Translate انتكوخ

الثلاثاء، 14 فبراير 2023

ج9وج10.أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري

ج9. أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري

قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ(66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ(67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ(68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ(69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ(70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ(71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ(72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ(73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ(74)
شرح الكلمات:
قل : أي يا رسولنا لمشركي قومك أي مخوفاً من عذاب الله.
وما من إله إلا الله الواحد القهار: أي وليس هناك من إله قط إلا الله الواحد القهار.
العزيز الغفار: أي الغالب الذي لا يمانع في مراده الغفار للتأئبين من عباده.
قل هو نبأ عظيم : أي قل يا رسولنا لكفار مكة القرآن نبأ عظيم وخبر جسيم.
أنتم عنه معرضون : لا ترغبون في سماعه ولا في تدبر معانيه.
بالملأ الأعلى : أي بالملائكة عندما شووِروا في خلق آدم.
إذ قال ربك للملائكة : أي اذكر لهم تدليلا على أنه يوحى إليك القرآن إذ قال ربك للملائكة.
خالق بشرا من طين: أي خالق آدم من مادة الطين وقيل فيه بشر لبدوّ بشرته.
من روحي : الروح جسم لطيف يسري في الجسم سريان النار في الفحم أو الماء في الشجر أو الكهرباء في الأسلاك.
إلا إبليس : أي لم يسجد.
استكبر : عن السجود لآدم كبراً وحسداً له.

معنى الآيات:
بعد كل ذلك العرض للقصص ولما في الجنة والنار وما تقرر به من التوحيد والنبوة والبعث والجزاء أمر تعالى رسوله أن يقول لمشركي قريش {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ(1)} أي مخوف من عذاب الله الواجب لكل من كفر به وكذب بآياته ولقائه وترك عبادته وعبد الشيطان عدوه، كما أخبركم مقررا أنه ليس هناك من إله قط إلا الله الواحد في ذاته وصفاته وربوبيته وعبادته القهار لكل قاهر والجبار لكل جبار رب السموات والأرض وما بينهما أي مالك لها متصرف فيها دون شريك له في ذلك. العزيز الانتقام ممن كفر به وعصاه الغفار لمن أناب إليه واتبع هداه. وقوله تعالى {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} أي يأمر تعالى رسوله أن يقول للمشركين من أهل مكة هو أي(2) القرآن وما حواه من تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء وعرض القصص والأحداث ووصف الجنة والنار نبأ عظيم أي خبر ذو شأن عظيم أنتم عنه معرضون تأبون سماعه والإيمان به والاهتداء بهديه. بدعوى أني اختلقته وافتريته وهي حجة داحضة وأدلتكم في ذلك واهية. كيف يكون ما أتلوه عليكم من القرآن افتراء مني عليكم وعلى الله ربي وربكم، وإنه ما كان لي(3) من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون(4) عندما قال الله للملائكة {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} وقال {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فقال الملائكة {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} كيف عرفت أنا هذا وحدثت به لو لم يكن وحياً من الله أوحاه إليّ. يا قوم إنه ما يوحى إليّ إلا أنما أنا نذير مبين أي
__________
1 - في هذه الآيات الثلاث الترهيب والترغيب ببيان قدرة الله وجبروته وبيان ربوبيته الموجبة للألوهية المستلزمة لمغفرته ورحمته لمن تاب إليه بتوحيده وطاعته بعد الإيمان به وبرسوله ولقائه.
2 - كون النّبأ هو القرآن هذا ما ذهب إليه ابن جرير رحمه الله تعالى، ومن فسره بما سبق ذكره من الإنذار وما عرض من أحوال أهل الجنة وأهل النار فإن ما في التفسير شامل لكل ذلك هاد إليه ودال عليه والحمد لله.
3 - قوله تعالى: ما كان لي من علم الخ استئناف لأجل الاستدلال على صدق القرآن بأنه وحي من الله تعالى ولولا أنه وحي لما كان للرسول علم به لا إجمالا ولا تفصيلا ولهذا الاستدلال نظائر نحو ما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم، وما كنت لديهم إذ يختصمون، وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون، وما كنت بجانب الطور إذ نادينا.
4 - قال بعض المفسرين تخاصم الملأ الأعلى هو أشراف قريش فيما بينهم سراً وقال آخرون هو تخاصم أهل النار وقيل والصواب ما في التفسير وهو أن الملأ الأعلى الملائكة وما جرى بينهم في شأن السجود لآدم وامتناع إبليس عن ذلك وفي الآية بعد تفسير هذا الاختصام وأما حديث السنن فلم يرد به ما في هذه الآيات ونصه "إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استيقظت فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة فقال يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت لا أدري يا رب - أعادها ثلاثاً- فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري فتجلى لي كل شيء وعرفت فقال يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت في الكفارات. قال وما الكفارات؟ قلت: نقل الأقدام إلى الجماعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء عند الكريهات قال وما الدرجات؟ قلت إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة والناس نيام. قال سل قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة بقوم فتوفني غير مفتون وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك هذا "حديث المنام".

بين النذارة. فلم يوح إليّ الأمر بالتسلط عليكم وأخذكم بالشدة لأستعبدكم وتكونوا خولا لي وخدماً لا، لا. إنما يوحى إليّ لتقرير حقيقة واحدة وهي أني نذير لكم ولغيركم من عذاب الله المعدّ لمن كفر به وأشرك في عبادته، وفسق عن طاعته. وقوله تعالى في الآية (71) {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} هو آدم عليه السلام {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} فحيى وصار بشراً سوياً {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} أي خروا على الأرض ساجدين له طاعة لأمرنا وتحيّة لعبدنا، {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} سواء من كان منهم في السموات أو في الأرض {إِلَّا إِبْلِيسَ} استكبر عن السجود لآدم لزعمه الكاذب أنه خير منه لكونه من النار وآدم من طين، ولحسده أيضاً حيث فضله وفُضّل عليه، وكان بذلك الكبر والحسد من الكافرين إذ جحد معلوماً من طاعة الله بالضرورة وكيف وهو يتلقى الخطاب من الله تعالى بلا واسطة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد بأدلته.
2- تقرير النبوة والوحي بشواهده من نبأ الملأ الأعلى.
3- عداوة إبليس لآدم وأن الحامل عليها الحسد والكبر وهما من شر صفات العبد.
4- تقرير أن من القياس ما هو شر وباطل كقياس إبليس إذ قاس النار على التراب فرأى أن النار أفضل فهلك بذلك، إذ التراب أفضل، النار تحرق والتراب يحيي، وشتان ما بين الموت والحياة.
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ(75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ(76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ(77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ(78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ(80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ(81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ

لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ(84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ(85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ(86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ(88)
شرح الكلمات:
لما خلقت بيدي : أي للذي خلقته بيدي وهو آدم فدل ذلك على شرفه.
أستكبرت أم كنت من العالين : أستكبرت الآن أم كنت من قبل من العالين المتكبرين والاستفهام للتوبيخ والتقريع لإبليس.
فاخرج منها : أي من الجنة.
فإنك رجيم : أي مرجوم مطرود.
وأن عليك لعنتي إلى يوم الدين : أي طرده من الجنة وألحقه لعنة وهي الطرد من الرحمة إلى يوم الدين أي الجزاء وهو يوم القيامة.
قال رب فأنظرني : أي أخر موتي وأبق عليّ حيّا إلى يوم يبعثون أي الناس.
إلى يوم الوقت المعلوم : أي إلى النفخة الأولى وهي نفخة الموت والفناء.
إلا عبادك منهم المخلصين: أي الذين استخلصهم للإيمان بك وعبادتك ومجاورتك في الجنة.
قل ما أسألكم عليه من أجر : لا أسألكم على البلاغ أجراً تعطونه لي.
وما أنا من المتكلفين : أي المتقولين القرآن وما أنذركم به من تلقاء نفسي.
إن هو إلا ذكر للعالمين : أي ما أتلوه من القرآن وما أقوله من الهدى إلا ذكر للعالمين.
ولتعلمن نبأه بعد حين: أي ولتعلمن أيها المكذبون نبأ القرآن الذي أنبأ به من الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين بعد حين.

معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر ما دار بين الرب تعالى وعدوه إبليس من حديث في الملأ الأعلى إذ قال تعالى بعد أن امتنع إبليس من السجود لآدم {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ(1) أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ(2)} أي أيُّ شيء جعلك تمتنع من السجود لآدم وقد أمرتك بذلك {أَسْتَكْبَرْتَ} أي الآن {أَمْ كُنْتَ} من قبل {مِن(3)َ الْعَالِينَ} أي المستكبرين، وهذا الاستفهام من الله تعالى توبيخ لإبليس وتقريع له. وأجابه إبليس بما أخبر تعالى به عنه في قوله {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} فاستعمل اللعين القياس الفاسد المردود عند أرباب العقول، إذ النار لم تكن أبداً خيرا من الطين، النار تحرق ونهايتها رماد، والطين لا يحرق ومنه سائر أنواع المغذيات التي بها الحياة الحبوب والثمار والفواكه والخضر واللحوم وحسبه أنه أصل الإنسان ومادة خلقته. فأيّ شرف للنّار أعظم لو كان اللعين يعقل. وهنا قال تعالى له {فَاخْرُجْ مِنْهَا} أي من الجنة {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} أي مطرد مبعد لا ينبغي أن تبقى في رحمة الله، {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي} لا تفارقك على مدى الحياة وهي بُعد من رحمتي طوال الحياة.
وهنا قال اللعين لما آيس من الرحمة {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} أي أبق عليّ حياً لا تمتني {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} حتى يتمكن من إغواء بني آدم، ولا يموت إذا ماتوا في النفخة الأولى فلا يذوق هو الموت وعلم الله ما أضمره في نفسه فرد عليه بقوله {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} أي الممهلين المبقى على حياتهم {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} وهو النفخة الأولى حتى يموت مع سائر الخلائق ولما علم اللعين أنه أنظر قال في صفاقة وجه ووقاحة قول مقسماً بعزة الله {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} فاستثنى اللعين عباد الله المؤمنين المتقين الذين استخلصهم الله لطاعته وجواره في دار كرامته. وهنا قال تعالى رداً على اللعين {قَالَ(4) فَالْحَقُّ} أي أنا الحق {وَالْحَقَّ أَقُولُ} {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} أي من الإنس والجن أجمعين. وإلى هنا انتهى ما دار من خصومة في الملأ الأعلى، وكيف عرف محمد صلى الله عليه وسلم هذا وأخبر به لولا أنه
__________
1 - ذكر صاحب تفسير التحرير أن خطاب الله تعالى لإبليس بعد إبلاسه كان بواسطة ملك من الملائكة معللاً ذلك بعدم أهلية إبليس بعد إبلاسه لذلك لما فيه من الشرف والكمال ولم أقف على من رأى هذا الرأي غيره والله أعلم بصحته أو خطأه.
2 - في قوله بيدي إثبات صفة اليدين لله تعالى وقد وردت أحاديث صحيحة تقرر ذلك وتثبته فوجب الإيمان بهذه الصفة الذاتية لله تعالى مع تنزيهه تعالى أن يكون يداه تشبه يدي من له يدان من خلقه لأن الله تعالى ليس كمثله شيء.
3 - العلو الشرف فمعنى قوله تعالى من العالين أي من أهل علو المراتب وشرف المنازل فلذا امتنعت من السجود لآدم عليه السلام.
4 - قرأ الجمهور قال فالحق بنصب الحق على أنه مفعول مطلق تقديره أحق الحق، وقرأ حفص بالرفع على تقدير فالحق قولي، أو أنا الحق أي على الابتداء، وأما الحق الثاني فهو منصوب إجماعاً لفعل أقول.

وحي يوحى إليه. وهنا قال تعالى لرسوله قل لقومك المكذبين برسالتك {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على البلاغ {مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ(1)} الذين يتقولون على الله ويقولون ما لم يقل {إِنْ هُوَ} أي القرآن {إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} من الإنس والجن يذكرون به فيؤمنون ويهتدون {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} أي ولتعرفن صدق ما أخبر به من وعد ووعيد وصلاحية ما تضمنه من تشريع بعد حين، وقد عرف بعضهم ذلك يوم بدر، ويوم الفتح، ويوم مؤتة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ذم الكبر والحسد وحرمتهما وبيان جزائهما.
2- مشروعية القياس إن كان قياساً صحيحاً، وبيان أخطار القياس الفاسد.
3- مشروعية القسم بالله وبصفاته وأسمائه.
4- بيان أن من كتب الله سعادتهم لا يقوى الشيطان على إغوائهم وإضلالهم.
5- لا يجوز أخذ الأجرة على بيان الحق والدين.
6- ذم التكلّف(1) المفضي إلى الكذب والتقول على الله والرسول والمؤمنين.
7- ظهر مصداق ما أخبر به القرآن بعد حين قصير وطويل.
__________
1 - التكلف: معالجة الكلفة وهو ما يشق على المرء عمله أو علمه أو قوله لعدم قدرته على ذلك روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال من سئل عما لا يعلم فليقل لا أعلم، ولا يتكلف فإن قوله لا أعلم علم وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين}. روي أن للمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، ويتعاطى ما لا ينال، ويقول ما لا يعلم. وروى الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم مر في بعض أسفاره على رجل جالس على مقراة له وقال له عمر يا صاحب المقراة أولغت السباع الليلة في مقراتك*؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا صاحب المقراة لا تخبره، هذا متكلف، لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور، كما روى مالك في الموطأ أن عمر خرج في ركب معهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضاً فقال عمرو بن العاص يا صاحب الحوض هل ترد السباع حوضك؟ فقال عمر يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا.
* المقراة: الحوض يجمع فيه الماء.

سورة الزمر
...
سورة الزمر(1)
مكية
وآياتها خمس وسبعون آية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ(2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ(3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(4)
شرح الكلمات:
تنزيل الكتاب : أي القرآن من الله.
العزيز الحكيم : أي العزيز في مُلكه وانتقامه الحكيم في صنعه وتدبير خلقه.
مخلصاً له الدين : أي مفرداً إياه بالعبادة فلا تشرك بعبادته أحداً.
لله الدين الخالص : أي له وحده خالص العبادة لا يشاركه في ذلك أحد سواه.
أولياء : أي شركاء وهي الأصنام.
ليقربونا إلى الله زلفى : تقريباً وتشفع لنا عند الله.
من هو كاذب كفار: أي كاذب على الله كفار بعبادته غير الله تعالى.
سبحانه : أي تنزيهاً له عن الولد والشريك.
__________
1- سميت بالزمر لذكر لفظ الزمر فيها ولم يذكر في غيرها قط والزمر جمع زمرة وهي الفوج المتبوع بفوج آخر.

هو الله الواحد القهار: أي المعبود الحق الواحد الذي لا شريك له في ملكه وسلطانه القهار لخلقه.
معنى الآيات:
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ(1) مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} يخبر تعالى أن تنزيل القرآن كان منه سبحانه وتعالى وهو العزيز في انتقامه من أعدائه الحكيم في تدبير خلقه. ولم يكن عن غيره بحال من الأحوال وقوله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} (2) يخبر تعالى رسوله بقوله {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ(3)} أي القرآن العظيم {بِالْحَقِّ} في كل ما جاء فيه ودعا إليه من العقائد والعبادات والأحكام وعليه {فَاعْبُدِ(4) اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} أي العبادة فلا تعبد معه غيره فإن العبادة لا تصلح لغيره أبداً {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ(5)} أي شركاء يعبدونهم ويقولون {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} أي تقريبا ويشفعوا لنا عند الله في قضاء حوائجنا هؤلاء يحكم الله بينهم في ما هم فيه مختلفون مع المؤمنين الموحدين وذلك يوم القيامة وسيجزي بعدله كلا بما يستحقه من إنعام وتكريم أو شقاء وتعذيب. وقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} يخبر تعالى بحرمان أناس من هدايته وهم الذين توغلوا في الفساد فكذبوا على الله تعالى وعلى عباده وأصبح الكذب وصفاً لازماً لهم، وكفروا وبالغوا في الكفر بالله وآياته ورسوله ولقائه فأصبح الكفر وصفاً ثابتاً لهم، إذ هذه سنته في حرمان العبد من الهداية ليمضي فيه حكم الله بإشقائه وتعذيبه يوم القيامة. وقوله تعالى {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} كما يزعم المشركون الذين قالوا الملائكة بنات الله، وكما قال النصارى المسيح ابن الله، وكما قال اليهود عزير ابن الله، ولو أراد الله أن يكون له ولد لاصطفى واختار مما يخلق ما يشاء، ولا يتركهم ينسبون إليه الولد افتراء عليه وكذباً، ولكنه تعالى منزه عن صفات المحدثين وافتقار المخلوقين إذ هو الله ذو الألوهية على سائر خلقه الواحد الذي لا شريك له في ملكه وسلطانه وحكمه القهار لسائر خلقه فسبحانه لا إله غيره ولا رب سواه.
__________
1 - تنزيل الكتاب، أي القرآن – جائز أن يكون تنزيل الكتاب مبتدأ والخبر من الله وجائز أن يكون تنزيل خبر والمبتدأ محذوف أي هذا تنزيل.
2 - بالحق الباء للملابسة أي ملابساً للحق فلا باطل معه.
3 - فيه تقرير نبوته صلى الله عليه وسلم والإعلان عن شرفه بإنزال الكتاب عليه.
4 - الفاء للتفريع، أي فبناء على إنزالنا عليك الكتاب فاعبد الله، ومخلصاً حال، والدين العبادة، وإخلاص العبادة تجريدها من الالتفات إلى غير الله تعالى لطلب مدح أو نفع أو دفع مكروه أو اتقاء ذم.
5 - ألا لله الدين الخالص افتتاح الجملة بألا للتنبيه على شرف ما دخلت عليه والتنويه به. اللام في لله للملك والاستحقاق وفي الآية دليل على وجوب الإخلاص في العبادة ووجوب النية فيها ولا عبادة بدون نية صحيحة ولا يضر النية الخاطر يخطر بالقلب لا يملك المرء دفعه.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية.
2- تقرير التوحيد.
3- بطلان الشرك والتنديد بالمشركين.
4- تقرير البعث والجزاء يوم القيامة.
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ(5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ(6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(7)
شرح الكلمات:
خلق السموات والأرض بالحق: أي من أجل أن يذكر ويشكر لا من أجل اللهو والعبث.
يكور الليل على النهار : أي يدخل أحدهما في الآخر فإذا جاء الليل ذهب النهار والعكس كذلك.

وسخر الشمس والقمر : أي ذللهما فلا يزالان يدوران في فلكيهما إلى نهاية الحياة وبدورتهما تتم مصالح سكان الأرض.
خلقكم من نفس واحدة : هي آدم عليه السلام.
ثم جعل منها زوجها : هي حواء خلقها الله تعالى من ضلع آدم الأيسر.
وأنزل لكم من الأنعام : أي أنزل المطر فأنبت العشب فخلق الأنعام فهذا وجه لإنزالها.
ثمانية أزواج : أي من الإبل اثنين ومن البقر اثنين ومن الضأن اثنين ومن المعز اثنين.
يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق : أي أطواراً طوراً بعد طورٍ نطفة فعلقة فمضغة.
في ظلمات ثلاث : أي ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة.
ولا تزر وازرة وزر أخرى : أي لا تحمل نفس ذات وزر وزرَ نفس أخرى.
إنه عليم بذات الصدور : أي ما يخفيه المرء في صدره وما يسره في ضميره.
معنى الآيات:
هذه الآيات الكريمة في تقرير التوحيد بذكر الأدلة والبراهين التي لا تدع للشك مجالاً في نفوس العقلاء فقال تعالى في الآية (5) {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ(1) وَالْأَرْضَ} أي أوجدهما خلقاً على غير مثال سابق وخلقهما بالحق لغايات سامية شريفة وليس للباطل والعبث ومن تلك الغايات أن يعبد فيها فيذكر ويشكر. وقوله {يُكَوِّرُ(2) اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} أي يغشي هذا هذا فيغطيه به ويستره كأنما لفّه عليه وغشاه به وهذا برهان ثان فالأول برهان الخلق للسموات والأرض وبرهان ثالث في قوله {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ(3) مُسَمّىً} يدوران في فلكيهما إلى قيام الساعة وفي ذلك من الفوائد والمصالح للعباد ما لا يقادر قدره من ذلك معرفة عدد السنين والحساب. وقوله {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ(4)} إعلان وتنبيه بأنه تعالى عزيز في بطشه وانتقامه من أعدائه غفّار لعباده التائبين إليه. وقوله تعالى في الآية (6) {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} هي آدم عليه السلام فقد صح أنه
__________
1 - هذه الجملة بيان لجملة هو الله الواحد القهار.
2 - وهذه الجملة بيان ثان أيضاً وحقيقة التكوير أنه اللف واللي يقال كور العمامة على رأسه إذا لفها ولوّاها وهذا تمثيل بديع لتعاقب الليل والنهار.
3 - كل التنوين للعوض أي كل واحد منهما يجري لأجل مسمى هو أجل فنائهما.
4 - استئناف ابتدائي وجملة فإنكم الخ استدلال على صفة العزة والمغفرة في العزيز الغفار.

لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ذرّيته وأشهدهم على أنفسهم، ولهذا جاء العطف بثم إذ {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي بعد أن مسح على ظهر آدم وأخرج ذرّيته من ظهره وأشهدهم على أنفسهم خلق حواء من ضلعه الأيسر، وهذا برهان وآخر في قوله {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ} وهي الإبل والبقر والغنم ضأن وماعز وهي ذكر وأنثى فالذكر زوج والأنثى زوج فهي ثمانية أزواج وجائز أن يكون أصل هذه الأنعام قد أنزله من السماء كما أنزل آدم وحواء من السماء،(1) وجائز أن يكون أنزل الماء فنبت العشب وتكونت هذه الأنعام من ذلك فالأصل الإنزال من السماء وتدرج الخلق كان في الأرض. وبرهان رابع في قوله { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ(2) خَلْقٍ} أي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم نكسوا العظام لحماً فإذا هو إنسان كامل وقوله {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} هي ظلمة بطن الأم، ثم ظلمة الرحم، ثم ظلمة المشيمة، وهي غشاء يكون للولد وفي الحيوان يقال له السَّلي وقوله بعد ذكر هذه البراهين قال {ذَلِكُمُ اللَّهُ(3) رَبُّكُمْ} أي خالقكم ومعبودكم الحق {لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي لا معبود إلا هو غذ لا تصلح العبادة إلا له {فَأَنَّى(4) تُصْرَفُونَ} أي كيف تصرفون عن الحق إلى الباطل، وعن الهدى إلى الضلال إن أمركم عجبٌ. وقوله في الآية (7) {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} أي بعد أن بين بالأدلة القاطعة وجوب الإيمان به ووجوب عبادته، وأنه الرب الحق وإله الحق أعلم عباده أن كفرهم به لا يضره أبداً لأنه غنيّ عنهم وعن سائر خلقه إلا أنه لرحمته بعباده لا يرضى لهم الكفر لما يسببه لهم من شقاء وخسران، كما أنهم إن آمنوا وشكروا يرضه لهم فيثيبهم أحسن ثواب ويجزيهم أحسن جزاء. وقوله {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} هذا مظهر من مظاهر عدله بين عباده وهو أن نفسا ذات وزر أي ذنب لا تحمل وزر أي ذنب نفس أخرى بل كل نفس تحمل وزرها وتتحمل تبعته ونتائجه وحدها. وقوله تعالى {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ} أي بعد الموت {فَيُنَبِّئُكُمْ
__________
1 - ووجه ثالث وهو جائز أن يكون الإنزال بمعنى التسخير نحو وأنزلنا الحديد أي ذللناه لكم تصنعون منه السيوف والرماح وهذ كقولك نزل فلان على رأي فلان قال الشاعر:
أنزلني الدهر على حكمه
من شاهق عال إلى خفض.
2 - أي طوراً بعد طور لقوله صلى الله عليه وسلم "إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويأمر بكتب أربع كلمات رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد" الحديث (مسلم).
3 - هذه الجملة كالفذلكة والنتيجة لما سبق من ذكر آيات العلم والقدرة والرحمة الموجبة للألوهية الحقة للرب الحق سبحانه وتعالى.
4 - فأنى تصرفون الاستفهام للإنكار مشوباً بالتعجب من حال انصرافهم عن الحق بعد ظهور أدلته وسطوع براهينه، عجبا لكم كيف صرفتم وبناء الفعل للمجهول إشارة واضحة إلى أنهم يصرفون بقوى غير قواهم وهي قوى الشياطين التي تزين لهم الباطل وتبغض لهم الحق.

بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي فيخبركم بأعمالكم خفيها وجليها صغيرها وكبيرها {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فضلا عما كان عملاً ظاهرا غير باطن ويجزيكم بذلك الخير بمثله والشر بمثله. فهذا ربكم الحق وإلهكم الصدق فآمنوا به ووحدوه ولا تشركوا به وأطيعوه ولا تعصوه تنجوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة. ولا يهلك على الله إلا هالك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان آيات الله في الكون وإيرادها أدلة على التوحيد.
2- بيان إفضال الله تعالى على العباد في خلقهم ورزقهم.
3- بيان أن الكفر أعجب من الإيمان إذ أدلة الإيمان لا تعد كثرة وأما الكفر فلا دليل عليه البتة ومع هذا أكثر الناس كافرون.
4- بيان غنى الله تعالى عن خلقه وافتقار الخلق إليه.
5- بيان عدالة الله تعالى يوم القيامة وتقريرها.
6- بيان إحاطة علم الله بالخلق وعلمه بأفعالهم وأحوالهم ظاهراً وباطناً.
وَإِذَا مَسَّ الْإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ(8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ(9)
شرح الكلمات:
وإذا مس الإنسان : الإنسان أي المشرك.
ضرّ : أي مرض أو خوف غرق ونحوه من كل مكروه لا يقدر على دفعه.

دعا ربه منيبا إليه : أي سأل ربه كشف ما أصابه من ضر راجعا إليه معرضاً عمن سواه.
إذا خوله نعمة منه : أي أعطاه نعمة منه بأن كشف ما به من ضر.
نسي ما كان يدعو إليه من قبل : أي ترك ما كان يتضرع إليه من قبل وهو الله سبحانه وتعالى.
وجعل لله أنداداً : أي شركاء.
ليضل عن سبيله : أي ليضل نفسه وغيره عن الإسلام.
قل تمتع بكفرك قليلا : أي قل يا نبينا لهذا الكافر الضال المضل تهديداً تمتع بكفرك بقية أجلك.
إنك من أصحاب النار : أي أهلها المتأهلين لها بخبث نفوسهم وظلمة أرواحهم.
قانت آناء(1) الليل : أي مطيع لله آناء الليل أي ساعات الليل ساجدا وقائماً في الصلاة.
إنما يتذكر أولوا الألباب: أي يتعظ بما يسمع من الآيات أصحاب العقول النيّرة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير التوحيد وإبطال التنديد، فقال تعالى مخبراً عن حال المشرك بربه المتخذ له أنداداً يعبدها معه {وَإِذَا مَسَّ الْإنْسَانَ(2) ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} أي سأل ربّه راجعا إليه رافعا إليه يديه يا رباه يا رباه سائلا تفريج ما به وكشف ما نزل به {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ(3) نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} حتى إذا فرّج الله كربه ونجاه، ترك دعاء الله، وأقبل على عبادة غير الله، {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً} أي شركاء {لِيُضِلَّ}( 4) نفسه وغيره. وهنا أمر تعالى رسوله أن يقول له نيابة عن الله تعالى قل يا رسولنا لهذا المشرك الكافر تمتع بكفرك قليلاً أي مدة بقية عمرك إنك من أصحاب النار، هكذا هدده ربّه وخوفه بعاقبة أمر الشرك والتنديد لعله ينتهي فيتوب توبة صادقة ويرجع إلى الله رجوعاً حسناً
__________
1 - الآناء جمع أنىً مثل أمعاء ومَعىً وأقفاء وقفىً والأنى الساعة.
2 - الإنسان هو اسم جنس دال على غير معين بل هو عام في كل مشرك بالله تعالى كافر به.
3 - قوله أعطاه إذ التخويل الإعطاء والتمليك دون قصد عوض مأخوذ من الخول وهو اسم للعبد والخدم وفي الحديث "إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم" (الحديث).
4 - اللام لام العاقبة، أي هو لم يقصد إضلال نفسه.

جميلا. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (8) أما الآية الثانية (9) فيقول تعالى {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ(1) } أي مطيع لله ورسوله في أمرهما ونهيهما {آنَاءَ اللَّيْلِ} أي ساعات الليل تراه ساجدً في صلاته أو قائماً يتلوا آيات الله في صلاته، وفي نفس الوقت هو يحذر عذاب الآخرة ويسأل الله تعالى أن يقيه منه، ويرجو رحمة ربّه وهي الجنة أن يجعله الله من أهلها هذا خير أم ذلك الكافر الذي قيل له تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار، والجواب معلوم للعقلاء(2) وقوله تعالى {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} محاب الله ومكارهه وهم يعملون على الإتيان بمحابّ الله تقرباً إليه، وعلى ترك مكارهه تحبّباً إليه، هل يستوي هؤلاء العاملون مع الذين لا يعلمون ما يحب وما يكره فهم يتخبطون في الضلال تخبط الجاهلين؟ والجواب لا يستوون وإنما يتذكر بمثل هذا التوجيه الإلهي والإرشاد الرباني أصحاب الألباب أي العقول السليمة الراجحة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد وإبطال الشرك والتنديد.
2- الكشف عن داخلية الإنسان قبل أن يؤمن ويُسلم وهو أنه إنسان متناقض لا خير فيه ولا رشد له، فلا يرشد ولا يكمل إلا بالإيمان والتوحيد.
3- بشرى الضالين عن سبيل الله المضلين عنه بالنار.
4- مقارنة بين القانت المطيع، والعاصي المضل المبين، وبين العالم والجاهل، وتقرير أفضلية المؤمن المطيع على الكافر العاصي. وأفضلية العالم بالله وبمحابه ومكارهه والجاهل بذلك.
5- فضل العالم على الجاهل لعمله بعلمه ولولا العمل بالعلم لاستويا في الخسة والانحطاط.
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(10)
__________
1 - قرأ نافع أمن هو قانت بتخفيف الميم – وقرأ حفص أمن بتشديدها وجائز أن تكون الهمزة همزة استفهام ومن مبتدأ والخبر مقدر نحو أمن هو قانت أفضل أم من هو كافر وعلى قراءة التشديد فالهمزة للاستفهام وأمن كلمتان أم المعادلة أدغمت في من المبتدأ وجائز أن تكون أم منقطعة لمجرد الإضراب الانتقالي.
2 - وهو أنهما لا يستويان بحال من الأحوال.

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ(11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ(12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي(14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ(15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ(16 )
شرح الكلمات:
اتقوا ربكم : أي اجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بالإيمان والتقوى.
للذين أحسنوا : أي أحسنوا العبادة.
حسنة : أي الجنة.
أرض الله واسعة: أي فهاجروا فيها لتتمكنوا من عبادة الله إن منعتم منها في دياركم.
أمرت : أي أمرني ربي عز وجل.
مخلصاً له الدين : أي مفرداً إياه بالعبادة.
أول المسلمين : أي أول من يسلم في هذه الأمة فينقاد لله بعبادته والإخلاص له فيها.
عذاب يوم عظيم: أي عذاب يوم القيامة.
قل : أي يا رسولنا للمشركين.
الله أعبد : أي لا أعبد معه سواه.
مخلصا له ديني : أي مفرداً إياه بطاعتي وانقيادي.
فاعبدوا ما شئتم : أي إن أبيتم أيها المشركون عبادة الله وحده فاعبدوا ما شئتم من الأوثان فإنكم خاسرون.
خسروا أنفسهم: أي فحرموها الجنة وخلدوها في النار.
وأهليهم : أي الحور العين اللائي كن لهم في الجنة لو آمنوا واتقوا بفعل الطاعات وترك المنهيات.
ظلل من النار : أي دخان ولهب وحر من فوقهم ومن تحتهم.

