيها النار لتحترق ولا ينتفع بها بعد، هذا ما دل عليه قولهم {ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم} أي قوم فرعون فقذفناها أي في الحفرة التي أمر بها السامري وقوله تعالى، {فكذلك ألقى السامري1} هو من جملة قول بني إسرائيل لموسى فكما ألقينا الحلي في الحفرة ألقى السامري ما معه من التراب الذي أخذه من تحت حافر فرس جبريل، فصنع السامري العجل فأخرجه لهم عجلاً جسداً2 له خوار أي صوت فقال بعضهم لبعض هذا إلهكم وإله موسى الذي ذهب إلى موعده فنسي3 وضل الطريق إليه فاعبدوه حتى يأتي موسى. قال تعالى موبخاً إياهم {أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً} إذا كلموه، {ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً} فكيف يعقلون أنه إله وهو لا يجيبهم إذا سألوه، ولا يُعطيهم إذا طلبوه، ولا ينصرهم إذا استنصروه ولكنه الجهل والضلال وإتباع الهوى. والعياذ بالته تعالى.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- ذم العجلة وبيان آثارها الضَّارة فاستعجال موسى الموعد وتركه قومه وراءه كان سبباً في أمر عظيم وهو عبادة العجل وما تترب عليها من آثار جسام.
2- مشروعية طلب رضا الله تعالى ولكن بما يحب أن يتقرب به إليه.
3- مشروعية الغضب لله تعالى والحزن على ترك عبادته بمخالفة أمره ونهيه.
4- مشروعية استعارة الحلي للنساء والزينة، وحرمة جحدها وأخذها بالباطل.
5- وجوب استعمال العقل واستخدام الفكر للتمييز بين الحق والباطل، والخير والشر.
__________
1 أي: فمثل قذفنا الزينة في النار لصوغها قذف السامري، وقالوا هذا اعتذاراً منهم لموسى عليه السلام.
2 الجسد: الجسم ذو الأعضاء وسواء كان حياً أو ميتا، والتعبير بأخرج الإشارة إلى أن السامري صنع العجل بحيلة مستورة خفية حتى أتمّه ثمّ أظهره أي: أخرجه ظاهراً لنا.
3 إطلاق النسيان على الضلال والغفلة والترك شائع وسائغ في اللغة.

وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
شرح الكلمات:
فتنتم به: أي ابتليتم به أي بالعجل.
لن نبرح عليه عاكفين: أي لن نزال عاكفين على عبادته.
إذ رأيتهم ضلوا: أي بعبادة العجل واتخاذه إلهاً من دون الله تعالى.
لا تأخذ بلحيتي: حيث أخذ موسى من شدة غضبه بلحية أخيه وشعر رأسه يجره إليه يعذله ويلوم عليه.
ولم ترقب قولي: أي ولم تنتظر قولي فيما رأيته في ذلك.
معنى الآيات:
مازال السياق في الحوار الذي دار بين موسى وقومه بعد رجوعه إليهم من المناجاة فقوله تعالى: {ولقد قال لهم هارون من قبل} أي من قبل رجوع موسى قال لهم أثناء عبادتهم العجل يا قوم إن العجل ليس إلهكم ولا إله موسى وإنما هو فتنة فتنتم به ليرى الله تعالى صبركم على عبادته ولزوم طاعة رسوله، وليرى خلاف ذلك فيجزى كلاً بما يستحق وقال لهم: {وإن ربكم الرحمن} الذي شاهدتم آثار رحمته في حياتكم كلها فاذكروها

{فاتبعوني} في عبادة الله وحده وترك عبادة غيره {وأطيعوا أمري1} فإني خليفة موسى الرسول فيكم فأجاب القوم الضالون بما أخبر تعالى عنهم بقوله: {قالوا لن نبرح عليه عاكفين} أي لن نزول عن عبادته والعكوف حوله {حتى يرجع إلينا موسى2} ولما سمع موسى من قومه ما سمع التفت إلى هارون قائلاً معاتباً عاذلاً لائماً {يا هرون ما منعك3 إذ رأيتهم ضلوا} أي بعبادة العجل {ألا تتبعني } أي بمن معك من المسلمين وتترك المشركين، {أفعصيت4 أمري} ، ومن شدة الوجد وقوة اللوم والعذل أخذ بشعر رأس أخيه بيمينه وأخذ بلحيته بيساره وجره إليه وهو يعاتبه ويلوم عليه فقال هارون: {يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي} إن لي عذراً في عدم متابعتك وهو إني خشيت إن أنا أتيتك ببعض قومك وهم المسلمون وتركت بعضاً آخر وهم عباد العجل {أن تقول فرقت بين بني إسرائيل} وذلك لا يرضيك. {ولم ترقب قولي} أي ولم تنظر قولي فيما رأيت قي ذلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- معصية الرسول تؤدي إلى فتنة العاص في دينه ودنياه.
2- جواز العذل والعتاب للحبيب عند تقصيره فيما عهد به إليه.
3- جواز الاعتذار لمن اتهم بالتقصير وان حقا.
4- قد يخطىء المجتهد في اجتهاده وقد يصيب.
__________
1 أي: لا أمر السامر أو: فاتبعوني في مسيري إلى موسى ودعوا العجل فعصوه.
2 روي أنّه لما قالوا هذه المقالة اعتزلهم هارون في اثنى عشر ألفاً من الذين لم يعبدوا العجل فلما رجع موسى وسمع الصياح والجلبة وكانوا يرقصون حول العجل قال: هذا صوت الفتنة فلما رأى هارون أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله وقال: يا هارون... الآية.
3 الاستفهام إنكاري إذ أنكر عليه عدم متابعته لما شاهد القوم يعبدون العجل إذ كان المفروض أن يتركهم ويلحق بموسى يخبره.
4 أمره هو قوله له عند مغادرة بني إسرائيل إلى جبل الطور، {اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} فلما أقام معهم ولم يبالغ في منعهم والإنكار عليهم نسبه إلى عصيانه ومخالفة أمره وهذا دليل على واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتغييره ومفارقة أهله، وأن المقيم بينهم لاسيما إذا كان راضياً حكمه كحكمهم، وفي هذه الآية دليل على بدعة الصوفية بدعة الرقص والتواجد، وأنها موروثة عن هؤلاء السامريين عَبَدة العجل والعياذ بالله تعالى.

قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98 )
شرح الكلمات:
فما خطبك : أي ما شأنك وما هذا الأمر العظيم الذي صدر منك.
بصرت بما لم يبصروا به : أي علمت من طريق الإبصار والنظر ما لم يعلموا به لأنهم لم يروه.
قبضة من أثر الرسول : أي قبضت قبضة من تراب أثر حافر فرس الرسول جبريل عليه السلام.
فنبذتها: أي ألقيتها وطرحتها على الحلى المصنوع عجلاً.
سولت لي نفسي: أي زينت لي هذا العمل الذي هو صنع العجل.
أن تقول لا مساس: أي اذهب تائها في الأرض طول حياتك وأنت تقول لا مساس أي لا يمسني أحد ولا أمسه لما يحصل من الضرر العظيم لمن تمسه أو يمسك.
إلهك: أي العجل.
ظلت: أي ظللت طوال الوقت عاكفاً عليه.
في اليم نسفاً: أي في البحر ننسفه بعد إحراقه وجعله كالنشارة نسفاً.
إنما إلهكم الله: أي لا معبود لكم إلاّ الله الذي لا إله إلاّ هو.

معنى الآيات:
مازال السياق في الحوار بين موسى وقومه فبعد لومه أخاه وعذله له التفت إلى السامري المنافق إذ هو من عُبَّاد البقر وأظهر الإسلام في بني إسرائيل، ولما اتيحت له الفرصة عاد إلى عبادة البقر فصنع العجل وعبده ودعا إلى عبادته فقال له: في غضب {فما خطبك يا سامري} أي ما شأنك وما الذي دعاك إلى فعلك القبيح الشنيع هذا فقال السامري كالمعتذر {بصرت بما لم يبصروا به } أي علمت ما لم يعلمه قومك {فقبضت قبضة من أثر} حافر فرس {الرسول1 فنبذتها} في الحلي المصنوع عجلاً فخار كما تخور البقر. {وكذلك سولت لي نفسي} ذلك أي زينته لي وحسنته ففعلته، وهنا أجابه موسى عليه السلام بما أخبر تعالى به في قوله: {قال فاذهب2 فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس3} أي لك مدة حياتك أن تقول لمن أراد أن يقربك لا مساس أي لا تمسني ولا أمسك لتتيه طول عمرك في البرية مع السباع والحيوان عقوبة لك على جر يمتك، ولا شك أن فراره من الناس وفرار الناس منه لا يكون مجرد أنه لا يرقب في ذلك، بل لعله قيل إنها الحمى فإذا مس أحد حُمَّا معاً أي أصابتهما الحمى معاً كأنه اسلاك كهربائية مكشوفة من مسها تكهرب منها. وقوله له : {وإن لك موعداً لن تخلفه} ، أي ذاك النفي والطرد عذاب الدنيا، وإن لك عذاباً آخر يوم القيامة في موعد لن تخلفه أبداً فهو آت وواقع لا محالة.
وقوله: أي موسى للسامري: {وانظر إلى إلهك} المزعوم {الذي ظلت4 عليه عاكفاً} تعبده لا تفارقه، والله {لنحرقنه ثمّ لننسفنه5 في اليم نسفاً} وفعلاً حرقه ثم جعله كالنشارة
__________
1 الرسول هنا: جبريل عليه السلام قاله جمهور المفسرين، وقالوا: إن السامري فتنه الله تعالى فأراه جبريل راكباً فرساً فوطىء حافر الفرس مكاناً فإذا هو مخضرّ بالنبات، فعلم السامري أن أثر فرس جبريل إذا ألقي على جماد صار حياً، فقبض من تراب وطئه حافر الفرس واحتفظ به إلى اليوم، ولما صنع العجل ألقاه عليه فصار له خوار كالعجل الحيوان.
2 نفاه موسى عن قومه، وأمر بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له. قال الشاعر:
تميم كرهط السامري وقوله
ألا لا تريد السامري مِساسا
هذه المسألة أصل في نفي أهل البدع والمعاصي وهجرانهم وألاّ يخالطوا وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالذين تخلفوا عن غزوة تبوك.
3 (لا مساس): المساس مصدر ماسه يماسه ومساسا. ولا: نافية للجنس ومساس: اسمها مبني على الفتح.
4 ظلت: أي: دمت وأقمت عليه عاكفاً أي: ملازماً وأصل ظلت: ظللت قال الشاعر:
خلا أنّ العتاق من المطايا
أحَسْن به فهن إليه شوس
فأحسن أصله: أحسسن حذفت إحدى السينين كما حذفت إحدى اللامين.
5 النسف: نقض الشيء ليذهب به الريح، وهو: التذرية، والمنسف آلة ينسف بها الشيء، والنسافة: ما يسقط منه.

وذره في البحر تذرية حتى لا يعثر له على أثر، ثم قال لأولئك الذين عبدوا العجل المغرر بهم المضللين: {إنما إلهكم} الحق الذي تجب له العبادة والطاعة {الله الذي لا إله إلاّ هو1 وسع كل شيء علماً} أي وسع علمه كل شيء فهو عليم بكل شيء وقديرعلى كل شيء وما عداه فليس له ذلك وما لم يكن ذا قدرة على شيء وعلم بكل شيء فكيف يُعبد ويُطاع..؟!
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية الاستنطاق للمتهم والاستجواب له.
2- ما سولت النفس لأحد ولا زينت له شيئا إلاّ تورط فيه إن هو عمل بما سولته له.
3- قد يجمع الله تعالى للعبد ذي الذنب العظيم بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
4- مشروعية هجران المبتدع ونفيه وطرده فلا يسمح لأحد بالاتصال به والقرب منه.
5- كسر الأصنام والأوثان والصور وآلات اللهو والباطل الصارفة عن عباد الله تعالى.
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا (101) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا (104)
شرح الكلمات:
كذلك : أي كما قصصنا عليك هذه القصة قصة موسى وفرعون و موسى وبني إسرائيل نقص عليك من أبناء الرسل.
من لدنا ذكراً : أي قرآناً وهو القرآن الكريم.
__________
1 لا العجل الذهبي الذي سولت نفس السامري الخبيثة صنعه.

من أعرض عنه: أي لم يؤمن به ولم يقرأه ولم يعمل به.
وزراً: أي حملاً ثقيلاً من الآثام.
يوم ينفخ في الصور: أي النفخة الثانية وهي نفخة البعث، والصور هو القرن.
زرقاً: أي عيونهم زرق ووجوههم سود آية أنهم أصحاب الجحيم.
يتخافتون بينهم: أي يخفضون أصواتهم يتسارون بينهم من شدة الهول.
أمثلهم طريقة : أي أعدلهم رأياً في ذلك، وهذا كله لعظم الموقف وشدة الهول والفزع.
معنى الآيات:
بعد نهاية الحديث بين موسى وفرعون، وبين موسى وبني إسرائيل قال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم {كذلك نقص1 عليك} أي قصصنا عليك ما قصصنا من نبأ موسى وفرعون وخبر موسى وبني إسرائيل نقص عليك {من أنباء ما قد سبق} أي أحداث الأمم السابقة ليكون ذلك آية نبوتك ووحينا إليك، وعبرة وذكرى للمؤمنين. وقوله تعالى: {وقد آتيناك من لدنا ذكراً2} أي وتد أعطيناك تفضلا منا ذكرا وهو القرآن العظيم يذكر به العبد ربه ويهتدي به إلى سبيل النجاة والسعادة، وقوله {من أعرض عنه} أي عن القرآن فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه {فإنه يحمل يوم القيامة وزراً} أي إثماً عظيماً لأنه لم يعمل صالحاً وكل عمله كان سيئاً لكفره وعدم إيمانه، {خالدين فيه} أي في ذلك الوزر في النار، وقوله {وساء لهم يوم القيامة حملاً} أي قبح ذلك الحمل حملاً يوم القيامة إذ صاحبه لا ينجو من العذاب بل يطرح معه في جهنم يخلد فيها وقوله {يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين} أي المكذبين بالدين الحق العاملين بالشرك والمعاصي {يومئذ} أي يوم ينفخ في الصور النفخة الثانية {زرقا}3 أي الأعين مع اسوداد الوجوه وقوله: {يتخافتون بينهم} أي يتهامسون بينهم يسأل بعضهم بعضاً كم لبثتم في الدنيا وفي القبور فيقول البعض: { إن لبثتم4 إلاّ عشراً} أي ما لبثتم إلاّ
__________
1 الكاف من كذلك في محل نصب لأنها بمعنى مثل: نعت لمصدر محذوف تقديره: نقص عليك قصصا من أنباء ما قد سبق مثل ما قصصنا عليك هذا القصص.
2 ويطلق الذكر على الشرف أيضاً، وعلى ما يذكر به الله تعالى من قول والمراد به هنا القرآن الكريم.
3 الزّرَق: خلاف الكَحَل، والعرب تتشاءم بزرق العيون وتذمه وسبب هذه الزرقة هو شدة العطش.
4 أي: في الدنيا أو في القبور.

عشر ليال، وقوله تعالى: {نحن أعلم1 بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة} أي أعد لهم رأياً {إن لبثتم إلاّ يوماً} ، وهذا التقال للزمن الطويل سببه هول القيامة وعظم ما يشاهدون فيها من ألوان الفزع والعذاب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم يقص تعالى عليه أنباء ما قد سبق بعد قصه عليه أنباء موسى وفرعون بالحق، وإيتائه القرآن الكريم.
2- كون القرآن ذكراً للذاكرين لما يحمل من الحجج والدلائل والبراهين.
3- سوء حال المجرمين يوم القيامة، الذين أعرضوا عن القرآن الكريم.
4- عظم أهوال يوم القيامة حتى يتقال معها المرء مدة الحياة الدنيا التي هي آلاف الأعوام.
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا (112)
__________
1 {نحن أعلم بما يقولون}: جملة معترضة قول الأولين : { إن لبثتم إلا عشرا} نظروا فيه إلى أن تغير الأجسام يتم في عشرة أيام، والذي قال يوماً نظر إلى أن الأجسام ما تغيّرت إذ قد أعيدت كما كانت.

شرح الكلمات:
يسألونك عن الجبال : أي المشركون عن الجبال كيف تكون يوم القيامة.
فقل ينسفها ربي نسفاً: أي يفتتها ثم تذروها الرياح فتكون هباء منبثاً.
قاعا صفصفا: أي مستوياً.
عوجا ولا أمتا: أي لا ترى فيها انخفاضاً ولا ارتفاعاً.
الداعي .: أي إلى المحشر يدعوهم إليه للعرض على الرب تعالى.
وخشعت الأصوات: أي سكنت فلا يسمع إلاّ الهمس وهو صوت الأقدام الخفي.
ورضي له قولا: بأن قال لا إله إلاّ الله من قلبه صادقاً.
ولا يحيطون به علما : الله تعالى ما بين أيدي الناس وما خلفهم، وهم لا يحيطون به علما.
وعنت الوجوه للحي القيوم: أي ذلت وخضعت للرب الحي الذي لا يموت.
من حمل ظلما: أي جاء يوم القيامة يحمل أوزار الظلم وهو الشرك.
ظلما ولا هضما : أي لا يخاف ظلما بأن يزاد في سيئاته ولا هضما بأن ينقص من حسناته.
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله: {ويسألونك} أي المشركين من قومك المكذبين بالبعث والجزاء {عن الجبال} عن مصيرها يوم القيامة فقل1 له: {ينسفها ربي نسفاً2 فيذرها3 قاعا صفصفاً لا ترى فيها عوجا ولا أمتاً} 4 أي أجبهم بأن الله تعالى يفتتها ثم ينسفها فتكون هباء منبثاً، فيترك أماكنها قاعاً صفصفاً أي أرضاً مستوية لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً أي لا انخفاضاً ولا ارتفاعاً. وقوله
__________
1 قال القرطبي كل سؤال في القرآن أجيب بقل إلاّ هذا فبـ: فقل لأن المعنى إن سألوك فقل فتضمن الكلام معنى الشرط، وهو يقترن بالفاء دائماً.
2 قال ابن الأعرابي وغيره يقلعها قلعاً من أصولها ثم يصيرها رملاً يسيل سيلاً ثم يصيرها كالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا أو هكذا ثم كالهباء المنثور.
3 (فيذرها): أي: يذر مواضعها قاعاً صفصفاً، القاع: الأرض الملساء لا نبات فيها، ولا بناء عليها وهي مستو، وجمع القاع: أقواع وقيعان.
4 الأمت: المكان المرتفع كالنبك، وهو التل الصغير، والعوج: الوهدة وهي الانخفاض كالعوج في الشيء أي: ليس في الأرض انخفاض ولا ارتفاع بل هي مستوية.

{يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلاّ همساً} أي يوم تقوم القيامة فيُنشرون يدعوهم الداعي هلموا إلى أرض المحشر فلا يميلون عن صوته يمنةً ولا يُسرة وهو معنى لا عوج له. وقوله تعالى: {وخشعت الأصوات للرحمن } أي ذلت وسكنت {فلا تسمع إلاّ همساً} وهو صوت خفي كأصوات خفاف الإبل إذا مشت وقوله تعالى: {يومئذ لا تنفع الشفاعة عنده، إلاّ من أذن له الرحمن ورضى له قولاً} أي يُخبر تعالى أنهم يوم جمعهم للمحشر لفصل القضاء لا تنفع شفاعة أحد أحداً إلاّ من أذن له الرحمن في الشفاعة، ورضى له قولاً أي وكان المشفوع فيه من أهل التوحيد أهل لا إله إلاّ الله وقوله {يعلم مابين أيديهم وما خلفهم، ولا يحيطون به علماً} أي يعلم ما بين أيدي أهل المحشر أي ما يسيحكم به عليهم من جنة أو نار، وما خلفهم مما تركوه من أعمال في الدنيا، وهم لا يحيطون به عز وجل علماً، فلذا سيكون الجزاء عادلاً رحيماً، وقوله: {وعنت1 الوجوه للحي القيوم2} أي ذلت وخضعت كما يعنو بوجهه الأسير، والحي القيوم هو الله جل جلاله وقوله تعالى: {وقد خاب} أي خسر {من حمل ظلماً} ألا وهو الشرك والعياذ بالله وقوله تعالى: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن} والحال أنه مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والبعث الآخر3 فهذا لا يخاف ظلماً بالزيادة في سيِّئاته، ولا هضما بنقص من حسناته، وهي عدالة الله تعالى تتجلى في موقف الحساب والجزاء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان جهل المشركين في سؤالهم عن الجبال.
2- تقرير مبدأ البعث الآخر.
3- لا شفاعة لغير أهل التوحيد فلا يشفع مشرك، ولا يُشفع لمشرك.
4- بيان خيبة المشركين وفوز الموحدين يوم القيامة.
__________
1 ومنه قيل للأسير عانٍ، قال أمية بن الصلت:
مليك على عرش السماء مهيمن
لعزّته تعنو الوجوه وتسجد
2 القيوم: أي: القائم بتدبير الخلق، والقائم على كل نفس بما كسبت.
3 والقدر خيره وشرّه.

وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
شرح الكلمات:
وكذلك أنزلنا : أي مثل ذلك الإنزال أنزلنا قرآناً عربياً أي بلغة العرب ليفهموه.
وصرفنا فيه من الوعيد: أي من أنولع الوعيد، وفنون العذاب الدنيوي والأخروي.
أو يحدث لهم ذكرا: أي بهلاك الأمم السابقة فيتعظون فيتوبون ويسلمون.
فتعالى الله الملك الحق. أي عما يقول المفترون ويشرك المشركون.
ولا تعجل بالقرآن: أي بقرءاته.
من قبل أن يقضى إليك وحيه : أي من قبل أن يفرغ جبريل من قراءته عليك.
عهدنا إلى آدم: أي وصيناه أن لا يأكل من الشجرة.
فنسي : أي عهدنا وتركه.
ولم نجد له عزما : أي حزما وصبراً عما نهيناه عنه.
معنى الآيات:
يقول تعالى {وكذلك1 أنزلناه قرآناً عربياً} أي ومثل ما أنزلنا من تلك الآيات المشتملة
__________
1 هذه الجملة معطوفة على جملة: كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق إذ الغرض واحد وهو التنويه بشأن القرآن وتقرير الوحي له صلى الله عليه وسلم.

على الوعد والوعيد أنزلنا القرآن بلغة العرب ليفهموه ويهتدوا به {وصرفنا فيه1 من الوعيد} أي بينا فيه من أنواع الوعيد وكررنا فنون العذاب الدنيوي والأخروى لعل قومك أيها الرسول يتقون ما كان سببا في إهلاك الأمم السابقة وهو الشرك والتكذيب والمعاصي {أو يحدث لهم2 ذكراً} أي يوجد لهم ذكراً في أنفسهم فيتعظون فيتوبون من الشرك والتكذيب للرسول ويطيعون ربهم فيكملون ويسعدون هذا ما دلت عليه الآية الأولى (113).
وأما الآية الثانية وهي قوله تعالى {فتعالى الله الملك الحق} فإن الله تعالى يخبر عن علوه عن سائر خلقه وملكه لهم وتصرفه فيهم وقهره لهم، وَمِن ثَمَّ فهو منزَّه عن الشريك والولد وعن كل نقص يصفه به المفترون الكذابون.
وقوله: {ولا تعجل3 بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } يُعلِّم تعالى رسوله كيفية تلقي القرآن عن جبريل عليه السلام فيرشده إلى أنه لا ينبغي أن يستعجل في قراءة الآيات ولا في إملائها على أصحابها ولا في الحكم بها حتى يفرغ جبريل من قراءتها كاملة عليه وبيان مراد الله تعالى منها في إنزالها عليه. وطلب إليه أن يسأله المزيد من العلم بقوله: {وقل رب زدني علما}، وفيه إشعار بأنّه دائماً في حاجة إلى المزيد، ولذا فلا يستعجل ولكن يتريث ويتمهل، وهذا علماء أمته أحوج إليه منه صلى الله عليه وسلم فالاستعجال في الفُتيا وفي إصدار الحكم كثيراً ما يخطىء صاحبهما.
وقوله تعالى: {ولقد4 عهدنا إلى آدم من قبل فنسي5 ولم نجد له عزما6} يقول تعالى مخبراً رسوله والمؤمنين ولقد وصينا آدم من قبل هذه الأمم التي أمرناها ونهيناها فلم يطع أكثرها وصيناه بأن لا يطيع عدوه إبليس وأن لا يأكل من الشجرة فترك وصيتنا ناسياً لها غير مبال بها
__________
1 التصريف: التنويع والتفنين، والوعيد هنا للتهديد.
2 لعله يحدث لهم ذكراً: فيه بيان أنهم قبل نزول القرآن وسماعه لم يكونوا يذكرون الله في توحيده ولا في وعده ووعيده ولا في شرعه وأحكامه.
3 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الني صلى الله عليه وسلم يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ من الوحي حرصاً منه صلى الله عليه وسلم على الحفظ وشفقة على القرآن مخافة النسيان فنهاه تعالى عن ذلك فأنزل: {ولا تعجل بالقرآن} وقال الحسن نزلت هذه الآية في رجل لطَم وجه امرأته فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطلب القصاص فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لها القصاص فنزل: {الرجال قوّامون على النساء} وأبى الله ذلك. ولهذا قال له : {وقل رب زدني علما} وفي هذه الجملة الأخيرة إشارة إلى أن حرصه في حفظ القرآن محمود.
4 قال ابن زيد: نسي ما عهد الله إليه في ذلك، ولو كان له عزم ما أطاع عدوه إبليس.
5 العهد المنسي هو ما جاء في قوله تعالى: {فقلنا يا آدم إنّ هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنّكما من الجنة} من هذه ا السورة.
6 فسر العزم بالصبر والثبات أمام الإغراء.

وأطاع عدوه وأكل من الشجرة، ولم نجد له عزماً بل ضعف أمام الإغراء والتزيين فلم يحفظ العهد ولم يصبر على الطاعة، فكيف إذاً بغير آدم من سائر ذرياته فلذا ينبغي أن لا تأسى ولا تحزن على عدم إيمان قوعك بك واستجابتهم لدعوتك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان الحكمة من إنزال القرآن باللسان العربي وتصريف الوعيد فيه.
2- إثبات علو الله تعالى وقهره لعباده وملكه لهم وتنزهه عن الولد والشريك وكل نقص يصفه به المبطلون.
3- استحباب التريث والتأني في قراءة القرآن وتفسيره وإصدار الحكم والفتيا منه.
4- الترغيب في طلب العلم والمزيد من التحصيل العلمي وإشعار النفس بالجهل والحاجة إلى العلم.
5- التسلية بنسيان آدم وضعف قلبه أمام الإغراء الشيطاني.
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى (120) فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)

شرح الكلمات:
وإذ قلنا للملائكة : أي اذكر قولنا للعظة والاعتبار.
إلاّ إبليس أبى: أي امتنع من السجود لكبر في نفسه إذ هو ليس من الملائكة وإنما هو أبو الجان كان مع الملائكة يعبد الله معهم.
عدو لك ولزوجك : أي حواء ومعنى عدو أنه لا يحب لكما الخير بل يريد لكما الشر.
فتشقى: أي بالعمل في الأرض إذ تزرع وتحصد وتطحن وتخبز حتى تتغذى.
لا تظمأ فيها ولا تضحى: أي لا تعطش و لا يصيبك حر شمس الضحى المؤلم في الأرض.
شجرة الخلد : أي التي يخلد من أكل منها.
وملك لا يبلى : أي لا يفنى ولا يبيد ولازم ذلك الخلود.
فبدت لهما سوءاتهما: أي ظهر لكل منهما قُبُلَ صاحبه ودُبُرَهُ فاستاءا لذلك.
وطفقا يخصفان: أي أخذا وجعلا يلزقان ورق الشجر عليهما ستراً لسوءاتهما.
فغوى: أي بالأكل من الشجرة المنهي عنها.
فاجتباه ربه فتاب عليه : أي اختاره لولايته فهداه للتوبة فتاب ليكون عبداً صالحاً.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى ضعف آدم عليه السلام حيث عهد الله إليه بعدم طاعة إبليس حتى لا يخرجه هو وزوجه من الجنة، وأن آدم نسي العهد فأكل من الشجرة ناسب ذكر قصة آدم بتمامها ليكون هو عظة للمتقين وهدى للمؤمنين فقال تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم واذكر {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} وسجودهم عبادة لله تعالى وتحية لآدم لشرفه وعلمه. فامتثلت الملائكة أمر الله {فسجدوا} كلهم أجمعون {إلاّ إبليس أبى} أن يسجد لما داخله من الكبر ولأنه لم يكن من الملائكة بل كان من الجن إلاّ أنه كان يتعبد الله تعالى مع الملائكة في السماء. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (116).
وقوله تعالى {فقلنا يا آدم} أي بعد أن تكبرّ إبليس عن السجود لآدم نصحنا آدم وقلنا له {إن هذا} أي إبليس {عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} أي فلا تطيعانه

فإن1 طاعته تكون سبب إخراجكما من الجنة ومتى خرجتما منها شقيتما، ووجه الخطاب إلى آدم في قوله تعالى: فتشقى لأن المراد من الشقاء هنا العمل كالزرع والحصاد وغيرهما مما هو ضروري للعيش خارج الجنة والزوج هو المسئول عن إعاشة2 زوجته فهو الذي يشقى دونها، وقوله تعالى لآدم {إن لك ألا تجوع فيها} أي في الجنة {ولا تعرى}، {وإنك لا تضمأ فيها} أي لا تعطش {ولا تضحى3} أي لا تتعرض لحر شمس ضحى كما هي في الأرض والخطاب وإن كان لآدم فحواء تابعة له بحكم رئاسة الزوج على زوجته، ومن الأدب خطاب الرجل دون امرأته إذ هي تابعة له وقوله تعالى: {فوسوس إليه الشيطان} أي ناداه من طريق الوسوسة. {يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد4 وملك لا يبلى} فقبل منه ذلك آدم واستجاب لوسوسته فأكلت حواء أولاً ثم أكل آدم وهو قوله تعالى {فأكلا منها} فترتب على ذلك انكشاف سوءاتهما لهما بذهاب النور الساتر لهما بسبب المعصية لله تعالى وقوله تعالى {فطفقا يخصفان عليهما} من ورق الشجر أي فأخذا يشدان ورق الشجر على عوراتهما ستراً لهما لأن منظر العورة يسوء الآدمي ولذلك سميت العورة سوءة وهكذا عصى آدم ربه باستجابته لوسواس عدوه وأكله من الشجرة، فبذلك5 غوى، إلا أن ربه تعالى اجتباه أي نبياً وقربه ولياً {فتاب6 عليه وهدى} وهداه للعمل بطاعته ليكون من جملة أصفيائه وصالح عباده. والحمد لله ذي الإنعام والإفضال.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية بذكر مثل هذا القصص الذي لا يعلم إلاّ بالوحي الإلهي.
__________
1 هذا مبدأ: أنّ نفقة الزوجة على زوجها. وأن النفقة الواجبة محصورة في الطعام والشراب والكسوة والسكن.
2 قال الحسن: المراد بالشقاء: شقاء الدنيا لا يرى ابن آدم فيها إلاّ ناصبا.
3 يقال: ضحيت للشمس ضحاءً: برزت، وضحَيت بفتح الحاء مثله والمضارع أضحى، والأمر إضح، ومنه قول عمر في عرفة لرجل لازم الخيمة إضحَ لمن جئت له.
4 روى أبو داود واحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها وهي شجرة الخلد".
5 كان هذا قبل النبوة، ومن أذنب مرّة واحدة لا يقال له مذنب ولا غاو ولاسيما بعد التوبة.
6 ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حاجّ موسى آدم فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم يا موسى أنت الذي اصطفاك برسالاته وبكلامه أتلومني على أمر كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحجّ آدم موسى".

2- تقرير عداوة إبليس لبني آدم.
3- بيان أن الجنة لا نصب فيها ولا تعب، وإنما ذلك في الأرض.
4- التحذير من أخطار الاستجابة لوسوسة إبليس فإنها تُرْدى صاحبها.
5- ضعف المرأة وقلة عزمها فقد أكلت قبل آدم فسهلت عليه المعصية.
6- كون المرأة تابعة للرجل وليس لها أن تستقل بحال من الأحوال.
7- حرمة كشف العورات ووجوب سترها.
8- إثبات نبوة آدم وتوبة الله عليه وقبولها منه وهدايته إلى العمل بمحابه وترك مكارهه.
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
شرح الكلمات:
قال اهبطا منها جميعاً : أي آدم وحواء من الجنة وإبليس سبق أن أبلس وهبط.
بعضكم لبعض عدو : أي آدم وحواء وذريتهما عدو لإبليس وذريته، وإبليس وذريته عدو لآدم وحواء وذريتهما.
فإما يأتينكم مني هدى : أي فإن يأتيكم مني هدى وهو كتاب ورسول.
فمن اتبع هداي : أي الذي أرسلت به رسولي وهو القرآن.

فلا يضل : أي في الدنيا.
ولا يشقى : في الآخرة.
ومن أعرض عن ذكري : أي عن القرآن فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه.
معيشة ضنكاً: أي ضيّقة تضيق بها نفسه ور يسعد بها ولو كانت واسعة.
أعمى : أي أعمى البصر لا يبصر.
وقد كنت بصيراً : أي ذا بصر في الدنيا وعند البعث.
قال كذلك : أي الأمر كذلك أتتك آياتنا فنسيتها فكما نسيتها تنسى في جهنم.
وكذلك نجزي من أسرف : أي وكذلك الجزاء الذي جازينا به من نسي آياتنا نجزي من أسرف في المعاصي ولم يقف عند حد، و لم يؤمن بآيات ربه سبحانه وتعالى.
أشد وأبقى : أي أشد من عذاب الدنيا وأدوم فلا ينقضي ولا ينتهي.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في قصة آدم إنه لما أكل آدم وحواء من الشجرة وبدت لهما سوءاتهما وعاتبهما ربهما بقوله في آية غير هذه {ألم أنهكما1 عن تلكم الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين} وأنزل على آدم كلمة التوبة2 فقالها مع زوجه فتاب الله عليهما لما تم كل ذلك قال {اهبطا3 منها} أي من الجنة {جميعاً} إذ إبليس العدو قد اُبْلِس من قبل وطُرد من الجنة فهبطوا جميعاً. وقوله: {فإمّا يأتينكم مني هدىً} أي بيان عبادتي تحمله كتبي وتبينه رسلي، {فمن اتبع هداي } فآمن به وعمل بما فيه { فلا يضل} في حياته {ولا يشقى4} في آخرته
__________
1 هي قوله تعالى: {قالا ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} من سورة الأعراف وأخبر تعالى عنها في سورة البقرة في قوله تعالى: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم}.
2 الآية من سورة الأعراف.
3 الخطاب لآدم وإبليس وحواء تابعة لزوجها بقرينة: {بعضكم لبعض عدو}.
4 قال ابن عباس رضي الله عنهما: ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألاّ يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة وتلا هذه الآية.

{ومن أعرض عن ذكري} أي فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه {فإن له} أي جزاءً منا له {معيشة ضنكاً1} أي ضيقة تضيق بها نفسه فلم يشعر بالغبطة والسعادة وإن اتسع رزقه كما يضيق عليه قبره ويشقى فيه طيلة حياة البرزخ، ويحشر يوم القيامة أعمى لا حجة له ولا بصر يبصر به. وقد يعجب لحاله ويسأل ربه {لم حشرتني أعمى وقد كنت} في الدنيا وفي البعث {بصيرا} فيجيبه ربه تعالى بقوله: {كذلك} أي الأمر كذلك كنت بصيراً وأصبحت أعمى لأنك {أتتك آياتنا} تحملها كتبنا وتبينها رسلنا {فنسيتها} أي تركتها ولم تلتفت إليها معرضاً عنها فاليوم تترك في جهنم منسياً كذلك وقوله تعالى في الآية الآخرة (127) {وكذلك نجزي من أسرف} في معاصينا فلم يقف عند حد ولم يؤمن بآيات ربه فنجعل له معيشة ضنكاً في حياته الدنيا وفي البرزخ {ولعذاب الآخرة أشد}2 من عذاب الدنيا {وأبقى} أي أدوم حيث لا ينقضي ولا ينتهي.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عداوة الشيطان للإنسان.
2- عِدَة الله تعالى لمن آمن بالقرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في حياته ولا يشقى في آخرته.
3- بيان جزاء من أعرض عن القرآن في الدنيا والآخرة.
4- التنديد بالإسراف في الذنوب والمعاصي مع الكفر بآيات الله، وبيان جزاء ذلك.
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأوْلِي النُّهَى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلا
__________
1 {ضنكا} أي: ضيّقا، يقال: منزل ضنك وعيش ضنك، يستوي في الواحد والجمع والمذكر والمؤنث قال عنترة.
إن يُلحقوا أكرر وإن يستلحموا
أشدد وإن يُلفوا بضنك أنزل
2 أي : من المعيشة الضنك.

تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
شرح الكلمات:
أفلم يهد لهم: أي أفلم يُبَيَّنْ لهم.
من القرون: أي من أهل القرون.
لآيات لأولى النهى: أي أصحاب العقول الراجحة إذ النهية العقل.
ولو لا كلمة سبقت: أي بتأخير العذاب عنهم.
لكان لزاماً: أي العذاب لازماً لا يتأخر عنهم بحال.
ما يقولون: من كلمات الكفر، ومن مطالبتهم بالآيات.
ومن آناء الليل: أي ساعات الليل واحدها إِنْيٌ أو إِنْوٌ.
لعلك ترضى : أي رجاء أن تثاب الثواب الحسن الذي ترضى به.
إلى ما متعنا به أزواجا منهم : أي رجالاً منهم1 من الكافرين.
زهرة الحياة الدنيا: أي زينة الحياة الدنيا وقيل فيها زهرة لأنها سرعان ما تذبل وتذوى.
لنفتنهم فيه : أي لنبتليهم في ذلك أيشكرون أم يكفرون.
والعاقبة للتقوى : العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة لأهل التقوى.
معنى الآيات:
بعد ذكر قصة آدم عليه السلام وما تضمنته من هداية الآيات قال تعالى {أفلم يهد} لأهل مكة المكذبين المشركين أي أَغَفَلوا فلم يهد لهم أي يتبين {كم أهلكنا قبلهم من القرون} أي إهلاكنا للعديد من أهل القرون الذين هم يمشون في مساكنهم ذاهبين جائين
__________
1 أزواجاً: رجالاً ونساءً لأنّ الرجل زوج والمرأة زوج والتعبير بلفظ أزواج لأجل الدلالة على العائلات والبيوت أي: إلى ما متّعناهم به من مال وبنين.

كثمود وأصحاب مدين والمؤتفكات أهلكناهم بكفرهم ومعاصيهم فيؤمنوا ويوحدوا ويطيعوا فينجوا ويسعدوا. وقوله تعالى: {إن في ذلك} المذكور من الإهلاك للقرون الأولى {لآيات} أي دلائل واضحة على وجوب الإيمان بالله ورسوله وطاعتهما، {لأولى النهى} أي لأصحاب العقول أما الذين لا عقول لهم لأنهم عطلوها فلم يفكروا بها فلا يكون في ذلك آيات لهم. وقوله تعالى {ولو لا كلمة سبقت1 من ربك} بأن لا تموت نفس حتى تستوفي أجلها، وأجل مسمن عند الله في كتاب المقادير لا يتبدل ولا يتغير لكان عذابهم لازماً لهم لما هم عليه من الكفر والشرك والعصيان. وعليه {فاصبر} يا رسولنا {على ما يقولون } من أنك ساحر وشاعر وكاذب وكاهن من كلمات الكفر، واستعن على ذلك بالصلاة ذات الذكر والتسبيح {قبل طلوع الشمس} وهو صلاة الصبح {وقبل غروبها} وهو صلاة العصر {ومن آناء الليل} أي ساعات الليل وهما صلاتا المغرب والعشاء، {وأطراف النهار} وهو صلاة الظهر لأنها تقع بين طرفي النهار أي نصفه الأول ونصفه الثاني2 وذلك عند زوال الشمس، لعلك بذلك ترضى بثواب الله تعالى لك.
وقوله تعالى {ولا تمدن عينيك} أي لا تتطلع ناظراً {إلى ما متعنا به أزواجاً منهم} أشكالاً في عقائدهم وأخلاقهم وسلوكهم {زهرة3 الحياة الدنيا} أي من زينة الحياة الدنيا {لنفتنهم فيه} أي لنختبرهم في ذلك الذي متعناهم به من زينة الحياة الدنيا وقوله تعالى: {ورزق ربك} أي ما لك عند الله من أجز ومثوبة خير وأبقي4 خيراً في نوعه وأبقى في مدته، واختيار الباقي على الفاني مطلب العقلاء.
وقوله تعالى: {وأمر أهلك5 بالصلاة واصطبر عليها} أي من أزواجك وبناتك وأتباعك
__________
1 فيه تقديم وتأخير، الأصل: ولو لا كلمة سبقت وأجل مسبق لكان لزاماً. أي لكان العذاب لازماً لهم.
2 العتمة. واحد الأناء: أنيٌ وإنى وأنى.
3 قال مجاهد: الأغنياء منهم، وبهذا يشمل النساء والرجال إذ كل منهما زوج فرجح هذا أنّ أزواجاً: مفعول به، ولا يتنافى هذا مع ما في التفسير لأن قولنا: أشكالاً في عقولهم وأخلاقهم وسلوكهم يعني: منطقاً الرجال الأزواج.
4 {زهرة} منصوب على الحال من الموصول. والزهرة: واحدة الزهور وهو نور الشجر والمراد هنا: الزينة المعجبة المبهرة في النساء والبنين والأنعام والبساتين والجنان.
5 الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وجميع أمّته تابعة له في ذلك فكلّ مؤمن يجب عليه أن يقيم الصلاة وأن يأمر أهله بذلك ويصبر. روي أنه لما نزلت هذه الآية كان صلى الله عليه وسلم "يذهب إلى بنته فاطمة كل صباح وقت الصلاة" وكان عمر رضي الله عنه يوقظ أهل داره لصلاة الليل ويصلي وهو يتمثل بالآية: وكان عروة بن الزبير إذا رأى شيئاً من أخبار السلاطين وأحوالهم بادر إلى منزله فدخله وهو يقرأ: {ولا تمدّن عينك.. } الآية.

المؤمنين بالصلاة ففيها الملاذ وفيها الشفاء من آلام الحاجة والخصاصية واصطبر عليها واحمل نفسك على الصبر على إقامتها. وقوله {لا نسألك رزقاً} أي لا نكلفك مالاً تَعْطِيناه ولكن تكلف صلاة فأدها على أكمل وجوهها. {نحن نرزقك} أي رزقك علينا، {والعاقبة للتقوى} أي العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة لأهل التقوى من عبادنا وهم الذين يخشوننا فيؤدون ما أوجبنا عليهم ويجتنبون ما حرمنا عليهم رهبة منا ورغبة فينا. هؤلاء لهم أحسن العواقب ينتهون إليها نصر في الدنيا وسعادة في الآخرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ العاقل من اعتبر بغيره.
2- بيان فضيلة العقل وشرف صاحبه وانتفاعه به.
3- وجوب الصبر على دعوة الله والاستعانة على ذلك بالصلاة.
4- بيان أوقات الصلوات الخمس والحصول على رضى النفس بثوابها.
5- وجوب عدم تعلق النفس بما عند أهل الكفر من مال ومتاع لأنهم ممتحنون به.
6- وجوب الرضا بما قسم الله للعبد من رزق انتظاراً لرزق الآخرة الخالد الباقي.
7- وجوب الأمر بالصلاة بين الأهل والأولاد والمسلمين والصبر على ذلك.
8- فضل التقوى وكرامة أصحابها وفوزهم بحسن العاقبة في الدنيا والآخرة.
9- إقام الصلاة بين أفراد الأسرة المسلمة ييسر الله تعالى به أسباب الرزق، وتوسعته عليهم.
وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)

شرح الكلمات:
لولا1: أي هَلاَّ فهي أداة تحضيض وحث على وقوع ما يذكر بعدها.
بآية من ربه: أي معجزة تدل على صدقه في نبوته ورسالته.
بينة ما في الصحف الأولى : أي المشتمل عليها القرآن العظيم من أنباء الأمم الماضية وهلاكهم بتكذيبهم لرسلهم.
من قبله: من قبل إرسالنا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وإنزالنا كتابنا القرآن.
من قبل أن نذل ونخزى: أي من قبل أن يصيبنا الذل والخزي يوم القيامة في جهنم.
متربص: أي منتظر ما يؤول إليه الأمر.
فستعلمون : أي يوم القيامة.
الصراط السوي : أي الدين الصحيح وهو الإسلام.
ومن اهتدى : أي ممن ضل نحن أم أنتم.
معنى الآيات:
مازال السياق مع المشركين طلباً لهدايتهم فقال تعالى مخبراً عن أولئك المشركين الذين متع الله رجالاً منهم بزهرة الحياة الدنيا أنهم أصروا على الشرك والتكذيب {وقالوا لولا2 يأتينا بآية} أي هلا يأتينا محمد بمعجزة كالتي أتى بها صالح وموسى وعيسى بن مريم تدل على صدقه في نبوته ورسالته إلينا. فقال تعالى راداً عليهم قولتهم الباطلة: {أو لم تأتهم بَيّنة ما في3 الصحف الأولى؟} أيطالبون بالآيات وقد جاءتهم بينة ما في الصحف الأولى بواسطة القرآن الكريم فعرفوا ما حل بالأمم التي طالبت بالآيات ولما جاءتهم الآيات كذبوا بها فأهلكهم الله. بتكذيبهم4 فما يؤمن هؤلاء المشركين المطالبين بالآيات أنها لو جاءتهم ما آمنوا بها فأهلكوا كما
__________
1 لولا: أداة تحضيض وجملة: {أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى} حالية أي: قالوا ذلك، والحال أنها أتتهم بيّنة ما في الصحف الأولى، فالاستفهام إنكاري، والبينة: الحجة، والصحف. كتب الأنبياء السابقين كقوله تعالى: {إنّ هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى}.
2 أي: لولا يأتينا محمد بآية توجب العلم الضروري أو بآية ظاهرة كناقة صالح وعصا موسى أو هلاّ يأتينا بالآيات التي نقترحها كتحويل جبال مكة.
3 هذه البيّنة هي محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه القرآن الكريم، محمد أميّ لا يقرأ ولا يكتب، وقد جاء بما لم يأت به غيره من العلوم والمعارف والقرآن الكريم حوى علوم الأولين وقصصهم، وكل علم نافع في الحياتين فأيّة آية أعظم من هذه الآية، كما قال تعالى: {أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك كتاباً يتلى عليهم}؟!
4 قال القرطبي: فما يؤمنهم إن أتتهم الآيات أن يكون حالهم كحال أولئك.

أهلك المكذبين من قبلهم.
وقوله تعالى في الآية الثانية (134) {ولو أنا أهلكناهم1 بعذاب من قبله} أي من قبل إرسالنا محمد وإنزالنا الكتاب عليه لقالوا للرب تعالى إذا وقفوا بين يديه: {ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك } فيما تدعونا إليه من التوحيد والإيمان والعمل الصالح وذلك من قبل أن نذل هذا الذل ونخزى هذا الخزي في نار جهنم. فإن كان هذا قولهم لا محالة فلم لا يؤمنون ويتبعون آيات الله فيعملون بما جاء فيها من الهدى قبل حلول العذاب بهم؟ وفي الآية الأخيرة قال تعالى لرسوله بعد هذا الإرشاد الذي أرشدهم إليه {قل كل متربص2} أي كل منا متربص أي منتظر ما يؤول إليه الأمر {فتربصوا} ، فسيعلمون في نهاية الأمر وعندما توقفون في عرصات القيامة {من} هم {أصحاب الصراط السوي3} الذي لا اعوجاج فيه وهو الإسلام الدين الحق، {ومن اهتدى} إلى سبيل النجاة والسعادة ممن ضل ذلك فخسر وهلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- المطالبة بالآيات سنة متبعة للأمم والشعوب عندما تعرض عن الحق وتتنكر للعقل وهدايته.
2- الذلة والخزي تصيب أهل النار يوم القيامة لما فرطوا فيه من الإيمان والعمل الصالح.
3- في الآية إشادة إلى حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "يحتج به على الله يوم القيامة ثلاثة: الهالك في الفترة، والمغلوب على عقله، والصبي الصغير، فيقول المغلوب على عقله لم تجعل لي عقلا انتفع به، ويقول الهالك في الفترة لم يأتني رسول ولا نبي ولو أتاني لك رسول أو نبي لكنت أطوع خلقك إليك، وقرأ صلى الله عليه وسلم {لولا أرسلت إلينا رسولاً} ويقول الصبي الصغير كنت صغيراً لا أعقل. قال فترفع لهم نار ويقال لهم: رِدُوها قال فَيَرِدُها من كان في علم الله أنه سعيد، ويتلكأ عنها من كان في علم الله أنه شقي فيقول إياي عصيتم فكيف برسلي لو أتتكم". رواه ابن جرير عند تفسير هذه الآية {ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولاً}.
__________
1 هذه الآية دليل على أن الإيمان بوحدانية الله تعالى مما يقتضيه العقل وتوجبه الفطرة لولا حجب الضلالات وإغواء الشياطين للناس.
2 هذا جواب عن قولهم: {لولا يأتينا بآية من ربّه} وما بينهما اعتراض والتربّص: الانتظار.
3 بمعنى المُسْتَوي وهو مأخوذ من التسوية.

سورة الأنبياء
...
الجزء السابع عشر
سورة الأنبياء
مكية
وآياتها مائة واثنتا عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ(1) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ(2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاء وَالأرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
شرح الكلمات:
اقترب1 للناس حسابهم : أي قرب زمن حسابهم وهو يوم القيامة.
وهم في غفلة : أي عما هم صائرون إليه
معرضون: أي عن التأهب ليوم الحساب بصالح الأعمال بعد ترك
__________
1 قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: الكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول وهن من تلادي: يريد من أوّل ما حفظ كالمال التليد.

الشرك والمعاصي.
من ذكر من ربهم محدث: أي من قرآن نازل من ربهم محدث جديد النزول.
وهم يلعبون: أي ساخرين مستهزئين.
لاهية قلوبهم: مشغولة عنه بما لا يغني من الباطل والشر والفساد.
واسروا النجوى.: أي أخفوا مناجاتهم بينهم.
أضغاث أحلام: أي أخلاط رآها في المنام.
بل افتراه: أي اختلقه وكذبه ولم يوح إليه.
أفهم يؤمنون: أي لا يؤمنون فالاستفهام للنفي.
معنى الآيات:
يخبر تعالى فيقول وقوله الحق: {اقترب للناس1 حسابهم} أي دنا وقرب وقت حسابهم على أعمالهم خيرها وشرها {وهم في2 غفلة} عما ينتظرهم من حساب وجزاء {معرضون} عما يدعون إليه من التأهب ليوم الحساب بترك الشرك والمعاصي والتزود بالإيمان وصالح الأعمال. وقوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر3 من ربهم محدث4} أي ما ينزل الله من قرآن يعظهم به ويذكرهم بما فيه {إلا استمعوه وهم يلعبون} أي استعموه وهم هازئون ساخرون لاعبون غير متدبرين له ولا متفكرين فيه. وقوله تعالى: {لاهية قلوبهم} أي مشغولة عنه منصرفة عما تحمل الآيات المحدثة النزول من هدى ونور، {وأسروا النجوى الذين ظلموا5} وهم المشركون قالوا في تناجيهم بينهم: {هل هذا إلا بشر مثلكم} أي ما محمد إلا إنسان مثلكم فكيف تؤمنون به وتتابعونه على ما جاء. به،
__________
1 لفظ الناس: عام وإن أريد به أهل مكة بدليل السياق في الآيات بعد.
2 الجملة حالية أي: اقترب للناس حسابهم والحال أنّهم في غفلة معرضون.
3 محدث: أي: في نزوله وقراءة جبريل له على النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان ينزل آية آية وسورة سورة وجائز أن يكون الذكر الرسول صلى الله عليه وسلم لقرينة الآيات كقوله: {هل هذا إلا بشر مثلكم} وقوله: {قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولاً..} فرسول بدلا، ق قوله: (ذكرا) وقوله (إلا استمعوه) ي: الرسول وهم يلعبون. قاله الحسن بن الفضل.
4 لاهية: ساهية معرضة عن ذكر الله تعالى. يقال: لهيت عن الشيء إذا تركته وسهرت عنه، وهو نعت تقدّم عن الاسم فنصب على الحال نحو: (خاشعة أبصارهم)، (ودانية عليهم ظلالها) وكقول كثير عزّة:
لعزة موحشا طلل
يلوح كأنه خِلَلُ
5 {الذين ظلموا} بدل من واو الجماعة في: {وأسروا النجوى}.

إنه ما هو إلا ساحر {أفتأتون السحر وأنتم تبصرون} مالكم أين ذهبت عقولكم؟ قال تعالى لرسوله: {قل ربي1 يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع... } لأقوال عباده {العليم} بأعمالهم فهو تعالى سميع لما تقولون من الكذب عليم بصدقي وحقيقة ما أدعوكم إليه.
وقوله تعالى: {بل قالوا} أي أولئك المتناجون الظالمون {أضغاث أحلام} أي قالوا في القرآن يأتيهم من ربهم محدث لهم؛ ليهتدوا به قالوا فيه أضغاث أي أخلاط رؤيا منامية وليس بكلام الله ووحيه، {بل افتراه} انتقلوا من قول إلى آخر لحيرتهم {بل هو شاعر} أي صلى الله عليه وسلم وما يقوله ليس من جنس الشعر الذي هو ذكر أشياء لا واقع لها ولا حقيقة. وقوله تعالى عنه: {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} أي إن كان رسولاً كما يدعي وليس بشاعر ولا ساحر فليأتنا بآية أي معجزة كآية صالح أو موسى أو عيسى كما أرسل بها الأنبياء الأولون. قال تعالى: {ما آمنت قبلهم من2 قرية} أي أهل قرية { أهلكناها} بالعذاب لما جاءتها الآية فكذبت أفهم3 يؤمنون أي لا يؤمنون إذ شأنهم شأن غيرهم، فلذا لا معنى لإعطائهم الآية من أجل الإيمان ونحن نعلم أنهم لا يؤمنون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- قرب الساعة.
2- بيان ما كان عليه المشركون من غفلة ولهو وإعراض، والناس اليوم أكثر منهم في ذلك.
3- بيان حيرة المشركين إزاء الوحي الإلهي والنبي صلى الله عليه وسلم.
4- المعجزات لم تكن يوماً سبباً في هداية الناس بل كانت سبب إهلاكهم إذ هذا طبع الإنسان إذا لم يرد الإيمان والهداية فإنه لا يهتدي ولو جاءته كل آية.
__________
1 قرأ نافع والجمهور: {قل ربي} بصيغة الأمر، وقرأ حفص ومن وافقه (قال) بصيغة الماضي.
2 {من}: زائدة لتقوية الكلام وتوكيد النفي المستفاد من حرف (ما).
3 الاستفهام للإنكار أي: إنكار إيمانهم لو جاءتهم الآية أي: فهم لا يؤمنون.

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10)
شرح الكلمات:
قبلك : يا محمد.
أهل الذكر : أي الكتاب الأول وهم أهل الكتاب.
جسداً: أي أجساداً آدمية.
الوعد: أي الذي واعدناهم.
المسرفين: أي في الظلم والشرك والمعاصي.
كتاباً: هو القرآن العظيم.
فيه ذكركم : أي ما تذكرون به ربكم وما تذكرون به من الشرف بين الناس.
معنى الآيات:
كانت مطالب قريش من اعتراضاتهم تدور حَوْلَ لِمَ يكون الرسول بشراً، ولِمَ يكون رسولاً ويأكل الطعام لم لا يكون له كنز أو جنة يأكل منها، لم لا يأتينا بآية كما أرسل بها الأولون، وهكذا. قال قتادة قال أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم "وإذا كان ما تقوله حقاً ويسرك أن نؤمن فحول لنا الصفا ذهبا، فأتاه جبريل فقال إن شئت كان الذي سألك قومك، ولكنه إن كان ثم لم يؤمنوا لم ينظروا "أي ينزل بهم العذاب فوراً" وإن شئت استأنيت بقومك، قال بل استأني بقومي فأنزل الله {ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون}.

وقوله تعالى: {وما أرسلنا قبلك1} يا رسولنا {إلا رجالاً نوحي} ما نريد إبلاغه عبادنا من أمرنا ونهينا. {فاسألوا أهل الذكر2 إن كنتم لا تعلمون} أي فليسأل قومك أهل الكتاب من قبلهم وهم أحبار اليهود ورهبان النصارى إن كانوا لا يعلمون فإنهم يعلمون أن الرسل من قبلهم لم يكونوا إلا بشراً. وقوله تعالى : {وما جعلناهم} أي الرسل {جسدا3} أي أجساداً ملائكية أو بشرية لا يأكل أصحابها الطعام بل جعلناهم أجساداً آدمية تفتقر في بقاء حياتها إلى الطعام والشراب4 فلم يعترض هؤلاء المشركون على كون الرسول بشراً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ وقوله تعالى: {ثم صدقناهم} أي أولئك الرسل {الوعد}5 الذي وعدناهم وهو أنا إذا آتينا أقوامهم ما طالبوا به من المعجزات ثم كذبوا ولم يؤمنوا أهلكناهم {فأنجيناهم ومن نشاء} أي أنجينا رسلنا ومن آمن بهم واتبعهم، وأهلكنا المكذبين المسرفين في الكفر والعناد والشرك والشر والباطل.
وقوله تعالى: {لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون؟} يقول تعالى لأولئك المشركين المطالبين بالآيات التي قد تكون سبب هلاكهم ودمارهم {لقد أنزلنا إليكم} لهدايتكم وإصلاحكم ثم إسعادكم {كتاباً} عظيم الشأن {فيه ذكركم} 6 أي ما تذكرون به وتتعظون فتهتدون إلى سبيل سلامتكم وسعادتكم، فيه ذكركم بين الأمم والشعوب لأنه نزل بلغتكم الناس لكم فيه تبع وهو شرف أي شرف لكم. أتشتطون في المكايدة والعناد فلا تعقلون، ما هو خير لكم مما هو شر لكم.
__________
1 هذا ردّ على المشركين إذ قالوا: {هل هذا إلا بشر مثلكم} وتأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يضيق بما يقولون.
2 جائز أن يكون أهل الذكر أي: الكتاب الأوّل هم اليهود والنصارى إذ كان أهل مكة يسألون يهود المدينة وجائز أن يكون القرآن وهم المؤمنون ولذا قال عليّ وهو صادق: نحن أهل الذكر. أي: فليناظروا المؤمنين كعلي وأبي بكر الصديق وبلال. وفي الآية دليل على وجوب تقليد العامة العلماء إذ هم أهل الذكر ووجوب العمل بما يفتونهم به ويعلمونهم به.
3 الجسد: الجسم لا حياة فيه كالجثة. وفي العبارة تهكم بالمشركين لسخف عقولهم إذ أنكروا على الرسول صلى الله عليه وسلم أكل الطعام فقالوا: {ما لهذا الرسول يأكل الطعام} وهل يعقل وجود أجسام بشرية تستغني عن الأكل والشرب؟
4 ولذا هم يموتون ولا يخلدون وهذه حقيقة الآدمي.
5 الوعد: منصوب على نزع الخافض أي: صدقناهم في الوعد الذي وعدناهم، وهو وعدهم بنصرهم وإهلاك أعدائهم.
6 {فيه ذكركم}: أي: فيه ذكر أمر دينكم وأحكام شرعكم وبيان ما تصيرون إليه من ثواب أو عقاب وفيه ذكر مكارم أخلاقكم ومحاسن أعمالكم.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير مبدأ أن الرسل لا يكونون إلا بشراً ذكوراً لا إناثاً.
2- تعين سؤال أهل العلم في كل ما لا يعلم إلا من طريقهم، من أمور ا الدين والآخرة.
3- ذم الإسراف في كل شيء وهو كالغلو في الشرك والظلم.
4- القرآن ذكر يذكر به الله تعالى لما فيه من دلائل التوحيد وموعظة لما فيه من قصص الأولين وشرف أي شرف لمن آمن به وعمل بما فيه من شرائع وآداب وأخلاق.
وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
شرح الكلمات:
وكم قصمنا : أي وكثيراً من أهل القرى قصمناهم بإهلاكهم وتفتيت أجسامهم.
كانت ظالمة: أي كان أهلها ظالمين.
يركضون : أي فارين هاربين.
إلى ما أترفتم فيه : أي من وافر الطعام والشراب والمسكن والمركب.
تسألون : أي عن شيء من دنياكم على عادتكم.
تلك دعواهم : أي دعوتهم التي يرددونها وهي: { يا ويلنا إنا كنا ظالمين}.
حصيداً خامدين : أي لم يبق منهم قائم فهم كالزرع المحصود خامدين لا حراك لهم كالنار إذا أُخمدت.

معنى الآيات:
يقول تعالى منذراً قريشاً أن يحل بها ما حل بغيرها ممن أصروا على التكذيب والعناد {وكم قصمنا} أي أهلكنا وأبدنا إبادة كاملة {من قرية1} أي أهل قرية {كانت ظالمة} أي كان أهلها ظالمين بالشرك والمعاصي والمكابرة والعناد، {وأنشأنا بعدها قوماً آخرين} هم خير من أولئك الهالكين. وقوله تعالى: {فلما أحسوا2 بأسنا إذا هم منها يركضون} أي فلما أحسَّ أولئك الظالمون {بأسنا} أي شعروا به وأدركوه بحواسهم بأسماعهم وأبصارهم {إذ هم منها} من تلك القرية يركضون هاربين فراراً من الموت. والملائكة تقول لهم توبيخاً لهم وتقريعاً: لا تركضوا هاربين {وارجعوا إلى ما أُترفتم فيه} نُعِمْتُم فيه من وافِرِ الطعام والشراب والكساء والمسكن والمركب {لعلكم تسألون} على العادة عن شيء من أموركم وأمور دنياكم3، فكان جوابهم ما أخبر تعالى به عنهم : {قالوا يا ويلنا} أي يا هلاكنا أحضر هذا أو آن حضورك إنا كنا ظالمين أنفسنا بالشرك والمعاصي والتكذيب والعناد. قال تعالى: {فما زالت تلك دعواهم} أي ما زال قولهم {يا ويلنا إنا كنا ظالمين} تلك دعوتهم4 التي يرددونها {حتى جعلناهم حصيداً5 خامدين} أي مُجتثين من أصولهم ساقطين في الأرض خامدين لا حراك لهم كالنار إذا أُخمدت فلم يبق لها لهيب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التنديد بالظلم وأعلى درجاته الشرك بالله.
2- جواز الاستهزاء بالمشرك الظالم إذا حل به العذاب تقريعاً له وتوبيخاً.
3- لا تنفع التوبة عند معاينة العذاب لو طلبها الهالكون.
4- شدة الهول ورؤية العذاب قد تفقد صاحبها رشده وصوابه فيهْذِرُ ولا يدري ما يقول.
__________
1 قيل: هذه القرى هي مدائن كانت باليمن، والعموم ظاهر في السياق ولا داعي إلى حصره في مدائن اليمن بل هو شامل عاداً وثمود وأهل مدين والمؤتفكات، والقصم: الكسر يقال: قصم ظهر فلان: إذا كسره.
2 الإحساس: الإدراك بالحس فيكون برؤية ما يزعجهم أو سماع أصوات مؤذنة بالهلاك كالصواعق والرياح.
3 وهذا استهزاء بهم وتهكم وتقريع وتوبيخ لهم.
4 أي: الكلمة التي يكررونها وهي: يا ويلنا إنا كنا ظالمين حتى هلكوا عن آخرهم.
5 الحصد: جزّ الزرع والنبات بالمنجل لا باليد، وشاع إطلاق الحصيد على الزرع المحصود، والخامد الذي لا حراك له من خمدت النار إذا زال لهيبها.

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ (20)
شرح الكلمات:
لاعبين: أي عابثين لا مقصد حَسَن لنا في ذلك.
لهوا : أي زوجة وولداً.
من لدنا. أي من عندنا من الحور العين أو الملائكة.
بل نقذف بالحق : أي نرمي بالحق على الباطل.
فيدمغه: أي يشج رأسه حتى تبلغ الشجة دماغه فيهلك.
فإذا هو زاهق : أي ذاهب مُضْمحِل.
ولكم الويل مما تصفون: أي ولكم العذاب الشديد من أجل وصفكم الكاذب للديان بأن له زوجة وولداً وللرسول بأنه ساحر ومفترٍ.
وله من في السموات والأرض: خلقاً وملكاً وتدبيراً لا شريك له في ذلك.
ولا يستحسرون : أي لا يعيون ولا يتعبون فيتركون التسبيح.
لا يفترون: عن التسبيح لأنه منهم كالنفس منا لا يتعب أحدنا من التنفس ولا يشغله عنه شيء.
معنى الآيات:
كونه تعالى يهلك الأمم الظالمة بالشرك والمعاصي دليل أنه لم يخلق الإنسان والحياة

لعباً وعبثاً بل خلق الإنسان وخلق الحياة ليذكر ويشكر فمن أعرض عن ذكره وترك شكره أذاقه بأساءه في الدنيا والآخرة وهذا ما دلت عليه الآية السابقة وقررته الآية وهي قوله تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين1} أي عابثين لا قصد حسن لنا بل خلقناهما بالحق وهو وجوب عبادتنا بالذكر والشكر لنا وقوله تعالى: {لو أردنا2 أن نتخذ لهواً} أي صاحبة أو ولدا كما يقول المبطلون من العرب القائلون بأن الله أصهر إلى الجن فأنجب الملائكة وكما يقول ضُلاّلُ النصارى أن الله اتخذ مريم زوجة فولدت له عيسى الابن، تعالى الله عما يأفكون فرد تعالى هذا الباطل بالمعقول من القول فقال لو أردنا أن نتخذ لهواً نتلهى به من صاحبة وولد لأتخذنا من لدنا من الحور العين والملائكة ولكنا لم نرد ذلك ولا ينبغي لنا إنا نملك كل من في السموات ومن في الأرض عبيداً لنا فكيف يعقل اتخاذ مملوك لنا ولداً ومملوكة زوجة والناس العجزة الفقراء لا يجيزون ذلك فالرجل لا يجعل مملوكته زوجة له ولا عبده ولداً بحال من الأحوال وقوله تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه3 فإذا هو زاهق} فتلك الأباطيل والترهات تنزل حجج القرآن عليها فتدمغها فإذا هي ذاهبة مضمحلة لا يبقى منها شيء {ولكم الويل} أيها الكاذبون مما تصفون الله بالزوجة والولد والشريك والرسول بالسحر والشعر والكهانة والكذب العذاب لازم لكم من أجل كذبكم وافترائكم على ربكم ورسوله. وقوله تعالى : {وله من في السموات والأرض} برهان آخر على بطلان دعوى أن له تعالى زوجة وولداً فالذي يملك من في السموات ومن في الأرض غنى عن الصاحبة والولد إذ الكل له ملكاً وتصرفاً. وقوله: {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون4} برهان آخر {يسبحون الليل والنهار ولا
__________
1 ينفي تعالى أن يكون خلق السموات والأرض وما بينهما وما في السموات وما في الأرض من عجائب المخلوقات وبدائع الصناعات وما بين السماء والأرض من السحب والأمطار ورياح وأجواء الفضاء ينفي أن يكون هذا الخلق العظيم لعباً: أي: لهواً وعبثاً بل خلق ما خلق لأعظم حكمة وأسماها وهي أن يعبد بذكره وشكره، فلذا من كفر به تعالى فترك ذكره وشكره كان من شر خلقه واستوجب العذاب الأبدي الذي لا يخرج منه ولا يموت فيه ولا يحيى.
2 الآية ردّ على افتراءات المبطلين جهلة البشر الذين نسبوا لله تعالى الصاحبة والولد بغير علم من عقل ولا نقل.
3 الدمغ: شج الرأس حتى تبلغ الشجة الدماغ، والباطل هو الشيطان والحق؟ القرآن، في قول مجاهد إذ قال كل ما في القرآن من الباطل فهو الشيطان.
4 لا يستحسرون أي: لا يعيون مأخوذ من الحسير وهو البعير المنقطع من الإعياء والتعب يقال: حسر البعير يحسر حسوراً: أعيا وكلّ واستحسر وتحسر مثله.

يفترون} أي فكيف يفتقر إلى الزوجة والولد، ومن عنده من الملائكة وهم لا يحصون عداً يعبدونه لا يستكبرون عن عبادته ولا يملون منها ولا يتعبون من القيام بها، يسبحونه الليل والنهار، والدهر كله {لا يفترون} أي لا يسأمون فيتركون التسبيح فترة بعد فترة للاستراحة، إنهم في تسبيحهم وعدم سآمتهم منه وعدم انشغالهم عنه كالآدميين في تنفسهم وطرف أعينهم هل يشغل عن التنفس شاغل أو عن طرف العين آخر وهل يسأم الإنسان من ذلك والجواب لا، فكذلك الملائكة يسبحون الليل والنهار ولا يفترون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تنزه الرب تعالى عن اللهو واللعب والصاحبة والولد.
2- حجج القرآن هي الحق متى رمى بها الباطل دمغته فذهب واضحمل.
3- إقامة البراهين العقلية على إبطال الباطل أمر محمود، وقد يكون لا بد منه.
4- بيان غنى الله المطلق عن كل مخلوقاته.
5 بيان حال الملائكة في عبادتهم وتسبيحهم لله تعالى.
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)

شرح الكلمات:
أم اتخذوا آلهة من الأرض : أيْ من معادنها كالذهب والفضة والنحاس والحجر.
هم ينشرون: أي يحيون الأموات إذ لا يكون إلهاً حقاً إلا من يحيي الموتى.
لو كان فيهما: أي في السموات والأرض.
لفسدتا: أي السموات والأرض لأن تعدد الآلهة يقتضى التنازع عادة وهو يقضي بفساد النظام.
فسبحان الله : أي تنزيه لله عما لا يليق بحلاله وكماله.
رب العرش : أي خالقه ومالكه والمختص به.
عما يصفون : أي الله تعالى من صفات النقص كالزوجة والولد والشريك.
لا يسأل عما يفعل : إذ هو الملك المتصرف، وغيره يسأل عن فعله لعجزه وجهله وكونه مربوباً.
قل هاتوا برهانكم : أي على ما اتخذتم من دونه من آلهة ولا برهان لهم على ذلك فهم كاذبون.
هذا ذكر من معي : أي القرآن ذكر أمتي.
وذكر من قبلي: أي التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله الكل يشهد أنه لا إله إلا الله.
لا يعلمون الحق: أي توحيد الله ووجوبه على العباد فلذا هم معرضون.
فاعبدون: أي وحدوني في العبادة فلا تعبدوا معي غيري إذ لا يستحق العبادة سواي.
معنى الآيات:
يوبخ تعالى المشركين على شركهم فيقول {أم اتخذوا1 آلهة من الأرض} أي من أحجارها ومعادنها آلهة {هم ينشرون} أي يحيون الموتى والجواب كلا إنهم لا يحيون والذي لا يحيي الموتى لا يستحق الألوهية بحال من الأحوال. هذا ما دل عليه قوله
__________
1 الاستفهام هنا للجحد والإنكار أي: لم يتخذوا آلهة تقدر على الإحياء في وصف الآلهة من الأرض تهكّم بعابديها ظاهر وتأنيب عجيب.

تعالى: {أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينتشرون} وفي الآية الثانية (21) يبطل تعالى دعواهم في اتخاذ آلهة مع الله فيقول. {لو كان فيهما1} أي في السموات والأرض آلهة غير الله تعالى لفسدتا لأن تعدد الآهة يقتضى التنازع2 والتمانع هذا يريد أن يخلق كذا و هذا لا يريده هذا يريد أن يعطى كذا وذاك لا يريده فيختل نظام الحياة وتفسد، ومن هنا كان انتظام الحياة هذه القرون العديدة دالا على وحدة الخالق الواجب الوجود الذي تجب له العبادة وحده دون من سواه، فلذا نزه تعالى نفسه عن الشريك وما يصفه به المبطلون من الزوجة والولد فقال : {فسبحان3 الله رب العرش عما يصفون} وقرر ألوهيته وربوبيته المطلقة بقوله: {لا يسأل4 عما يفعل وهم يُسئلون} فالذي يفعل ولا يُسأل لعلمه وقدرته وملكه هو الإله الحق والذي يسأل عن عمله لم فعلت ولم تركت ويحاسب عليه ويجزى به لن يكون إلا عبداً مربوباً، وقوله في توبيخ آخر للمشركين: أم اتخذوا من5 دونه عز وجل آلهة يعبدونها؟ قل لهم يا رسولنا هاتوا برهانكم على صدق دعواكم في أنها آلهة، ومن أين لهم البرهان على احقاق الباطل؟ وقوله تعالى: {هذا ذكر6 من معي} أي من المؤمنين وهو القرآن الكريم به يذكرون الله ويعبدونه وبه يتعظون {وذكر من قبلي} أي التوراة والإنجيل هل في واحد منها ما يثبت وجود آلهة مع الله تعالى. والجواب لا. إذاً فما هي حجة هؤلاء المشركين على صحة دعواهم، والحقيقة أن المشركين جهلة لا يعرفون منطقاً ولا برهاناً فلذا هم مُعْرِضُون وهذا ما دل عليه قوله تعالى :{بل أكثرهم لا يعلمون الحق7 فهم معرضون} فليسوا أهلاً لمعرفة الأدلة والبراهين لجلهلهم فلذا هم معرضون عن قبول التوحيد وتقرير أدلته وحججه وبراهينه.
__________
1 هذه الجملة مقررة لما أنكره تعالى على المشركين من اتخاذهم آلهة من الأرض مبيّنة وجه الإنكار شارحة له أي: يستحيل أن يوجد آلهة حق مع الله تعالى. والبرهان مذكور في التفسير.
2 هذا ما يسمى بدليل أو برهان التمانع وأنه وإن كان فيه ما يرده إلا أنه في الجملة دليل مسكت للخصم مقنع لذي العقول.
3 إظهار اسم الجلالة في مكان الإضمار كان لتربية المهابة منه عزّ وجل إذ كان المفروض أن يقوله سبحانه.
4 قال ابن جريج : لا يسأله الخلق عن قضائه فيهم وهو يسألهم عن أعمالهم لأنهم عبيده وبهذا انهدّ معتقد المشركين والقدريين معاً إذ لا يسأل عمال يفعل وغيره يسأل فالذي يسأل ويحاسب ويجزي لن يكون إلهاً أبداً.
5 (أم) بمعنى: بل والاستفهام التعبجي أي: بل اتخذوا من دون الله آلهة يا للعجب فليأتوا إذاً ببرهان عقلي على صحة دعواهم ومن أين لهم إذاً أفلا يتوبون.
6 زيادة على إقامة بطلان الشرك بشهادة القرآن كتاب الله وشهادة الكتب السابقة وفيها التهديد والوعيد للمشركين.
7 قرأ الحق بالرفع ابن محيسن والحسن على تقدير هذا هو الحق وقرأ الجمهور بالنصب مفعول أي: لا يعلمون الحق الذي هو القرآن العظيم فهم لا يتأملونه فحججه وبراهينه على إبطال الشرك ظاهرة.

وقوله تعالى: {وها أرسلنا من قبلك1 من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} فلو كان المشركون يعلمون هذا لما أشركوا وجادلوا عن الشرك، ولكنهم جهلة مغررون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- من أخص صفات الإله أن يخلق ويرزق ويحيى ويميت فإن لم يكن كذلك فليس بإله.
2- وحدة النظام دالة على وحدة المنظم، ووحدة الوجود دالة على وحدة الموجد وهذا برهان التمانع الذي يقرر منطقياً وجود الله ووجوب عبادة وحده.
3- لا برهان على الشرك أبداً، ولا يصح في الذهن وجود دليل على صحة عبادة غير الله تعالى.
4- القرآن والتوراة وكل كتب الله متضافرة على تقرير توحيد الله تعالى.
5- تقرير توحيد الله تعالى وإبطال الشرك والتنديد بالمشركين.
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
__________
1 هذا برهان آخر على إبطال الشرك إذ عامة الرسل جاءت بالتوحيد بلا إله إلا الله، فكيف يصح إذاً إقرار الشرك والعمل به، والآية كآية النمل : {ولقد بعثنا في كل أمّة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}.

شرح الكلمات
ولداً : أي من الملائكة حيث قالوا الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
سبحانه: تنزيه له تعالى عن اتخاذ الولد.
ب ل عباد ومكرمون : هم الملائكة، ومن كان عبداً لا يكون ابناً ولا بنتاً.
لا يسبقونه بالقول: أي لا يقولون حتى يقول هو وهذا شأن العبد لا يتقدم سيده بشيء.
وهم بأمره يعملون: أي فهم مطيعون متأدبون لا يعملون إلا بإذنه لهم.
ولا يشفعون إلاّ لمن ارتضى: أي إلاّ لمن رضي تعالى أن يشفع له.
مشفقون: أي خائفون.
من دونه : أي من دون الله كإبليس عليه لعائن الله.
كذلك نجزي الظالمين: أي لأنفسهم بالشرك والمعاصي.
معنى الآيات:
بعد أن أبطلت الآيات السابقة الشرك ونددت بالمشركين جاءت هذه الآيات في إبطال باطل آخر للمشركين وهو نسبتهم الولد لله تعالى فقال تعالى عنهم و {قالوا1 اتخذ الرحمن ولداً} وهو زعمهم أن الملائكة بنات الله فنزه تعالى نفسه عن هذا النقص فقال {سبحانه} وأبطل دعواهم وأضرب عنها فقال {بل عباد مكرمون2} أي فمن نسبوهم لله بنات له هم عباد له مكرمون عنده ووصفهم تعالى قوله: {لا يسبقونه بالقول} فهم لكمال عبوديتهم لا يقولون حتى يقول هو سبحانه وتعالى، وهم يعملون بأمره فلا يقولون ولا يعملون إلا بعد إذنه لهم، وأخبر تعالى أته يعلم ما بين أيديهم3 وما خلفهم فعلمه عز وجل محيط بهم ولا يشفعون لأحد من خلقه إلا لمن ارتضى أن يشفع4 له فقال تعالى:
__________
1 قيل: هذه الآية نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله تعالى وكانوا يعبدونهم يرجونا شفاعتهم، وفريتهم قائمة على أن الله تعالى أصهر إلى سروات الجنّ فأنجب الملائكة. تعالى الله علواً كبيراً.
2 {بل عباد مكرمون} أي: بل هم عباد مكرمون، فعباد: خبر لمبتدأ محذوف ومكرمون: نعت للخبر.
3 قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعلم ما عملوا وما هم عاملون كما يعلم ما بين أيديهم من الآخرة وما خلفهم من الدنيا.
4 قال ابن عباس: هم أهل شهادة أن لا إله إلا الله. وقال مجاهد: هم كل من رضي الله عنه. وهو أعم من الأوّل، وأخص أيضاً باعتبار جهتين.

{ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} وزيادة على ذلك أنهم {من خشيته مشفقون} خائفون، وعلى فرض أن أحداً منهم قال إني إله من1 دون الله فإن الله تعالى يجزيه بذلك القول جهنم وكذلك الجزاء نجزي الظالمين أي أنفسهم بالشرك والمعاصي، وبهذا بطلت فرية المشركين في جعلهم الملائكة بنات لله وفي عبادتهم ليشفعوا لهم عنده تعالى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إبطال نسبة الولد إلى الله تعالى من قبل المشركين وكذا اليهود والنصارى.
2- بيان كمال عبودية الملائكة لله تعالى وكمال أدبهم وطاعتهم لربهم سبحانه وتعالى.
3- بطلان دعوى المشركين في شفاعة الملائكة لهم، إذ الملائكة لا يشفعون إلا لمن رضى الله تعالى أن يشفعوا له.
4- تقرير وجود شفاعة يوم القيامة ولكن بشروطها وهي أن يكون الشافع قد أذن له بالشفاعة، وأن يكون المشفوع له من أهل التوحيد فأهل الشرك لا تنفعهم شفاعة الشافعين.
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
__________
1 في الآية دليل على أن الملائكة وإن أكرموا بالعصمة فهم متعبدون وليسوا مضطرين إلى العبادة اضطراراً بل شأنهم شأن المعصومين من الرسل يعبدون تعبّداً لا اضطراراً.

شرح الكلمات:
كانتا رتقا: أي كتلة واحدة منسدة لا انفتاح فيها.
ففتقناهما: أي جعلنا السماء سبع سموات والأرض سبع أرضين.
رواسي: أي جبالاً ثابتة.
أن تميد بهم : : أي تتحرك فتميل بهم.
فجاجاً سبلاً : أي طرقاً واسعة يسلكونها تصل بهم إلى حيث يريدون.
لعلهم يهتدون : إلى مقاصدهم في أسفارهم.
وهم عن آياتها: من الشمس والقمر والليل والنهار معرضون.
كل في فلك يسبحون : الفلك كل شيء دائر.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد ووجوب تنزيه الله تعالى عن صفات النقص والعجز فقال تعالى: {أو لم1 ير الذين كفروا} أي الكافرون بتوحيد الله وقدرته وعلمه ووجوب عبادته إلى مظاهر قدرته وعلمه وحكمته في هذه المخلوقات العلوية والسفلية فالسموات والأرض كانتا كتلة واحدة من سديم فخلق الله تعالى منها السموات والأرضين كما أن السماء تتفتق بإذنه تعالى عن الأمطار، والأرض تتفتق عن النباتات المختلفة الألوان والروائح والطعوم والمنافع، وأن كل شيء حيّ في هذه الأرض من إنسان وحيوان ونبات هو من الماء أليست هذه كلها دالة على وجود الله ووجوب عبادته وتوحيده فيها؟
فما للناس لا يؤمنون؟ هذا ما دل عليه قوله تعالى في الآية الأولى (30) {أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا2 ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون؟} وقوله تعالى: {وجعلنا في الأرض رواسي} أي جبالاً3 ثواتب كيلا تميد أي
__________
1 قرأ الجمهور {أو لم ير} بالواو بعد همزة الاستفهام، وقرأ بعض: {ألم ير} بدون واو، بمعنى يعلم.
2 {رتقا}: الرتق: السدّ ضد الفتق، يقال: رتقت الفتق ارتقه فارتتق. أي: التأم، ومنه: امرأة رتقاء أي: منضمة الفرج غير مفتوق، والمراد أن السموات والأرض كانت شيئاً واحداً ملتزقتين ففصل الله بينهما وما في التفسير إشارة إلى ما اختارهُ ابن جرير الطبري وهو: أن السماء كانت رتقا لا تمطر والأرض كانت رتقا لا تنبت، ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات والآية دالة على الوجهين والوجهان صحيحان.
3 {جعلنا} بمعنى: خلقنا، وهذا اللفظ صالح للدلالة على أنّ كل شيء في هذه المخلوقات من الحيوان والنبات خلق من الماء، والنار: أن حيا ة هذه المخلوفات تحفظ بالماء، وفي الحديث: "كل شيء خلق من الماء". ذكره القرطبي رحمه الله تعالى.

تتحرك وتضطرب بسكانها، {وجعلنا فيها} أي في الأرض {فجاجاً سبلاً} أي طرقاً سابلة للسير فيها {لعلهم1 يهتدون} أي كي يهتدوا إلى مقاصدهم في أسفارهم، وقول: {وجعلنا السماء سقفاً2 محفوظاً} من السقوط ومن الشياطين. وقوله: {وهم عن آياتها} من الشمس والقمر والليل والنهار إذ هذه آيات قائمة بها {معرضون} أي لا يفكرون فيها فيهتدوا إلى معرفة الحق عز وجل ومعرفة ما يجب له من العبادة والتوحيد فيها، وقوله: {وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس3 والقمر كل في فلك يسبحون4} أي كل من الشمس والقمر في فلك خاص به يسبح الدهر كله، والفلك عبارة عن في دائرة كفلكة المغزل يدور فيها الكوكب من شمس وقمر ونجم يسبح فيها لا يخرج عنها إذ لو خرج يحصل الدمار الشامل للعوالم كلها، سبحان العليم الحكيم، هذه كلها مظاهر القدرة والعلم والحكمة الإلهية وهي موجبة للتوحيد مقررة له، ولكن المشركين عنها معرضون لا يفكرون ولا يهتدون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته الموجبة لتوحيده والإيمان به وطاعته.
2- بيان الحكمة من خلق الجبال الراوسي.
3- بيان دقة النظام الإلهي، وعظيم العلم والحكمة له سبحانه وتعالى.
4- إعراض أكثر الناس عن آيات الله في الآفاق كإعراضهم عن آياته القرآنية هو سبب جهلهم وشركهم وشرهم وفسادهم.
__________
1 رجاء أن يهتدوا في سيرهم إلى ما يرومون من الديار والبلاد، ورجاء أن يهتدوا بذلك إلى الإيمان بالله وتوحيده.
2 سميت السماء سقفاً لأنها مرفوعة فوق الأرض مظلمة لها كالسقف على النار.
3 هذه كلها منن الله تعالى على عباده وآيات قدرته وعلمه وحكمته وكلها موجبة للإيمان به وعبادته وتوحيده وإعراض الناس عن النظر والتدبر هو الذي حرمهم هداية الله تعالى.
4 {كل في فلك يسبحون}: هذه جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً جوابا لمن سمع الآيات، فتساءل عن الشمس والقمر وعن باقي الأجرام السماوية قائلاً: كيف لا يقع بينها تصادم ولا يتخلّف بعضها فيحدث خلل في الكون والحياة فأجيب بقوله تعالى: {كل في فلك يسبحون...}.

وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الإنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38)
شرح الكلمات:
الخلد: أي البقاء في الدنيا.
ذائقة الموت : أي مرارة مفارقة الجسد.
ونبلوكم: أي نختبركم.
بالشر والخير: فالشر كالفقر والمرض، والخير كالغنى والصحة.
فتنة: أي لأجل الفتنة لننظر أتصبرون وتشكرون أم تجزعون وتكفرون.
إن يتخذونك إلا هزواً : أي ما يتخذونك إلا هزواً أي مهزوءاً بك.
يذكر آلهتكم : أي يعيبها.
بذكر الرحمن هم كافرون : حيث أنكروا اسم الرحمن لله تعالى وقالوا: ما الرحمن؟
خلق الإنسان من عجل : حيث خلق الله آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة على عجل، فورث بنوه طبع العجلة عنه.
سأوريكم آياتي: أي سأريكم ما حملته آياتي من وعيد لكم بالعذاب في الدنيا والآخرة.

معنى الآيات:
كأنَّ المشركين قالوا شامتين إن محمداً سيموت، وقالوا نتربص به ريب المنون فأخبر تعالى أنه لم يجعل لبشر من قبل نبيّه ولا من بعده الخلد حتى يخلد هو صلى الله عليه وسلم كل نفس ذائقة الموت، ولكن إن مات رسوله فهل المشركون يخلدون والجواب لا، إذاً فلا وجه للشماتة بالموت لو كانوا يعقلون. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (34) {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مِّتَّ فهم1 الخالدون} وقوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت2} أي كل نفس منفوسة ذائقة مرارة الموت بمفارقة الروح للبدن، والحكمة في ذلك أن يتلقى العبد بعد الموت جزاء عمله خيراً كان أو شراً، دل عليه قوله بعد: {ونبلوكم بالشر والخير} من غِنى وفقر ومرض وصحة وشدة ورخاء {فتنة} أي لأجل فتنتكم أي اختباركم ليرى الصابر الشاكر والجزِع الكافر. وقوله تعالى: {وإلينا ترجعون} أي بعد الموت للحساب والجزاء على كسبكم خيره وشره.
وقوله تعالى: {وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزواً} يخبر تعالى رسوله بأن المشركين إذا رأوه ما يتخذونه إلا هزواً وذلك لجهلهم بمقامه وعدم معرفتهم فضله عليهم وهو حامل الهدى لهم، وبين وجه استهزائهم به صلى الله عليه وسلم بقوله : {أهذا الذي يذكر آلهتكم} أي بعيبها وانتقاصها، قال تعالى: {وهم بذكر الرحمن3 هم كافرون} أي عجباً لهم يتألمون لذكر ألهتم بسوء وهي محط السوء فعلاً، ولا يتألمون لكفرهم بالرحمن ربهم سبحانه وتعالى حتى إنهم أنكروا أن يكون اسم الرحمن اسماً لله تعالى وقالوا لا رحمن إلا رحمن اليمامة.
وقوله تعالى: {خلق الإنسان4 من عجل} قال تعالى هذا لما استعجل المشركون
__________
1 الاستفهام مقدّر أي: أفهم الخالدون؟ وهو للنفي والإنكار كقول الشاعر:
رفوني وقالوا يا خويلد لا تُرع
فقلت وأنكسرت الوجوه هم هم
أي: أهم؟ ومعنى رفوني سكّنوني يقال رفاه إذا سكنه.
2 يروى أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قد استشهد بالبيتين الآتيين:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت
فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى
تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد
3عجباً لجهلهم وسوء فهمهم يعيبون من جحد إلهية أصنامهم وهم يجحدون إلهية الرحمن إنّ هذا لغاية الجهل والغرور.
4 إنّ طبع الإنسان العجلة إنه يستعجل الأشياء وإن كان فيها مضرته، ولفظ الإنسان جائز أن لا يكون المراد به جنس الإنسان أو آدم عليه السلام قال سعيد بن جبير لما دخل الروح في عين آدم نظر في ثمار الجنة، فلما دخل جوفه اشتهى الطعام فوثب من قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، فذلك قوله تعالى {خلق الإنسان من عجل}.

العذاب وقالوا للرسول والمؤمنين: {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} فأخبر تعالى أن الاستعجال1 من طبع الإنسان الذي خلق عليه، وأخبرهم أنه سيريهم آياته فيهم بإنزال العذاب بهم وأراهم ذلك في بدر الكبرى وذلك في قوله {سأريكم آياتي فلا تستعجلون} أي. فلا داعي إلى الاستعجال وقوله تعالى {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} أخبر تعالى عن قيلهم للرسول والمؤمنين وهم يستعجلون العذاب: متى هذا الرعد إن كنتم صادقين؟ وهذا عائد إلى ما فطر عليه الإنسان من العجلة من جهة، وإلى جهلهم وكفرهم من جهة أخرى وإلاّ فالعاقل لا يطالب بالعذاب بل يطالب بالرحمة والخير، لا بالعذاب والشر.
هداية الآيات
هن هداية الآيات:
1- إبطال ما شاع من أن الخضر حيي مخلد لا يموت لنفيه تعالى ذلك عن كل البشر.
2- بيان العلة من وجود خير وشر في هذه الحياة الدنيا وهي الاختبار.
3 بيان ما كان عليه المشركون من الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم.
4- تقرير حقيقة أن الإنسان مطبوع على العجلة فلذا من غير طبعه بالتربية فأصبح ذا أناة وتؤدة كان من أكمل الناس وأشرفهم.
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَن ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون (41) قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ
__________
1 العجلة: السرعة، قيل: إن ضعف صفة الصبر في الإنسان من مقتضى التفكير في المحبة والكراهة، فإذ فكر في شيء محبوب استعجل حصوله، وإذا فكر في شيء مكروه استعجل إزالته، ومن هنا كان عجولا.

الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ (43)
شرح الكلمات:
لا يكفون: أي لا يمنعون ولا يدفعون النار عن وجوههم.
بل تأتيهم بغتة : أي تأتيهم القيامة بغتة أي فجأة.
فتبهتهم: أي تُحيرهم.
ولا هم ينظرون: أي يمهلون ليتوبوا.
وحاق بهم: أي نزل بهم العذاب الذي كانوا به يستهزئون.
من يكلؤكم: أي من يحفظكم ويحرسكم.
من الرحمن: أي من عذابه إن أراد إنزاله بكم.
بل هم عن ذكر ربهم معرضون: أي هم عن القرآن معرضون فلا يستمعون إليه ولا يفكرون فيه.
ولا هم منا يصحبون : أي لا يجدون من يجيرهم من عذابنا.
معنى الآيات:
يقول تعالى {لو1 يعلم الذين كفروا} المستعجلون بالعذاب المطالبون به حين أي الوقت الذي يُلقون فيه في جهنم والنار تأكل وجوههم وظهورهم، ولا يستطيعون أن يمنعوا أنفسهم منها ولا هم ينصرون بمن يدفع العذاب عنهم لو علموا هذا وأيقنوا به لما طالبوا بالعذاب ولا استعجلوا يومه وهو يوم القيامة، هذا ما دل عليه قوله تعالى: {لو يعلم الذين2 كفروا حين3 لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون} وقوله تعالى:
__________
1 جواب لو: محذوف تقديره: لما استعجلوا أي: لو عرف هؤلاء المستعجلون وقت لا تزول فيه النار عن وجوههم وعن ظهورهم لما استعجلوا العذاب.
2 جواب لو: محذوف كما تقدم آنفاً، والغرض من حذفه تحويل جنسه فتذهب نفس السامع كل مذهب. وجملة: {لو يعلمون ..} الخ مستأنفة استئنافاً بيانياً.
3 {حين} اسم زمان منصرف منصوب على المفعولية لا على الظرفية أي: لو علموا وقته وأيقنوا بحصوله لما كذّبوا به.

{بل تأتيهم1 بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون} أي أن القيامة لا تأتيهم على علم منهم بوقتها وساعتها فيمكنهم بذلك التوبة، وإنما تأتيهم {بغتة} أي فجأة {فتبهتهم} أي فتحيرهم {فلا يستطيعون ردها، ولا هم ينظرون} أي يمهلون ليتوبوا من الشرك والمعاصي فينجوا من عذاب النار، وقوله تعالى: {ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون} وهو العذاب هذا القول للرسول صلى الله عليه وسلم تعزية له وتسلية ليصبر على ما يلاقيه من استهزاء قريش به واستعجالهم العذاب، إذ حصل مثله للرسل قبله فصبروا حتى نزل العذاب بالمستهزئين بالرسل عليهم السلام. وقوله تعالى: {قل من2 يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن} يأمر تعالى رسوله أن يقول للمطالبين بالعذاب المستعجلين له: {من يكلؤكم بالليل والنهار} أي من يجيركم من الرحمن إن أراد أن يعذبكم، إنه لا أحد يقدر على ذلك إذاً فلم لا تتوبون إليه بالإيمان والتوحيد والطاعة له ولرسوله، وقوله: { بل هم عن ذكر ربهم معرضون} إن علة عدم استجابتهم للحق هي إعراضهم عن القرآن الكريم وتدبر آياته وتفهم معانيه. وقوله: {أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا} ينكر تعالى أن يكون للمشركين آلهة تمنعهم من عذاب الله متى نزل بهم ويقرر أن آلهتهم لا تستطيع نصرهم {ولا3 هم منا يصحبون} أي وليس هناك من يجيرهم من عذاب الله من آلهتهم ولا من غيرها فلا يقدر أحد على إجارتهم من عذاب الله متى حل بهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير أن الساعة لا تأتي إلا بغتة.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
3- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بما كان عليه الرسل من قبله وما لا قوه من أُممهم.
__________
1 {بل}: للإضراب الانتقالي من تهويل ما أعدّ لهم إلى التهديد بأن ذلك يحلّ بهم بغتة (أي فجأة).
2 يكلأكم: أي يحرسكم ويحفظكم إذ الكلاءة: الحفظ والحراسة يقال: كلاه الله كلاءة أي: حفظه وحرسه ومنه قول الشاعر:
إنّ سليمى والله يكلأها
ضنّت بشيء ما كان يرزؤها
والاستفهام في: من يكلأكم: للنفي.
3 فسر يصحبون بيمنعون، ويجارون قال الشاعر:
ينادي بأعلى صوته متعوذاً
ليصحب منها والرماح دواني

4- بيان عجز الهة المشركين عن نصرتهم بدفع العذاب عنهم متى حل بهم.
5- بيان أن علة إصرار المشركين على الشرك والكفر هو عدم إقبالهم على تدبر القرآن الكريم وتفكرهم في آياته وما تحمله من هدى ونور.
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ (45) وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47 )
شرح الكلمات:
متعنا هؤلاء وآباءهم : أي بما أنعمنا عليهم من الخيرات.
حتى طال عليهم العمر : فانغرُّوا بذلك.
ننقصها من أطرافها : أي بالفتح على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين.
إنما أنذركم بالوحي: أي بأخبار الله تعالى التي يوحيها إلى وليس هناك شيء من عندي.
نفحة : أي وقعة من عذاب خفيفة.
يا ويلنا إنا كنا ظالمين : أي يقولون يا ويلنا أي يا هلاكنا.
إنا كنا ظالمين : أي بالشرك والتكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم.

الموازين القسط: أي العادلة.
فلا تظلم نفس شيئاً: لا حسنة ولا بزيادة معصية.
مثقال حبة : أي زنة حبة من خردل.
وكفى بنا حاسبين: أي محصين لكل شيء.
معنى الآيات:
مازال السياق في إبطال دعاوي المشركين فقال تعالى : {بل متعنا1 هؤلاء} بما أنعمنا عليهم هم وآباؤهم فظنوا أن آلهتهم هي الحافظة لهم بل الله هو الحافظ حتى طال عليهم العمر2 فانغروا بذلك . {أفلا يرون أنا نأتي الأرض} أرض الجزيرة بلادهم {ننقصها من أطرافها} بدخول أهلها في الإسلام بلداً بعد بلد. {أفهم3 الغالبون}؟ الله هو الغالب حيث مكن لرسوله والمؤمنين وفتح عليهم، ثم أمر رسوله أن يقول لهم أيها المكذبون إنما أنذركم العذاب وأخوفكم من عاقبة شرككم بالوحي الإلهي لا من تلقاء نفسي، وقوله تعالي: {ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون } فالصم لحبهم الباطل الذي هم عليه لا يسمعون الدعاء إذا ما ينذرون وفي الخبر حبك الشيء يعمي ويصم فحبهم للشرك وآلهته جعلهم لا يسمعون فاستوى إنذارهم وعدمه وقوله تعالى: {ولئن4 مَسَّتهُمْ نفحة من عذاب ربك} أي وقعة خفيفة من العذاب لصاحوا يدعون بالويل على أنفسهم قائلين {يا ويلنا إنا كنا ظالمين5} فكيف بهم إذا وضعت الموازين العدل ليوم القيامة حيث لا تظلم نفسر شيئاً وإن قل وإن كان مثقال حبة من حسنة أو سيئة آتينا بها ووزناها {وكفى بنا حاسبين6} أي محصين لأعمال العباد لعلمنا المحيط بكل شيء وقدرتنا التي لا يعجزها شيء.. ألا فلنتق الله أيها العقلاء!!
__________
1 قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد أهل مكة. أي: بسطنا لهم ولآبائهم نعيمها.
2 {طال عليهم العمر} أي: في النعمة فظنوا أنها لا تزول عنهم؟ فانغروا وأعرضوا عن تدبرّ حجج الله عز وجل.
3 المس: اتصال بظاهر الجسم، والنفحة: المرّة من النفح في العطية، يقال: نفحه بشيء إذا أعطاه. وما في التفسير مغن عن هذا.
4 هذا اعتراف منهم في حين لا ينفع الاعتراف.
5 قيل: يجوز أن يكون لكل عامل ميزان خاص به فتكثر الموازين كما قال الشاعر:
ملك تقوم الحادثات لعدله
فلكل حادثة لها ميزان
6 ضمير الجمع في {حاسبين}: مراعى فيه ضمير العظمة، وهو منصوب على الحال أو التمييز لكفى.

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- طول العمر والرزق الواسع كثيراً ما يُسبب الغرور لصاحبه.
2- حب الشيء يعمي صاحبه حتى لا يرى إلا ما أحبه ويصمه بحيث لا يسمع إلا ما أحبه.
3- بيان ضعف الإنسان وأن أدنى عذاب ينزل به لا يتحمله ويصرخ داعياً يا هلاكاه.
4- تقرير البعث والحساب والجزاء.
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (50)
شرح الكلمات:
الفرقان : التوراة لأنها فارقة بين الحق والباطل كالقرآن.
وضياء : أي يهدي إلى الحق في العقائد والشرائع.
وذكراً : أي موعظة.
يخشون ربهم بالغيب: أي يخافون ربهم وهم لا يرونه في الدنيا فلا يعصونه بترك واجب ولا بفعل حرام.
وهم من الساعة مشفقون: أي وهم من أهوال يوم القيامة وعذابه خائفون.
وهذا ذكر مبارك : أي القرآن الكريم تنال بركته قارئه والعامل به.
أفأنتم له منكرون: الاستفهام للتوبيخ يوبخ تعالى من أنكر أن القرآن كتاب الله.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أنه آتى موسى وهارون الفرقان1 أي الحق الذي فرق بين حق موسى وهارون
__________
1 وفسر الفرقان بالتوراة أيضاً وهو حق أيضاً وجائز أن يكون النصر، إذ معنى الفرقان: أنه ما يفرّق به بين الحق والباطل بالقول أو العمل.

وبين باطل فرعون، كما فرق بين التوحيد والشرك يوم بدر يوم الفرقان وآتاهما التوراة ضياء يستضاء بها في معرفة الحلال والحرام والشرائع والأحكام وذكراً أي موعظة للمتقين، ووصف المتقين بصفتين: الأولى أنهم يخشون ربهم أي يخافونه بالغيب1 أي وهم لا يرونه والثانية: أنهم مشفقون2 من الساعة أي مما يقع فيها من أهوال وعذاب وقوله تعالى: {وهذا ذكر مبارك} يشير إلى القرآن الكريم ويصفه بالبركة فبركته لا ترفع فكل من قرأه وعمل بما فيه نالته بركته قراءة الحرف الواحد منه بعشر حسنات لا تنقضى عجائبه ولا تكتنه أسراره ولا تكتشف كل حقائقه، هدى لمن استهدى، وشفاء لمن استشفى وقوله تعالى: {أفأنتم له منكرون3} يوبخ به العرب الذين آمنوا بكتاب اليهود إذ كانوا يسألونهم عما في كتابهم، وكفروا بالقرآن الذي هو كتابهم فيه ذكرهم وشرفهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إظهار منة الله تعالى على موسى وقومه ومحمد وأمته بإنزال التوراة على موسى والقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم.
2 بيان صفات المتقين وهم الذين يخشون ربهم بالغيب فلا يعصونه بترك واجب ولا بفعل محرم: وهم دائماً في اشفاق وخوف من يوم القيامة.
3- الإشادة بالقرآن الكريم حيث أنزله تعالى مباركاً.
4- توبيخ وتقريع من يكفر بالقرآن وينكر ما فيه من الهدى والنور.
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)
__________
1 قال القرطبي : {بالغيب} أي: غائبين لأنهم لم يروا الله تعالى بل عرفوا بالنظر والاستدلال أنّ لهم ربَّا قادراً يجازي على الأعمال فهم يخشونه في سرائرهم وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس، والباء في : {بالغيب} بمعنى الفاء أي : يخشونه تعالى في الغيب.
2 الإشفاق: هو رجاء حادث مخوف.
3 الاستفهام للتعجب والتوبيخ.

قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
شرح الكلمات:
رشده: أي هداه بمعرفة ربّه والإيمان به ووجوب ط3اعته والتقرب إليه.
التماثيل : جمع تمثال وهو الصورة المصنوعة على شبه إنسان أو حيوان.
التي أنتم لها عاكفون : أي مقبلون عليها ملازمون لها تعبداً.
أم أنت من اللاعبين : أي الهازلين غير الجادين فيما يقولون أو يفعلون.
ربكم رب السموات: أي المستحق للعبادة مالك السموات والأرض.
الذي فطرهن: أي أنشأهن خلقاً وإيجاداً على غير مثال سابق.
لأكيدن أصنامكم: أي لأحتالن على كسر أصنامكم وتحطيمها.
جذاذاً: فتاتاً وقطعاً صغيرة.
إلا كبيراً لهم: إلا أكبر صنم لهم فإنه لم يكسره.
لعلهم إليه يرجعون : كي يرجعوا إليه فيؤمنوا بالله ويوحّدوه بعد أن يظهر لهم عجز آلهتهم.
معنى الآيات:
على ذكر ما منّ به تعالى على موسى وهارون ومحمد صلى الله عليه وسلم من إيتائه إياهم التوراة والقرآن ذكر أنه امتن قبل ذلك على إبراهيم فآتاه رشده في صباه فعرفه به وبجلاله وكماله ووجوب

الإيمان به تعالى وعبادته وحده، وإن عبادة من سواه باطلة، فقال تعالى: {ولقد آتينا إبراهيم رشده من1 قبل} وقوله: {وكنا به عالمين2} أي بأهليته للدعوة والقيام بها لما علمناه {إذ قال} أي في الوقت الذي قال لأبيه أي آزر، وقومه منكراً عليهم عبادة غير الله {ما هذه3 التماثيل التي أنتم لها عاكفون} أي مقبلون عليها ملازمون لها فأجابوه بما أخبر تعالى به عنهم في قوله: {قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين} فأعلنوا عن جهلهم إذ لم يذكروا برهاناً على صحة أو فائدة عبادتها واكتفوا بالتقليد الأعمى وشأنهم في هذا شأن سائر من يعبد غير الله تعالى فإنه لا برهان له على صحة عبادة من يعبد إلا التقليد لمن رآه يعبده.
فرد عليهم إبراهيم بما أخبر تعالى عنه في قوله {قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم} أي الذين قلدتموهم في عبادة الأصنام {في ضلال} أي عن الهدى الذي يجب أن تكونوا عليه {مبين} لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه، وردوا على إبراهيم قوله هذا فقالوا بما أخبر تعالى به عنهم {قالوا أجئتنا بالحق4} أي فيما قلت لنا من أنَّا وآباءنا في ضلال مبين {أم أنت من اللاعبين} أي في قولك الذي قلت لنا فلم تكن جاداً فيما تقول وإنما أنت لاعب لا غير ورد إبراهيم عليهم بما أخبر تعالى به عنه في قوله: {قال بل5 ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين} أي ليس ربكم تلك التماثيل بل ربكم الحق الذي يستحق عبادتكم الذي فطر السموات والأرض فأنشأهن خلقاً عجيباً من غير مثال سابق وأنا على كون ربكم رب السموات والأرض من الشاهدين إذ لا رب لكم غيره، ولا إله حق لكم سواه. {وتالله} قسماً به تعالى {لأكيدن أصنامكم} أي لأحتالن6 عليها فأكسرها {بعد أن تولوا مدبرين7} أي بعد أن ترجعوا عنها وتتركوها وحدها.
__________
1 جائز أن يكون من قبل موسى وهارون وجائز أن يكون من قبل النبوة والوحي إليه والرشد: الصلاح.
2 أي: باهليته لإيتاء الرشد وصالح للنبوة، وجائز أن يكون عالمين به في الوقت الذي قال لأبيه وقومه: {ما هذه التماثيل} والظرف متعلق باذكر.
3 ظاهر السؤال أنه سؤال استعلام فلذا أجابوه بحسبه فقالوا: {وجدنا آباءنا لها عابدين}، وضمّن (عاكفون) معنى العبادة فعُدّي باللام.
4 الاستفهام للاستعلام أي: جئتنا بالحق في اعتقادك أم أنت مازح فيما تقول؟
5 أي: لست بلاعب ولا مازح {بل ربكم ربّ السموات ..} الخ.
6 أقسم لهم بالله على أنه لم يكتف بالمحاجة باللسان وإنما سيكيد أصنامهم فيكسرها وذلك لوثوقه بربه تعالى، ولتوطينه نفسه على مقاساة المكروه في الذبّ عن دين الله والتاء في تالله تختص بالقسم بالله وحده، والواو تختص بكل اسم ظاهر والباء بكل مضمر ومظهر.
7 { مدبرين} حال مؤكدة لعاملها.