ذلك : أي المذكور من عذاب النار.
يا عباد فاتقون: أي يا من أنا خالقهم ورازقهم ومالكهم وما يملكون فلذلك اتقون بالإيمان والتقوى.
معنى الآيات:
لقد تضمنت هذه الآيات الخمس توجيهات وإرشادات ربّانيّة للمؤمنين والرسول صلى الله عليه وسلم ففي الآية الأولى (10) يأمر تعالى رسوله أن يقول للمؤمنين اتقوا ربكم أي اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية وذلك بطاعته وطاعة رسوله، ويعلمهم معللا أمره إياهم بالتقوى بأن للذين أحسنوا الطاعة المطلوبة منهم الجنة، كما يعلمهم أنهم إذا لم يقدروا على الطاعة بين المشركين فليهاجروا إلى أرض يتمكنون فيها من طاعة الله ورسوله فيقول {وأرض الله واسعة} أي فهاجروا فيها ويشجعهم على الهجرة لأجل الطاعة فيقول {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ(1)} أي على الاغتراب والهجرة لأجل طاعة الله والرسول {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي بلا كيل ولا وزن ولا عد لأنه فوق ذلك. وفي الآية الثانية (11) والثالثة (12) يأمر تعالى رسوله موجهاً له بأن يقول للناس {إِنِّي أُمِرْتُ} أي أمرني ربي أن أعبد الله باعتقاد وقول وفعل ما يأمرني به وترك ما ينهاني عنه من ذلك مخلصاً له الدين، فلا أشرك في دين الله أحداً أي في عبادته أحداً، كما أمرني أن أكون أول المسلمين في هذه الأمة أي أول من يسلم قلبه وجوارحه الظاهرة والباطنة لله تعالى وفي الآيات الرابعة (13) والخامسة (14) يأمر الله تعالى رسوله أن يقول للمشركين إني أخاف إن عصيت ربي، فرضيت بعبادة غيره وأقررتها عذاب(2) يوم عظيم كما يأمره أن يقول اللهَ أَعْبدُ أي الله وحده لا شريك له أعبد حال كوني مخلصا له ديني. وأما أنتم أيها المشركون إن أبيتم التوحيد فاعبدوا ما شئتم(3) من آلهة دونه تعالى ويأمره أن يقول لهم إن الخاسرين بحق ليسوا بأولئك الذين يخسرون دنياهم فيفقدون الدار والبعير أو المال والأهل والولد بل هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم(4) القيامة، وذلك
__________
1 - وفسر بعضهم الصبر بالصوم وحقاً الصوم من الصبر وحسب الصوم أجراً أن يقول الله تعالى "الصوم لي وأنا أجزي به". إلا أن الآية عامة في الصبر في مواطنه الثلاث وهي صبر على الطاعات وصبر دون المعاصي وصبر على البلاء. ومن ذلك الهجرة إلى دار الإسلام.
2 - ذهب بعضهم إلى أن الآية منسوخة بقوله تعالى {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} ولا معنى لهذا النسخ إذ النسخ لا يكون في الأخبار. وإنما الآية من باب الفرض والتقدير إذ الرسول معصوم ولا يعصي وإذاً لا خوف عليه وإنما من باب طلب الهداية للآخرين قال له قل لهذا.
3 - الأمر هنا للتهديد والوعيد والتوبيخ وليس للإذن بعبادة غير الله إذ القرآن كله نزل ليعبد الله تعالى وحده ولا يعبد معه سواه فكيف يأذن بعبادة ما شاءوا من آلهة.
4 - روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ما من أحد إلا وخلق الله له زوجة في الجنة فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله. وهو كذلك لقوله تعالى { أولئك هم الوارثون }أي يرث المسلم الكافر يرثه في أهله ومكانه في الجنة وسبب الإرث الإيمان والتقوى بإذن الله تعالى.

بتخليدهم في النار، وبعدم وصولهم إلى الحور العين المعدة لهم في الجنة لو أنهم آمنوا واتقوا. ألا ذلك أي هذا هو الخسران المبين ثم يوضح ذلك الخسران بالحال التالية وهي أن لهم وهم في النار من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل أي طبقات من فوقهم طبقة ومن تحتهم أخرى وكلها دخان ولهب وحر وأخيراً قوله تعالى {ذَلِكَ} أي المذكور من الخسران وعذاب الظلل يخوف الله تعالى به عباده المؤمنين ليواصلوا طاعتهم وصبرهم عليها فينجوا من النار ويظفروا بالجنان وقوله يا عباد فاتقون أي يا عبادي المؤمنين فاتقون ولا تعصون يحذرهم تعالى نفسه، والله رءوف بالعباد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان عناية الله تعالى برسوله والمؤمنين إذ أرشدهم إلى ما يكملهم ويسعدهم.
2- وجوب التقوى والصبر على الأذى في ذلك.
3- تقرير التوحيد بأن يعبد الله وحده.
4- فضل الإسلام وشرف المسلمين.
5- تقرير البعث والجزاء ببيان شيء من أهوال الآخرة وعذاب النار فيها.
6- كل خسران في الدنيا إذا قيس بخسران الآخرة لا يعد خسراناً أبدا.
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ(17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ(18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ(19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ(2 0)

شرح الكلمات:
والذين اجتنبوا الطاغوت(1) أن يعبدوها : أي تركوا عبادة الأصنام وغيرها مما يعبد من دون الله.
وأنابوا إلى الله : أي بالإيمان به وعبادته وتوحيده فيها.
لهم البشرى : بالجنة عند الموت وفي القبر وعند القيام من القبور.
فيتبعون أحسنه : أي أوفاه وأكمله وأقربه إلى مرضاة الله تعالى.
أولو الألباب : أي العقول السليمة.
أفمن حق عليه كلمة العذاب : أي وجب عليه العذاب بقول الله تعالى لأملأن جهنم.
أفأنت تنقذ من في النار : أي تخلصه منها وتخرجه من عذابها.
لكن الذين اتقوا ربهم : أي خافوه فآمنوا به وأطاعوه موحدين له في ذلك.
تجري من تحتها الأنهار : أي من خلال قصورها وأشجارها.
وعد الله : أي وعدهم الله تعالى وعداً فهو منجزه لهم.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى حال أهل النار من عبدة الأوثان وأن لهم من فوقهم ظللا من النار ومن تحتهم ظللا ذكر تعالى حال الذين اجتنبوا تلك الطواغيت فلم يعبدوها، وما أعد لهم من النعيم المقيم فجمع بذلك بين الترهيب والترغيب المطلوب لهداية البشر وإصلاحهم فقال عز وجل {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ} أي أن يعبدوها وهي الأوثان وكل ما زين الشيطان عبادته ودعا الناس إلى عبادته وأضافوا إلى اجتناب الطاغوت الإنابة إلى الله تعالى بعبادته وتوحيده فيها هؤلاء لهم البشرى وهي في كتاب الله(2) وعلى لسان رسول الله ويرونها عند نزول الموت وفي القبر وفي الحشر وكل هذا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} يأمر تعالى رسوله أن يبشر صنفاً من عباده بما بشر به الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا
__________
1 - الطاغوت مصدر أو اسم مصدر فعله طغا وهل هو واوي أو يائي خلاف والأشهر أنه واوي نحو طغا طغواً كعلا يعلو علواً وقولهم الطغيان دال على أنه يائيّ وتاؤه زائدة كما زيدت في رحموت وملكوت وقيل هو اسم أعجمي كجالوت وطالوت.
2 - شاهده قوله تعالى {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا} (البقرة) ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له في بيان قوله تعالى {لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة} من سورة يونس ومن القرآن {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} فهذه عند الموت.

إلى الله وهم الذين يستمعون القول من قائله فيتبعون أحسن ما يستمعون، ويتركون حسنه(1) وسيئه معاً فهؤلاء لهم همم عالية ونفوس تواقة للخير والكمال شريفة فاستوجبوا بذلك البشرى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم والثناء الجميل من رب العالمين إذ قال تعالى فيهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} فحسبهم كمالاً أن أثنى تعالى عليهم. اللّهم اجعلني منهم ومن سأل لي وله ذلك. وقوله {أَفَمَنْ(2) حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} أي وجب له العذاب قضاء وقدراً فأسرف في الكفر والظلم والإجرام والعدوان كأبي جهل والعاص بن وائل فأحاطت به خطيئاته فكان من أصحاب النار فهل تستطيع أيها الرسول إنقاذه من النار وتخليصه منها؟ والجواب لا. إذاً فهوّن على نفسك واتركهم لشأنهم وما خلقوا له وحكم به عليهم. وقوله تعالى {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا} فآمنوا وعملوا الصالحات لهم غرف في الجنة من فوقها غرف وهي العلية تكون فوق الغرفة تجري من تحتها الأنهار من تحت القصور والأشجار أنهار الماء واللبن والعسل والخمر. وقوله {وَعْدَ اللَّهِ} أي وعدهم الله تعالى بها وعداً حقاً فهو منجزه لهم إذ هو تعالى لا يخلف الميعاد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- كرامة زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي إذ هذه الآية تعنيهم فقد رفضوا عبادة الطاغوت في الجاهلية قبل الإسلام ثم أنابوا إلى ربهم فصدقت الآية عليهم.
2- فضيلة أهل التمييز والوعي والإدراك الذين يميزون بين ما يسمعون فيتبعون الأحسن ويتركون ما دونه من الحسن والسيء.
3- إعلام من الله تعالى أن من وجبت له النار أزلاً لا تمكن هدايته مهما بذل الداعي في هدايته وإصلاحه ما بذل.
4- بيان ما أعد الله تعالى لأهل الإيمان والتقوى من نعيم الجنة وكرامة الله لأهلها.
__________
1 - جائز أن يراد بكلمة أحسن حسنه فهم يستمعون القول من قائله ويفهمونه فإن كان حقاً وهدى أخذوا به وإن كان باطلاً وضلالاً تركوه وابتعدوا عنه. فقد روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعيد بن زيد وسعد بن أبي وقاص جاءوا إلى أبي بكر حين أسلم فأخبرهم بإيمانه فآمنوا.
2 - الاستفهام الأول والثاني كلاهما إنكاري ينكر تعالى على رسوله حزنه وألمه على عدم إيمان عمه أبي لهب وولده ومن لم يؤمن من قرابته ممن وجبت لهم النار في سابق علم الله فهم لا يؤمنون، ولذا فرع عنه قوله أفأنت تنقذ من في النار؟ إنك لا تقدر على ذلك فهون على نفسك.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ(21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(23)
شرح الكلمات:
فسلكه ينابيع في الأرض : أي أدخله في الأرض فصار جارياً تحتها ينبع منها فكان بذلك ينابيع.
مختلفاً ألوانه : أي ما بين أخضر وأبيض وأحمر وأصفر وأنواعه من بر وشعير وذرة.
ثم يهيج فتراه مصفراً : أي ييبس فتراه أيها الرائي بعد الخضرة مصفراً.
ثم يجعله حطاماً : أي فتاتا متكسرا.
إن في ذلك لذكرى : أي إن في ذلك المذكور من إنزال الماء إلى أن يكون حطاماً تذكيراً.
أفمن شرح الله صدره للإسلام: أي فاهتدى به كمن لم يشرح الله صدره فلم يهتد؟
فهو على نور من ربه : أي فهو يعيش في حياته على نور من ربّه وهو معرفة الله وشرائعه.

فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله : ويل كلمة عذاب للقاسية قلوبهم عن قبول القرآن فلم تؤمن به ولم تعمل بما فيه.
أحسن الحديث كتاباً : هو القرآن الكريم.
متشابهاً : أي يشبه بعضه بعضاً في النظم والحسن وصحة المعاني.
مثاني : أي ثنّى فيه الوعد والوعيد كالقصص والأحكام.
تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم: أي ترتعد منه جلود الذين يخشون ربهم وذلك عند ذكر وعيده.
ثم تلين جلودهم وقلوبهم : أي تطمئن وتلين.
إلى ذكر الله : أي عند ذكر وعده لأهل الإيمان والتقوى بالجنة وما فيها من نعيم مقيم.
معنى الآيات:
قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ} هذه الآية الكريمة تقرر التوحيد والبعث والجزاء بذكر مظاهر القدرة والعلم الإلهيين، وهما مقتضيان لوجود الله أولاً ثم وجوب الإيمان به وبلقائه فقال تعالى مخاطباً رسوله {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}( 1) وهو المطر {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} أي أدخله فيها وأخرجه منها ينابيع بواسطة حفر وبدونه، ثم يخرج به زرعاً من قمح وشعير وذرة وغيرها مختلفاً ألوانه من أحمر وأبيض وأصفر {ثُمَّ يَهِيجُ} حسب سنة الله تعالى في ذلك فيجف {فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً} أي فتاتا متكسراً كالتبن كل هذا يتم بقدرة الله وعلمه وتدبيره ففيه موعظة وذكرى لأولي القلوب الحيّة تهديهم إلى الإيمان بالله وبآياته ولقائه، وما يستتبع ذلك من الطاعة والتوحيد وقوله تعالى {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ}( 2) أي وسع صدره وفسحه فقبل الإسلام ديناً فاعتقد عقائده وعمل بشرائعه فامتثل أوامره واجتنب نواهيه فهو يعيش على نور من ربه ومقابل هذا محذوف اكتفى بالأول عنه وتقديره كمن طبع الله على قلبه وجعل صدره حرجاً ضيقاً فلم يقبل الإسلام ولم يدخل فيه، وعاش على الكفر والشرك والمعاصي فهو يعيش على ظلمة الكفر ودخن الذنوب
__________
1 - تضمنت هذه الآية الكريمة مثالين زيادة على ما دلت عليه بظاهر كلماتها المثال الأول هو أن القرآن الكريم ينزل من عند الله فيحيي الله تعالى به القلوب الميتة فتحيى وتشرف وتبلغ الكمال في الطهر والإشراق. والثاني هو أن حياة الإنسان تبتدئ بنطفة المني فتستقر في الرحم ثم تخرج طفلاً ثم يكبر فيصبح شاباً فكهلاً ثم يهرم ويهلك. والخطاب صالح لكل من له أهلية النظر.
2 - شرح الصدر عبارة عن قبول الهدى والاستنارة به، والاستفهام إنكاري ومن مبتدأ والخبر محذوف تقديره كمن ضاق صدره بالكفر وغشيته ظلمته فهو لا يعي ولا يفهم ما يقال له وما يدعى إليه من الهدى والخير هل حالهما واحدة والجواب لا.

وعفن الفساد والشر. وقوله تعالى {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ(1) ذِكْرِ اللَّهِ} يتوعد الله تعالى بالعذاب أصحاب القلوب القاسية من سماع القرآن وهذه أسوأ حال العبد إذا كان يهلك بالدواء ويضل بالهدى فسماع القرآن الأصل فيه أن يلين القلوب الصالحة للحياة فإذا كانت القلوب ميتة غير قابلة للحياة سماع القرآن زادها موتاً وقسوة، ويدل على هذا قوله {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(2)} فهدايتهم متعذرة إذا كان الدواء يزيد في علتهم وآيات الهداية تزيد في ضلالتهم. وقوله تعالى {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} هذه الآية نزلت لما قال أصحاب الرسول يوماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا يا رسول الله فأنزل الله تعالى قوله {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ(3)} وهو القرآن {كِتَاباً مُتَشَابِهاً} أي يشبه بعضه بعضاً في حسن اللفظ وصحة المعاني {مَثَانِيَ } أي يثني فيه الوعد والوعيد والأمر والنهي والقصص، {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أي عند سماع آيات الوعيد فيه {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ} إذا سمعوا آيات الوعد وتطمئن قلوبهم إذا سمعوا حججه وأدلته وقوله {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي القرآن وذكر الله بوعده ووعيده وأسمائه وصفاته ويشهد له قوله تعالى من سورة الرعد {أَلا بِذِكْرِ(4) اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} وقوله تعالى {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي ذلك المذكور وهو القرآن الكريم هدى الله إذ هو الذي أنزله وجعله هادياً يهدي به من يشاء هدايته بمعنى يوفقه للإيمان والعمل به وترك الشرك والمعاصي. وقوله {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} لما سبق في علم الله ولوجود مانع منع من هدايته كالإصرار على والعناد والتقليد. فهذا ليس له من هاد يهديه بعد الله أبداً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مظاهر العلم والقدرة الإلهية الموجبة للإيمان به وبرسوله ولقائه.
__________
1 - من بمعنى عن لتضمين القساوة في الإعراض والنفور إذ يقال أعرض عن كذا ونفر عنه وذكر الله هنا القرآن كما في التفسير.
2 - {أولئك في ضلال مبين} الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً إذ هو جواب لمن سأل عن قساوة قلوب المتوعدين بالويل فقيل له إنه ضلالهم الواضح المبين.
3 - روي أن سعد بن أبي وقاص قال قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لو حدثتنا فأنزل الله: {الله نزل أحسن الحديث} وهذا كما قالوا يوماً لو قصصت علينا فنزل: {نحن نقصك عليك أحسن القصص} ، وقولهم لو ذكرتنا فنزل: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق}، وفي هذا دليل على أنه لا يليق بأمة القرآن أن تلهوا بالتمثيليات والروايات وأندية اللهو واللعب.
4 - تقشعر أي تضطرب وتتحرك بالخوف مما فيه من الوعيد وتلين قلوبهم عند سماع آيات الرحمة وتطمئن إلى ذكر الله تعالى يروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت أنا أعلم متى يستجاب لي، وذلك إذا اقشعر جلدي، ووجل قلبي وفاضت عيناي وهو مروي عن ثابت البناني وأم الدرداء أن الوجل في القلب كاحتراق السعفة.

2- بيان أن القلوب قلبان قلب قابل للهداية وآخر غير قابل لها.
3- بيان أن القرآن أحسن ما يحدث به المؤمن إذ أخباره كلها صدق وأحكامه كلها عدل.
4 – فضيلة أهل الخشية من الله إذ هم الذين ينفعلون لسماع القرآن فترتعد فرائصهم عند سماع وعيده، وتلين قلوبهم وجلودهم عند سماع وعده.
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ(24)كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ(25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(26)
شرح الكلمات:
أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب: أي يتلقى العذاب بوجهه لا شيء يقيه منه كمن أمن.
سوء العذاب : أقساه وأشده.
وقيل للظالمين : أي المشركين في جهنم.
ذوقوا ما كنتم تكسبون : أي جزاء كسبكم الشر والفساد.
كذب الذين من قبلهم : أي من قبل أهل مكة.
فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون : أي من حيث لا يدرون أنه آتيهم منه. أو من حيث لا يخطر ببالهم.
فأذاقهم الله الخزي : أي المسخ والذل والإهانة.
ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون : أي لو كانوا يعلمون ذلك ما كذبوا ولا كفروا.

معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير البعث والجزاء فقوله تعالى {أَفَمَنْ يَتَّقِي(1) بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ} يوم القيامة إذ ليس له ما يتقي(2) به العذاب لأن يديه مغلولتان إلى عنقه فهو يتلقى العذاب بوجهه وهو أشرف أعضائه أفهذا الذي يتلقى العذاب بل سوء العذاب كمن أمن من العذاب ودخل الجنة؟ والجواب لا يستويان. وقوله تعالى {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ(3)} أي المشركين وهم في النار يقول لهم زبانية جهنم توبيخاً لهم وتقريعاً ذوقوا ما كنتم تكسبون من أعمال الشرك والمعاصي هذا جزاؤه فذوقوه عذاباً أليماً. وقوله تعالى {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي كذب قبل أهل مكة أمم وشعوب كذبوا رسلهم فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا وذلك كالذل والمسخ والقتل والأسر والسبي ولعذاب الآخرة أكبر من عذاب الدنيا وهم صائرون إليه لا محالة وقوله {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي لو كانوا يعلمون عنه علماً يقينياً ما كذبوا رسلهم ولا كفروا بربهم. فهلكوا بجهلهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير البعث والجزاء بذكر شيء من أحوال يوم القيامة.
2- تهديد قريش على إصرارها على التكذيب للرسول وما جاءها به من الإسلام.
3- العذاب على التكذيب والمعاصي منه الدنيوي، ومنه الأخروي.
4- لو علم الناس عذاب الآخرة علماً يقينياً ما كذبوا ولا كفروا ولا ظلموا فالجهل هو سبب الهلاك والشقاء دائما.
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(27) قُرْآناً عَرَبِيّاً
__________
1 - قال عطاء وابن زيد يرمى مكتوفاً في النار فأول شيء تمس منه النار وجهه وقال مجاهد يجر في النار على وجهه كقوله تعالى يوم يسحبون في النار على وجوههم والاستفهام إنكاري وفي الكلام حذف تقديره كمن هو آمن في جنات النعيم.
2 - الاتقاء مصدر ومعناه تكلّف الوقاية وهي الصون والدفع وفعل اتقى يتعدى إلى مفعولين ويتعدى بالباء كما في قول الشاعر:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتقتنا باليد
3 - للظالمين إظهار في محل إضمار إذا المفروض أن يقال وقيل لهم والنكتة التنديد بالشرك إذ هو الظلم وبيان العلة الموجبة لإلقائهم في جهنم على وجوههم وهي الظلم الذي هو الشرك.

غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ(29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ(30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ(31)
شرح الكلمات:
ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل : أي جعلنا للعرب في هذا القرآن من كل مثل من الأمم السابقة.
لعلهم يتذكرون : أي يتعظون فينزجرون عما هم فيه من الشرك والتكذيب إلى الإيمان والتوحيد.
قرآنا عربيا غير ذي عوج : أي حال كون المثل المجعول قرآنا عربياً لا لبس فيه ولا اختلاف فلا عذر لهم في عدم فهمه وإدراك معناه وفهم مغزاه.
متشاكسون : أي متنازعون لسوء أخلاقهم.
ورجلاً سلماً : أي خالصاً سالماً لرجل لا شركة فيه لأحد.
هل يستويان مثلاً : الجواب لا الأول في تعب وحيرة والثاني في راحة وهدوء بال.
الحمد لله : أي على ظهور الحق وبطلان الباطل.
إنك ميت : أي مقضي عليك بالموت في وقته.
وإنهم ميتون : أي كذلك محكوم عليهم به عند انقضاء آجالهم.
عند ربكم تختصمون: أي تحتكمون إلى الله في ساحة فصل القضاء فيحكم الله بينكم.
فيما كنتم فيه تختلفون: أي من الشرك والتوحيد والإيمان والتكذيب.
معنى الآيات:
قوله تعالى {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا(1) لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يخبر تعالى بما
__________
1 - ضرب المثل ذكره والمثل الصفة الحسنة وللناس جنس الناس ويدخل فيه العرب أولاً لأنه بلغتهم والناس تابعون لهم في ذلك.

من به على العرب لهدايتهم حيث جعل لهم في القرآن الكريم من أمثال الأمم السابقة في إيمانها وتكذيبها، وصلاحها وفسادها ونجاتها وخسرانها وكل ذلك بقرآن عربي لا عوج(1) فيه أي لا لبس ولا خفاء ولا اختلاف، فعل ذلك لعلهم يتذكرون أي يتعظون فيؤمنون ويوحدون فينجون من العذاب ويسعدون. وقوله تعالى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ(2) وَرَجُلاً سَلَماً(3) لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ(4)} إلى آخر الآية، هذا مثل من جملة الأمثال التي ضرب الله للناس لعلهم يتذكرون وهو مثل للمشرك الذي يعبد عدة آلهة. والموحد الذي لا يعبد إلا الله فالمشرك مثله رجل يملكه عدد من الرجال من ذوي الأخلاق الشرسة والطباع الجافة فهم يتنازعونه هذا يقول له تعال والآخر يقول له اجلس والثالث يقول له قم فهو في حيرة من أمره لا راحة بدن ولا راحة ضمير ونفس. والموحد مثله رجل سلم أي خالص وسالم لرجل واحد آمره وناهيه واحد هل يستويان أي الرجلان والجواب لا إذ بينهما كما بين الحرية والعبودية وأعظم وقوله تعالى {الْحَمْدُ(5) لِلَّهِ} أي الثناء بالجميل لله والشكر العظيم له سبحانه وتعالى على أنه رب واحد وإله واحد لا إله غيره ولا رب سواه. وقوله تعالى {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي بل أكثر المشركين لا يعلمون عدم تساوي الرجلين، وذلك لجهلهم وفساد عقولهم.
وقوله تعالى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ(6)} نزلت لما استبطأ المشركون موت الرسول صلى الله عليه وسلم أي لا شماتة في الموت إنك ستموت يا رسولنا ويموتون. وقوله تعالى {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} أي مؤمنكم وكافركم قويكم وضعيفكم تقفون بين يدي الله ويحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون من أمور الدين والدنيا معا.
__________
1 - غير ذي عوج أي لا اختلاف فيه ولا تضاد ولا لحن فيه ولا شك قال الشاعر:
وقد أتاك يقين غير ذي عوج
من الإله وقول غير مكذوب
2 - متشاكسون أي مختلفون أو متعاسرون يقال رجل شكس وشرس وضرس ويقال شاكسني فلان أي ماكسني وشاحّني في حقي.
3 - قرأ الجمهور سلماً وقرأ غيرهم سالماً بمعنى خالصاً فمعنى القراءتين واحد وهو الخلوص لمالك واحد.
4 - الاستفهام إنكاري أي لا يستويان، مثلا منصوب على التمييز لنسبة يستويان أي في أي شيء ميز لي.
5 - لما سلم الخصم بأنه لا يستوي الموحد والمشرك تعين حمد الله تعالى إذ لا يعقل أن يقول المرء باستواء الرجل الذي يشترك فيه عدة رجال والآخر الذي هو خالص لرجل واحد، فكذلك الذي يعبد إلهاً واحداً لا يستوي مع من يعبد آلهة متعددة.
6 - قرأ بعضهم إنك مائت وإنهم مائتون. والميت بالتشديد من هو صائر إلى الموت والميت بسكون الياء من فارقته الحياة، في هذه الآية نعي لكل إنسان بالموت إذ أن رجلا نعى لرجل أخاه ووجده يأكل فقال له كل فقد نعى إلي أخي من قبلك فقال وكيف وأنا أول من نعاه فقال له قد نعاه الله إليّ في قوله إنك ميت وإنهم ميتون.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية ضرب الأمثال للمبالغة في الإفهام والهداية لمن يراد هدايته.
2- بيان مثل المشرك والموحد، فالمشرك في حيرة وتعب، والموحد في راحة وهدوء بال.
3- تقرير أن كل نفس ذائقة الموت.
4- بيان أن خصومة ستكون يوم القيامة ويقضي الله تعالى فيها بالحق لأنه هو الحق.

الجزء الرابع والعشرون
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ(32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ(33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ(34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ(35)
شرح الكلمات:
ومن أظلم ممن كذب على الله؟ : أي بأن نسب إليه ما هو بريء منه كالزوج والولد والشريك.
وكذب بالصدق إذ جاءه؟ : أي بالقرآن والنبي والتوحيد والبعث والجزاء.
مثوى للكافرين : أي مأوى، ومكان إقامة ونزول.
والذي جاء بالصدق وصدّق به : محمد صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به أبو بكر وكل أصحاب رسول الله.
أولئك هم المتقون : أي لعذاب الله بإيمانهم وتقواهم بترك الشرك والمعاصي.
ذلك جزاء المحسنين : أي المذكور من نعيم الجنة جزاء المحسنين في أعمالهم.
ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا : أي ييسر الله لهم ذلك ويوفقهم إليه ليكفر عنهم ذنوبهم.
معنى الآيات:
يخبر تعالى عباده منذراً محذراً بأنه لا أظلم من أحد كذب على الله. فقال عنه ما لم يقل أو حرّم ولم يحرم أو أذن ولم يأذن، أو شرع ولم يشرع، أو كذب بالصدق وهو القرآن والنبي وما جاء به من الهدى ودين الحق أي فلا أحد أظلم ممن كان هذا حاله كذب على الله وكذب بالصدق.
وقوله تعالى: {أَلَيْسَ(1) فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} ؟ هذا بيان لجزاء الكاذبين والمكذبين وهم الكافرون بسبب كذبهم على الله وتكذبيهم له فيخبر تعالى مقرراً أن جزاءهم الإقامة
__________
1 - الاستفهام تقريري والمثوى مكان الإقامة وهو مصدر ثوى بالمكان يثوى ثواء وثويا مثل مضى يمضي مضاء ومضيا.

الدائمة في جهنم. وقوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ(1) بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} هذا إخبار بفريق الفائزين من عباد الله وهم الصادقون في كل ما يخبرون به، والمصدقون بما أوجب الله تعالى التصديق به ويدخل في هذا الفريق دخولاً أولياً رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق ثم سائر الصحابة والمؤمنين إلى يوم الدين.
وقوله تعالى {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ(2)} يشير إليهم بأنهم اتقوا كل ما يغضب الله من الشرك والمعاصي، وبذلك استوجبوا النجاة من النار ودخول الجنة المعبر عنه بقوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} من نعيم بعضه لم يخطر على بال أحد، ولم تره عين أحد ولا تسمع به أذنه.
وقوله: {ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ(3)} أي ذلك المذكور في قوله لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو جزاؤهم وجزاء المحسنين كلهم والمحسنون هم الذين أحسنوا الاعتقاد والقول والعمل وقوله تعالى: {لِيُكَفِّرَ(4) اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} أي من الذنوب والآثام والخطايا والسيئات أي وفقهم للإحسان ويسره لهم، ليكفر عنهم أسوأ الذي عملوا وسيئه ويجزيهم أجرهم على إيمانهم وتقواهم وإحسانهم في ذلك بأحسن ما كانوا يعملون وحسنه أيضاً وإنما يضاعف لهم الأجر فتكون الحسنات الصغيرة كالكبيرة فأصبح الجزاء كله على الأحسن والذي كانوا يعملون هو كل ما شرعه الله تعالى لعباده وتعبدهم به من الإيمان وسائر الطاعات والقربات.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التنديد بالكذب على الله تعالى والتكذيب به، وبما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم من الدين.
2- بيان جزاء الكاذبين على الله ورسوله والمكذبين بما جاء به رسول الله عن الله من الشرع والدين.
__________
1 - والذي جاء بالصدق مبتدأ والخبر أولئك هم المتقون. وعليه فالذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صدق به هم أبو بكر وسائر المؤمنين وفي الآية حذف الموصول وهو "من" لدلالة السياق عليه.
2 - أولئك مبتدأ وهم ضمير فصل والمتقون خبر، والجملة خبر عن المبتدأ الذي هو والذي جاء بالصدق والمعطوف عليه والموصول محذوف وهو من أو إذ لا يكون من جاء بالصدق هو المصدق به.
3 - الثناء في الدنيا والثواب في الآخرة.
4 - في الآية الإشادة بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أثبت لهم التصديق بما جاء به رسوله كما أثبت لهم التقوى والإحسان وواعدهم بالنعيم المقيم الذي ادخره لهم. وفي الحديث الصحيح "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ربي ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه".

1- الترغيب في الصدق في الاعتقادات والأقوال والأعمال.
2- فضل التقوى والإحسان وبيان جزائهما عند الله تعالى يوم القيامة.
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ(37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ(38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ(40)
شرح الكلمات:
أليس الله بكاف عبده؟ : بلى هو كاف عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم كل ما يهمه.
ويخوفونك بالذين من دونه : أي بالأصنام والأوثان أن تصيبك بما يسوءك ويضرك.
أليس الله بعزيز ذي انتقام: بلى هو عزيز غالب على أمره صاحب انتقام شديد على من عاداه.
ليقولن الله : أي لوضوح البرهان وقوة الدليل وانقطاع الحجة.
قل أفرأيتم : أي أخبروني.

هل هن ممسكات رحمته : والجواب لا لا إذاً فقل حسبي الله، ولا حاجة لي بغيره.
اعملوا على مكانتكم : أي على حالتكم التي أنتم عليه من الكفر والعناد.
إني عامل : أي على حالتي التي أنا عليها من الإيمان والانقياد.
من يأتيه عذاب يخزيه : أي في الدنيا بالقتل والأسر والجوع والقحط.
ويحل عليه عذاب مقيم: أي وينزل عليه عذاب مقيم لا يبرح وهو عذاب النار بعد الموت.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الدفاع عن الرسول والرد على مناوئيه وخصومه الذين استبطأوا موته فرد الله تعالى عليهم بقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} فلا شماتة إذاً في الموت وقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ(1) عَبْدَهُ} دال على أن القوم حاولوا قتله صلى الله عليه وسلم لما لم يمت بأجله وفعلاً قد قرروا قتله وأعطوا الجوائز لمن يقتله، ففي هذه الآية طمأن الله رسوله على أنهم لا يصلون إليه وأنه كافيه مؤامراتهم وتهديداتهم فقال عز وجل أليس الله بكاف عبده؟ والجواب بلى إذ الاستفهام تقريري كافيه كلَّ ما يهمه ويسوءه وقوله: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} أي ويخوفك يا رسولنا المشركون بما يعبدون من دوننا من أصنام وأوثان بأن تصيبك(2) بقتل أو خبل فلا يهمك ذلك فإن أوثانهم لا تضر ولا تنفع ولا تجلب ولا تدفع، وقوله: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} ، وقد هداك ربك فليس لك من يضلك أبداً، كما أن من أضله الله كقومك فليس له من هادٍ يهديه أبداً. وقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} (3) بلى فهو إذاً سينتقم من أعدائه لأوليائه إن استمروا في أذاهم وكفرهم وعنادهم، وقد فعل سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي أوجدهما من غير مثال سابق {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} فما دام اعترافهم لازماً بأن الله تعالى هو الخالق فلم عبادة غيره والإصرار عليها مما أفضى بهم إلى أذية المؤمنين وشن الحرب عليهم وقوله: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي من الأصنام والأوثان أخبروني {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ} ما {هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ} صحة وعافية وغنى ونصر {هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ(4)} والجواب لا فإنها جماد لا تقدر
__________
1 - الاستفهام للتقرير، وحذفت ياء كاف لأنه اسم منقوص وترد في الوقف جوازاً وقرأ الجمهور عبده وقرأ غيرهم عباده ليدخل المؤمنون معه صلى الله عليه وسلم.
2 - هذا شاهده قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام وكيف أخاف ما أشركتم فإنهم خوفوه بآلهتهم فأنكر عليهم ذلك وعابهم بعدم الخوف من الله تعالى.
3 - الاستفهام تقريري والجملة تحمل الوعيد الشديد للمشركين الكائدين الماكرين بالرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين والانتقام المكافأة بالشر على الشر وهو مشتق من النقم الذي هو الغضب.
4 - قال مقاتل فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكتوا وقال بعضهم لا تدفع شيئاً ولكنها تشفع!!

على إعطاء ولا على إمساك إذاً فقل حسبي الله أعبده وأتوكل عليه إذ هو الذي يضر وينفع ويجلب الخير ويدفع السوء والشر. وقوله {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} أي على الله وحده يتوكل المتوكلون فيثقون في كفايته لهم فيفوضون أمورهم إليه ويتعلقون به وينفضون أيديهم من غيره.
وقوله تعالى: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي لما أبيتم إلا العناد مصرين على الشرك بعد ما قامت الحجج والأدلة القاطعة على بطلانه فاعملوا على مكانتكم أي حالتكم التي عليها من الشرك والعناد {إِنِّي عَامِلٌ} أنا على حالتي من الإيمان والتوحيد والانقياد. والنتيجة ستظهر فيما بعد لا محالة ويعلم المحق من المبطل، والمهتدي من الضال وهي قوله تعالى: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ(1) يُخْزِيهِ} أي يذله ويكسر أنفه بالقتل والأسر والجوع والقحط وقد أصاب المشركين هذا في مكة وبدر. وقوله: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} وهو عذاب النار في الآخرة نعوذ بالله من العذابين عذاب الخزي في الحياة الدنيا وعذاب النار في الدار الآخرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير كفاية الله وولايته لعباده المؤمنين وخاصة ساداتهم من الأنبياء والأولياء.
2- تقرير مقتضى الولاية وهو النقمة من أعدائه تعالى لأوليائه وإن طال الزمن.
3- تقرير التوحيد وإبطال التنديد.
4- مظاهر ربوبية الله الموجبة لألوهيته.
5- وجوب التوكل على الله واعتقاد كفايته لأوليائه.
6- تقرير إنجاز الله وعده لرسوله والمؤمنين.
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ(41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا
__________
1 - (من) استفهامية علقت فعل تعلمون عن العمل في مفعوليه.

وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ(43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(45)
شرح الكلمات:
إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق : أي أنزلنا عليك يا رسولنا القرآن بالحق أي ملتبسا به.
وما أنت عليهم بوكيل : أي ليس عليك أمر هدايتهم فتجبرهم على الإيمان.
الله يتوفى الأنفس حين موتها: أي ينهي حياة العباد بقبض أرواحهم عند نهاية آجالهم.
والتي لم تمت في منامها : أي يتوفاها وقت النوم يحبسها عن التصرف كأنها شيء مقبوض.
فيمسك التي قضى عليها الموت: يقبضها لحكمة بالموت عليها حال النوم.
ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى : أي التي لم يحكم بموتها يرسلها فيعيش صاحبها إلى نهاية أجله المعدود له.
إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون : أي في قبض الأرواح وإرسالها، والقدرة على ذلك دلائل وبراهين على قدرة الله تعالى على البعث الذي أنكره المشركون.

أم اتخذوا من دون الله شفعاء : أي كفار مكة لا يتفكرون ولو كانوا يتفكرون لما أنكروا البعث، ولا ما اتخذوا من دون الله شفعاء لوضوح بطلان ذلك.
قل أو لو كانوا لا يملكون شيئاً : أي قل لهم أيشفع لكم شركاؤكم ولو كانوا لا يملكون شيئاً ينكر عليهم دعواهم الشفاعة لهم وهي أصنام لا تملك ولا تعقل.
قل لله الشفاعة جميعا : أي أخبرهم أن جميع الشفاعات لله وحده فشفاعة الأنبياء والشهداء والعلماء والأطفال مملوكة لله فلا يشفع أحد إلا بإذنه.
وإذا ذكر الله وحده اشمأزت : أي وإذا ذكر الله وحده كقول الرسول صلى الله عليه وسلم لا إله إلا الله نفرت نفوس المشركين وانقبضت وظهر الغضب والسخط في وجوههم.
وإذا ذكر الذين من دونه : أي الأصنام والأوثان التي يعبدونها من دون الله تعالى.
إذا هم يستبشرون : أي فرحون جذلون وذلك لافتتانهم بها ونسيانهم لحق الله تعالى وهو عبادته وحده مقابل خلقه ورزقه لهم.
معنى الآيات:
إن السياق الكريم كان في عرض الصراع الدائر بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقومه المشركين فدافع الله تعالى عن رسوله ودفع عنه كل أذى ومكروه وتوعد خصومه بالعذاب في الدنيا والآخرة وهنا يسليه ويصبره فيقول له {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ(1)} أي القرآن {لِلنَّاسِ} أي لهداية الناس وإصلاحهم {بِالْحَقِّ} أي ملتبساً بالحق، فمن اهتدى بالقرآن فآمن وعمل صالحاً فعائد ذلك له حيث ينجو من النار ويدخل الجنة، ومن ضل لعدم قبوله هداية القرآن فأصر على الشرك والمعاصي فإنما يضل على نفسه أي عائد ضلاله على نفسه إذ هو الذي يحرم الجنة ورضا الله تعالى ويُلقى في النار خالداً فيها وعليه غضب من الله لا يفارقه أبدا.
وقوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} أي لم يوكل إليك أمر هدايتهم فتجد نفسك في هم من ذلك إن عليك إلا البلاغ المبين إنك لم تكلف حفظ أعمالهم ومحاسبتهم عليها، ولا أمر هدايتهم فتجبرهم على ذلك.
__________
1 - في الآية مزيد بيان شرفه صلى الله عليه وسلم بإنزال الكتاب عليه وتقرير رسالته، واللام في للناس للتعليل والباء في بالحق للملابسة. وفي الكلام محذوف تقديره لنفع الناس وهدايتهم بقرينة قوله بعد "فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه".

وقوله تعالى في الآية الثانية من هذا السياق (42): {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ(1)} أي يقبض أرواحها {حِينَ مَوْتِهَا} أي عند نهاية أجلها فيأمر تعالى ملك الموت فيخرج الروح بإذن الله ويقبضها، {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} أي يقبضها بمعنى يحبسها عن التصرف، حال النوم، فإن أراد موتها قبضها ولم يردها إلى جسدها، وإن لم يرد وفاتها أرسلها فتعود إلى الجسد ويعيش صاحبها إلى الأجل المسمى له وهي(2) نهاية عمره إن في ذلك القبض للروح والإرسال، والوفاة والإحياء لآيات أي دلائل وحجج كلها قاضية بأن القادر على هذا قادر على البعث والنشور الذي كذب به المشركون كما ن صاحب هذه القدرة العظيمة هو صاحب الحق المطلق في الطاعة والعبادة ولا تنبغي العبادة إلا له. وقوله {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وهم الأحياء بالإيمان أما الأموات وهم الكافرون فلا يجدون في ذلك آية ولا دليلاً لموتهم بالشرك والكفر.
وقوله تعالى في الآية الثالثة (43): {أَمِ اتَّخَذُوا(3) مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} أي بل اتخذ المشركون الذين كان المفروض فيهم أن يهتدوا على الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة لو كانوا يتفكرون بدل أن يهتدوا إلى توحيد الله اتخذوا من دونه أوثاناً سموها شفعاء يرجون شفاعتها لدى الله في قضاء حوائجهم. وذلك لجهلهم وسخف عقولهم. قال تعالى لرسوله: {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} أي قل لهم أيشفعون لكم ولو كانوا لا يملكون شيئا من أسباب الشفاعة ومقتضياتها ولو كانوا لا يعقلون معنى الشفاعة ولا يفهمونه لأنهم أصنام وأحجار والاستفهام للتبكيت والتقريع. لو كان القوم يشعرون. ثم أمر تعالى رسوله أن يعلن عن الحقيقة وإن كانت عند المشركين مُرة {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} أي جميع أنواع الشفاعة هي ملك لله مختصة به فلا يشفع أحد إلا بإذنه، إذاً فاطلبوا الشفاعة من مالكها الذي له ملك السموات والأرض، لا ممن هو مملوك له، ولا يعقل حتى معنى الشفاعة ولا يفهمها وقوله ثم
__________
1 - المراد بالأنفس الناس الذين يموتون إذ لفظ النفس يطلق على الذات ويطلق على الروح قال ابن عباس وغيره من المفسرين إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله منها فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد أمسك الله أرواح الأموات عنده وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها، قال علي رضي الله عنه فما رأته نفس النائم وهي في السماء قبل إرسالها إلى جسدها فهي الرؤيا الصادقة، وما رأته بعد إرسالها وقبل استقرارها في جسدها فلقيها الشياطين وتخيل إليها الأباطيل فهي الرؤيا الكاذبة.
2 - شاهد هذا من السنة حديث الصحيحين وفيه قوله صلى الله عليه وسلم إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض بداخله إزاره فإنه لا يدري من خلفه عليه ثم ليقل باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين. والشاهد في أمساك الروح في المنام وإرسالها.
3 - أم هذه هي المنقطعة وهي للإضراب الانتقالي وهو انتقال من تشنيع شركهم إلى إبطال معاذيرهم في شركهم.

إليه ترجعون أي بعد الموت أحببتم أم كرهتم؟ فاتخذوا لكم يداً عنده بالإيمان به وتوحيده في عبادته.
وقوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} هذا كشف عن حال المشركين، وما هم عليه من الجهل والسفه إنه إذا سمعوا لا إله إلا الله ينفرون وينقبضون ويظهر ذلك غضباً في وجوههم، يكادون يسطون على من قال لا إله إلا الله، وإذا ذكر الذين من دونه أي وإذا ذكر الأصنام التي يعبدونها من دون الله إذا هم يستبشرون فرحون مسرورون، وهذا عائد إلى افتتانهم بأصنامهم، ونسيانهم لحقوق ربهم عليهم وهي الإيمان به وعبادته وحده مقابل ما خلقهم ورزقهم ودبر حياتهم، ولكن أنى لأهل ظلمة النفس وانتكاس القلب أن يعوا ويفهموا؟.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر والثبات في أصعب الظروف.
2- مظاهر قدرة الله في الموت والحياة مما يقتضي الإيمان به وبلقائه وتوحيده.
3- إبطال حجة المشركين في عبادة الأوثان من أجل الشفاعة لهم إذا الشفاعة كلها لله.
4- بيان خطأ من يطلب الشفاعة من غير الله، إذ لا يملك الشفاعة إلا هو(1).
5- بيان سفه المشركين وضلالهم في غضبهم عند سماع التوحيد، وفرحهم عند سماع الشرك.
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ(47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(48)
__________
1 - الشفاعة أمر معنوي فملكها معناه تحصيل إجابتها إذ الأمور المعنوية لا تملك.

شرح الكلمات:
قل اللهم فاطر السموات والأرض: قل يا نبينا: يا الله خالق السموات والأرض.
عالم الغيب والشهادة : أي يا عالم الغيب وهو كل ما غاب عن الأبصار والحواس والشهادة خلاف الغيب.
فيما كانوا فيه يختلفون : أي من أمور الدين عقائد وعبادات.
ولو أن للذين ظلموا : أي ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي.
وبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون: أي وظهر لهم من عذاب الله ما لم يكونوا يظنونه.
وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون: وأحاط بهم العذاب الذي كانوا في الدنيا يستهزئون به.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ(1)} هذا إرشاد من الله تعالى لرسوله أن يفزع إليه بالدعاء والضراعة إذ استحكم الخلاف بينه وبين خصومه وضاق الصدر أي قل يا رسولنا يا الله {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي خالقهما، {عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي ما غاب عن الأبصار والحواس فلم يُدرَك، والشهادة وهو ما رؤي بالأبصار وأدرك بالحواس {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ} مؤمنهم وكافرهم {فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُون} من الإيمان بك وبلقائك وصفاتك وعبادتك ووعدك ووعيدك اهدني لما اختلفوا فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط المستقيم.
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي أنفسهم بالشرك وهو الظلم العظيم وبغشيان المعاصي والذنوب لو أن لهم عند معاينة العذاب يوم القيامة {مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} من أموال ونفائسها ومثله معه وقبل منهم الفداء {لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ} ولما تردّدوا أبداً وهذا دالٌّ على شدّة العذاب وأنه لا يطاق ولا يحتمَل مع حرمانهم من الجنة ونعيمها.
وقوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ(2)} أي وظهر لهم أي لأولئك الذين إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم وإذا ذكرت الأصنام فرحوا بذلك واستبشروا وبدا لهم من ألوان العذاب ما لم يكونوا يظنون ولا يحتسبون. وقوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ(3) مَا كَسَبُوا} أي من
__________
1 - رواه مسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح به صلاته من الليل وروي عن سعيد بن جبير أنه قال إني لأعرف آية ما قرأها أحد قط فسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه قوله {قل اللهم فاطر السموات} .. الخ".
2 - روي أن محمد ابن المنذر جزع عند موته جزعاً شديداً وقيل له ما هذا الجزع؟ قال: أخاف آية من كتاب الله {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون}.
3 - السيئات جمع سيئة وهو وصف أضيف إلى موصوفه وهو الموصول {ما كسبوا} أي مكسوباتهم السيئات وتأنيثها باعتبار شهرة إطلاق السيئة على الفعلة القبيحة.

من الشرك والكفر والفسق والعصيان أي ظهر لهم وتجلى أمامهم فاشتد كربهم وعظم الأمر عندهم، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون أي أحاط بهم وحدق عليهم العذاب الذي كانوا إذا ذكر لهم وعيداً وتخويفاً استهزءوا به وسخروا منه وممن ذكرهم به ويخوفهم منه كالرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية اللجوء إلى الله تعالى عند اشتداد الكرب وعظم الخلاف والدعاء بهذا الدعاء وهو "اللهم ربّ
جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" إذ ثبتت السنة به. والآية ذكرت أصله.
2- بيان عظم العذاب وشدته يوم القيامة وأن المرء لو يقبل منه فداء لافتدى منه بما في الأرض من أموال ومثله
معه.
3- التحذير من الاستهزاء بأخبار الله تعالى ووعده ووعيده.
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ(51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(52)

شرح الكلمات:
فإذا مس الإنسان ضر دعانا : أي أصاب الإنسان الكافر ضر أي مرض وغيره مما يضره دعانا أي سأل كشف ضره.
ثم إذا خولناه نعمة منا : ثم إذا خولناه أي أعطيناه نعمة منا من صحة أو مال وغيرهما.
قال إنما أوتيته على علم : قال أي ذلك الكافر إنما أوتيت ذلك العطاء على علم من الله بأني أستحقه.
بل هي فتنة : أي تلك النعمة لم يعطها لأهليته لها، وإنما أعطيها فتنة واختباراً له.
ولكن أكثرهم لا يعلمون : أي أن ما أعطوه من مال وصحة وعافية هو فتنة لهم وليس لرضا الله تعالى عنهم.
قد قالها الذين من قبلهم : أي قال قولتهم من كان قبلهم كقارون فلم يلبثوا أن أخذوا فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون.
والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم : أي والذين ظلموا بالشرك من هؤلاء أي من كفار قريش.
سيئات ما كسبوا(1) : أي كما أصاب من قبلهم وقد أصابهم قحط سبع سنين وقتلوا في بدر.
وما هم بمعجزين : أي فائتين الله تعالى ولا غالبين له.
أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق : أي أقالوا تلك المقالة ولم يعلموا أن الله يبسط الرزق.
لمن يشاء ويقدر : أي يوسعه لمن يشاء امتحانا، ويضيقه ابتلاء.
إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون: أي إن في ذلك المذكور من التوسعة امتحانا والتضييق ابتلاء لآيات أي علامات على قدرة الله وكمال تدبيره لأمور خلقه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان حيرة المشركين وفساد قلوبهم نتيجة كفرهم وجهلهم فقوله تعالى:
__________
1 - أي أصابهم سوء كسبهم وقبحه وهو ما عملوه من سيئات الشرك والمعاصي.

{فَإِذَا مَسَّ(1) الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا} يعني ذاك الكافر الذي إذا ذكر الله وحده اشمأزت نفسه وإذا ذكرت الأوثان سُر وفرح واستبشر هذا الإنسان إذا مسّه ضرّ من مرض أو غيره مما يضر ولا يسر دعا ربه منيباً إليه ولم يشرك معه فيه هذه الحال أحداً لعلمه أن الأوثان لا تكشف ضراً ولا تعطي خيراً، وإذا خوله الله تعالى نعمة من فضله ابتلاء له قال إنما أوتيت الذي أوتيت على علم من الله بأني أهل لذلك(2)، فأكذبه الله تعالى فقال بل هي فتنة، ولكن أكثرهم أي أكثر المشركين لا يعلمون أن الله تعالى إذا أعطاهم إنما أعطاهم ليفتنهم لا لحبه لهم ولا لرضا عنهم. والدليل على أن ذلك العطاء للمشركين فتنة لا غير أن قولتهم هذه قد قالها الذين من قبلهم كقارون وغيره فلم يلبثوا حتى أخذهم الله بذنوبهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون من أموال طائلة، قال تعالى: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} فلم يؤاخذوا بدون ذنب بل أخذوا بذنوبهم وهو قوله تعالى فأصابهم سيئات(3) ما كسبوا وقوله تعالى {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ} أي من كفار قريش سيصيبهم أيضاً سيئات ما كسبوا من الشرك والعناد والظلم، وما هم بمعجزين لله فائتينه أبداً وكيف وقد أصابهم قحط سبع سنين وقتلوا وأسروا في بدر والفتح.
وقوله تعالى {أَوَلَمْ(4) يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أي أقالوا مقالتهم تلك ولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء امتحاناً له أيشكر أم يكفر ويقدر أي يضيق على من يشاء ابتلاء له أيصبر أم يضجر ويسخط فلم يكن بسطه الرزق حباً في المبسوط له، ولا التضييق كرهاً للمضيق عليه، وإنما البسط كالتضييق لحكمة التربية والتدبير، ولكن الكافرين لا يعلمون هذا فجهلهم بالحكم جعلهم يقولون الباطل ويعتقدونه أما المؤمنون فلا يقولون مقالتهم لعلمهم ونور قلوبهم فلذا هم يجدون الآيات في مثل هذا التدبير واضحة دالة على علم الله وحكمته وقدرته فيزدادون إيماناً ونوراً وبصيرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان تناقض أهل الكفر والجهل والضلال في كل حياتهم لأنهم يعيشون على ظلمة الجهل
__________
1 - في هذه الآية بيان حقيقة وهي أن كفار قريش كانوا يؤمنون بالله رباً فهم أفضل من كفار البلاشفة الشيوعيين الذين لا يؤمنون بالله تعالى كما أن كفار قريش أحسن حالا من بعض جهال المسلمين اليوم إذ يخلصون الدعاء لله في الشدة وجهال المسلمين يشركون في الرخاء والشدة معا وذلك بدعائهم الأولياء والأموات والاستغاثة بهم في كل حال.
2 - قال بعضهم على علم أي بوجوه الكسب وطرق تنمية المال وتكثيره حتى لا يحمد الله ولا يشكره ولا منافاة بين هذا وما في التفسير إذ بعضهم يقول هذا وبعض يقول ذاك.
3 - أي جزاء سيئات كسبهم من الشرك والشر والفساد.
4 - الاستفهام إنكاري ينكر تعالى عليهم انتفاء علمهم بذلك لأنهم تسببوا في انتفاء العلم فلذا تضمن الاستفهام توبيخاً لهم.

والكفر.
2- تقرير ما من(1) مصيبة إلا بذنب جلي أو خفي كبير أو صغير.
3- بيان أن بسط الرزق وتضييقه على الأفراد أو الجماعات لا يعود إلى حب الله للعبد أو كرهه له، وإنما يعود لسنن التربية الإلهية وحكم التدبير لشؤون الخلق.
4- أهل الإيمان هم الذين ينتفعون بالآيات والدلائل لأنهم أحياء يبصرون ويعقلون أما أهل الكفر فهم أموات لا يرون الآيات ولا يعقلونها.
5- تهديد الله تعالى للظالمين ووعيده الشديد بأنه سيصيبهم كما أصاب غيرهم جزاء ظلمهم وكسبهم الفاسد.
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ(54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ(55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ(56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ(58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ(59)
__________
1 - شاهده قوله تعالى {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} الآية من الشورى وقوله صلى الله عليه وسلم "والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو عنه أكثر" رواه ابن أبي حاتم. قال لما نزلت هذه الآية قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

شرح الكلمات:
يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم: أي أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي.
لا تقنطوا من رحمة الله : أي لا تيأسوا من المغفرة لكم ودخول الجنة.
إن الله يغفر الذنوب جميعا: أي ذنوب من أشرك وفسق إن هو تاب توبة نصوحاً.
وأنيبوا إلى ربكم: أي ارجعوا إليه بالإيمان والطاعة.
وأسلموا له : أي أخلصوا له أعمالكم.
واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم: أي القرآن الكريم فأحلوا حلاله وحرموا حرامه.
أن تقول نفس يا حسرتى : أي نفس الكافر والمجرم يا حسرتى أي يا ندامتي.
على ما فرطت في جنب الله : أي في جانب حق الله فلم أطعه كما أطاعه غيري.
وإن كنت لمن الساخرين : أي المستهزئين بدين الله تعالى وعباده المؤمنين.
لو أن لي كرة فأكون من المحسنين: أي لو أن لي رجعة إلى الدنيا فأكون إذاً من المؤمنين الذين أحسنوا القصد والعمل.
بلى قد جاءتك آياتي : أي ليس الأمر كما تزعم أنك تتمنّى الهداية بل قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت.
معنى الآيات:
لقد صح أن أناسا(1) كانوا قد أشركوا وقتلوا وزنوا فكبر عليهم ذلك وقالوا نبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يسأله لنا هل لنا من توبة فإن قال: نعم، وإلا بقينا على ما نحن عليه وقبل أن يصل رسولهم نزلت هذه الآية {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أي أفرطوا في ارتكاب الجرائم فكانوا بذلك مسرفين على أنفسهم {لا تَقْنَطُوا} أي لا تيأسوا {مِنْ رَحْمَةِ} في أن يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم الجنة، إن أنتم تبتم إليه وأنبتم {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ(2) جَمِيعاً} لمن تاب منها فإنه تعالى لا يستعصي عليه ذنب فلا يقدر على مغفرته وعدم المؤاخذة عليه إنه هو الغفور الرحيم.
__________
1 - لقد ذكر لسبب نزول هذه الآية عدة مناسبات وما دامت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فلا حاجة إلى ذكرها وما في التفسير كافٍ وهو ما تضمنته رواية البخاري.
2 - قوله تعالى {إن الله يغفر الذنوب جميعا} تعليل للنهي عن اليأس والقنوط من رحمة الله.

وقوله تعالى: {وَأَنِيبُوا(1) إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ(2)} أي أيها المذنبون المسرفون أنيبوا ربكم أي ارجعوا إلى طاعته بفعل المأمور وترك المنهي وأسلموا له أي أخلصوا أعمالكم ظاهراً وباطناً له مبادرين بذلك حلول العذاب قبل أن يحل بكم ثم لا تنصرون أي لا تقدرون على منعه منكم ولا دفعه عنكم.
{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} في هذا القرآن العظيم فامتثلوا الأمر واجتنبوا النهي وخذوا بالعزائم واتركوا الرخص مبادرين بذلك أيضاً حلول العذاب قبل أن يحل بكم بغتة أي فجأة وأنتم لا تشعرون به، بادروا بالتوبة والإنابة والإسلام الصادق ظرفاً تقول فيه النفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله أي يا حسرتى(3) يا ندامتي الحاملة لي الغم والحزن احضري هذا وقت حضورك على تفريطي في جانب(4) حق الله تعالى حيث ما عبدته حق عبادته فلا ذكرته ولا شكرت له {وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} أي المستهزئين بدينه وعباده المؤمنين يا له من اعتراف يؤدي بصاحبه في سواء الجحيم، بادروا يا عباد الله هذا وذاك {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي(5) لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً(6)} أي رجعة إلى الحياة الدنيا {فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي المؤمنين الذين أحسنوا النية والقصد والعمل. قال تعالى رداً على تمنياتهم الكاذبة: {بَلَى} أي ليس الأمر كما زعمت أيها المتمني بقولك {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} للشرك والمعاصي التي وقعت بها في جهنم بل جاءتك آياتي هادية لك مرشدة فكذبت بها واستكبرت عن العمل بما جاء فيها وكنت من الكافرين بذلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان فضل الله ورحمته على عباده بقبول توبة العبد إن تاب مهما كانت ذنوبه.
2- دعوة الله الرحيم إلى عباده المذنبين – بالإنابة إليه والإسلام الخالص له.
3- تقرير البعث والجزاء بذكر ما يحدث فيه وما يجري في ساحته من أهوال.
__________
1 - الإنابة التوبة ولما في التوبة من معنى الرجوع عدي الفعل بإلى.
2 - النصر: الإعانة على الغلبة بحيث يتخلص المغلوب من يد غالبه ولا نصير لأحد على الله تعالى.
3 - الحسرة: الندامة الشديدة والألف في (يا حسرتى) عوض عن ياء المتكلم.
4 - قال الحسن في طاعة الله وقال الضحاك في ذكر الله يعني القرآن والعمل به، وقال أبو عبيدة أي في ثواب الله وما في التفسير جامع شامل والجنب والجانب بمعنى واحد.
5 - هذه كلمة حق أريد بها باطل كما قال علي للخوارج لما قالوا لا حكم إلا لله.
6 - الكرة: الرجعة ولو للتمني فهي وليت سواء.

1- وجوب تعجيل التوبة والمبادرة بها قبل حلول العذاب في الدنيا أو الموت والموت أدهى وأمر حيث لا تقبل توبة بعد الموت أبداً.
2- الترغيب في الأخذ بالعزائم وترك الرخص لغير ضرورة.
3- إبطال مذهب الجبرية الذين يرون أنهم مجبورون على فعل المعاصي وغشيان الذنوب، كقول أحدهم لو أن الله هداني لفعلت كذا أو تركت كذا.
4- فضل التقوى والإحسان وفضل المتقين والمحسنين.
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ(60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ(64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ(66)
شرح الكلمات:
ويوم القيامة : أي بأن يبعث الناس من قبورهم.
ترى الذين كذبوا على الله: أي باتخاذ أولياء من دونه وبالقول الكاذب عليه سبحانه وتعالى.

وجوههم مسودة : أي سوداء من الكرب والحزن وعلامة على أنهم من أهل النار وأنهم ممن كذبوا على ربهم.
أليس في جهنم مثوى للمتكبرين : أي أليس في جهنم مأوى ومستقر للمتكبرين؟ بلى إن لهم فيها لمثوى بئس هو من مثوى للمتكبرين عن عبادة الله تعالى.
وينجي الله الذين اتقوا : أي ينجيهم من النار بسبب تقواهم للشرك والمعاصي.
بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون : أي بفوزهم بالجنة ونزولهم فيها لا يمسهم السوء أي العذاب ولا هم يحزنون لما نالهم من النعيم.
له مقاليد السموات والأرض: أي مفاتيح خزائن السموات والأرض.
أولئك هم الخاسرون : أي الخاسرون لأنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
قل أفغير الله تأمروني أعبد: قل يا رسولنا للذين طلبوا منك أن تعبد معهم آلهتهم أتأمروني بعبادة غير الله، فهل تصلح العبادة لغيره وهو رب كل شيء وإلهه فما أسوأ فهمكم أيها الجاهلون.
لئن أشركت : أي من باب الفرض لو أشركت بالله غيره في عبادته لحبط عملك ولكنت من الخاسرين.
بل الله فاعبد وكن من الشاكرين: أي بل اعبد الله وحده، إذ لا يستحق العبادة إلاّ هو وكن من الشاكرين له على إنعامه عليك بالنبوة والرسالة والعصمة والهداية.
معنى الآيات:
لقد تقدم في السياق الأمر بتعجيل التوبة قبل الموت فيحصل الفوت، وذلك لأن يوم القيامة يوم أهوال وتغير أحوال وفي الآيتين الآتيتين بيان ذلك قال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ(1)} بأن نسبوا إليه الولد والشريك والتحليل والتحريم وهو من ذلك براء هؤلاء {وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ}( 2) علامة أنهم كفروا وكذبوا وأنهم من أهل النار.
__________
1 - هم الذين نسبوا إليه ما هو منزه عنه كالشريك والصاحبة والولد، ويدخل في هذا كل من نسب إلى الله تعالى صفة لا دليل له فيها، وكذا من شرع شيئا ونسبه إلى الله تعالى ليقبل منه ويروج، ولا يدخل أهل الاجتهاد إذا أخطأوا في الأدلة والحكم المقيس الذي لا نص فيه ولا يجوز أن يقال فيه قال الله أو أمر أو شرع تحاشياً من النسبة إلى الله تعالى بغير نص من كتاب أو سنة.
2 - جملة وجوههم مسودة مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال، لأن الرؤيا بصرية وليست قلبية.