وفعلاً لما خرجوا إلى عيد لهم يقضون يوماً خارج المدينة أتى تلك التماثيل فكسرها فجعلها قطعاً متناثرة هنا وهناك إلا صنماً كبيراً لهم تركه1 {لعلهم إليه يرجعون} أي يرجعون إلى إبراهيم فيعبدون معه ربّه سبحانه وتعالى عندما يتبيّن لهم بطلان عبادة الأصنام لأنها لم تستطع أن تدفع عن نفسها فكيف تدفع عن غيرها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مظاهر إنعام الله وإكرامه لمن أصطفى من عباده.
2- تقرير النبوة والتوحيد، والتنديد بالشرك والمشركين.
3- ذم التقليد وأنه ليس بدليل ولا برهان للمقلد على ما يعتقد أو يفعل.
4- مشروعية الشهادة وفضلها في مواطن تعز فيها ويحتاج إليها.
5- تغيير المنكر باليد لمن قدر عليه مقدم على تغييره باللسان والجمع بينهما أفضل.
قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ (65)
شرح الكلمات:
بآلهتنا : أي بأصنامهم التي سموها آلهة لأنهم يعبدونها ويؤلهونها.
__________
1 تركه لم يكسره وعلّق الفأس في عنقه. وقوله: {لعلهم إليه يرجعون} : جائز أن يكون المراد بالرجوع إلى الصنم في تكسيرها، وما في التفسير أولى وأصوب.

فتى يذكرهم : أي بالعيب والانتقاص.
على أعين الناس : أي ظاهراً يرونه بأعينهم.
يشهدون : أي عليه بأنه الذي كسر الآلهة، ويشهدون العقوبة التي ننزلها به.
أأنت فعلت هذا: هذه صيغة الاستنطاق والاستجواب.
بل فعله كبيرهم هذا : أشار إلى إصبعه نحو الصنم الكبير الذي علق به الفأس قائلاً بل فعله كبيرهم هذا وَوَرَّى بإصبعه تحاشيا للكذب.
يرجعوا إلى أنفسهم: أي بعد التفكر والتأمل حكموا على أنفسهم بالظلم لعبادتهم مالا ينطق.
نكسوا على رؤوسهم : أي بعد اعترافهم بالحق رجعوا إلى إقرار الباطل فكانوا كمن نكس فجعل رأسه أسفل ورجلاه أعلى.
ما هؤلاء ينطقون: فكيف تطلب منا أن نسألهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم فيما دار بين إبراهيم الخليل وقومه من حوار حول العقيدة انه لما استغل إبراهيم فرصة خروج القوم إلى عيدهم خارج البلد ودخل البهو فكسر الآلهة فجعلها قطعاً متناثرة وعلق الفأس بكبير الآلهة المزعومة وعظيمها وخرج فلما جاء المساء وعادوا إلى البلد ذهبوا إلى الآلهة المزعومة لأخذ الطعام الموضوع بين يديها لتباركه في زعمهم واعتقادهم الباطل وجدوها مهشمة مكسرة صاحوا قائلين: {من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين} فأجاب بعضهم بعضاً قائلاً: {سمعنا1 فتى يذكرهم} أي شاباً يذكر الآلهة بعيب وازدراء، واسمه إبراهيم، وهنا قالوا إذاً {فأتوا به على أعين2 الناس} لنشاهده ونحقق معه فإذا ثبت أنه هو عاقبناه وتشهد الناس عقوبته فيكون ذلك نكالاً لغيره، وجاءوا به عليه السلام وأخذوا في استنطاقه فقالوا ما أخبر تعالى به عنهم: {أأنت فعلت هذا}
__________
1 جائز أن يكون إبراهيم لما قال: متوعداً أصنامهم {تالله لأكيدن أصنامكن} كان هناك من سمعه من ضعفة القوم أو سمعه من سمعه يعيب الآلهة قبل أن يتوعدها بالكسر.
2 في هذا دليل على أنه كان لا يؤاخذ أحد بدعوى أحد قد لا تثبت بل لابد من التحري حتى تثبت أو لا تثبت كما هو في شرعنا الإسلامي.

أي التكسير والتحطيم {يا إبراهيم}؟ فأجابهم بما أخبر تعالى به عنه بقوله: {قال بل فعله1 كبيرهم هذا} يشير بإصبعه إلى كبير الآلهة تورية، {فاسألوهم إن كانوا ينطقون} تقريعاً لهم وتوبيخاً وهنا رجعوا إلى أنفسهم باللائمة فقالوا: {إنكم أنتم الظالمون} أي حيث تألهون مالا ينطق ولا يجيب ولا يدفع عن نفسه فكيف عن غيره، وقوله تعالى: {ثم نكسو على رؤوسهم2} أي قلبهم الله رأساً على عقب فبعد أن عرفوا الحق ولاموا على أنفسهم عادوا إلى الجدال بالباطل فقالوا: {لقد علمت} أي يا إبراهيم ما {هؤلاء ينطقون } فكيف تطلب منا أن نسألهم وأنت تعلم أنهم لا ينطقون. كما أن اعترافهم بعدم نطق الآلهة المدعاة إنتكاس منهم إذ اعترفوا ببطلان تلك الآلهة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الظلم معروف لدى البشر كلهم ومنكر بينهم ولولا ظلمة النفوس لما أقروه بينهم.
2- إقامة البينة على الدعاوي أمر مقرر في عرف الناس وجاءت به الشرائع من قبل.
3- أسلوب المحاكمة يعتمد على الاستنطاق والاستجواب أولا.
4- مشروعية التورية خشية القول بالكذب3.
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ
__________
1 قوله: {بل فعله كبيرهم هذا} قاله من أجل أن يقولوا: إنهم لا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرّون فيقول لهم: فلم تعبدونهم إذاً؟! فتقوم له الحجة عليهم من أنفسهم ولذا يجوز فرض الباطل مع الخصم حتى يرجع إلى الحق من ذات نفسه فإنه أقطع للشبهة وأقرب في الحجة.
2 قال ابن عباس رضي الله عنهما: أدركهم الشقاء فعادوا إلى كفرهم.
3 الكذب: هو الإخبار بما يخالف الواقع، والتورية: أن يقول أو يفعل شيئاً ويوري بغيره تجنباً للكذب، وفي الحديث الصحيح: "لم يكذب إبراهيم النبي في شيء قط إلا في ثلاث: قوله: إني سقيم، وقوله لسارة: أختي، وقوله: بل فعله كبيرهم" وهي في الواقع معاريض وليست بالكذب الصريح، وكانت في ذات الله تعالى.

فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
شرح الكلمات:
مالا ينفعكم شيئاً: أي آلهة لا تنفعكم شيئاً ولا تضركم إن أرادت ضركم.
أفٍ لكم: أي قبحاً لكم ولما تعبدون من دون الله.
قالوا: حرقوه: أي أحرقوه بالنار انتصاراً لألهتكم التي كسرها.
برداً وسلاماً: أي على إبراهيم فكانت كذلك فلم يحرق منه غير وثاقه "الحبل الذي وثق به".
كيداً: وهو تحريقه بالنار للتخلص منه.
فجعلناهم الأخسرين: حيث خرج من النار ولم تحرقه ونجا من قبضتهم وذهب كيدهم ولم يحصلوا على شيء.
ونجيناه ولوطاً: أي ابن أخيه هارون.
التي باركنا فيها: وهي أرض الشام.
ويعقوب نافلة: زيادة على طلبه الولد فطلب ولداً فأعطاه ما طلب وزاده آخر.
وكلاً جعلنا صالحين : أي وجعلنا كل واحد منهم صالحاً من الصالحين الذين يؤدون حقوق الله كاملة وحقوق الناس كذلك.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أن إبراهيم عليه السلام قال لقومه منكراً عليهم عبادة ألهتهم {أفتعبدون1
__________
1 الاستفهام للإنكار والتوبيخ والتقريع.

من دون الله مالا ينفعكم شيئاً ولا يضركم} أي أتعبدون آلهة دون الله علمتم أنها لا تنفعكم شيئاً ولا تضركم ولا تنطق إذا استنطقت ولا تجيب إذا سئلت {أُفٍ لكم ولما تعبدون من دون الله} أي قبحاً لكم ولتلك التماثيل التي تعبدون من دون الله الخالق الرازق الضار النافع {أفلا تعقلون1} قبح عبادتها وباطل تأليهها وير جماد لا تسمع ولا تنطق ولا تنفع ولا تضر وهنا أجابوا2 بما أخبر تعالى به عنهم فقالوا: {حرقوه3} أي أحرقوا إبراهيم بالنار {وانصروا آلهتكم} التي أهانها وكسرها {إن كنتم فاعلين} أي مريدين نصرتها حقاً وصدقاً. ونفذوا ما أجمعوا عليه وجمعوا الحطب وأججوا النار في بنيان خاص وألقوه فيه بواسطة منجنيق لقوة لهبها وشدة حرها4 وقال تعالى للنار ما أخبر به في قوله: {قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} فكانت كما طلب منها ولم تحرق غير وثاقه الحبل الذي شدت به يداه، ورجلاه ولو لم يقل وسلاماً لكان من الجائز أن تنقلب النار جبلاً من ثلج ويهلك به إبراهيم عليه السلام. روى أن والد إبراهيم لما رأى إبراهيم لم تحرقه النار وهو يتفصد عرقاً قال: نعم الرب ربك يا إبراهيم! وقوله تعالى: {وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين} أي أرادوا بإبراهيم مكراً وهو إحراقه بالنار فخيَّب الله مسعاهم وأنجى عبده وخليله من النار وأحبط عليهم ما كانوا يأملون فخسروا في كل أعمالهم التي أرادوا بها إهلاك إبراهيم، وقوله تعالى: {ونجيناه ولوطاً}5 أي ونجينا إبراهيم وابن أخيه هاران وهو لوط {إلى الأرض التي باركنا6 فيها للعالمين} وهي أرض الشام فنزل إبراهيم
__________
1 الاستفهام للتوبيخ والتأنيب.
2 بعد إن أعيتهم الحجة وانقطعوا ببيان اللسان لاذوا إلى قوة السنان، وهذا شأن الإنسان إذا كتب عليه الخسران، والعياذ بالرحمن.
3 روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ومجاهد وابن جريج: أنّ الذي قال حرّقوه: رجل من الأكراد من بادية فارس واسمه هيزرُ وخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة: وقيل: إن القائل: ملكهم نمرود. والله أعلم.
4 روي أنهم جمعوا الحطب في مدة شهر كامل ولما ألقوه في النار عرض له جبريل عليه السلام فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ فقال: أمّا إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل. وقال عليّ وابن عباس رضي الله عنهم لو لم يتبع بردها سلاماً لمات إبراهيم من بردها ولم تبق دابة في المنطقة إلاّ أطفأت عن إبراهيم النار إلاّ الوزغ فإنها كانت تنفخ عليه فلذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتلها وسمّاها الفويسقة.
5 هذه النجاة ثانية. الأولى كانت من النار وهذه من ديار الكفار، إذ هاجر من أرض الكلدانيين إلى أرض فلسطين، وهي بلاد الكنعانيين يومئذٍ، وهجرة إبراهيم هذه أول هجرة في تاريخ الإسلام، إذ خرج إبراهيم وابن أخيه لوط بن هاران وزوجه وابنة عمه سارة عليهم السلام، ونصب لوط على المفعول معه، وضمّن فعل نجيناه معنى الإخراج فعدي بإلى.
6 قيل لها مباركة لكثرة خصبها وأنهارها وثمارها ولأنها معادن الأنبياء والبركة ثبوت الخير، ومنه برك البعير. إذا لزم مكانه ولم يبرحه.

بفلسطين ونزل لوط بالمؤتفكة وهي قرى قوم لوط التي بعد دمارها استحالت إلى بحيرة غير صالحة للحياة فيها وقوله: {باركنا فيها للعالمين} أي بارك في أرزاقها بكثرة الأشجار والأنهار والثمار لكل من ينزل بها من الناس كافرهم ومؤمنهم لقوله: { للعالمين} وقوله تعالى: {ووهبنا له} أي لإبراهيم اسحق حيث سأل الله تعالى الولد، وزاده يعقوب نافلة1 وقوله: {وكلا جعلنا صالحين} أي وجعلنا كل واحد منهم من الصالحين الذين يعبدون الله بما شرع لهم فأدوا حقوق الربَّ تعالى كاملة، وأدوا حقوق الناس كاملة وهذا نهاية الصلاح.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان قوة حجة إبراهيم عليه السلام، ومتانة أسلوبه في دعوته2 وذلك مما آتاه ربّه.
2- مشروعية توبيخ أهل الباطل وتأنيبهم.
3- آية إبطال مفعول النار فلم تحرق إبراهيم إلا وثاقه لما أراد الله تعالى ذلك.
4- قوة التوكل على الله كانت سبب تلك المعجزة إذ قال إبراهيم حسبي الله ونعم الوكيل.
فقال الله تعالى للنار: {كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} فكانت، وكفاه ما أهمه بصدق توكله عليه، ويؤثر أن جبريل عرض له قبل أن يقع في النار فقال هل لك يا إبراهيم من حاجة؟ فقال إبراهيم: أمّا إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل.
5- تقرير التوحيد والتنديد بالشرك والمشركين.
6- خروج إبراهيم من أرض العراق إلى أرض الشام كانت أول هجرة في سبيل الله في التاريخ.
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ
__________
1 نافلة: منصوب على الحال وصاحبها: اسحق ويعقوب والنافلة الزيادة غير الموعودة.
2 قال تعالى : {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} من سورة الأنعام.

الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
شرح الكلمات:
أئمة: أي يقتدى بهم في الخير.
يهدون بأمرنا: أي يرشدون الناس ويعلمونهم ما به كمالهم ونجاتهم وسعادتهم بإذن الله تعالى لهم بذلك حيث جعلهم رسلاً مبلغين.
وكانوا لنا عابدين: أي خاشعين مطيعين قائمين بأمرنا.
ولوطاً آتيناه حكماً وعلماً : أي أعطينا لوطاً حكماً أي فصلا بين الخصوم وفقهاً في الدين وكل هذا يدخل تحت النبوة والرسالة وقد نبأه وأرسله.
تعمل الخبائث: كاللواط وغيره من المفاسد.
فاسقين: أي عصاة متمردين عن الشرع تاركين للعمل به.
ونوحاً إذ نادى من قبل : أي واذكر نوحاً إذ دعا ربّه على قومه الكفرة.
من الكرب العظيم: أي من الغرق الناتج عن الطوفان الذي عم سطح الأرض.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر أفضال الله تعالى على إبراهيم وولده فقال تعالى: {وجعلناهم} أي إبراهيم واسحق ويعقوب أئمة هداة يقتدى بهم في الخير ويهدون الناس إلى

دين الله تعالى الحق بتكليف الله تعالى لهم بذلك حيث نبأهم وأرسلهم. وهو معنى قوله تعالى: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا}1 وقوله: {وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} أي أوحينا إليهم بأن يفعلوا الخيرات جمع خير وهو كل نافع غير ضار فيه مرضاة لله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة. وقوله تعالى: {وكانوا لنا عابدين} أي امتثلوا أمرنا فيما أمرناهم به وكانوا لنا مطعين خاشعين وهو ثناء عليهم بأجمل الصفات وأحسن الأحوال وقوله تعالى: {ولوطاً آتيناه2 حكماً وعلماً ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث3 إنهم كانوا قوم سوء فاسقين} أي وكما آتينا إبراهيم وولديه ما آتيناهم من الإفضال والإنعام الذي جاء ذكره في هذا السياق آتينا لوطاً وقد خرج مهاجراً مع عمه إبراهيم آتيناه أيضاً حكماً وعلماً ونبوة ورسالة متضمنة حسن الحكم والقضاء وأسرار الشرع والفقه في الدين، هذه منّة وأخرى أنّا نجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث وأهلكنا أهلها لأنهم كانوا قوم سوء لا يصدر عنهم إلا ما يسوء إلى الخلق فاسقين عن أمرنا خارجين عن طاعتنا، وقوله: {وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين} وهذا إنعام آخر أعظم وهو إدخاله في سلك المرحومين برحمة الله الخاصة لأنه من عباد الله الصالحين.
وقوله تعالى: {ونوحاً} أي واذكر يا رسولنا في سلك هؤلاء الصالحين عبدنا ورسولنا نوحاً الوقت الذي نادى ربه من قبل إبراهيم4 فقال إني مغلوبٌ فانتصر، {فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب5 العظيم} حيث نجاه تعالى وأهله إلا امرأته وولده كنعان فإنهما لم يكونا من أهله لكفرهما وظلمهما فكانا من المغرقين. وقوله: {ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا} أي ونصرناه بإنجائنا له منهم فلم يمسوه بسوء، وأغرقناهم أجمعين لأنهم كانوا قوم سوء فاسقين ظالمين6.
__________
1 وجائز أن يكون معنى {بأمرنا}: أي: بما أنزلنا عليهم بوحينا من الأمر والنهي كأنه قال: بكتابنا وما بيّنا فيه من التشريع المحقق للآخذين به سعادة الدنيا والآخرة والأئمة جمع إمام وهو الرئيس الذي يقتدى به في الخير لا في الشر.
2 {ولوطاً}: منصوب على الاشتغال أي: وآتينا لوطا آتيناه. والحكم: الحكمة وهو النبوة والعلم علم الشريعة.
3 الخبائث: جمع خبيثة وهي الفعلة الشنيعة، ومن خبائثهم: اللواط، والتضارط في الأندية وحذف الحصى، والتحريش بين الديك والكلاب. والقرية هي سدوم وعمورة، وما حولهما إذ كانت سبع مدن قلب جبريل منها ستة وأبقى واحدة للوط وعياله وهي: زغر من كورة فلسطين.
4 من قبل إبراهيم ولوط عليهما السلام.
5 الكرب: هو الغّم الشديد وهو هنا: الطرفان.
6 السوء: بفتح السين مصدر: القبيح المكروه من القول والفعل وبضم السين اسم مصدر وهو أعم من السوء بفتح السين.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضل الدعوة إلى الله تعالى وشرف القائمين بها.
2- فضل إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وفعل الخيرات.
3- ثناء الله تعالى على أوليائه وصالحي عباده بعبادتهم، وخشوعهم له.
4- الخبث إذا كثر في الأمة استوجبت الهلاك والدمار.
5- التنديد بالفسق والتحذير من عواقبه فإنها مدمرة والعياذ بالله.
6- تقرير النبوة المحمدية وتأكيدها إذ مثل هذا القصص لا يتأتى إلا لمن يوحى إليه.
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ(81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
شرح الكلمات:
في الحرث : أي في الكرم الذي رعته الماشية ليلا.
نفشت فيه1 : أي رعته ليلاً بدون راع.
__________
1 النفش : الرعي ليلا والهمل: الرعي بالنهار.

شاهدين: أي حاضرين صدور حكمهم في القضية لا يخفى علينا شيء من ذلك.
ففهمناها: أي القضية التي جرى فيها الحكم.
وكلاً آتينا حكماً وعلماً: أي كلاً من داود وولده سليمان أعطيناه حكماً أي النبوة وعلماً بأحكام الله وفقهها.
يسبحن : أي معه إذا سبح.
وكنا فاعلين: أي لما هو أغرب وأعجب من تسبيح الجبال والطير فلا تعجبوا.
صنعة لبوس لكم : هي الدروع وهي من لباس الحرب.
لتحصنكم: أي تقيكم وتحفظكم من ضرب السيوف وطعن الرماح.
فهل أنتم شاكرون: أي اشكروا فالاستفهام معناه الأمر هنا.
إلى الأرض التي باركنا: أي أرض الشام.
يغوصون : أي في أعماق البحر لاستخراج الجواهر.
ويعملون عملاً دون ذلك : أي دون الغوص كالبناء وغيره وبعض الصناعات.
وكنا لهم حافظين: أي لأعمالهم حتى لا يفسدوها.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر إفضالات الله تعالى وإنعامه على من يشاء من عباده، وفي ذلك تقرير لنبوة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم التي كذبت بها قريش فقال تعالى: {وداود وسليمان} أي واذكر يا نبينا داود وسليمان {إذ يحكمان في الحرث} أي اذكرهما في الوقت الذي كانا يحكمان في الحرث الذي {نفشت فيه غنم القوم} أي رعت فيه ليلاً بدون راع فأكلته وأتلفته {وكنا لحكمهم شاهدين} حاضرين لا يخفى علينا ما حكم به كل منهما، إذ حكم داود بأن يأخذ صاحب الحرث الماشية مقابل ما أتلفته لأن المتلف يعادل قيمة الغنم التي أتلفته، وحكم سليمان بأن يأخذ صاحب الماشية الزرع يقوم عليه حتى يعود كما كان، ويأخذ صاحب الحرث الماشية يستغل صوفها ولبنها وسخالها فإذا

ردت إليه كرومه كما كانت أخذها ورد الماشية لصاحبها لم ينقص منها شيء هذا الحكم أخبر تعالى أنه فهم فيه سليمان وهو أعدل من الأول وهو قوله تعالى: {ففهمناها1} أي الحكومة أو القضية أو الفتيا سليمان، ولم يعاتب داود على حكمه، وقال: {وكلاً آتينا2 حكماً وعلماً} تلافياً لما قد يظن بعضهم أن داود دون ولده في العلم والحكم.
وقوله: {وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير} هذا ذكر لبعض ما أنعم به على داود عليه السلام وهو أنه سخر الجبال والطير تسبح معه إذا سبح سواء أمرها بذلك فأطاعته أو لم يأمرها فإنه إذا صلى وسبح صلت معه وسبحت، وقوله: {وكنا فاعلين} أي لما هو أعجب من تسخير الجبال والطير تسبح مع سليمان لأنا لا يعجزنا شيء وقد كتب هذا في كتاب المقادير فأخرجه في حينه، وقوله تعالى: {وعلمناه} أي داود {صنعة لبوس3 لكم} وهي الدورع السابغة التي تقي لابسها طعن الرماح وضرب السيوف بإذن الله تعالى فهي آلة حرب ولذا قال تعالى {لتحصنكم من بأسكم4} {فهل أنتم5 شاكرون؟ } أمر لعباده بالشكر على إنعامه عليهم والشكر يكون بحمد الله تعالى والاعتراف بإنعامه، وطاعته وصرف النعمة فيما من أجله أنعم بها على عبده، وقوله {ولسليمان} أي وسخرنا لسليمان {الريح عاصفة} شديدة السرعة {تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها} إذْ يخرج غازياً أول النهار وفي آخره تعود به الريح تحمل بساطه الذي هو كأكبر سفينة حربية اليوم إلى الأرض التي بارك الله وهي أرض الشام. وقوله: {وكنا بكل شيء عالمين} يخبر تعالى أنه كان وما زال عليماً بكل شيء ما ظهر للناس وما غاب عنهم فكل أحداث الكون تتم حسب علم الله وإذنه وتقديره وحكمته فلذا وجبت له الطاعة واستحق الألوهة والعبادة.
__________
1 يروى أن سليمان كان على باب المحكمة فإذا خرج الخصمان سألهما بم قضى بينكما نبي الله داود؟ فقال: قضى بالغنم لصاحب الحرث فقال: لعل الحكم غير هذا انصرفا معي فأتى أباه فقال: يا نبي الله إنك حكمت بكذا وكذا وإني رأيت ما هو أرفق بالجميع فقال وما هو؟ فقال: ينبغي أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث إلى آخر ما هو في التفسير.
2 اختلف هل كان حكمهما بوحي أو باجتهاد فإن كان بوحي فهو نسخ للحكم الأول بالثاني، وإن كان باجتهاد وهو ما عليه الجمهور، ولم يخطى داود ولكن الحكم الذي ألهمه سليمان كان أرفق بالطرفين.
3 هذا مع إلانة الحديد له فقال تعالى في سورة سبأ: {وألنا له الحديد أن اعمل سابغات} واللبوس في العربية: سلاح الحرب من سيف ورمح ودرع وغيرها واللبوس أيضاً: كل ما يلبس قال الشاعر:
إلبس لكل حالة لبوسها
إمّا نعيمها وإما بؤسها
4 قرأ حفص: {لتحصنكم} بالتاء أي: الدروع، وقرأ نافع {ليحصنكم}: أي: اللبوس وقرأ ورش لنُحصنكم بالنون، والإحصان: الوقاية والحماية وفي الآية دليل على وجوب الصناعة على الكفاية.
5 الاستفهام هنا للأمر بالشكر.

وقوله: {ومن الشياطين من يغوصون1 له} أي وسخرنا لسليمان من الشياطين من يغوصون له في أعماق البحار لاستخراج الجواهر، {ويعملون عملا دون ذلك} كالبناء وصنع التماثيل والمحاريب والجفان وغير ذلك. وقوله تعالى: {وكنا لهم حافظين} أي وكنا لأعمال أولئك العاملين من الجن حافظين لها عالمين بها حتى لا يفسدوها بعد عملها مكراً منهم أو خديعة فقد روى أنهم كانوا يعملون ثم يفسدون ما عملوه حتى لا ينتفع به. هذا كله من إنعام الله تعالى على داود وسليمان وغيره كثير فسبحان ذي الأنعام والافضال إله الحق ورب العالمين.
هداية الآيات:
من هداية الآلات:
1- وجوب نصب القضاة للحكم بين الناس.
2- بيان حكم الماشية ترعى في حرث الناس وإن كان شرعنا على خلاف شرع من سبقنا فالحكم عندنا إن رعت الماشية ليلاً قوم المتلف على صاحب الماشية ودفعه لصاحب الزرع، وإن رعت نهاراً فلا شيء لصاحب الزرع لأن عليه أن يحفظ زرعه من أن ترعى فيه مواشي الناس لحديث العجماء جبار وحديث ناقة البراء بن عازب.
3- فضل التسبيح.
4- وجوب صنع آلة الحرب وإعدادها للجهاد في سبيل الله.
5- وجوب شكر الله تعالى على كل نعمة تستجد للعبد.
6- بيان تسخير الله تعالى الجن لسليمان يعملون له أشياء.
7- تقرير نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم إذ من أرسل هؤلاء الرسل وأنعم عليهم بما أنعم لا يستنكر عليه إرسال محمد رسولاً وقد أرسل من قبله رسلاً.
8- كل ما يحدث في الكون من أحداث يحدث بعلم الله تعالى وتقديره ولحكمة تقضيه.
__________
1 الغوص: النزول تحت الماء، والغوّاص: الذي يغوص لاستخراج اللآليء وفعله يقال له: الغواصة على وزن حياكة (مهنة).

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ (86)
شرح الكلمات:
وأيوب: أي واذكر أيوب.
إذ نادى ربه: أي دعاه لما ابتلى بفقد ماله وولده ومرض جسده.
مسني الضر: هو ما ضر بجسمه أو ماله أو ولده.
وذكر ى للعابدين : أي عظة للعابدين، ليصبروا فيثابوا.
وأدخلناهم في رحمتنا: بأن نبأناهم فانخرطوا في سلك الأنبياء إنهم من الصالحين.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر إفضالات الله تعالى وإنعامه على من شاء من عباده الصالحين فقوله تعالى في الآية الأولى (83) {وأيوب} أي واذكر عبدنا في شكره وصبره وسرعة أَوْبِتَه، وقد ابتليناه بالعافية والمال والولد، فشكر وابتليناه بالمرض وذهاب المال والأهل والولد فصبر. أذكره {إذ نادى ربه} أي داعياً ضارعاً بعد بلوغ البلاء متتهاه ربّ

أي يا رب {إني مسني1 الضر وأنت أرحم الراحمين} {فاستجبنا له} دعاءه {فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله} من زوجة وولد {ومثلهم معهم} أي ضاعف له ما أخذه منه بالابتلاء بعد الصبر وأما المال فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أنزل عليه رَجْلاً من جَرَادٍ من ذهب فكان أيوب يحثو في ثوبه حثيثاً فقال له ربّه في ذلك فقال من ذا لذي يستغنى عن بركتك يا رب. وقوله تعالى: {رحمة من عندنا} أي رحمناه رحمة خاصة، وجعلنا قصته ذكرى وموعظة للعابدين لنا لما نبتليهم بالسراء والضراء فيشكرون ويصبرون ائتساء بعبدنا أيوب {إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب}2.
وقوله تعالى: {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل3} أي واذكر في عداد المصطفين من أهل الصبر والشكر إسماعيل بن إبراهيم الخليل، وإدريس وهو اخنوخ وذا الكفل {كل من الصابرين} على عبادتنا الشاكرين لنعمائنا، وأدخلناهم في رحمتنا فنبأنا منهم من نبأنا وأنعمنا عليهم وأكرمناهم بجوارنا إنهم من الصالحين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- علو مقام الصبر ومثله الشكر فالأول على البأساء والثاني على النعماء.
2- فضيلة الدعاء وهو باب الاستجابة وطريقها من ألهمه ألهم الاستجابة.
3- في سير الصالحين مواعظ وفي قصص الماضيين عبر.
4- من ابتلى بفقد مال أو أهل أو ولد فصبر كان له من الله الخلف وما يقال عند المصيبة "إنا لله وإنا إليه لراجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً مِنها".
__________
1 هل قول أيوب: {ربّ إني مسني الضرّ} يتنافى مع الصبر؟ والجواب: هذه المسألة ذكر القرطبي في تفسيره نحواً من ستة عشر قولاً، والصحيح أن هذا لا ينافي الصبر لأنه دعاء، والدليل هو قوله تعالى: {فاستجببنا له} ولم يكن شكوى لأنّ الاستجابة تأتي بعد الدعاء لا الاشتكاء، قال الجنيد: عرّفه فاقة السؤال ليمنّ عليه بكرم النوال.
2 اختلف في مدة مرضه، أصح ما قيل فيها أنها ثماني عشرة سنة وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
3 اختلف في ذي الكفل من هو؟ وأرجح الأقوال ما رواه أبو موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن ذا الكفل لم يكن نبيًّا ولكنه كان عبداً صالحاً فتكفل بعمل رجل صالح عند موته وكان يصلي لله كل يوم مائة صلاة فأحسن الله الثناء عليه".

وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (91 )
شرح الكلمات:
وذا النون : هو يونس بن متَّى عليه السلام وأُضيف إلى النون الذي هو الحوت في قوله تعالى {ولا تكن كصاحب الحوت} لأن حوتة كبيرة ابتعلته.
إذ ذهب مغاضباً: أي لربه تعالى حيث لم يرجع إلى قومه لما بلغه أن الله رفع عنهم العذاب.
فظن أن لن نقدر عليه: أي أن لن نحبسه ونضيق عليه في بطن الحوت من أجل مغاضبته.
في الظلمات : ظلمة الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل.
ونجيناه من الغم : أي الكرب الذي أصابه وهو في بطن الحوت.
لا تذرني فرداً: أي بلا ولد يرث عني النبوة والعلم والحكمة بقرينة ويرث

من آل يعقوب.
رغباً ورهباً: أي طمعاً فينا ورهباً منا أي خوفاً ورجاءاً.
أحصنت فرجها: أي صانته وحفظته من الفاحشة.
من روحنا: أي جبريل حيث نفخ في كم درعها عليها السلام.
آية للعالمين: أي علامة على قدرة الله تعالى ووجوب عبادته بذكره وشكره.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر افضال الله تعالى وإنعامه على من يشاء من عباده فقال تعالى: {وذا النون} أي واذكر ذا النون أي يونس بن متَّى {إذ ذهب مغاضباً1} لربه تعالى حيث لم يصبر على بقائه مع قومه يدعوهم إلى توحيد الله وعبادته وطاعته وطاعة رسوله فسأل لهم العذاب، ولما تابوا ورفع عنهم العذاب بتوبتهم وعلم بذلك فلم يرجع إليهم فكان هذا منه مغاضبة لربه تعالى وقوله تعالى عنه: {فظن أن لن نقدر عليه} أي ظن يونس عليه السلام أن الله تعالى لا يحبسه في بطن الحوت، لا يضيق عليه وهو حسن ظن منه في ربه سبحانه وتعالى؟ ولكن لمغاضبته ربه بعدم العودة إلى قومه بعد أن رفع عنهم العذاب أصابه ربّه تطهيراً له من أمر المخالفة الخفيفة بأن ألقاه في ظلمات ثلاث، ظلمة الحوت والبحر والليل ثم ألهمه الدعاء الذي به النجاة فكان يسبح في الظلمات الثلاث {لا إله إلاّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين2} فاستجاب الله تعالى له وهو معنى قوله: {وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلاّ أنت سبحانك إني3 كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم} الذي أصابه من وجوده في ظلمات محبوساً لا أنيس ولا طعام ولا شراب مع غم نفسه من جراء عدم عودته إلى قومه وقد أنجاهم الله من العذاب. وهو سبب المصيبة، وقوله تعالى:
__________
1 قيل: {مغاضباً لربه} أي: لأجل ربه تعالى حيث عصاه قومه فكان غضبه لله تعالى وهو تأويل حسن إذ يقال: فلان غضب لله. أي: لأجله. وجائز أن يكون مغاضباً لقومه إذ ردوا دعوته ولم يستجيبوا له.
2 {من الظالمين} حيث ترك مداومة قومه والصبر عليهم أو في الخروج من غير إذن له فنزّه ربّه عن الظلم ونسبه إلى نفسه اعترافاً واستحقاقاً.
3 روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "دعاء ذي النون في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلاّ استجيب له".

{وكذلك ننجي المؤمنين1} مما قد يحل بهم من البلاء وقوله تعالى: {وزكريا} أي اذكر يا رسولنا زكريا في الوقت الذي نادى ربه داعياً ضارعاً قائلاً: {ربّ} أي يا رب {لا تذرني فرداً} أي لا تتركني فرداً لا ولد لي يرثني في نبوتي وعلمي وحكمتي ويرث ذلك من آل يعقوب حتى لا تنقطع منهم النبوة والصلاح وقوله: {وأنت خير الوارثين} ذكر هذا اللفظ توسلاً به إلى ربه ليستجيب له دعاءه واستجاب له والحمد لله. فوهبه يحيى وأصلح له زوْجه بأن جعلها ولوداً بعد العقر حسنة الخلق والخُلق. وقوله تعالى: {إنهم كانوا يسارعون} أي زكريا ويحيى ووالدته كانوا يسارعون في الطاعات والقربات أي في فعلها والمبادرة إليها. وقوله: {ويدعوننا رغباً2 ورهباً3} هذا ثناء عليهم أيضاً إذ كانوا يدعون الله رغبة في رحمته ورهبة وخوفاً من عذابه وقوله: {وكانوا لنا خاشعين} أي مطيعين ذليلين متواضعين وهم يعبدون ربهم بأنواع العبادات.
وقوله تعالى: {والتي أحصنت فرجها4 فنفخنا فيها من روحنا5} أي واذكر يا نبينا تلك المؤمنة التي أحصنت فرجها أي منعته مما حرم الله تعالى عليها وهي مريم بننت عمران اذكرها في عداد من أنعمنا عليهم وأكرمناهم وفضلناهم على كثير من عبادنا الصالحين، حيث نفخنا فيها من روحنا إذ أمرنا جبريل روح القدس ينفخ في كم درعها فسرت النفخة إلى فرجها فحبلت وولدت في ساعة من نهار، وقوله تعالى: {وجعلناها وابنها} أي عيسى كلمة الله وروحه {آية} أي6 علامة كبرى على وجودنا وقدرتنا وعلمنا وحكمتنا وإنعامنا وواجب عبادتنا وتوحيدنا فيها حيث لا يعبد غيرنا {للعالمين} أي للناس أجمعين
__________
1 قرأ ابن عامر: {نجيّ} بنون واحدة وجيم مشدّدة وتسكين الياء على الماضي وإضمار المصدر أي: وكذلك نجيّ النجاء المؤمنين كما يقال: ضرب زيداً بمعنى: ضرب الضرب زيداً.
2 قيل: الرغب: الدعاء ببطون الأكف إلى السماء، والرهب: رفع ظهورهما. روى الترمذي عن عمر رضي الله عنهما. قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه " وروى الترمذي أيضاً عن أنس رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سألتم الله فأسالوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورهما وامسحوا بهما وجوهكم". وعن ابن عباس: إن رفع اليدين حذاء الصدر هو الدعاء ورفعهما حتى يجاوز بهما الرأس: فهو الابتهال.
3 {رغبا ورهبا} يصح نصبهما على المصدرية وعلى الحال، وعلى المفعول لأجله.
4 {أحصنت فرجها}: أي: عفّت فامتنعت عن الفاحشة، وقيل: إن المراد من فرجها فرج القميص: أي لم تعلق بثيابها ريبة أي: أنها طاهرة الأثواب وفروج القميص أربعة: الكمان والأعلى والأسفل، قال السهيلي: هذا من لطيف الكناية لأن القرآن ألطف إشارة وأنزه عبارة.
5 إضافة الروح إلى الله تعالى: إضافة تشريف كبيت الله، وقيل فيه: روح الله لأنه مبعوث من قبله سبحانه وتعالى.
6 آية اسم جنس فمريم آية، وعيسى عليه السلام آية.

يستدلون بها على ما ذكرنا آنفاً من وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته ووجوب عبادته وتوحيده فيها.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- فضيلة دعوة ذي النون: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} . إذ ورد أنه ما دعا بها مؤمن إلا استجيب له، وقوله تعالى: {وكذلك ننجي المؤمنين} يقوي هذا الخبر.
2- استحباب سؤال الولد لغرض صالح لا من أجل الزينة واللهو به فقط.
3- تقرير أن الزوجة الصالحة من حسنة الدنيا.
4- فضيلة المسارعة في الخيرات والدعاء برغبة ورهبة والخشوع في العبادات وخاصة في الصلاة والدعاء.
5- فضيلة العفة والاحصان للفرج.
6- كون مريم وابنها آية لأن مريم ولدت من غير فحل، ولأن عيسى كان كذلك وكلم الناس في المهد، وكان يحيى الموتى بإذن الله تعالى.
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ (96)

وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
شرح الكلمات:
إن هذه أمتكم: أي ملتكم وهي الإسلام ملة واحدة من عهد آدم إلى العهد المحمدي إذ دين الأنبياء واحد وهو عبادة الله تعالى وحده بما يشرع لهم.
وأنا ربكم فاعبدون : أنا إلهكم الحق حيث خلقتكم ورزقتكم فلا تنبغي العبادة إلا لي فاعبدون ولا تعبدوا معي غيري.
وتقطعوا أمرهم بينهم: أي وتفرقوا في دينهم فأصبح لكل فرقة دين كاليهودية والنصرانية والمجوسية والوثنيات وما أكثرها.
كل إلينا راجعون: أي كل فرقة من تلك الفرق التي قطعت الإسلام راجعة إلينا وسوف نجزيها بكسبها.
فلا كفران لسعيه : أي لا نكران ولا جحود لعمله بل سوف يجزى به وافياً.
وإنا له كاتبون : إذ الكرام الكاتبون يكتبون أعمال العباد خيرها وشرها.
وحرام : أي ممتنع رجوعهم إلى الدنيا.
يأجوج ومأجوج : قبيلتان موجودتان وراء سدهما الذي سيفتح عند قرب الساعة.
حدب: أي مرتفع من الأرض.
ينسلون : أي يسرعون المشي.
الوعد الحق : يوم القيامة.
في غفلة من هذا: أي من يوم القيامة وما فيه من أحداث.

معنى الآيات:
بعد ذكر أولئك الأنبياء وما أكرمهم الله تعالى به من افضالات وما كانوا عليه من كمالات قال تعالى مخاطباً الناس كلهم: {إن هذه أمتكم}1 أي ملتكم {أمة واحدة} أي ملة واحد من عهد أول الرسل إلى خاتمهم وهو الإسلام القائم على الإخلاص لله في العبادة والخلوص من الشرك وقوله تعالى: {وتقطعوا2 أمرهم بينهم} ينعي تعالى على الناس تقطعيهم الإسلام إلى ملل شتى كاليهودية والنصرانية وغيرهما، وتمزيقه إلى طوائف ونحل، وقوله: {وكل إلينا راجعون} إخبار منه تعالى أنهم راجعون إليه لا محالة بعد موتهم وسوف يجزيهم بما كانوا يكسبون ومن ذلك تقطيعهم للدين الإسلامي وتمزيقهم له فذهبت كل فرقة بقطعة منه. وقوله تعالى: {فمن3 يعمل من الصالحات} والحال أنه مؤمن، والمراد من الصالحات ما شرعه الله تعالى من عبادات قلبية وقولية وفعلية {فلا كفران لسعيه} أي لعمله فلا يجحد ولا ينكر بل يراه ويجزى به كاملاً. وقوله تعالى: {وإنا له كاتبون} يريد أن الملائكة تكتب أعماله الصالحة بأمرنا ونجزيه بها أيضاً أحسن جزاء وهذا وعد من الله تعالى لأهل الإيمان والعمل الصالح جعلنا الله منهم وحشرنا في زمرتهم.
وقوله تعالى: {وحرام4 على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون} يخبر تعالى أنه ممتنع امتناعاً كاملاً أن يهلك أمة بذنوبها في الدنيا ثم يردها إلى الحياة في الدنيا، وهذا بناء على أن {لا} مزيدة لتقوية الكلام ويحتمل الكلام معنى آخر وهي ممتنع على أهل قرية قضى الله تعالى بعذابهم في الدنيا أو في الآخرة أنهم يرجعون إلى الإيمان والطاعة بالتوبة الصادقة وذلك بعد أن كذبوا وعاندوا وظلموا وفسقوا فطبع على قلوبهم فهم لا يرجعون إلى التوبة بحال، ومعنى ثالث وهو حرام على أهل قرية أهلكهم الله بذنوبهم فأبادهم إنهم
__________
1 قرأ الجمهور: {إن هذه أمتكم} برفع أمتكم على الخبرية ونصب أمّة واحدة على الحال، والرصف. وقرأ بعض: {أمتكم أمةٌ واحدة} بالرفع فيهما.
2 تفرقوا في الدين واختلفوا فيه.
3 {من الصالحات} من للتبعيض إذ من غير الممكن أن يعمل العبد كل الصالحات ويأتي بكل الطاعات، وقوله {وهو مؤمن} وموحد أيضاً فإن الشرك محبط للعمل.
4 في حرام قراءات ووجوه منها: {حرام} وهي قراءة الجمهور وحِرم مثل حِل وحلال. وحرم كمرض، وحرُم كشرف، وحرّم: كضرب، وحرّم كبدّل، وحرم كعلم مشددة اللام وحَرم كفرح وحُرم كقفل تسع قراءات.

لا يرجعون إلى الله تعالى يوم القيامة بل يرجعون للحساب والجزاء فهذه المعاني كلها صحيحة، والمعنى الأخير لا تكلف فيه بكون {لا} صلة بل هي نافية ويرجح1 المعنى الأخير قوله تعالى: {حتى إذا فتحت يأجوج2 ومأجوج} فهو بيان لطريق رجوعهم إلى الله تعالى وذلك يوم القيامة وبدايته بظهور علاماته الكبرى ومنها انكسار سد يأجوج ومأجوج وتدفقهم في الأرض يخربون ويدمرون {وهم من كل حدب3} وصوب {ينسلون} مسرعين. وقوله تعالى: { واقترب4 الوعد الحق} وهو يوم الدين والحساب والجزاء وقوله: {فإذا هي شاخصة5 أبصار الذين كفروا} وذلك بعد قيامهم من قبورهم وحشرهم إلى أرض المحشر وهم يقولون في تأسف وتحسر {يا ويلنا} أي يا هلاكنا {قد كنا في غفلة} أي في دار الدنيا {بل كنا ظالمين} فاعترفوا بذنبهم حيث لا ينفعهم الاعتراف إذ لا توبة تقبل يومئذ.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وحدة الدين وكون الإسلام هو دين البشرية كافة لأنه قائم على أساس توحيد الله تعالى في عبادته التي شرعها ليعبد بها.
2- بيان ما حدث للبشرية من تمزيق الدين بينها بحسب الأهواء والأطماع والأغراض.
3- وعد الله لأهل الإيمان والعمل الصالح بالجزاء الحسن وهو الجنة.
__________
1 شاهد أن لا: نافية وليست بصلة، ولكون لفظ الحرام معناه الوجوب قول الخنساء:
وإنّ حراماً لا أرى الدهر باكيا
على شجوه إلا بكيت على صخر
تريد أخاها صخراً.
2 في الكلام حذف تقديره: حتى إذا فتع سد يأجوج ومأجوج، مثل: واسأل القرية. أي أهل القرية.
3 الحدب: ما انقطع من الأرض، والجمع حداب مأخوذ من حدبة الظهر، قال عنترة:
فما رعشت يداي ولا ازدهاني
تواترهم إليّ من الحداب
و (ينسلون) يخرجون مسرعين، قال امرؤ القيس: فسلي ثيابي من ثيابك تنسل.
وقال النابغة: عسلان الذئب أمسى قارباً
برد الليل عليه فنَسلَ
أي أسرع.
4 قل: الواو زائدة مقحمة، والمعنى: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق. فاقترب: جواب إذا والواو مقحمة، ومثله: وتلّه للجبين، وناديناه أي: للجبين ناديناه، وأجاز بعضهم أن يكون جواب إذا: فإذا هي شاخصة ويكون اقترب الوعد الحق: معطوفاً.
5 هي: ضمير الأبصار، والأبصار بعدها: تفسير لها كأنه قال: فإذا أبصار الذين كفروا قد شخصت عند مجيىء الوعد.

4- تقرير حقيقة وهي إذا قَضِي بهلاك أمة تعذرت عليها التوبة، وأن أمة يهلكها الله تعالى لا تعود إلى الحياة الدنيا بحال وإن البشرية عائدة إلى ربها فممتنع عدم عودة الناس إلى ربهم، وذلك لحسابهم وجزائهم يوم القيامة.
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ(104)
شرح الكلمات:
وما تعبدون من دون الله : أي من الأوثان والأصنام.
حصب جهنم: أي ما توقد به جهنم.
لو كان هؤلاء آلهة: أي الأوثان التي يعبدها المشركون من قريش.
ما وردوها : أي لحالوا بين عابديهم ودخول النار لأنهم آلهة قادرون على ذلك ولكنهم ليسوا آلهة حف فلذا لا يمنعون عابديهم

من دخول النار.
وكل فيها خالدون : أي العابدون من الناس والمعبودون من الشياطين والأوثان.
لهم فيها زفير: أي لأهل النار فيها أنين وتنفس شديد وهو الزفير.
سبقت لهم منا الحسنى : أي كتب الله تعالى أزلاً أنهم أهل الجنة.
حسيسها: أي حِسّ صوتها.
لا يحزنهم الفزع الأكبر : أي عند النفخة الثانية نفخة البعث فإنهم يقومون من قبورهم آمنين غير خائفين.
كطي السجل للكتب : أي يطوي الجبار سبحانه وتعالى السماء طيّ الورقة لتدخل في الظرف.
كما بدأنا أول خلق نعيده: أي يعيد الله الخلائق كما بدأهم أول مرة فيبعث الناس من قبورهم حفاة عراة غرلا، كما ولدوا لم ينقص منهم شيء.
معنى الآيات:
يقول تعالى للمشركين الذين بدأت السورة الكريمة بالحديث عنهم، وهم مشركوا قريش يقول لهم مُوعداً: {إنكم وما تعبدون1 من دون الله} من أصنام وأوثان {حصب2 جهنم} أي ستكونون أنتم وما تعبدون من أصنام وقوداً لجهنم التي أنتم واردوها لا محالة، وقوله تعالى: {لو كان هؤلاء آلهة} لو كان هؤلاء التماثيل من الأحجار التي يعبدها المشركون لو كانوا آلهة حقاً ما ورد النار عابدوها لأنهم يخلصونهم منها ولما ورد النار المشركون ودخلوها دل ذلك على أن آلهتهم كانت آلهة باطلة لا تستحق العبادة بحال. وقوله تعالى: {كل فيها خالدون} أي المعبودات الباطلة وعابدوها الكل في جهنم
__________
1 قوله {ما تعبدون} فيه دليل على وجود العموم في الألفاظ.، فإن ابن الزبعرى لمَّا نزلت هذه الآية أتت به قريش وقالت له: انظر محمداً شتم آلهتنا، فقال: لو حضرت لرددت عليه، قالوا: وما كنت تقول له؟ قال: كنت أقول له: هذا المسيح تعبده النصارى واليهود تعبد عزيراً، أفهما من حصب جهنم؟. فعجبت من مقالته ورأوا أن محمداً قد خُصم. فأنزل الله تعالى {إن الذين سبقت لهم منّا الحسنى أولئك عنها مبعدون}. فدَّل قوله تعالى وما تعبدون على العموم وخصه الله تعالى بهذه الآية {إن الذين سبقت لهم منَّا الحسنى أولئك عنها مبعدون}.
2 قرأ الجمهور حصب بالصاد، وقرأ علي وعائشة رضي الله عنهما بالطاء أي حطب. والحصب أعَمّ، إذ كل ما هُيجت به النار وأوقدت به فهو حصب.

خالدون. وقوله: {لهم فيها زفير1 وهم فيها لا يسمعون} يخبر تعالى أن للمشركين في النار زفيراً وهو الأنين الشديد من شدة العذاب وأنهم فيها لا يسمعون لكثرة الأنين وشدة الأصوات وفظاعة ألوان العذاب وقوله تعالى : {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون، لا يسمعون حسيسها، وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون} نزلت هذه الآية رداً على ابن الزِّيَعْري عندما قال إن كان ما يقوله محمد حقاً بأننا وآلهتنا في جهنم فإن الملائكة معنا في جهنم لأننا نعبدهم، وأن عيسى والعزير في جهنم لأن اليهود عبدوا العزيز والنصارى عبدوا المسيح. فأخبر تعالى أن من عبد بغير رضاه بذلك وكان يعبدنا ويتقرب إلينا بالطاعات فهو ممن سبقت لهم هنا الحسنى بأنهم من أهل الجنة هؤلاء عنها أي عن جهنم مبعدون {لا يسمعون حسيسها} أي حس صوتها وهم في الجنة ولهم فيها ما يشتهون خالدون، لا يحزنهم الفزع2 الأكبر عند قيامهم من قبورهم بل هم آمنون {تتلقاهم الملائكة} عند القيام من قبورهم بالتحية والتهنئة قائلة لهم: {هذا يومكم الذي كنتم توعدون} وقوله تعالى: {يوم نطوي السماء} أي يتم لهم ذلك يوم يطوي الجبار جل جلاله السماء بيمينه {كطي3 السجل} أي الصحيفة للكتب. وذلك يوم القيامة حيث تبدل الأرض غير الأرض والسموات غير السموات. وقوله تعالى: {كما بدأنا أول خلق نعيده} أي يعيد الإنسان كما بدأ خلقه فيخرج الناس من قبورهم حفاة عراة غرلا4. وقوله: {وعداً علينا إنا كنا فاعلين} أي وعدنا بإعادة الخلق بعد فنائهم وبلاهم وعداً، إنا كنا فاعلين فأنجزنا ما وعدنا، وإنا على ذلك لقادرون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء.
__________
1 الزفير نَفَسٌ يخرج من أقصى الرئتين لضغط الهواء من التأثر بالغم، وهو هنا من أحوال المشركين لا الأصنام.
2 لا يُحزنهم بضم الياء من أحزنه، وبفتحها من حزنه قراءتان سبعيتان، والفزع الأكبر: أهوال يوم القيامة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو وقت يؤمر بالعباد إلى النار.
3 السجل: الكاتب يكتب الصحيفة ثم يطويها عند انتهاء كتابتها. هذا المعنى أوضح مما في التفسير.
4 الغرل: جمع أغرل وهو من لم يختتن فتقطع منه غلفة ذكره، وأول من يكسى إبراهيم كما في صحيح مسلم.

2- من عبد من دون الله بأمره أو برضاه سيكون ومن عبده وقوداً لجهنم ومن لم يأمر ولم يرض فلا يدخل النار مع من عبده بل العابد له وحده في النار.
3- بيان عظمة الله وقدرته إذ يطوي السماء بيمينه، والأرض في قبضته يوم القيامة.
4- بعث الناس حفاة عراة غرلا لم ينزع منهم شيء ولا غلفة الذكر إنجاز الله وعده في قوله: {كما بدأكم تعودون} فسبحان الواحد القهار العزيز الجبار.
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (108) فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
شرح الكلمات:
ولقد كتبنا في الزبور: أي في الكتب التي أنزلنا كصحف إبراهيم والتوراة والإنجيل والقرآن.
من بعد الذكر : أي من بعد أن كتبنا ذلك في الذكر الذي هو اللوح المحفوظ.

إن الأرض1 : أي أرض الجنة.
عبادي الصالحون: هم أهل الإيمان والعمل الصالح من سائر الأمم من أتباع الرسل عامة.
إن في هذا لبلاغا: أي إن في القران لبلاغاً أي لكفاية وبلغة لدخول الجنة فكل من آمن به وعمل بما فيه دخل الجنة.
لقوم عابدين : أي مطيعين الله ورسوله.
رحمة للعالمين : أي الإنس والجن فالمؤمنون المتقون يدخلون الجنة والكافرون ينجون من عذاب الاستئصال والابادة الذي كان يصيب الأمم السابقة.
فهل أنتم مسلمون: أي أسلموا فالاستفهام للأمر.
وان أدرى: أي ما أدري.
فتنة لكم : أي اختبار لكم.
على ما تصفون : من الكذب من أن النبي ساحر، وأن الله اتخذ ولداً وأن القرآن شعر.
معنى الآيات:
يخبر تعالى رسوله والمؤمنين بوعده الكريم الذي كتبه في كتبه المنزلة بعد كتابته في الذكر الذي هو كتاب المقادير المسمى باللوح المحفوظ أن أرض الجنة يرثها عباده الصالحون هذا ما دلت عليه الآية الأولى (155) وقوله تعالى: {إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين2} أي في هذا القرآن العظيم لبلاغاً لمن كان من العابدين لله بأداء فرائضه واجتناب نواهيه لكفاية في الوصول به إلى بغيته وهي رضوان الله والجنة وقوله تعالى {وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين} يخبر تعالى أنّه ما أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلا رحمة للعالمين3
__________
1 في الأرض: الأرض المقدسة، وقال مرة أنها أرض الكفار ترثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
2 العابدون قال أبو هريرة وسفيان الثوري هم أهل الصلوات الخمس.
3 قال ابن زيد: المؤمنون خاصة، والعموم أولى وأصح من الخصوص.