وقوله تعالى: {أَلَيْسَ(1) فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (2) } أي بلى في جهنم مأوى ومستقر للمتكبرين الذين تكبروا عن الإيمان والعبادة. وقوله تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ} أي تلك حال وهذه أخرى وهي أن الله تعالى ينجي يوم القيامة الذين اتقوا الشرك والمعاصي بالإيمان والطاعة هؤلاء بفوزهم بالجنة لا يمسهم السوء في عرصات القيامة، ولا هم يحزنون على ما خلَّفوا وراءهم في الدنيا لأن ما نالهم من نعيم الجنة أنساهم ما تركوا وراءهم وقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي ما من كائن سوى الله تعالى إلا وهو مخلوق والله خالقه {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي قيم حافظ، فسبحانه ما أعظم قدرته وما أوسع علمه فلذا وجبت له العبادة ولم تجز فضلاً عن أن تجب لسواه.
وقوله تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ(3)} أي له ملكاً حقاً مفاتيح خزائن الرحمات والخيرات والبركات فهو يفتح ما يشاء ويمسك ما يشاء فلا يصح الطلب إلا منه ولا تجوز الرغبة إلا فيه وما عبد الناس الأوثان والأصنام إلا رغبة ورهبة فلو علموا أن رهبتهم لا تكون إلا من الذي يقدر على كل شيء وأن رغبتهم لا تكون إلا في الذي بيده كل شيء لو علموا هذا ما عبدوا غير الله تعالى بحال.
وقوله تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ} الحاوية لإيمانه وصفاته وبيان محابه ومكارهه وحدوده وشرائعه ولذا من كفر بآيات الله فلم يؤمن بها ولم يعمل بما فيها خسر خسراناً مبيناً بحيث يخسر يوم القيامة نفسه وأهله، وذلك هو الخسران المبين.
وقوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ} الآية هذا ردّ على المشركين الذين طلبوا من الرسول أن يعترف بآلهتهم ويرضى بها مقابل أن يعترفوا له بما جاء به ويدعو إليه فأمر تعالى أن يفاصلهم بقوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ(4) اللَّهِ تَأْمُرُونِّي(5) أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} لن يكون هذا مني أبداً كيف أعبد غير الله وهو
__________
1 - الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا والاستفهام للتقرير.
2 - التكبر شدة الكبر وهو إظهار المرء التعاظم على غيره لأنه يعد نفسه عظيما وفي التنديد به من حديث مسلم "إن الله لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردل من كبر"
3 - المقاليد جمع إقليد وجمع على غير قياس والمراد مفاتيح خزائن السماء والأرض حيث أرزاق العباد وما به تقوم حياتهم، من أمطار وزروع وضروع ومعادن وغيرها.
4 - غير منصوب بأعبد، وأعبد مرفوع لحذف أن مع حرف الجر إذ الأصل بأن أعبد فلما حذف الناصب ارتفع الفعل. هذا على رأي كثير من النحاة والجمهور يقولون لا حذف وأعبد هو المستفهم عنه، وتأمروني اعتراض أو حال وتقدير الكلام أأعبد غير الله لكونكم تأمروني بذلك.
5 - قرأ نافع تأمرون بنون واحدة مخففة بحذف إحدى النونين، وقرأ حفص والجمهور تأمروني بتشديد النون إدغاماً لإحدى النونين في الأخرى وفي جملة أيها الجاهلون تقريع لهم ووصف لهم بالجهل وهو وصف مذموم.

ربي ومالك أمري وهو الذي كرمني بالعلم به وأوحى إليّ شرائعه. فلتيأسوا فإن مثل هذا لن يكون أبداً، ووصفهم بالجهل لأن جهلهم(1) بالله وعظمته هو الذي سول لهم عبادة غيره والتعصب لها.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ} أي أوحى الله إليك كما أوحى إلى الأنبياء من قبلك بالتالي وهو وعزة الله وجلاله {لَئِنْ أَشْرَكْت} بنا غيرنا في عبادتنا ليحبطن(2) عملك أي يبطل كله ولا تثاب على شيء منه وإن قل، ولتكونن بعد ذلك من جملة الخاسرين الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وذلك هو الخسران المبين. ثم أمر تعالى رسوله مقرراً التوحيد مبطلاً الشرك بقوله: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ(3) وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أي الله وحده فاعبده وكن من الشاكرين له على إنعامه وإفضاله عليك.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- اسوداد الوجه يوم القيامة علامة الكفر والخلود في جهنم.
2- ابيضاض الوجوه يوم القيامة علامة الإيمان(4) والخلود في الجنة.
3- تقرير البعث والجزاء بوصف أحواله وما يدور فيه.
4- بيد الله كل شيء فلا يصح أن يطلب شيء من غيره أبداً، ومن طلب شيئاً من غير الله فهو من أجهل الخلق.
5- التنديد بالشرك وبيان خطورته إذ هو محبط للأعمال بالكلية.
6- وجوب عبادة الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه ووجوب حمده وشكره إذ كل إنعام منه وكل إفضال له. فلله الحمد والمنة.
__________
1 - العرب مع أنهم أميون يعترفون بفضل العالم على الجاهل قال شاعرهم:
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم
فليس سواء عالم وجهول
2 - حبوط العمل بطلانه حيث لا يثاب عليه والخسران مقيد بأن يموت على الردة أما إن راجع الإسلام فلا يخسر لآية {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر} فالآية مقيدة لإطلاق آية الزمر.
3 - بل للإبطال أي إبطال عبادة ما دعاه إليه المشركون وقصره على عبادة الله وحده وأمره أن يكون في جملة الشاكرين لله إنعامه عليهم بنعمة الإسلام.
4 - شاهده آية آل عمران {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} الآية.

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ(68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ(70)
شرح الكلمات:
وما قدروا الله حق قدره : أي ما عظموا الله حق عظمته ولا عرفوه حق معرفته حين أشركوا في عبادته غيره من أوثانهم.
والأرض جميعاً قبضته : أي والأرض بجميع أجزائها قبضته.
والسموات مطويات بيمينه: أي والسموات السبع مطويات بيمينه.
سبحانه وتعالى عما يشركون : أي تقدس وتنزه عما يشرك به المشركون من أوثان.
ونفخ في الصور : أي نفخ إسرافيل نفخة الصعق.
ثم نفخ فيه أخرى : أي مرة أخرى وهي نفخة القيام لرب العالمين.
وأشرقت الأرض بنور ربها : أي أضاءت الأرض بنور الله تعالى حين يتجلى لفصل القضاء.
ووضع الكتاب : أي كتاب الأعمال للحساب.
وجيء بالنبيين والشهداء : أي بالنبيين ليشهدوا على أممهم، والشهداء محمد صلى الله عليه وسلم وأمته.
وفضي بينهم بالحق : أي بالعدل وهم لا يظلمون لا بنقص حسناتهم ولا بزيادة سيئاتهم.
وهو أعلم بما يفعلون : أي أعلم حتى من العاملين أنفسهم.

معنى الآيات:
قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}( 1) إنه بعد أن قرر تعالى التوحيد وندد بالشرك والمشركين أخبر تعالى ناعيا على المشركين شركهم ودعوتهم نبيه للشرك بأنهم بفعلهم ذلك ما قدروا الله حق قدره أي ما عظموه حق عظمته وذلك لجهلهم به تعالى حين عبدوا معه غيره ودعوا نبيه إلى دلك، وقوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً(2) قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}( 3) فالذي يجعل الأرض بكل طبقاتها وأجزائها في قبضته والسموات يطويها بيمينه فالسموات والأرض جميعا في يده، ويقول أنا الملك أين الملوك. فصاحب هذه القدرة العظمى كيف يعبد معه آلهة أخرى هي أصنام وتماثيل أوثان. لذا نزه تعالى نفسه بقوله {سُبْحَانَهُ} أي تنزه وتقدس عن الشريك والنظير والصاحبة والولد وعن صفات المحدثين، وتعالى عما يشركون أي ترفع عن أن يكون له شريك وهو رب كل شيء ومليكه.
وقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ(4)} الآية هذا عرض لمظاهر القدرة التي يتنافى معها عقلاً وجود من يستحق العبادة معه سبحانه وتعالى، والنافخ في الصور أي البوق إسرافيل قطعاً إذ هو الموكل بالنفخ في الصور فإذا نفخ هذه النفخة صعق من(5) في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فهذا استثناء دال على أن بعضاً من المخلوقات لم يصعق في هذه النفخة، {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ} أي في الصور نفخة {أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} هذه النفخة تسمى نفخة القيام لله رب العالمين لأجل الحساب وقوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ(6)} أي كتاب الأعمال للحساب {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ} ليشهدوا على أممهم وجيء بالشهداء وهم أمة
__________
1 - حق قدره فيه إضافة الصفة إلى الموصوف فحق صفة، والقدر موصوف إذ الأصل (ما قدروا الله قدره الحق) فالحق منصوب على النيابة عن المفعول المطلق.
2 - جرد جميع من التاء إذ لم يقل والأرض جميعة جريا على الغالب وقد أثبتت في قول الشاعر:
فلو أنها نفس تموت جميعة
ولكنها نفس تساقط أنفساً
ونصب جميعا على الحال.
3 - شاهده في البخاري قوله صلى الله عليه وسلم "يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض؟ وفي الترمذي وصححه عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى {والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه} قالت قلت فأين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال: على جسر جهنم، وفي رواية على الصراط يا عائشة".
4 - الصور البوق ينادى به البعيد المتفرق مثل الجيش، والمراد هنا نداء الخلق لحضور الحشر أحياء للحساب والجزاء.
5 - بالتتبع للآيات القرآنية المتضمنة لأحوال الدار الآخرة نجد أن النفخات للصور أربع نفخات: وهي نفخة الفناء، ونفخة البعث، ونفخة الصعق، ونفخة القيام لرب العالمين. وفي هذه الآيات ذكر نفخة الصعق ونفخة القيام لرب العالمين سميت هذه نفخة صعق لأن الخلائق يصعقون ولا يموتون بدليل حديث البخاري "فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله تعالى" لفظ مسلم . قال القرطبي والإفاقة إنما تكون من غشية وزوال عقل لا عن موت برد الحياة والله أعلم.
6 - الكتاب اسم جنس والمراد صحائف أعمال العباد الحاوي للحسنات والسيئات.

محمد يشهدون على الأمم السابقة بأن رسلها قد بلغتهم دعوة الله، وشهادة أمة محمد قائمة على ما أخبرهم تعالى في كتابه القرآن الكريم أن الرسل قد بلغت رسالات ربها لأممها، ويدل لهذا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} أي خياراً عدولاً {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} وقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} أي وحكم الله تعالى بين العباد بالعدل، ووفي كل نفس ما عملت من خير أو شر، وهو تعالى أعلم بما يفعلون حتى من العاملين أنفسهم ولذا سيكون الحساب عادلا لا حيف فيه لخلوه من الخطأ والغلط والجهل والنسيان لتنزه الباري عز وجل عن ذلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان مظاهر عظمة الرب تعالى التي يتنافى معها الشرك به عز وجل في عباداته.
2- تقرير البعث والجزاء ببيان أحواله وما يجري فيه.
3- بيان عدالة الله في قضائه بين عباده في عرصات القيامة.
4- فضيلة هذه الأمة بقبولها شاهدة على الأمم التي سبقتها.
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ(71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ(72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ(73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ

نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ(74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(75)
شرح الكلمات:
وسيق الذين كفروا : أي وساق الملائكة بعنف الذين كفروا.
إلى جهنم زمراً : أي جماعات، جماعة المشركين وجماعة المجرمين وجماعة الظالمين.
وقال لهم خزنتها : أي الموكلون بالنار من الملائكة الواحد خازن.
ألم يأتكم رسل : هذا الاستفهام للتقرير والتوبيخ.
حقت كلمة العذاب : أي وجب العذاب للكافرين.
وسيق الذين اتقوا : أي وساقت الملائكة بلطف على النجائب الذين اتقوا ربهم أي أطاعوه ولم يشركوا به.
وفتحت أبوابها : أي والحال أن أبواب الجنة قد فتحت لاستقبالهم.
والحمد لله الذي صدقنا وعده : أي أنجز لنا وعده بالجنة.
وأورثنا الأرض : أي أرض الجنة وصورة الإرث نظراً إلى قوله تعالى في وعده لهم تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً.(1)
نتبوأ من الجنة حيث نشاء : أي ننزل من حيث نشاء.
فنعم أجر العاملين : أي الجنة.
حافين من حول العرش : أي محدقين بالعرش من كل جانب.
يسبحون بحمد ربهم : أي يقولون سبحان الله وبحمده.
وقضي بينهم بالحق : أي وقضى الله بمعنى حكم بين جميع الخلائق بالعدل.
وقيل الحمد لله رب العالمين: أي وقالت الملائكة والمؤمنون الحمد لله رب العالمين على استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار.
__________
1- وجه الورث أن الله تعالى خلق لكل إنسان منزلا في النار وآخر في الجنة ثم هم يتوارثون فأهل الجنة يرثون منازل أهل النار في الجنة وأهل النار يرثون منازل أهل الجنة في النار.

معنى الآيات:
بعد الفراغ من الحكم على أهل الموقف وذلك بأن حكم الله تعالى فيهم بحسب عملهم فوفّى كل عامل بعمله من كفر ومعاص، أو إيمان وطاعة قال تعالى مخبراً عن مصير الفريقين {وَسِيقَ(1) الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ساقهم الملائكة بشدة وعنف لأنهم لا يريدون الذهاب {إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} أي جماعات ولفظ الزمرة مشتق من الزمر الذي هو الصوت إذ الغالب في الجماعة أن يكون لها صوت. وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} إذ كانت مغلفة كأبواب السجون لا تفتح إلا عند المجيء بالسجناء، {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا (2)} قبل الوصول إليها موبخين لهم {أَلَمْ يَأْتِكُمْ(3) رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} أي المبينة لكم الهدى من الضلال والحق من الباطل، وما يحب ربكم من العقائد والأقوال والأعمال والصفات والذوات وما يكره من ذلك، ويدعوكم إلى فعل المحاب لتنجوا وترك المكاره لتنجوا وتسعدوا. فأجابوا قائلين بلى أي جاءتنا بالذي قلتم ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين ونحن منهم فوجب لنا العذاب، وعندئذ تقول لهم الملائكة ادخلوا(4) أبواب جهنم خالدين فيها، فبئس مثوى المتكبرين أي قبح مأوى المتكبرين في جهنم من مأوى.
وقوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ(5) اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ} وسوقهم هو سوق النجائب التي يركبونها فهو سوق لطف وتكريم إلى الجنة دار السلام زمراً زمرة الجهاد وزمرة الصدقات وزمرة العلماء وزمرة الصلوات .... {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} وقد فتحت(6) أبوابها من قبل لاستقبالهم مُعَزَزين مكرمين، فقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم أي طابت أرواحكم بأعمالكم الطيبة فطاب مقامكم في دار السلام فنعم التحية حيوا بها مقابل تأنيب وتوبيخ الزبانية لأهل النار. وقوله لهم فادخلوها أي الجنة حال كون خلودكم مقدراً لكم فيها. فقالوا بعد دخولهم الجنة ونزولهم في
__________
1- هذا بيان توفية كل نفس عملها فيساق الذين كفروا إلى النار والذين آمنوا إلى الجنان والزمر جمع زمرة كظلمة وظلم وغرفة وغرف، وهي جماعة بعد جماعة قال الشاعر:
وترى الناس إلى منزله
زمراًً تنتابه بعد زمرة
2- الخزنة جمع خازن كسدنة وسادن.
3- الاستفهام للتقرير مع التوبيخ والتقريع.
4- قال وهب: تستقبلهم الزبانية بمقامع من حديد فيدفعونهم بمقامعهم فإنه ليقع في الدفعة الأولى بعدد ربيعة ومضر. قال تعالى {ولهم مقامع من حديد}.
5- سوق أهل النار طردهم إلى النار بالخزي والهوان كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان وسوق أهل الجنة سوق مراكبهم إلى دار السلام إنهم لا يذهب بهم إلا راكبين وشتان ما بين السوقين.
6- قرأ نافع والجمهور فتحت بتشديد التاء في الأولى والثانية وقرأ حفص بالتخفيف، والواو في قوله وفتحت واو الحال والجملة حالية في محل نصب.

قصورها الحمد لله الذي صدقنا وعده يعنون قوله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً}، وقوله: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} أي أرض الجنة نتبوأ منها حيث نشاء أي ننزل منها حيث نريد النزول، وفي قولهم أورثنا الأرض إشارة إلى أنهم ورثوها من أبويهم آدم وحواء إذ كانت لهم قبل نزولهما منها. وقولهم فنعم أجر العاملين أي الجنة والمراد من العمل الإيمان والتقوى في الدنيا، بأداء الفرائض واجتناب النواهي وقوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ} أيها الرائي {حَافِّينَ مِنْ(1) حَوْلِ الْعَرْشِ} أي محدقين بعرش الرحمن أي سريره {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي قائلين: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم. قال تعالى مخبرا عن نهاية الموقف: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} أي وقضى الله بين الخلائق بالعدل، ولما استقر أهل النار وأهل الجنة حُمد الله على الاستقرار التام والحكم العادل الرحيم وقيل الحمد لله رب(2) العالمين أي حمدت الملائكة ربها وحمده معهم المؤمنون وهم في دار النعيم المقيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان إهانة أهل النار بسوقهم على أرجلهم بعنف وتأنيبهم وتوبيخهم.
2- التنديد بالاستكبار عن عبادة الله تعالى، وعباده المؤمنين به، المتقين له.
3- بيان إكرام الله تعالى لأوليائه إذ يحملون على نجائب رحالها من ذهب إلى الجنة، ويلقون فيها تحية وسلاماً. تحية احترام وإكرام، وسلام أمان من كل مكروه.
4- بيان نهاية الموقف باستقرار أهل النار من الكفار والفجار في النار، واستقرار أهل الجنة من المؤمنين الأتقياء الأبرار في الجنة دار الأبرار.
5- ختم كل عمل بالحمد لله فقد ابتدأ الله الخالق بالحمد فقال الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وختم بالحمد، وقيل الحمد لله رب العالمين.
__________
1- من زائدة لتقوية الكلام نحو ما جاءني من أحد.
2- قال قتادة في هذه الآية افتتح الله أول الخلق بالحمد فقال: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور) وختم بالحمد فقال "وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين" فحسن الاقتداء به فيبدأ العبد قوله بالحمد ويختمه بالحمد.

سورة غافر
...
سورة غافر(1)
مكية
وآياتها خمس وثمانون آية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حم(1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(2) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ(3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ(4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ(5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ(6)
__________
1- وتسمى أيضا سورة المؤمن وسورة الطول وهي أول ال حم التي يقال لها ديباج القرآن وعرائس القرآن ويقال ذوات حم وذكر القرطبي أن رجلا من أهل الشام كان ذا بأس شديد فقيل لعمر وقد سأل عنه أنه تتابع في هذا الشراب فقال عمر لكاتبه اكتب من عمر إلى فلان سلام عليك وأنا أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم. غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ثم ختم الكتاب وقال لرسوله لا تدفعه إليه حتى تجده صاحياً ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة له بالتوبة فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول قد وعدني الله يغفر لي وحذّرني عقابه، فلم يبرح يرددها حتى بكى ثم نزع فأحسن النزع وحسنت توبته فلما بلغ ذلك عمر أمره قال هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أحدكم زل زلة فسددوه وادعوا الله له أن يتوب عليه ولا تكونوا عونا للشيطان عليه.

شرح الكلمات:
حم : هذا أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا: حم ويقرأ هكذا: حا ميم.
تنزيل الكتاب من الله : أي تنزيل القرآن كائن من الله.
العزيز العليم : أي الغالب على مراده، العليم بعباده ظاهراً وباطناً حالا ومآلاً.
غافر الذنب : أي ذنب من تاب إلى الله فرجع إلى طاعته بعد معصيته.
شديد العقاب ذي الطول: أي مشدد العقوبة على من كفر به، ذي الطول أي الإنعام الواسع على من آمن به وأطاعه.
لا إله إلا هو إليه المصير : أي لا معبود بحق إلا هو إليه مرجع الخلائق كلهم.
ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا: أي في القرآن لإبطالها إلا الكافرون.
فلا يغررك تقبلهم في البلاد : أي فلا تغتر بمعاشهم سالمين فإن عاقبتهم النار.
والأحزاب من بعدهم : أي وكذبت الأحزاب من بعد قوم نوح، وهم عاد وثمود وقوم لوط.
وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه : أي ليتمكنوا من إصابته بما أرادوا من تعذيب وقتل.
وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق : أي ليزيلوا به الحق ويبطلوه.
فكيف كان عقاب : أي كان واقعا موقعه حيث أهلكهم ولم يبق منهم أحداً.
كذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا: أي وجبت كلمة العذاب على الذين كفروا.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {حم}: الله أعلم بمراده به، وقد ذكرنا غير ما مرة أن هذه الحروف أفادت فائدتين الأولى أن العرب المشركين في مكة كانوا قد منعوا المواطنين من سماع القرآن حتى لا يتأثروا به فيكفروا بآلهتهم فقد أخبر تعالى عنهم في قوله من سورة فصلت فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} فكانت هذه الحروف المقطعة بنغمها الخاص تستهويهم فيسمعوا فكانت فائدة عظيمة. والثانية أن المشركين لما أصروا على أن القرآن لم يكن وحيا وإنما هو من جنس ما يقوله الشعراء والكهان وأصحاب الأساطير تحداهم الله تعالى بالإتيان بمثله وهو مركب ومؤلف من هذه الحروف الم طس حم والذي قوى هذه النظرية أنه غالبا ما يذكر القرآن بعد

ذكر هذه الحروف مثل الم تلك آيات الكتاب، حم تنزيل الكتاب، حم والكتاب المبين فهاتان الفائدتان من أحسن ما استنبطه ذو الشأن في تفسير القرآن، وما عدا ذلك فلا يحسن روايته لخلوه من فائدة معقولة، ولا رواية عن الرسول وأصحابه منقولة.
وقوله تعالى :{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} يخبر تعالى أنه عز وجل هو مصدر هذا القرآن إذ هو الذي نزله تنزيلاً على عبده ورسوله، ووصف نفسه بالعزة والعلم فقال العزيز أي في انتقامه من أعدائه الغالب على أمره ومراده فلا يحال بينه وبين ما يريده العليم بخلقه وحاجاتهم ومتطلباتهم، فأنزل الكتاب لهدايتهم وإصلاحهم. وقوله: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ(1)} أعلمَ أنه تعالى يغفر ذنب المستغفرين ويقبل توبة التائبين وأنه شدد العقوبة على من كفر به وعصاه. وقوله ذي الطول أي الإنعام الواسع والفضل العظيم {لا إِلَهَ(2) إِلَّا هُوَ} أي لا معبود بحق إلا هو العزيز الحكيم العزيز الغالب على أمره الحكيم في تدبير خلقه.
لما أثنى تبارك وتعالى على نفسه بما هو أهله أخبر رسوله بأنه {مَا يُجَادِلُ(3) فِي آيَاتِ اللَّهِ} القرآنية الحاوية للحجج القواطع والبراهين السواطع على توحيد الله ولقائه وعلى نبوة رسول الله ما يجادل فيها {إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} وذلك لظلمة نفوسهم وفساد قلوبهم، وعليه فاصبر ولا تغتر بظاهر ما هم عليه من سعة الرزق وسلامة البدن، وهو معنى قوله: {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي(4) الْبِلادِ} أي آمنين معافين في أبدانهم وأرزاقهم فإنهم ممهلون لا مهملون، والدليل فقد كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب(5) من بعد قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وفرعون، وقد همت كل أمة من تلك الأمم برسولها لتأخذه فتقتله أو تنكل به. وقد جادلوا بالباطل كما جادل قومك من قريش ليدحضوا به الحق أي ليزيلوه ويبعدوه بباطلهم. فأخذتهم فكيف كان عقاب أي كان واقعاً موقعه والحمد لله إذ قطع الله دابرهم وأنهى وجودهم وخصومتهم.
__________
1- يطلق الطول على سعة الفضل وسعة المال كما يطلق مطلق القدرة وهو مأخوذ من الطول ضد القصر.
2- لا إله إلا هو في موضع الصفة لله عز وجل فتكون الصفة السابقة في هذه الآية الكريمة.
3- مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن سؤال من قال ما دام هذا القرآن تنزيلاً من العزيز الحكيم وهو أمر لا ريب فيه فلم يجادل فيه هؤلاء المشركون فأجابهم بقوله "ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا" الآية .
4- الغرور ظن المرء شيئاً حسناً وهو بضده يقال غرك إذا جعلك تظن الشيء حسناً ويكون التغرير بالقول أو بتحسين صورة القبيح.
5- الأحزاب هم الأمم الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب والعناد كعاد وثمود ومن بعدهم.

وقوله {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ(1) كَلِمَتُ رَبِّكَ(2) عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ(3)} أي كما وجب حكمه بإهلاك تلك الأمم المكذبة لرسلها الهامة بقتلها وقد أهلكهم الله فعلاً حقت كلمة ربك على الذين كفروا لأنهم أصحاب النار والمراد من كلمة ربك قوله لأملأن جهنم الآية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير أن القرآن الكريم مصدر تنزيله هو الله تعالى إذ هو الذي أوحاه ونزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وبذلك تقررت نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
2- بيان عظمة الرب تعالى المتجلية في أسمائه العزيز العليم الحكيم ذي الطول غافر الذنب قابل التوب لا إله إلا هو.
3- تقرير التوحيد والبعث والجزاء.
4- تقرير مبدأ أن الله تعالى يمهل ولا يهمل، وأن بطشه شديد.
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ(7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(9)
__________
1- حقت أي وجبت ولزمت مأخوذ من الحق لأنه لازم.
2- قرأ نافع كلمات بالجمع وقرأ حفص بالإفراد وهي اسم جنس بمعنى الجمع.
3-الإجماع على وجوب الوقف على قوله تعالى {أنهم أصحاب النار} ثم يستأنف القراءة قائلاً الذين يحملون العرش ... الخ.

شرح الكلمات:
الذين يحملون العرش : أي الملائكة حملة العرش.
ومن حوله : أي والملائكة الذين يحفون بالعرش من جميع جوانبه.
يسبحون بحمد ربهم : أي يقولون سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم هذه صلاتهم وتسبيحهم.
ويؤمنون به : كيف لا وهم عنده، ولكن هذا من باب الوصف بالكمال لهم.
ويستغفرون للذين آمنوا: أي يطلبون المغفرة للمؤمنين لرابطة الإيمان بالله التي تربطهم بهم.
ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً : أي يقولون يا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما.
فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك : أي فبما أن رحمتك وعلمك وسعا كل مخلوقاتك فاغفر للذين تابوا إليك فعبدوك ووحدوك واتبعوا سبيلك الذي هو الإسلام.
وقهم عذاب الجحيم : أي احفظهم من النار فلا تعذّبهم بها.
جنات عدن : أي بساتين فيها قصور وأنهار للإقامة الدائمة.
التي وعدتهم : أي بقوله تعالى: إن الله يدخل الذين آمنوا وعلموا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار.
ومن صلح من آبائهم: أي ومن صلح بالإيمان ولم يفسد بالشرك والكفر.
وقهم السيئات : أي احفظهم من جزاء السيئات التي عملوها فلا تؤاخذهم بها.
ومن تق السيئات يومئذ : أي ومن تقه جزاء سيئاته يوم القيامة فلم تؤاخذه.
فقد رحمته : أي حيث سترته ولم تفضحه وعفوت عنه ولم تؤاخذه.
وذلك : أي الوقاية من العذاب وإدخال الجنة هو الفوز العظيم.

معنى الآيات:
قوله تعالى: {الَّذِينَ(1) يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ(2)} يخبر تعالى عن عظمته وموجبات الإيمان به وبآياته وتوحيده ولقائه فيقول الذين يحملون العرش أي عرشه من الملائكة كالملائكة الذين يحفون بعرشه الجميع {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} تسبيحاً مقروناً بالحمد بأن يقولوا سبحان الله وبحمده ويؤمنون به أي يؤمنون بوحدانيته وعدم الإشراك في عبادته {وَيَسْتَغْفِرُونَ(3) لِلَّذِينَ آمَنُوا} لرابطة الإيمان التي تربطهم بهم ولعل هذا السرّ في ذكر إيمانهم لأن المؤمنين إخوة واستغفارهم هو طلب المغفرة من الله للمؤمنين من عباده. وهو معنى قوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} أي يقولون متوسلين إليه بصفاته {رَبَّنَا وَسِعْتَ(4) كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} أي يا ربنا وسعت رحمتك وعلمك سائر المخلوقات فاغفر للذين تابوا أي إليك فتركوا الشرك واتبعوا سبيلك الذي هو الإسلام فانقادوا لأمرك ونهيك، وقهم عذاب الجحيم أي احفظهم يا ربنا من عذاب النار وأدخلهم جنات عدن أي إقامة من دخلها لا يخرج منها ولا يبغي عنها حولا لكمال نعيمها ووفرة السعادة فيها. ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذريّتهم أي وأدخل كذلك من صلح بالإيمان والتوحيد من آبائهم وأزواجهم وذريّاتهم فألحقهم بدرجاتهم ليكونوا معهم وإن قصرت بهم أعمالهم. وقولهم إنك أنت العزيز الحكيم توسل أيضاً إليه تعالى بصفتي العزة والغلبة والقهر لكل المخلوقات والحكمة المتجلية في سائر الكائنات. وقولهم: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ(5)} أي واحفظهم من جزاء سيئاتهم بأن تغفرها لهم وتسترها عليهم حتى يتأهلوا للحاق بأبنائهم الذين نسألك أن تلحقهم بهم، {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ} أي يوم القيامة {فَقَدْ رَحِمْتَهُ(6)}، {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم لقوله تعالى {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}. ومعنى ومن تق السيئات أي تقيه عذابها وذلك بأن يغفرها لهم ويعفو عنهم
__________
1- حملة العرش أفضل الملائكة وهم أربعة ويوم القيامة يضاف إليهم أربعة فيصبحون ثمانية لقول تعالى من سورة الحاقة "ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية".
2- قال مجاهد بين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب، حجاب نور وحجاب ظلمة وحجاب نور وحجاب ظلمة.
3- قبل هذا معطوف على محذوف تقديره وينزهونه عما يقول الكافرون ويستغفرون الخ.
4- رحمة منصوب على التمييز وعلماً معطوف عليه، والتمييز محول عن فاعل إذ التقدير وسعت رحمتك وعلمك كل شيء.
5- قد لا يحتاج الأمر إلى تقدير محذوف فيقال وقهم جزاء السيئات إذ السيئات جمع سيئة "فيعلة" من السوء وهو ما يضر ولا يسر فالسيئة كل ما يسوء من عذاب وخوف، وهلع فدعاء الملائكة دعاء بالنجاة مما يسوء المؤمنين يوم القيامة ولذا قالوا ومن تق السيئات أي ما يسوءه من العذاب فقد رحمته بدخول الجنة وما في التفسير هو رأي الجمهور من المفسرين.
6- قال مطرف بن عبد الله: وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشياطين وتلا هذه الآية الذين يحملون العرش إلى قوله فقد رحمته.

فلا يؤاخذهم بها، فينجوا من النار ويدخلوا الجنة وذلك أي النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان عظم الرب تعالى.
2- بيان فضل الإيمان وأهله(1).
3- فضل التسبيح بقول: سبحان الله وبحمده فقد صح أن من قالها مائة مرة(2) حين يصبح أو حين يمسي غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر أي في الكثرة.
4- بشرى المؤمنين بأن الله تعالى يجمعهم بآبائهم وأزواجهم وذرياتهم في الجنة، وقد استجاب الله للملائكة وقد أخبر تعالى عن ذلك بقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّاتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهُمْ}.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ(10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ(11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ(12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ(13 )
__________
1- في الصحيحين.
2- يكفي كرامة للمؤمن أنه نائم على فراشه والملائكة تستغفر الله له، وتدعو له بالنجاة من النار وبدخول الجنة كما في قوله { الذين يحملون العرش }الآية.

فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ(15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ(16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(17)
شرح الكلمات:
ينادون لمقت الله : أي يناديهم الملائكة لتقول لهم لمقت الله إياكم أكبر من مقتكم أنتم لأنفسكم، والمقت أشد البغض.
إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون: أي مقت الله تعالى لكم عندما كنتم في الدنيا تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم لما رأيتم العذاب.
أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين : أي أمتنا مرتين الأولى عندما كنا عدماً فخلقتنا، والثانية عندما أمتنا في الدنيا بقبض أرواحنا، وأحييتنا مرتين الأولى لما أخرجتنا من بطون أمهاتنا أحياء فهذه مرة والثانية بعد أن بعثتنا من قبورنا أحياء.
فاعترفنا بذنوبنا : أي بذنوبنا التي هي التكذيب بآياتك ولقائك والشرك بك.
فهل إلى خروج من سبيل: أي فهل من طريق إلى العودة إلى الحياة الدنيا مرة ثانية لنؤمن بك ونوحدك ونطيعك ولا نعصيك.
ذلكم : أي العذاب الذي أنتم فيه.
بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم: أي بسبب أنه إذا دعي الله وحده كفرتم بالتوحيد.
يريكم آياته : أي دلائل توحيده وقدرته على بعثكم ومجازاتكم.
وما يتذكر إلا من ينيب: أي إلا من يتعظ إلا من ينيب إلى الله ويرجع إليه بتوحيده.

يلقي الروح من أمره : أي يلقي بالوحي من أمره على من يشاء من عباده.
لينذر يوم التلاق: أي لينذر من يوحي إليه من البشر وهو الرسول يوم تلاقي أهل السماء وأهل الأرض وذلك يوم القيامة.
يوم هم بارزون : أي لا يسترهم شيء لا جبل ولا شجر ولا حجر.
لمن الملك اليوم : أي لمن السلطان اليوم.
معنى الآيات:
بعد أن بين تعالى حال المؤمنين وأنهم هم وأزواجهم في دار النعيم يبين في هذه الآيات الثلاث حال الكافرين في النار جرياً على أسلوب القرآن في الترغيب والترهيب فقال تعالى مخبراً عن أهل النار: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي بربهم ولقائه وتوحيده ينادون أي تناديهم الملائكة فتقول لهم - بعد أن يأخذوا في مقت أنفسهم ولعن بعضهم بعضاً- {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ(1) مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} وذلك لأنكم كنتم تدعون إلى الإيمان بالله وتوحيده وطاعته فتكفرون وتجحدون متكبرين.
وهنا في الآية الثانية (10) يقولون وهم في جهنم {رَبَّنَا} أي يا ربنا {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} يعنون بالموتتين الأولى وهم نطف(2) ميتة والثانية بقبض أرواحهم عند نهاية آجالهم، ويعنون بالحياتين الأولى التي كانت لهم في الدنيا قبل موتهم والثانية التي بعد البعث، وقولهم: {فَاعْتَرَفْنَا(3) بِذُنُوبِنَا} أي التي قارفناها في الحياة الدنيا وهي الكفر والشرك والمعاصي. وقولهم بعد هذا الاعتذار {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} أي فهل من طريق إلى الخروج من النار والعودة إلى الحياة الدنيا لنصلح ما أفسدنا، ونطيع من عصينا؟ والجواب قطعاً لا سبيل إلى ذلك أبداً، وبقاؤكم وفي العذاب ليس ظلماً لكم وإنما هو جزاء وفاق لكم ثم ذكر تعالى علة عذابهم بقوله {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} بالله وتوحيد {وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} أي وإن يشرك بالله تؤمنوا كقولهم لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملك وما ملك وقوله فالحكم
__________
1- اللام في جواب قسم أي والله لمقت الله الخ والخاطب هم الملائكة وجائز إن لم يكن راجحاً أن يكون المعنى لمقت الله إياكم لما كنتم لمّا كنتم تدعون إلى الإيمان في الدنيا على أيدي رسلكم فتكفرون مقت الله ذلك أشد من مقتكم أنفسكم اليوم.
2- جائز أن تكون الموتة الأولى لما كانوا في الرحم قبل نفخ الروح، وجائز أن يكون العدم السابق للوجود في الرحم شاهده آية البقرة {وكنتم أمواتاً فأحياكم}.
3- سر اعترافهم هذا أنهم يرجون من ورائه الخروج من النار ظناً منهم أنه نافع لهم شاهده قولهم مستعطفين: {فهل إلى خروج من سبيل}

لله العلي الكبير، وقد حكم بعذابكم فلا سبيل إلى نجاتكم. فامقتوا أنفسكم ونوحوا على أرواحكم فما ذلكم بمجديكم ولا بمخفف العذاب عنكم. وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي(1) يُرِيكُمْ آيَاتِهِ} هذا خطاب للناس في هذه الحياة الدنيا خطاب لمشركي قريش بعد أن عرض عليهم صورة صادقة حية لحالهم في جهنم يوم القيامة عاد يخاطبهم داعياً لهم إلى الإيمان فقال هو أي المعبود بحق الله الذي يريكم آياته أي حججه ودلائل وحدانيته وقدرته على بعثكم ومجازاتكم {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً} من المطر وغيره. ومع ذاك البيان وهذا الإفضال، {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} أي فلا يتعظ إلا من شأنه الإنابة إلى ربه تعالى في كل شأنه.
وقوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} هذا خطاب للموحدين يأمرهم تعالى بالاستمرار على توحيد الله في عباداته والإخلاص لله تعالى في كل أعمالهم، ولو كره الكافرون ذلك منهم فإنه غير ضائرهم.
وقوله تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ(2)} أي هو الله ذو الدرجات الرفيعة والعرش العظيم {يُلْقِي الرُّوحَ(3) مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي يلقي بالوحي من أمره الذي يريد إنفاذه إلى خلقه على من يشاء من عباده ممن يصطفيهم وينبئهم من أجل أن ينذروا عباده يوم التلاقي وهو يوم القيامة إذ يلتقي أهل الأرض بأهل السماء والمخلوقون بخالقهم وهو قوله {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ}( 4) من قبورهم لا شيء يسترهم، {لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} ، وفي هذا الموقف العظيم يقول الجبار سبحانه وتعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ؟ فلا يجيبه أحد رهبة منه وخوفاً فيجيب نفسه بنفسه قائلاً: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} من خير وشر لتمام العدالة الإلهية، ويؤكد ذلك قوله: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} ويأخذ في محاسبتهم فلا ينتصف النهار إلا وأهل الجنة في الجنة قائلون في أحسن مقيل اللهم اجعلني منهم ومن قال آمين.
__________
1- جائز أن يكون الخطاب هنا موجها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وكونه عاماً يشمل الموحدين والمشركين أولى أو ليزداد المؤمنون إيماناً وليتوب المشركون أما قوله تعالى فادعوا الله مخلصين له الدين فظاهر في أنه خطاب للمؤمنين.
2-رفيع الدرجات خبر والمبتدأ محذوف تقديره هو عائد على الله ورفيع الدرجات خبر وهو يحتمل أمرين كلاهما حق الأول أن الله تعالى هو ذو الشأن العظيم والصفات العلا والأسماء الحسنى والقدر الأعلى والثاني أنه تعالى رافع درجات أوليائه في دار كرامته إذ رفيع إما أن يكون صفة مشبّهة عائدة إلى الذات الإلهية العلية، أو فعيل بمعنى فاعل أي رافع درجات أوليائه.
3- فيه تقرير النبوة المحمدية بإثبات الوحي الإلهي لمن يشاء من عباده فبعد تقرير البعث والتوحيد قرر النبوة المحمدية وهذه أصول الدين التي عليها مدار الحياة الإيمانية.
4- هذا عرض أيضا لأحوال يوم القيامة المقصود منه التذكير به والدعوة إلى تقوية الإيمان به إذ هو عامل إصلاح النفوس مع بيان عظمة الله وعدله وهي موجبات توحيده وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- عدم جدوى الاعتذار يوم القيامة هذا فيما لو أذن للعبد أن يعتذر فلا ينفعه اعتذار.
2- تقرير التوحيد وإبطال الشرك والتنديد.
3- بيان إفضال الله على العباد إذ يريهم آياته لهدايتهم ويرزقهم وهم يكفرون به.
4- وجوب إخلاص الدعاء وسائر العبادات لله وحد ولو كره ذلك المشركون.
5- تقرير النبوة، وبيان الحكمة فيها وهي إنذار الناس من عذاب يوم القيامة حيث الناس بارزون لله لا يخفى على الله منهم شيء فيحاسبهم بعلمه وعدله فلا ينقضي نهار إلا وقد استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار اللهم أعذنا من نار جهنم.
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ(18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ(19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(20)
شرح الكلمات:
يوم الآزفة : أي يوم القيامة.
إذ القلوب لدى الحناجر: أي من شدة الخوف تكون القلوب قد ارتفعت حتى وصلت عند الحناجر.
كاظمين : أي لقلوبهم يريدون ردها فلم يقدروا.
ما لظالمين من حميم : أي ليس للمشركين من محب قريباً كان أو بعيداً.
يعلم خائنة الأعين: أي الله تعالى يعلم العين إذا سرقت النظر إلى محرم.
والله يقضي بالحق : أي لكمال قدرته وعلمه يحكم بالحق.
والذين يدعون من دونه: أي والذين يدعوهم مشركو قريش من أصنام لا يقضون بشيء عدلاً كان أو جوراً لأنهم أصنام لا تسمع ولا تبصر.

معنى الآيات:
بعد بيان الموقف الصعب في عرصات القيامة في الآيات السابقة قال تعالى لرسوله {وَأَنْذِرْهُمْ} يا رسولنا أي خوف قومك {يَوْمَ الْآزِفَةِ}( 1) وهي يوم القيامة القريبة والتي قد قربت فعلاً وكل ما هو آت قريب أنذرهم قربها حتى لا يوافوها بالشرك والمعاصي فيخسروا خسرانا مبينا، أنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب(2) من شدة الخوف ترتفع إلى الحناجر(3) وهم يكظمونها فلا هي تخرج فيموتوا ولا هي تعود إلى أماكنها فيستريحوا.
{مَا لِلظَّالِمِينَ} وهم أهل الشرك والمعاصي {مِنْ حَمِيمٍ} قريب أو حبيب يدفع عنهم العذاب {وَلا شَفِيعٍ} يشفع لهم وتقبل شفاعته ويطاع فيها لا ذا ولا ذاك يا لفظاعة الحال وقوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ(4)} يخبر تعالى عن سعة علمه وواسع اطلاعه أنه يعلم خائنة الأعين وهي العين تسترق النظر إلى المحارم، ويعلم {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ(5)} أي وما تكتمه صدور العباد وما تضمره من خير وشر، ولذا فسوف يكون الحساب دقيقاً ومن نوقش الحساب عُذب. {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} أي يحكم بالعدل، {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ(6) دُونِهِ} أي والذين يعبدهم المشركون من أصنام وأوثان {لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ(7)} لأنهم لا يسمعون ولا يبصرون.
وقوله {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} السميع لأقوال عباده البصير بأعمالهم وأحوالهم فلذا إذا حكم يحكم بالحق ويقدر على إنفاذ الحكم فيجزي السيئة بالسيئة والحسنة بعشر أمثالها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان هول يوم القيامة وصعوبة الموقف فيه.
__________
1- يقال أزف فلان يأزف أزفاً قال النابغة:
أزف الترحل غير أن ركابنا
لما تزل برحالنا وكأن قد
2- القلوب: جمع قلب وهو البضعة الصنوبرية الشكل التي تتحرك دائماً ما دام الجسم حياً تدفع الدم إلى الشرايين التي بها حياة الجسم.
3- الحناجر جمع حنجرة بفتح الحاء والجيم وهي الحلقوم.
4- أي الله جل جلاله يعلم الأعين الخائنة قال ابن عباس رضي الله عنهما هو الرجل يكون جالساً مع القوم فتمر المرأة فيسارقهم النظر إليها.
5- قال ابن عباس وما تخفي الصدور أي هل يزني بها من سرق النظر إليها لو خلا بها أو لا.
6- قرأ نافع تدعون بالتاء وقرأ حفص بالياء يدعون.
7- من جملتي والله يقضي بالحق وجملة والذين يدعون من دونه قبلها تألف قصر القضاء على الله تعالى قصر قلب أي دون الأصنام. كما أفيد القصر من ضم الجملتين في قوله الشاعر:
تسيل على حد الظبات نفوسا
وليست على غير الظبات تسيل

2- انعدام الحميم والشفيع للظالمين يوم القيامة.
3- بيان سعة علم الله تعالى حتى إنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
4- قضاء الله عدل وحكمه نافذ وذلك لكمال علمه وقدرته.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ(21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ(22)
شرح الكلمات:
أو لم يسيروا في الأرض : أي أغفل كفار قريش ولم يسيروا في الأرض.
فينظروا : أي بأعينهم.
كيف كان عاقبة الذين من قبلهم : إنها كانت دماراً وخساراً ووبالاً عليهم.
كانوا هم أشدّ منهم قوة وآثاراً في الأرض : ولم يغن ذلك عنهم من الله شيئا.
فأخذهم الله بذنوبهم : أي عاقبهم بذنوبهم فدمرهم وأهلكهم.
وما كان لهم من الله من واق : أي ولم يوجد لهم من عقاب الله من واق يقيهم منه.
ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات : أي بالحجج والبراهين والأدلة والمعجزات.
فكفروا : أي بتلك الحجج والآيات.
فأخذهم الله : أي لما كفروا أخذهم بكفرهم.
إنه قوي شديد العقاب : هذا تعليل لأخذه إياّهم

معنى الآيات:
تقدم في السياق تخويف الله تعالى لمشركي قريش بعذاب الآخرة، ومبالغة في نصحهم وطلب هدايتهم خوفهم بعد عذاب الآخرة بعذاب الدنيا لعلهم يتوبون فقال: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي(1) الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ} أي أغفل هؤلاء المجاحدون المعاندون ولم يسيروا في البلاد شمالاً وجنوباً حيث ديار عاد في الجنوب وديار ثمود في الشمال فينظروا بأعينهم كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كعاد وثمود كان أولئك أشد من هؤلاء قوة وأثاراً في الأرض من حيث البناء والعمران والقدرة على الحرب والقتال، فأخذهم الله بذنوبهم(2) أي بذنوب الشرك والتكذيب والمعاصي، ولما أخذهم لم يوجد لهم من عقاب الله وعذابه من واق يقيهم ما أنزل الله بهم وما أحله بساحتهم. فما لهؤلاء المشركين لا يتعظون ولا يعتبرون والعاقل من اعتبر بغيره.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} هذا تعليل لأخذ الله لأولئك الأقوام من عاد وثمود وغيرهم إذ ما أخذهم إلا بعد أن أنذرهم وأعذر إليهم فلما أصروا على الكفر والتكذيب أخذهم بذنوبهم. وقوله {إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ}( 3) تعليل أيضاً للأخذ الكامل الذي أخذهم به لعظم قوته وشدة عقابه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير الحكمة القائلة: العاقل من اعتبر بغيره.
2- الأخذ بالذنوب سنة من سنن الله في الأرض لا تتبدل(4) ولا تتحول.
3- من أراد الله عقاب لا يوجد له واق يقيه، ولا حامٍ يحميه، ومن تاب تاب الله عليه.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ(23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ(24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ
__________
1- الاستفهام إنكاري ينكر عليهم عدم سيرهم في ديار الهالكين ليروا بأعينهم آثار الهالكين ويفكروا في سبب هلاكهم ليحصل لهم بذلك العبرة المطلوبة لهم.
2- الباء في بذنوبهم سببية إذ هلاكهم متسبب عن ذنوبهم وهي الشرك والمعاصي.
3- الجملة تعليلية لما قبلها من أخذ الله تعالى المشركين بذنوبهم في التكذيب والشرك والمعاصي.
4- إلا أن يشاء الله إيقافها أو تبديلها فهو على ما يشاء قدير.

عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ(25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ(26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ(27)
شرح الكلمات:
بآياتنا وسلطان مبين : أي بحججنا، وبرهان بين ظاهر.
هامان وقارون: هامان وزير فرعون، وقارون رجل الملايين.
فقالوا ساحر كذاب: أي لما رأوا آية العصا واليد البيضاء قالوا: ساحر كذاب دفعاً لقومهم حتى لا يؤمنوا به.
فلما جاءهم بالحق من عندنا: أي جاءهم موسى بالصدق فيما أخبرهم به من أنه رسول الله وطالبهم بإرسال بني إسرائيل معه.
قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه: أي اقتلوا الأولاد الذكران.
واستحيوا نساءهم : أي بناتهم بمعنى اتركوهن حيات.
وما كيد الكافرين إلا في ضلال : أي وما مكرهم إلا في خسران وضياع.
ذروني أقتل موسى وليدع ربه : أي دعوني واتركوني وليدع ربه ليمنعه مني.
إني أخاف أن يبدل دينكم : أي يغير عبادتكم لآلهتكم لعبادة إلهه.
أو أن يظهر في الأرض الفساد: بالقتل والتخريب ونحوه.
إني عذت بربي وربكم: أي استجرت بخالقي وخالقكم.
من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب: أي من كل إنسان متكبر لا يؤمن بيوم الحساب والجزاء على الأعمال.

معنى الآيات:
بعد تلك الدعوة الربانية لقريش إلى الإيمان والتوحيد والتصديق بالبعث والجزاء، وما فيها من مظاهر لقدرة الله وعلمه وحكمته وعدله، وبعد ذلك العرض لأحوال القيامة، وبيان الجزاء لكل من الكافرين والمؤمنين فيها كأنه يُرى رأي العين، وبعد ذلك الترغيب والترهيب مما في الدنيا والآخرة والمشركون لا يزدادون إلا عتواً وطغياناً بعد كل ذلك قص الله تعالى على رسوله قصة موسى مع فرعون ليسلِّيه بها ويصبره وليعلمه أن البلاء مهما اشتد يعقبه الفرج، وأن الله ناصره على قومه كما نصر موسى على فرعون وقومه فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} أي قبلك يا رسولنا موسى بن عمران بآياتنا(1) أي بأدلتنا وحججنا على صدق دعوته وصحة رسالته، وسلطان مبين أي وبرهان ظاهر بين أرسلناه إلى فرعون وهامان وقارون(2) فهامان وزير فرعون وقارون من أرباب الملايين وهو وإن لم يكن من آل فرعون لأنه من بني إسرائيل إلا أنه مالأ فرعون ووقف في صفه، فلما بلغهم موسى دعوة ربه وأراهم الحجج والبراهين قالوا ساحر(3) كذاب فرموه بقاصمتين السحر والكذب حماية لمصالحهم وخوفاً من تغيير والوضع عليهم.
وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا} أي فلما جاءهم موسى بالصدق من عند الله كان ردُّ الفعل منهم أن أمروا بقتل الذكور من أولاد الذين آمنوا معه، واستحياء بناتهم للخدمة والامتهان وهو ما أخبر تعالى به في قوله: {قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} وقوله تعالى {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} عام في كل كيد كافر يبطله الله تعالى ولا يضر به أولياءه وقوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} لا شك أن هذا القول الدال على طغيان فرعون كان بعد أن انهزم في ميادين عدة أراد أن يسترد بعض ما فقد فقال ذروني أقتل موسى أي اتركوني أقتل موسى { وَلْيَدْعُ رَبَّهُ(4)} أي ليمنعه مني، وعلل لقوله هذا بقوله إني أخاف أن يبدّل دينكم، أي بعد أن يغلب عليكم فتدينون بدينه أو أن يظهر في الأرض الفساد بالقتل والفتن.
ورد موسى عليه السلام بما أخبر تعالى به عنه في قوله: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي
__________
1- هي الآيات التسع.
2- خص بالذكر هامان وقارون لقوة تأثيرهما في البلاد وإدارة الدولة وعز السلطان.
3- لما بهرتهم الآيات وعجزوا عن مقاومتها رموا موسى بالسحر واتهموه بالكذب كرد فعل وهروباً من المواجهة.
4- من الجائز أن يكون قد قال له بعض رجاله أما تخاف أن يدعو عليك ربه فتهلك فأجابه قائلاً وليدع ربه.

وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} قال موسى هذا لما سمع مقالة فرعون التي يهدده فيها بالقتل فأعلمهم أنه قد استجار بالله وتحصن به فلا يقدر أحد على قتله، وقوله من كل متكبر(1) لا يؤمن بيوم الحساب، لأن من يؤمن بيوم الحساب لا يقدم على جريمة القتل وإنما يقدم عليها من لا يؤمن بحساب ولا جزاء في الدار الآخرة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تسلية الرسول وحمله على الصبر والتحمل وهو في أشد الظروف صعوبة.
2- عدم تورع الظلمة في كل زمان عن الكذب وتلفيق التهم للأبرياء.
3- التهديد بالقتل شنشنة الجبارين والطغاة في العالم.
4- أحسن ملاذ للمؤمن من كل خوف هو الله تعالى رب المستضعفين.
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ(28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ(29)
شرح الكلمات:
وقال رجل مؤمن من آل فرعون: وهو شمعان بن عم فرعون.
أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ : أي لأن يقول ربي الله؟ والرجل هو موسى عليه السلام.
__________
1- متكبر: متعظم عن الإيمان بالله وصفته أنه لا يؤمن بيوم الحساب.

بالبينات من ربكم : أي بالمعجزات الظاهرات.
فعليه كذبه : أي ضرر كذبه عليه لا عليكم.
يصبكم بعض الذي يعدكم : أي بعض العذاب الذي يعدكم به في الدنيا عاجلاً غير آجل.
من هو مسرف كذاب : أي مسرف في الكفر والظلم كذاب لا يقول الصدق ولا يفوه به.
ظاهرين في الأرض : أي غالبين في بلاد مصر وأراضيها.
فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا : أي من عذاب الله إن جاءنا وقد قتلنا أولياءه.
ما أريكم إلا ما أرى: أي ما أشير به عليكم إلا ما أشير به على نفسي وهو قتل موسى.
وما أهديكم إلا سبيل الرشاد: أي إلا طريق الرشد والصواب.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عما دار في قصر فرعون فقد أبدى فرعون رغبته في إعدام موسى معللاً ذلك بأمرين أن يبدل دين الدولة والشعب، والثاني أن يظهر في الشغب في البلاد والتعب للدولة والمواطنين معا. وها هو ذا رجل مؤمن من رجالات القصر يكتم إيمانه بموسى وبما جاء به من التوحيد خوفاً من فرعون وملئه. ولنسمع إلى ما أخبر تعالى به عنه: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ}( 1) أي بموسى {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} إذ هو ابن عم فرعون واسمه شمعان كسلمان قال: {أَتَقْتُلُونَ}( 2) ينكر عليهم قرار القتل {رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} أي لأن قال ربي الله {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} وهي الحجج والبراهين كالعصا واليد {مِنْ رَبِّكُمْ} الحق الذي لا رب لكم سواه. {وَإِنْ يَكُ(3) كَاذِباً} أي وإن فرضنا أنه كاذب فإن ضرر كذبه عائد عليه لا عليكم {وَإِنْ يَكُ صَادِقاً} وهو صادق {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي(4) يَعِدُكُمْ} من العذاب العاجل. إن الله تعالى لا يهدي أي لا يوفق إلى النصر والفوز في أموره {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ(5)} متجاوز الحد في الاعتداء والظلم {كَذَّابٌ} مفتر يعيش على الكذب فلا يعرف الصدق. وبعد أن بين لهم هذه الحقيقة العلمية
__________
1- في نص هذا الخبر تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
2- الاستفهام للإنكار ينكر على فرعون ملئه عزمهم على قتل موسى عليه السلام.
3- لم يكن قوله وإن يك كاذبا شكاً في صدق موسى وإنما هو من باب التلطف والتنزل مع الخصم حتى لا يلج في الجدال والخصومة وحذفت النون من وإن يك لكثرة الاستعمال.
4- أي إن لم يصبكم إلا بعض الذي يعدكم به هلكتم، وجائز أن يطلق البعض وهو يريد الكل وهو سائغ وشائع قال الشاعر:
وقد يدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل
5- إن كان هذا الموصوف الرجل المؤمن فهو إشارة إلى موسى وإن كان من قول الله تعالى فهو إشارة إلى فرعون.

الثابتة أقبل عليهم يعظهم فقال: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ} أي غالبين في الأرض أي أرض مصر بكامل ترابها وحدودها. لكن إن نحن أسرفنا في الظلم والافتراء فقتلنا أولياء الله فجاءنا بأس الله عقوبةً لنا فمن ينصرنا؟ إنه لا ناصر لنا أبداً من الله فتفهموا ما قلت لكم جيداً، ولا يهلك على الله إلا هالك، وهنا قام فرعون يرد على كلمة الرجل المؤمن فقال ما أخبر تعالى به عنه في قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} أي ما أشير عليكم بشيء إلا وقد رأيته صائباً وسديداً، يعني قتل موسى عليه السلام، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد أي إلاّ إلى طريق الحق والصواب، وكذب والله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- فضل الإيمان وفضل صاحبه فقد ورد الثناء على هذا الرجل في ثلاثة رجال هم مؤمن آل فرعون هذا، وحبيب النجار مؤمن آل ياسين وأبو بكر(1) الصديق رضي الله عنه.
2- فصاحة مؤمن آل فرعون هي ثمرة إيمانه وبركته العاجلة فإن لكلماته وقع كبير في النفوس.
3- التنديد بالإسراف في كل شيء والكذب والافتراء في كل شيء وعلى أي شيء.
4- من عجيب أمر فرعون ادعاؤه أنه يهدي إلى الرشد والسداد والصواب في القول والعمل، حتى ضرب به المثل فقيل: فرعون يهدي إلى الرشد.
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ(30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ(31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ(32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(33)
__________
1- روى البخاري وغيره أن المشركين تعرضوا للرسول صلى الله عليه وسلم حول الكعبة بسوء فجاء أبو بكر يصرخ فيهم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله. فضربوه ضرباً شديداً حتى أغمي عليه فلما أفاق قال كيف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عليّ أبو بكر أفضل من مؤمن آل فرعون لأن أبا بكر ما أخفى إيمانه بل أظهره وأوذي ومؤمن آل فرعون كتم إيمانه ولم يؤذ.

وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ(34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ(35)
شرح الكلمات:
وقال الذي آمن : أي مؤمن آل فرعون.
مثل يوم الأحزاب : أي عذاباً مثل عذاب الأحزاب وهم قوم نوح وعاد وثمود.
مثل دأب قوم نوح: أي مثل جزاء عادة من كفر قبلكم وهي استمرارهم على الكفر حتى الهلاك فهذا الذي أخافه عليكم.
يوم التناد : أي يوم القيامة وقيل فيه يوم التنادي لكثرة النداءات فيه إذ ينادي أصحاب الجنة أصحاب النار، وأصحاب النار أصحاب الجنة.
يوم تولّون مدبرين: أي هاربين من النار إلى الموقف.
ولقد جاءكم يوسف من قبل : أي يوسف بن يعقوب الصديق عليهما السلام من قبل مجيء موسى إليكم اليوم.
قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا: أي قلتم هذا من دون دليل فبقيتم كافرين إلى اليوم.
كذلك يضل الله من هو مسرف : أي مثل إضلالكم هذا يضل الله من هو مسرف في الشرك والظلم.
مرتاب : أي شاك فيما قامت الحجج والبينات على صحته.
يجادلون في آيات الله بغير سلطان: أي يخاصمون في آيات الله لإبطالها بدون سلطان أي حجة وبرهان.
كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا : أي كبر جدالهم بالباطل مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا.

كذلك : أي مثل إضلالهم يطبع الله أي يختم بالضلال على كل قلب متكبر.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم فيما دار من كلام في مجلس الحكومة، وها هو ذا مؤمن آل فرعون يتناول الكلمة بعد فرعون الذي أعاد تقريراً ما عزم عليه من قتل موسى عليه السلام فقال ما أخبر تعالى به عنه في قوله: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ} وهنا أعلن عن إيمانه الذي كان يكتمه يا قوم إني أخاف عليكم أي إن أنتم أصررتم على قتل موسى وقتلتموه {أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} وهو اليوم الذي أخذ الله فيه قوم نوح، وعاد وثمود أي أخاف عليكم جزاء عادتهم وهي استمرارهم على الكفر والشك والتكذيب حتى حلت بهم نقمة الله ونزل بهم عذابه وواصل وعظه قائلاً، {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (1) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} أي فارين من النار هاربين إلى الموقف وهو يوم القيامة الذي تكثر فيه النداءات والصرخات { مَا لَكُمْ(2) مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} يعصمكم من العذاب وينجيكم منه. وبعد هذا الوعظ البليغ قال {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} إشارة إلى أن القوم لم يتأثروا بكلامه فقال متعزياً بعلمه بتدبير الله في خلقه فقال: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} فإن من كتب الله عليه الضلال ليصل إلى الشقاوة بكسبه فلا هادي له أبداً، إذ الله لا يهدي من يُضل ثم قال لهم مواصلاً كلامه {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ(3) يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ} أي من قبل موسى وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام بالبينات والحجج الدالة على توحيد الله ووجوب طاعته، غير أنكم مع الأسف {مَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} فلم تؤمنوا ولم توقنوا {حَتَّى إِذَا هَلَكَ(4)} أي مات عليه السلام فرحتم بموته {قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً} متخرصين متقولين على الله بدون علم فأضلكم الله بكذبكم عليه {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ(5)} في الكذب مثلكم {مُرْتَابٌ} في كل شيء لا يعرف اليقين في شيء، والعياذ بالله، ثم
__________
1- قراءة العامة التناد بتخفيف الدال من النداء وهو الدعاء والطلب للحضور أو الإغاثة وقرئ التناد بتشديد الدال من ندّ البعير إذا هرب إذ هم فعلاً يهربون وشاهده في الآية يوم تولون مدبرين. والجمهور على حذف الياء وقفاً ووصلاً. وبعضهم أثبتها وصلا ووقفاً وكلا القراءتين صحيحة.
2- هذه الجملة في موقع الحال والعاصم المانع والحافظ.
3- لما تفرّس فيهم عدم نفع النصح لهم آثر عتابهم ولومهم بقوله ولقد جاءكم يوسف الخ واللام في ولقد جاءكم لام القسم لأنهم كالمنكرين فلذا أكد الخبر بالقسم.
4- إذا اسم للزمان الماضي مجرور بحتى قبلها وليست بظرف أي حتى زمن هلاك يوسف قلتم .. والقائل أسلافهم الغابرون يوم مات يوسف عليه السلام.
5- المسرف: المفرط في فعل أو قول مالا خير فيه، والمرتاب الشديد الريب أي الشك.