إنسهم وجنهم مؤمنهم وكافرهم فالمؤمنون بإتباعه يدخلون رحمة الله وهي الجنة والكافرون يأمنون من عذاب الإبادة والاستئصال في الدنيا ذلك العذاب الذي كان ينزل بالأمم والشعوب عندما يكذبون رسلهم وقوله تعالى {قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون1} يأمر تعالى رسوله أن يقول لقومه ولمن يبلغهم خطابه إن الذي يوحى إلى هو أن إلهكم إله واحد أي معبودكم الحق واحد وهو الله تعالى ليس غيره وعليه {فهل أنتم مسلمون} أي أسلموا له قلوبكم ووجوهكم فاعبدوه ولا تعبدوا معه سواه فبلغهم يا رسولنا هذا {فإن تولوا} أي أعرضوا عن هذا الطلب ولم يقبلوه {فقل آذنتكم} أي اعلمتكم {على سواء} أنا وأنتم انه لا تلاقي بيننا فأنا حرب عليكم وأنتم حرب عليّ وقوله تعالى: {وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون} أي وقل لهم يا رسولنا: إني ما أدرى أقريب ما توعدون من العذاب أم بعيد فالعذاب كا ئن لا محالة ما لم تسلموا إلا أني لا أعلم وقته. وفي الآية وعيد واضح وتهديد شديد وقوله: {إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون} أي يعلم طعنكم العلني، في الإسلام وكتابه ونبيه، كما يعلم ما تكتمونه في نفوسكم من عداوتي وبغضي وما تخفون من إحَنٍ وفي هذا إنذار لهم وتهديد، وهم مستحقون لذلك.
وقوله: {وإن أدري} أي وما أدرى {لعله2} أي تأخير العذاب عنكم بعد استحقاقكم له يحرِ بكم للإسلام ونبيه {فتنة لكم} أي اختبار لعلكم تتوبون فيرفع عنكم العذاب أو هو متاع لكم بالحياة إلى آجالكم، ثم تعذبون بعد موتكم. فهذا علمه إلى ربي هو يعلمه، وبهذا أمرني بأن أقوله لكم. وقوله تعالى: {قال رب احكم بالحق} وفي قراءة قُلْ رب احكم بالحق أي قال الرسول بعد أمر الله تعالى بذلك يا رب احكم بيني وبين قومي المكذبين لي المحاربين لدعوتك وعبادك المؤمنين بالحق وذلك بنصري عليهم أو بإنزال نقمتك بهم، وقوله: {وربنا الرحمان المستعان على ما تصفون3} أي وربنا الرحمن عز
__________
1 الاستفهام معناه الأمر أي أسلموا كقوله تعالى {فهل أنتم منتهون} ؟ أي انتهوا.
2 لعله أي الإمهال والتأخير.
3 تصفون قرأ الجمهور تصفون بالتاء، وقرأ بعض يصفون بالياء.

وجلّ هو الذي يستعان به على إبطال باطلكم أيها المشركون حيث جعلتم لله ولداً، وشركاء، ووصفتم رسوله بالسحر والكذب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- المؤمنون المتقون وهم الصالحون هم ورثة الجنة دار النعيم المقيم.
2- في القرآن الكريم البُلغة الكافية لمن آمن به وعمل بما فيه بتحقيق ما يصبو إليه من سعادة الدار الآخرة.
3- بيان فضل النبي صلى الله عليه وسلم وكرامته على ربه حيث جعله رحمة للعالمين.
4- وجوب المفاصلة بين أهل الشرك وأهل التوحيد.
5- طلب الاستعانة بالله على كل ما يواجه العبد من صعاب وأتعاب

سورة الحج
...
سورة الحج
مكية ومدنية
وآياتها1 ثمان وسبعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ(1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
__________
1 ذكر القرطبي عن الغزنوي أنه قال: سورة الحج من أعاجيب سورة القرآن. نزلت ليلاً ونهاراً سفراً وحصراً مكيّاً ومدينّا سليماً وحربيّاً ناسخاً ومنسوخاً محكما ومتشابهاً.

(2) وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
شرح الكلمات:
اتقوا ربكم: أي عذاب ربكم وذلك بالإيمان والتقوى.
إن زلزلة الساعة: أي زلزلة الأرض عند مجىء الساعة.
تذهل كل موضعة: أي من شدة الهول والخوف تنسى رضيعها وتغفل عنه.
وتضع كل ذات حمل حملها : أي تسقط الحوامل ما في بطونهن من الخوف والفزع.
سكارى وما هم بسكارى : أي ذاهلون فاقدون رشدهم وصوابهم كالسكارى وما هم بسكارى.
يجادل في الله بغير علم.: أي يقول إن الملائكة بنات الله وإن الله لا يحيي الموتى.
شيطان مريد: أي متجرد من كل خير لا خير فيه البتة.
كتب عليه أنه من تولاه: فرض فيه أن من تولاه أي اتبعه يضله عن الحق.
معنى الآيات:
بعد ذلك البيان الإلهي في سورة الأنبياء وما عرض تعالى من أدلة الهداية وما بين من سبل النجاة نادى تعالى بالخطاب العام الذي يشمل العرب والعجم والكافر والمؤمن إنذاراً وتحذيراً فقال في فاتحة هذه السورة سورة الحج المكية المدنية لوجود أي كثير فيها نزل في مكة وآخر نزل بالمدينة: {يا أيها الناس اتقوا1 ربكم} أي خافوا عذابهُ، وذلك
__________
1 روى الترمذي وصححه عن عمران بن خصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت {يا أيها الناس اتقوا ربكم إنّ زلزلة الساعة شيء عظيم} إلى قوله: {شديد} قال: أنزلت عليه في سفر: فقال:أتدرون أي يوم ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "ذاك يوم يقول الله لآدم: ابعث بعث النار قال يا ربّ وما بعث النار؟ قال: تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة. قال: فأنشأ المسلمون يبكون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قاربوا وسدّدوا فإنه لم تكن نبوة قط إلاّ كان بين يديها جاهلية قال: فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن تمت وإلاّ أخذ من المنافقين، وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبّروا ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبّروا ثمّ قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبّروا. قال: لا أدري قال الثلثين أم لا". الرقمة: الهنة الناتئة في ذراع الدابة والشامة: علامة تخالف البدن الذي هي فيه.

بطاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه فآمنوا به وبرسوله وأطيعوها في الأمر والنهي وبذلك تقوا أنفسكم من العذاب وقوله: {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} فكيف بالعذاب الذي يقع فيها لأهل الكفر والمعاصي، إن زلزلة لها تتم قبل قيامها1 تذهل فيها كل مرضعة عما أرضعت أي تنسى فيها الأم ولدها، {وتضع كل ذات حمل حملها} فتسقط من شدة الفزع لتلك الزلزلة المؤذنة بخراب الكون وفناء العوالم ويرى الناس فيها سكارى أي فاقدين لعقولهم وما هم بسكارى بشرب سكر {ولكن عذاب الله شديد} فخافوه لظهور أماراته ووجود بوادره.
هذا ما دلت عليه الآيتان (1) و (2) وأما الآية الثالثة فينعى تعالى على النضر بن الحارث وأمثاله ممن يجادلون في الله بغير علم فينسبون لله الولد والبنت ويزعمون أنه ما أرسل محمداً رسولاً، وأنه لا يحيي الموتى بعد فناء الأجسام وتفتتها فقال تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم} بجلال الله وكماله ولشرائعه وأحكامه وسننه في خلقه، {ويتبع} أي في جداله وما يقوله من الكذب والباطل {كل شيطان مريد} أي متجرد من الحق والخير، {كتب2 عليه} أي على ذلك الشيطان في قضاء الله أن من تولاه بالطاعة والإتباع فإنه يضله عن الحق ويهديه بذلك إلى عذاب السعير في النار.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحوالهما وأهوالهما.
2- حرمة الجدال بالباطل لإدحاض الحق وإبطاله.
3- حرمة الكلام في ذات الله وصفاته بغير علم من وحي إلهي أو كلام نبوي صحيح.
4- موالاة الشياطين وأتباعهم يفضى بالموالي المتابع لهم إلى جهنم وعذاب السعير.
__________
1 الذي عليه أكثر أهل التفسير أن هذه الزلزلة تتم بنفخة الفناء بقرينة الحمل والوضع وحديث الترمذي الصحيح دال على أنها بعد البعث، والجمع بينهما: صحيح أولا لا مانع من أن يقع هذا وذاك وهو كذلك والقرآن حمّال الوجوه، فهذا الهول العظيم سيقع حتماً في النفخة الأولى، وفي ساحة فصل القضاء، وأمّا موضوع الحمل والوضع فكائن أيضاً في عرصات القيامة إذ الناس يبعثون على ما ماتوا عليه فالحامل تبعث حاملا والمرضع تبعث ترضع أيضاً.
2 قال قتادة ومجاهد: من تولى الشيطان فإنه يضله.

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شيئاً وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ (7)
شرح الكلمات:
في ريب من البعث : الريب الشك مع اضطراب النفس وحيرتها، والبعث الحياة بعد الموت.
من نطفة : قطرة المنّي التي يفرزها الزوجان.
علقة: أي قطعة دم متجمد تتحول إليه النطفة في خلال أربعين يوماً.
مضغة : أي قطعة لحم قدر ما يمضغ المرء تتحول العلقة إليها بعد أربعين يوماً.
وغير مخلقة : أي مصورة خلقاً تاماً، مخلقة وغير مخلقة هي السقط يسقط

قبل تمام خلقه.
لنبين لكم: أي قدرتنا على ما نشاء ونعرفكم بابتداء خلقكم كيف يكون.
ونقر في الأرحام ما نشاء : أي ونبقي في الرحم من نريد له الحياة والبقاء إلى نهاية مدة الحمل ثم نخرجه طفلاً سوياً.
لتبلغوا أشدكم: أي كمالي أبداًنكم وتمام عقولكم.
إلى أرذل العمر: أي سن الشيخوخة والهرم فيخرف.
لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً: أي فيصير كالطفل في معارفه إذ ينسى كل علم علمه.
هامدة: خامدة لا حراك لها ميتة.
اهتزت وربت: أي تحركت بالنبات وارتفعت تربتها وأنبتت.
زوج بهيج: أي من كل نوع من أنواع النباتات جميل المنظر حسنه.
ذلك بأن الله هو الحق : أي الإله الحق الذي لا إله سواه، فعبادة الله حق وعبادة غير الله باطل.
وأن الساعة آتية : أي القيامة .
بعث من في القبور : أي يحييهم ويخرجهم من قبورهم أحياء كما كانوا قبل موتهم.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى بعض أحوال القيامة وأهوالها، وكان الكفر بالبعث الآخر هو العائق عن الاستجابة للطاعة وفعل الخير نادى تعالى الناس مرة أخرى ليعرض عليهم أدلة البعث العقلية لعلهم يؤمنون فقال: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث} أي في شك وحيرة وقلق نفسى من شأن بعث الناس أحياء من قبورهم بعد موتهم وفنائهم لأجل حسابهم ومجازاتهم على أعمالهم التي عملوها في دار الدنيا فإليكم ما يزيل شككم ويقطع حيرتكم في هذه القضية العقدية وهو أن الله تعالى قد خلقكم1 من تراب أي خلق
__________
1 هذا دليل قاطع وهو دليل البداءة الأولى فمن قدر على البداءة قادر عقلاً على الإعادة وهي أهون عليه.

أصلكم وهو أبوكم آدم من تراب وبلا شك، ثم خلقكم أنتم من نطفة1 أي ماء الرجل وماء المرأة وبلا شك، ثم من علقة2 بعد تحول النطفة إليها ثم من مضغة3 بعد تحول العلقة إليها وهذا بلا شك أيضاً، ثم المضغة إن شاء الله تحويلها إلى طفل خلقها وجعلها طفلاً، وإن لم يشأ ذلك لم يخلقها وأسقطها من الرحم4 كما هو معروف ومشاهد، وفعل الله ذلك من أجل أن يبين لكم قدرته وعلمه وحسن تدبيره لترهبوه وتعظموه وتحبوه وتطيعوه وقوله: {ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلاً5} أي ونقر تلك المضغة المخلقة في الرحم إلى أجل مسمى وهو ميعاد ولادة الولد وانتهاء حمله ونخرجكم طفلاً أي أطفالاً صغاراً لا علم لكم ولا حلم، ثم ننميكم ونربيكم بما تعلمون من سننا في ذلك {ثم لتبغلوا أشدكم} أي تمام نماء أبدانكم وعقولكم {ومنكم من يتوفى} قبل بلوغه أشده لأن الحكمة الإلهية اقتضت وفاته ومنكم من يعيش ولا يموت حتى يرد إلى أرذل العمر فيهرم ويخرف ويصبح كالطفل لا يعلم بعد علم كان له قبل هرمه شيئاً هذا دليل البعث وهو دليل عقلي منطقي وبرهان قوي على حياة الناس بعد موتهم إذ الذي خلقهم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة يوجب العقل قدرته على إحيائهم بعد موتهم، إذ ليست الإعادة بأصعب من البداية. ودليل عقلي آخر هو ما تضمنه قوله تعالى: {وترى الأرض} أيها الإنسان {هامدة} خامدة ميتة لا حراك فيها ولا حياة فإذا أنزل الله تعالى عليها الماء من السماء {اهتزت} أي تحركت {وربت} أي ارتفعت وانتفخت تربتها وأخرجت من النباتات المختلفة الألوان والطعوم والروائح {من كل زوج بهيج} جميل المنظر حسنه، أليس وجود تربة صالحة كوجود رحم صالحة وماء المطر كماء الفحل
__________
1 النطفة: المني، وسمي نطفة لقلّته.
2 العلقة: الدم الجامد، والعلق: الدم العبيطُ أي: الطري.
3 هذه الأطوار أربعة أشهر، قال ابن عباس: وفي العشر بعد الأربعة أشهر ينفخ فيه الروح، فذلك عدّة الوفاة منها أربعة أشهر وعشر، وفي الصحيح عن عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم ليُجُمَع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات.. رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد.
4 روى ابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لسقط أقدّمه بين يدي أحبّ إليّ من ألف فارس أخلّفه ورائي".
5 أي: فخرج كل واحد منكم طفلا، ويطلق الطفل على الولد من يوم انفصاله إلى البلوغ وولد كل وحشية يقال له طفل ويوصف به مفرداً كالمصدر فيقال: جارية طفل وجاريتان طفل، وجوار طفل، وغلام طفل وغلامان طفل، ويجمع الطفل على أطفال، وأطفلت المرأة: صارت ذات طفل.

وتخلق النطفة في الرحم كتخلق البذرة في التربة وخروج الزرع حياً نامياً كخروج الولد حياً نامياً وهكذا إلى حصاد الزرع وموت الإنسان فهذان دليلان عقليان على صحة البعث الآخر وأنه كائن لا محالة وفوق ذلك كله إخبار الخالق وإعلامه خلقه بأنه سيعيدهم بعد موتهم فهل من العقل والمنطق أو الذوق أن نقول له لا فإنك لا تقدر على ذلك قولة كهذه قذرة عفنة لا يود أن يسمعها عقلاء الناس وأشرافهم. ولما ضرب تعالى هذين المثالين أو ساق هذين الدليلين على قدرته وعلمه وحكمته المقتضية لإعادة الناس أحياء بعد الموت والفناء للحساب والجزاء قال وقوله الحق {ذلك بأن الله هو الحق1} أي الرب الحق والإله المعبود الحق، وما عداه فباطل {وأنه يحيي2 الموتى وأنه على كل شيء قدير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور} ومن شك فليراجع الدليلين السابقين في تدبر وتعقل فإنه يسلم لله تعالى ما أخبر به عن نفسه في قوله ذلك {بأن الله هو الحق} الخ.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث الآخر والجزاء على الأعمال يوم القيامة.
2 بيان تطور خلق الإنسان ودلالته على قدرة الله وعلمه وحكمته.
3- الاستدلال على الغائب بالحاضر المحسوس وهذا من شأن العقلاء فإن المعادلات الحسابية والجبرية قائمة على مثل ذلك.
4- تقرير عقيدة التوحيد وهي أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
1 لما ذكر تعالى افتقار الموجودات إليه وتسخيرها على وفق اقتداره في قوله {يا أيها الناس} إلى قوله: {بهيج} قال ذلك إشارة إلى ما تقدم من أطوار خلق الإنسان وفنائه وإحياء الأرض بعد موتها وانشقاق النبات منها أي: ذلك حصل بسبب أنّ الله هو الإله الحق دون غيره.
2 ومن براهين ألوهيته الحقة دون من سواه أنه يحيى الموتى وأنه على كل ما يريده قدير وأنه موجد الدنيا والآخرة وسيفني هذه في ساعة آتية لا محالة، وسيبعث الناس من القبور للحياة الثانية فيخلدون فيها منهم شقي ومنهم سعيد.

وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
شرح الكلمات:
يجادل في الله : أي في شأن الله تعالى فينسب إلى الله تعالى ما هو منه براء كالشريك والولد والعجز عن إحياء الموتى، وهذا المجادل هو أبو جهل.
بغير علم: أي بدون علم من الله ورسوله.
ولا كتاب منير: أي ولا كتاب من كتب الله ذي نور يكشف الحقائق ويقرر الحق ويبطل الباطل.
ثاني عطفه : أي لآوى عنقه تكبراً، لأن العطف الجانب من الإنسان.
له في الدنيا خزي: وقد أذاقه الله تعالى يوم بدر إذ ذبح هناك واحتز رأسه.
بظلام للعبيد: أي بذي ظلم للعبيد فيعذبهم بغير ظلم منهم لأنفسهم.
يعبد الله على حرف: أي على شك في الإسلام هل هو حق أو باطل وذلك لجهلهم به

وأغلب هؤلاء أعراب البادية.
اطمأن به: أي سكنت نفسه إلى الإسلام ورضي به.
وإن أصابته فتنة : أي ابتلاء بنقص مال أو مرض في جسم ونحوه.
إنقلب على وجهه: أي رجع عن الإسلام إلى ما كان عليه من الكفر الجاهلي.
مالا يضره ولا ينفعه : أي صنماً لا يضره إن لم يعبده، ولا ينفعه إن عَبَدَه..
لبئس المولى : أي قبح هذا الناصر من ناصر.
ولبئس العشير: أي المعاشر وهو الصاحب الملازم.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم} هذه شخصية ثانية معطوفة على الأولى التي تضمنها قوله تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد} وهي شخصية النضر بن الحارث أحد رؤساء الفتنة في مكة، وهذِه الشخصية هي فرعون هذه الأمة عمرو بن هشام الملقب بأبي جهل يخبر تعالى عنه فيقول: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير1} بل يجادل بالجهل وما أقبح جدال الجهل والجهّال ويجادل في الله عز وجل يا للعجب أفيريد ان يثبت لله تعالى الولد والبنت والعجز والشركاء والشفعاء، ولا علم من وحي عنده، ولا من كتاب إلهي موحى به إلى أحد أنبيائه. وقوله تعالى: {ثاني عطفه} وصف له في حال مشيه وهو يجر رداءه مصعراً خده مائلاً إلى أحد جنبيه كبراً وغروراً، وجداله لا لطلب الهدى أو لمجرد حب الانتصار للنفس بل ليضل غيره عن سبيل الله تعالى الذي هو الإسلام حتى لا يدخلوا فيه فيكملوا ويسعدوا عليه في الحياتين. وقوله تعالى: {له في الدنيا خزي2} أي ذل وهوان وقد ناله حيث قتل في بدر شر قتلة فقد احتز رأسه وفصل عن جثته ونال منه الذين كان يسخر منهم ويعذبهم من ضعفة المؤمنين، وقوله تعالى: {ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق} وقد أذاقه ذلك بمجرد أن قتل فروحه في النار ويوم
__________
1 نير بيّن الحجة قويها، والمراد من الكتاب: كتب الشرائع مثل: التوراة والإنجيل من الكتب الأولى والقرآن آخرها نزولا.
2 في هذه الآية إخبار بغيب فكان كما أخبر تعالى فإن كلاًّ من أبي جهل والنضر بن الحارث قد أذلهما الله وأخذهما ببدر، فأبو جهل قتل وأخذ رأسه، والنضر قتل صبراً، والآية قطعاً نزلت بمكة فهي من معجزات القرآن الكريم.

القيامة. يدخلها بجمسه وروحه وقوله تعالى: {ذلك بما قدمت يداك} أي يقال له يوم القيامة ذلك الخزي والهوان وعذاب الحريق بما قدمت يداك من الشرك والظلم والمعاصي، {وأن الله ليس بظلام للعبيد}، وأنت منهم والله ما ظلمك بل ظلمت نفسك، والله متنزه عن الظلم لكمال قدرته وغناه وقوله تعالى: {ومن الناس1 من يعبد الله على حرف2} أي على شك هذه شخصية ثالثة عطفت على سابقتيها وهي شخصية بعض الأعراب كانوا يدخلون في الإسلام لا عن علم واقتناع بل عن شك وطمع وهو معنى على حرف فإن أصابهم خير من مال وصحة وعافية اطمأنوا إلى الإسلام وسكنت نفوسهم واستمروا عليه، وإن أصابتهم فتنة أي اختبار في نفس أو مال أو ولد انقلبوا على وجوههم أي ارتدوا عن الإسلام ورجعوا عنه فخسروا بذلك الدنيا والآخرة فلا الدنيا حصلوا عليها ولا الآخرة فازوا فيها، قال تعالى: {ذلك هو الخسران المبين} أي البين الواضح إذ لو بقوا على الإسلام لفازوا بالآخرة، ولأخلف الله عليهم ما فقدوه من مال أو نفس، وقوله تعالى {يدعو من دون الله} أي ذلك المنقلب على وجهه المرتد يدعوا {مالا يضره} أي صنماً لا يضره لو ترك عبادته {وما لا ينفعه} إن عبده وقوله تعالى: {ذلك هو الضلال البعيد} أي دعاء وعبادة مالا يضر ولا ينفع ضلال عن الهدى والخير والنجاح والربح وبعيدٌ أيضاً قد لا يرجع صاحبه ولا يهتدي. وقوله : {يدعو3 لمن ضره أقرب من نفعه} أي يدعو ذلك المرتد عن التوحيد إلى الشرك من ضره يوم القيامة أقرب من نفعه فقد يتبرأ منه ويحشر معه في جهنم ليكونا معاً وقوداً لها. قال تعالى: {لبئس المولى ولبئس4 العشير} المعاشر والصاحب الملازم فذم تعالى وقبح ما كان المشركون يؤملون فيهم ويرجون شفاعتهم5 يوم القيامة،.
__________
1 هذه الآية نزلت بالمدينة النبوية فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاماً ونتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء.
2 حرف كل شيء: طرفه وجانبه والآية تمثيل لحال المتردد في عمله.
3 أي: في الآخرة لأنه بعبادته دخل النار ولم ير منه نفعاً أصلا وإنما قال: (ضرّه أقرب من نفعه) ترفيعاً للكلام نحو: (إنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين) ومعنى الكلام: القسم والتأخير أي: يدعو والله من ضرّه أقرب من نفعه، والمدعو هو الوثن الذي عبده من دون الله تعالى.
4 هذه الجمل تحمل الذم والتقبيح للأصنام التي يدعوها المركون فإنها شر الموالي وشر العشير، لأن شأن الولي جلب النفع لمولاه وشأن العشير جلب الخير لعشيره فإذا كان العكس كانا شر الموالي والعشراء.
5 قال تعالى من سورة يونس: {ويعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله}، {وقالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} وهذا منهم على فرض إن بعثوا أحياء يوم القيامة أو يرجون شفاعتهم في الدنيا.

تنفيراً لهم من الشرك وعبادة غيره سبحانه وتعالى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- قبح جدال الجاهل فيما ليس له به علم.
2- ذم الكبر والخيلاء وسواء من كافر أو من مؤمن.
3- عدم جدوى عِبَاَدةٍ صاحبُها شاك في نفعها غير مؤمن بوجوبها ومشروعيتها.
4- لا يصح دين مع الشك.
5- تقرير التوحيد والتنديد بالشرك والمشركين.
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
شرح الكلمات:
وعملوا الصالحات : أي الفرائض والنوافل وأفعال الخير.
يفعل ما يريد : من إكرام المطيع وإهانة العاصي وغير ذلك من رحمة المؤمن وعذاب الكافر.
أن لن ينصره الله : أي محمداً صلى الله عليه وسلم.

فليمدد بسبب : أي بحبل.
إلى السماء: أي سقف بينه وليختنق غيظاً.
هل يذهبن كيده : أي في عدم نصرة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يغيظه.
وكذلك أنزلناه: أي ومثل إنزالنا تلك الآيات السابقة أنزلنا القرآن.
هادوا: أي اليهود.
والصابئين: فرقة من النصارى.
والمجوس: عبدة النار والكواكب.
على كل شيء شهيد: أي عالم به حافظ له.
معنى الآيات:
بعدما ذكر تعالى جزاء الكافرين والمترددين بين الكفر والإيمان أخبر أنه تعالى يدخل الذين آمنوا به وبرسوله ولقاء ربهم ووعده ووعيده وعملوا الصالحات وهي الفرائض التي افترضها الله عليهم والنوافل التي رغبهم فيها يدخلهم جزاء لهم على إيمانهم وصالح أعمالهم جنات تجري من تحتها الأنهار وقوله تعالى: {إن الله يفعل ما يريد1} ومن ذلك تعذيبه من كفر به وعصاه ورحمة من آمن به وأطاعه وقوله تعالى: {من2 كان يظن أن لن ينصره الله } أي من كان يظن أن الله لا ينصر رسوله ودينه وعباده المؤمنين فلذا هو يتردد ولم يؤمن ولم ينخرط في سلك المسلمين كبني أسد وغطفان فإنا نرشده إلى ما يذهب عنه غيظه حيث يسوءه نصر الله تعالى لرسوله وكتابه ودينه وعباده المؤمنين وهو أن يأتي بحبل وليربطه بخشبة في سقف بيته ويشده على عنقه ثم ليقطع الحبل3، وينظر بعد هذه العملية الانتحارية هل كيده4 هذا يذهب عنه الذي يغيظه؟.
__________
1 هذه الجملة الكريمة هي تذييل لكلّ ما تقدم لقوله: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم} ومتضمنة تعليلاً إجمالياً لاختلاف الناس في الخير والشر ولما يلقون من جزاء كذلك.
2 الظاهر أن هذا فريق ثالث غير الفريقين المتقدمين وهما: فريق من يجادل في الله بغير علم وفريق من يعبد الله على حرف وهذا الفريق الثالث قد يكون من اليهود والمنافقين وبعض المشركين الذين كانوا يغتاظون لانتصار النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم لا يودّون ذلك ولا كانوا يرون انتصاره صلى الله عليه وسلم كائنا فكلما رأوا نصراً له ازداد غمهم واشتد كربهم لأن انتصاره يحزنهم ويخيفهم.
3 قرأ الجمهور: {ليقطع} بسكون اللام لوجود ثم العاطفة وقرأ بعضٌ {ليقطع} بكسر اللام لأن ثم ليست كالفاء والواو العاطفتين لأنها مركبة من ثلاثة أحرف.
4 {هل يذهبن كيده ما يغيظ} الاستفهام إنكاري، وما: مصدرية أي: هل يذهبن كيده غيظه.

وقوله تعالى: {وكذلك أنزلناه آيات بينات} أي ومثل ذلك الإنزال للآيات التي تقدمت في بيان قدرة الله وعلمه في الخلق وإحياء الأرض وإعادة الحياة بعد الفناء أنزلنا القرآن آيات واضحات تحمل الهدى والخير لمن آمن بها وعمل بما فيها من شرائع وأحكام وقوله تعالى : {وأن الله يهدي من يريد} أي هدايته بأن يوفقه للنظر والتفكر فيعرف الحق فيطلبه ويأخذ به عقيدة وقولاً وعملاً.
وقوله تعالى: {إن الذين آمنوا1} وهم المسلمون {والذين هادوا} وهم اليهود {والصابئين} وهم فرقة من النصارى يقرأون الزبور ويعبدون الكواكب {والنصارى} وهم عبدة الصليب {والمجوس} وهم عبدة النار2 والكواكب {والذين أشركوا} وهم عبدة الأوثان هؤلاء جميعا سيحكم3 الله بينهم يوم القيامة فيدخل المؤمنين الجنة ويدخل أهل تلك الملل الباطلة النار هذا هو الفصل الحق فالأديان ستة دين واحد للرحمن وخمسة للشيطان فأهل دين الرحمن يدخلهم في رحمته، وأهل دين الشيطان يدخلهم النار مع الشيطان وقوله: {إن الله على كل شيء شهيد} أي عالم بكل شيء لا يخفى عليه شيء وسيجزى كل عامل بما عمل، ولا يهلك على الله إلا هالك فقد أنزل كتابه وبعث رسوله ورغب ورهب وواعد وأوعد والناس يختارون ما قدر لهم أو عليهم وسبحان الله العظيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- كل الأديان هي من وحي الشيطان وأهلها خاسرون إلا الإسلام فهو دين الله الحق وأهله هم الفائزون، أهله هم القائمون عليه عقيدة وعبادة وحكماً وقضاء.
2- إن الله ناصر دينه، ومكرم أهله، ومن غاظه ذلك ولم يرضه فليختنق.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
4- تقرير إرادة الله ومشيئته فهو تعالى يفعل ما يشاء ويهدي من يريد.
__________
1 هذه الآية نزلت كالفذلكة لما سبق فقررت الصراع الدائر بين الحق والباطل وسمت المتصارعين بألقابهم وأعلمتهم أنّ الحكم فيهم مؤجل إلى يوم القيامة وسيكون عادلاً لعلم الله تعالى بهم وحفظه لأعمالهم.
2 لذا فهم يثبتون إلهين إلها للخير وإلها للشر وهم أهل فارس، وأقدم النحل المجوسية أسسها ملك فارسي قديم في التاريخ يدعى (كبومرث).
3 هذا تفسير لقوله تعالى في الآية: {إن الله يفصل بينهم} إذ الفصل هو الحكم.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء (18)
شرح الكلمات:
ألم تر: أي ألم تر بقلبك فتعلم.
يسجد له : أي يخضع ويذل له بوضع وجهه على الأرض بين يدي الرب تعالى.
من في السموات: من الملائكة.
والدواب: من سائر الحيوانات التي تدب على الأرض.
حق عليه العذاب: وجب عليه العذاب فلا بد هو واقع به.
ومن يهن الله : أي يُشقهِ في عذاب مهين.
فماله من مكرم: أي ليس له من مكرم أي مسعد ليسعده، وقد أشقاه الله.
معنى الآية الكريمة:
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {ألم تر}1 أيها الرسول بقلبك فتعلم {أن الله2 يسجد له من في السموات} من الملائكة {ومن في الأرض} من الجن والدواب { والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس} وهم المؤمنون المطيعون وكثير أي من الناس حق عليهم العذاب أي وجب لهم العذاب وثبت، فهو لا يسجد سجود عبادة وقربة لنا أما سجود الخضوع فظلالهم تسجد3 لنا بالصباح والمساء، وقوله تعالى: {ومن يهن الله فماله من مكرم} أي ومن أراد الله إشقاءه وعذابه فما له من مكرم يكرمه بِرَفْع
__________
1 قال القرطبي: هذه رؤية القلب أي: ألم تر بقلبك، وعقلك.
2 قد استعمل السجود في هذه الآية. في حقيقته ومجازه.
3 وكذلك خضوعهم لأحكام الله تعالى فيهم ومجاري أقداره عزّ وجلّ عليهم من صحة ومرض وغنىً وفقر وحياة وموت.

العذاب عنه واسعاده في دار السعادة وقوله: {إن الله يفعل ما يشاء}1 فمن شاء أهانه ومن شاء أكرمه فالخلق خلقه وهو المتصرف فيهم مطلق التصرف فمن شاء أعزه، ومن شاء أذله فعلى عباده أن يرجعوا إليه بالتوبة سائلين رحمته مشفقين من عذابه فهذا أنجى لهم من عذابه وأقرب إلى رحمته.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
1- تقرير ربوبية الله وألوهيته.
2- سجود المخلوقات بحسب ذواتها، وما أراد الله تعالى منها.
3- كل شيء خاضع لله إلا الإنسان فأكثر أفراده عصاة له متمردون عليه وبذلك استوجبوا العذاب المهين.
4- التالي لهذه الآية والمستمع لتلاوته يسن لهم أن يسجدوا لله تعالى إذا بلغوا قوله تعالى: {إن الله يفعل ما يشاء}.
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
__________
1 الجملة تعليلية لما سبق من أحكام لله تعالى بالإكرام والإهانة بحسب الطاعة والعصيان.

شرح الكلمات:
خصمان: خصم مؤمن وخصم كافر كل واحد يريد أن يخصم صاحبه.
اختصموا في ربهم: أي في دينه.
قطعت لهم ثياب: أي فصلت لهم ثياب على قدر أجسامهم.
يصهر به ما في بطونهم: أي يذاب بالحميم وهو الماء الحار من شحوم وغيرها.
مقامع من حديد: جمع مقمعة وهى آلة من حديد كالمجن.
وذوقوا عذاب الحريق: أي يقال لهم توبيخاً وتقريعاً: ذوقوا عذاب النار.
ولؤلؤا: أي أساور من لؤلؤ محلاة بالذهب.
إلى الطيب من القول : هو شهادة أن لا إله إلا الله.
إلى صراط الحميد : أي إلى الإسلام إذ هو طريق الله الموصل إلى رضاه وجنته.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {هذان خصمان1} الخصم الأول المسلمون والثاني أهل الشرك والكفر {اختصموا في ربهم} أي في دينه تعالى كل خصم يدعي أنه على الدين الحق، وماتوا على ذلك وفصل الله تعالى بينهم يوم القيامة {فالذين كفروا} وهم أهل الدين الباطل ادخلوا النار وفصلت2 لهم ثياب من نار {يصب من فوق رؤوسهم الحميم} أي الماء الحار المنتهي في الحرارة، {يصهر3 به ما في بطونهم والجلود} من لحم وشحم، {ولهم مقامع من حديد} يضربون بها و {كلما أرادوا أن يخرجوا منها} أي من النار بسبب ما ينالهم من غم عظيم {أعيدوا فيها} أي تجبرهم الزبانية على العودة إليها ولم تمكنهم من الخروج
__________
1 روى مسلم عن قبس بن عبادة رضي الله عنه قال: سمعت أبا ذرّ يقسم قسماً: "إن هذان خصمان اختصموا في ربهم} أنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر وهم: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم، وعتبة وشيبة أبناء ربيعة والوليد ابن عتبة، وقال عليّ رضي الله عنه إني لأوّل من يجثو للخصومة بين يدي الله تعالى يوم القيامة. يريد قصته في المبارزة هذه، وعموم الآية يشمل الخصومة بين أهل الإسلام وأهل الكتاب، كما يشمل خصومة الجنة والنار لحديث مسلم "احتجت الجنة والنار فقالت هذه يدخلها الجبارون والمتكبرون، وقالت هذه يدخلها الضعفاء والمساكين فقال الله تعالى لهذه: أنت عذابي أعذب بك من أشاء وقال لهذه: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها".
2 قطعت: فصلت أي: تقطّع لهم في الآخرة ثياب من نار، وذكر بلفظ الماضي لأنّ ما كان من أخبار الآخرة فالموعود منه كالواقع المحقق، كما قال تعالى {وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس ..} أي: يقول الله وجائز أن يكون قد أعدّت لهم تلك الثياب ليلبسوها يوم القيامة وهذا أولى. وتلك الثياب من النحاس المذاب وهي السرابيل المذكورة ني سورة إبراهيم من قطران.
3 الصَّهر: إذابة الشحم والصهارة: ما ذاب منه.

منها، ويقولون لهم: {وذوقوا عذاب الحريق} أي لا تخرجوا منها وذوقوا عذاب الحريق. فهذا جزاء الخصم الكافر، وأما الخصم المؤمن فهذا جزاؤه وهو في قوله تعالى: {إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا1} أي أساور2 من لؤلؤ محلاة بالذهب {ولباسهم فيها} أي في الجنة {حرير3} وقوله تعالى: {وهدوا إلى الطيب من القول} في الدنيا وهو لا إله إلا الله وسائر الأذكار والتسابيح وكل كلام طيب، {وهدوا إلى صراط الحميد} وهذا الطريق الموصل إلى رضا ربهم وهو الإسلام، وكل ذلك بتوفيق ربهم الذي آمنوا له وبرسوله وأطاعوه بفعل محابه وترك مساخطه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إثبات حقيقة هي أن المؤمن خصم الكافر والكافر خصم المؤمن في كل زمان ومكان حيث إن الآية نزلت في علي وحمزة وعبيدة بن الحارث هذا الخصم المؤمن، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وهذا الخصم الكافر وذلك أنهم تقاتلوا يوم بدر بالمبارزة ونصر الله الخصم المؤمن على الكافر.
2- بيان جزاء كل من الكافرين والمؤمنين في الدار الآخرة.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحوال الآخرة وما للناس فيها.
4- بيان الطيب من القول وهو كلمة التوحيد وذكر الله تعالى.
5- بيان صراط الحميد وهو الإسلام جعلنا الله من أهله.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
__________
1 نصب على تقدير: ويحلَّون لؤلؤاً.
2 قالت العلماء: ليس أحد من أهل الجنة إلاّ وفي يده ثلاثة أسورة. سوار من ذهب، وسوار من لؤلؤ وسوار من فضة.
3 روى أبو داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو" وصحّ قوله صلى الله عليه وسلم "من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حُرمها في الآخرة".

شرح الكلمات:
كفروا: جحدوا توحيد الله وكذَّبوا رسوله وما جاءهم به من عند ربهم.
ويصدون عن سبيل الله : يمنعون الناس من الإسلام، ويصرفونهم عنه.
والمسجد الحرام: مكة المكرمة والمسجد الحرام ضمنها1.
العاكف : المقيم بمكة للتعبد في المسجد الحرام.
والباد : الطاريء عن مكة النازح إليها.
بإلحاد بظلم: أي إلحاداً أي ميلاً عن الحق مُلتبساً بظلم لنفسه أو لغيره.
معنى الآية الكريمة:
قوله تعالى: {إن الذين كفروا ويصدون2 عن سبيل الله} هذه الآية الكريمة تحمل تهديداً ووعيداً شديداً لكل من كفر بتوحيد الله وكذب رسوله وما جاء به من الهدى والدين الحق وصدَّ عن سبيل الله أي صرف الناس عن الدخول في الإسلام، وعن دخول المسجد الحرام للطواف بالبيت والإقامة بمكة للتعبد في المسجد الحرام والآية وإن تناولت المشركين الذين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن دخول مكة عام الحديبية فإنها عامة في كل من كفر وصدَّ إلى يوم القيامة وقوله تعالى: {الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والبادِ} هو وصف للمسجد الحرام إذ جعله الله تعالى موضع تنسُّك لكل من أتاه وأقام به أو يأتيه للعبادة ثم يخرج منه، فالعاكف أي المقيم فيه كالبادي الطارىء القدوم إليه هم سواء في حق الإقامة في مكة3 والمسجد الحرام للتعبد.
وقوله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} أي يرد بمعنى يعتزم الميل عن الحق فيه بظلم يرتكبه كالشرك وسائر الذنوب والمعاصي القاصرة على الفاعل أو المتعدية إلى غيره. وقوله تعالى: {نذقه من4 عذاب أليم} هذا جزاء من كفر وصد عن سبيل الله
__________
1 هذا من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل وهو شائع لغة شائع تعبيرا.
2 أي: وهم يصدّون، وقيل الواو مزيدة أي: إن الذين كفروا يصدّون، وهذا ضعيف والصحيح أن خبر إن محذوف تقديره: خسروا وهلكوا ولا يصح أن يكون نذقه لأنه مجزوم.
3 كان في الصدر الأول أبواب دور مكة مفتوحة لكل من يريد النزول بها حاجاً أو معتمراً حتى سرق منزل أحدهم فاتخذ له باباً فأنكر عليه عمر ذلك فقال الرجل: إنما اتخذت الباب لأحفظ لهم متاعهم فتركه عمر فاتخذ الناس من يومئذ الأبواب.
قال مالك. دور مكة ليست كالمسجد بل لهم أن يمنعوا من النزول بها من شاءوا.
4 (نذقه) جواب مَن: الشرطية في قوله: {ومن يرد فيه بإلحاد}.

والمسجد الحرام ومن أراد فيه إلحاداً1 بظلم لنفسه2 أو لغيره.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
1- التنديد بالكفر والصدَّ عن سبيل الله والمسجد الحرام والظلم فيه والوعيد الشديد لفاعل ذلك.
2- مكة بلد الله وحرمه من حق كل مسلم أن يقيم بها للتعبد والتنسك ما لم يظلم وينتهك حرمة الحرم بالذنوب والمعاصي، وخاصة الشرك والظلم والضلال.
3- عظيم شأن الحرم حيث يؤاخذ فيه على مجرد العزم على الفعل ولو لم يفعل.
وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
__________
1 الباء : في بإلحاد: الاجماع على أنها صلة لتقوية الكلام لشيوع مثلها في كلام العرب والأصل: ومن يرد فيه إلحاداً قال الشاعر:
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج
نضرب بالسيف ونرجوا بالفرج
2 لا يؤاخذ المؤمن بالنية السيئة في أي بلد كان إلاّ بمكة المكرمة لهذه الآية.

شرح الكلمات:
إذ بوأنا لإبراهيم: أي أذكر يا رسولنا إذ بوأنا: أي أنزلنا إبراهيم بمكة مبينين له مكان البيت.
أن لا تشرك بي1 شيئاً: أي ووصيناه بأن لا تشرك بي شيئاً من الشرك والشركاء.
وطهر بيتي : ونظف بيتي من أقذار الشرك وأنجاس المشركين.
وأذن في الناس بالحج: أعلن في الناس بأعلى صوتك.
رجالاً وعلى كل ضامر : مشاة وركباناً على ضوامر الإبل.
فج عميق : طريق واسع بعيد الغور في قارات الأرض.
في أيام معلومات: هي أيام التشريق.
بهيمة الأنعام : أي الإبل والبقر والغنم إذ لا يصح الهدى إلا منها.
البائس الفقير : أي الشديد الفقر.
ليقضوا تفثهم : أي ليزيلوا أوساخهم المترتبة على مدة الإحرام.
وليوفوا نذورهم: أي بأن يذبحوا وينحروا ما نذروه لله من هدايا وضحايا.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {وإذ بوأنا لإبراهيم2} أي اذكر يا رسولنا لقومك المنتسبين إلى إبراهيم باطلاً وزوراً حيث كان موحداً وهم مشركون اذكر لهم كيف بوأه ربّه مكان البيت لِيَبْنِيه ويرفع بناءه وكيف عهد الله إليه ووصاه بأن يطهره من الأقذار الحسية كالنجاسات من دماء وأوساخ والمعنوية كالشرك والمعاصي وسائر الذنوب وذلك من أجل الطائفين به والقائمين في الصلاة والراكعين والساجدين فيه إذ الرُّكع جمع راكع والسجد جمع ساجد حتى لا يتأذوا بأي أذى معنوي أو حسيّ وهم حول بيت ربهم وفي بلده وحرمه، ليذكر قومك هذا وهم قد نصبوا حول البيت التماثيل والأصنام، ويحاربون كل من يقول لا إله إلا الله وقد صدوك وأصحابك عن المسجد الحرام ومنعوك من الطواف بالبيت العتيق، فأين يذهب
__________
1 {أن}: الصحيح أنها تفسيرية والقول أو ما في معناه: مقدر فيها نحو وقلنا أو وصينا أو عهدنا.
2 يقال: بوأه كذا وبوأ له كذا فاللام مزيدة لتقوية الكلام كما يقال مكنته من كذا، ومكنت له كذا، ومعنى بوأنا لإبراهيم أي: أريناه أصله. وكان قد درس بطول العهد وأنزلناه فيه.

بعقولهم عندما يدعون أنهم على دين إبراهيم وإسماعيل. هذا ما دل عليه قوله تعالى: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بني شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود}.
وقوله تعالى: {وأذن في الناس بالحج1} أي وعهدنا إليه آمرين إياه أن يؤذن في الناس بأن ينادي معلناً معلماً: أيها الناس2 إن ربكم قد بنى لكم بيتاً فحجوه ففعل ذلك فأسمع الله صوته من شاء من عباده ممن كتب لهم أزلا أن يحُجوا وسهل طريقهم وحجوا فعلاً ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى: {يأتوك رجالاً} أي عليك النداء وعلينا البلاغ فنادِ {يأتوك رجالاً} أي مشاة {وعلى كل ضامر} من النوق المهازيل {يأتين من كل فج عميق} أي طريق بعيد في أغوار الأرض وأبعادها كالأندلس غرباً وأندونيسيا شرقاً. وقوله تعالى: {ليشهدوا منافع لهم} أي يأتوك ليشهدوا منافع لهم دينيَّة كمغفرة ذنوبهم واستجابة دعائهم والفوز برضا ربهم، وتعلم دينهم من علمائهم، ودنيويّة كربح تجارة ببيع وشراء وعرض سلع وأنواع صناعات، وقوله تعالى: {ويذكروا اسم الله} شاكرين لله تعالى إنعامه عليهم وإفضاله وذلك في أيام الحج كلها من العشر الأول من ذي الحجة إلى نهاية أيام التشريق بالصلاة والذكر والدعاء، كما يذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام عند نحر الإبل وذبح البقر والغنم بأن يقول الناحر أو الذابح بسم الله والله أكبر3 قوله تعالى: {فكلوا منها} أي من بهيمة الأنعام التي نحرتموها أو ذبحتموها4 تقرباً إلينا كهدى التمتع أو التطوع، {واطعموا البائس الفقير} وهو من اشتد به الفقر وقوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم} بإزالة الشعث والوسخ الذي لازمهم طيلة مدة الإحرام. وقوله: {وليوفوا نذورهم} أن من كان منهم قد نذر هدياً بذبحه في الحرم فليوف بذلك إذ هذا أوان الوفاء بما نذر أن ينحره أو يذبحه
__________
1 وقرىء: {وآذن} بمعنى: أعلم، {وأذّن}: قراءة الجمهور وهي أولى، والأذان: الإعلام.
2 روي عن ابن عباس وابن جير: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، وقيل له: أذن في الناس بالحج قال له يا ربّ: وما يبلغ صوتي؟ قال: أذّن وعليّ البلاغ فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبي قبيس وصاح يا أيها الناس إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار فحجوا فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك فمن أجاب يومئذ حجّ على قدر الإجابة إن أجاب مرّة فمرة وإن أجاب مرتين فمرتين وجرت التلبية على ذلك.
3 السنة في ذبح الأضحية أن تكون بعد صلاة العيد، ومن ذبح قبل ذلك أعاد لقوله صلى الله عليه وسلم: "من ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم" ويستحب في ذبح الأضحية والهدي أن يقول بعد التسمية الواجبة: اللهم منك ولك.
4 المشهور وعليه الأكثر أنّ أيام النحر ثلاثة وهي: أيام التشريق الثلاثة بعد يوم العيد.

بالحرم. وقوله: {وليطوفوا بالبيت العتيق} أي وليطوفوا طواف الإفاضة وهو ركن الحج ولا يصح إلا بعد الوقوف بعرفة ورمي جمرة العقبة صباح العيد عيد الأضحى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب بناء البيت وإعلائه كلما سقط وتهدم ووجوب تطهيره من كل ما يؤذي الطائفين والعاكفين في المسجد الحرام من الشرك والمعاصي وسائر الذنوب ومن الأقذار كالأبوال والدماء ونحوها.
2- مشروعية فتح مكاتب للدعاية للحج.
3- جواز الاتجار أثناء إقامته في الحج.
4- وجوب شكر الله تعالى وذكره.
5- جواز الأكل من الهدي ومن ذبائح التطوع بل استحبابه.
6- وجوب الحلق أو التقصير بعد رمي جمرة العقبة.
7- وجوب الوفاء بالنذور الشرعية1 أما النذور للأولياء فهي شرك ولا يجوز الوفاء بها.
8- تقرير طواف الإفاضة2 وبيان زمنه وهو بعد الوقوف بعرفة وعي جمرة العقبة.
ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ
__________
1 لقوله صلى الله عليه وسلم لا وفاء لنذر في معصية الله، وقال ومن نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه.
2 أما طواف القدوم فواجب عند مالك وطواف الوداع سنة مؤكدة ويسقط بالعذر عند أكثر أهل العلم، لسقوطه عن الحائض إجماعاً، ومن أهل العلم من يرى طواف القدوم سنة ليس بواجب.

(32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
شرح الكلمات:
ذلك: أي الأمر هذا مثل قول المتكلم هذا أي ما ذكرت.. وكذا وكذا..
حرمات الله : جمع حرمة ما حرَّم الله إنتهاكه من قول أو فعل.
فهو خير له عند ربه : أي خير في الآخرة لمن يعظم حرمات الله فلا ينتهكها.
إلا ما يتلى عليكم : أي تحريمه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به.
فاجتنبوا الرجس: أي اجتنبوا عبادة الأوان.
واجتنبوا قول الزور : وهو الكذب وأعظم الكذب ما كان على الله تعالى1 والشرك وشهادة الزور.
حنفاء لله : موحدين له مائلين عن كل دين إلى الإسلام.
خرَّ من السماء : أي سقط.
فتخطفه الطير: أي تأخذه بسرعة.
شعائر الله : أعلام دينه وهي هنا البُدْن بأن تختار الحسنة السمينة منها.
فإنها من تقوى القلوب : أي تعظيمها ناشىء من تقوى قلوبهم.
لكم فيها منافع: منها ركوبها والحمل عليها بما لا يضرها وشرب لبنها.
إلى أجل مسمى: أي وقت معين وهو نحرها بالحرم أيام التشريق.
ثم محلها إلى البيت العتيق : أي عند البيت العتيق وهو مكة والحرم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في مناسك الحج قوله تعالى {ذلك} أي الأمر ذاك الذي علمتم من قضاء التفث أي إزالة شعر الرأس وقص الشارب وقلم الأظافر ولباس الثياب ونحر وذبح الهدايا والضحايا، {ومن يعظم} منكم {حرمات الله} فلا ينتهكها {فهو خير له} أي ذلك التعظيم لها باحترامها وعدم انتهاكها خير له عند ربّه يوم يلقاه وقوله تعالى: {وأحلت لكم
__________
1 وكذلك الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله: "من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".

الأنعام} أي الإبل والبقر والغنم أحل الله تعالى لكم أكلها، والانتفاع بها وقوله تعالى: {إلا ما يتلى عليكم} تحريمه كما جاء في سورة البقرة والمائدة والأنعام، ومن ذلك قوله تعالى : {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيَّتُمْ وما ذبح على النصب} وقوله: {فاجتنبوا الرجس1 من الأوثان} أي اجتنبوا عبادة الأوثان فإنها رجس فلا تقربوها بالعبادة ولا بغيرها غضبا لله وعدم رضاً بها وبعبادتها، وقوله: {واجتنبوا قول الزور} وهو الكذب مطلقاً وشهادة الزور وأعظم الكذب ما كان على الله بوصفه بما هو منزه عنه أو بنسبه شيء إليه كالولد والشريك وهو عنه منزه، أو وصفه بالعجز أو بأي نقص وقوله {خنفاء2 لله غير مشركين} أي موحدين لله تعالى في ذاته وصفاته وعباداته مائلين عن كل الأديان إلى دينه الإسلام، غير مشركين به أي شيء من الشرك أو الشركاء وقوله تعالى : {ومن يشرك بالله} إلهاً آخر فعبده أو صرف له بعض العبادات التي هي لله تعالى فحاله في خسرانه وهلاكه هلاك من خرَّ من السماء أي سقط منها بعدما رفع إليها {فتخطفه الطير} أي تأخذه بسرعة وتمزقه أشلاء كما تفعل البازات والعقبان بصغار الطيور، أو تهوى به الريح في مكان سحيق بعيد فلا يعثر عليه أبداً فهو بين أمرين إما اختطاف الطير له أو هوى الريح به فهو خاسر هالك هذا شأن من يشرك بالله تعالى فيعبد معه غيره بعد أن كان في سماء الطهر والصفاء الروحي بسلامة فطرته وطيب نفسه فانتكس في حمأة الشرك والعياذ بالله وقوله تعالى: {ذلك ومن يعظم3 شعائر الله فإنها من تقوى4 القلوب} أي الأمر ذلك من تعظيم حرمات الله واجتناب قول الزور والشرك وبيان خسران المشرك ومن يعظم شعائر الله وهي أعلام دينه من سائر المناسك وبخاصة البدن التي تهدى للحرم وتعظيمها باستحسانها واستسماتها ناشىء عن تقوى القلوب فمن عظمها طاعة لله تعالى وتقرباً إليه دل ذلك
__________
1 الرجس: الشيء القذر، والوثن: التمثال من خشب أو حديد وغيرهما ومن: كونها لابتداء الغاية أولى ليعم الأمر اجتناب كل رجس في اعتقاد أو قول أو عمل إذ كل الأنجاس محرَّمة.
2 لفظ: حنفاء: من الأضداد يقع على الاستقامة والميل معاً، ومعناها مائلين عن الشرك إلى التوحيد، وعن الأديان إلى الإسلام.
3 الشعائر: جمع شريعة. وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر عباده به وأعلمهم، والشعار: العلامة، ومنه شعار الحرب وإشعار: البدنة لتعلم أنها مهداة للحرم، فشعائر الله: أعلام دينه لاسيما المناسك وما يتعلّق بها.
4 أضيفت التقوى إلى القلوب لأنّ حقيقة التقوى في القلب، والتقوى من الخوف والخوف في القلب ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: "التقوى ها هنا" وأشار إلى صدره ثلاث مرات.

على تقوى قلبه لربه تعالى والرسول يشير إلى صدره ويقول التقوى ها هنا التقوى ها هنا ثلاث مرات وقوله تعالى: {لكم فيها منافع إلى أجل مسمى} أي أذن الله تعالى للمؤمنين أن ينتفعوا بالهدايا وهم سائقوها إلى الحرم بأن يركبوها1 ويحملوا عليها ما لا يضرها ويشربوا من ألبانها وقوله تعالى: {ثم محلها إلى البيت2 العتيق} أي محلها عند البيت العتيق وهو الحرم حيث تنحر إن كان مما ينحر أو تذبح إن كان مما يذبح.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- وجوب تعظيم حرمات الله لما فيها من الخير العظيم.
2- تقرير حلِّيَّة بهيمة الأنعام بشرط ذكر اسم ا!ته عند ذبحها أو نحرها.
3- حرمة قول الزور وشهادة الزور وفي الأثر عدلت3 شهادة الزور الشرك بالله.
4- وجوب ترك عبادة الأوثان ووجوب البعد عنها وترك كل ما يمت إليها بصلة.
5- بيان عقوبة الشرك وخسران المشرك.
6- تعظيم شعائر الله وخاصة البدن من تقوى قلوب أصحابها.
7- جواز الانتفاع بالبدن الهدايا بركوبها وشرب لبنها والحمل عليها إلى غاية نحرها بالحرم.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا
__________
1 في الصحيح أنّ رجلاً يسوق بدنه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "اركبها فقال الرجل إنها بدنة قال: اركبها قال: إنها بدنة، وفي الثالثة قال له صلى الله عليه وسلم: اركبها ويلك"
2 إن كان الهدي في الحج فمحلّه بعد رمي جمرة العقبة ولا ينحر أو يذبح قبله، وإن كان في غير الحج، وإنما هدي مهدى إلى الحرم فمحلّه مكة حيث يطعمه فقراؤها وفقراء الحرم كله.
3 وفي الصحيح :"إن أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور .. " الحديث.

رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
شرح الكلمات:
منسكاً : أي ذبائح من بهيمة الأنعام يتقربون بها إلى الله تعالى، ومكان الذبح يقال له منسك.
فله أسلموا: أي انقادوا ظاهراً وباطناً لأمره ونهيه.
وبشر المخبتين: أي المطيعين المتواضعين الخاشعين.
وجلت قلوبهم : أي خافت من الله تعالى أن تكون قصَّرتْ في طاعته.
والبدن : جمع بدنة وهى ما يساق للحرم من إبل وبقر ليذبح تقرباً إلى الله تعالى.
م ن شعائر الله: أي من أعلام دينه، ومظاهر عبادته.
صوآف : جمع صافة وهي القائمة على ثلاث معقولة اليد اليسرى.
فإذا وجبت جنوبها: أي بعد أن تسقط على جنوبها على الأرض لا روح فيها.
القانع والمعتر : القانع1 السائل والمعتر الذي يتعرض للرجل ولا يسأله حياء وعفة.
__________
1 القانع: من الأضداد يطلق على ذي القناعة وعلى من لا قناعة له فهو يسأل، إلاّ أن الفعل الماضي لذي القناعة مكسور العين فعل كعلم، وفعل: من لا قناعة له فهو يسأل فعل: بفتح العين كنصح ينصح.

كذلك سخرناها: أي مثل هذا. التسخير سخرناها لكم لتركبوا عليها وتحملوا وتحلبوا.
لعلكم تشكرون : أي لأجل أن تشكروا الله تعالى بحمده وطاعته.
لن ينال الله لحومها: أي لا يرفع إلى الله لحم ولا دم، ولكن تقواه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه.
لتكبروا الله على ما هداكم : أي تقولون الله أكبر بعد الصلوات الخمس أيام التشريق شركاً له على هدايته إياكم.
وبشر المحسنين : أي الذين يريدون بالعبادة وجه الله تعالى وحده ويؤدونها على الوجه المشروع.
معنى الآيات:
ما زال السياق في توجيه المؤمنين وإرشادهم إلى ما يكملهم ويسعدهم في الدارين فقوله تعالى: {ولكل أمة جعلنا منسكاً} أي ولكل أمة من الأمم السابقة من أهل الإيمان والإسلام جعلنا لهم مكان نسك يتعبدوننا فيه ومنسكاً1 أي ذبح قربان ليتقربوا به إلينا، وقوله: {ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} أي شرعنا لهم عبادة ذبح القربان لحكمة: وهو أن يذكروا اسمنا على ذبح ما يذبحون ونحر ما ينحرون بأن يقولوا بسم الله والله أكبر. وقوله تعالى: {فإلهكم إله واحد} أي فمعبودكم أيها الناس معبود واحد {فله أسلموا} وجوهكم وخصوه بعبادتكم ثم قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم {وبشر المخبتين} برضواننا ودخول دار كرامتنا ووصف المخبتين معرفاً بهم الذين تنالهم البشرى على لسان رسول الله فقال {الذين إذا ذكر الله} لهم أو بينهم {وجلت قلوبهم} أي خافت شعوراً بالتقصير في طاعته وعدم أداء شكره والغفلة عن ذكره {والصابرين على ما أصابهم} من البلاء فلا يجزعون ولا يتسخطون ولكن يقولون إنا لله وإنا إليه راجعون،
__________
1 يقال: نسك ينسك نُسكاً: إذا ذبح ذبح تقرّب لله تعالى، والذبيحة تسمى نسيكة وجمعها: نسك، ومنها قوله تعالى: {أو صدقة أو نسك} والنسك: الطاعة لله، وهي عبادته، ومن ذلك قولهم: تنسّك فلان: أي تعبد فهو ناسك ومتنسك، والمنسك بفتح السين وكسرها موضع العبادة، ومنه مناسك الحج وهي الأماكن التي تؤدى فيها الشعائر كعرفات ومزدلفة ومنى ومكة.

{والمقيمي} الصلاة1 أي بأدائها في أوقاتها في بيوت الله مع عباده المؤمنين ومع كامل شرائطها وأركانها وسننها {ومما رزقناهم ينفقون} مما قل أو كثر ينفقون في مرضاة ربهم شكر الله على ما آتاهم وتسليماً بما شرع لهم وفرض عليهم.
وقوله تعالى: {والبدن2 جعلناها لكم من شعائر الله} أي الإبل والبقر مما يُهدى إلى الحرم جعلنا ذلكم من شعائر ديننا ومظاهر عبادتنا، {لكم فيها خير} عظيم وأجر كبير عند ربكم يوم تلقوه إذ ما تقرب متقرب يوم عيد الأضحى بأفضل من دم يهرقه في سبيل الله وعليه {فاذكروا اسم الله عليها} أي قولوا بسم الله والله أكبر عند نحرها، وقوله: {صوآف3} أي قائمة على ثلاثة معقولة اليد اليسرى، فإذا نحرتموها ووجبت أي سقطت على جنوبها فوق الأرض ميتة {فكلوا منها وأطعموا القانع4} الذي يسألكم {والمعتر} الذي يتعرض لكم ولا يسألكم حياءاً، وقوله تعالى: {سخرناها لكم} أي مثل ذلك التسخير الذي سخرناها لكم فتركبوا وتحلبوا وتذبحوا وتأكلوا سخرناها لكم من أجل أن تشكرونا بالطاعة والذكر. وقوله تعالى في آخر آية في هذا السياق وهي (37) قوله: {لن5 ينال الله لحومها ولا دماؤها} أي لن يرفع إليه لحم ولا دم ولن يبلغ الرضا منه، ولكن التقوى بالإخلاص وفعل الواجب والمندوب وترك الحرام والمكروه هذا الذي يرفع إليه ويبلغ مبلغ الرضا منه.
__________
1 قرأ الجمهور بكسر التاء من الصلاة على الإضافة، وقرأ أبو عمرو: (الصلاة) بفتحها على توهم النون، وأنّ حذفها كان للتخفيف لطول الاسم. وأنشد سيبويه:
الحافظو عورة العشيرة لا
يأتيهم من ورائنا نَطف
النطف: التلطخ بالعيب والاتهام بريبة أو فجور.
2 البدن: بضم الباء والدال، والبُدن: بضم الباء وإسكان الدال لغة فصيحة وقرأ الجمهور: (والبدن) بإسكان الدال واحدها بدنة كثمرة وثمر، وخشبة وخشب وسميت بدنة لأنها تبدن، والبدانة: السمن، وتطلق على البقر على الصحيح فمن نذرها أجزأته البقرة، وهي كالبعير تجزىء عن سبعة في هدي التمتع والقرآن.
3 أصل هذا اللفظ مأخوذ من صفن الفرس إذا وقف على ثلاثة أرجل، ورفع الرابعة ومنها: تنحر الإبل بعد أن توقف على ثلاثة وتعقد اليد اليسرى منها، وقرىء (صوافي) و(صوافٍ) من الصفاء الذي هو الخلوص لله تعالى أي: خالصة له عزّ وجلّ.
4 القانع: اسم فاعل من قنع يقنع فهو قانع: إذا سأل وتذلل في السؤال: أما القانع بمعنى: ذي القناعة ففعله قنع بكسر النون قناعة: إذا اكتفى بما عنده ولم يسأل قال مالك: أحسن ما سمعت أن القانع: الفقير، والمعتر، الزائر وهو موافق في المعنى لما تقدم، ويؤيد هذا قراءة الحسن: (والمعتري) وهو الذي يتعرض لك ويأتك بدون علم منك.
5 قال ابن عباس رضي الله عنهما: لن يصعد إليه. أي اللحم والدم، ولكن الذي يصل إليه التقوى منكم وما أريد به وجهه.

وقوله تعالى: {كذلك سخرها لكم} أي كذلك التسخير الذي سخرها لكم لعلَّة أن تكبروا الله على ما هداكم إليه من الإيمان والإسلام فتكبروا الله عند نحر البدن وذبح الذبائح وعند أداء المناسك وعقب الصلوات الخمس أيام التشريق. وقوله تعالى: {وبشر المحسنين} أمر الله تعالى رسوله والمبلغ عنه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يبشر باسمه المحسنين الذين أحسنوا الإيمان والإسلام فوحدوا الله وعبدوه بما شرع وعلى نحو ما شرع متبعين في ذلك هدى رسوله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ذبح القربان مشروع في سائر الأديان الإلهية وهو دليل على أنه لا إله إلا الله إذ وحدة التشريع تدل على وحدة المشرع.
وسر مشروعية ذبح القربان هو أن يذكر الله تعالى، ولذا وجب ذكر اسم الله عند ذبح ما يذبح ونحر ما ينحر بلفظ بسم الله والله أكبر.
2- تعريف المخبتين أهل البشارة السارة برضوان الله وجواره الكريم.
3- وجوب ذكر اسم الله على بهيمة الأنعام.
4- بيان كيفية نحر البدن، وحرمة الأخذ منها قبل موتها وخروج روحها.
5- الندب إلى الأكل من الهدايا ووجوب إطعام الفقراء والمساكين منها.
6- وجوب شكر الله على كل إنعام.
7- مشروعية التكبير عند أداء المناسك كرمي الجمار وذبح ما يذبح وبعد الصلوات الخمس أيام التشريق.
8- فضيلة الإحسان وفوز المحسنين ببشرى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ

لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ (41 )
شرح الكلمات:
يدافع : قُرِىء يدفع أي غوائل المشركين وما يكيدون به المؤمنين.
خوان : كثير الخيانة لأمانته وعهوده.
كفور: أي جحود لربه وكتابه ورسوله ونعمه عليه.
بأنهم ظلموا : أي بسبب ظلم المشركين لهم.
بغير حق: أي استوجب إخراجهم من ديارهم.
إلا أن يقولوا ربنا الله: أي إلا قولهم: ربنا الله والله حق، وهل قول الحق يُسَوغ إخراج قائله؟
صوامع وبيع: معابد الرهبان وكنائس النصارى.
وصلوات: معابد اليهود، باللغة العبرية مفردها صلوثا.
ومساجد: أي بيوت الصلاة للمسلمين.
من ينصره : أي ينصر في ينه وعباده المؤمنين.
قوي عزيز: قادر على ما يريد عزيز لا يمانع فيما يريد.
إن مكناهم في الأرض: أي نصرناهم على عدوهم ومكنا لهم في البلاد بأن جعلنا السلطة بأيديهم.

ولله عاقبة الأمور : أي آخر أمور الخلق مردها إلى الله تعالى الذي يثيب ويُعاقب.
معنى الآيات:
ما زال السياق في إرشاد المؤمنين وتعليمهم وهدايتهم قوله تعالى: {إن1 الله يدافع عن2 الذين آمنوا} أي يدفع عنهم غوائل المشركين ويحميهم من كيدهم ومكرهم. وقوله: {إن الله لا يجب كل خوَّان كفور3} تعليل وهم المشركين الذين صدوا رسول الله والمؤمنين عن المسجد الحرام وهم الخائنون لأماناتهم وعهودهم الكافرون بربهم ورسوله وكتابه وبما جاء به، ولما كان لا يحبهم فهو عليهم، وليس لهم. ومقابله أنه يحب كل مؤمن صادق في إيمانه محافظ على أماناته وعهوده مطيع لربه، ومن أحبَّهُ دافع عنه وحماه من أعدائه.
وقوله تعالى: {أُذن للذين يقاتلون} باسم للفاعل أي القادرين على القتال ويقاتلون باسم المفعول وهما قراءتان أي قاتلهم المشركون هؤلاء أذن4 الله تعالى لهم في قتال أعدائهم المشركين بعدما كانوا ممنوعين من ذلك لحكمة يعلمها ربهم، وهذه أول آية في القرآن تحمل طابع الحرب بالإذن فيه للمؤمنين، وقوله: {وإن الله على نصرهم لقدير} طمأنهم على أنه معهم بتأييده ونصره وهو القدير على ذلك وقوله تعالى: {الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق} أي بدون موجب لإخراجهم اللهم إلا قولهم5: ربنا الله وهذا حق وليس بموجب لإخراجهم من ديارهم وطردهم من منازلهم وبلادهم هذه الجملة بيان لمقتضى الإذن لهم بالقتال، ونصرة الله تعالى لهم. وقوله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم6 ببعض} أي يدفع بأهل الحق أهل الباطل لولا هذا لتغلب أهل الباطل و{لهدمت
__________
1 روي أن هذه الآية: {إن الله يدافع..} نزلت بسبب أن المؤمنين بمكة لما كثر اضطهاد المشركين لهم فكر بعضهم في اغتيال الكفار، والاحتيال عليهم والغدر بهم فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله: {كفور}.
2 قرأ الجمهور: {يدافع} وقرأ بعضهم: {يدفع}.
3 الخوّان: كثير الخيانة، وهي الغدر، والغدر من شر الصفات، فقد صحّ "أن الله تعالى ينصب يوم القيامة للغادر لواءً عند أسته بقدر غدرته: يقال هذه غدرة فلان بن فلان"!!
4 هذه الآية نزلت بالمدينة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إليها وفيها إذن بقتال المشركين بعد المنع الأوّل فهي أول آية بالإذن بالقتال بعدما كان غير مأذون فيه كما تقدم.
5 قوله: {إلاّ أن قالوا ربنا الله .}." الاستثناء منقطع أي: لكن لقولهم ربنا الله أي: وحده لا ربّ لنا سواه استمرّت مدة السلم ثلاث عشرة سنة، وفي السنة الأولى من الهجرة أذن الله تعالى للمؤمنين بقتال المشركين إذ قد أعذر الله تعالى إليهم.
6 في الآية دليل على أن أمر الجهاد متقدم في الأمم قبل هذه الأمّة وبه صلحت الرائع وعبد الناس ربّهم، واستقامت أمورهم وصلحت أحوالهم.

صوامع وبيع1 وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا} وهذا تعليل أيضاً وبيان لحكمة الأمر بالقتال أي لولا أن الله تعالى يدفع بأهل الإيمان أهل الكفر لتغلب أهل الكفر وهدموا المعابد ولم يسمحوا للمؤمنين أن يعبدوا الله- وفي شرح الكلمات بيان للمعابد المذكورة فليرجع إليها.
وقوله تعالى: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي} أي قدير {عزيز} غالب فمن أراد نصرتة نَصَرهُ ولو اجتمع عليه من بأقطار الأرض، والذي يريد الله نصرته هو الذي يقاتل من أجل الله بأن يُعبد في الأرض ولا يُعبد معه سواه فذلك وجه نصر الله فليعلم وقوله {الذين إن مكناهم2} أي وطأنا لهم في الأرض وملكناهم بعد قهر أعدائهم المشركين فحكموا وسادوا أقاموا الصلاة على الوجه المطلوب منهم، وآتوا الزكاة المفروضة في أموالهم، وأمروا بالمعروف أي بالإسلام والدخول فيه وإقامته، ونهوا عن المنكر وهو الشرك والكفر ومعاصِي الله ورسوله هؤلاء الأحقون بنصر الله تعالى لهم لأنهم يقاتلون لنصرة الله عز وجل، وقوله تعالى: {ولله عاقبة الأمور} يخبر تعالى بأن مرد كل أمر إليه تعالى يحكم فيه بما هو الحق والعدل فيثيب على العمل الصالح ويعاقب على العمل الفاسد، وذلك يوم القيامة، وعليه فليراقب الله وليُتق في السر والعلن وليُتوكل عليه، وليُنب إليه، فإن مرد كل أمر إليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وعد الله الصادق بالدفاع عن المؤمنين الصادقين في إيمانهم.
2- كره الله تعالى لأهل الكفر والخيانة.
3- مشروعية القتال لإعلاء كلمة الله بأن يعبد وحده ولا يضطهد أولياؤه.
4- بيان سر الإذن بالجهاد ونصرة الله لأوليائه الذين يقاتلون من أجله.
__________
1 في الآية دليل على أنه لا يجوز لنا هدم معابد اليهود والنصارى، وإنما يمنعون من زيادة البناء حتى لا يكون ذلك إذناً بالبقاء على الكفر وهو حرام.
2 هذه عامة في هذه الأمة وليست خاصة بالخلفاء الراشدين الأربعة ولا بالصحابة والتابعين بل هي عامة فيمن مكن الله تعالى لهم في الأرض فسوّدهم وحكّمهم وجب عليهم أن يقوموا بفعل ما ذكر في هذه الآية من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

5- بيان أسس الدولة التي ورثّ الله أهلها البلاد وملكهم فيها وهي:
إقام الصلاة – إيتاء الزكاة – الأمر بالمعروف- النهي عن المنكر.
وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأابْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
شرح الكلمات:
وإن يكذبوك : أي إن يكذبك قوم فقد كذبت قبلهم قوم نوح إذاً فلا تأس إذ لست وحدك المكذب.
وأصحاب مدين: هم قوم شعيب عليه السلام.
وكذب موسى : أي كذبه فرعون وآله الأقباط.
فأمليت للكافرين: أي أمهلتهم فلم أُعجل العقوبة لهم.
ثم أخذتهم : أي بالعذاب المستأصل لهم.
فكيف كان نكير: أي كيف كان إنكاري عليهم تكذيبهم وكفرهم أكان واقعاً موقعه؟ نعم إذ الاستفهام للتقرير.
فهي خاوية على عروشها: أي ساقطة على سقوفها.

بئر معطلة: أي متروكة لا يستخرج منها ماء لموت أهلها.
وقصر مشيد: مرتفع مجصص بالجص.
فإنها لا تعمى الأبصار: أي فإنها أي القصة لا تعمى الأبصار فإن الخلل ليس في أبصارهم ولكن في قلوبهم حيث أعماها الهوى وأفسدتها الشهوة والتقليد لأهل الجهل والضلال.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في دعوة قريش إلى الإيمان والتوحيد وإن تخللته إرشادات للمؤمنين فإنه لما أذن للمؤمنين بقتال المشركين بين مقتضيات هذا الإذن وضمن النصرة لهم وأعلم أن عاقبة الأمور إليه لا إلى غيره وسوف يقضي بالحق والعدل بين عباده يوم يلقونه. قال لرسوله صلى الله عليه وسلم مسلياً له عن تكذيب المشركين له: {وإن يكذبوك1} أيها الرسول فيما جئت به من التوحيد والرسالة والبعث والجزاء يوم القيامة فلا تأس ولا تحزن {فقد كذبت قبلهم} أي قبل مُكذِّبيك من قريش والعرب واليهود {قوم نوح وعاد} قوم هود {وثمود} قوم صالح {وقوم إبراهيم وقوم لوط، وأصحاب مدين، وكُذَّب موسى} أيضاً مع ما آتيناه من الآيات البينات، وكانت سنتي فيهم أني أمليت لهم أي مددت لهم في الزمن وأرخيت لهم الرسن حتى إذا بلغوا غاية الكفر والعناد والظلم والاستبداد وحقت عليهم كلمة العذاب أخذتهم أخذ العزيز المقتدر {فكيف كان نكير2} أي إنكاري عليهم؟ كان وربّك واقعاً موقعه، وليس المذكورون أخذت فقط.. {فكأين من قرية} عظيمة غانية برجالها ومالها وسلطانها {أهلكناها وهي ظالمة} أي ضالعة في الظلم أي الشرك والتكذيب {فهي خاوية على عروشها3} أي ساقطة على سقوفها، وكم من بئر ماء4 عذب كانت سقيا لهم فهي الآن معطلة، وكم من قصر مشيد أي رفيع مشيد بِالجص إذ
__________
1 الآية في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتعزيته من جرّاء ما يلاقي من قومه من أنواع التكذيب والعناد والجحود.
2 أي: تغييري ما كانوا فيه من النعم بالعذاب والهلاك. والإنكار والنكير: تغيير المنكر.
3 العروش: جمع عرش وهو السقف. والمعنى: إن جدرانها فوق سقفها.
4 قرأ نافع: {وبير} بدون همزة تخفيفاً.

مات أهله وتركوه1 هذا ما تضمنته الآيات الأربع (42، 43، 44، 45) أما الآية الأخيرة من هذا السياق فالحق عز وجل يقول2 {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها} حاثاً المكذبين من كفار قريش والعرب على السير في البلاد ليقفوا على آثار الهالكين فلعل ذلك يكسبهم حياة جديدة في تفكيرهم ونظرهم فتكون لهم قلوب حية واعية يعقلون بها خطابنا إليهم ونحن ندعوهم إلى نجاتهم وسعادتهم أو تكون لهم آذان يسمعون بها نداء النصح والخير الذي نوجهه إليهم بواسطة كتابنا ورسولنا، وما لهم من عيون مبصرة بدون قلوب واعية وآذان صاغية فإن ذلك غير نافع {فإنها لا3 تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور4}. وهذا حاصل القول ألا فليسيروا لعلهم يكسبون عبراً وعظات تحصي قلوبهم وسائر حواسهم المتبلدة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تكذيب الرسل والدعاة إلى الحق والخير سنة مطردة في البشر لها عواملها من أبرزها التقليد والمحافظة على المنافع المادية، وظلمات القلب الناشئة عن الشرك والمعاصي.
2- مظاهر قدرة الله تعالى في إهلاك الأمم والشعوب الظالمة بعد الإمهال لهم والإعذار.
3- مشروعية طلب العبر وتصيدها من آثار الهالكين.
4- العبرة بالبصيرة القلبية لا بالبصر فكم من أعمى هو أبصر للحقائق وطرق النجاة من ذي بصر حاد حديد. ومن هنا كان المفروض على العبد أن يحافظ على بصيرته أكثر من المحافظة على عينيه، وذلك بأن يتجنب مدمرات القلوب من الكذب والترهات والخرافات، والكبر والعجب والحب والبغض في غير الله.
__________
1 {وقصر مشيد} أي: مبني بالشيد وهو الجص أي: مثلها معطّل.
2 الاستفهام للتعجيب من حالهم وهم في غيهم وجهلهم.
3 {فإنها..} أي: الحال أو القصة لا تعمى الأبصار: قال ابن عباس رضي الله عنهما ومقاتل لما نزلت: {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى} سأل ابن أم مكتوم النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى فنزلت هذه الآية: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} الآية صريحة في أنّ العقل في القلب، ولا منافاة بين من يرى ذلك في المخ إذ ارتباط كبير بين المخ والقلب في حصول الوعي والإدراك للإنسان.
4 ذكر الصدور ظرفاً للقلوب للتأكيد إذا القلوب لا تكون إلا في الصدور فهو كقوله تعالى : {ولا طائر يطير بجناحيه..} "وكقولهم رأيت بعيني".

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
شرح الكلمات:
يستعجلونك بالعذاب: أي يطالبونك مستعجلينك بما حذّرتهم منه من عذاب الله.
كألف سنة مما تعدون: أي من أيام الدنيا ذات الأربع والعشرين ساعة.
وكأين من قرية : أي وكثير من القرى أي العواصم والحواضر الجامعة لكل أسباب الحضارة.
أمليت لها: أي أمهلتها فمددت أيام حياتها ولم استعجلها بالعذاب.
نذير مبين: منذر أي مخوف عاقبة الكفر والظلم بيّنُ النذارة.
لهم مغفرة ورزق كريم : أي ستر لذنوبهم ورزق حسن في الجنة.
سعوا في آياتنا معاجزين : أي عملوا بجد واجتهاد في شأن إبعاد الناس عن الإيمان بآياتنا وما تحمله من دعوة إلى التوحيد وترك الشرك والمعاصي.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم وتوجيهه في دعوته إلى الصبر والتحمل فيقول له: {ويستعجلونك بالعذاب1} أي يستعجلك المشركون من قومك بالعذاب الذي خوفتهم به وحذرتهم منه، {ولن يخلف الله وعده} وقد وعدهم فهو واقع بهم لا بد وقد
__________
1 قيل: نزلت في النضر بن الحارث ورفقائه إذ كانوا يستعجلون العذاب ويطالبون رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنزاله تحدياً منهم وعناداً، وفيهم نزل: {سأل سائل بعذاب واقع}. {إذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق..} الآية.

تم ذلك في بدر وقوله تعالى: {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} فلذا تعالى لا يستعجل وهم يستعجلون فيوم الله بألف سنة، وأيامهم بأربع وعشرين ساعة فإذا حدد تعالى لعذابهم يوماً معناه أن العذاب لا ينزل بهم إلا بعد ألف سنة، ونصف يوم بخمسمائة سنة، وربع يوم بمائتين وخمسين سنة وهكذا فلذا يستعجل الإنسان ويستبطىء، والله عز وجل ينجز وعده في الوقت الذي حدده فلا يستخفه استعجال المجرمين العذاب ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {ولو لا أجل مسمى لجاءهم العذاب} من سورة العنكبوت هذا ما دلت عليه الآية الأولى (47) وقوله تعالى: {وكأين من قرية} أي مدينة كبرى {أمليت لها} أي أمهلتها وزدت لها في أيام بقائها والحال أنها ظالمة بالشرك والمعاصي ثم بعد ذلك الإملاء والإمهال أخذتها {وإليّ المصير} أي مصير كل شيء ومرده إلي فلا إله غيري ولا رب سواي فلا معنى لاستعجال هؤلاء المشركين العذاب فإنهم عذبوا في الدنيا أو لم يعذبوا فإن مصيرهم إلى الله تعالى وسوف يجزيهم بما كانوا يكسبون الجزاء العادل في دار الشقاء والعذاب الأبدي وقوله تعالى: {قل يا أيها الناس1 إنما أنا لكم نذير مبين} ، فلست بإله ولا رب بيدي عذابكم إن عصيتموني وإنعامكم إن أطعتموني، وإنما أنا عبد مأمور بأن أنذر عصاة الرب بعذابه، وابشر أهل طاعته برحمته، وهو معنى الآية (50) 2 فالذين آمنوا وعملوا الصالحات ولازمه أنهم تركوا الشرك والمعاصي لهم مغفرة لذنوبهم ورزق كريم عند ربهم وهو الجنة دار النعيم {والذين سعوا في آياتنا معاجزين3} أي عملوا جادين مسرعين في صرف الناس عن آيات الله حتى لا يؤمنوا بها ويعملوا بما فيها من هدي ونور معاجزين لله يظنون أنهم يعجزونه والله غالب على أمره ناصر دينه وأوليائه، أولئك البعداء في الشر والشرك أصحاب الجحيم الملازمون لها أبد الآبدين.
__________
1 النداء لأهل مكة خاصة وللبشريّة عامة إذ هو صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى الناس كافة والنذير: المخوف. عقوبة الشرك والشر والفساد.
2 أي: ظانين أنهم يعجزوننا فلم نقو عليهم ولم نقدر على أخذهم لأنهم مكذّبون بالبعث الآخر وما فيه من حساب وجزاء على الكسب في هذه الدنيا.
3 ومما يزيد تفسير هذه الآية وضوحاً قوله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وأنا النذير العريان فالنجاء النجاء فأطاعته طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم، وكذبت طائفة فهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثلي ومثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق".

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- العجلة من طبع الإنسان ولكن استعجال الله ورسوله بالعذاب حمق وطيش وضلال وكفر.
2- ما عند الله في الملكوت الأعلى يختلف تماماً عما في هذا الملكوت السلفي.
3- عاقبة الظلم وخيمة وفي الخبر الظلم يترك الديار بلاقع أي خراباً خالية.
4- بيان مهمة الرسل وهي البلاغ مع الإنذار والتبشير ليس غير.
5- بيان مصير المؤمنين والكافرين يوم القيامة.
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (57)

شرح الكلمات:
من رسول ولا نبي: الرسول ذكر من بني آدم أوحي إليه بشرع وأمر بابلاغه. والنبي مقرر لشرع من قبله.
تمنى في أمنيته: أي قرأ في أمنيته، أي في قراءته.
ثم يُحكم الله آياته : أي بعد إزالة ما ألقاه الشيطان في القراءة بحُكم الله آياته أي يثبتها.
فتنة للذين في قلوبهم مرض : أي اختباراً للذين في قلوبهم مرض الشرك والشك.
والقاسية قلوبهم : هم المشركون.
فتخبت له قلوبهم: أي تتطامن وتخشع له قلوبهم.
في مرية منه: أي في شك منه وريب من القرآن.
عذاب يوم عقيم: هو عذاب يوم بدر إذ كان يوماً عقيماً لا خير فيه.
في جنات النعيم : أي جنات ذات نعيم لا يبلغ الوصف مداه.
فلهم عذاب مهين: أي يهان فيه صاحبه فهو عذاب جثماني نفساني.
معنى الآيات:
بعد التسلية الأولى للنبي صلى الله عليه وسلم التي تضمنها قوله تعالى: {وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح.. الخ} ذكر تعالى تسلية ثانية وهي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ حول الكعبة في صلاته سورة النجم والمشركون حول الكعبة يسمعون فلما بلغ قوله تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى} ألقى الشيطان في مسامع المشركين الكلمات التالية: "تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى" ففرح المشركون بما سمعوا ظناً منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها وأن الله أنزلها فلما سجد في آخر السورة سجدوا معه إلا رجلاً1 كبيراً لم يقدر على السجود فأخذ حثية من تراب وسجد عليها وشاع أن محمداً قد اصطلح مع قومه حتى رجع المهاجرون من الحبشة فكرب لذلك رسول الله وحزن فأنزل الله تعالى هذه
__________
1 هذا الرجل، روى البخاري أنه أمية بن خلف، وقيل هو أبو أحيحة سعيد بن العاص وقيل: هو الوليد بن المغيرة. والله أعلم بأيهم كان.

الآية تسلية له فقال: {وما أرسلنا من قبلك من رسول1} ذي رسالة يبلغها ولا نبيّ مقرر لرسالة نبي قبله {إلا إذا تمنى} أي قرأ {ألقى للشيطان في أمنيته2} أي في قراءته {فينسخ الله} أي يزيل ويبطل {ما يلقي الشيطان} 3 من كلمات في قلوب الكافرين أوليائه {ثم يُحكم الله آياته} بعد إزالة ما قاله الشيطان فيثبتها فلا تقبل زيادة ولا نقصانا، والله عليم بخلقه وأحوالهم وأعمالهم لا يخفى عليه شيء من ذلك حكيم في تدبيره وشرعه هذه سنته تعالى في رسله وأنبيائه. فلا تأس يا رسول الله ولا تحزن ثم بين تعالى الحكمة في هذه السنة فقال: {ليجعل ما يلقى للشياطن} أي من كلمات في قراءة النبي أو الرسول {فتنة للذين في قلوبهم مرض} الشك والنفاق {والقاسية قلوبهم} وهم المشركون ومعنى فتنة هنا محنة يزدادون بها ضلالاً على ضلالهم وبُعداً عن الحق فوق بعدهم إذ ما يلقى الشيطان في قلوب أوليائه إلا للفتنة أي زيادة في الكفر والضلال. وقوله تعالى: {وإن الظالمين لفي شقاق بعيد} هو إخبار منه تعالى عن حال المشركين بأنهم في خلاف لله ورسوله، بعيدون فيما يعتقدونه وما يعملونه وما يقولونه.، وما يتصورونه مخالف تمام المخالفة لما يأمر تعالى به ويدعوهم إليه من الاعتقاد والقول والعمل والتصور والإدراك. وقوله تعالى: {وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم} هذا جزء العلة التي تضمنتها سنة الله في إلقاء الشيطان في قراءة الرسول أو النبي فالجزء الأول تضمنه قوله تعالى: {ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم} وهذا هو الجزء الثاني أي {وليعلم الذين أوتوا العلم} بالله وآياته وتدبيره {أنه الحق من ربك} أي ذلك الإلقاء والنسخ وإحكام
__________
1 في هذه الآية دليل على أن هناك فرقاً بين النبي والرسول لذكر الرسول في الآية ثم النبي: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي} والذي عليه جمهور أهل السنة والجماعة: أن كل رسول نبي إذ لا يرسل حتى يوحى إليه وينبّأ وليس كل نبي رسولاً إذ ينبئه الله تعالى بما شاء ولا يرسله، وجاء في حديث أبي ذر "إنّ عدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً أولهم آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم وأن عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي جمّ غفير"
2 قال سليمان بن حرب إنّ (في) هنا هي بمعنى عند أي: ألقى الشيطان عند قراءته ألقى في قلوب المشركين. ولـ (في) بمعنى عند نظير هو قوله تعالى { ولبثت فينا من عمرك سنين } أي: عندنا.
3 ما روي من خبر في قصة الغرانيق كله ضعيف ولم يثبت فيها حديث صحيح قط، والذي ثبت في الصحيح هو قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم، لسورة النجم وسجوده وسجود المشركين معه والذي عصم منه صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم أن ينطق بكلمة: تلك الغرانيق العلا.. الخ وإنما نطق بها الشيطان وأسمعها المشركين للفتنة كما في التفسير المثبت فيه رأي ابن جرير إمام المفسّرين رحمه الله تعالى.

الآيات بعده1 {فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم} أي تطمئن وتسكن عنده وتخشع فيزدادون هدى. وقوله تعالى: {وإن الله لهاد2 الذين آمنوا إلى صراط مستقيم} هذا إخبار منه تعالى عن فعله مع أوليائه المؤمنين به المتقين له وأنه هاديهم في حياتهم وفي كل أحوالهم إلى صراط مستقيم يفضي بهم إلى رضاه وجنته، وذلك بحمايتهم من الشيطان وتوفيقهم وإعانتهم على طاعة الرحمن سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {ولا يزال الذين كفروا في مرية منه3} أي من القرآن هل هو كلام الله هل هو حق هل إتباعه نافع وتستمر هذه المرية والشك بأولئك القساة القلوب أصحاب الشقاق البعيد {حتى تأتيهم الساعة بغتة} أي فجأة وهي القيامة {أو يأتيهم عذاب يوم عقيم4} أي لا خير فيه لهم وهو يوم بدر وقد تم لهم ذلك وعندها زالت ريبتهم وعلموا أنه الحق حيث لا ينفع العلم.
وقوله تعالى: {الملك5 يومئذ لله} أي يوم تأتي الساعة يتمحض الملك لله وحده فلا يملك معه أحد فهو الحاكم العدل الحق يحكم بين عباده بما ذكر في الآية وهو أن الذين آمنوا به وبرسوله وبما جاء به وعملوا الصالحات من فرائض ونوافل بعد تخليهم عن الشرك والمعاصي يدخلهم. جنات النعيم، والذين كفروا به وبرسوله وبما جاء به، وكذبوا بآيات الله المتضمنة شرائعه وبيان طاعاته فلم يؤمنوا ولم يعملوا الصالحات وعملوا العكس وهو السيئات فأولئك البعداء في الحطة والخسة لهم عذاب مهين يكسر أنوفهم ذلة لهم ومهانة لأنفسهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله في إلقاء الشيطان في قراءة الرسول أو النبي للفتنة.
2- بيان أن الفتنة يهلك فيها مرضى القلوب وقساتها، ويخرج منها المؤمنون أكثر يقيناً.
__________
1 قوله تعالى: {وليعلم الذين أوتوا العلم} جائز أن يكونوا من المؤمنين ومن أهل الكتاب.
2 ومثبتهم على الهداية.
3 ومن الدين ومن كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
4 وعذاب يوم القيامة عذاب عظيم باعتبار أنه يوم لا ليلة له فهذا وجه العقم لأنّ العقيم هو الذي لا يخلّف ولداً، ولما ذكر عذاب يوم القيامة تعيّن أن يكون هو يوم بدر ومعنى عقمه: أنه لا خير فيه للمشركين ولم يحصلوا منه على فائدة.
5 قالوا: الملك هو اتساع المقدور لمن له تدبير الأمور، وقيل في الآية إشارة إلى يوم بدر وهو بعيد ولا داعي إليه، ودلالة الآية تنفيه.

وأعظم هدىً.
3- بيان حكم الله تعالى بين عباده يوم القيامة بإكرام أهل الإيمان والتقوى وإهانة أهل الشرك والمعاصي.
4- ظهور مصداق ما أخبر به تعالى عن مجرمي قريش فقد استمروا على ريبهم حتى هلكوا في بدر.
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
شرح الكلمات:
والذين هاجروا: أي هجروا ديار الكفر وذهبوا إلى دار الإيمان المدينة المنورة.
في سبيل الله : أي هجروا ديارهم لا لدنيا ولكن ليعبدوا الله وينصروا دينه وأولياءه.
ليرزقنهم رزقاً حسناً: أي في الجنة إذ أرواحهم في حواصل طير خضر ترعى في الجنة.

ليدخلنهم مدخلا يرضونه : أي الجنة يوم القيامة.
ذلك : أي الأمر ذلك المذكور فاذكروه ولا تنسوه.
ثم بغى عليه : أي ظُلم بعد أن عاقب عدوه بمثل ما ظلم به.
يولج الليل في النهار: أي يدخل جزءاً من الليل في النهار والعكس بحسب فصول السنة كما أنه يومياً يدخل الليل في النهار إذا جاء النهار ويدخل النهار في الليل إذا جاء الليل.
بأن الله هو الحق : أي الإله الحق الذي تجب عبادته دون سواه.
من دونه: أي من أصنام وأوثان وغيرها هو الباطل بعينه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بيان حكم الله تعالى بين عباده فذكر تعالى ما حكم به لأهل الإيمان والعمل الصالح وما حكم به لأهل الكفر والتكذيب، وذكر هنا ما حكم به لأهل الهجرة والجهاد فقال عز وجل: {والذين هاجروا1 في سبيل الله} أي خرجوا من ديارهم لأجل طاعة الله ونصرة دينه {ثم قتلوا} من قبل أعداء الله المشركين {أو ماتوا} حتف أنوفهم بدون قتل {ليرزقنهم الله رزقاً حسناً} في الجنة إذ أرواحهم في حواصل طير خضر ترعى في الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش {ليدخلنهم} يوم القيامة {مدخلاً2 يرضونه} وهو الجنة، وقوله تعالى: {وإن الله لهو خير الرازقين} أي لخير من يرزق فما رزقهم به هو خير رزق وأطيبه وأوسعه. وقوله : {وإن الله لعليم حليم} عليم بعباده وبأعمالهم الظاهرة والباطنة حليم يعفو ويصفح عن بعض زلات عباده المؤمنين فيغفرها ويسترها عليهم إذ لا يخلو العبد من ذنب إلا من عصمهم الله من أنبيائه ورسله.
__________
1 قيل: نزلت هذه الآية في عثمان بن مظعون وأبي سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنهما إذ ماتا بالمدينة مريضين فقال بعض الناس: من مات في سبيل الله أفضل ممن مات حتف أنفه. كأنه يعني عثمان وعبدالله فنزلت هذه الآية مسوّية بين المجاهد والمهاجر، ومن شواهد فضل المهاجر ما روي: أن فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان برودس أميراً على الأرباع فجيىء بجنازتي رجلين أحدهما قتل والآخر متوفى فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل إلى حضرته فقال: أراكم أيها الناس تميلون مع القتيل فوالذي نفسي بيده ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اقرأوا قول الله تعالى: {والذين هاجروا ..} الآية.
2 قرأ نافع: {مدخلا} بفتح الميم على أنه اسم مكان من دخل المجرّد، وقرأ غيره مُدخلا بضم الميم: اسم مكان أيضاً من أدخله يدخله الرباعي مدخلا.

وقوله تعالى: {ذلك ومن عاقب1} أي الأمر ذلك الذي بينت لكم، {ومن عاقب بمثل ما عوقب به} أي ومن أخذ من ظالمه بقدر ما أخذ منه قصاصاً، ثم المعاقب ظلم بعد ذلك من عاقبه فإن المظلوم أولاً وآخراً تعهد الله تعالى بنصره، وقوله: {إن الله لعفو غفور} فيه إشارة إلى ترغيب المؤمن في العفو عن أخيه إذا ظلمه فإن العفو خير من المعاقبة وهذا كقوله تعالى2 {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} وقوله: {ذلك بأن الله يولج الليل والنهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير} أي أن القادر على إدخال الليل في النهار والنهار في الليل بحيث إذ جاء أحدهما غاب الآخر، وإذا قصر أحدهما طال الآخر والسميع لأقوال عباده البصير بأعمالهم وأحوالهم قادر على نصرة من بُغي عليه من أوليائه. وقوله تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق} أي المعبود الحق المستحق للعبادة، وإن ما يدعون من دونه من أصنام وأوثان هو الباطل أي ذلك المذكور من قدرة الله وعلمه ونصرة أوليائه كان لأن الله هو الإله الحق وأن ما يعبدون من دونه من آلهة هو الباطل، وأن الله هو العلي على خلقه القاهر لهم المتكبر عليهم الكبير العظيم الذي ليس شيء أعظم منه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان فضل الهجرة في سبيل الله حتى إنها تعدل3 الجهاد في سبيل الله.
2- جواز المعاقبة بشرط المماثلة، والعفو أولى من المعاقبة.
3- بيان مظاهر الربوبية من العلم والقدرة الموجبة لعبادة الله تعالى وحده وبطلان عبادة غبره.
4- إثبات صفات الله تعالى: العلم والحلم والمغفرة والسمع والبصر والعفو والعلو على الخلق والعظمة الموجبة لعبادته وترك عبادة من سواه.
__________
1 ذلك: في محل رفع على الخبرية، والمبتدأ مقدّر كما في التفسير. أي: الأمر ذلك الذي قصصنا عليك والآية نزلت في حادثة خاصة قاتل فيها المسلمون في الشهر الحرام فحزنوا لذلك، وكان قتالهم اضطرارياً لأن المشركين هم البادئون.
2 الآية من سورة الشورى.
3 والرباط: كالهجرة، والجهاد، فقد روي عن سلمان الفارسي أنه مرّ برجال مرابطين على حصن ببلاد الروم. وطال حصارهم للحصن، وإقامتهم عليه فقال لهم: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات مرابطاً أجرى الله تعالى عليه مثل ذلك الأجر وأجرى عليه الرزق وأمن من الفتانين" واقرأوا إن شئتم: {والذين هاجروا} الآية.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإنسَانَ لَكَفُورٌ (66)
شرح الكلمات:
ألم تر: أي آلم تعلم.
مخضرة: أي بالعشب والكلأ والنبات.
الغني الحميد: الغني عن كل ما سواه المحمود في أرضه وسمائه.
سخر لكم ما في الأرض: أي سهل لكم تملكه والتصرف فيه والانتفاع به.
أحياكم: أي أوجدكم أحياء بعدما كنتم عدما.
لكفور : أي كثير الكفر والجحود لربِّه ونعمه عليه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد بذكر مظاهر القدرة والعلم والحكمة قال تعالى: {ألم تر1} يا رسولنا {أن الله أنزل من السماء2 ماءاً} أي مطراً فتصبح الأرض بعد
__________
1 {ألم تر} الخطاب صالح لكل متأهل للرؤية من ذوي العقول، والاستفهام للحض على الرؤية فهو كالأمر والفاء للتفريع إذ يتفرّع عن نزول المطر: صيرورة الأرض مخضرّة بالنبات.
2 هذا انتقال إلى التذكير بمظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته الموجبة لتوحيده وشكره بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بعد الإيمان به حق الإيمان وتصديقه بكل ما جاء به ويدعو إليه.

نزول المطر عليها مخضرة بالعشب والنباتات والزروع، وقوله: {إن الله لطيف1} بعباده {خبير} بما يصلحهم ويضرهم وينفعهم.
و وقوله: {له ما في السموات وما في الأرض} أي خلقاً وملكاً وتصرفاً، {وإن الله لهو الغني} عن خلقه {الحميد} أي المحمود في الأرض والسماء بجميل صنعه وعظيم إنعامه وقوله تعالى: {ألم تر أن الله سخر لكم2 ما في الأرض} من الدواب والبهائم على اختلافها {والفلك} أي وسخر لكم الفلك أي السفن {تجري في البحر بأمره} أي بإذنه وتسخيره، {ويمسك السماء3 أن تقع على الأرض} أي كيلا تقع على الأرض {إلا بإذنه} أي لا تقع إلا إذا أذن لها في ذلك وقوله: {إن الله بالناس لرؤوف رحيم} من مظاهر رأفته ورحمته بهم تلك الرحمة المتجلية في كل جانب من جوانب حياتهم في حملهم في ارضاعهم في غذائهم في نومهم في يقظتهم في تحصيل أرزاقهم في عفوه عن زلاتهم في عدم تعجيل العقوبة لهم بعد استحقاقهم لها في إرسال الرسل في إنزال الكتب فسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وقوله تعالى: {وهو الذي أحياكم} بالإنشاء والإيجاد من العدم، ثم يميتكم عند انتهاء آجالكم {ثم يحييكم} ويبعثكم ليجزيكم بكسبكم كل هذه النعم يكفرها الإنسان فيترك ذكر ربه وشكره ويذكر غيره ويشكر سواه، فهذه المظاهر لقدرة الرب وعلمه وحكمته وتلك الآلاء والنعم الظاهرة والباطنة توجب الإيمان بالله وتحتم عبادته وتوحيده وذكره وشكره، وتجعل عبادة غيره سُخفاً وضلالاً عقلياً لا يُقادر قدره ولا يُعرف مداه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد بذكر مقتضياته من القدرة والنعمة.
2- إثبات صفات الله تعالى: اللطيف الخبير الغني الحميد الرؤوف الرحيم المحيي المميت.
__________
1 لطيف في تدبيره للخلقة خبير في صنعه.. وهاتان الصفتان متجليتان في تدبيره تعالى للكون وصنعه فيه.
2 التسخير: معناه: التذليل للشيء حتى يصبح طوع المسخّر له وهو هنا بمعناه، ويعني: تسهيل الانتفاع فيما هو خارج عن قدرة الإنسان بإرسال الرياح ونزول الأمطار.
3 وجائز أن يراد بالسماء: ماؤها أي: المطر كقول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم
رعيناه وإن كانوا غضابا

3- بيان إنعام الله وإفضاله على خلقه.
4- مظاهر قدرة الله تعالى في إمساك السماء أن تقع على الأرض، وفي الإحياء والأماتة والبعث.
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ (67) وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72 )
شرح الكلمات:
جعلنا منسكاً : أي مكاناً يتعبدون فيه بالذبائح أو غيرها.
فلا ينازعنك: أي لا ينبغي أن ينازعوك.
هدىً مستقيم: أي دين مستقيم هو الإسلام دين الله الحق.
في كتاب: هو اللوح المحفوظ.
ما لم ينزل به سلطاناً: أي حجة وبرهاناً.

المنكر : أي الإنكار الدال عليه عبوس الوجه وتقطيبه.
يسطون : يبطشون.
بشر من ذلكم : هو النار.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في بيان هداية الله تعالى لرسوله والمؤمنين ودعوة المشركين إلى ذلك قال تعالى : {ولكل أمة جعلنا1 منسكاً} أي ولكل أمة من الأمم التي مضت والحاضرة أيضاً جعلنا لهم منسكاً أي مكاناً يتنسكون فيه ويتعبدون {هم2 ناسكوه} أي الآن، فلا تلتفت إلى ما يقوله هؤلاء المشركون، ولا تقبل منهم منازعة في أمر واضح لا يقبل الجدل، وذلك أن المشركين انتقدوا ذبائح الهدى والضحايا أيام التشريق، واعترضوا على تحريم الميتة وقالوا كيف تأكلون ما تذبحون ولا تأكلون ما ذبح الله بيمينه وقوله تعالى لرسوله: {وادع إلى ربك} أي أعرض عن هذا الجدل الفارغ وادع إلى توحيد ربك وعبادته {إنك لعلى هدى مستقيم} أي طريق قاصد هاد إلى الإسعاد والإكمال وهو الإسلام وقوله: {وإن جادلوك3} في بيان بعض المناسك والنسك فاتركهم فإنهم جهلة لا يعلمون وقل: {الله أعلم بما تعملون} أي وسيجزيكم بذلك حسنة وسيئة {والله يحكم بينكم} أي يقضي بينكم أيها المشركون فيما كنتم فيه تختلفون وعندها تعرفون المحق من المبطل منا وذلك يوم القيامة.
وقوله تعالى: {ألم تعلم أن الله يعلم4 ما في السماء والأرض} بلى إن الله يعلم كل ما في السموات والأرض من جليل ودقيق وجليّ وخفي وكيف لا وهو اللطيف الخبير {إن ذلك في كتاب} وهو اللوح المحفوظ فكيف يجهل أو ينسى، و {إن ذلك} أي كتبه
__________
1 سبق مثل هذا النزاع بين المؤمنين والمشركين في التذكية عند قول الله تعالى من سورة الأنعام: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} وقوله تعالى: {فلا ينازعنك} معناه: أترك منازعتهم وأعرض عنهم ولا تلتفت إليهم.
2 سبق مثل هذه الآية في أوّل السورة وهو دال على أنّه لا إله إلا الله إذ وحدة التشريع تدل على وحدة المشرع عقلاً ولا تنتقض.
3 في الآية الكريمة أسلوب المتاركة إذا لم تنفع المجادلة لعدم استعداد الخصم لقبول الحق أو تعذر معرفته له.
4 الاستفهام تقريري بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم والجملة تحمل التسلية له صلى الله عليه وسلم والتخفيف مما يلاقي من جدال المشركين وعنادهم.

وحفظه في كتاب المقادير {على الله يسير1} أي هين سهل، لأنه تعالى على كل شيء قدير. هذا ما دلت عليه الآيات الأربع (67، 68، 69، 70) وقوله تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً} أي ويعبد أولئك المشركون المجادلون في بعض المناسك أصناماً لم ينزل الله تعالى في جواز عبادتها حُجَّة ولا برهاناً بل ما هو إلا إفك افتروه، ليس لهم به علم ولا لآبائهم، وسوف يحاسبون على هذا الإفك ويجزون به في ساعة لا يجدون فيها ولياً ولا نصيراً إذ هم ظالمون بشركهم بالله آلهة مفتراة ويوم القيامة ما للظالمين من نصير. هذا ما دلت عليه الآية (71) وأما قوله تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } يخبر تعالى عن أولئك المشركين المجادلين بالباطل أنهم إذا قرأ عليهم أحد المؤمنين آيات الله وهى بينات في مدلوها تهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم {تعرف} يا رسولنا {في وجوه الذين كفروا المنكر2} أي تتغير وجوههم ويظهر عليها الإنكار على التالي عليهم الآيات {يكادون يسطون3} أي يبطشون ويقعون بمن يتلون عليهم آيات الله لهدايتهم وصلاحهم.
وقوله تعالى: {قل أفأُنبئكم4 بشرٍ من ذلكم} أي قل لهم يا رسولنا أفأنبكم بشر من ذلك الذي تكرهون وهو من يتلون عليكم آيات الله أنه النار التي وعدها الله الذين كفروا أي من أمثالكم، وبئس المصير تصيرون إليه النار إن لم تتوبوا من شرككم وكفركم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير حقيقة وهي أن كل أمة من الأمم بعث الله فيها رسولاً وشرع لها عبادات تعبده بها.
2- استحسان ترك الجدال في البدهيات والإعراض عن ما فيها.
3- تقرير علم الله تعالى بكل خفي وجلي وصغير وكبير في السموات والأرض.
__________
1 أي: الفصل بين المختلفين ككتابة كل كائن في كتاب المقادير كل ذلك على الله يسير إذ هو تعالى لا يعجزه شيء، ويقول للشيء كن فيكون.
2 أي: الغضب والعبوس.
3 السطو: شدة البطش يقال: سطا به يسطو: إذا بطش وسواء كان ذلك بسب وشتم أو ضرب، وسطا عليه: إذا علاه ضرباً وشتماً.
4 {أفأنبّكم} الهمزة داخلة على محذوف أي: أتكرهون سماع القرآن ومن يقرأه فأنا أنبّئكم بشر من ذلك الذي تأذّيتم به وكرهتموه؟ وقوله: {النار وعدها الله الذين كفروا} الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً كأنهم قالوا: نبئنا فقال: النار.. الخ.

4- تقرير عقيدة القضاء والقدر بتقرير الكتاب الحاوي لذلك وهو اللوح المحفوظ.
5- بيان شدة بغض المشركين للموحدين إذا دعوهم إلى التوحيد وذكروهم بالآيات.
6- مشروعية إغاظة الظالم بما يغيظه من القول الحق.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (76)
شرح الكلمات:
ضرب مثل: أي جعل مثل هو ما تضمنه قوله تعالى: {إن الذين تدعون... الخ.
لن يخلقوا ذباباً: أي لن يستطيعوا خلق ذبابة وهي أحقر الحيوانات تتخلق من العفونات.
ولو اجتمعوا: أي على خلقه فإنهم لا يقدرون، فكيف إذا لم يجتمعوا فهم أعجز .
لا يستنقذوه منه: أي لا يستردوه منه وذلك لعجزهم.
ضعف الطالب والمطلوب : أي العابد والمعبود.
ما قدروا الله حق قدره: أي ما عظم المشركون الله تعالى حق قدره أي عظمته.
يصطفي من الملائكة رسلاً : أي يجتبي ويختار كجبريل.
ومن الناس: كمحمد صلى الله عليه وسلم.

معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الدعوة إلى التوحيد والتنديد بالشرك والمشركين يقول تعالى: {يا أيها الناس ضرب1 مثل فاستمعوا له} أي يا أيها المشركون بالله آلهة أصناماً ضرب لآلهتكم في حقارتها وضعفها وقلة نفعها مثل رائع فاستمعوا له. وبينه بقوله: {إن الذين تدعون من دون الله } من أوثان وأصنام {لن يخلقوا ذباباً2} وهو أحقر حيوان وأخبثه أي اجتمعوا واتحدوا متعاونين على خلقه، أو لم يجتمعوا له فإنهم لا يقدرون على خلقه وشيء آخر وهو إن يسلب الذباب الحقير شيئاً من طيب آلهتكم التي تضمّخونها به، لا تستطيع آلهتكم أن تسترده منه فما أضعفها إذاً وما أحقرها إذا كان الذباب أقدر منها وأعز وأمنع.
وقوله تعالى: {ضعف الطالب والمطلوب3} أي ضعف الصنم والذباب معاً كما ضعف العابد المشرك والمعبود الصنم {إن الله لقويٌ عزيز} أي قوي قادر على كل شيء عزيز غالب لا يمانع في أمر يريده فكيف ساغ للمشركين أن يؤلهوا غيره ويعبدونه معه ويجعلونه له مثلاً. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (73) والثانية (74) وقوله تعالى: {الله يصطفي4 من الملائكة رسلاً ومن الناس} هذا رد على المشركين عندما قالوا: {أ أنزل عليه الذكر من بيننا} وقالوا: {أبعث الله بشراً رسولاً} فأخبر تعالى أنه يصطفي أي يختار من الملائكة رسلاً كما اختار جبرائيل وميكائيل، ومن الناس كما أختار نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم ، {إن الله سميع5} لأقوال عباده طيبها وخبيثها {بصير} بأعمالهم صالحها وفاسدها وعلمه بخلقه وبصره بأحوالهم وحاجاتهم اقتضى أن
__________
1 ضرب المثل: هو ذكره وبيانه، واستعير الضرب للقول والذكر تشبيها بوضع الشيء بشدّة، وهو تعبير شائع في اللغة العربية، والمثل هنا تشبيه تمثيلي، إذ هو تشبيه أصنامهم في عجزها وحقارتها بالذباب في عجزه وحقارته وضمنه الإنكار الشديد عليهم في تشبيه أصنامهم بالله عز وجل إذ عبدوها بعبادته وألهوها تأليهه عز وجل.
2 الذباب: اسم واحد للذكر والأنثى والجمع والقليل: أذبة والأكثر ذبان والواحدة ذبابة، ولا يقال ذبّانة بالتشديد وكسر الذال، والمذّبة: آلة لذب الذّبان وذباب السيف: طرفه الذي يضرب به.
3 قيل: الطالب: الآلهة، والمطلوب: الذباب، والعكس صحيح، وجائز أن يكون الطالب: عابد الصنم، والمطلوب: الصنم.
4 الجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائيا، والإخبار بجملة يصطفي بدل: نصطفي لإفادة الاختصاص أي: هنا الاصطفاء خاص به تعالى لعظيم علمه وحكمته.
5 الجملة تعليلية، وجملة يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، مقررة لها وتفيد الدعوة إلى مراقبة الله عزّ وجلّ.

يصطفي منهم رسلاً وقوله: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} أي ما بين أيدي رسله من الملائكة ومن الناس وما خلفهم ماضياً ومستقبلاً إذ علمه أحاط بكل شيء فلذا حق له أن يختار لرسالاته من يشاء فكيف يصح الاعتراض عليه لولا سفه المشركين وجهالاتهم وقوله تعالى: {وإلى الله ترجع الأمور} هذا تقرير لما تضمنته الجملة السابقة من أن لله الحق المطلق في إرسال الرسل من الملائكة أو من الناس ولا اعتراض عليه في ذلك إذ مرد الأمور كلها إليه بدءاً ونهاية إذ هو ربّ كل شيء ومليكه لا إله غيره ولا رب سواه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.
2- التنديد بالشرك وبطلانه وبيان سفه المشركين.
3- ما قدر الله حق قدره من سوى به أحقر مخلوقاته وجعل له من عباده جزءاً وشبهاً ومثلاً.
4- إثبات الرسالات1 للملائكة وللناس معاً.
5- ذكر صفات الجلال والكمال لله تعالى المقتضية لربوبيته والموجبة لألوهيته وهى القوة والعزة، والسمع والبصر لكل شيء وبكل شيء والعلم بكل شيء.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
__________
1 في العبارة بعض الخفاء، والمقصود هو أنّ الله يصطفي من الملائكة مثل جبريل وميكائيل فيرسلهم إلى من يصطفي من الناس وهم الأنبياء، وفي الآية رد على المعترضين على الوحي الإلهي لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
شرح الكلمات:
واعبدوا ربكم: أي أطيعوه في أمره ونهيه في تعظيم هو غاية التعظيم وذل له هو غاية الذل.
وافعلوا الخير: أي من كل ما انتدبكم الله لفعله ورغبكم فيه من صالح الأقوال والأعمال.
لعلكم تفلحون : أي كي تفوزوا بالنجاة من النار ودخول الجنة.
حق جهاده: أي الجهاد الحق الذي شرعه الله تعالى وأمر به وهو جهاد الكفار والشيطان والنفس والهوى.
اجتباكم: أي اختاركم لحمل دعوة الله إلى الناس كافة.
من حرج : أي من ضيق وتكليف لا يطاق.
ملة أبيكم: أي الزموا ملة أبيكم إبراهيم وهي عبادة الله وحده لا شريك له.
وفي هذا : أي القرآن.
اعتصموا بالله: أي تمسكوا بدينه وثقوا في نصرته وحسن مثوبته.
ونعم النصير: أي هو تعالى نعم النصير أي الناصر لكم.
معنى الآيات:
بعد تقرير العقيدة بأقسامها الثلاثة: التوحيد والنبوة والبعث والجزاء، نادى الربّ تبارك وتعالى المسلمين بعنوان الإيمان فقال : {يا أيها الذين آمنوا} أي يا من آمنتم بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالإسلام في ديناً، {اركعوا واسجدوا1} أمرهم بإقام الصلاة {واعبدوا ربكم} أي أطيعوه فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه معظمين له غاية التعظيم خاشعين له غاية الخشوع {وافعلوا الخير} من كل ما انتدبكم الله إليه ورغبكم فيه من أنواع البر وضروب العبادات {لعلكم تفلحون} أي لتتأهلوا بذلك للفلاح الذي هو الفوز بالجنة بعد النجاة من النار.
__________
1 خصّ الركوع والسجود من بين أركان الصلاة لأنهما أشرف أجزائها وأدل على خضوع العبد لربّه وذلته له.

وقوله: {وجاهدوا1 في الله حق جهاده2} أي أمرهم أيضاً بأمر هام وهو جهاد الكفار حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ومعنى حق جهاده أي كما ينبغي الجهاد من استفراغ الجهد والطاقة كلها نفساً ومالاً ودعوة وقوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} هذه مِنَّة ذكّر بها تعالى المؤمنين حتى يشكروا الله بفعل ما أمرهم به أي لم يضيق عليكم فيما أمركم به بل وسع فجعل التوبة لكل ذنب، وجعل الكفارة لبعض الذنوب، ورخص للمسافر والمريض في قصر الصلاة والصيام، ولمن لم يجد الماء أو عجز عن استعماله في التيمُم.
وقوله: {ملة أبيكم إبراهيم3} أي الزموا ملة أبيكم وقوله: {هو سماكم المسلمين} أي الله جل جلاله هو الذي سماهم المسلمين في الكتب السابقة وفي القرآن وهو معنى قوله : {هو سماكم4 المسلمين من قبل وفي هذا} أي القرآن وقوله: {ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس} أي اجتباكم أيها المؤمنون لدينه الإسلامي وسماكم المسلمين ليكون الرسول شهيداً عليكم يوم القيامة بأنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم وتكونوا أنتم شهداء حينئذ على الرسل أجمعين أنهم قد بلغوا أممهم ما أرسلوا به إليهم وعليه فاشكروا هذا الإنعام والإكرام لله تعالى {فأقيموا5 الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله} أي تمسكوا بشرعه عقيدة وعبادة وخلقاً وأدباً وقضاءاً وحكماً، وقوله تعالى: {هو مولاكم} أي سيدكم ومالك أمركم {فنعم المولى} هو سبحانه وتعالى {ونعم النصير} أي الناصر لكم ما دمتم أولياءه تعيشون على الإيمان والتقوى.
__________
1 هذا من ذكر العام بعد الخاص، والعبادة: الطاعة ولكن مع غاية التعظيم والحبّ للمطاع.
2 الجهاد هنا: قتال الكفار المعتدين والمانعين لدعوة الله وصد الناس عنها والعلّة فيه إكمال البشر وإسعادهم بالإسلام لله تعالى و{في} في قوله {في الله}: تعليلية أي: لأجل الله أي: لإعلاء كلمة الله تعالى، وفي الحديث الصحيح: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
3 هذا كقوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته} فإنه مخصوص بالاستطاعة وقوله بعد: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} مخصّصٌ له أيضاً، ويدخل في الأمر بالجهاد هنا: جهاد النفس والشيطان، وكلمة الحق عند من ينكرها لحديث "كلمة عدل عند سلطان جائر".
4 الملّة: الدين والشريعة ونصب: {ملة}: بإلزموا ونحوه، والخطاب للعرب إذ إبراهيم أبو العرب المستعربة قاطبة، وهو أيضاً أبو أهل الكتاب وأبّ كل موحد أبوّة تشريف وإتباع وتعظيم.
5 قوله تعالى {فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} بعد ذكر المنن إشارة صريحة إلى وجوب شكر الله تعالى على نعمه، وما شكر الله تعالى من لم يقم الصلاة ويؤت الزكاة كما أن من لم يتمسك بدين الله كافر غير شاكر.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضيلة الصلاة وشرف العبادة وفعل الخير.
2- مشروعية السجود عند تلاوة هذه الآية {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون}.ِِِِِ
3- فضل الجهاد في سبيل الله وهو جهاد الكفار، وان لا تأخذ المؤمن في الله لومة لائم.
4- فضيلة1 هذه الأمة المسلمة حيث أعطيت ثلاثاً لم يعطها إلا نبي كان يقال للنبي عليه السلام اذهب فليس عليك حرج فقال الله لهذه الأمة: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} ، وكان يقال للنبي عليه السلام أنت شهيد على قومك وقال الله: {لتكونوا شهداء على الناس} وكان يقال للنبي سل تعطه وقال الله لهذه الأمة: {ادعوني استجب لكم} دل على هذا قوله تعالى: {هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج}.
5- فرضية الصلاة، والزكاة، والتمسك بالشريعة.
__________
1 ذكر هذا ابن جرير الطبري رواية عن معمر وقتادة.

سورة المؤمنون
...
الجزء الثامن عشر
سورة المؤمنون
مكية
وآياتها مائة وثماني عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
شرح الكلمات:
قد أفلح المؤمنون: أي فاز قطعاً بالنجاة من النار ودخول الجنة المؤمنون.
في صلاتهم خاشعون: أي ساكنون متطامنون لا يلتفتون بعين ولا قلب وهم بين يدي ربهم.
عن اللغو معرضون : اللغو كل ما لا رِضىً فيه لله من قول وعمل وتفكير، معرضون أي منصرفون عنه.
للزكاة فاعلون : أي مؤدون.
لفروجهم حافظون: أي صائنون لها عن النظر إليها لا يكشفونها وعن إتيان الفاحشة.
أو ملكت إيمانهم : من الجواري والسَّراري إن وجدن.

فمن ابتغى وراء ذلك : أي طلب ما دون زوجته وجاريته المملوكة شرعياً.
فأولئك هم العادون: أي الظالمون المعتدون على حدود الشرع.
راعون: أي حافظون لأماناتهم وعهودهم.
الفردوس1: أعلى درجة في الجنة في أعلى جنة.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون}2 يخبر تعالى وهو الصادق الوعد بفلاح المؤمنين وقد بين تعالى في آية آل عمران معنى الفلاح وهو الفوز بالنجاة من النار ودخول الجنة ووصف هؤلاء المؤمنين المفلحين بصفات من جمعها متصفاً بها فقد ثبت له الفلاح وأصبح من الوارثين الذين يرثون الفردوس يخلدون فيها وتلك الصفات هي:
(1) الخشوع في الصلاة بأن يسكن فيها المصلي فلا يلتفت فيها برأسه ولا بطرفه ولا بقلبه مع رقة قلب ودموع عين وهذه أكمل حالات الخشوع في الصلاة، ودونها أن يطمئن ولا يلتفت برأسه ولا بعينه و لا بقلبه في أكثرها. هذه الصفة تضمنها قوله تعالى: {الذين هم في صلاتهم خاشعون}3.
(2) إعراضهم عن اللغو وهو كل قول وعمل وفكر لم يكن فيه الله تعالى إذن به ولا رضى فيه ومعنى إعراضهم عنه: انصرافهم عنه وعدم التفاتهم إليه، وقد تضمن هذه الصفة قوله تعالى : {والذين هم عن اللغو معرضون}.
(3) فعلهم الزكاة أي أداؤهم لفريضة الزكاة الواجبة من أموالهم الناطقة كالمواشي والصامتة كالنقدين والحبوب والثمار، وفعلهم لكل ما يزكي النفس من الصالحات وقد تضمن هذه الصفة قوله تعالى: {والذين هم للزكاة فاعلون }.
(4) حفظ فروجهم من كشفها ومن وطء غير الزوج أو الجارية المملوكة بوجه شرعي وقد تضمن هذه الصفة قوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غاير ملومين} في إتيان أزواجهم وما ملكت أيمانهم، ولكن اللوم
__________
1 أخرج مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة".
2 روى أحمد والترمذي والنسائي عن عمر بن الخطاب قوله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي نسمع عند وجهه كدوي النحل فلبثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وارض عنا وأرضنا ثم قال: لقد أنزل عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة: {قد فلح المؤمنون} حتى ختم العشر.
3 كان السلف الصالح إذا قام أحدهم في صلاته يهاب الرحمن أن يمدّ بصره إلى شيء وأن يحدث نفسه بشيء من الدنيا، وأبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه" والجمهور على أن الخشوع في الصلاة أحد فرائضها.

والعقوبة على من طلب هذا المطلب من غير زوجه وجاريته {فأولئك هم العادون} أي الظالمون المعتدون حيث تجاوزوا ما أحل الله لهم إلى ما حرم عليهم.
(5) مراعاة الأمانات والعهود بمعنى محافظتهم على ما ائتمنوا عليه من قول أو عمل ومن ذلك سائر التكاليف الشرعية حتى الغسل من الجنابة فإنه من الأمانة وعلى عهودهم وسائر عقودهم الخاصة والعامة فلا خيانة ولا نكث ولا خُلْف وقد تضمن هذا قوله تعالى: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} أي حافظون.
(6) المحافظة على الصلوات الخمس بأدائها في أوقاتها المحددة لها فلا يقدمونها ولا يؤخرونها مع المحافظة على شروطها من طهارة الخبث وطهارة الحدث وإتمام ركوعها وسجودها واستكمال أكثر سننها وآدابها وقد تضمن هذه الصفة قوله تعالى: {والذين هم على صلاتهم يحافظون} .
فهذه ست صفات إجمالاً وسبع صفات تفصيلاً فمن اتصف بها كمل إيمانه وصدق عليه اسم المؤمن وكان من المفلحين الوارثين للفردوس الأعلى جعلنا الله تعالى منهم.
هداية الآيات.
من هداية الآيات:
1- وجوب الخشوع في الصلاة.
2- تحريم نكاح المتعة لأن المتمتع منها ليست زوجة لأنها لا ترث ولا تورث بخلاف الزوجة فإنها لها الربع والثمن، ولزوجها النصف والربع، لأن نكاح المتعة هو النكاح إلى أجل معين قد يكون شهراً أو أكثر أو أقل.
3- تحريم العادة السرية وهي نكاح اليد وسحاق المرأة لأن ذلك ليس بنكاح زوجة ولا جارية مملوكة.
4- وجوب أداء الزكاة ووجوب حفظ الأمانات ووجوب الوفاء بالعهود ووجوب المحافظة على الصلوات.
5- تقرير حكم التوارث بين أهل الجنة وأهل النار فأهل الجنة يرثون منازل أهل النار وأهل النار يرثون منازل أهل الجنة اللهم اجعلنا من الوارثين الذين يرثون الفردوس.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ

خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
شرح الكلمات:
من سلالة: السلالة ما يستل من الشيء والمراد بها هنا ما استل من الطين لخلق آدم.
نطفة في قرار مكين : النطفة قطرة الماء أي المني الذي يفرزه الفحل، والقرار المكين الرحم المصون.
العلقة: الدم المتجمد الذي يعلق بالإصبع لو حاول أحد أن يرفعه بإصبعه كمح البيض1.
والمضغة : قطعة لحم قدر ما يمضغ الآكل.
خلقاً آخر : أي غير تلك المضغة إذ بعد نفخ الروح فيها صارت إنساناً.
أحسن الخالقين : أي الصانعين فالله يصنع والناس يصنعون والله أحسن الصانعين.
معنى الآيات:.
يخبر تعالى عن خلقه الإنسان آدم وذريته وفي ذلك تتجلى مظاهر قدرته وعلمه وحكمته والتي أوجبت عبادته وطاعته ومحبته وتعظيمه وتقديره فقال: {ولقد خلقنا الإنسان}2 يعني آدم عليه السلام {من سلالة من طين} أي من خلاصة طين جمعه فأصبح كالحمإ المسنون فاستل منه خلاصته ومنها خلق آدم ونفخ فيه من روحه فكان بشراً سويا ولله الحمد والمنة
__________
1 هذه الجملة معطوفة على جملة: {قد أفلح} فهي من عطف جملة ابتدائية على مثلها: وهي كعطف قصة على أخرى، وهذا شروع في الاستدلال على التوحيد والبعث والجزاء بمظاهر القدرة والعلم والحكمة، وهي مقتضية لعقيدة كل من التوحيد والبعث الآخر حيث أنكرهما وكذّب بهما المشركون.
2 جائز أن يكون المراد بالإنسان آدم، وأن يكون أحد ذريته إذ السلالة: الشيء المستل أي: المنتزع من غيره فالطينة مستلة من مادة الطين.
والمنيّ مستل كذلك من مادة ما يفرزه جهاز الهضم من الغذاء حين يصير دماً، وهذه السلالة مخرجة من الطين لأنها من الأغذية، والأغذية أصلها من الأرض وقوله تعالى: {ثم جعلناه نطفة في قرار مكين} هذا طور آخر للخلق وهو طور اختلاط السلالتين في الرحم، وسميت النطفة نطفة: لأنها تنطف أي: تقطر في الرحم في قناة معروفة وهي القرار المكين.

قوله: {ثم جعلناه نطفة في قرار مكين } أي ثم جعلنا الإنسان الذي هو ولد آدم نطفة من صُلْبِ آدم {في قرار مكين} هو رحم حواء {ثم خلقنا النطفة} المنحدرة من صلب آدم {علقة} أي قطعة دم جامدة تعلق بالإصبع لو حاول الإنسان أن يرفعها بإصبعه، {خلقنا العلقة مضغة} وهي قطعة لحم قدر ما يمضغ الآكل، {فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام1 لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر2} أي إنساناً آخر غير آدم الأب، وهكذا خلق الله عز وجل آدم وذريته، {فتبارك الله أحسن الخالقين}. وقد يصدق هذا على كون الإنسان هو خلاصة عناصر شتى استحالت إلى نطفة الفحل ثم استحالت إلى علقة فمضغة فنفخ فيها الروح فصارت إنساناً آخر بعد أن كانت جماداً لا روح فيها وقوله تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين} فأثنى الله تعالى على نفسه بما هو أهله أي تعاظم أحسن الصانعين، إذ لا خالق إلاّ هو ويطلق لفظ الخلق على الصناعة فحسن التعبير بلفظ أحسن الخالقين.
وقوله تعالى : {ثم إنكم بعد ذلك لميتون} أي بعد خلقنا لكم تعيشون المدة التي حددناها لكم ثم تموتون، {ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} أحياء للحساب والجزاء لتحيوا حياة أبدية لا يعقبها موت ولا فناء ولا بلاء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته.
2- بيان خلق الإنسان والأطوار التي يمر بها.
3- بيان مآل الإنسان بعد خلقه.
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء التي أنكرها الملاحدة والمشركون.
__________
1 وقد أثبت علم الأجنة والشريح أن النطفة في طورها الثاني تعلق بجدار الرحم طيلة طورها الثاني فهي بمعنى عالقة ولا منافاة بين كونها علقة وعالقة.
2 في الحديث الصحيح: "إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ..} الحديث فإذا نفخ فيه الروح تهيأ للحياة والنماء وإليه الإشارة بقوله تعالى: {ثم أنشأناه خلقاً آخر} وروي أن يهود يزعمون أن العزل هو الموؤدة الصغرى، وأن عليّا رد هذا وقال: لا تكون موؤودة حتى تمر عليها التارات السبع أي: الأطوار التي في هذه الآية.

وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
شرح الكلمات:
سبع طرائق : أي سبع سموات كل سماء يقال لها طريقة لأن بعضها مطروق فوق بعض.
ماء بقدر: أي بمقدار معين لا يزيد ولا ينقص.
من طور سيناء : جبل يقال له جبل طور سيناء.
تنبت بالدهن: أي تنبت بثمر فيه الدهن وهو الزيت.
وصبغ للآكلين: أي يغمس الآكل فيه اللقمة ويأكلها.
في الأنعام لعبرة: الأنعام الإبل والبقر والغنم والعبرة فيها تحصل لمن تأمل خلقها ومنافعها.
مما في بطونها: أي من اللبن.
منافع كثيرة : كالوبر والصوف واللبن والركوب.
ومنها تأكلون : أي من لحومها.
تحملون: أي تركبون الإبل في البر وتركبون السفن في البحر.

معنى الآيات:
مازال السياق في ذكر نعمه1 تعالى على الإنسان لعل هذا الإنسان يذكر فيشكر فقال تعالى : {ولقد خلقنا فوقكم سبع2 طرائق} أي سموات سماء فوق سماء أي طريقة فوق طريقة وطبقاً فوق طبق وقوله تعالى: {وما كنا عن الخلق غافلين} أي ولم نكن غافلين عن خلقنا وبذلك انتظم الكون والحياة، وإلاّ لخرب كل شيء وفسد وقوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماءً بقدر} هو ماء المطر أي بكميات على قدر الحاجة وقوله {فأسكناه في الأرض3 وإنا على ذهاب به لقادرون، فأنشأنا لكم به جنات} أي أوجدنا لكم به بساتين من نخيل وأعناب {لكم فيها} أي في تلك البساتين {فواكه4 كثيرة ومنها تأكلون} أي ومن تلك الفواكه تأكلون وذكر النخيل والعنب دون غيرهما لوجودهما بين العرب فهم يعرفونهما أكثر من غيرهما فالنخيل بالمدينة والعنب بالطائف.
وقوله: {وشجرة5 تخرج من طور سيناء} أي وأنبت لكم به شجرة الزيتون وهي {تنبت بالدهن6 وصبغ للآكلين} فبزيتها يدهن ويؤتدم فتصبغ اللقمة به وتؤكل. وقوله: {وإن لكم في الأنعام لعبرة} فتأملوها في خلقها وحياتها ومنافعها تعبرون بها إلى الإيمان والتوحيد والطاعة. وقوله: {نسقيكم7 مما في بطونها} من ألبان تخرج من بين فرث ودم، وقوله: {ولكم فيها منافع كثيرة} كصوفها ووبرها ولبنها وأكل لحومها. وقوله : {وعليها وعلى الفلك تحملون} وعلى بعضها كالإبل تحملون في البر وعلى السفن في البحر. أفلا تشكرون لله هذه النعم فتذكروه وتشكروه أليست هذه النعم موجبة لشكر المنعم بها فيُعبد ويوحد في عبادته؟.
__________
1 وفي ذكر أدلة التوحيد إذ تقدم الاستدلال على التوحيد بخلق الإنسان وهذا استدلال بخلق العدالة العلوية.
2 الطرائق: جمع طريقة، وهي اسم للطريق تذكر وتؤنث فهل المراد بها هنا طرق الملائكة أو طرق سير الكواكب وهو سمتها وما تجري فيه أو هي السبع السموات، ومعنى طرائق: أن بعضها فوق بعض من قولهم طارق بين ثوبين جعل أحدهما فوق الثاني، ويكون المعنى طباقا وهذا هو الراجح. والله أعلم.
3 {أسكناه في الأرض} منه ما هو ظاهر كماء الأودية، والأنهار، ومنه ما هو باطن، وهو المياه الجوفية، وإن الله تعالى على ذهابه من ظاهر الأرض كباطنها قدير، ويومها تهلك البشرية، وهذه الآية كقوله: {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين}.
4 جمع فاكهة وهي: ما يؤكل تفكّهاً بآكله أي: تلذّذا بطعمه من غير قصد القوت، وما يؤكل لأجل الطعام يقال له: طعام ولا يقال له فاكهة.
5 وشجرة: معطوفة على جنات أي: وأخرجنا لكم به شجرة.
6 الباء في {بالدهن} للمصاحبة نحو: خرج زيد بسلامة أي: مصحوباً بسلامة.
7 قرىء {نسقيكم} بضم النون من أسقاه، وبفتحها من سقاه كذا.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان قدرة الله تعالى وعظمته في خلق السموات طرائق وعدم غفلته عن سائر خلقه فسار كل شيء لما خلق له فثبت الكون وانتظمت الحياة.
2- بيان افضال الله تعالى في إنزال الماء بقدر وإسكانه في الأرض وعدم إذهابه مما يوجب الشكر لله تعالى على عباده.
3- بيان منافع الزيت حيث1 هو للدهن والائتدام والاستصباح.
4- فضل الله على العباد في خلق الأنعام والسفن للانتفاع بالأنعام في جوانب كثيرة منها، وفي السفن للركوب عليها وحمل السلع والبضائع من إقليم إلى إقليم.
5- وجوب شكر الله تعالى على إنعامه وذلك بالإيمان به وعبادته وتوحيده فيها.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لأنزَلَ مَلائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)
شرح الكلمات:
اعبدوا الله : أي وحدوه بالعبادة إذ ليس لكم من إله غيره.
أفلا تتقون : أي أتعبدون معه غيره فلا تخافون غضبه وعقابه.
الملأ : أي أعيان البلاد وكبراء القوم.
__________
1 في الآية إشارة إلى أن شجر الزيتون أول ما وجد على الأرض وُجد بطور سيناء ثم تناقله الناس من إقليم إلى آخر، فقوله {تخرج من طور سيناء} إعلام بأول منبت لها.

ما هذا إلاّ بشر مثلكم : أي ما نوح إلاّ بشر مثلكم فكيف تطيعونه بقبول ما يدعوكم إليه.
أن يتفضل عليكم : أي يسودكم ويصبح آمراً ناهياً بينكم.
ولو شاء الله لأنزل ملائكة: أي لو شاء الله إرسال رسول لأنزل ملائكة رسلا.
رجل به جنة : أي مصاب بمس من جنون.
فتربصوا به حتى حين: أي فلا تسمعوا له ولا تطيعوه وانتظروا به هلاكه أو شفاءه.
معنى الآيات:
هذا السياق بداية عدة قصص ذكرت على إثر قصة بدأ خلق الإنسان الأول آدم عليه السلام فقال تعالى: {ولقد أرسلنا نوحاً} 1 أي قبلك يا رسولنا فكذبوه كما كذبك قومك وإليك قصته إذ قال يا قوم اعبدوا الله أي وحدوه في العبادة، ولا تعبدوا معه عيره {مالكم من إله غيره2} أي إذ ليس لكم من إله غيره يستحق عبادتكم. وقوله: {أفلا تتقون} أي أتعبدون معه غيره أفلا تخافون غضبه عليكم ثم عقابه لكم؟.
فأجابه قومه المشركون بما أخبر تعالى به عنهم في قوله: {فقال الملأ الذين كفروا من قومه} أي فرد عليه قوله أشرافهم وأهل الحل والعقد فيهم من أغنياء وأعيان ممن كفروا من قومه {ما هذا} أي نوح {إلاّ بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم} أي يسود3 ويشرف فادعى أنه رسول الله إليكم. {ولو شاء الله} أي أن لا نعبد معه سواه {لأنزل ملائكة} تخبرنا بذلك {ما سمعنا بهذا} أي بالذي جاء به نوح ودعا إليه من ترك عبادة آلهتنا {قي آبائنا الأولين} أي لم يقل به أحد من أجدادنا السابقين {إن هو إلاّ رجل به جنة} أي ما نوح إلاّ رجل به مس من جنون، وإلاّ لما قال هذا الذي يقول من تسفيهنا وتسفيه آبائنا {فتربصوا4 به حتى حين} أي انتظروا به أجله حتى يموت، ولا تتركوا دينكم لأجله وهنا وبعد قرون طويلة بلغت ألف سنة إلاّ خمسين شكا نوح إلى ربه وطلب النصر منه فقال ما أخبر تعالى به عنه {قال ربّ انصرني5 بما كذبون} أي أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي وانصرني عليهم.
__________
1 فوائد سرد القصص كثيرة منها: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر مما يلقى من قومه، ومنها: العظة والاعتبار بما جرى من أحداث، ومنها تقرير التوحيد وإثبات النبوة المحمدية واللام في: {ولقد أرسلنا} موطئة للقسم أي: وعزّتنا لقد أرسلنا نوحاً.
2 قرأ الجمهور بجرّ {إله} ورفع {غيره} وقرأ بعضهم: بجر {غيره} لأنه نعت لإله المجرور بحرف الجر الزائد ورفع {غيره} هو على المحل إذ محل {إله} الرفع وإنما منع منه حرف الجر الزائد.
3 قولهم: هذا ناتج عن نفسياتهم المتهالكة على حب الرئاسة والشر الموهوم.
4 التربص: التوقف على عمل يراد عمله، والتريث فيه لما قد يغني عنه.
5 {قال ربّ انصرني} هذه الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنها واقعة جواباً لسؤال مقدّر تقديره: لما كذب قومه ماذا فعل؟ والجواب: دعا عليهم: {قال ربّ انصرني}.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- إثبات النبوة المحمدية بذكر أخبار الغيب التي لا تعلم إلاّ من طريق الوحي.
2- تقرير التوحيد بذكر دعوة الرسل أقوامهم إليه.
3- بيان سنة من سنن البشر وهي أن دعوة الحق أول من يردها الكبراء من أهل الكفر.
4- بيان كيف يرد الظالمون دعوة الحق بإتهام الدعاة بما هم براء منه كالجنون وغيره من الاتهامات كالعمالة لفلان والتملق لفلان.
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ( 30)
شرح الكلمات:
فأوحينا إليه أن أصنع : أي أعلمناه بطريق سريع خفي أي اصنع الفلك.
بأعيننا ووحيينا : أي بمرأى منا ومنظر، وبتعليمنا إياك صنعها.
وفار التنور : تنور الخباز فار منه الماء آية بداية الطوفان.
فاسلك فيها : أي أدخل في السفينة.
وأهلك : أولادك ونساءك.
ولا تخاطبني في الذين ظلموا : أي لا تكلمني في شأن الظالمين فإني حكمت بإغراقهم.
وقل رب : أي وادعني قائلاً يا رب أنزلني منزلاً مباركاً من الأرض.
إن في ذلك لآيات : أي لدلائل وعبر.

وإن كنا لمبتلين: أي لمختبرين.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في ذكر قصة نوح عليه السلام مع قومه فقد جاء في الآيات السابقة أن نوحاً عليه السلام دعا ربه مستنصراً إياه لينصره على قومه الذين كذبوه قائلاً: {رب انصرني1 بما كذبون} فاستجاب الله تعالى دعاءه فأوحى إليه أي أعلمه بطريق الوحي الخاص {أن اصنع الفلك} أي السفينة {بأعيننا ووحينا} أي بمرأى منا ومنظر وبتعليمنا إياك وجعل له علامة على بداية هلاك القوم أن يفور التنور تنور طبخ الخبز بالماء وأمره إذا راى تلك العلامة أن يدخل في السفينة من كل زوج أي ذكر وأنثى اثنين من سائر الحيوانات التي أمكنه ذلك منه وأن يركب فيها أيضاً أهله من زوجة وولد إلاّ من قضى الله بهلاكه ونهاه أن يكلمه في شأن الظالمين لأنهم مغرقون قطعاً. هذا ما تضمنته الآية الأولى (27) {فأوحينا إليه أن أصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا} أي بإهلاك الظالمين المشركين {وفار التنور، فاسلك فيها} أي في السفينة {من كل زوجين2 اثنين3، وأهلك} أي أزواجك وأولادك {إلاّ من سبق عليه القول منهم} أي بإهلاكهم كامرأته، {ولا تخاطبني في الذين4 ظلموا} أي لا تسألني عنهم فإني مهلكهم.
وقوله تعالى: {فإذا استويت5 أنت ومن معك على الفلك} أي إذا ركبت واستقررْت على متن السفينة أنت ومن معك من المؤمنين فاحمدنا فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين6 وادعنا ضارعاً إلينا قائلاً {رب أنزلني منزلاً مباركاً7} أي من الأرض، وَأَثْن علينا
__________
1 الباء سببية في موضع الحال من النصر المأخوذ في فعل الدعاء، وجملة {أن اصنع} جملة مفسرة لجملة: {أوحينا} لأنّ الوحي فيه معنى القول دون حروفه، فأن تفسيرية قطعاً.
2 الزوج: اسم لكل شيء له شيء آخر متصل به بحيث يجعله شفعا في حالة ما، والمراد به هنا: أزواج الحيوانات لحفظ نوعها حتى لا تنقرض بالطوفان.
3 قرأ حفص {من كلٍّ} بتنوين كل، وقرأ نافع وغيره بلا تنوين أي: بإضافة اثنين إلى كل، وتنوين كل تنوين عوض أي: من كل ما أمرتك أن تحمله في السفينة.
4 أي: في شأنهم فإنهم قد قضى بإهلاكهم ولا رادٌ لقضائه تعالى.
5 استويت: أي علوت فوقها واستقررت فيها، وحرف الجر {على} مؤذن بالاستقرار والتمكن منه.
6 الظالمين: أي المشركين، لأن الظلم هو الشرك، والتنجية: الإنجاء من شرهم وأذاهم وشركهم وكفرهم.
7 المنزل بضم الميم: وفتح الزاي: مصدر الذي هو الإنزال، وبفتح الميم وكسر الزاي هو مكان النزول أي: أنزلني موضعاً مباركاً، والمنزل بفتح الميم والزاي معاً: مصدر نزل نزولا ومنزلاً.

خيراً فقل {وأنت خير المنزلين}1، وقوله تعالى: {إن في ذلك لآيات} أي المذكور من قصة نوح لدلائل على قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته ووجوب الإيمان به وتوحيده في عبادته. وقوله: {وإن كنا لمبتلين} أي مختبرين عبادنا بالخير والشر ليرى الكافر من المؤمن، والمطيع من العاصي ويتم الجزاء حسب ذلك إظهاراً للعدالة الإلهية والرحمة الربانية.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- إثبات الوحي الإلهي وتقرير النبوة المحمدية.
2- تقرير حادثة الطوفان المعروفة لدى المؤرخين.
3- بيان عاقبة الظلم وأنه هلاك الظالمين.
4- سنية قول بسم الله والحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون عند ركوب الدابة أو السفينة ونحوها كالسيارة والطيارة.
5- استحباب الدعاء وسؤال الله تعالى ما العبد في حاجة إليه من خير الدنيا.
6- بيان سر ذكر قصة نوح وهو ما فيها من العظات والعبر.
ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلا مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ
__________
1 في الآية تعليم للمؤمنين إذا ركبوا أو نزلوا أن يدعوا بهذا الدعاء بل حتى إذا دخلوا بيوتهم وسلموا فقد كان عليّ رضي الله عنه إذا دخل المسجد دعا بهذا الدعاء : {ربّ أنزلني ..} الخ.

(34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)
شرح الكلمات:
ثم أنشأنا من بعدهم قَرْناً آخرين: أي خلقنا من بعد قوم نوح الهالكين قوماً آخرين هم عاد قوم هود.
رسولاً منهم: هو هود عليه السلام.
أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره : أي قولوا لا إله إلاّ الله فاعبدوا الله وحده.
وأترفناهم: أي أنعمنا عليهم بالمال وسعة العيش.
أنكم مخرجون: أي أحياء من قبوركم بعد موتكم.
هيهات هيهات: أي بَعُدَ بُعْداً كبيراً وقوعُ ما يعدكم.
إن هي إلاّ حياتنا الدنيا : أي ما هي إلاّ حياتنا الدنيا وليس وراءها حياة أخرى.
إن هو إلاّ رجل: أي ما هو إلاّ رجلٌ افترى على الله كذباً أي كذب على الله تعالى.
معنى الآيات:
هذه بداية قصة هود عليه السلام بعد قصة نوح عليه السلام أيضاً فقال تعالى: {ثم أنشأنا من بعدهم} أي خلقنا وأوجدنا من بعد قوم نوح الهالكين قوماً آخرين هم1 عاد قوم هود {فأرسلنا فيهم2 رسولاً منهم} هو هود عليه السلام بأن قال لهم: {أن اعبدوا الله ما
__________
1 وقيل هم قوم صالح بقرينة قوله تعالى: {فأخذتهم الصيحة} وهي التي أهلك الله تعالى بها ثمود قوم صالح إذ قال تعالى: {فأخذتهم الصيحة مصبحين} من سورة الحجر. ورشح هذا لأنّ فيها العبرة أكثر لوجود آثارهم في ديارهم شمال الحجاز إلاّ أن ذكر عاد بعد قوم نوح هو الوارد في كل قصص القرآن وبترجيح الزمان إذ عاد أوّل أمّة أهلكت بعد قوم نوح. والله أعلم.
2 قوله: {فيهم} بدل إليهم: لأن هوداً أو صالحاً كان المرسل من أهل البلاد وفرداً من أفرادهم فلا يحسن أن يقال: إلى إلاّ إذا كان خارجاً عنهم ليس من أفرادهم، وذلك كما في أهل سدوم، ونينوي والقبط فجاء التعبير بإلى نحو: {إلى فرعون وملئه}.

لكم من إله غيره} أي اعبدوا الله بطاعته وإفراده بالعبادة إذ لا يوجد لكم إله غير الله تصح عبادته إذ الخالق لكم الرازق الله وحده فغيره لا يستحق العبادة بحال من الأحوال وقوله : {أفلا تتقون} يحثهم على الخوف من الله ويأمرهم به قبل أن تنزل بهم عقوبته.
وقوله تعالى: {وقال الملأ من قومه الذين كفروا} أي وقال أعيان البلاد وأشرافها من قوم هود ممن كفروا بالله ورسوله وكذبوا بالبعث والجزاء في الدار الآخرة وقد أترفهم1 الله تعالى: بالمال وسعة الرزق فأسرفوا في الملاذ والشهوات: قالوا: وماذا قالوا؟: قالوا ما أخبرنا تعالى به عنهم بقوله: {ما هذا إلاّ بشر مثلكم} أي ما هذا الرسول إلاّ بشر مثلكم {يأكل مما تأكلون منه} من أنواع الطعام {ويشرب مما تشربون} من ألوان الشراب2 أي فلا فرق بينكم وبينه فكيف ترضون بسيادته عليكم يأمركم وينهاكم. وقالو: {ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون} أي خاسرون حياتكم ومكانتكم، وقالوا {أيعدكم3 أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً} أي فنيتم وصرتم تراباً {أنكم مُخْرجِون} أي أحياء من قبوركم. وقالوا: {هيهات4 هيهات} أي بَعُد بُعْداً كبيراً ما يعدكم به هود إنهاما {هي إلاّ حياتنا الدنيا} أي {نموت ونحيا} جيل5 يموت وجيل يحيا {وما نحن بمبعوثين} وقالوا: {إن هو إلاّ رجل أفترى6 على الله كذباً} أي اختلق الكذب على الله وقال عنه أنه يبعثكم ويحاسبكم ويجزيكم بكسبكم. {وقالوا ما نحن بمبعوثين} هذه مقالتهم ذكرها تعالى عنهم وهي مصرحة بكفرهم وتكذيبهم وإلحادهم وما سيقوله هود عليه السلام سيأتي في الآيات بعد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله تعالى في إرسال الرسل، وما تبتدىء به دعوتهم وهولا إله إلاّ الله.
__________
1 أي: وسعنا عليهم نعم الدنيا حتى بطروا، وصاروا يؤتون بالترفة وهي كالتحفة، يقال: أترفه المال: إذا أبطره وأفسده.
2 في قولهم: يأكل مما تأكلون ويشرب مما تشربون. هذه الجملة وإن كانت تعليلا لبشرية الرسول فإنها دالة على أنهم حقاً مترفون منعّمون في ملاذ الأكل والشرب كأنّه لا هم لهم إلاّ ذاك، كما قيل: من أحب شيئاً أكثر من ذكره كما هي مجالس المترفين اليوم جل لأحاديثهم حول الأكل والشرب ونحوهما.
3 الاستفهام للتعجيب، والكلام انتقال من تكذيبهم بكونه رسولاً إليهم إلى التكذيب بما أرسل به من الدين الحق.
4 الجمهور من النّحاة واللغويين: أن هيهات اسم فعل ماضٍ بمعنى بَعُدَ وهي مبنية على الفتح والكسر أيضاً ولا تُقال إلاّ مكررة، قال الشاعر:
فهيهات هيهات العقيق وأهله
هيهات خلّ بالعقيق نواصله
5 إن قيل: كيف قالوا: نموت ونحيا وهم منكرون للبعث؟ قيل في الجواب: إما أن يكون مرادهم نكون نطفاً ميتة ثم نحيا، وإما أن يكون في الكلام تقديم وتأخير أي: نحيا فيها ونموت نحو {واسجدي واركعي} وإما بموت الآباء وحياة الأبناء.
6 الافتراء: الكذب الذي لا شبهة فيه للمخبر، وهو الاختلاق.

2- أهل الكفر لا يصدر عنهم إلا ما هو شر وباطل لفساد قلوبهم.
3- الترب سِبب كثيراً من المفاسد والشرور، ولهذا يجب أن يُحْذَرْ بالاقتصاد.
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء وإثباتها وهي ما ينكره الملاحدة هروباً من الاستقامة.
5- تُكأة عامة المشركين وهي كيف يكون الرسول رجلاً من البشر، دفعاً للحق وعدم قبوله.
قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاء فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44)
شرح الكلمات:
عما قليل: أي عن قليل من الزمن.
ليصبحن نادمين: ليصيرن نادمين على كفرهم وتكذيبهم.
فأخذتهم الصيحة : أي صيحة العذاب والهلاك.
فجعلناهم غثاء : كغثاء السيل وهو ما يجمعه الوادي من العيدان والنبات اليابس.
فبعداً: أي هلاكاً لهم.ا
ثم أنشأنا: أي أوجدنا من بعدهم أهل قرون آخرين كقوم صالح وإبراهيم ولوط وشعيب.
تترا : أي يتبع بعضها بعضاً الواحدة عقب الأخرى.
وجعلناهم أحاديث: أي أهلكناهم وتركناهم قصصاً تقص وأخباراً تتناقل.

معنى الآيات:
هذا ما قال هود1 عليه السلام بعد الذي ذكر تعالى من أقوال قومه الكافرين {قال رب} أي يا رب {انصرني بما كذبون2} أي بسبب تكذبيهم لي وردهم دعوتي وإصرارهم على الكفر بك وعبادة غيرك فأجابه الرب تبارك وتعالى بقوله: {عما قليل ليصبحن نادمين} أي بعد قليل من الوقت وعزتنا وجلالنا ليصبحن نادمين أي ليصيرن نادمين على كفرهم بي وإشراكهم في عبادتي وتكذيبهم إياك ولم يمض إلاّ قليل زمن حتى أخذتهم الصيحة صيحة الهلاك ضمن ريح صرصر في أيام نحسات فإذا هم غثاء كغثاء السيل لا حياة فيهم ولا فائدة ترجى منهم {فبعداً للقوم الظالمين} أي هلاكاً للظالمين بالشرك والتكذيب والمعاصي وقوله تعالى: {ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين3} أي ثم أوجدنا بعد إهلاكنا عاداً أهل قرون آخرين كقوم صالح وقوم إبراهيم وقوم لوط وقوم شعيب. وقوله تعالى: {ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون} أي إن كل أمة حكمنا بهلاكها لا يمكنها أن تسبق أجلها أي وقتها المحدود لها فتتقدمه كما لا يمكنها أن تتأخر عنه بحال.
وقوله تعالى: {ثم أرسلنا رسلنا تترا4} أي يتبع بعضها بعضاً {كلما جاء أمة رسولها كذبوه فاتبعنا بعضهم بعضاً} أي في الهلاك فكلما كذبت أمة رسولها ورفضت التوبة إلى الله والإنابة إليه أهلكها، وقوله تعالى {وجعلناهم أحاديث5} أي لمن بعدهم يذكرون أحوالهم ويروون أخبارهم {فبعداً} أي هلاكاً منا {لقوم لا يؤمنون} في هذا تهديد قوي لقريش المصرة على الشرك والتكذيب والعناد. وقد مضت فيهم سنة الله فأهلك المجرمين منها.
__________
1 دَرَج الجمهور من المفسرين على أن القصص المذكور هنا كما هو في سائر السور هو قصص هود عليه السلام، وذهب ابن جرير وبعضٌ آخر إلى أنه قصة صالح لقرينة {فأخذتهم الصيحة} وقال الجمهور: يمكن أن تكون الصيحة ضمن عواصف الريح العقيم التي أرسلها تعالى على عاد قوم هود فأخذتهم فهلكوا بها والرياح عصفت بهم فمزقت وشتتت شملهم وتركتهم كأعجاز نخل خاوية ثم تفتتوا وصاروا كالغثاء وهذا الجمع أحسن.
2 في الكلام حذف اقتضاه الإيجاز غير المخل وهو: فكذبوا أنبياءهم فأهلكناهم ثم أنشأنا.
3 من في قوله {من أمة} صلة زيدت لتقوية النفي وتوكيده، والأصل ما تسبق أمّة.
4 {تترى} على وزن فعلى كدعوى وسلوى، والألف فيه للتأنيث، وأصله وترى من الوتر، الذي هو الفرد أبدلت الواو تاء كما أبدلت في تراث من الورث، وتجاه من الوجه، ولا يقال: تترى إلاّ إذا كان هناك تعاقب وانقطاع، وقرىء منوناً تترىً، وهو منصوب على الحال في القراءتين معاً.
5 جمع أحدوثة وهو ما يتحدّث به كأعاجيب جمع أعجوبة، وعي ما يتعجب منه، ومثل هذا التعبير: أحاديث: لا يقال في الخير وإنما يقال في الشر لا غير لقوله تعالى: {فجعلناهم أحاديث ومزّقناهم كلّ ممزق} رقد يقال في الخير إذا كان مقيّداً بذكره نحو قول ابن دريد:
إنما المرء حديث بعده
فكن حديثاً حسناً لمن وعى

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- استجابة الله دعوة المظلومين من عباده لاسيما إن كانوا عباداً صالحين.
2- الآجال للأفراد أو الأمم لا تتقدم ولا تتأخر سنة من سنن الله تعالى في خلقه.
3- تقرير حقيقة تاريخية علمية وهي أن الأمم السابقة كلها هلكت بتكذيبها وكفرها ولم ينج منها عند نزول العذاب بها إلاّ المؤمنون مع رسولهم.
4- كرامة هذه الأمة المحمدية أن الله تعالى لا يهلكها هلاكاً عاماً بل تبقى بقاء الحياة تقوم بها الحجة لله تعالى على الأمم والشعوب المعاصرة لها طيلة الحياة.
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50 )
شرح الكلمات:
بآياتنا وسلطان مبين : الآيات هي التسع الآيات وهي الحجة والسلطان المبين.
وكانوا قوماً عالين : أي علوا أهل تلك البلاد قهراً واستبداداً وتحكماً.
وقومهما لنا عابدون : أي مطيعون ذليلون نستخدمهم فيما نشاء وكيف نشاء.
ولقد آتينا موسى الكتاب : أي التوراة.
وجعلنا ابن مريم : أي عيسى حجة وبرهاناً على وجود الله وقدرته وعلمه ووجوب توحيده.
إلى ربوة ذات قرار ومعين : إلى مكان مرتفع ذي استقرار وفيه ماء جار عذب وفواكه وخضر.

معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر نبذ من قصص الأولين للعظة والاعتبار، ولإقامة الحجة على مشركي قريش فقال تعالى: {ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين} أي بعد تلك الأمم الخالية أرسلنا موسى بن عمران وأخاه هارون بسلطان مبين أي بحجج وبراهين بينة دالة على صدق موسى وما يدعو إليه من عبادة الله وتوحيده فيها والخروج ببني إسرائيل إلى الأرض المباركة أرض الشام إلى فرعون ملك مصر يومئذ وملئه من أشراف قومه وعليتهم فاستكبروا عن قبول دعوة الحق وكانوا عالين على أهل تلك البلاد فاهرين لها مستبدين بها وقالوا رداً على دعوة موسى وهارون ما أخبر تعالى به في قوله: {فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون} أي خاضعون مطيعون. هكذا أعلنوا متعجبين من دعوة موسى وهارون إلى الإيمان برسالتهما فقالوا: أنؤمن لبشر من مثلنا أي كيف يكون هذا أنتبع رجلين مثلنا فنصبح نأتمر بأمرهما وننتهي بنهيهما وكيف يتم ذلك وقومهما يعنون بني إسرائيل لنا عابدون. أي خاضعون لنا ومطيعون لأمرنا ونهينا. قال تعالى: {فكذبوهما}، فيما دعواهما إليه من الإيمان والتوحيد وإرسال بني إسرائيل معهما إلى أرض الميعاد فترتب على تكذيبهم لرسولي الله موسى وهارون هلاكهم فكانوا من المهلكين حيث أغرقهم الله أجمعين، وقوله تعالى: {ولقد آتينا موسى1 الكتاب لعلهم يهتدون}، ويخبر تعالى أنه بعد إهلاك فرعون ونجاة بني إسرائيل آتى موسى التوراة من أجل هداية بني إسرائيل عليها لأنها تحمل النور والهدى. هذه أيادي الله على خلقه وآياته فيهم فسبحانه من إله عزيز رحيم.
وقوله تعالى: {وجعلنا ابن مريم2 وأمه } أي جعل عيسى ووالدته مريم {آية} حيث خلق عيسى من غير أب فهي آية دالة على قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته وهذه موجبة الإيمان به وعبادته وتوحيده والتوكل عليه والإنابة والتوبة إليه. وقوله تعالى: {وآويناهما إلى ربوة ذات قرار وَمعين3} أي أنزلنا مريم وولدها بعد اضطهاد اليهود لهما ربوة4 عالية صالحة للاستقرار عليها بها فاكهة وماء عذب جار إكرام الله تعالى له ولوالدته فسبحان المنعم على عباده المكرم لأوليائه.
__________
1 خصّ موسى بإيتائه الكتاب دون هارون لأنّ هارون يوم إعطاء موسى الكتاب {التوراة} كان مع قومه، وموسى كان وحده في الطور للمناجاة.
2 أدمج أمّه في الذكر لتسفيه اليهود في قولهم في مريم بهتاناً عظيماً.
3 الربوة: المكان المرتفع من الأرض، وهي مثلثة الراء تضم وتفتح وتكسر، وهي بفلسطين أو مدينة الرملة وهي من أرض فلسطين.
4 المعين: هو الماء الجاري على ظهر الأرض ظاهر للعيون.

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير نبوة كل من موسى وأخيه هارون عليهما السلام.
2- التنديد بالاستكبار، وأنه علة مانعة من قبول الحق.
3- مظاهر قدرة الله وعلمه ورحمته في إرسال الرسل بالآيات وفي إهلاك المكذبين.
4- آية ولادة عيسى من غير أب مقررة قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، وبعث الناس من قبورهم للحساب والجزاء.
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ (56)
شرح الكلمات:
كلوا من الطيبات : أي من الحلال.
واعلموا صالحاً : أي بأداء الفرائض وكثير من النوافل.
وإن هذا أمتكم : أي ملتكم الإسلامية.
فاتقون : أي بامتثال أمري واجتناب نهيي.
فتقطعوا أمرهم : أي اختلفوا في دينهم فأصبحوا طوائف هذه يهودية وتلك نصرانية.
في غمرتهم : أي في ضلالتهم.
نسارع لهم : أي نعجل.
بل لا يشعرون : أن ذلك استدراج منا لهم.
معنى الآيات :
بعد أن أكرم الله تعالى عيسى وَوالدته بما أكرمهما به من إيوائهما إلى ربوة ذات قرار ومعين

خاطب1 عيسى عبده ورسوله قائلاً: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} أي الحلال فكان عيسى عليه السلام يأكل من غزل أمه إذ كانت تغزل الصوف بأجرة فكانا يأكلان من ذلك أكلا من الطيب كما أمرهما الله تعالى وقوله: {واعملوا صالحاً} كلوا من الحلال واعملوا صالحاً بأداء الفرائض والإكثار من النوافل، وقوله: {إني بما تعملون عليم} فيه وعد بأن الله تعالى سيثيبهم على ما يعلمون من الصالحات. وقوله: {وأن2 هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} أعلمهم أن ملتهم وهي الدين الإسلامي دين واحد فلا ينبغي الاختلاف فيه وأعلمهم أيضاً أنه ربهم أي مالك أمرهم والحاكم عليهم فليبتغوه بفعل ما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه، لينجوا من عذابه ويظفروا برحمته ودخول جنته.
وقوله تعالى: {فتقطعوا أمرهم بينهم3} أي دينهم {زبراً كل حزب بما لديهم فرحون} أي فرقوا دينهم فرقاً فذهبت كل فرقة بقطعة منه وقسموا الكتاب إلى كتب فهذه يهودية وهذه نصرانية واليهودية فرق والنصرانية فرق والإنجيل أصبح أناجيل متعددة وصارت كل جماعة فرحة بما عندها مسرورة به لا ترى الحق إلاّ فيه.. {كل حزب بما لديهم فرحون} وهنا أمر الله رسوله أن يتركهم في غمرة ضلالتهم إلى حين أن ينزل بهم ما قضى به الرب تعالى على أهل الاختلاف في دينه {فذرهم في غمرتهم حتى حين} إذ قال له في سورة الأنعام {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، لست منهم في شيء} وفيه من التهديد ما فيه. وهذا الذي نعاه تعالى على تلك الأمم قد وقعت فيه أمة الإسلام فاختلفوا في دينهم مذاهب وطرقاً عديدة، وياللأسف وقد حلت بهم المحن ونزل بهم البلاء نتيجة ذلك الخلاف. وقوله: {أيحسبون أنما نمدهم4 به من مال
__________
1 اختلف في هذا الخطاب هل هو لعيسى عليه السلام نظراً لسياق الحديث أو هو لمحمد صلى الله عليه وسلم أو هو عام لكل الرسل، أي: ما من رسول إلاّ وأمره بما في هذا السياق، وأمّة كل رسول تابعة له، وما دامت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب في مثل هذا فلا داعي إلى الترجيح وعدمه ويشهد للعموم قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: "يا أيها الناس إن الله طيّب لا يقل إلاّ طيبا، وإن الله أمر المرسلين بما أمر به المؤمنين فقال: يا أيها الرسل كلوا من الطيات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك" والشاهد في قوله صلى الله عليه وسلم "بما أمر به المرسلين".
2 قرىء: {وانّ} بكسر إن على القطع أي: الابتداء وعلى تقدير قول أو قلنا لهم: {إن هذه}.. الخ وقرىء بفتحها، وهي قراءة الأكثرين على تقدير واعلموا {أن هذه أمتكم}.. الخ.
3 كأن هذه الآية تنظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن أهل الكتاب قبلكم افترقوا على اثنتين وسبعين ملّة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة" الحديث أخرجه أبو داود ورواه الترمذي وزاد: "قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي" وقوله : {ملة} فيه دليل على أن الاختلاف في الفروع غير مقصود وإنما المقصود هو ما كان في أصول الدين وقواعده.
4 {إنما}: ما: موصولة بمعنى الذي أي: أيحبسبون يا رسولنا إن الذي نعطيهم في الدنيا من مال وولد هو ثواب لهم على شركهم وكفرهم إنما هو استدراج وإملاء ليس إسراعاً في الخيرات واختلف في خبر إنّ فقيل: إنه محذوف وتقدير الكلام: إنما نسارع لهم به في الخيرات، والاستفهام في أيحسبون: إنكاري.