أعلمهم أن الذين يجادلون في آيات الله يريدون إبطال الحق وإطفاء نوره بكلامهم بغير حجة لديهم ولا برهان أتاهم جدالهم ذلك أكبر مقتاً أي أشد شيء يمقته الله ويبغضه من صاحبه، وكذلك عند الذين آمنوا. وختم كلامه بقوله {كَذَلِكَ(1) يَطْبَعُ اللَّهُ} أي كإضلال من هو مسرف مرتاب يطبع الله {عَلَى كُلِّ قَلْبِ(2) مُتَكَبِّرٍ} أي قلب كل إنسان متكبر على الإيمان والطاعة متجبر متعاظم يريد إجبار الناس على مراده وما يهواه. وإلى هنا انتهى كلام الرجل المؤمن والكلمة الآن إلى فرعون الطاغية وسنقرأها في الآيات التالية بعد رؤية ما في الآيات من هداية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- قوة الإيمان تفجر قلب المؤمن بأنواع من المعرفة والحكمة في قوله إذا قال.
2- التذكير بالأمم الهالكة إذ العاقل من اعتبر بغيره.
3- التخويف من عذاب الآخرة وأهوال القيامة.
4- التنديد بالإسراف والارتياب وعدم اليقين.
5- حرمة الجدال بغير علم، وأن صاحبه عرضة لمقت المؤمنين بعد مقت الله تعالى.
6- عرضة المتكبر الجبار للطبع على قلبه ويومها يحرم الهداية فلا يُهدى أبداً.
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ(36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ(37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ(38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ
__________
1- جائز أن يكون هذا من كلام مؤمن آل فرعون ختم به كلامه معهم. وجائز أن يكون من كلام الله تعالى معترض بين كلام المؤمن وكلام فرعون.
2- المتكبر هو ذو الكبر والجبار الذي يكره الناس على ما لا يحبون عمله لظلمه وعتوه وقرأ الجمهور على كل قلب متكبر بإضافة قلب إلى متكبر وقرأ بعضهم بتنوين قلب بدون إضافة فيكون متكبر نعتاً لقلب.

دَارُ الْقَرَارِ(39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ(40)
شرح الكلمات:
يا هامان ابن لي صرحاً: هامان وزير فرعون والصرح البناء العالي.
أسباب السموات : أي طرقها الموصلة إليها.
وإني لأظنه كاذباً : أي وإني لأظن موسى كاذباً في زعمه أن له إلهاً غيري.
سوء عمله : أي قبيح عمله.
وصد عن السبيل : أي عن طريق الهدى.
إلا في تباب : أي خسار وضياع بلا فائدة تذكر.
إنما هذه الحياة الدنيا متاع : أي ما هذه الدنيا إلا متاع يتمتع به وقتاً ثم يزول.
دار القرار : أي الاستقرار والبقاء الأبدي.
يرزقون فيها بغير حساب: أي رزقاً واسعاً بلا تبعة ولا تعقيب.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم فيما يدور من كلام بين مؤمن آل فرعون وفرعون نفسه إذ تقدم قول المؤمن وما حواه من نصح وإرشاد وها هو ذا فرعون يرد بطريق غير مباشر على(1) ما قاله المؤمن فقال: لوزيره هامان {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً} أي بناء عالياً {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي(2) لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} أي في دعواه أن له إلها غيري وهذا من فرعون مجرد مناورة كاذبة يريد أن يموه بها على غيره إبقاء على مركزه وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ} أي ومثل هذا التزيين في قول فرعون زين له سوء عمله وهو أقبح ما يكون، {وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ(3)} أي صرف عن
__________
1- خاف فرعون أن يؤثر كلام مؤمن آل فرعون في الذين سمعوه فأوهم أنه يمتحن ما جاء به موسى من التوحيد فإن بان له صوابه لم يخفه عنهم، وإن لم يظهر صوابه ثبتهم على دينه فقال لوزيره ابن لي صرحاً الخ.
2- أسباب السموات بدل من أسباب الأول. والأسباب جمع سبب وهو ما يوصل إلى مكان بعيد فيطلق على الحبل ويطلق على الطريق والمراد هنا طرق السموات كما في قول زهير:
\ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
وإن يرق أسباب السماء بسلم
3- قرأ نافع وصد بفتح الصاد من صد اللازم يصُدّ أو المتعدي صد نفسه وصد غيره وقرأ حفص وصد بالبناء للمجهول أي بصد الصاد أي صده الله وصرفه عقوبة له لشدة كفره وظلمه.

طريق الحق والهدى، وقوله تعالى: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ} أي مكره وتدبيره لقتل موسى عليه السلام وقتل أبناء المؤمنين {إِلَّا فِي تَبَابٍ} أي خسار وضياع لم يتحقق منه شيء، لأن الله تعالى ولي موسى والمؤمنين فلم يمكن فرعون منهم بحال. وبعد أن أخبر تعالى عن فرعون في محاولته الفاشلة أخبر تعالى عن الرجل المؤمن(1) وما قاله للقوم من نصح وإرشاد فقال: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} أي طريق الرشد والصواب في حياتكم لتنجوا من العذاب وتفوزوا بالنعيم المقيم في الجنة. فقال: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} أي لا تعدو كونها متاعاً قليلاً يُتمتع به ثم يذهب سريعا، {وَإِنَّ الْآخِرَةَ} أي الحياة الآخرة بعد انتهاء هذه الحياة {هِيَ دَارُ(2) الْقَرَارِ} أي الاستقرار والإقامة الأبدية، فاعملوا لدار البقاء وتجافوا عن دار الفناء واعلموا أن الحساب سريع وأن {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} وذل لعدالة الرب تبارك وتعالى، ومن عمل صالحاً من الأعمال الصالحة التي شرعها الله لعباده وتعبدهم بها والحال(3) أنه مؤمن أي مصدق بالله وبوعده ووعيده يوم لقائه فأولئك أي المؤمنون العاملون للصالحات(4) من الذكور والإناث يدخلون الجنة دار السلام يرزقون فيها بغير حساب أي رزقاً واسعاً لا يلحق صاحبه تبعة ولا تعب ولا نصب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التحذير من تزيين الأعمال القبيحة نتيجة الإدمان عليها والاستمرار على فعلها فإن من زُينت له أعماله السيئة فأصبح يراها حسنة هلك والعياذ بالله.
2- التحذير من الاغترار بالدنيا والغفلة من الآخرة إذ الأولى زائلة والآخرة باقية واختيار الباقي على الفاني من شأن العقلاء.
3- مشروعية التذكير بالحساب والجزاء وما يتم في دار الآخرة من سعادة وشقاء.
__________
1- هو مؤمن آل فرعون الذي أظهر إيمانه بعد كتمانه.
2- يريد بالدار دار السلام الجنة ودار البوار النار.
3- لأن جملة قوله تعالى "وهو مؤمن" حالية وإن كانت شرطاً في صحة الأعمال الصالحة وفي قبولها ولذا لما لم يذكر الإيمان قبل العمل الصالح ذكره في الجملة الحالية ليدلل على تقدمه وشرطيته.
4- قرأ الجمهور يدخلون بالبناء للفاعل وقرأ بعض يدخلون بضم الياء وفتح الخاء بالبناء للمجهول والمعنى واحد إذ من دخل دخل بإذن الله ومن أدخل أدخل بإذن الله وفضله.

وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ(41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ(42) لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ(43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ(45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ(46)
شرح الكلمات:
أدعوكم إلى النجاة : أي من الخسران في الدنيا والآخرة، وذلك بالإيمان والعمل الصالح.
وتدعونني إلى النار : أي إلى عذاب النار وذلك بالكفر والشرك بالله تعالى.
ما ليس لي به علم : أي لا علم لي بصحة إشراكه في عبادة الله تعالى.
وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار: أي وأنا أدعوكم إلى الإيمان وعبادة الله العزيز أي الغالب على أمره الغفار لذنوب التائبين من عباده المؤمنين به.
لا جرم أن ما تدعونني إليه: أي حقاً أن ما تدعونني إلى الإيمان به وبعبادته.
ليس له دعوة في الدنيا والآخرة : أي ليس له دعوة حق إلى عبادته، ولا دعوة استجابة بأن يستجيب لمن دعاه لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وأن المسرفين هم أصحاب النار: أي وأن المسرفين في الكفر والشرك والمعاصي هم أهل النار

الواجبة لهم.
فوقاه الله سيئات ما مكروا : أي فحفظه الله من مكرهم به ليقتلوه.
وحاق بآل فرعون سوء العذاب: أي عذاب الغرق إذ غرق فرعون وجنده أجمعون.
النار يعرضون عليها غدواً وعشياً: أي أن سوء العذاب هو النار يعرضون عليها صباحاً مساءً وذلك أن أرواحهم في أجواف طير سود تعرض على النار كل يوم مرتين.
ويوم القيامة أدخلوا آل فرعون : أي ويوم القيامة يقال أدخلوا آل فرعون أشد العذاب.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر نصائح وإرشاد مؤمن آل فرعون فقد قال ما أخبر به تعالى عنه في قوله: {وَيَا قَوْمِ(1) مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} أي من النار وذلك بالإيمان والعمل الصالح مع ترك الشرك والمعاصي {وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} وذلك بدعوتكم لي إلى الشرك والكفر {تَدْعُونَنِي(2) لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} أي ما علم لي بصحة إشراكه في عبادة الله تعالى. {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ(3) الْغَفَّارِ} أي لتؤمنوا به وتعبدوه وحده ولا تشركوا معه غيره أدعوكم إلى العزيز أي الغالب الذي لا يُغلب الغفار لذنوب التائبين من عباده مهما كانت، وأنتم تدعونني إلى أذل شيء وأحقره لا ينفع ولا يضر لأنه لا يسمع ولا يبصر. لا جرم أي حقاً أن ما تدعونني إليه لأومن به وأعبده ليس له دعوة(4) حق يدعى بها إليه، ولا دعوة استجابة فإنه لا يستجيب لي دعاء أبداً لا في الدنيا ولا في(5) الآخرة. وشيء آخر يا قوم وهو أن مردنا إلى الله أي لا محالة نرجع إليه فالواجب أن نؤمن به ونعبده ونوحده ما دام رجوعنا إليه، وآخر وهو {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ(6) هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} المسرفين الذين أسرفوا في الكفر والشرك والمعاصي فتجاوزوا الحد في ذلك هم أصحاب النار أي أهلها الذين لا يفارقونها ولا تفارقهم.
__________
1- الاستفهام هنا تعجبي باعتبار تقييده بجملة الحال وهي وتدعونني إلى النار إذ هي في موضع الحال تقدير مبتدأ أي وأنتم تدعونني إلى النار.
2- هذه جملة بيان لجملة وتدعونني إلى النار.
3- العدول عن اسم الجلالة إذ لم يقل أدعوكم إلى الله إلى الصفتين العزيز والغفار لإيضاح الاستدلال على استحقاقه الإقرار بالألوهية والعبادة.
4- ليس له دعوة توجب له الألوهية وليس له استجابة دعوة تنفع لا هذه ولا تلك فبأي حق إذاً يدعى ويعبد؟
5- أي ليس له شفاعة في الدنيا ولا في الآخرة.
6- الإسراف هنا الإفراط في الكفر والظلم بسفك دماء بني إسرائيل بذبح أبنائهم وليصرف فرعون عن عزمه عن قتل موسى عليه السلام وفي الكلام تعريض بالذين يخاطبهم إذ هم مسرفون إلى أبعد حد في الظلم والكفر.

وقوله: {فَسَتَذْكُرُونَ(1) مَا أَقُولُ لَكُمْ} يبدوا أنه قال هذا القول لما رفضوا دعوته وهموا بقتله ويدل عليه قوله: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}.
قوله تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا(2)} أي حفظه الله تعالى من مكرهم به ليقتلوه فنجاه الله تعالى إذ هرب منهم فبعث فرعون رجالاً في طلبه فلم يقدروا عليه ونجا مع موسى وبني إسرائيل وقوله {وَحَاقَ(3) بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} وذلك بأن أغرقهم الله في البحر أجمعين.
وقوله {النَّارُ(4) يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} إخبار بأن أرواح آل فرعون تعرض في البرزخ على النار غدوّاً وعشياً وذلك بأن تكون في أجواف طير سود على خلاف أرواح المؤمنين فإنها تكون في أجواف طير خضر ترعى في الجنة. إلى يوم القيامة.
ويوم تقوم الساعة يقال أدخلوا آل فرعون أشد العذاب وهو عذاب جهنم والعياذ بالله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان الفرق الكبير بين من يدعو إلى النجاة وبين من يدعو إلى النار، بين من يدعو إلى العزيز الغفار ليؤمن به ويُعبد وبين من يدعو إلى أوثان لا تسمع ولا تبصر وهي أحقر شيء وأذله في الحياة، وبين من يدعو من لا يستجيب له في الدنيا والآخرة وبين من يدعو من يستجيب له في الدنيا والآخرة.
2- التنديد بالإسراف وفي كل شيء.
3- نعم ما ختم به مؤمن آل فرعون وعظه ونصحه لقومه وهي فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد.
4- إثبات عذاب القبر ونعيمه إذ آل فرعون تعرض أرواحهم على النار صباح ومساء.
__________
1- هذا الكلام مشاركة لهم وإنهاء لخطابهم كأنه استشعر منهم ما جعله ينهى الكلام معهم إما لاحظ في ذلك من ملامحهم أو من كلام سمعه منهم.
2- ما مكروا: ما مصدرية أي سيئات مكرهم.
3- حاق: أحاط والعذاب الغرق.
4- في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة".

وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ(47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ(48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ(49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ(50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ(51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ(52)
شرح الكلمات:
وإذ يتحاجون في النار : أي وأنذرهم يوم الآزفة وإذ يتحاجون في النار أي يتخاصمون.
فيقول الضعفاء : أي الأتباع الضعفاء الذين اتبعوا الأغنياء والأقوياء في الشرك.
إنا كنا لكم تبعا : أي تابعين لكم فيما كنتم تعتقدونه وتفعلونه.
فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار؟ : أي فهل تدفعون عنا شيئا من النار.
إن الله قد حكم بين العباد : فلا مراجعة أبداً فقد حكم لأهل الإيمان والتقوى بالجنة فهم في الجنة ولأهل الشرك والمعاصي بالنار فهم في النار.
لخزنة جهنم : أي جمع خازن وهو الموكل بالنار وأهلها.

يخفف عنا يوما من العذاب : أي قدر يوم من أيام الدنيا إذ الآخرة يوم واحد لا ليل له.
إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا: أي بأن نظهر دينهم، أو نهلك قومهم وننجيهم من الهلاك.
في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد : أي وننصرهم يوم يقوم الأشهاد وهم الملائكة يشهدون للرسل بالبلاغ.
ولهم اللعنة ولهم سوء الدار : أي ولهم اللعنة أي البعد من الرحمة ولهم سوء الدار أي الآخرة أي شدة عذابها.
معنى الآيات:
هذا عرض آخر للنار وما يجري فيها بعد العرض الذي كان لآل فرعون في النار يعرض على كفار قريش ليشاهدوا مصيرهم من خلاله إذا لم يتوبوا إلى الله من الكفر والتكذيب والشرك تضمنته ست آيات قال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ(1) فِي النَّارِ} أي وأنذرهم واذكر لهم إذ يتحاجون في النار أي يتخاصمون فيها فيقول الضعفاء الأتباع الذين كانوا يتبعون أغنياء وأقوياء البلاد طمعاً فيهم وخوفاً منهم. قالوا للذين استكبروا بقوتهم عن الإيمان ومتابعة الرسل، إنا كنا لكم تبعا(2) أي تابعين، فهل أنتم(3) مغنون عنا نصيبا من النار؟ أي فهل في إمكانكم أن تخففوا عنا حظاً من عذاب النار؟ فأجابوهم قائلين بما أخبر تعالى به عنهم في قوله: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} أي نحن وأنتم إن الله قد حكم بين العباد فقضى بالجنة لأهل الإيمان والتقوى، وبالنار لأهل الشرك والمعاصي هذه كانت خصومة بين الأتباع مع المتبوعين ولم تنته إلى طائل إلا زيادة الحسرة والغم والهم. وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي(4) النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} وهم الملائكة المكلفون بالنار وعذابها قالوا لهم {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ} أي مقدار يوم من أيام الدنيا إذ الآخرة لا ليل فيها وإنما هي يوم واحد. فردت عليهم الملائكة قائلة بما أخبر تعالى به عنهم في قوله: {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي أتقولون ادعوا لنا ربكم ليخفف عنكم العذاب أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات أي بالحجج الظاهرة الدالة على وجوب الإيمان والتقوى بترك الشرك والمعاصي. قالوا بلى أي اعترفوا فقالت لهم الملائكة إذاً
__________
1- التحاج: الاحتجاج من جانبين فأكثر أي إقامة كل فريق حجته للفريق المضاد المخاصم.
2- تبعا: اسم لمن يتبع غيره يستوي فيه الواحد وأكثر نحو خدم وحشم.
3- فهل أنتم مغنون الاستفهام هنا معناه الحث على طلب خلاصهم من النار واللوم على تركهم وعدم الاهتمام بما هم فيه من العذاب.
4- الذين في النار هذا شامل للضعفاء والمستكبرين والخزنة جمع خازن وهم الملائكة الموكلون بالنار وعذاب أهلها.

فادعوا(1) أنتم ربكم ولكن لا يستجاب لكم إذ ما دعاء الكافرين إلا في ضلال فلا يستجاب له أبداً وقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ(2) رُسُلَنَا} تقرير لحقيقة عظمى، وهي أن من سنة الله في رسله أنه ينصرهم بانتصار دينهم وما يهدون ويدعون إليه، وإن طال الزمن واشتدت الفتن والمحن، أو بإهلاك أممهم المكذبة لهم وإنجائهم والمؤمنين معهم قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وقوله: {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} أي(3) وينصرهم في الآخرة يوم يقوم الأشهاد وهم الملائكة يشهدون للرسل بالبلاغ وعلى الكافرين بالتكذيب.
وقوله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ(4)} إذا أذن لهم في الاعتذار لا تقبل معذرتهم {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ(5)} أي البعد من الرحمة والجنة {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} الآخرة وهو أشد عذابها.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان تخاصم أهل النار وهو ما يتم من خصومة بين الأتباع والمتبوعين.
2- التنديد بالكبر والاستكبار إذ الكبر عائق عن الطاعة والاستقامة.
3- عدم استجابة دعاء الكافر في الدنيا والآخرة إلا ما شاء الله.
4- عدم قبول المعذرة يوم القيامة.
5- عدم استجابة الدعاء في النار.
6- بيان وعد الله لرسله والمؤمنين وهو أنه ينصرهم بأحد أمرين الأول أن ينصر دينهم ويظهره ويقرره وإن طال الزمن، والثاني أن يهلك عدوهم وينجيهم.
__________
1- أي تولوا أنتم أمر أنفسكم وادعوا والأمر هنا للتسوية أي سواء دعوتم أو تركتم لا يستجاب لكم.
2- هذه الآية والتي بعدها جاءتا كالنتيجة لكل ما سبق في السورة من قوله تعالى {ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا} فكل ذلك لتلك المواقف والمشاهد في الدنيا والآخرة عبرتها المستخلصة منها هي هذه {إنا لننصر رسلنا} الآية وهي تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وبشرى له ولأتباعه المؤمنين.
3- الأشهاد: الملائكة والرسل ومؤمنو هذه الأمة.
4- هذه الجملة بدل من جملة ويوم يقوم الأشهاد والظالمون هم المشركون.
5- تقديم الجار والمجرور "لهم" في الجملتين: لهم اللعنة ولهم سوء الدار للاهتمام بالانتقام منهم.

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ(53) هُدىً وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ(54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ(55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(57)
شرح الكلمات:
ولقد آتينا موسى الهدى : أي أعطينا موسى بني إسرائيل المعجزات والتوراة.
وأورثنا بني إسرائيل : أي أبقينا فيهم التوراة كتاب الهداية الإلهية يهتدون به في ظلمات الحياة ويذكرن به الله في تراكم النسيان.
واصبر إن وعد الله حق : أي واصبر يا محمد على ما تلاقي من قومك إن وعد الله بنصرك حق.
واستغفر لذنبك : ليقتدى بك في ذلك ولزيادة طهارة لروحك وتزكية لنفسك.
وسبح بحمد ربك: أي نزه ربك وقدسه بالصلاة والذكر والتسبيح فيها وخارجها.
بالعشي والإبكار: بالمساء وأول النهار أي في أوقات الصلوات الخمس كلها.
إن في صدروهم إلا كبر : أي ما في صدورهم إلا كبر حملهم على الجدال في الحق، لا أن لهم علماً يجادلون به، وإنما حبهم العلو والغلبة حملهم على ذلك.
فاستعذ بالله : أي استعذ من شرهم بالله السميع لأقوالهم العليم بأعمالهم ونياتهم وأحوالهم.

لخلق السموات والأرض : أي لخلق السموات والأرض ابتداء ولأول مرة.
أكبر من خلق الناس : أي أعظم من خلق الناس مرة أخرى بعد الأولى.
معنى الآيات:
قوله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى(1) الْهُدَى} الآية شروع ي تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما يلاقي من قومه فأعلمه تعالى أنه قد سبق أن أرسل موسى وآتاه الكتاب الذي هو التوراة وأورثه في بني إسرائيل هدى أي هاديا لهم في ظلمات الحياة إلى الحق والدين الصحيح الذي هو الإسلام وذكرى لأولي الألباب أي يذكر به أولوا العقول، ولاقى موسى من قومه أشد مما لاقيت إذاً فاصبر على تعانيه من قريش وأن العاقبة لك فإن وعد الله حق وقد قال إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد أي يوم القيامة.
وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ(2) وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ(3) وَالْأِبْكَارِ} أرشده إلى مقومات الصبر والموفرات له وهي ذكر الله تعالى بالاستغفار والدعاء والصلاة والتسبيح فيها وخارجها. فأعظم عون على الصبر الصلاة فلذا كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فَزِعَ إلى الصلاة وقوله {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} أي حجة من علم إلهي أتاهم بطريق الوحي إن في صدروهم أي ما في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه أي لا يصلون إليه بحال وهو الرئاسة عليك والتحكم فيك وفي أصحابك. وعليه فاستعذ بالله(4) من شرهم ومن مكرهم إنه تعالى هو السميع لأقوالهم البصير بأحوالهم وأعمالهم، وسوف لا يمكن لهم منك أبداً لقدرته وعلمه وعجزهم وجهلهم.
وقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ(5) وَالْأَرْضِ} هذا رد على منكري البعث والجزاء الآخر فلما قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون. . قال تعالى: وعزتنا وجلالنا لخلق السموات والأرض ابتداء من غير مثال سابق ولا مادة قائمة موجودة أكبر من خلق الناس مرة أخرى بعد خلقهم
__________
1- الهدى الذي أوتيه موسى هو ما أوحي إليه من الأمر بالدعوة إلى الدين الحق، وما أنزل عليه من الشريعة والكتاب الذي هو التوراة.
2- ذكر القرطبي عدة أقوال للسلف في الذنب المطلوب من الرسول صلى الله عليه وسلم الاستغفار منه قيل ذنبه صلى الله عليه وسلم الذي كان قبل البعثة والعصمة، وقيل ذنب أمته، وقيل الصغائر ومخالفة الأول قيل المراد هو تعبد الله رسوله بالدعاء إذ الاستغفار دعاء بطلب المغفرة وهو وجه وأوجه منه إرشاد الآية إلى الاستغفار.
3- هما صلاة الصبح وصلاة العصر ومعنى بحمد ربك أي بالشكر له والثناء عليه.
4- جملة إنه هو السميع العليم تعليلية، ومفعول المستعاذ منه في قوله فاستعذ بالله محذوف لغرض التعميم في كل ما يخاف منه.
5- اللام في جواب قسم محذوف كما في التفسير، وخلق السموات والأرض شامل لكل ما فيهما من مخلوقات وعقيدة البعث والجزاء الآخر من جملة ما يجادل فيه الذين كفروا.

المرة الأولى، ولكن أكثر الناس لا يعلمون(1) هذه الحقائق العلمية لجهلهم وبعدهم عن العقليات لما عليهم من طابع البداوة وإلا فإعادة الشيء أهون من بدئه عقلاً فليس الاختراع كالإصلاح للمخترع إذا فسد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان منة الله تعالى على موسى وبني إسرائيل تتكرر لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته بإنزال الكتاب وتوريثه فيهم هدى وذكرى لأولي الألباب.
2- وجوب الصبر والتحمل في ذات الله، والاستعانة على ذلك بالاستغفار والذكر والصلاة.
3- أكثر من يجادل بالباطل ليزيل به الحق إنما يجادل من كبر يريد الوصول إليه وهو التعالي والغلبة والقهر للآخرين.
4- تقرير عقيدة البعث بالبرهان العقلي، وهو أن البدء أصعب من الإعادة ومن أبدأ أعاد، ولا نصب ولا تعب!!
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ(58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ(59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ(60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ(61) ذَلِكُمُ
__________
1- لا يعلمون لانشغالهم بالباطل عن الحق فتركوا التفكر والتأمل لذا هم لا يعلمون أن الذي خلق السموات والأرض قادر عقلا على خلق الناس بعد إماتته إياهم وبعثهم أحياء كما خلقهم أول مرة.

اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ(63)
شرح الكلمات:
وما يستوي الأعمى والبصير : لا يستويان فكذلك الكافر والمؤمن لا يستويان.
والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء: لا يستويان أيضاً فكذلك لا يستوي الموقن والشاك.
قليلا ما تتذكرون : أي ما يتذكرون إلا تذكراً قليلاً والتذكر الاتعاظ.
إن الساعة لآتية : أي إن ساعة نهاية هذه الحياة وإقبال الأخرى جائية لا شك فيها.
إن الذين يستكبرون عن عبادتي : أي عن دعائي.
سيدخلون جهنم داخرين: أي صاغرين ذليلين.
لتسكنوا فيه : أي لتنقطعوا عن الحركة فتستريحوا.
والنهار مبصراً : أي مضيئاً لتتمكنوا فيه من الحركة والعمل.
ولكن أكثر الناس لا يشكرون: أي الله تعالى بحمده والثناء عليه وطاعته.
ذلكم الله ربكم : أي ذلكم الذي أمركم بدعائه ووعدكم بالاستجابة الذي جعل لكم الليل والنهار وأنعم عليكم بجلائل النعم الله ربكم الذي لا إله لكم غيره ولا رب لكم سواه.
فأنى تؤفكون : أي كيف تصرفون عنه وهو ربكم وإلهكم الحق إلى أوثان وأصنام لا تسمع ولا تصبر.
كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون: أي كما صرف أولئك عن الإيمان والتوحيد يصرف الذين يجحدون بآيات الله يصرفون عن الحق.
معنى الآيات:
ما زال السياق في دعوة قريش إلى الإيمان والتوحيد، فقوله تعالى {وَمَا يَسْتَوِي(1)} أي في حكم
__________
1- وما يستوي الأعمى والبصير أي الكافر والمؤمن والضال والمهتدي.

العقلاء {الْأَعْمَى} الذي لا يبصر شيئا والبصير الذي يبصر كل شيء يقع عليه بصره فكذلك لا يستوي المؤمن السميع البصير، والكافر الأعمى عن الدلائل والبراهين فلا يرى منها شيئاً الأصم الذي لا يسمع نداء الحق والخير، ولا كلمات الهدى والرشاد. كما لا يستوي في حكم العقلاء المحسن المؤمن العامل للصالحات، والمسيء الكافر والعامل للسيئات، وإذا كان الأمر كما قررنا فلم لا يتعظ القوم به ولا يتوبون إنهم لظلمة نفوسهم {قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ(1)} أي لا يتعظون إلا نادراً.
وقوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَة(2)َ لَآتِيَةٌ} يخبر تعالى أن الساعة التي كذب بها المكذبون ليستمروا على الباطل والشر فعلا واعتقاداً لآتية حتماً، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} بها لوجود صارف قوي وهو عدم تذكرهم، وانكبابهم على قضاء شهواتهم.
وقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي(3) أَسْتَجِبْ لَكُمْ} إنه لما قرر ربوبيته تعالى وأصبح لا محالة من الاعتراف بها قال لهم: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أي سلوني أعطكم وأطيعوني أثبكم فأنتم عبادي وأنا ربكم. ثم قال لهم: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي} ودعائي فلا يعبدونني ولا يدعونني سوف أذلهم وأهينهم وأعذبهم جزاء استكبارهم وكفرهم وهو معنى قوله: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أو صاغرين ذليلين يعذبون بها أبدا.
وفي الآية (61) عرفهم تعالى بنفسه ليعرفوه فيؤمنوا به ويعبدوه ويوحدوه، ويكفروا بما سواه من مخلوقات فقال: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ(4) لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} أي جعله مظلما لتنقطعوا فيه عن الحركة والعمل فتستريحوا {وَالنَّهَارَ مُبْصِراً} أي وجعل لكم النهار مبصراً أي مضيئاً يمكنكم التحرك فيه والعمل والتصرف في قضاء حاجاتكم، وليس هذا من إفضال الله عليكم بل إفضاله وإنعامه أكثر من أن يذكر وقرر ذلك بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} الله على إفضاله وإنعامه عليهم فلا يعترفون بإنعامه ولا يحمدونه
__________
1- قرأ نافع قليلا ما يتذكرون بالياء وقرأ حفص تتذكرون بالتاء ولكل وجه بلاغي وكأن تذكرهم قليلاً لعدم علمهم فهم كالأموات لجهلهم فهم لا يتذكرون وإن تذكروا قليلاً ينقطعون فلا يحصل المراد من التذكر.
2- المراد بالساعة ساعة البعث والقيام من القبور. إنه بعد ذكر الأدلة المقررة للبعث كان هذا إعلانا عن تحقق مجيئها وتأكيد الخبر بإن ولام الابتداء لزيادة التحقيق والمراد تحقق وقوعها لا الإخبار عن وقوعها.
3- روى الترمذي عن النعمان بن بشير وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الدعاء هو العبادة. ثم قرأ {وقال ربكم ادعوني أستجيب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله.
4- (جعل) إن كانت بمعنى خلق تعدت إلى مفعول واحد كما هي هنا وإن كانت بمعنى صير تنصب مفعولين نحو جعلت الثوب سروالاً.