وبنين} مع اختلافهم وانحرافهم مسارعة لهم منا في الخيرات1 لا بل ذلك استدراج لهم ليهلكوا ولكنهم لا يشعرون بذلك. لشدة غفلتهم واستيلاء غمرة الضلالة عليهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الأكل من الحلال، ووجوب الشكر بالطاعة لله ورسوله.
2- الإسلام دين البشرية جمعاء ولا يحل الاختلاف فيه بل يجب التمسك به وترك ما سواه.
3- حرمة الاختلاف في الدين وأنه سبب الكوارث والفتن والمحن.
4- إذا انحرفت الأمة عن دين الله، ثم رزقت المال وسعة العيش كان ذلك استدراجاً لها، ولم يكن إكراماً من الله لها دالاً على رضى ربها عنها بل ما هو إلاّ فتنة ليس غير.
إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62)
شرح الكلمات:
مشفقون : أي خائفون .
لا يشركون : أي بعبادته أحداً.
يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة : أي خائفون أن لا يقبل منهم ذلك.
أنهم إلى ربهم راجعون : أي لأنهم إلى ربهم راجعون فيحاسبهم ويسألهم ويجزيهم.
وهم لها سابقون : أي بإذن الله وفي علمه.
ولا نكلف نفساً إلاَّ وسعها : إلا طاقتها وما تقدر عليه.
ولدينا كتاب ينطق بالحق : وهو ما كتبه الكرام الكاتبون فإنه ناطق بالحق.
وهم لا يظلمون : أي ينقض حسنة من حسناتهم ولا بزيادة سيئة على سيآتهم.
__________
1 الخيرات : جمع خير وهو من الجموع النادرة مثل: سرادقات جمع سرداق.

معنى الآيات:
لما ذكر تعالى حال الذين فرقوا دينهم فذهبت كل فرقة منهم بكتاب ومذهب ولقب ونعى عليهم ذلك التفرق وأمر رسوله أن يتركهم في غمرة خلافاتهم و يدعهم إلى حين يلقون جزاءهم عاجلاً أو آجلاً: أثنى تبارك وتعالى على عباده المؤمنين من أهل الخشية، فقال وقوله الحق: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون} أي من عذابه خائفون من الوقوف بين يديه فهذه صفة لهم وآخرى {والذين هم بآيات ربهم يؤمنون} أي بحجج الله تعالى التي تضمنتها آياته يؤمنون أي يوقنون وثالثة: {والذين هم بريهم لا يشركون} أي في ذاته ولا صفاته ولا عباداته فيعبدونه بما شرع لهم موحدينه في ذلك ورابعة: {والذين1 يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم2 راجعون}. أي يؤتون3 الزكاة وسائر الحقوق والواجبات وقلوبهم خائفة من ربهم أن يكونوا قد قصروا فيما أوجب عليهم وخائفة أن لا يقبل منهم عملهم، وذلك ناجم لهم من قوة إيمانهم برجوعهم إلى ربهم ووقوفهم بين يديه ومساءلته لهم: لم قدمت؟ لم أخرت؟ وقوله تعالى: {أولئك يسارعون4 في الخيرات وهم لها سابقون} في هذا بشرى لهم إذ أخبر تعالى أنهم يسارعون في الخيرات، وأنهم سبق ذلك لهم في الأزل فهنيئاً لهم. وقوله تعالى: {ولا نكلف نفساً إلاّ وسعها} فيه قبول عذر من بذل جهده في المسارعة في الخيرات ولم يلحق بغيره أعذره ربه فإنه لا خوف عليه ما دام قد بذل جهده إذ هو تعالى {لا يكلف نفساً إلاّ وسعها} أي طاقتها وما يتسع له جهده.
وقوله: {ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون} فيه وعدّ لأولئك المسارعين بالخيرات بأنّ أعمالهم مكتوبة لهم في كتاب ينطق بالحق لا يخفى حسنة من حسناتهم ويستوفونها كاملة وفيه وعيد لأهل الشرك والمعاصي بأن أعمالهم محصاة عليهم قد ضمها كتاب صادق وسوف يجزون بها وهم لا يظلمون فلا تكتب عليهم سيئة لم يعملوها قط ولا يجزون إلاّ بما كانوا يكسبون.
__________
1 روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: "لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات".
2 أي: لأنهم: أو من أجل أنهم إلى ربهم راجعون. وفي هذه الآية إشارة إلى أن العبرة بما يختم به للعبد، وفي البخاري: "وإنما الأعمال بالخواتيم".
3 قرىء: {يأتون} من الإتيان، ولا يختلف المعنى إذ هم يأتون الأعمال الصالحة ويفعلونها، وقلوبهم خائفة. كما يعطون ما يعطون من الزكاة والنفقات وقلوبهم وجلة أو يعطون الملائكة أعمالهم التي يكتبونها وقلوبهم وجلة.
4 {يسارعون في الخيرات} أي: في الطاعات كي ينالوا بها أعلى الدرجات والغرفات ولم يقل يسارعون إلى الخيرات إذ هم في الخيرات لم يخرجوا من دائرتها أبداً فهم فيها يسارعون. في الآية إشارة إلى أن الصلاة في أول وقتها أفضل، وهكذا السبق في كل خير قبل الغير خير.

هداية الآيات
هن هداية الآيات:
1- فضيلة الخشية والإيمان والتوحيد والتواضع والمراقبة لله تعالى.
2- بشرى الله تعالى لأهل الإيمان والتقوى.
3- تقرير قاعدة رفع الحرج في الدين.
4- تقرير كتابة أعمال العباد وإحصاء أعمالهم ومجازاتهم العادلة.
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لا تُنصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الأوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70 )
شرح الكلمات:
في غمرة من هذا : أي جهالة من القرآن وعمى.
ولهم أعمال من دون ذلك : أي من دون أعمال المؤمنين التي هي الخشية والإيمان بالآيات والتوحيد والمراقبة.
هم لها عاملون : أي سيعملونها لتكون سبب نهايتهم حيث يأخذهم الله تعالى بها.
إ ذا هم يجأرون : أي يصرخون بأعلى أصواتهم ضاجيّن مستغيثين ممَّا حلَّ بهم من العذاب.
تنكصون : أي ترجعون على أعقابكم كراهة سماع القرآن.

مستكبرين به : أي بالحرم أي كانوا يقولون: لا يظهر علينا فيه أحد لأنّا أهل الحرم.
سامراً تهجرون: أي تسمرون بالحرم ليلا هاجرين الحق وسماعه على قراءة فتح التاء وعلى قراءة ضمها تهجرون أي تقولوا الهجر من القول كالفحش والقبح.
رسولهم : أي محمداً صلى الله عليه وسلم.
به جنّة: أي مجنون.
معنى الآيات:
{بل قلوبهم في غمرة من هذا} أي ليس الأمر كما يحب فهؤلاء المشركون أنّا نمدهم بالمال مسارعة منا لهم في الخيرات لرضانا عنهم لا بل إن قلوبهم في غمرة وعمى من القرآن، {ولهم أعمال من دون ذلك1} أي دون عمل المؤمنين. {هم لها عاملون} حتى تنتهي بمترفيهم إلى هلاكهم ودمارهم وقوله تعالى : {حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون} أي استمرت الأعمال الشركية الإجرامية حتى أخذ الله تعالى مترفيهم في بدر بعذاب القتل والأسر {إذا هم يجأرون2} يضجون بالصراخ مستغيثين، والله تعالى يقول لهم: {لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون} وذكر تعالى لهم ما كانوا عليه من التكذيب والاستكبار وقول الهجر موبخاً إياهم {قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون3} هروباً من سماعها حال كونكم {مستكبرين به} أي بالحرم زاعمين أنكم أهل الحرم، وأن أحداً لا يظهر عليكم فيه لأنكم أهله وقوله: { سامراً4 تهجرون} أي تسمرون بالليل تهجرون بذلك سماع الحق ودعوة الحق التي تُتلى بها عليكم آيات الله. وقد قرىء
__________
1 عن ابن عباس رضي الله عنهما دون ذلك أي: دون الشرك من كبائر الذنوب هم عاملوها لا محالة إذ كتبت عليهم ليدخلوا بها النار، وما كان دون عمل المؤمنين قطعاً هو الشرك والمعاصي، فلا منافاة بين ما في التفسير وما روي عن ابن عباس.
2 الجؤار: كالخوار يقال: خار الثور يخأر: إذا صاح، وجأر الرجل بالدعاء: تضرع به، قال قتادة: يصرخون بالتوبة فلا تقبل منهم، وجأروا كذلك يوم أصابهم القحط والجدب فجاعوا حتى كادوا يهلكون بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
3 {تنكصون}: ترجعون وراءكم، وأصله الرجوع إلى الوراء القهقري. قال الشاعر:
زعموا أنهم على سبل النجا
ةِ وإنما نكصوا على الأعقاب
4 سامراً معناه سمّاراً أي: جماعة تتحدّثون بالليل، والسمر مأخوذ من السّمر الذي هو ظل القمر، ومنه سمرة اللون وكانوا يتحدثون حول الكعبة في سمرة القمر فسمي التحدّث به، وقرى {سُمّاراً} جمع سامر. يقال: جاء من السامر يريد: من القوم الذين يسمرون، وفي الحديث: كراهة النوم قبل العشاء، والحديث أي السمر بعدها، وروي أن عمر رضي الله عنه كان يضرب الناس على الحديث بعد العشاء ويقول: أسمراً أول الليل ونوماً آخره؟!!

تُهجرون بضم التاء وكسر الجيم أي تقولون أثناء سمركم في الليل الهجر من القول كالكفر وقول الفحش وما لا خير فيه من الكلام، وكانوا كذلك.
وقوله تعالى: {أفلم يدبروا1 القول} الذي يسمعونه من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيعرفوا أنه حق وخير وأنه فيه صلاحهم {أم جاءهم2} من الدين والشرع {ما لم يأت أباءهم الأولين} فقد جاءت رسل ونزلت كتب وهم يعرفون ذلك. أم لم يعرفوا رسولهم محمداً صلى الله عليه وسلم فهم له منكرون إنهم يعرفونه بصدقه وطهارته وكماله منذ نشأته وصباه إلى يوم أن دعاهم إلى الله {أم يقولون به جنَّة} أي جنون وأين الجنون من رجل ينطق بالحكمة ويعمل بها ويدعو إليها {بل جاءهم بالحق وأكثرهم3 للحق كارهون} ، وهذا هو سرُّ إعراضهم واستكبارهم إنه كراهيتهم للحق لطول ما ألفوا الباطل وعاشوا عليه، وهذه سنة البشر في كل زمان ومكان.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- غمرة الجهل والتعصب وعمى التقليد هي سبب إعراض الناس عن الحق ومعارضتهم له.
2- لا تنفع التوبة عند معاينة العذاب أو نزوله.
3- بيان الذنوب التي أخذ بها مترفو مكة ببدر وهي هروبهم من سماع القرآن ونكوصهم عند سماعه على أعقابهم حتى لا يسمعوه واستكبارهم بالحرم واعتزارهم به جهلاً وضلالاً واجتماعهم في الليالي الطوال يسمرون على اللهو وقول الباطل هاجرين سماع القرآن وما يدعو إليه من هدى وخير.
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (73)
__________
1 وقيل: القول: القرآن: وسمي قولاً لأنهم خوطبوا به، والاستفهام إنكاري يحمل التقريع والتأنيب.
2 {أم جاءهم} الخ .. أي: فأنكروه وأعرضوا عنه. وقيل: أم بمعنى بل الانتقالية بل جاءهم مالا عهد لآبائهم به فلذا أنكروه وتركوا التديُّن به، والفاء في : أفلم يدّبروا: للتفريع إذ هذا الكلام متفرع عما سبقه، والتدبر معناه إعمال النظر العقلي في دلالات الدلائل على ما نصبت له، وأصله النظر في دبر الأمر أي: فيما لا يظهر منه للمتأمل بادئ ذي بدء.
3 في قوله { بل أكثرهم} احتراس عرف في القرآن حتى لا ينقض ببعض الأفراد وهو من اعجاز القرآن وبالغ كماله في البلاغة والبيان.

وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
شرح الكلمات:
لو اتبع الحق أهواءهم: أي ما يهوونه ويشتهونه.
أتيناهم بذكرهم: أي بالقرآن العظيم الذي بذكرهم فيه يذكرون ويُذكرون.
أم تسألهم خرجاً : أي مالاً مقابل إبلاغك لهم دعوة ربهم.
فخراج ربك خير : أي ما يرزقكه الله خير وهو خير الرازقين.
إلى صراط مستقيم : أي إلى الإسلام.
عن الصراط لناكبون : أي عن الإسلام أي متنكبونه جاعلوه على منكب أي جانب عادلون عنه.
للجوَّا في طغيانهم يعمهون: لتمادوا في طغيانهم مصرين عليه.
فما استكانوا : أي ما ذلوا ولا خضعوا.
إذا هم فيه مبلسون : أي آيسون قنطون.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة المشركين إلى التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء فقوله تعالى: {ولو اتبع1 الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن} هذا كلام مستأنف لبيان حقائق أخرى منها أن هؤلاء المشركين لو اتبع الحقُّ النازل من عند الله والذي يمثله القرآن أهواءهم أي ما يهوونه ويشتهونه فكان يوافقهم عليه لأدى ذلك إلى
__________
1 اختلف في المراد بالحق فقيل: هو الله تعالى قاله مجاهد و غيره، وقيل معناه ولو اتبع صاحب الحق، وقيل: هو مجاز أي: لو وافق الحق أهواءهم فجعل موافقته إتباعاً، وما في التفسير أظهر، وقد استظهره ابن جرير الطبري.

فساد الكون كله علويه1 وسفليه، وذلك لأنهم أهل باطل لا يرون إلاّ الباطل ويصبح سيرهم معاكساً للحق فيؤدي حتما إلى خراب الكون وقوله تعالى: {بل أتيناهم بذكرهم} أي جئناهم بذكرهم الذي هو القرآن الكريم إذ به يذكرون وبه يُذكرون لأنه سبب شرفهم، وقوله: {فهم عن ذكرهم معرضون}، فهم لسوء حالهم وفساد قلوبهم معرضون عما به يذكرون ويذكرون2، وقوله تعالى: { أم تسألهم خرْجاً} أي3 أجراً ومالاً {فخراج ربّك خير} أي ثواب ربّك الذي يثيبك به خير وهو تعالى خير الرازقين وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسألهم عن التبليغ أجراً وقوله تعالى: {وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم} أي إلى الإسلام طريق السعادة والكمال في الدنيا والآخرة، وقوله تعالى: {وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط4 لناكبون} أي علة تنكبّهم أي ابتعادهم عن الإسلام هو عدم إيمانهم بالآخرة، وهو كذلك فالقلب الذي لا يعمره الإيمان بلقاء الله والجزاء يوم القيامة صاحبه ضد كل خير ومعروف ولا يؤمل منه ذلك لعلة كفره بالآخرة.
وقوله تعالى: {ولو5 رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون} يخبر تعالى أنه لو رحم أولئك المشركين المكذبين بالآخرة، وكشف ما بهم من ضر أصابهم من قحط وجدب وجوع ومرض لا يشكرون الله، بل يتمادون في عتوهم وضلالهم وظلمهم يعمهون حيارى يترددون، وقوله تعالى: {ولقد أخذناهم6 بالعذاب} وهي سنوات الجدب و القحط بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وما أصابهم من قتل وجراحات وهزائم في بدر. وقوله: {فما استكانوا7 لربهم وما يتضرعون} فما ذلوا لربهم وما دعوه ولا تضرعوا إليه بل بقوا على طغيانهم في ضلالهم ومرد هذا ظلمة النفوس الناتجة عن الشرك والمعاصي.
وقوله تعالى: {حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذاب شديد} وهو معركة بدر وما أصاب
__________
1 وما في الكون العلوي من الملائكة، والسفلي من الجن والإنس، وإلى هذا الإشارة بِمَنْ في قوله: {ومن فيهن}.
2 الأولى يذكرون بفتح الياء، مبنى للفاعل، والثانية يذكرون بضم الياء مبنيٌ للمفعول.
3 قرىء خراجاً أيضاً والمعنى واحد، والمعنى: أتسألهم رزقاً فرزق ربك خير، وقيل: الخرج: الجعل والخراج: العطاء، والخرج: المصدر، والخراج: الاسم.
4 الصراط في اللغة: الطريق، يسمي الدين طريقاً لأنه طريق إلى الجنة والناكب: العادل عن الشيء المعرض عنه، وهو مشتق من المنكب وهو جانب الكتف.
5 {ولو رحمناهم} معطوف على جملة: {حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب } وما بينهما: اعتراض باستدلال عليهم وتنديم لهم وقطع لمعاذيرهم أي: أنهم ليسوا بحيث لو استجاب الله جؤارهم {دعاءهم} عند نزول العذاب بهم وكشفه عنهم لعادوا إلى ما كانوا فيه من الغمرة والشرك والأعمال السيئة. وهذا كقوله: {إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون}.
6 هذا استدلال على مضمون ما في قوله: {ولو رحمناهم} الخ، و{ال} في العذاب للعهد أي: بالعذاب المذكور آنفاً في قوله: {حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب}.
7 الاستكانة: مصدر بمعنى الخضوع، مشتقة من السكون، لأن الذي يخضع يقطع الحركة أمام من يخضع له.

المشركين من القتل {إذا هم فيه مبلسون1} أي آيسون من كل خير حزنون قنطون وذلك لظلمة نفوسهم بالشرك والمعاصي.
هداية الآيات
هن هداية الآيات:
1- خطر إتباع الهوى وما يفضي إليه من الهلاك والخسران.
2- الصراط المستقيم الموصل إلى السعادة والكمال هو الإسلام لا غير.
3- التكذيب بيوم القيامة وما يتم فيه من حساب وجزاء هو الباعث على كل شر والمانع من كل خير.
4- من آثار ظلمة النفس نتيجة الكفر اليأس والقنوط والتمادي في الشر والفساد.
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (83)
شرح الكلمات:
أنشأ لكم السمع : أي خلق وأوجد لكم الأسماع والأبصار.
والأفئدة : جمع فؤاد وهو القلب.
قليلا ما تشكرون : أي ما تشكرون إلاّ قليلاً.
ذرأكم : أي خلقكم.
__________
1 الإبلاس: شدة اليأس من النجاة، وجائز أن يكون العذاب الذي أبلسهم عذاب القحط والمجاعة التي أصابتهم، وجائز أن يكون عذاب يوم القيامة.

وإليه تحشرون: أي تجمعون إليه بعد إحيائكم وخروجكم من قبوركم.
وله اختلاف الليل والنهار : أي إليه تعالى إيجاد الليل والنهار وظلمة الليل وضياء النهار.
أفلا تعقلون : فتعرفوا أن الله هو المعبود الحق إذ هو الرب الحق.
إلاّ أساطير الأولين: أي ما تقولون من البعث والحياة الثانية ما هو إلاّ حكايات وأساطير وأخبار الأولين، والأساطير جمع أسطورة أي حكاية مسطرة مكتوبة.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في دعوة المنكرين للبعث الآخر إلى الإيمان به بعرض الأدلة العقلية عليهم لعلهم يؤمنون فقال تعالى لهم: {وهو الذي أنشأ لكم1 السمع2 والأبصار والأفئدة} أي الله الذي خلق لكم أسماعكم وأبصاركم وقلوبكم قادر على إحيائكم بعد موتكم وحشركم إليه تعالى ليحاسبكم ويجزيكم، وقوله: {قليلاً ما تشكرون3} يوبخهم تعالى على كفرانهم نعمه عليهم، إذ أوجد لهم أسماعاً وأبصاراً وأفئدة ولم يحمدوه على ذلك ولم يشكروه بالإيمان به وبطاعته. وقوله تعالى: {وهو الذي ذرأكم في الأرض} أي خلقكم في الأرض، {وإليه تحشرون} إذ الذي قدر على خلقكم في الأرض قادر على خلقكم في أرض أخرى بعد أن يميتكم ويحشركم أي يجمعكم إليه ليحاسبكم ويجزيكم. وقوله: {وهو الذي يحيى4 ويميت} أي يحيي النطفة بجعلها مضغة لحم ثم ينفخ فيها الروح فتكون بشراً، ويميتكم بعد انقضاء آجالكم أليس هذا قادراً على إحيائكم بعد موتكم.
وقوله تعالى: {وله اختلاف5 الليل والنهار أفلا تعقلون} أي ولله تعالى اختلاف الليل والنهار بإيجادهما وتعاقبهما وإدخال أحدهما في الآخر أفلا تعقلون6 أن من هذه قدرته وتصاريفه في خلقه قادر على بعثكم بعد إماتتكم وقوله تعالى: {بل قالوا مثل7 ما قال الأولون} أي بدل
__________
1 هذا الكلام الإلهي، استدلال وامتنان فقد عرّفهم بكمال قدرته وعظيم مننه.
2 جائز أن يكون لهم شكر قليل، وجائز أن يكون لا شكر لهم البتة، وإنما هو من باب الاحتراس كيلا ينقض الخبر. بأدنى شكر منهم.
3 جمع الأبصار والأفئدة باعتبار تعدد الأفراد، ووحد السمع لأنه مصدر فجرى على الأصل.
4 هذه بعض مظاهر القدرة الإلهية الموجبة لعبادته وحده، والموجبة لتصديقه فيما واعد به وأوعد، من نعيم الآخرة وعذابها.
5 {وله اختلاف الليل والنهار} هذه اللام: لام الاختصاص إذ لا قدرة لكائن سواه على اختلاف الليل والنهار بالطول والقصر، والضياء والظلام، وما يجري فيهما من تصاريف الكائنات على اختلافها وتنوعها.
6 الاستفهام إنكاري ينكر عليهم عدم تعقلهم وفهمهم لدلائل التوحيد والبعث والجزاء، والفاء: للتفريع إذ هذا الكلام متفرع على ما تقدم من الأدلة في السياق.
7 في هذا التفات من الخطاب إلى الغيبة لأنّ الكلام انتقل من التقريع إلى حكاية ضلالهم، وبل: للإضراب الإبطالي أي: أبطل كونهم يعقلون مع إثبات إنكارهم للبعث مع علّة الإنكار وهي: تقليدهم لآبائهم.

أن يؤمنوا باليوم الآخر لِما دَلَّ عليه من هذه الأدلة التي لا يردها عاقل ولا ينكرها عقل عادوا فقالوا قولة المنكرين من الأمم قبلهم: {قالوا1 إذا متنا وكنا تراباً أءنا لمبعثون} وهو إنكار صريح منهم للعبث الآخر. وقالوا أيضاً ما أخبر تعالى عنهم، وهم يعلنون تكذيبهم لله تعالى ورسوله: {لقد وعدنا نحن وأباؤنا هذا من2 قبل إن هذا إلاّ أساطير الأولين} أي لقد وعد هذا آباؤنا من قبل ولم يحصل ما هذا الذي يقال إلاّ أساطير أي حكايات سطرها الأولون في كتبهم فهي تروى ويتناقلها الناس ولا حقيقة لها ولا وجود.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الشكر لله تعالى بطاعته على نعمه ومن بينها نعمة السمع والبصر والقلب.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء بما تضمنت الآيات من الأدلة العديدة على ذلك.
3- سوء التقليد وآثاره في السلوك الإنساني بحيث ينكر المقلد عقله.
قُل لِّمَنِ الأرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ
__________
1 قرأ الجمهور بهمزتين : الأولى. همزة الاستفهام، والثانية: همزة إذ الشرطية وكذلك مع {إنا لمبعوثون} إلاّ نافعاً وأبا عمرو فقد قرءا بهمزة واحدة اكتفاء بهمزة الاستفهام الأولى: الدالة على الشرط عن همزة الجواب. والاستفهام إنكاري.
2 من قبل محمد صلى الله عليه وسلم وجملة: "إن هذه لأساطير الأولين جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً لمن قال: كيف رد الأولون والآخرون على هذا القول؟

الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
شرح الكلمات:
قل أفلا تذكرون: فتعلمون أن من له الأرض ومن فيها خلقاً وملكاً قادر على البعث وأنه لا إله إلاّ هو.
قل أفلا تتقون: أي كيف لا تتقونه بالإيمان به وتوحيده وتصديقه في البعث والجزاء.
من بيده ملكوت كل شيء : أي ملك كل شيء يتصرف فيه كيف يشاء.
وهو يجير ولا يجار عليه: يحفظ ويحمي من يشاء ولا يُحمى عليه ويحفظ من أراده بسوء.
فأنى تسحرون: أي كيف تخدعون وتصرفون عن الحق.
بل أتيناهم بالحق : أي بما هو الحق والصدق في التوحيد والنبوة والبعث والجزاء.
ولعلا بعضهم على بعض : أي قهراً وسلطاناً.
عما يصفون: أي من الكذب كزعمهم أن لله ولداً وأن له شريكاً وأنه غير قادر على البعث.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في دعوة المشركين إلى التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء فقال تعالى لرسوله قل1 لهؤلاء المشركين المنكرين للبعث والجزاء {لمن الأرض ومن فيها} من المخلوقات {إن كنتم تعلمون} من هي له فسموه. ولما لم يكن لهم من بُدًّ أن يقولوا {لله} أخبر تعالى أنهم سيقولون لله. إذاً قل لهم: {أفلا تذكرون2} فتعلموا أن من له الأرض ومن فيها خلقاً وملكاً وتصرفاً لا يصلح أن يكون له شريك من عباده، وهو رب كل شيء ومليكه. وقوله: {قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم} أي سَلْهُمْ من هو رب السموات السبع وربّ العرش العظيم. الذي أحاط بالملكوت كله، أي من هو خالق السموات السبع، ومن فيهن ومن خالق العرش العظيم ومالك ذلك كله والمتصرف فيه، ولما لم يكن من جواب سوى الله أخبر تعالى أنهم سيقولون لله أي خالقها وهي لله ملكاً وتدبيراً وتصريفاً إذا قل لهم يا رسولنا {أفلا تتقون} أي الله وأنتم تنكرون عليه قدرته في إحياء الناس بعد موتهم وتجعلون له أنداداً تعبدونها معه3، أما تخافون عقابه أما
__________
1 قل يا رسولنا جواباً لهم عما قالوه: {لمن الأرض..} الخ.
2 أي: تتعظون فتعلموا.. الخ.
3 وتجعلون لله البنات وأنتم تكرهون ذلك لأنفسكم فكيف ترضونه لربكم؟

تخشون عذابه وقوله تعالى: {قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه1} أي سلهم يا رسولنا فقل لهم من بيده ملكوت كل شيء أي ملك كل شيء وخزائنه؟ وهو يجير من يشاء أي يحمي ويحفظ من يشاء فلا يستطيع أحد أن يمسه بسوء ولا يجار عليه، أي ولا يستطيع أحد أن يجير أي يحمي ويحفظ عليه أحداً أراده بسوء وقوله: {إن كنتم تعلمون} أي إن كنتم تعلمون أحداً غي الله بيده ملكوت. كل شيء ويجير ولا يجار عليه فاذكروه، ولما لم يكن لهم أن يقولوا غير الله، أخبر تعالى أنهم سيقولون الله أي2 هو الذي بيده ملكوت كل شيء وهي لله خلقاً وملكاً وتصرفاً إذاً قل لهم {فأنى تسحرون؟} أي كيف تخدعون فتصرفون عن الحق فتعبدون غير الخالق الرازق، وتنكرون على الخالق إحياء الأموات وبعثهم وهو الذي أحياهم أولاً ثم أماتهم ثانياً فكيف ينكر عليه إحياءهم مرة أخرى وقوله تعالى: {بل أتيناهم بالحق} 3 أي ليس الأمر كما يتوهمون ويخيل إليهم بل أتيناهم بذكرهم الذي هو القرآن به يذكرون لأنه ذكرى وذكر، وبه يذكرون لأنه شرف لهم وإنهم لكاذبون في كل ما يدعون ويقولون. {ما4 اتخذ الله من ولد} ولا بنت، {وما كان معه من إله} ولا ينبغي ذلك، والدليل المنطقي العقلي الذي لا يرد هو أنه لو كان مع الله إله آخر لقاسمه الملك وذهب كل إله بما خلق، ولحارب بعضهم بعضاً وعلا بعضهم على بعض غلبة وقهراً وقوله تعالى: {سبحان الله} تنزيهاً لله تعالى عما يصفه به الواصفون من صفات العجز كاتخاذ الولد والشريك، والعجز عن البعث. وقوله تعالى: {عالم الغيب5 والشهادة} أي ما ظهر وما بطن، وما غاب وما حضر فلو كان معه آلهة أخرى لعرفهم وأخبر عنهم ولكن هيهات هيهات أن يكون مع الله إله آخر وهو الخالق لكل شيء والمالك لكل شيء {فتعالى عما يشركون}6
__________
1 الملكوت: من صفات المبالغة كالجبروت، والرهبوت، والمراد: ملك كل شيء، وهذا كله احتجاج على العرب لأنهم مقرّون بالله ربّا، والاستفهام فيه وفي الذي قبله: تقريري لأنهم مقرّون أن الله هو ربّ السموات وأنه الذي بيده ملكوت كل شيء.
2 قرأ أبو عمرو: {سيقولون الله} في الموضعين الأخيرين، ولا خلاف في الموضع الأول لأنه سؤال بـ لمن المَلك؟ ومن قرأ في الأخيرين بلفظ: الله فلأنّ السؤال بغير اللام فجاء الجواب على لفظه. ومن أجاب بـ الله، فإنه راعى المعنى إذ رب السموات: مالكها فهي له وملكوت كل شيء لله.
3 {بل أتيناهم بالحق}: إضراب لإبطال كونهم مسحورين. أي: ليس الأمر كما يخيّل إليهم، وإنما أتيناهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون، فهذه علّة إعراضهم وعدم قبولهم لدعوة الحق، وقولهم فيه {إن هذا إلاّ أساطير الأولين}.
4 نفى عنه تعالى اتخاذ الولد كما نفى أن يكون له شريك في الألوهية بالبرهان العقلي وهو: أنه لو كان معه آلهة لاقتسموا الكون وذهب كل إله بما خلق، وقد يحارب بعضهم بعضاً ويعلو من يغلب ولم يكن من مظاهر هذا شيء البتة فثبتت النتيجة وهي المذكورة أولا: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من اله}.
5 هذا من جملة أدلة نفي الشريك له تعالى إذ العالم بكل شيء كيف يكون له شريك ولا يعرفه، وقرأ حفص عالِم بالجر على أنه نعت لاسم الجلالة في قوله {سبحان الله} ، وقرأ نافع بالرفع على أنه خبر لمحذوف أي: هو عالم.
6 {عما يشركون} ما مصدرية، والمعنى: تعالى عن إشراكهم. أي: هو منزه عن أن يكون له شريك.

علواً كبيراً وتنزه تنزهاً عظيماً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية توبيخ المتغافل المتجاهل وتأنيب المتعامي عن الحق وهو قادر على رؤيته.
2- تقرير ربوبية الله تعالى وألوهيته.
3- تنزيه الله تعالى عن الصاحبة والولد وإبطال ترهات المفترين.
4- الاستدلال العقلي ومشروعيته والعمل به لإحقاق الحق وإبطال الباطل.
قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
شرح الكلمات:
إما تريني ما يوعدون : أي إن تُريني من العذاب.
ادفع بالتي هي أحسن : أي ادفع بالخصلة التي هي أحسن وذلك كالصفح والإعراض عنهم.
من همزات الشياطين : أي من وساوسهم التي تخطر بالقلب فتكاد تفسده.
أن يحضرون : أي في أموري حتى لا يفسدوها علي.

جاء أحدهم الموت : أي رأى علاماته ورآه.
برزخ: أي حاجز يمنع وهو مدة الحياة الدنيا، وإن عاد بالبعث فلا عمل يقبل.
معنى الآيات:
في هذا السياق تهديد للمشركين الذين لم ينتفعوا بتلك التوجيهات التي تقدمت في الآيات قبل هذه، فأمر الله تعالى رسوله أن يدعوه ويضرع إليه إن هو أبقاه حتى يحين هلاك قومه، أن لا يهلكه معهم فقال: {قل رب إما تريني1} أي أن تريني {ما يوعدون} أي من العذاب، {رب فلا تجعلني في القوم الظالمين} أي أخرجني منهم وأبعدني عنهم حتى لا أهلك معهم. وقوله تعالى: {وإنا على أن نريك2 ما نعدهم لقادرون} يخبر تعالى رسوله بأنه قادر على إنزال العذاب الذي وعد به المشركين إذا لم يتوبوا قبل حلوله بهم.
وقوله: {ادفع بالتي3 في أحسن} هذا قبل أمره بقتالهم: أمره بأن يدفع ما يقولونه له في الكفر والتكذيب بالخُلَّة والخصلة التي هي أحسن وذلك كالصفح والإعراض عنهم وعدم الإلتفات إليهم. وقوله: {نحن أعلم بما يصفون} أي من قولهم لله شريك وله ولد، وأنه ما أرسل محمداً رسولاً، وأنه لا بعث ولا حياة ولا نشور يوم القيامة وقوله: {وقل رب أعوذ بك من همزات4 الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون} لما علمه الاحتراز والتحصُّن من المشركين بالصفح والإعراض أمره أن يتحصن من الشياطين بالاستعاذة بالله تعالى فأمره أن يقول {رب} أي يا رب {أعوذ5 بك} أي استجير بك من همزات الشياطين أي وساوسهم حتى لا يفتنوني عن ديني وأعوذ بك أن يحضروا أمري فيفسدوه على.
وقوله تعالى: {حتى إذا جاء أحدهم الموت} أي إذا حضر أحد أولئك المشركين الموت.
__________
1 أصل إما: إن ما، إن شرطية، وما: صلة لتقوية الشرط، وجواب الشرط فلا تجعلني مع القوم الظالمين، علمه ربه هذا الدعاء ليدعو به. أي: إذا أردت بهم عقوبة فأخرجني عنهم وأبعدني عنهم. وفي الآية تهديد عظيم للمشركين.
2 الجملة تحمل وعيداً آخر مؤكداً للأول الذي تضمنته جملة {ربّ إما تريني ما يوعدون}.
3 هذا بالنسبة إلى الأمة فهو محكم باق، وهو الصفح وعدم المؤاخذة فيما بينهم وأمّا بالنسبة للمشركين والكافرين، فهو موادعة لهم لا غير إلى أن يؤمر بقتالهم، وقد أمر به فيما بعد.
4 جمع همزة، والهمزة في اللغة النخس والدفع، يقال: همزه ونخسه ودفعه، قال الليث: الهمز: كلام من وراء القفا، واللمز: مواجهة والشيطان يوسوس بوساوسه في صدر ابن آدم، الهمس لغة: الكلام الخفي يقال: همس في أذنه بكذا: أسرّ به إليه.
5 هذا التعوذ، وإن خوطب به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو لأمته معه معه بل هي أحوج منه إليه، وهمزات الشيطان: هي سورات الغضب التي لا يملك الإنسان بها نفسه وقد شكا خالد بن الوليد للنبي صلى الله عليه وسلم أن كان يؤرق من الليل فأمره أن يقول: "أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأعوذ بك ربّ أن يحضرون".

أي رأى ملك الموت وأعوانه وقد حضروا لقبض روحه {قال رب ارجعون1} أي أخروا موتي كي أعمل صالحاً فيما تركت العمل فيه بالصلاح، وفيما ضيعت من واجبات قال تعالى رداً عليه {كلا}2 أي لا رجوع أبداً، {إنها كلمة هو قائلها} لا فائدة منها ولا نفع فيها، {ومن ورائهم برزخ} أي حاجز مانع من العودة إلى الحياة وهو أيام الدنيا كلها حتى إذا انقضت عادوا إلى الحياة، ولكن ليست حياة عمل وإصلاح ولكنها حياة حساب وجزاء هذا معنى قوله: {ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون}3.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية الدعاء والترغيب فيه وإنه لذو جدوى للمؤمن.
2- استحباب دفع السيء من القول أو الفعل بالصفح والإعراض عن صاحبه.
3- مشروعية الاستعاذة بالله تعالى من وساوس الشياطين ومن حضورهم أمر العبد الهام حتى لا يفسدوه عليه بالخواطر السيئة.
4- موعظة المؤمن بحال من يتمنى العمل الصالح عند الموت فلا يُمكن منه فيموت بندمه وحسرته ويلقى جزاء تفريطه حرماناً وخسراناً في الدار الآخرة.
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ (101) فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
__________
1 {ربّ ارجعون} هذا تمنّ للحياة الدنيا بعد ذهابها، وهيهات هيهات أن تعود !! وقوله : {ارجعون} : خاطب الربّ تعالى بضمير التعظيم وتعظيم المخاطب شائع في كلام العرب.
2 كلا : ردع للسامع ليعلم يقينا إبطال ما يطلبه الكافر من الرجوع.
3 البرزخ : هو ما بين الدنيا والآخرة إذ كل ما حجز بين شيئين قيل فيه :برزخ.

أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)
شرح الكلمات:
في الصور: أي في القرن المعبر عنه بالبوق نفخة القيام من القبور للحساب والجزاء.
المفلحون : أي الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة.
تلفح وجوههم النار : أي تحرقها.
وهم فيها كالحون: الكالح من أحرقت النار جلدة وجهه وشفتيه فظهرت أسنانه.
ألم تكن آياتي تتلى عليكم : أي يوبخون ويذكرون بالماضي ليحصل لهم الندم والمراد بالآيات آيات القرآن.
غلبت علينا شقوتنا: أي الشقاوة الأزلية أي تكتب على العبد في كتاب المقادير قبل وجوده.
أخرجنا منها فإن عدنا : أي من النار فإن عدنا إلى الشرك والمعاصي.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء والدعوة إلى ذلك وعرض الأدلة وتبيينها وتنويعها، إذ لا يمكن استقامة إنسان قي تفكيره وخلقه وسلوكه على مناهج الحق والخبر إلاّ إذا آمن إيماناً راسخاً بوجود الله تعالى ووجوب طاعته وتوحيده في عباداته، وبالواسطة في ذلك وهو الوحي والنبي الموحي إليه، وبالبعث الآخر الذي هو دور الحصاد لما زرع الإنسان في هذه الحياة من خير وشر فقوله تعالى: {فإذا نفخ1 في الصور فلا أنساب2 بينهم يومئذ ولا يتساءلون} هذا عرض لما يجرى في الآخرة فيخبر تعالى أنه إذا نفخ إسرافيل بإذن الله في الصور الذي هو القرن أي كقرن الشاة لقوله تعالى: {فإذا نقر في الناقور فذلك
__________
1 هذه النفخة الثانية، وهي نفخة البعث، والحشر والتي قبلها هي نفخة الفناء، والتي بعد نفخة الصعق، والأخيرة نفخة الحساب والجزاء.
2 قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يفتخرون بالأنساب في الآخرة كما يفتخرون بها في الدنيا، ولا يتساءلون فيها كما يتساءلون في الدنيا: من أي قبيلة أنت ولا من أي نسب ولا يتعارفون لهول ما أذهلهم!!

يومئذ يوم عسير} فلشدة الهول وعظيم الفزع لم يبق نسب1 يراعى أو يلتفت إليه بل كل واحد همه نفسه فقط، ولا يسأل حميم حميماً وسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: هل تذكرون أهليكم يا رسول الله يوم القيامة فقال أما عند ثلاثة فلا: إذا تطايرت الصحف، وإذا وضع الميزان وإذا نصب الصراط ومعنى هذا الحديث واضح والشاهد منه ظاهر وهو أنهم لا يتساءلون.
وقوله تعالى: {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون} أي من رجحت كفة حسناته على كفة سيئآته أفلح أي نجا من النار وأدخل الجنة ومَن خفت موازينه بأن حصل العكس فقد خسر وَأبعد عن الجنة وأدخل النار وهذا معنى قوله تعالى {ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون، تلفح2 وجوههم النار وهم فيها كالحون3} أي تحرق وجوههم النار فيكلحون باحتراق شفاههم وتظهر أسنانهم وهو أبشع منظر وأسوأه وقوله تعالى: {ألم تكن4 آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون؟} هذا يقال لهم تأنيباً وتوبيخاً وهم في جهنم وهو عذاب نفساني مع العذاب الجثماني {ألم تكن آياتي تتلى عليكم} أما كان رسلنا يتلون عليكم آياتنا {فكنتم بها تكذبون} بأقوالكم وأعمالكم أو بأعمالكم دون أقوالكم فلم تحرموا ما حرم الله ولم تؤدوا ما أوجب الله، ولم تنتهوا عما نهاكم عنه. وقوله تعالى: {قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا5} هذا جوابهم كالمعتذرين بأن شقاءهم كان بقضاء وقدر فلذا حيل بينهم وبين الإيمان والعمل الصالح. وقوله تعالى: {وكنا قوماً ضالين } هذا قولهم أيضاً وهو اعتراف صريح بأنهم كانوا ضالين. ثم قالوا ما أخبر تعالى به عنهم بقوله: {ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} هذا دعاؤهم وهم في جهنم يسْألون رجهم أن يردهم إلى الدنيا ليؤمنوا ويستقيموا6 على صراط الله المستقيم الذي هو الإسلام وسوف ينتظرون جواب الله تعالى ألف سنة وهو ما تضمنته الآيات التالية
__________
1 ورد ما يخصص هذا العموم وهو قوله صلى الله عليه وسلم "كل سبب ونسب فإنه منقطع يوم القيامة إلاّ سببي ونسبي" رواه الطبراني فإنه إن صح يكون مخصصا لعموم الآية. والله أعلم.
2 {تلفح} وتنفح بمعنى واحد لقوله تعالى: {ولإن مستهم نفحة من عذاب ربك} إلاّ أن تلفح أبلغ من تنفح وأشد.
3 الكلوح: تكشر في عبوس، والكالح الذي تشمّرت شفتاه وبدت أسنانه قال ابن مسعود: أرأيت الرأس المشتط بالنار وقد بدت أسنانه وقلصت شفتاه.
4 الاستفهام للتقريع والتأنيب، والتذكير بما يزيد في حسرتهم وعظيم محنتهم وبلائهم.
5 قرأ ابن مسعود وبها قرأ الكوفيون إلاّ حفصاً شقاوتنا وقرأ الجمهور شقوتنا.
6 وما يستقيمون لو ردوا لعلم الله تعالى بهم إذ قال عز وجل: {ولو ردوا لعادوا لما نُهوا عنه، وإنهم لكاذبون}.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء من خلال عرض أحداثها في هذه الآيات.
2- تقرير أن وزن الأعمال يوم القيامة حق وإنكاره بدعة مكفرة.
3- تقرير أن إسرافيل ينفخ في الصور وإنكار ذلك وتأويله بلفظ الصور كما فعل المراغي عند تفسيره هذه الآية مع الأسف بدعة من البدع المنكرة ولذا نبهت عليها هنا حتى لا يغتر بها المؤمنون.
4- الاعتذار بالقدر لا ينفع صاحبه، إذ القدر مستور فلا ينظر إليه والعبد مأمور فليؤتمر بأمر الله ورسوله ولينته بنهيهما ما دام العبد قادراً على ذلك فإن عجز فهو معذور.
قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
شرح الكلمات:
إخسأوا : أي أبعدوا في النار أذلاء مخزيين.
فريق من عبادي : هم المؤمنون المتقون.
فاتخذتموهم سخرياً : أي جعلتموهم محط سخريتكم واستهزائكم.
بما صبروا : أي على الإيمان والتقوى.
هم الفائزون : أي الناجون من النار المنعمون في الجنة.

معنى الآيات:
قوله تعالى: {قال اخسأوا فيها ولا تكلمون1} هذا جواب سؤالهم المتقدم حيث قالوا: {ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون2} وعلل تعالى لحكمه فيهم بالإبعاد في جهنم أذلاء مخزيين يقوله: {إنه كان فريق من عبادي} وهو فريق المؤمنين المتقين3 يقولون {ربنا آمنا فاغفر لنا} ذنوبنا {وارحمنا وأنت خير الراحمين} أي يعبدوننا ويتقربون إلينا ويتوسلون بإيمانهم وصالح إعمالهم ويسألوننا المغفرة والرحمة وكنتم أنتم تضحكون من عبادتهم ودعائهم وضراعتهم إلينا وتسخرون منهم4 إني جزيتهم اليوم بصبرهم على طاعتنا مع ما يلاقون منكم من اضطهاد وسخرية. {أنهم5 هم الفائزون} برضواني في جناتي لا غيرهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان مدى حسرة أهل النار لما يجابون بكلمة: {اخسأوا فيها ولا تكلمون}.
3- فضيلة التضرع إلى الله تعالى ودعائه والتوسل إليه بالإيمان وصالح الأعمال.
3- حرمة السخرية بالمسلم والاستهزاء به والضحك منه.
4- فضيلة الصبر ولذا ورد أن منزلة الصبر هن الإيمان كمنزلة الرأس من الجسد.
__________
1 أي: ابعدوا في جهنم كما يقال لكلب: اخسأ أي: أبعد، يقال: خسأ الكلب وأخساه لازم ومتعدّ. يروي عن ابن المبارك عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: إن أهل جهنم يدعون مالكاً فلا يجيبهم أربعين عاماً ثمّ يرد عليهم {إنكم ماكثون} والصحيح أنه يجيبهم بعد ألف سنة، وعندها ينقطع رجاؤهم ودعاؤهم ويقبل بعضهم على بعض فيتنابحون كالكلاب وقد أطبقت عليهم النار.
2 الظلم: وضح الشي في غير موضعه وعابد غير الله تعالى واضع العبادة في غير موضعها فلذا هو ظالم. والشرك: ظلم عظيم.
3 كبلال وصهيب وعمّار وخباب من فقراء المسلمين الذين كان أبو جهل وأصحابه يهزؤون بهم ويسخرون منهم.
4 في الآية دليل على حرمة السخرية بالمسلم والاستهزاء به.
5 قرىء بفتح الهمزة أي: لأنهم هم الفائزون وقرىء بكسرها على الابتداء.

قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
شرح الكلمات:
كم لبثتم في الأرض : أي كم سنة لبثتموها في الأرض أحياءً وأمواتاً في قبوركم؟.
فاسأل العادين: يريدون الملائكة التي كانت تعد، وهم الكرام الكاتبون أو من يعد أما نحن فلم نعرف.
خلقتم عبثاً: أي لا لحكمة بل لمجرد العيش واللعب كلا.
فتعالى الله الملك الحق : أي تنزه الله عن العبث.
لا برهان له : الجملة صفة لـ "إلهاً آخر" لا مفهوم لها إذ لا يوجد برهان ولا حجة على صحة عبادة غير الله تعالى إذ الخلق كله مربوب لله مملوك له.
حسابه عند ربه: أي مجازاته عند ربه هو الذي يجازيه بشركه به ودعاء غيره.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم ومع أهل النار المنكرين للبعث والتوحيد بقوله تعالى: {قال كم

لبثتم في الأرض عدد سنين؟} هذا سؤال طرح عليهم أي سألهم ربهم وهو أعلم بلبثهم كم لبثتم من سنة في الدنيا مدة حياتكم فيها ومدة لبثكم أمواتاً في قبوركم؟ فأجابوا قائلين {لبثنا يوماً أو بعض1 يوم فاسأل2 العادين} أي من كان يعد من الملائكة أو من غيرهم، وهذا الاضطراب منهم عائد إلى نكرانهم للبعث وكفرهم في الدنيا به أولاً وثانياً أهوال الموقف وصعوبة الحال وآلام العذاب جعلتهم لا يعرفون أما أهل الإيمان فقد جاء في سورة الروم أنهم يجيبون إجابة صحيحة إذ قال تعالى: {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون}. وقوله تعالى: {إن لبثتم إلاّ قليلاً لو أنكم كنتم تعلمون3} هذا بالنظر إلى ما تقدم من عمر الدنيا، فمدة حياتهم وموتهم إلى بعثهم ما هي إلاّ قليل وقوله تعالى: {أفحسبتم4 أنما خلقناكم5 عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون}، هذا منه تعالى توبيخ لهم وتأنيب على إنكارهم للبعث أنكر تعالى عليهم حسبانهم وظنهم أنهم لم يحلقوا للعبادة وإنما خلقوا للأكل والشرب والنكاح كما هم ظن كل الكافرين وأنهم لا يبعثون ولا يحاسبون ولا يجزون بأعمالهم. وقوله تعالى: {فتعالى6 الله الملك الحق} أي عن العبث وعن كل ما لا يليق بجلاله وكماله وقوله: {لا إله إلاّ هو رب العرش الكريم} أي لا معبود بحق إلاّ هو {رب العرش الكريم} أي مالك العرش الكريم ووصف العرش بالكرم سائغ كوصفه بالعظيم والعرش سرير الملك وهو كريم لما فيه من الخير وعظيم إذ هو أعظم من الكرسي والكرسي وسع السموات والأرض، ولم لا يكون العرش كريماً وعظيماً ومالكه جل جلاله هو مصدر كل كرم وخير وعظمة.
__________
1 هذا السؤال موجه للمشركين في عرصات القيامة، والسؤال عن ليثهم في قبورهم وجائز أن يكون عن مدة حياتهم في الدنيا.
2 قيل: أنساهم شدة العذاب مدة مكثهم في قبورهم، وقيل: استقصروا مدة لبثهم في الدنيا وفي القبور ورأوه يسيرا بالنسبة إلى ما هم بصدده.
3 هذا بالنظر إلى الدار الآخرة لا يعتبر شيئاً يذكر.
4 روي بضعف أن ابن مسعود مرّ بمصاب مبتلى فقرأ في أذنه: {أفحسبتم} الآية إلى {رحيم} فبرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ماذا قرأت في أذنه؟ فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو أن رجلاً موقنا قرأها على جبل لزال".
5 أي: مهملين كما خلق البهائم لا ثواب لها ولا عقاب عليها كقوله تعالى {أيحسب الإنسان أن يترك سدى}.
6 {فتعالى الله}: أي تنزه وتقدس الله الملك الحق عن الأولاد والشركاء والأنداد، وعن أن يخلق شيئاً عبثاً أو سفهاً.

وقوله تعالى: {ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له} أي ومن يعبد مع الله إلهاً آخر بالدعاء أو الخوف أو الرجاء أو النذر والذبح، وقوله: لا برهان له أي لا حجة له ولا سلطان على جواز عبادة ما عبده، ومن أين يكون له الحجة والبرهان على عبادة غير الله والله رب كل شيء ومليكه وقوله تعالى: {فإنما حسابه عند ربه} أي الله تعالى ربه يتولى حسابه ويجزيه بحسب عمله وسيخسر خسراناً مبيناً لأنه كافر والكافرون لا يفلحون أبداً فلا نجاة من النار ولا دخول للجنة بل حسبهم جهنم وبئس المهاد. وقوله تعالى: {وقل رب اغفر وارحم1} أي أمر الله تعالى رسوله أن يدعو بهذا الدعاء: رب اغفر لي وارحمني واغفر لسائر المؤمنين وارحمهم أجمعين أنت خير الغافرين والراحمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عظم هول يوم القيامة وشدة الفزع فيه فليتق ذلك بالإيمان وصالح الأعمال.
2- تنزه الله تعالى عن العبث واللهو واللعب.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
4- كفر وشرك من يدعو مع الله إلهاً آخر.
5- الحكم بخسران الكافرين وعدم فلاحهم.
6- استحباب الدعاء بالمغفرة والرحمة للمؤمنين والمؤمنات.
__________
1 نظرت إلى حذف المفعول في: اغفر وارحم فانقدح في نفسي أن لجذفه سراً وهو : أن يكون عاماً في المؤمنين والمؤمنات لقوله تعالى: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات}.

سورة النور
...
سورة النور1
مدنية
وآياتها أربع وستون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
شرح الكلمات:
سورة أنزلناها: أي هذه سورة أنزلناها.
وفرضناها : أي فرضنا ما فيها من أحكام.
وأنزلنا فيها آيات بينات : أي وأنزلنا ضمنها آيات أي حججاً واضحات تهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم.
لعلكم تذكرون : أي تتعظون فتعملون بما في السورة من أحكام.
الزانية: من أفضت إلى رجل بغير نكاح شرعي وهي غير محصنة.
مائة جلدة: أي ضربة على جلد ظهره.
رأفة: شفقة ورحمة.
وليشهد عذابهما : أي اقامة الحد عليهما.
__________
1 روي أن عمر رضي الله عنه: كتب يوماً إلى أهل الكوفة. علّموا نساءكم سورة النور. كما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لا تنزلوا النساء الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن سورة النور، والغزل.

طائفة : أي عدد لا يقل عن ثلاثة أنفار من المسلمين والأربعة أولى من الثلاثة.
الزاني لا ينكح إلا زانية : أي إلا زانية مثله أو مشركة أي لا يقع وطء إلاَّ على مثله1.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {سورة أنزلناها} أي هذه سورة من كتاب الله أنزلناها أي على عبدنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم {وفرضناها} أي وفرضنا ما اشتملت عليه من أحكام على أمة الإسلام، وقوله: {لعلكم تذكرون} أي تتعظون فتعملون بما حوته هذه السورة من أوامر ونواه وآداب وأخلاق وقوله تعالى: {الزانية2 والزاني فاجلدوا كل3 واحد منهما مائة جلدة} أي من زنت برجل منكم أيها المسلمون وهما بكران حُرَّان غير محصنين ولا مملوكين فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة بعصا لا تشين جارحة ولا تكسر عضواً أي جلداً غير مبرح، وزادت السنة تغريب سنة، وقوله تعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله}، أي لا تشفقوا عليهما فتعطلوا حَدَّ الله تعالى وتحرموهما من التطهير بهذا الحد لأن الحدود كفارة لأصحابها، وقوله: {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} أي فأقيموا عليهما الحد وقوله: {وليشهد عذابهما} أي إقامة الحد {طائفة من المؤمنين} أي ثلاثة أنفار فأكثر وأربعة أولى لأن شهادة الزنا تثبت بأربعة شهداء وكلما كثر العدد كان أولى وأفضل.
وقوله تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} أي لا يطأ إلا مثله من الزواني أو مشركة لا دين لها، والزانية أيضاً لا يطأها إلا زانٍ مثلها أو مشرك {وحرم ذلك على المؤمنين} أي حرم الله الزنا على المؤمنين والمؤمنات ولازم هذا أن لا نزوج زانياً من عفيفة إلا بعد توبته4، ولا نزوج زانية من عفيف إلا بعد توبتها5.
__________
1 أي: إلا مثل الواطىء يريد الزاني بالزانية والمشرك بالمشركة.
2 قرأ الجمهور برفع الزانية وقرأ: عيسى الثقفي بالنصب وهو أوجه عند سيبويه لأنه نحو: زيداً أضربه، وتقدير الرفع: مما يتلى عليكم الزانية والزاني. على تقديم الخبر، وقدمت الزانية لأنّ الزنى في النساء أعر وأقبح وأضر للحمل، وال: في الزانية والزاني: للجنس ليعم سائر الزناة، على مرور الأعصر والأيام.
3 لا خلاف في أن الذي يقوم بإقامة هذا الحد هو الإمام أو نائبه والسادة في العبيد، وأن السوط يكون بين اللين والشدة وسطا بينهما، ولا يتعدى هذا الحد إلا أن يجرؤ الناس على الجرائم ويكثر الشر والفساد فيعزرون بما يردعهم.
4 قيل: إن هذه الآية منسوخة بآية: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإماتكم} وما في التفسير أولى وأظهر وبه العمل.
5 الجمهور على أن من زنى بامرأة يجوز له أن يتزوجها بعد استبرائها بحيضة وإذا زنت امرأة الرجل أو زنى هو لا يفسد نكاحهما.

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان حكم الزانية والزاني البكرين الحرين وهو جلد مائة وتغريب عام وأما الثيبان فالرحم إن كانا حرين أو جلد خمسين1 جلدة لكل واحد منهما إن كانا غير حرين.
2- وجوب إقامة هذا الحد أمام طائفة من المؤمنين.
3- لا يحل تزويج الزاني إلا بعد توبته، ولا الزانية إلا بعد توبتها.
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)
شرح الكلمات:
يرمون : أي يقذفون.
المحصنات : أي العفيفات والرجال هنا كالنساء.
فاجلدوهم: أي حداً عليهم واجباً.
ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً : لسقوط عدالتهم بالقذف للمؤمنين والمؤمنات.
إلا الذين تابوا: فإنهم بعد توبتهم يعود إليهم اعتبارهم وتصح شهادتهم.
معنى الآيتين:
بعد بيان حكم الزناة بين تعالى حكم القذف فقال: {والذين يرمون المحصنات2} أي والذين يرمون المؤمنين والمؤمنات بالفاحشة وهي الزنا واللواط بأن يقول فلان زان أو لائط
__________
1 لقوله تعالى من سورة النساء {فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} والمراد به: الإماء والعبيد مثلهن، ولما كان الموت لا ينصّف فعلم أنه الجلد خمسين جلدة.
2 قيل: خص النساء بهذا وإن كان الرجال يشاركونهن في الحكم لأنّ القذف فيهن أشنع وأنكر للنفوس ومن حيث هو هوى الرجال.

فيقذفه بهذه الكلمة1 الخبيثة فإن عليه أن يحضر شهوداً أربعة يشهدون أمام الحاكم على صحة ما رمى به أخاه المؤمن فإن لم يأت بالأربعة شهود أقيم عليه الحد المذكور في الآية: وهو جلد ثمانين جلدة على ظهره وتسقط عدالته حتى يتوب وهو معنى قوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون} أي عن طاعة الله ورسوله {إلا الذين تابوا هن بعد ذلك وأصلحوا} بأن كذبوا أنفسهم بأنهم ما رأوا الفاحشة وقوله: {فإن الله غفور} فيغفر لهم بعد التوبة {رحيم} بهم يرحمهم ولا يعذبهم بهذا الذنب العظيم بعدما تابوا منه.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- بيان حد القذف وهو جلد ثمانين جلدة لمن قذف مؤمناً أو مؤمنة بالفاحشة وكان المقذوف بالغاً عاقلاً مسلماً2 عفيفاً أي لم يعرف بالفاحشة قبل رميه بها3.
2- سقوط عدالة القاذف إلا أن يتوب فإنه تعود إليه عدالته.
3- قبول توبة4 التائب إن كانت توبته صادقة نصوحا.
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)
__________
1 اختلف في التعريض هل يوجب الحد أو لا؟ فمالك يرى إيجابه إذا حصلت المعرة بالتعريض وإلا فلا وأخذ التعريض من آية: {إنك لأنت الحليم الرشيد} قاله قوم شعيب لنبيهم شعيب عليه السلام تعريضاً به لاً مدحاً له ومن أمثلة التعريض قول الشاعر:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
شبهه بالنساء.
وقال آخر:
قبيلة لا يغدرون بذمة
ولا يظلمون الناس حبّة خردل
اتهم القبيلة بالضعف وهو من أحوال النساء.
2 للقذف شروط تسعة: العقل والبلوغ وهما للقاذف والمقذوف سواء إذ هما شرط التكليف، وشرطان في الشيء المقذوف به وهما أن يكون القذف بوطىء يوجب الحد وهو الزنى واللواط أو بنفيه من أبيه وخمسة في المقذوف وهي: العقل والبلوغ كما تقدّم والإسلام والحرية والعفة.
3 الجمهور على أنه لا حد على من قذف كتابياً ذكراً أو أنثى والإجماع على عدم إقامة الحد على من قذف كافراً لأنه لا يُحَرمُ الزنى فكيف يحد على من قذف به؟.
4 إن شهد أربعة وأقيم الحد على المقذوف ثم أقرّ أحد الشهود بأنه كان كاذباً فإن لأولياء الدم بين قتله وبين العفو عنه وبين أخذ ربع الدية منه. هذا مذهب مالك وبه قال أحمد رحمهما الله تعالى.

وَالْخَامِسَةُ أَنَّ1 لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ (7) عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
شرح الكلمات:
يرمون أزواجهم : أي يقذفونهن بالزنا كأن يقول زنت أو الحمل الذي في بطنها ليس منه.
إنه لمن الصادقين: أي فيما رماها به من الزنى.
والخامسة: أي والشهادة الخامسة.
ويدرأ عنها العذاب : أي يدفع عنها حد القذف وهو هنا الرجم حتى الموت.
أن تشهد أربع شهادات : أي شهادتها أربع شهادات.
والخامسة: هي قولها غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
ولولا فضل الله عليكم: أي لفضح القاذف أو المقذوف ببيان كذب أحدهما.
معنى الآيات:
بعد بيان حكم حد القذف2 العام ذكر تعالى حكم القذف الخاص وهو قذف الرجل زوجته فقال تعالى: {والذين يرمون3 أزواجهم} أي بالفاحشة {ولم يكن لهم شهداء4} أي من يشهد معهم إلا أنفسهم أي إلا القاذف وحده فالذي يقوم مقام الأربعة شهود هو أن يشهد أربع5 شهادات قائلاً: أشهد6 بالله لقد رأيتها تزني أو زنت أو هذا الولد أو الحمل ليس لي ويلتعن فيقول في الخامسة {لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين} أي فيما رمى به زوجته. وهنا يعرض على الزوجة أن تقر بما رماها به زوجها ويقام عليها حد القذف وهو هنا الرجم، أو تشهد أربع شهادات بالله أنها ما زنت، والخامسة تدعو على نفسها بغضب الله
__________
1 قرأ الجمهور بتشديد {أنّ لعنة الله عليه} {وأنّ غضب الله عليها} بلفظ المصدر في {أن غضب الله} وتقدر باء الجر قبل أن لأنها هي التي اقتضت فتح أنّ، وقرأ نافع بتخفيف نون أن في الموضعين وغضب بصيغة الماضي.
2 ويعرف باللعان: لأن كلا من الزوجين يلعن نفسه إن كان كذباً.
3 نزلت هذه الآيات في قضية عويمر العجلاني مع زوجته خولة بنت عاصم أو قيس. فقد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فيقتلونه أم كيف يفعل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك" فاذهب فأت بها فأتى بها وتلاعنا وكانت هذه الحادثة في شعبان سنة تسع عقب القفول من غزوة تبوك.
4 حذف متعلق شهداء لظهوره من السياق أي: شهداء على ما ادعوه مما رموا به أزواجهم.
5 قامت الأربع شهادات مقام أربعة شهود الذين لابد منهم في القذف بالفاحشة خاصة فشهادة القتل والسرقة وغيرها يكتفى بشاهدين وفي القذف لابد من أربعة شهود.
6 سميت الأيمان هنا شهادة لأنها أقيمت مقام الشهود وأصبحت بدلاً عنها.

فتقول {أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين} فيما رماها به، وبذلك درأت عنها العذاب الذي هو الحد ويفرق بينهما فلا يجتمعان أبداً. وقوله تعالى: {ولولا فضل الله1 عليكم ورحمته} جواب لولا محذوف تقديره لعاجلكم بالعقوبة ولفضح أحد الكاذبين: ولكن الله تواب رحيم فستر عليكم ليتوب من يتوب منكم ورحمكم بهذا التشريع العادل الرحيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان حكم قذف الرجل امرأته ولم يكن له أربعة شهود يشهدون معه على ما رمى به زوجته وهو اللعان.
2- بيان كيفية اللعان، وأنه موجب لإقامة الحد، إن لم ترد الزوجة الدعوى بأربع شهادات والدعاء عليها في الخامسة وقولها {أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين}.
3- في مشروعية اللعان مظهر من مظاهر حسن التشريع الإسلامي وكماله وأن مثله لن يكون إلا بوحي إلهي وفيه إشارة إلى تقرير النبوة المحمدية.
إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ (12) لَوْلا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)
__________
1 هذا تذييل لما مرّ من الأحكام العظيمة الدالة على تفضل الله على عباده المؤمنين بأفضل تشريع وأحسن حل لأخطر مشكلة اجتماعية.

إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
شرح الكلمات:
بالإفك عصبة: الإفك الكذب المقلوب وهو أسوأ الكذب، والعصبة الجماعة.
شراً لكم بل هو خير: الشر ما غلب ضرره على نفعه، والخير ما غلب نفعه على ضرره،.
لكم : والشر المحض النار يوم القيامة والخير المحض الجنة دار الأبرار.
والذي تولى كبره: أي معظمه وهو ابن أبي كبير المنافقين.
لولا: أداة تحضيض وحث بمعنى هلاّ.
فيما أفضتم فيه: أي فيما تحدثتم بتوسع وعدم تحفظ.
إذ تلقونه: أي تتلقونه أي يتلقاه بعضكم من بعض.
وتحسبونه هيناً: أي من صغائر الذنوب و هو عند الله من كبائرها لأنه عرض مؤمنة هي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سبحانك: كلمة تقال عند التعجب والمراد بها تنزيه الله تعالى عما لا يليق به.
بهتان عظيم: البهتان الكذب الذي يحيّر من قيل فيه.
يعظكم الله: أي ينهاكم نهياً مقروناً بالوعيد حتى لا تعودوا لمثله أبداً.
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى حكم القذف العام والخاص ذكر حادثة الإفك التي هلك فيها خلق لا يحصون عداً إذ طائفة الشيعة الروافض ما زالوا يهلكون فيها جيلاً بعد جيل إلى اليوم إذ وَرَّثَ فيهم رؤوساء الفتنة الذين اقتطعوا من الإسلام وأمته جزءاً كبيراً أسمو شيعة آل البيت تضليلاً وتغريراً فأخرجوهم من الإسلام باسم الإسلام وأوردهم النار باسم

الخوف من النار فكذبوا الله ورسوله وسبوا زوج رسول الله واتهموها بالفاحشة وأهانوا أباها ولوثوا شرف زوجها صلى الله عليه وسلم بنسبة زوجه إلى الفاحشة.
وخلاصة الحادثة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن فرض الحجاب على النساء المؤمنات خرج إلى غزوة تدعى غزوة بني المصطلق أو المريسيع، ولما كان عائداً منها وقارب المدينة النبوية نزل ليلاً وارتحل، ولما كان الرجال يرحلون النساء على الهوادج وجدوا هودج عائشة رضي الله عنها فظنوها فيه فوضعوه على البعير وساقوه ضمن الجيش ظانين أن عائشة فيه، وما هي فيه، لأنها ذكرت عقداً لها قد سقط منها في مكان تبرزت فيه فعادت تلتمس عقدها فوجدت الجيش قد رحل فجلست في مكانها لعلهم إذا افتقدوها رجعوا إليها ومازالت جالسة تنظر حتى جاء صفوان بن معطل السلمي رضي الله عنه وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد عينه في الساقة وهم جماعة يمشون وراء الجيش بعيداً عنه حتى إذا تأخر شخص أو ترك متاع أوضاع شيء يأخذونه ويصلون به إلى المعسكر فنظر فرآها من بعيد فأخذ يسترجع أي يقول إنا لله و إنا إليه راجعون آسفاً لتخلف عائشة عن الركب قالت رضي الله عنها فتجلببت بثيابي وغطيت وجهي وجاء فأناخ راحلته فركبتها وقادها بي حتى انتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعسكر، وما إن رآني ابن أبي لعنة الله عليه حتى قال والله ما نجت منه ولا نجا منها، وروج للفتنة فاستجاب له ثلاثة أنفار فرددوا ما قال وهم حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، {والذي تولى كبره} هو ابن أبي المنافق وتورط آخرون ولكن هؤلاء الأربعة هم الذين أشاعوا وراجت الفتنة في المدينة واضطربت لها نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفوس أصحابه وآل بيته فأنزل الله هذه الآيات في براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وبراءة صفوان رضي الله عنه، ومن خلال شرح الآيات تتضح جوانب القصة.
قال تعالى: {إن الذين1 جاءوا بالإفك عصبة منكم2} أي إن الذين جاءوا بهذا الكذب المقلوب إذ المفروض أن يكون الطهر والعفاف لكل من أم المؤمنين وصفوان بدل الرمي بالفاحشة القبيحة فقلبوا القضية فلذا كان كذبهم إفكاً وقوله: {عصبة} أي جماعة لا يقل عادة عددهم على عشرة أنفار إلا أن الذين روجوا الفتنة وتورطوا فيها حقيقة وأقيم عليهم الحد أربعة ابن أبي وهو الذي تولى كبره منهم وتوعده الله بالعذاب العظيم لأنه منافق كافر
__________
1 هذا كلام مستأنف استئنافاً ابتدائياً، والإفك: الكذب الخال. الذي لا شبهة فيه يفاجأ به المرء فيبهته فيصير بهتاناً وهو مشتق من الأفك بفتح الهمزة وهو القلب ومن صوره أن يقال في الصادق كاذب والطاهر خبيث ونحو ذلك.
2 عصبة: خبر إنّ، والعصبة: الجماعة يتعصب بعضهم لبعض.

مات على كفره ونفاقه، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب رضي الله عنها وحسان بن ثابت رضي الله عنه، وقوله تعالى: {لا تحسبوه شراً لكم} لما نالكم من هم وغم وكرب من جرائه {بل هو خير لكم} لما كان له من العاقبة الحسنة وما نالكم من الأجر العظيم من أجل عظم المصاب وشدة الفتنة وقوله تعالى: {لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم} على قدر ما قال وروج وسيجزي به إن لم يتب الله تعالى عليه و يعفو عنه. وقوله: {والذي تولى كبره1 منهم له عذاب عظيم} وهو عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين عليه لعنة الله.
وقوله تعالى: {لولا إذ سمعتموه2 ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين} هذا شروع في عتاب القوم وتأديبهم وتعليم المسلمين وتربيتهم فقال عز وجل: {لولا} أي هلا وهي للحض والحث على فعل الشيء إذ سمعتم قول الإفك ظننتم بأنفسكم خيراً إذ المؤمنون والمؤمنات كنفس واحدة، وقلتم لن يكون هذا وإنما هو إفك مبين أي ظاهر لا يقبل ولا يقر عليه هكذا كان الواجب عليكم ولكنكم ما فعلتم.
وقوله تعالى: {لولا جاءوا3 عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} أي كان المفروض فيكم أيها المؤمنون أنكم تقولون هذا لمن جاء بالإفك فإنهم لا يأتون بشاهد فضلاً عن أربعة وبذلك تسجلون عليهم لعنة الكذب في حكم الله. وقوله تعالى: {ولولا فضل4 الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم5 فيه عذاب عظيم} هذه منة من الله تحمل أيضاً عتاباً واضحاً إذ بولوغكم في عرض أم المؤمنين، وما كان لكم أن تفعلوا ذلك قد استوجبتم العذاب لولا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم العذاب العظيم. وقوله: {إذ تلقونه بألسنتكم} أي يتلقاه بعضكم من بعض، {وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم} وهذا عتاب وتأديب. وقوله: {وتحسبونه هينا} أي ليس بذنب كبير ولا تبعة فيه {وهو عند الله عظيم} ، وكيف وهو يمس عرض رسول الله وعائشة والصديق وآل البيت أجمعين.
__________
1 الكِير: بكسر الكاف قراءة الجمهور ومعناه: أشد الشيء ومعظمه، وقرىء كُبره بضم الكاف.
2 كلام مستأنف مسوق لتوبيخ العصبة وفيه تربية للمسلمين وإرشاد لهم لما ينبغي أن يكونوا عليه من الآداب.
3 لولا: هذه مثل سابقتها حرف تحريض.
4 لولا هذه حرف امتناع لوجود، امتنع مس العذاب لوجود فضل الله ورحمته.
5 الإفاضة في القول: التوسع فيه مشتقة من إفاضة الماء على العضو.

وقوله تعالى: {ولولا إذ سمعتموه1 قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا} إذ هذه مما لا يصح لمؤمن أن يقول فيه لخطره وعظم شأنه. وقلتم متعجبين من مثله كيف يقع {سبحانك } أي يا رب {هذا} أي الإفك {بهتان عظيم} بهتوا به أم المؤمنين وصفوان.
وقولي: { يعظكم2 الله} أي ينهاكم الله مخوفاً لكم بذكر العقوبة الشديدة {أن تعودوا لمثله أبداً} أي طول الحياة فإياكم إياكم إن كنتم مؤمنين حقاً وصدقاً فلا تعودوا لمثله أبداً. وقوله: {ويبين الله لكم الآيات} التي تحمل الهدى والنور لترشدوا وتكملوا والله عليم بخلقه وأعمالهم وأحوالهم حكيم فيما يشرع لهم من أمر ونهي.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- قضاء الله تعالى للمؤمن كله خير له.
2- بشاعة الإفك وعظيم جرمه.
3- العقوبة على قدر الجرم كبراً وصغراً قلة وكثرة.
4- واجب المؤمن أن لا يصدق من يرمي مؤمناً بفاحشة، وأن يقول له هل تستطيع أن تأتي بأربعة شهداء على قولك فإن قال لا قال له إذاً أنت عند الله من الكاذبين.
5- حرمة القول بدون علم والخوض في ذلك.
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ(19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ
__________
1 لولا هنا بمعنى: هلا وهي للتوبيخ.
2 قال مالك: من سبّ أبا بكر وعمر أدّب ومن سبّ عائشة كفر لأن عائشة برأها الله تعالى فمن سبهّا بغير الفاحشة أدّب ومن سبّها بالفاحشة كفر لأنه كذّب الله تعالى.

اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (22)
شرح الكلمات:
أن تشيع الفاحشة : أي تعم المجتمع وتنتشر فيه والفاحشة هي الزنا.
ولو لا فضل الله عليكم ورحمته: جواب لولا محذوف تقديره: لعاجلكم بالعقوبة أيها العصبة.
خطوات الشيطان: نزغاته ووساوسه.
ما زكى منكم من أحد أبداً: أي ما طهر ظاهره وباطنه وهي خلو النفس من دنس الإثم.
ولا يأتل أولوا الفضل منكم: أي ولا يحلف صاحب الفضل منكم وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
والسعة : أي سعة الرزق والفضل والإحسان إلى الغير.
معنى الآيات:
مازال السياق في عتاب المؤمنين الذين خاضوا في الإفك فقوله تعالى: {إن الذين يحبون1 أن تشيع الفاحشة} أي تنتشر وتشتهر {في الذين آمنوا} أي في المؤمنين {لهم عذاب أليم في الدنيا} بإقامة حد القذف عليهم وإسقاط عدالتهم وفي الآخرة إن لم يتوبوا بإدخالهم نار جهنم، وكفى بهذا الوعد زاجراً ورادعاً وقوله تعالى: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} أي ما يترتب على حب إشاعة الفاحشة بين المؤمنين من الآثار السيئة فلذا توعد من يحبها بالعذاب الأليم في الدارين، وأوجب رد الأمور إليه تعالى وعدم الاعتراض على ما يشرع وذلك
__________
1 روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: أ "يما رجل شد عضد امرىء من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في سخط الله حتى ينزع، وأيما رجل قال شفاعة دون حد من حدود الله أن يقام فقد عائد الله وأقدم على سخطه وعليه لعنة الله تتتابع إلى يوم القيامة، وأيما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة وهو منها بريء أن يشقيه بها في الدنيا كان حقا على الله أن يرميه بها في النار، ثم تلا مصداقه من كتاب الله: {إن الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة} الآية.

لعلمه المحيط بكل شيء وجهلنا لكل شيء إلا ما علمناه فأزال به جهلنا وقوله: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم} لهلكتم1 بجهلكم وسوء عملكم. ولكن لما أحاطكم الله به من فضل لم تستوجبوه إلا برأفته بكم ورحمته لكم عفا عنكم ولم يعاقبكم.
وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا2 خطوات الشيطان} أي يا من صدقتم الله ورسوله لا تتبعوا خطوات الشيطان فإنه عدوكم فكيف تمشون وراءه وتتبعونه فيما يزين لكم من قبيح المعاصي وسيء الأقوال والأعمال فإن من يتبع خطوات الشيطان لا يلبث أن يصبح شيطاناً يأمر بالفحشاء والمنكر، ففاصلوا هذا العدو، واتركوا الجري وراءه فإنه لا يأمر بخير قط فاحذروا وسواسه وقاوموا نزغاته بالاستعاذة بالله السميع العليم فإنه لا ينجكم منه إلا هو سبحانه وتعالى وقوله تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً} وهذه منة أخرى وهي أنه لولا فضل3 الله على المؤمنين ورحمته بحفظهم ودفع الشيطان عنهم ما كان ليطهر منهم أحد، وذلك لضعفهم واستعدادهم الفطري للاستجابة لعدوهم، فعلى الذين شعروا بكمالهم؛ لأنهم نجوا مما وقع فيه عصبة الإفك من الإثم أن يستغفروا لإخوانهم وأن يقللوا من لومهم وعتابهم، فإنه لولا فضله عليهم ورحمته بهم لوقعوا فيما وقع فيه اخوانهم، فليحمدوا الله الذي نجاهم وليتطامنوا تواضعاً الله وشكراً له. وقوله: {ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم} أي فمن شاء الله تزكيته زكاه وعليه فليلجأ إليه وليطلب التزكية منه، وهو تعالى يزكي من كان أهلاً للتزكية، ومن لا فلا، لأنه السميع لأقوال عباده والعليم بأعمالهم ونياتهم وأحوالهم وهي حال تقتضي التضرع إليه والتذلل وقوله تعالى: {ولا يأتل أولو الفضل4 منكم والسعة5 أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، وليعفوا وليصفحوا} هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق لما منع مسطح بن أثاثة
__________
1 {لهلكتم} هو جواب لولا المحذوف والسر في حذفه أن تذهب النفس كل مذهب ممكن في تقديره بحسب المقام والسياق.
2 في الآية إشارة أفصح من عبارة وهي: أنّ الظنون السيئة وحب الفاحشة وحب إشاعتها بين المؤمنين كل هذا من وساوس الشيطان وتزيينه للناس للفتنة والإفساد.
3 لولا هنا: حرف امتناع لوجود امتنع عدم التزكية لوجود فضل الله تعالى ورحمته، والجملة سيقت للامتنان على المؤمنين ليشكروا.
4 روي في الصحيح أن الله تبارك وتعالى لما أنزل: {إنّ الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم} العشر آيات، قال أبو بكر، وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره والله لا أنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذي قال في عائشة فأنزل الله تعالى {ولا يأتل أولوا الفضل منكم} إلى قوله {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي. فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال: لا أنزعها منه أبداً. قال ابن المبارك. هذه أرجى آية في كتاب الله.
5 الفضل: الزيادة وهي ضد النقص. والسعة: الغنى والائتلاء: الحلف مأخوذ من الألية التي هي الحلف.

وهو ابن خالته، وكان رجلاً فقيراً من المهاجرين ووقع في الإفك فغضب عليه أبو بكر وحلف أن يمنعه ما كان يرفده به من طعام وشراب، فأنزل الذي تعالى هذه الآية ولا يأتل أي ولا يحلف أصحاب الفضل والإحسان والسعة في الرزق والمعاش أن يؤتوا أولى القربى أي أن يعطوا أصحاب القرابة، والمساكين والمهاجرين في سبيل الله كمسطح، وليعفوا أي وعليهم أن يعفوا عما صدر من أولئك الأقرباء من الفقراء والمهاجرين، وليصفحوا أي يعرضوا عما قالوه فلا يذكروه لهم ولا يذكرونهم به فإنه يحزنهم و يسوءهم ولاسيما وقد تابوا وأقيم الحد عليهم وقوله تعالى: {ألا تحبون أن يغفر1 الله لكم؟} فقال أبو بكر بلى والله أحب أن يغفر الله لي فعندها صفح وعفا وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه فقال كفر عن يمينك ورد الذي كنت تعطيه لمسطح. وتقرر بذلك أن من حلف يميناً على شيء فرأى غيره خيراً منه كفر عن يمينه وأتى الذي هو خير.
وقوله تعالى: {والله غفور رحيم} فهذا إخبار منه تعالى أنه ذو المغفرة والرحمة وهما من صفاته الثابتة له وفي هذا الخبر تطميع للعباد لأن يرجوا مغفرة الله ورحمته وذلك بالتوبة الصادقة والطلب الحثيث المتواصل لأن الله تعالى لا يغفر لمن لا يستغفره، ولا يرحم من لا يرجو ويطلب رحمته.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- لقبح فاحشة الزنى وضع الله تعالى لمقاومتها أموراً منها وضع حد شرعي لها، ومنع تزويج الزاني من عفيفة أو عفيفة من زانٍ إلا بعد التوبة، ومنها شهود عدد من المسلمين إقامة الحد ومنها حد القذف ومنها اللعان بين الزوجين، ومنها حرمة ظن السوء بالمؤمنين، ومنها حرمة حب ظهور الفاحشة وإشاعتها في المؤمنين. ومنها وجوب الاستئذان عند دخول البيوت المسكونة، ومنها وجوب غض البصر وحرمة النظر إلى الأجنبية، ومنها احتجاب المؤمنة عن الرجال الأجانب ومنها حرمة حركة ما كضرب الأرض بالأرجل لإظهار الزينة. ومنها وجوب تزويج العزاب والمساعدة على ذلك حتى في العبيد بشروطها. ومنها وجوب استئذان الأطفال إذا بلغوا الحلم، وهذه وغيرها كلها أسباب واقية من أخطر فاحشة وهي الزنى.
__________
1 {ألا تحبّون}: الاستفهام للإنكار وهو مستعمل في التحضيض والحث على السعي تحصيلا للمغفرة بالعفو والصفح.

2- حرمة إتباع الشيطان فيما يزينه من الباطل والسوء والفحشاء والمنكر.
3- متابعة الشيطان والجري وراءه في كل ما يدعو إليه يؤدي بالعبد أن يصبح شيطاناً يأمر بالفحشاء والمنكر.
4- على من حفظهم الله من الوقوع في السوء أن يتطامنوا ولا يشعروا بالكبر فإن عصمتهم من الله تعالى لا من أنفسهم.
5- من حلف على شيء لا يفعله أو يفعله ورأى أن غيره خيرٌ منه كفر عن يمينه وفعل الذي هو خير.
6- وجوب العفو والصفح على ذوي المروءات وإقالة عثرتهم إن هم تابوا وأصلحوا.
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
شرح الكلمات:
يرمون المحصنات: أي العفيفات بالزنى.
ا لغافلات : أي عن الفواحش بحيث لم يقع في قلوبهن فعلها.
المؤمنات: أي بالله ورسوله ووعد الله ووعيده.
يعملون : أي من قول أو عمل.
يوفيهم الله دينهم الحق: أي يجازيهم جزاءهم الواجب عليهم.
الخبيثات : الخبيثات من النساء والكلمات.

للخبيثين : للخبيثين من الرجال.
والطيبات: من النساء والكلمات.
للطيبين : أي من الرجال.
أولئك مبرءون مما يقولون : أي صفوان بن المعطل وعائشة رضي الله عنهما أي مبرءون مما قاله عصبة الإفك.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {إن الذين يرمون1 المحصنات2 الغافلات3 المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة} هذه الآية وإن تناولت ابتداءً عبدالله بن أبي فإنها عامة في كل من يقذف مؤمنة محصنة أي عفيفة غافلة لسلامة صدرها من الفواحش لا تخطر ببالها { لعنوا} أي أبعدوا من الرحمة الإلهية {في الدنيا والآخرة، ولهم عذاب عظيم} في الدنيا بإقامة الحد عليهم وفي الآخرة بعذاب النار، وذلك {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} من سوء الأفعال وقوله تعالى: {يومئذ4 يوفيهم الله دينهم الحق} أي يتم ذلك يوم يوفيهم الله دينهم الحق أي جزاءهم الواجب عليهم ويعلمون حينئذ أن الله هو الحق5 المبين أي الإله الحق الواجب الإيمان به والطاعة له والعبودية الكاملة له لا لغيره.
وقوله تعالى :{الخبيثات للخبيثين6} أي الخبيثات من النساء7 والكلمات للخبيثين من الرجال كابن أبي، {والخبيثون للخبيثات} أي والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء والكلمات وقوله: {والطيبات للطيبين} أي والطيبات من النساء والكلمات للطيبين من الرجال كالنبي صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله عنها وقوله: {والطيبون للطيبات} أي والطيبون من الرجال للطيبات من النساء والكلمات تأكيد للخبر السابق وقوله تعالى: {أولئك مبرءون مما
__________
1 هذه الجملة مستأنفة كجملة: {إن الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا..} وكلتا الجملتين تفصيل للموعظة في قوله تعالى: {يعظكم الله أن لا تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين}.
2 الإجماع على أن حكم المحصنين من الرجال كالمحصنات من النساء في القذف بلا فرق قياساً واستدلالا وحكماً وقضاء.
3 الغافلات: هن اللاتي لا علم لهن بما رمين به وذلك لسلامة صدورهن و بُعدهن -بحكم إيمانهنّ- عن مواطن الرِيب.
4 الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً.
5 لوصف الله تعالى بالحق له معنيان جليلان. الأوّل: أنه بمعنى: الثابت الحق لأنّ وجوده واجب فذاته حق إذ لم يسبق عليها عدم ولا انتفاء فلا يقبل إمكان العدم. والثاني: أنه تعالى ذو الحق الواجب له على عباده و هو عبادته وحده دون سواه.
6 الابتداء بذكر الخبيثات لأنّ الغرض من الكلام الاستدلال على براءة عائشة أم المؤمنين واللام في للخبيثين: للاستحقاق.
7 المراد من الخبث والطيب: الصفات النفسية. الفواحش: صفات خبث والفضائل صفات طهر.

يقولون} أولئك إشارة إلى صفوان بن المعطل وعائشة رضي الله عنها، ومبرءون أي من قالة السوء التي قالها أبي ومن أذاعها معه. وقوله: {لهم مغفرة ورزق كريم} هذه بشرى لهم بالجنة مقابل ما نالهم من ألم الإفك الذي جاءت به العصبة المتقدم ذكرها إذ أخبر تعالى أن لهم مغفرة لذنوبهم التي لا يخلو منها مؤمن وهو الستر عنها ومحوها ورزقاً كريماً في الجنة. وبهذه تمت براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها والحمد لله أولاً وآخراً.
هداية الآيات:
هن هداية الآيات:
1- عظم ذنب قذف المحصنات الغافلات المؤمنات وقد عده رسول الله صلى الله عليه وسلم في السبع الموبقات، والعياذ بالله تعالى.
2- تقرير الحساب وما يتم فيه من استنطاق واستجواب.
3- تقرير التوحيد بأنه لا إله إلا الله.
4- استحقاق الخبث أهله. فالخبيث هو الذي يناسبه القول الخبيث والفعل الخبيث.
5- استحقاق الطيب أهله. فالطيب هو الذي يناسبه القول الطيب والفعل الطيب.
6- براءة أم المؤمنين وصفوان مما رماهما به أهل الإفك.
7- بشارة أم المؤمنين وصفوان بالجنة بعد مغفرة ذنوبهما.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)

شرح الكلمات:
آمنوا : أي صدقوا الله ورسوله فيما أخبرا به من الغيب والشرع.
تستأنسوا: أي تستأذنوا إذ الاستئذان من عمل الإنسان والدخول بدونه من عمل الحيوان الوحشي.
وتسلموا على أهلها: أي تقولوا السلام عليكم أأدخل ثلاثاً.
تذكرون :أي تذكرون أنكم مؤمنون، وأن الله أمركم بالاستئذان.
أزكى لكم : أي أطهر وأبعد عن الريبة والإثم.
ليس عليكم جناح: أي إثم ولا حرج.
فيها متاع لكم: أي ما تتمتعون به كالنزول بها أو شراء حاجة منها.
ما تبدون: أي ما تظهرونه.
وما تكتمون: أي ما تخفونه إذاً فراقبه تعالى ولا تضمروا ما لا يرضي فإنه يعلمه.
معنى الآيات:
نظراً إلى خطر الرمي بالفاحشة وفعلها وحرمة ذلك كان المناسب هنا ذكر وسيلة من وسائل الوقاية من الوقوع في مثل ذلك ففرض الله تعالى على المؤمنين الاستئذان فقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً1 غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} أي يا من آمنتم بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً لا تدخلوا بيوتاً على أهلها حتى تسلموا عليهم قائلين السلام2 عليكم وتستأذنوا قائلين أندخل ثلاث مرات فإن أذن لكم بالدخول دخلتم وإن قيل لكم ارجعوا أي لم يأذنوا لكم لحاجة عندهم فارجعوا وعبر عن الاستئذان بالاستئناس لأمرين أولها أن لفظ الاستئناس3 وارد في لغة العرب بمعنى الاستئذان وثانيهما: أن الاستئذان من خصائص الإنسان الناطق وعدمه من خصائص الحيوان المتوحش إذ يدخل على المنزل بدون إذن إذ ذاك ليس من خصائصه.
__________
1 ورد في سب نزول هذه الآية أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله: إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد لا والد ولا ولد فيأتي الأب فيدخل علي وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحال فكيف أصنع؟ فنزلت الآية فقال أبو بكر يا رسول الله أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها مساكن؟ فأنزل الله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة..} الخ.
2 صح أن رجلاً دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "ارجع فقل السلام عليكم" وقال: "من لم يبدأ بالسلام فلا تأذنوا له".
3 الاستئناس، معناه طلب الأنس لأهل البيت حتى تزول الوحشة والكراهة لك بالاستئذان.

وقوله {ذلكم خير لكم} أي الاستئذان خير لكم أي من عدمه لما فيه من الوقاية من الوقوع في الإثم وقوله: {لعلكم تذكرون} أي تذكرون أنكم مؤمنون وأن الله تعالى أمركم بالاستئذان حتى لا يحصل لكم ما يضركم وبذلك يزداد إيمانكم وتسموا أرواحكم. وقوله تعالى: {فإن لم تجدوا فيها أحداً} أي في البيوت يأذن لكم أي بالدخول فلا تدخلوها وقوله تعالى: {وإن قيل لكم ارجعوا} لأمرٍ اقتضى ذلك {فارجعوا} وأنتم راضون غير ساخطين. وقوله تعالى : {هو أزكى لكم} أي أطهر لنفوسكم وأكثر عائدة خير عليكم. وقوله تعالى: {والله بما تعملون1 عليم} أي مطلع على أحوالكم فتشريعه لكم الاستئذان واقع موقعه إذاً فأطيعوه فيه وفي غيره تكملوا وتسعدوا.
وقوله: {ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم} هذه رخصة منه تعالى لعباده المؤمنين بأن لا يستأذنوا عند دخولهم بيوتاً غير مسكونة أي ليس فيها نساء من زوجات وسريات يحرم النظر إليهن وذلك كالدكاكين والفنادق وما إلى ذلك فللعبد أن يدخل لقضاء حاجاته المعبر عنها بالمتاع بدون استئذان لأنها مفتوحة للعموم من أصحاب الأغراض والحاجات أما السلام فسنة على من دخل على دكان أو فندق فليقل السلام عليكم والذي يسقط هو الاستئذان أي طلب الإذن لا غير.
وقوله تعالى: {والله يعلم ما تبدون وما تكتمون} أي يعلم ما تظهرون من أقوالكم وأعمالكم وما تخفون إذاً فراقبوه تعالى في أوامره ونواهيه وافعلوا المأمور واتركوا المنهي تكملوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1 مشروعية الاستئذان2 ووجوبه على كل من أراد أن يدخل بيتاً مسكوناً غير بيته.
2- الرخصة في عدم الاستئذان من دخول البيوت والمحلات غير المسكونة للعبد فيها غرض.
__________
1 ورد في الصحيح ما يجعل الاستئذان متأكداً فوق المشروعية إذ أن رجلا اطلع في جحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مِدراً يرجّل به رأسه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك إنما جعل الله الإذن من أجل البصر" وفي الآية توعد ظاهر لأهل التجسس على البيوت وطلب الدخول على غفلة.
2 وإذا قيل له مَن؟ فلا يقل أنا بل يقول فلان ابن فلان لحديث الشيخين وغيرهما عن جابر رضي الله عنه قال: "استأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من هذا؟ فقالت أنا فقال النبي صلى الله عليه : أنا أنا كأنه كره ذلك".

3- من آداب الاستئذان أن يقف بجانب الباب فلا يعترضه, وأن يرفع صوته بقدر الحاجة وأن يقرع الباب قرعاً خفيفاً وأن يقول السلام عليكم أأدخل ثلاث مرات.
4-في كل طاعة خير وبركة وإن كانت كلمة طيبة.
قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
شرح الكلمات:
يغضوا من أبصارهم1 : أي يغضوا من أبصارهم حتى لا ينظروا إلى نساء لا يحل لهم أن ينظروا إليهن.
ويحفظوا فروجهم : أي يصونونها من النظر إليها ومن إتيان الفاحشة الزنى واللواط.
__________
1 بدأ بالأمر بغض البصر قبل الأمر بحفظ الفرج لأن البصر رائد للقلب كما أنّ الحمّى رائد الموت. أخذ هذا المعنى شاعر فقال:
ألم تر أن العين للقلب رائد
فما تألف العينان فالقلب آلف

أزكى لهم : أي أكثر تزكية لنفوسهم من فعل المندوبات والمستحبات.
ولا يبدين زينتهن : أي مواضع الزينة الساقين حيث يوضع الخلخال، وكالكفين والذراعين حيث الأساور والخواتم والحناء والرأس حيث الشعر والأقراط في الأذنين والتزجيج في الحاجبين والكحل في العينين والعنق والصدر حيث السخاب والقلائد.
إلا ما ظهر منها : أي بالضرورة دون اختيار وذلك كالكفين لتناول شيئاً والعين الواحدة أو الاثنتين للنظر بهما، والثياب الظاهرة كالخمار والعجار والعباءة.
بخمرهن على جيوبهن : أي ولتضرب المرأة المسلمة الحرة بخمارها على جيوب أي فتحات الثياب في الصدر وغيره حتى لا يبدو شيء من جسمها.
إلا لبعولتهن : البعل الزوج والجمع بعول.
أو نسائهن : أي المسلمات فيخرج الذميات فلا تتكشف المسلمة أمامهن.
أو ما ملكت أيمانهن: أي العبيد والجواري فللمسلمة أن تكشف وجهها لخادمها المملوك.
أو التابعين غير أولي الإربة : أي التابعين لأهل البيت يطعمونهم ويسكنونهم ممن لا حاجة لهم إلى النساء.
أو الطفل: أي الأطفال الصغار قبل التمييز والبلوغ.
لم يظهروا على عورات النساء : أي لم يبلغوا سناً تدعوهم إلى الإطلاع على عورات النساء للتلذذ بهن.
ليعلم ما يخفين من زينتهن : أي الخلاخل في الرجلين.
تفلحون: أي تفوزون بالنجاة من العار والنار، وبالظفر بالطهر والشرف وعالي الغرف في دار النعيم.

معنى الآيات:
سبق أن ذكرنا أنه لقبح وفساد الزنى وسوء أثره على النفس والحياة البشرية وضع الشارع عدة أسباب واقية من الوقوع فيه ومنها الأمر بغض البصر للرجال والنساء فقوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا1 فن أبصارهم ويحفظوا فروجهم} أي مُرْ يا رسولنا المؤمنين بأن يغضوا من2 أبصارهم أي بأن يخفضوا أجفانهم على أعينهم حتى لا ينظروا إلى الأجنبيات عنهم من النساء ويحفظوا فروجهم عن النظر إليها فلا يكشفوها لأحد إلا ما كان من الزوج لزوجه فلا حرج وعدم النظر أولى وأطيب، وقوله: {ذلك أزكى لهم} أي أطهر لنفوسهم من نوافل العبادات، وقوله: {إن الله خبير بما يصنعون} فليراقبوه تعالى في ذلك المأمور به من غض البصر وحفظ الفرج إنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وقوله تعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن3} إذ شأنهن شأن الرجال في كل ما أمر به الرجال من غض البصر وحفظ الفرج وقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن} أي مُرْهُن بغض البصر وحفظ الفرج وعدم إظهار الزينة {إلا ما ظهر منها} مما لا يمكنها ستره وإخفاؤه كالكفين عند تناول شيء أو إعطائه أو العينين تنظر بهما وإن كان في اليد خاتم وحناء وفي العينين كحل وكالثياب الظاهرة من خمار على الرأس وعباءة تستر الجسم فهذا معفو عنه إذ لا يمكنها ستره.
وقوله تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} كانت المرأة تضع خمارها على رأسها مسبلاً على كتفيها فأمرت أن تضرب به على فتحات درعها حتى تستر العنق والصدر ستراً كاملاً وقوله: {ولا يبدين زينتهن4} أعاد اللفظ ليرتب عليه ما بعده من المحارم الذي يباح للمؤمنة أن تبدي زينتها إليهم وهم الزوج، والأب والجد وان علا وأب الزوج وإن علا وابنها لان سفل وأبناء الزوج وإن نزلوا، والأخ لأب أو الشقيق أو لأم وأبناؤه وأن نزلوا، وابن الأخ
__________
1 غض البصر واحترام النساء بعدم النظر إليهن معروف في الجاهلية وهذا عنترة بن شداد يقول:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها؟
لم يذكر الله تعالى ما يغض البصر من أجله للعلم به وهو: وجود النساء الأجنبيات، وكذا ما يحفظ منه الفرج، وهو: النظر إليه والزنى واللواط.
2 {من} جائز أن تكون زائدة في يغضوا أبصارهم، وجائز أن تكون للتبعيض لجواز النظر إلى المحارم.
3 ورد في الأمر بغض البصر في السنة قوله صلى الله عليه وسلم "إياكم والجلوس في الطرقات فقالوا يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها فقال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" وقال لعلي رضي الله عنه "لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية".
4 قال ابن عطية: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية: أن المرأة مأمورة بأن لا تُبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر لحكم ضرورة حركة فيما لابد منه، أو إصلاح شأن ونحو ذلك فيما ظهر على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه.

وان نزل وسواء كان لأب أو لأم أو شقيق، وابن الأخت شقيقة أو لأب أو لأم. والمرأة المسلمة من نساء المؤمنات، وعبدها المملوك لها دون شريك لها فيه والتابع لأهل بيتها من شيخ هرم أصابه الخرف، وعنين ومعتوه وطفل صغير لم يميز دون البلوغ ممن لا حاجة لهم في النساء لعدم الشهوة عندهم لكبر ومرض وصغر.
وقوله تعالى: {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن} نهى تعالى المؤمنات أن يضربن الأرض بأرجلهن التي فيها الخلاخل لكي يعلم أنها ذات زينة في رجلها، فلا يحل لها ذلك ولو لم تقصد إظهار زينتها.
وقوله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} أمر تعالى المؤمنين والمؤمنات بالتوبة وهي ترك ما من شأنه أن يغضب الله تعالى، وفعل ما وجب فعله ومن ذلك غض البصر وحفظ الفرج والالتزام بالعفة والستر والتنزه عن الإثم صغيره وكبيره وبذلك يتأهل المؤمنون للفلاح الذي هو الفوز بالنجاة من المرهوب والظفر بالمحبوب المرغوب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب غض البصر وحفظ الفرج1.
2- وجوب ستر المرأة زينتها ومواضع ذلك ما عدا ما يتعذر ستره للضرورة.
3- بيان المحارم الذين للمرأة المؤمنة أن تبدي زينتها عندهم بلا حرج.
4-الرخصة في إظهار الزينة للهرم المخرف من الرجال والمعتوه والطفل الصغير الذي لم يعرف عن عورات النساء شيئاً.
5- حرمة ضرب ذات الخلاخل الأرض برجلها حتى لا يعلم ما تخفي من زينتها.
6- وجوب التوبة من كل ذنب وعلى الفور للحصول على الفلاح العاجل والآجل.
وَأَنكِحُوا الأيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
__________
1 وجوب غض البصر عن النظر إلى المحارم والعورات ويستحب ستر العورة عن الزوج، لحديث عائشة: "ما رأيت ذلك منه، ولا رأى ذلك مني" كما يستحب ستر العورة مطلقاً عن الله وملائكته لقوله صلى الله عليه وسلم "فالله أحق أن يستحي منه من الناس: لمن قال له: الرجل يكون خاليا."

وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (34)
شرح الكلمات:
وأنكحوا الآيامى منكم : أي زوجوا من لا زوجة له من رجالكم ومن لا زوج لها من نسائكم.
والصالحين من عبادكم وإمائكم: أي وزوجوا أيضاً القادرين والقادرات على أعباء الزواج من عبيدكم وإمائكم.
إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله : أي إن يكن الأيامى فقراء فلا يمنعكم ذلك من تزويجهم فإن الله يغنهم.
إن الله واسع عليم : أي واسع الفضل عليم بحاجة العبد وخلته فيسدها تكرماً.
وليستعفف: أي وليطلب عفة نفسه بالصبر والصيام.
يبتغون الكتاب : أي يطلبون المكاتبة من المماليك.
إن علمتم فيهم خيراً: أي قدرة على السداد و الإستقلال عنكم.
وآتوهم من مال الله : أي أعينوهم بثمن نجم من نجوم المكاتبة من الزكاة وغيرها.
على البغاء إن أردن تحصناً : أي الزنى تحصناً أي تعففاً و تحفظاً من فاحشة الزنا.

عرض الحياة الدنيا : أي المال.
ومن يكرههن : أي على البغاء "الزنى".
مبينات : للأحكام موضحة لما يطلب منكم فعله وتركه.
ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم: أي قبلكم: أي قصصاً من أخبار الأولين كقصة يوسف وقصة مريم وهما شبيهتان بحادثة الإفك.
وموعظة : الموعظة ما يتعظ به العبد فيسلك سبيل النجاة.
معنى الآيات:
مازال السياق في ذكر الأسباب الواقية من وقوع الفاحشة فأمر تعالى في الآية الأولى من هذا السياق (32) أمر جماعة المسلمين أن يزوجوا الأيامى من رجالهم ونسائهم بالمساعدة على ذلك والإعانة عليه حتى لا يبقى في البلد أو القرية عزبّ إلا نادراً ولا فرق بين البكر والثيب في ذلك فقال تعالى: {وأنكحوا1} والأمر للإرشاد {الأيامى} جمع أيّم وهو من لا زوج له من رجل أو امرأة بكراً كان أو ثيباً، {منكم} أي من جماعات المسلمين لا من غيرهم كأهل الذمة من الكافرين. وقوله: {والصالحين من عبادكم2 وإمائكم} أي وزوجوا القادرين على مؤونة الزواج وتبعاته، وتكاليفه من مماليككم وقوله: {إن يكونوا فقراء} غير موسرين لا يمنعكم ذلك من تزويجهم فقد تكفل الله بغناهم بعد تزويجهم بقوله: {يغنهم3 الله من فضله والله واسع عليم} أي واسع الفضل عليم بحاجة المحتاجين وأمر تعالى في هذه الآية من لا يجد نكاحاً لانعدام الزوج أو الزوجة مؤقتاً أو انعدام مؤونة الزواج من مهر ووليمة أن يستعفف أي يعف نفسه بالصبر والصيام والصلاة حتى لا يتطلع إلى الحرام فيهلك فقال تعالى: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً4 حتى يغنيهم الله من فضله والله واسع عليم} أي واسع الفضل مطلق الغنى عليم بحال عباده وحاجة المحتاجين منهم وقوله تعالى: {والذين يبتغون الكتاب} هذه مسألة ثالثة تضمنتها هذه
__________
1 الخطاب للأولياء ولجماعة المسلمين إن عجز الأولياء أي: زوّجوا من لا زوج له منكم فإنه طريق التعفف، والطهر والتكافل الاجتماعي. والنكاح تجرى عليه الأحكام الخمسة إذ يكون واجباً على من خاف العنت وقدر على مؤونته، ويسن لمن لم يخف العنت وقدر على مؤونته ويحرم على من لم يخف العنت ولا مؤونة لديه. ويكره لمن لم يخف العنت ويشغله عن طاعة الله تعالى ويباح لمن لا رغبة له فيه وهو قادر عليه.
2 اختلف في هل للسيّد أن يكره عبده أو أمته على التزوّج والذي يبدوان الإكراه يشرع مع خوف الضرر فإن لم يكن ضرر فلا إكراه.
3 في الآية دليل على تزوج الفقير بل قال عمر: عجباً لفقير لم يطلب الغنى بالزواج لقول الله تعالى: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله}.
4 نكاحاً: أي طَوْلَ نكاح فحذف المضاف، وفي الحديث الذي رواه النسائي "ثلاثة كلهم حق على الله عز وجل عونهم: المجاهد في سبيل الله والناكح الذي يريد العفاف، والمكاتب الذي يريد الأداء".

الآية وهي إذا كان للمسلم عبد وطلب منه أن يكاتبه وكان أهلا للتحرر بأن يقدر على تسديد مال المكاتبة. ويستطيع أن يستقل بنفسه فعلى مالكه أن يكاتبه، وأن يعينه على ذلك بإسقاط نجم من نجوم الكتابة، وهذا معنى قوله تعالى: {والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم1 إن علمتم فيهم خيراً2 وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} وقوله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} أي على الزنا وهي مسألة رابعة تضمنتها هذه الآية وهي أن جاريتين كانتا لعبد الله بن أبي بن سلول المنافق يقال لهما معاذة ومسيكة قد أسلمتا فأمرهما بالزنا لتكسبا له بفرجيهما كما هي عادة أهل الجاهلية قبل الإسلام فشكتا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا} أي لأجل مال قليل يعرض لكم ويزول عنكم بسرعة. وقوله: {ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} أي لهن رحيم بهن لأن المكره لا إثم عليه فيما يقول ولا فيما يفعل فامتنع المنافق من ذلك.
وقوله تعالى في الآية الثانية (34) {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} أي ولقد أنزلنا إليكم أيها المسلمون آيات أي قرآنيّة مبينات أي موضحات للشرائع والأحكام والآداب فاعملوا بها تكملوا في حياتكم وتسعدوا في دنياكم وآخرتكم. وقوله:{ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم} أي قصصاً من أخبار الأولين كقصة يوسف ومريم عليهما السلام وهما شبيهتان بحادثة الإفك وقوله: {وموعظة للمتقين} وهي ما تضمنته الآيات من الوعيد والوعد والترغيب والترهيب وكونها للمتقين بحسب الواقع وهو أن المتقين هم الذين ينتفعون بالمواعظ دون الكافرين والفاجرين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- انتداب المسلمين حاكمين ومحكومين للمساعدة على تزويج الأيامى من المسلمين أحراراً وعبيداً.
2- وجوب الاستعفاف على من لم يجد نكاحاً والصبر حتى ييسر الله أمره.
3- عدة الله للفقير إذا تزوج بالغنى.
__________
1 لا تكون المكاتبة إلا على أنجم متعددة فلا تصح ناجزة ولا على نجم واحد.
2 {خيرا} أي: صلاحاً وتقوى وقدرة على الأداء.=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج11. أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري

ج11. أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري سورة التغابن مكية إلا آخرها فمدني وآياتها ث...