بألسنتهم ولا يطيعونه بجوارحهم، وذلك لاستيلاء الشيطان والغفلة عليهم ثم واصل تعريف نفسه لهم ليؤمنوا به بعد معرفته ويكفروا بالآلهة العمياء الصماء التي هم عاكفون عليها صباح مساء فقال جل من قائل: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ}(1 ) الذي عرفكم نفسه {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي لا معبود بحق إلا هو. وقوله: {فَأَنَّى(2) تُؤْفَكُونَ} أي كيف تصرفون عنه وهو ربكم والمنعم عليكم، إلا أوثان وأوثان وأصنام لا تنفعكم ولا تضركم. فسبحان الله كيف تؤفكون كذلك يؤفك أي كانصرافكم أنتم عن الإيمان والتوحيد مع وفرة الأدلة وقوة الحجج يصرف أيضاً الذين كانوا بآيات الله يجحدون في كل زمان ومكان لأن الآيات الإلهية حجج وبراهين فالمكذب بها سيكذب بكل شيء حتى بنفسه والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان حقيقة هي أن الضدين لا يجتمعان فالكفر والإيمان، والإحسان والإساءة والعمى والبصر والصمم والسمع هذه كلها لا تستوي بعضها ببعض فمحاولة الجمع بينها محاولة باطلة ولا تنبغي.
2- قرب الساعة مع تحتم مجيئها والأدلة على ذلك العقلية والنقلية كثيرة جداً.
3- فضل الدعاء وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع(3) نعله. وللدعاء المستجاب شروط منها: أن يكون القلب متعلقا بالله معرضاً عما سواه وأن لا يسأل ما فيه إثم، ولا يتعدى في الدعاء فيسأل ما لم تجر سنة الله به كأن يسأل أن يرى الجنة يقظة أو أن يعود شاباً وهو شيخ كبير أو أن يرزق الولد وهو لا يتزوج.
4- الدعاء(4) هو العبادة ولذا من دعا غير الله فقد أشرك بالله.
5- بيان إنعام الله وإفضاله والمطالبة بشكر الله تعالى بحمده والثناء عليه وبطاعته بفعل محابه وترك مكارهه.
__________
1- الإشارة إلى اسم الجلالة في قوله {الله الذي جعل لكم} الخ .
2- أنى اسم استفهام عن الكيفية وأصله استفهام عن المكان ثم نقل إلى الحالة.
3- تقدم تخريجه وأنه من سنن الترمذي وأنه صحيح الإسناد وشسع النعل: زمام النعل بين الإصبع الوسطى والتي تليها يضرب به المثل في الفاقة يقال لا يملك شسع نعل.
4- روي بإسناد لا بأس به "من لم يسأل الله يغضب عليه ومن لم يدع الله غضب عليه" أيضا حسنهما ابن كثير في تفسيره.

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(68)
شرح الكلمات:
قراراً : أي قارة بكم لا تتحرك فيفسد ما عليها من إنشاء وتعمير.
بناء : أي محكمة إحكام البناء فلا تسقط عليكم ولا يسقط منها شيء يؤذيكم.
وصوركم : أي في أرحام أمهاتكم فأحسن صوركم.
من الطيبات : أي الحلال المستلذ غير المستقذر وهي كثيرة.
فتبارك الله : أي تعاظم وكثرت بركاته.
فادعوا الله مخلصين له الدين : أي اعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئاً في عباداته دعاء كان أو غيره.

قل إن نهيت : أي نهاني ربي أن أعبد الأوثان التي تعبدون.
وأمرت أن أسلم لرب العالمين: أي وأمرني ربي أن أسلم له وجهي وأخلص له عملي.
هو الذي خلقكم من تراب : أي خلق أبانا آدم من تراب وخلقنا نحن ذريته مما ذكر من نطفة ثم علقة.
ثم لتبلغوا أشدكم : أي كمال أجسامكم وعقولكم في سن ما فوق الثلاثين.
ومنك من يتوفى من قبل : أي ومنكم من يتوفاه ربه قبل سن الشيخوخة والهرم.
ولتبلغوا أجلا مسمى : أي فعل ذلك بكم لتعيشوا ولتبلغوا أجلا مسمى وهو نهاية العمر المحددة لكل إنسان.
ولعلكم تعقلون : أي طوركم هذه الأطوار من نطفة إلى علقة إلى طفل إلى شاب إلى كهل إلى شيخ رجاء أن تعقلوا دلائل قدرة الله وعلمه وحكمته فتؤمنوا به وتعبدوه موحدين له فتكملوا وتسعدوا.
يحيي ويميت(1) : أي يخلق الإنسان وقد كان عدما، ويميته عند نهاية أجله.
فإذا قضى أمراً : أي حكم بوجوده.
فإنما يقول له كن فيكون : أي فهو لا يحتاج إلى وسائط وإنما هي الإرادة فقط فإذا أراد شيئا قال له كن فهو يكون.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تعريف العباد بربهم سبحانه وتعالى حتى يؤمنوا به ويعبدوه ويوحدوه إذ كمالهم وسعادتهم في الدارين متوقفان على ذلك قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ} أي(2) قارة في مكانها ثابتة في مركز دائرتها لا تتحرك بكم ولا تتحول عليكم فتضطرب حياتكم فتهلكوا، وجعل السماء بناء محكماً وسقفاً محفوظاً من التصدع والانفطار والسقوط كُلاًّ وبعضاً، وصوركم في أرحام أمهاتكم فأحسن صوركم(3) ورزقكم من الطيبات التي خلقها لكم وهي كل ما لذ وطاب من حلال الطعام والشراب واللباس والمراكب ذلكم الفاعل
__________
1- في قوله يحيي ويميت المحسن البديعي المسمى بالطباق.
2- القرار مصدر قر إذا سكن وهو هنا من صفات الأرض خبر لأنه خبر عن الأرض والمعنى أنه جعلها قارة "ساكنة" غير مائدة ولا مضطربة إذ لو لم تكن قارة لكان الناس في عناء شديد من اضطرابها وتزلزلها، وقد يفضي ذلك بأكثر الناس إلى الهلاك وهذا في معنى قوله: {وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بكم} ومن مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته أن تدور الأرض في فلكها دورة منتظمة بدقة فائقة فلا تخرج عن مدارها مقدار شبر بل إصبع فسكنت وقرت وهي متحركة فسبحان الله العلي العظيم.
3- فأحسن صوركم الفاء للعطف والتعقيب ورزقكم فهاتان نعمتان عظيمتان نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد.

لكل ذلك الله ربكم الذي لا رب لكم سواه ولا معبود بحق لكم غيره. فتبارك الله رب العالمين أي خالق الإنس والجن ومالكهما والمدبر لأمرهما، هو الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون لا إله أي لا معبود للعالمين إلا هو فادعوه مخلصين له الدين أي اعبدوه وحده ولا تشركوا بعبادته أحداً قائلين الحمد لله رب العالمين(1) أي حامدين له بذلك، هذا ما تضمنته الآيتان (64، 65) وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي قل يا نبينا لقومك إن نهاني ربي أن أعبد الذين تدعون من دون الله من أصنام وأوثان لا تنفع ولا تضر وذلك لما(2) جاءني البينات من ربي وهي الحجج والبراهين على بطلان عبادة غير الله ووجوب عبادته سبحانه وتعالى، وأمرت أن أسلم لرب العالمين أي وأمرني ربي أن أسلم له فأنقاد وأخضع لأمره ونهيه وأطرح بين يديه وأفوض أمري إليه وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} نظراً إلى أصلهم وهو آدم، ثم من نطفة مني ثم من علقة دم متجمد، ثم يخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا، ثم لتبلغوا أشدكم أي اكتمال أبدانكم وعقولكم بتخطيكم الثلاثين من أعماركم، ثم لتكونوا شيوخاً بتجاوزكم(3) الستين. ومنكم من يتوفى أي يتوفاه الله قبل بلوغه سن الشيخوخة والهرم وما أكثرهم، وفعل بكم ذلك لتعيشوا ولتبلغوا أجلاً مسمى ولعلكم تعقلون إذا تفكرتم في خلق الله لكم على هذه الأطوار فتعرفون أن ربكم واحد وأنه إلهكم الحق الذي لا إله لكم سواه.
وقوله هو الذي يحيي ويميت يحيي النطف الميتة فإذا هي بعد أطوارها بشراً أحياء ويميت الأحياء عند نهاية آجالهم وهو حي لا يموت والإنس والجن يموتون ومن أعظم مظاهر قدرته أنه يقول للشيء إذا أراده كن فيكون ولا يتخلف أبداً هذا هو الله رب العالمين وإله الأولين والآخرين وجبتْ محبته وطاعته ولزمت معرفته إذ بها يُحَبُّ ويعبد ويطاع.
__________
1- إنشاء الثناء على الله تعالى بعد ذكر موجبات ذلك من نعمة الإيجاد والإمداد والهداية إلى الدين الحق بعبادة الله وحده كما هي السنة في تعقيب الحمد والثناء على الله تعالى بعد كل نعمة ينعم بها على عباده.
2- لما هذه يقال فيها التوقيتية أي حصل نهي عن عبادة غير ربي في الوقت الذي جاءتني البينات وفي الآية تعريض بالمشركين إذ لم ينتهوا عن عبادة غير الله وقد جاءتهم البينات من ربهم.
3- سن الشيخوخة هو ما بين الخمسين إلى الثمانين.

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان مظاهر قدرة الله تعالى في الخلق والإيجاد والإرزاق والإحياء والإماتة وكلها معرفة به تعالى موجبة له العبادة والمحبة والإنابة والرغبة والرهبة ونافية لها عما سواه من سائر خلقه.
2- تقرير التوحيد ووجوب عبادة الله تعالى وحده لا شريك له.
3- بيان خلق الإنسان وأطوار حياته وهي من الآيات الكونية الموجبة للإيمان بالله وتوحيده في عبادته إذ هو الخالق الرازق المحيي المميت لا إله غيره ولا رب سواه.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ(69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ(71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ(72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ(73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ(74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ(75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ(76)
شرح الكلمات:
يجادلون في آيات الله : أي في القرآن وما حواه من حجج وبراهين دالة على الحق هادية إليه.
أنى يصرفون : أي كيف يصرفون عن الحق مع وضوح الأدلة وقوة البراهين.
الذين كذبوا بالكتاب : أي بالقرآن.

وبما أرسلنا به رسلنا: من وجوب الإسلام لله بعبادته وحده وطاعته في أمره ونهيه والإيمان بلقائه.
فسوف يعلمون : أي عقوبة تكذيبهم.
إذ الأغلال في أعناقهم: أي وقت وجود الأغلال في أعناقهم يعلمون عاقبة كفرهم وتكذيبهم.
ثم في النار يسجرون : أي يوقدون.
ثم يقال لهم أين ما كنتم : أي يسألون هذا السؤال تبكيتاً لهم وخزياً.
تشركون من دون الله : أي تعبدونهم مع الله.
قالوا ضلوا عنا : أي غابوا عنا فلم نرهم.
بل لم نكن ندعو من قبل شيئا: أي أنكروا عبادة الأصنام، أو لم يعتبروا عبادتها شيئاً وهو كذلك.
كذلك يضل الله الكافرين : أي مثل إضلال هؤلاء المكذبين يضل الله الكافرين.
بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق: أي بالشرك والمعاصي.
وبما كنتم تمرحون : أي بالتوسع في الفرح، لأن المرح شدة الفرح.
فبئس مثوى المتكبرين : أي دخول جهنم والخلود فيها بئس ذلك مأوى للمتكبرين.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الدعوة إلى التوحيد وإلى الإيمان بالبعث والجزاء، وتقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ} أي يا محمد {إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ(1) فِي آيَاتِ اللَّهِ} القرآنية لإبطالها وصرف الناس عن قبولها أو حملهم على إنكارها وتكذيبها والتكذيب بها وهذا تعجيب من حالهم. وقوله تعالى : {أَنَّى يُصْرَفُونَ} أي كيف يصرفون عن الحق بعد ظهور أدلته. وقوله {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ} الذي هو القرآن {وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا} من التوحيد والإيمان {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} عاقبة تكذيبهم وقت ما تكون الأغلال(2) في أعناقهم والسلاسل في أرجلهم يسحبون أي تسحبهم الزبانية في الحميم
__________
1- وقيل هذه الآية نزلت في القدرية نفاة القدر وقيل في المشركين والعبرة بعموم اللفظ فهي عامة في المشركين والمكذبين المجادلين في آيات الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم لصرفها عن مراد الله إحقاقاً لباطلهم وإثباتاً لمذهبهم الفاسد.
2- الأغلال جمع غل بضم الغين: حلقة من قد "جلد" أو حديد محيط بالعنق. سئل ابن عرفة هل يجوز أن يقاد اليوم الأسير والجاني بالغل في عنقه؟ قال لا يجوز وإنما يقاد الجاني من يده لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحراق بالنار وقال إنما يعذب بالنار رب النار.

هو ماء حار تناهي في الحرارة ثم في النار يسجرون(1) أي توقد بهم النار كما توقد بالحطب، هذا عذاب جسماني ووراءه عذاب روحاني إذ تقول لهم الملائكة توبيخاً وتبكيتاً وتأنيباً وتقريعاً: {أَيْنَ(2) مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ} أي أين أوثانكم التي كنتم تعبدونها مع الله؟ فيقولون: ضلوا عنا أي غابوا فلم نرهم، بل ما كنا ندعو من قبل شيئاً هذا إنكار منهم حملهم عليه الخوف أو هو بحسب الواقع أنهم ما كانوا يعبدون شيئاً إذ عبادة الأصنام ليست شيئاً لبطلانها.
وقوله {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ(3) فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} أي حل بكم هذا العذاب بسبب فرحكم بالباطل من شرك وتكذيب وفسق وفجور، في الدنيا، وبسبب مرحكم أيضا وهو أشد الفرح وأخيراً يقال لهم {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} باباً بعد باب وهي أبواب الدركات {خَالِدِينَ(4) فِيهَا} لا تموتون ولا تخرجون {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} أي ساء وقبح مثواكم في جهنم من مثوى أي مأوى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التعجيب من حال المكذبين بآيات الله المجادلين فيها كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح أدلته وقوة براهينه.
2- إبراز صورة واضحة للمكذبين بالآيات المجادلين لإبطال الحق وهم في جهنم يقاسون العذاب بعد أن وضعت الأغلال في أعناقهم والسلاسل في أرجلهم يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون.
3- ذم الفرح بغير فضل الله ورحمته، وذم المرح وهو أشد الفرح.
4- ذم التكبر وسوء عاقبة المتكبرين الذين يمنعهم الكبر من الاعتراف بالحق ويحملهم على احتقار الناس وازدراء الضعفاء منهم.
__________
1- قال مجاهد يطرحون في النار فيكونون وقوداً لها: يقال سجرت التنور أي أوقدته وسجرته ملأته أيضاً ومنه والبحر المسجور أي المملوء. شاهد آخر قوله تعالى {وقودها الناس والحجارة}.
2- الاستفهام بأين يكون عن المكان وأريد به هنا التنبيه على الغلط والفضيحة في الموقف.
3- ما مصدرية في الموضعين والتقدير أي ذلكم العذاب الذي وقعتم فيه مسبب على فرحكم ومرحكم الذين كانا لكم في الدنيا إذ الأرض المراد بها الدنيا.
4- خالدين حال مقدرة أي مقدر خلودكم فيها و {فبئس مثوى المتكبرين} متفرع على الخلود والمخصوص بالذم محذوف تقديره جهنم.

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ(77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ(78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ(80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ(81)
شرح الكلمات:
فاصبر إن وعد الله حق : أي فاصبر يا رسولنا على دعوتهم متحملاً أذاهم فإن وعد ربك بنصرك حق.
فإما نرينك بعض الذي نعدهم : أي من العذاب في حياتك.
منهم من قصصنا عليك : أي ذكرنا قصصهم وأخبارهم وهم خمسة وعشرون.
أن يأتي بآية إلا بإذن الله: أي لأنهم عبيد مربوبون لا يفعلون إلا ما يأذن لهم به سيدهم.
وخسر هنالك المبطلون : أي هلك أهل الباطل بعذاب الله فخسروا كل شيء.
جعل لكم الأنعام : أي الإبل وإن كان لفظ الأنعام يشمل البقر والغنم أيضا.
ولكم فيها منافع : أي من اللبن والنسل والوبر.
ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم : أي حمل الأثقال وحمل أنفسكم من بلد إلى بلد، لأنها كسفن البحر.

فأي آيات الله تنكرون : أي فأي آية من تلك الآيات تنكرون فإنها لظهورها لا تقبل الإنكار.
معنى الآيات:
بعد تلك الدعوة الإلهية للمشركين إلى الإيمان والتوحيد والبعث والجزاء والتي تلوّن فيها الأسلوب وتنوّعت فيها العبارات والمعاني، والمشركون يزدادون عتواً قال تعالى لرسوله آمراً إياه بالصبر(1) على الاستمرار على دعوته متحملاً الأذى في سبيلها {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} فيخبره بأن ما وعده ربه حق وهو نصره عليهم وإظهار دعوة الحق ولو كره المشركون. وقوله: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ(2) بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} أي من العذاب الدنيوي {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل ذلك {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} فنعذبهم بأشد أنواع العذاب في جهنم، وننعم عليك بجوارنا في دار الإنعام والتكريم أنت والمؤمنون معك. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (77) وقوله تعالى في الآية الثانية (78 ) {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ} يخبر تعالى رسوله مؤكدا له الخبر مسلياً له حاملاً له على الصبر بأنه أرسل من قبله رسلا كثيرين منهم من قص خبرهم عليه ومنهم من لم يقصص(3) وهم كثير وذلك بحسب الفائدة من القصص وعدمها وأنه لم يكن لأحدهم أن يأتي بآية كما طالب بذلك قومه، والمراد من الآية المعجزة الخارقة للعادة، إلا بإذن الله، إذ هو الوهاب لما يشاء لمن يشاء، فإذا جاء أمر الله بإهلاك المطالبين بالآيات تحدياً وعناداً ومكابرةً قضي بالحق أي حكم الله تعالى بين الرسول وقومه المكذبين له المطالبين بالعذاب تحدياً، فنجَّى رسوله والمؤمنين وخسر هنالك المبطلون من أهل الشرك والتكذيب.
وقوله تعالى في الآية الثالثة (79) {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ} يعرفهم تعالى بنفسه مقرراً ربوبيته الموجبة لألوهيته فيقول الله أي المعبود بحق هو الذي جعل لكم الأنعام على وضعها الحالي الذي ترون لتركبوا منها(4) وهي الإبل، ومنها تأكلون ومن بعضها تأكلون كالبقر والغنم ولا تركبون، ولكن فيها منافع وهي الدَّرُّ والوبر والصوف والشعر والجلود ولتبلغوا عليها حاجة في
__________
1- أمره تعالى رسوله بالصبر في الآية هو تسلية له صلى الله عليه وسلم إذ أخبر أنه ينتقم له من أعدائه في حياته أو في الآخرة وهذا كان لاستبطاء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين النصر.
2- فإما أصلها فإن حرف شرط قرنت بما الزائدة للتأكيد ولذا ألحقت نون التوكيد بفعل الشرط عطف عليه أو نتوفينك وهو فعل شرط ثان.
3- قال ابن كثير وهم أكثر ممن ذكر بأضعاف أضعاف وهو كذلك إذ لم يذكر في القرآن إلا خمسة وعشرون نبياً ورسولا.
4- اللام متعلقة بجعل لكم الأنعام ومن في الموضعين للتبعيض أي تركبون من بعضها وتأكلون من بعضها.

صدوركم وهي حمل أثقالكم والوصول بها إلى أماكن بعيدة لا يتأتى لكم الوصول إليها بدون الإبل سفائن البر، وقوله وعليها أي على الإبل وعلى الفلك "السفن" تحملون أي يحملكم الله تعالى حسب تسخيرها لكم.
وأخيراً يقول تعالى بعد عرض هذه الآيات القرآنية والكونية يقول لكم {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} في أنفسكم وفي الآفاق حولكم {فَأَيَّ آيَاتِ(1) اللَّهِ تُنْكِرُونَ} وكلها واضحة في غاية الظهور والبيان والاستفهام للإنكار عليهم علّهم يرعوون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب الصبر على دعوة الحق والعمل في ذلك إلى أن يحكم الله تعالى.
2- الآيات لا تعطى لأحد إلا بإذن الله تعالى إذ هو المعطي لها فهي تابعة لمشيئته.
3- من الرسل من لم يقصص الله تعالى أخبارهم، ومنهم من قص وهم خمسة(2) وعشرون نبياً ورسولا. وعدم القص لأخبارهم لا ينافي بيان عددهم إجمالاً لحديث أبي ذر في مسند أحمد أن أبا ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله كم عدّة الأنبياء؟ قال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، الرسل من ذلك ثلثمائة وخمسة عشرة جما غفيراً.
4- ذكر منّة الله على الناس في جعل الأنعام صالحة للانتفاع بها أكلاً وركوباً لبعضها لعلهم يشكرون بالإيمان والطاعة والتوحيد.
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
__________
1- اسم استفهام يطلب به تمييز شيء عن مشاركة في ما يضاف إليه أي وهو مستعمل هنا في إنكار أن يكون شيء من آيات الله يمكن أن ينكر دون غيره من الآيات فأفاد أن جميع الآيات صالحة للدلالة على وجود الله ووحدانيته في ألوهيته.
2- جمع بعضهم من ذكروا في القرآن من الآيات الآتية فقال:
حتم على كل ذي التكليف معرفة
بأنبياء على التفصيل قد علموا
في تلك حجتنا منهم ثمانية
من بعد عشر ويبقى سبعة هم
إدريس هود شعيب صالح وكذا
ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا
الرسل المجمع على أنهم رسل خمسة عشر وهم: نوح، إبراهيم، لوط، إسماعيل، إسحاق، يعقوب، يوسف، هود، صالح، شعيب، موسى، هارون، عيسى، يونس، محمد صلى الله عليه وسلم والمختلف في رسالتهم بعد الإجماع على نبوتهم باقي الخمسة والعشرين واختلف في نبوة لقمان وذي القرنين والخضر ومريم عليهم السلام.

(82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ(84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ(85)
شرح الكلمات:
أفلم يسيروا في الأرض : أي أعجزوا فلم يسيروا في الأرض شمالاً وجنوباً وغرباً.
كيف كان عاقبة الذين من قبلهم : أي عاقبة المكذبين من قبلهم قوم عاد وثمود وأصحاب مدين.
وآثاراً في الأرض : أي وأكثر تأثيراً في الأرض من حيث الإنشاء والتعمير.
فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون : أي لم يمنع العذاب عنهم كسبهم الطائل وقوتهم المادية
فرحوا بما عندهم من العلم : أي فرح الكافرون بما عندهم من العلم الذي هو الجهل بعينه.
فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا: أي عذابنا الشديد النازل بهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في طلب هداية قريش بما يذكرهم به وما يعرض عليهم من صور حية لمن كذب ولمن آمن لعلهم يهتدون قال تعالى {أَفَلَمْ(1) يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} أي أعجزوا فلم يسيروا في الأرض أرض الجزيرة شمالاً ليروا آثار ثمود في مدائنها وجنوبا ليروا آثار عاد، وغرباً ليرو آثار أصحاب الأيكة قوم شعيب والمؤتفكات قرى قوم لوط: فينظروا نظر تفكر واعتبار كيف كان عاقبة الذين من قبلهم. كانوا أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض من مصانع وقصور وحدائق وجنات فما أغنى عنهم لما جاءهم العذاب ما كانوا يكسبونه من مال ورجال وقوة مادية.
__________
1- الفاء للتفريع وهمزة الاستفهام داخلة على محذوف أي أعجزوا فلم يسيروا والاستفهام إنكاري ينكر عليهم عدم النظر في آثار الهالكين ليحصلوا على العبرة المطلوبة لهم يؤمنوا ويوحدوا فينجوا من العذاب.

هذا ما دلت عليه الآية الأولى (82) أما الآية الثانية (83) فهي قوله تعالى {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} يخبر تعالى عن المكذبين الهالكين أنهم لما جاءتهم رسلهم بالحجج والأدلة الظاهرة على توحيد الله والبعث والجزاء وصدقهم في النبوة ولرسالة {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ(1) مِنَ الْعِلْمِ} المادي وسخروا من العلم الروحي واستهزأوا بأهله فرحا ومرحاً، {وَحَاقَ بِهِمْ} أي أحاط بهم العذاب الذي كان نتيجة كفرهم وتكذيبهم واستهزائهم، فلما رأوا عذاب الله الشديد وقد حاق بهم أعلنوا عن توبتهم فـ {قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} أي قالوا لا إله إلا الله. قال تعالى {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} أي شديد عذابنا {سُنَّتَ(2) اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} وأخبر تعالى أن هذه سنة من سننه في خلقه وهي أن الإيمان لا ينفع عند معاينة العذاب إذ لو كان يقبل الإيمان عند رؤية العذاب وحلوله لما كفروا كافر ولما دخل النار أحد. وقوله {وَخَسِرَ(3) هُنَالِكَ } أي عند رؤية العذاب وحلوله {الْكَافِرُونَ} أي المكذبون المستهزئون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية السير في البلاد للعظة والاعتبار تقوية للإيمان.
2- القوى المادية لا تغني عن أصحابها شيئا إذا أرادهم الله بسوء.
3- بيان سنة بشرية وهي أن الماديين يغترون بمعارفهم المادية ليستغنوا بها عن العلوم الروحية في نظرهم إلا أنها لا تغني عنهم شيئاً عند حلول العذاب بهم في الدنيا وفي الآخرة.
__________
1- قال القرطبي فرحوا بما عندهم من العلم في معناه ثلاثة أقوال قال مجاهد إن الكفار الذين فرحوا بما عندهم من العلم قالوا نحن أعلم منهم ولن نعذب ولن نبعث، وقيل فرحوا بما عندهم من علم الدنيا نحو يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وقيل الذين فرحوا الرسل بما عندهم من العلم بنجاة المؤمنين وهلاك الكافرين.
2- سنة مصدر سنّ يسن سنا وسنة أي سن الله عز وجل في الكفار أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب وجائز أن يكون سنة منصوب والإغراء والتحذير أي احذروا أيها المشركون سنة الله.
3- خسر هنالك هذه الجملة كالفذلكة لقوله فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا وهنالك أسم إشارة إلى مكان استعير للإشارة إلى الزمان أي خسروا وقت رؤيتهم بأسنا.

سورة فصلت
...
سورة فصلت(1)
مكية
وآياتها أربع وخمسون آية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حم(1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ(4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ(5)
شرح الكلمات:
حم : هذا أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا حم، ويقرأ هكذا حا ميم.
تنزيل من الرحمن الرحيم : أي من الله إذ هو الرحمن الرحيم.
فصلت آياته : أي بينت آياته غاية البيان بلسان عربي لقوم يعلمون إذ هم الذين ينتفعون.
بشيراً ونذيراً : أي مبشرا أهل الإيمان والعمل الصالح بالفوز, ومنذراً المكذبين الكافرين بالخسران.
فأعرض أكثرهم : أي أعرض عن سماع القرآن أكثر مشركي مكة وكفار قريش.
فهم لا يسمعون : أي سماع تعقل وتدبر لينتفعوا بما يسمعون.
في أكنة : أي أغطية جمع كنان: ما فيه يكن الشيء ويستر.
__________
1- وتسمى سورة حم السجدة وتسمى سورة المصابيح وسورة الأموات لذكر المصابيح والأموات والسجدة وفصلت فيها.

وفي آذاننا وقر : أي ثقل فلم نطق السمع.
ومن بيننا وبينك حجاب: أي مانع وفاصل بيننا فلا نسمع ما تقول ولا نرى ما تفعل.
معنى الآيات:
قوله تعالى {حم} هذا أحد الحروف المقطعة وتفسيره أن يقال فيه وفي أمثاله من الحروف المقطعة الله أعلم بمراده به. وقد ذكرنا ما أثرنا عن أهل العلم فائدتين هامتين لمثل هذه الحروف المقطعة في أول سورة غافر، وفي العديد من السور المفتتحة بهذه الحروف فليرجع إليها ولتعرف وتحفظ وقوله {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1)} أي هو منزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وليس كما يقول المبطلون. وقوله {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} أي هو كتاب فخم جليل القدر فصلت آيته أي بينت حال كون ذلك التفصيل {قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(2)} لسان العرب ويفهمون معاني الكلام وأسراره. قوله {بَشِيراً وَنَذِيراً} وحال كونه أيضا بشيراً لأهل الإيمان وصالح الأعمال بالفوز بالجنة والنجاة من النار، نذيراً للمشركين المكذبين من عذاب النار، وقوله تعالى: {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ(3) فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} يخبر تعالى أنه مع بيان الكتاب ووضوح ما جاء به ودعا إليه من التوحيد والخير أعرض أكثر كفار قريش عنه ولم يلتفتوا إليه فهم لا يسمعونه ولا يريدون سماعه بحال، وقالوا معتذرين بأقبح الأعذار: قلوبنا في أكنة أي أغطية تسترها من أجل أن لا نفهم ما تدعونا إليه من التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء المقتضي لمتابعتك والسير وراءك، وفي آذاننا وقر أي ثقل فلا تقوى على سماع ما تقول ومن بيننا وبينك حجاب(4) ساتر وحائل لنا عنك فلا نسمع ما تقول ولا نرى ما تعمل فاتركنا كما تركناك، واعمل(5) على نصرة دينك فإننا عاملون كذلك على نصرة ديننا والحفاظ على معتقداتنا وهذه نهاية المفاصلة التي أبدتها قريش للرسول صلى الله عليه وسلم.
__________
1- تنزيل مبتدأ وسوغ الابتداء به ما في التنكير من معنى التعظيم كأن قيل تنزيل عظيم ومن الرحمن الرحيم الخبر وكتاب بدل من تنزيل وفصلت صفة لكتاب.
2- في إعراب قرآناً عدة وجوه أظهرها أن النصب على الحال وجائز أن يكون على الاختصاص بالمدح.
3- فأعرض أكثر هؤلاء عما في القرآن من الهدى فلم يهتدوا ومن البشارة فلم يعنوا بها ومن النذارة فلم يحذروها فكانوا في أشد الحماقة إذ لم يعنوا بالخير ولم يحذروا الشر فلم يأخذوا بالحيطة لأنفسهم.
4- روي أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوباً فقال يا محمد بيننا وبينك حجاب استهزاء منه.
5- وقيل اعمل على هلاكنا فإنا عاملون على هلاكك وقيل غير هذا وما في التفسير أولى.

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تعيّن تعلم اللغة العربية على كل مسلم يريد أن يفهم(1) كلام الله القرآن العظيم.
2- اشتمال القرآن على أسلوب الترغيب والترهيب وهي البشارة والنذارة.
3- بيان شدة عداوة المشركين للتوحيد والداعين إليه في كل زمان ومكان.
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ(6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ(7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ(8)
شرح الكلمات:
قل إنما أنا بشر مثلكم: أي لست ملكا وإنما أنا بشر مثلكم من بني آدم.
يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد: أي يوحي الله إلي بأن إلهكم أي معبودكم أيها الناس إله واحد لا ثاني له ولا أكثر.
فاستقيموا إليه: بإخلاص العبادة له دون سواه.
واستغفروه: أي اطلبوا منه أن يغفر لكم ذنوبكم(2) التي كانت قبل الاستقامة وهي الشرك والمعاصي.
وويل للمشركين : أي عذاب شديد سيحل بهم لإغضابهم الرب بمضادته بآلهة باطلة.
__________
1- شاهده قول الأصوليين ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وما دام لا يفهم الشرع إلا بلغة القرآن وجب تعلم هذه اللغة.
2- ذنوبكم التي قارفتموها من الشرك والمعاصي قبل التوبة التي هي الاستقامة على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

لا يؤتون الزكاة : أي زكاة أنفسهم بما يطهرها من أوضار الشرك والمعاصي.
لهم أجر غير ممنون : أي ثواب الآخرة وهو الجنة ونعيمها لا ينقطع بحال هو أجر غير ممنون.
معنى الآيات:
إنه بعد تلك المفاصلة التي قام بها المشركون حفاظاً على الوثنية وجهل الجاهلية أمر تعالى رسوله أن يقول لهم إنما أنا بشر مثلكم في آدميتي لم أدّع يوما غيرها فلم أقل إني ملك، إلا أني أفضلكم بشيء وهو أنه يوحى إليّ من قبل ربي، والموحى به إلي هو أنما إلهكم الحق إله واحد لا شريك له في ربوبيته ولا في ألوهيته، وعليه فاخلعوا تلك الأوثان واستقيموا(1) إليه تعالى بإخلاص العبادة والوجوه إليه، واستغفروه من آثار الذنب السابق قبل الاستقامة على الإيمان والتوحيد وقوله تعالى: { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} يخبر تعالى أن الويل وهو مُرُّ العذاب إذ من معاني الويل أنه صديد وقيح أهل النار وما يسيل من أبدانهم وفروجهم للمشركين بربهم الذين لا يؤتون(2) زكاة أموالهم، وهم بالآخرة هم كافرون أي لا يؤمنون بالبعث والجزاء فلذا هم لا يتركون شراً ولا يفعلون خيراً إلا ما قل وندر والنادر لا حكم له.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ(3) آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي آمنوا بالله وعده ووعيده وشرعه وعملوا الصالحات بأداء الفرائض والكثير من النوافل بعد تجنبهم الشرك والكبائر من الذنوب والمعاصي هؤلاء لهم أجر غير ممنون(4) مقابل إيمانهم وصالح أعمالهم، والأجر هو الثواب والمراد به الجنة إذ نعيمها لا ينقطع على من ناله وفاز به بحال من الأحوال.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة والتوحيد.
2- وجوب الاستقامة على شرع الله.
3- وجوب الاستغفار من كل ذنب صغيراً كان أو كبيراً.
4- وجوب الزكاة في الأموال، ووجوب تزكية النفوس بالإيمان وصالح الأعمال.
__________
1- استقيموا إليه أي وجهوا وجوهكم بالدعاء له والمسألة إليه كما يقال للرجل استقم إلى منزلك أي لا تعرج إلى شيء غير القصد إليه.
2- قال ابن عباس لا يؤتون الزكاة أي لا يشهدون أن لا إله إلا الله وهي زكاة الأنفس لأن السورة مكية والزكاة فرضت بالمدينة وقال بعضهم إن قريشاً كانوا ينفقون النفقات ويسقون الحجيج ويطعمونهم فحرموا ذلك من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية.
3- الجملة مستأنفة استئنافاً بيانيا نشأ عن الوعيد المتقدم فكأن سائلاً يقول فإن اتعظ هؤلاء المشركون وتابوا من الشرك وترك المعاصي فما جزاؤهم؟ فالجواب أن الذين آمنوا عملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون.
4- المن القطع ومن منّ صدقته فقد قطعها قال الشاعر:
لعمرك ما بأبي بذي غلق
على الصديق ولا خيري بممنون

قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ(9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ(10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ(11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(12)
شرح الكلمات:
بالذي خلق الأرض في يومين : أي الأحد والاثنين.
وتجعلوا له أندادا: أي شركاء وهذا داخل في حيز الإنكار الشديد عليهم.
ذلك رب العالمين : أي الله مالك العالمين وهم كل ما سواه عز وجل من سائر الخلائق.
وجعل فيها رواسي : أي جبالاً ثوابت.
وبارك فيها : أي في الأرض بكثرة المياه والزروع والضروع.
وقدر فيها أقواتها : أي أقوات الناس والبهائم.
في أربعة أيام : أي في تمام أربعة أيام وهي الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء.
سواء للسائلين : أي في أربعة أيام هي سواء لمن يسأل فإنها لا زيادة فيها ولا نقصان.
ثم استوى إلى السماء: أي قصد بإرادته الربانية إلى السماء وهي دخان قبل أن تكون سماء.

فقضاهن سبع سماوات في يومين : أي الخميس والجمعة ولذا سميت الجمعة جمعة لاجتماع الخلق فيها.
وأوحى في كل سماء أمرها (1) : أي ما أراد أن يكون فيها من الخلق والأعمال.
وزينا السماء الدنيا بمصابيح : أي بنجوم.
وحفظاً : أي وحفظناها من استراق الشياطين السمع بالشهب الموجودة فيها.
ذلك تقدير العزيز العليم : أي خلق العزيز في ملكه العليم بخلقه.
معنى الآيات:
إنه بعد الإصرار على التكذيب والإنكار من المشركين أمر تعالى رسوله أن يقول لهم(2) {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إن كفرهم عجب منكم هل تعلمون بمن تكفرون إنكم لتكفرون بالذي خلق الأكوان كلها علويها وسفليها في ستة أيام، أين يذهب بعقولكم يا قوم أتستطيعون جحود الله تعالى وجحود آياته وهذه الأكوان كلها آيات شاهدات على وجوده وقدرته وعلمه حكمته وموجبة له الربوبية عليها والألوهية له فيها دون غيره من سائر خلقه وأعجب من ذلك أنكم تجعلون له أنداداً أي شركاء تسوونهم به وهم أصنام لا تسمع ولا تبصر فكيف تُسّوى بالذي خلق الأرض في يومين أي الأحد والاثنين، وهو رب العالمين أجمعين أي رب كل شيء ومليكه ومالكه.
وقوله تعالى في الآية الثانية (9) {وَجَعَلَ فِيهَا} أي في الأرض رواسي أي جبالاً ثوابت ترسو في الأرض حتى لا تميد بأهلها ولا تميل فيخرب كل شيء عليها، {وَبَارَكَ فِيهَا} بكثرة المياه والرزق والضروع والخيرات {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} (3) تقديراً يعجز البيان عن وصفه، والقلم عن رقمه والآلات الحاسبة عن عدّه. وذلك كله من الخلق والتقدير {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً(4)} لمن يسأل عنها إنها الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء أي مقدرة بأيامنا هذه التي تكونت نتيجة الشمس والقمر والليل والنهار فلا تزيد يوماً ولا تنقص آخر.
__________
1- الوحي: الكلام الخفي، ويطلق الوحي على حصول المعرفة في نفس من يراد حصولها عنده دون قول، ومنه فأوحى إليهم أي أومأ إليهم بما يدل على معنى سبحوا بكرة وعشياً قال الشاعر:
يرمون بالخطب الطوال وتارة
وحي الملاحظ خفية الرقباء
2- الاستفهام للتوبيخ والتعجب من حالهم أي لم تكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً؟ ومعنى الكفر به تعالى بانفراده بالألوهية. فلما أنكروا ألوهيته كان كإنكارهم صفات ذاته فصح أنهم كفروا به.
3- قال قتادة ومجاهد: خلق فيها أنهارها وأشجارها ودوابها في يومي الثلاثاء والأربعاء.
4- أي تتمة أربعة أيام.

وقوله {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} في الآية الثالثة (10) يخبر تعالى أنه بعد خلق الأرض استوى إلى السماء أي قصد بإرادته التي تعلو فوق كل إرادة {إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} أي بخار وسديم ارتفع من الماء الذي كان عرشه تعالى عليه فقال لها كما قال {وَلِلْأَرْضِ(1) ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} أي طائعتين أو مكرهتين لا بد من مجيئكما حسب ما أردت وقصدت فأجابتا بما أخبر تعالى عنهما في قوله: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} أي لم يكن لنا أن نخالف أمر ربنا، {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} وهما الخميس والجمعة، {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} أي ما أراد أن يخلقه فيها ويعمرها به من المخلوقات والطاعات. وقوله: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} وهي النجوم وحفظاً أي وجعلناها أي النجوم حفظاً من الشياطين أن تسترق السمع فإن الملائكة يرجمونهم بالشهب من النجوم فيحترقون أو يخبلون. وقوله: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ(2) الْعَلِيمِ} أي ذلك المذكور من الخلق والتقدير تقدير العزيز في ملكه أي الغالب على أمره العليم بتدبير ملكه وأعمال وأحوال خلقه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الكفر بالله لا ذنب فوقه فما بعد الكفر ذنب، وهو عجيب وأعجب منه اتخاذ أصنام وأحجار وأوثاناً تعبد مع الله الحي القيوم مالك الملك ذي الجلال والإكرام.
2- بيان الأيام التي خلق الله فيها العوالم العلوية والسفلية وهي ستة أيام أي على قدر ستة أيام من أيام الدنيا هذه مبدوءة بالأحد منتهية بالجمعة، وقدرة الله صالحة لخلق السموات والأرض وبكل ما فيهما بكلمة التكوين "كن" ولكن لحكم عالية أرادها الله تعالى منها تعليم عباده الأناة والتدرج في إيجاد الأشياء شيئاً فشيئاً.
3- لا تعارض بين قوله تعالى في هذه الآية { ثم استوى إلى السماء } المشعر بأن خلق السموات كان بعد خلق الأرض، وبين قوله :{ والأرض بعد ذلك دحاها} من سورة النازعات المفهم أن دَحْوَ الأرض كان بعد خلق السماء، إذ فسر تعالى دحو الأرض بإخراج مائها ومرعاها وهو ما ترعاه الحيوانات التي سيخلقها عليها، ثم قوله {خلق الأرض في يومين} على صورة يعلمها هو ولا نعلمها نحن،
__________
1- قال ابن عباس قال الله تعالى للسماء أطلعي شمسك وقمرك وكواكبك وأجري سحابك ورياحك وقال للأرض شقي أنهارك وأخرجي شجرك وثمارك طائعتين أو كارهتين {قالتا أتينا طائعين}.
2- في الأحاديث الصحيحة أن الله خلق آدم يوم الجمعة وأنه آخر أيام الأسبوع وأنه خيرها وأفضلها وأن اليهود والنصارى قد اختلفوا فيه فهدى الله الذين آمنوا إليه.

وتقدير الأقوات في قوله {وقدر فيها أقواتها } لا يستلزم أن يكون فعلا أظهر ما قدره إلى حيز الوجود، وحينئذ لا تعارض بين ما يدل من الآيات على خلق الأرض أولا ثم خلق السموات وهو الذي صرحت به الأحاديث إذ خلق الأرض في يومين وقدر الأقوات في يومين وبعد أن خلق السموات دحا الأرض فأخرج منها ما قدره فيها من أقوات وأرزاق الحيوانات حسب سنته في ذلك.
4- بيان فائدتين عظيمتين(1) للنجوم الأولى أنها زينة السماء بها تضاء وتشرق وتذهب الوحشة منها والثانية أن ترمى الشياطين بالشهب من النجوم ذات التأجج الناري.
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ(13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ(14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ(15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ(16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(18)
__________
1- والثالثة الاهتداء بها في معرفة البلاد والقبلة قال تعالى "والنجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر".

شرح الكلمات:
فإن أعرضوا : أي كفار قريش عن الإيمان والتوحيد بعد ذلك البيان المفصل.
فقل أنذرتكم صاعقة : أي خوفتكم صاعقة تنزل بكم فتهلككم إن أصررتم على هذا الكفر.
من بين أيديهم ومن خلفهم: أي أتتهم رسلهم تعرض عليهم دعوة الحق من أمامهم ومن ورائهم.
لو شاء ربنا لأنزل ملائكة : أي بدلاً عنكم أيها الرسل من البشر.
بغير الحق : أي بغير أن يأذن الله لهم بذلك العلو والاستكبار والتجبّر.
ريحاً صرصراً : أي ذات صوت يسمع له صرصرة مع البرودة الشديدة.
في أيام نحسات: أي مشئومات عليهم لم يفلحوا بعدها.
ولعذاب الآخرة أخزى : أي أشد خزيا من عذاب الدنيا.
فاستحبوا العمى على الهدى: أي استحبوا الكفر على الإيمان إذ الكفر ظلام والإيمان نور.
الذين آمنوا وكانوا يتقون : أي الشرك والمعاصي.
معنى الآيات:
ما زال السياق في طلب هداية قريش فقال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا(1)} بعد ذلك البيان الذي تقدم لهم في الآيات السابقة المبين لقدرة الله وعمله وحكمته والموجب للإيمان بالله ولقائه وتوحيده فقل لهم أنذرتكم أي خوفتكم صاعقة(2) تنزل بكم إن أصررتم على إعراضكم مثل صاعقة عادٍ وثمود أي عذابا مهلكاً كالذي أهلك الله به عاداً وثمود.
وقوله: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ} وهم هود وصالح من بين أيديهم ومن خلفهم كناية أن الرسول بلغهم دعوة الله لهم إلى الإيمان والتوحيد بعناية فائقة فكان يأتيهم من أمامهم ومن خلفهم يدعوهم، قائلاً لهم: لا تعبدوا(3) إلا الله فإنه الإله الحق وما عداه فباطل فكان جوابهم لهم لا نؤمن لكم ولا نقبل منكم ولو شاء(4) الله ما تقولون لنا لأنزل به ملائكة يدعوننا إليه لا أن يرسل مثلكم من البشر وأخيرا قالوا لهم فإننا بما أرسلتم به كافرون فأيأسوا الرسل من إجابتهم. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (12) والثانية (13) وفي الآية الثالثة (14) بين تعالى حال القوم كلاً على حدة فقال فأما عاد أي قوم(5) هود فاستكبروا في الأرض بغير الحق فحملهم الكبر الناجم عن القوة
__________
1- أي استمروا على إعراضهم بعد دعوتك إياهم وإلحاحك فيها.
2- الصاعقة حقيقتها أنها نار تخرج مع البرق تحرق ما تصيبه، وتطلق على الحادثة المبيدة السريعة الإهلاك.
3- جملة ألا تعبدوا إلا الله تفسير لجملة وجاءتهم الرسل.
4- هذا قول عاد وثمود لرسوليهم هود وصالح فحكى بهذا اللفظ.
5- لما حكى الله تعالى قولتي عاد وثمود لرسوليهم وهو قولهم لو شاء الله لأنزل ملائكة فصّل في هذه الآيات حال كل من القبيلتين إتماماً للتذكير بحالهما والموعظة بالعذاب الذي أصابهما فقال فأما عاد .. الخ.

المادية على رفض دعوة هود عليه السلام وقالوا فيه وفي دعوته الكثير وقد مر في سورة هود ويأتي في سورة الأحقاف مفصلاً ما أجمل هنا، وقوله بغير الحق أي أن استكبارهم لا حق لهم فيه أولا لضعفهم أمام قوة الله عز وجل، وثانيا لم يأذن الله تعالى لهم بالاستكبار فهو بغير حق إذاً. وقوله: {وَقَالُوا مَنْ أَشَدّ(1)ُ مِنَّا قُوَّةً} وهذا منهم تحد صريح وعلو وعتو واضحان، ولذا تحداهم الله تعالى بالقوة فقال عز وجل أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة أي أعموا ولم يروا أن الله الذي خلقهم قطعاً هو أشد منهم قوة. إذ كل قوة لهم مصدرها الله هو خالقهم وواهب القوة لهم، فقوتهم ليست ذاتية ولكنها موهوبة إذ يُخلق أحدهم وهو لا يقدر على دفع أدنى شيء عن نفسه وقوله: {وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} هذا تسجيل عليهم أكبر ذنب وهو جحودهم بآيات الله التي جاء بها رسول الله هود عليه السلام كما جحدت قريش آيات الله، وقوله تعالى فأرسلنا عليهم أي بمجرد أن تأكد كفرهم بجحودهم بآيات الله أرسل الله تعالى عليهم ريحاً صرصرا(2) أي باردة ذات صوت مزعج دامت سبع ليال وثمانية أيام فل تبق منهم أحداً وهي أيام نحسات(3) عليهم مشئومات قال تعالى لنذيقهم أي أرسلناها عليهم لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا. ولعذاب الآخرة أخزى أي أشد خزيا وإهانة لهم وذلة، وهم لا ينصرون أي لا ناصر لهم من الله عز وجل. هذا بيان حال عاد. وأما ثمود(4) فقد قال تعالى وأما ثمود قوم صالح فاستحبوا الضلال على الهدى والكفر على الإيمان وقتلوا الناقة وهمّوا بقتل صالح فأخذتهم صاعقة العذاب الهون وذلك صباح السبت فأخذتهم صيحة انخلعت لها قلوبهم فرجفت الأرض من تحتهم فهلكوا عن آخرهم، وذلك بما كانوا يكسبون من الشرك والظلم والكفر والعناد. ونجّى الله تعالى صالحاً ومن معه من المؤمنين الذين آمنوا وكانوا يتقون الشرك والمعاصي وكانوا أربعة آلاف مؤمن ومؤمنة وهو معنى قوله تعالى في ختام الحديث: {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}.
__________
1- وهذا اغترار بقوة أجسامهم حين تهددهم هود بالعذاب.
2- أصلها من صرر من الصر وهو البرد فأبدلوا مكان الراء الوسطى فاء الفعل نحو كبكبوا أصلها كببوا وتجفجف الثوب أصلها تجفف والصرصر هي الشديدة البرودة قال الحطيئة:
المطعمون إذا هبت بصرصرة
الحاملون إذا استودوا على الناس
ومعنى استودوا إذا سئلوا الدية.
3- قرأ نافع بسكون الحاء ويجوز كسرها وبه قرأ حفص على أنه صفة مشبهة من نحس إذا أصابه النحس إصابة سوء أو ضر والنحسات بسكون الحاء جمع نحس.
4- شروع في تفصيل حال ثمود بعد عاد والهداية التي كانت لهم هداية إرشاد وتكليف بواسطة رسولهم صالح وما آتاهم الله من معجزة الناقة العظيمة.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التحذير من الإعراض عن إجابة دعوة الحق، والاستمرار في التمرد والعصيان.
2- تقرير التوحيد وهو أن لا إله إلا الله.
3- دعوة الرسل واحدة وهي الأمر بالكفر بالطاغوت، والإيمان بالله وعبادته وحده بما شرع للناس من عبادات.
4- التنديد بالاستكبار وأنه سبب الكفر والعصيان.
5- لا مصيبة إلا بذنب "بما كانوا يكسبون(1)" أي من الذنوب.
6- الإيمان والتقوى هما سبيل النجاة من العذاب في الدنيا والآخرة وهما ركنا ولاية الله تعالى لقوله ألا إن أولياء(2) الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون.
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ(19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ(22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ(23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ(24)
__________
1- أي لقوله تعالى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون أي بسبب كسبهم السيئات.
2- الآية من سورة يونس عليه السلام.

شرح الكلمات:
فهم يوزعون : أي يحبس أولهم ليلحق آخرهم ليساقوا إلى النار مجتمعين.
حتى إذا ما جاءوها : أي حتى إذا جاءوها أي النار.
بما كانوا يعملون : من الذنوب والمعاصي.
وهو خلقكم أول مرة: أي بدأ خلقكم في الدنيا فخلقكم ثم أماتكم ثم أحياكم.
وما كنتم تستترون : أي عند ارتكابكم الفواحش والذنوب أي تستخفون من أن يشهد عليكم سمعكم وأبصاركم فتتركوا الفواحش والذنوب.
ولكن ظننتم أن الله لا يعلم : أي ولكن عند ارتكابكم الفواحش ظننتم أن الله لا يعلم ذلك منكم.
أرداكم : أي أهلككم.
فإن يصبروا فالنار مثوى لهم : أي فإن صبروا على العذاب فالنار مثوى أي مأوى لهم.
وإن يستعتبوا : أي يطلبوا العتبى وهي الرضا فلا يعتبون أي لا يرضى عنهم هذه حالهم أبدا.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة قريش إلى أصول الدين التوحيد والنبوة والبعث والجزاء وفي هذا السياق عرض لمشهد من مشاهد القيامة وهو مشهد حيٌّ رائع يعرض أمامهم.
إذ يقول تعالى: {وَيَوْمَ(1) يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ} أي اذكر لهم يوم يحشر أعداء الله أي الذين كفروا به فلم يؤمنوا ولم يتقوا؛ إلى النار فهم يوزعون يحبس أولهم ليلحق آخرهم فيساقون مع بعضهم بعضاً. حتى(2) إذا ما جاءوها أي انتهوا إليها، وادعوا أنهم مظلومون وأخذوا يتنصّلون من ذنوبهم، وقالوا إنه لا يقبلون شاهداً من غير أنفسهم فيأمر الله تعالى أسماعهم وأبصارهم وجلودهم فتشهد عليهم بما كانوا يعملون، وهو قوله تعالى: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وهنا رجعوا إلى جلودهم يلومون عليهم ويعتبون وهو ما أخبر تعالى به في قوله: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ(3) عَلَيْنَا} فأجابتهم جلودهم بما أخبر تعالى عنهم في هذا السياق {قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ
__________
1- يحشرون إلى النار أي يجمعون ويساقون إليها.
2- حرف ابتداء في اللفظ أي أن ما بعدها جملة مستأنفة إلا أنها تفيد معنى الغاية "وما" في ما جاءوها مزيدة للتوكيد.
3- شهادة جلودهم وجوارحهم عليهم هي شهادة تكذيب وافتضاح وإلا إدانتهم متحققة بصحائف أعمالهم وإجراء ضمائر السمع والبصر والجلود بصيغة جمع العقلاء لأن التحاور معهم أنزلهم منزلة العقلاء.

مَرَّةٍ} أي النشأة الأولى في الدنيا ثم أماتكم ثم أحياكم {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وها أنتم قد رجعتم فالقادر على هذا كله قادر على أن ينطقنا وعلى كل شيء أراد إنطاقه، وقوله {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ(1) أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} أي وما كنتم تستخفون فتتركوا محارم الله بل كنتم تجاهرون بذلك لعدم إيمانكم بالبعث والجزاء {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ} وهو ظن سيء {أَرْدَاكُمْ} أي أهلككم {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وهذا هو الخسران المبين وقوله تعالى في الآية الأخيرة من هذا السياق (23) فإن يصبروا أي أعداء الله الذين شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم فالنار مثوى أي مأوى لهم لا يخرجون منها أبداً. وإن يستعتبوا أي يطلبوا العتبى أي الرضا فيرضى عنهم فيدخلوا الجنة {فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} أي فما هو بحاصل لهم أبداً فهم إذاً بشرِّ التقديرين والعياذ بالله تعالى من حال أهل النار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرض مفصل بحال أهل النار فيها.
2- التحذير من فعل الفواحش وكبائر الذنوب فإن جوارح المرء تشهد عليه.
3- التحذير من سوء الظن بالله تعالى ومن ذلك أن يظن المرء أن الله لا يطلع عليه. أو لا يعلم ما يرتكبه، أو أنه لا يحاسبه أو لا يجزيه.
4- وجوب حسن الظن بالله تعالى وهو أن يرجو أن يغفر الله له إذا تاب من زلة زلها، وأن يرجو رحمته وعفوه إذا كان في حال العجز عن الطاعات ولا سيما عند العجز عن العمل للمرض والضعف كالكبر ونحوه فيغلب جانب الرجاء على جانب الخوف.
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ
__________
1- في الصحيحين حادثة ذكرت أنها سبب نزول هذه الآية وهي أن عبد الله بن مسعود قال كنت مستتراً بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قريشيان وآخر قليل فقه قلوبهم كثير شحم بطونهم فتكلموا بكلام لم أفهمه فقال أحدهم أترون أن الله يسمع ما نقول؟ فقال الآخر يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا وقال الآخر إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا. قال عبد الله فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى {وما كنتم تستترون} الخ ..

كَانُوا خَاسِرِينَ(25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ(26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ(27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ(28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ(29)
شرح الكلمات:
وقيضنا لهم قرناء : أي وبعثنا لكفار مكة المعرضين قرناء من الشياطين.
فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم: أي حسنوا لهم الكفر والشرك، وإنكار البعث والجزاء.
وحق عليهم القول في أمم قد خلت: أي وجب لهم العذاب في أمم مضت قبلهم من الجن والإنس.
والغوا فيه لعلكم تغلبون : أي الغطوا فيه بالباطل إذا سمعتم من يقرأه.
ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون : أي بأقبح جزاء أعمالهم التي كانوا يعملون.
أعداء الله: أي من كفروا به ولم يتقوه.
أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس : أي إبليس من الجن، وقابيل بن آدم.
نجعلهما تحت أقدامنا : أي في أسفل النار ليكونا من الأسفلين.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة المعرضين من كفار قريش، فقال تعالى : {وَقَيَّضْنَا(1) لَهُمْ} أي بعثنا لهم قرناء من الشياطين، وذلك بعد أن أصروا على الباطل والشر فخبثوا خبثاً سهّل لأخباث الجن الاقتران بهم فزينوا لهم الكفر والمعاصي القبيحة في الدنيا فها
__________
1- قيضنا: أتحنا وهيّنا لهم قرناء أي شياطين يلازمونهم قد يكونون من الجن ومن الإنس إذ الشياطين من الجنسين.

هم منغمسون فيها، كما زينوا لهم الكفر بالبعث والجزاء وإنكار الجنة والنار حتى لا يقصروا في الشر ولا يفعلوا الخير أبدا، وهو معنى قوله تعالى: {فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}.
قوله تعالى: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} أي بالعذاب {فِي أُمَمٍ(1) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} في حكم الله وقضائه بمقتضى سنة الله في الخسران. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (25) وهي قوله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ}
وقوله تعالى في الآية الثانية (26) {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا(2) لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} يخبر تعالى عن أولئك المعرضين عن كفار قريش وأنهم قالوا لبعضهم بعضاً لا تسمعوا لهذا القرآن الذي يقرأه محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا تتأثروا به، والغوا فيه أي الغطوا وصيحوا بكلام لهو وصفقوا وصفروا حتى لا يتأثر به من يسمعه من الناس لعلكم تغلبون رجاء أن تغلبوا محمداً على دينه فتبطلوه ويبقى دينكم. وهذا منتهى الكيد والمكر من أولئك المعرضين عن دعوة الإسلام.
وكان رد الله تعالى على هذا المكر في الآية التالية (27) {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً} يخبر تعالى مؤكدا الخبر بأنه سيذيق الذين كفروا عذاباً شديداً وذلك يوم القيامة وليجزينهم أسوأ أي أقبح الذي كانوا يعملون أي يجزيهم بحسب أقبح سيئاتهم التي كانوا يعملون. ثم قال تعالى: ذلك الجزاء المتوعد به الذين كفروا هو جزاء أعداء الله الذين حاربوا رسوله ودعوته وحتى كتابه أيضاً. وذلك الجزاء هو النار لهم(3) فيها دار الخلد أي الإقامة الدائمة فيها جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون فلم يؤمنوا بها ولم يعملوا بما فيها وقوله تعالى في الآية (29 ){ وقال الذين كفروا} الآية
__________
1- في أمم حال من الضمير في عليهم أي حق عليهم حالة كونهم في أمم أمثالهم قد سبقوهم والظرفية هنا مجازية بمعنى التبعيض أي هم من جملة أمم قد خلت من قبلهم قال الشاعر:
إن تك عن أحسن الصنيعة مأفو
كا ففي آخرين قد أفكوا
2- قال ابن عباس كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته فكان أبو جهل وغيره يطردون الناس عنه ويقولون لا تسمعوا له والغوا فيه فكانوا يأتون بالمكاء والصفير والصياح وفي الصحيح أنهم أخرجوا أبا بكر من مكة خوفاً أن يفتن أبناءهم ونساءهم بقراءته القرآن لرقة صوته وبكائه.
3- دار الخلد هي النار نزلت النار منزل الظرف فكانت بذلك دار الخلد والخلد البقاء المؤبد في عالم الشقاء.

يخبر تعالى عن الكافرين وهم في النار إذ يقولون ربنا أي يا ربنا أرنا اللذين(1) أضلانا من الجن والإنس أي اللذين كانا سببا في إضلالنا بتزيينهم لنا الباطل وتقبيحهم لنا الحق أرناهم نجعلهما تحت أقدامنا في النار ليكونا من الأسفلين(2) أي في الدرك الأسفل من النار إذ النار دركات واحدة تحت الأخرى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات :
1- بيان سنة الله تعالى في العبد إذا أعرض عن الحق الذي هو الإسلام فخبث من جراء كسبه الشر والباطل وتوغله في الظلم والفساد يبعث الله تعالى عليه شيطاناً يكون قرينا له فيزين له كل قبيح، ويقبح له كل حسن.
2- بيان ما كان المشركون يكيدون به الإسلام ويحاربونه به حتى باللغو عند قراءة القرآن حتى لا يسمع ولا يهتدى به.
3- تقرير البعث والجزاء.
4- بيان نقمة أهل النار على من كان سبباً في إضلالهم وإغوائهم، ومن سن لهم سنة شر يعملون بها كإبليس، وقابيل بن آدم عليه السلام إذ الأول سن كل شر والثاني سن سنة القتل ظلماً وعدواناً.
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ(31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ(32)
__________
1- أرنا أي عين لنا الذين أضلانا من الجن والإنس كناية عن إرادة الانتقام منهم بأن يطؤهم بأقدامهم انتقاماً منهم وتعذيباً لهم لأنهم كانوا السبب في شقوتهم قرأ الجمهور أرنا بكسر الراء وقرأ غيرهم بسكون الراء أرنا كما خففوا فخذ إلى فخذ بسكون الخاء.
2- هذا التعليل أرادوا به التوطئة لاستجابة الله تعالى لما علموا من غضب الله تعالى فأرادوا أن يتوسلوا إليه تعالى بذلك.

شرح الكلمات:
قالوا ربنا الله : قالوا ذلك معلنين عن إيمانهم بأن الله هو ربهم الذي لا رب لهم غيره وألههم الذي لا إله لهم سواه.
ثم استقاموا : أي ثبتوا على ذلك فلم يبدلوا ولم يغيروا ولم يتركوا عبادة الله بفعل الأوامر وترك النواهي.
تتنزل عليهم الملائكة: أي عند الموت وعند الخروج من القبر بحيث تتلقاهم هناك.
أن لا تخافوا ولا تحزنوا : أي بأن لا تخافوا مما أنتم مقبلون عليه فإنه رضوان الله وحمته ولا تحزنوا عما خلفتم رواءكم.
نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة: أي فبحكم ولايتنا لكم في الدنيا والآخرة فلا تخافوا ولا تحزنوا.
ولكم فيها ما تدعون: أي ولكم فيها ما تطلبون من سائر المشتهيات لكم.
نزلا من غفور رحيم: أي رزقاً مهيأً لكم من فضل رب غفور رحيم.
معنى الآيات:
لما بين تعالى حال الكافرين في الدار الآخرة وهي أسوأ حال بين حال المؤمنين في الآخرة وهي أحسن حال وأطيب مآل فقال {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا(1) اللَّهُ} أي لا ربّ لنا غيره ولا إله لنا سواه، ثم استقاموا(2) فلم يشركوا به في عبادته أحداً فأدوا الفرائض واجتنبوا النواهي وماتوا على ذلك هؤلاء تتنزل عليهم الملائكة أي تهبط عليهم وذلك عند الموت بأن تقول لهم لا تخافوا على ما أنتم مقدمون عليه من البرزخ والدار الآخرة ولا تحزنوا على ما خلفتم وراءكم وأبشروا(3) بالجنة دار السلام التي كنتم توعدونها في الكتاب وعلى لسان الرسول. نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا إذ
__________
1- في صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك وفي رواية غيرك. قال: قل آمنت بالله ثم استقم وزاد الترمذي قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف عليّ؟ قال فأخذ بلسان نفسه وقال هذا.
2- ذكر القرطبي في تفسير الاستقامة أكثر من عشرة أقوال للصحابة والسلف، ثم قال وهذه الأقوال وإن تداخلت فتلخيصها "اعتدلوا على طاعة الله عقداً وقولاً وفعلاً وداوموا على ذلك".
3- قال وكيع وابن أبي زيد البشرى في ثلاثة مواطن عند الموت وفي القبر وعند البعث وشاهد هذا قوله صلى الله عليه وسلم من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه قلنا يا رسول الله كلنا نكره الموت: قال صلى الله عليه وسلم ليس ذلك كراهة الموت ولكن المؤمن إذا حُضِر جاءه البشير من الله تعالى بما هو صائر إليه فليس شيء أحب إليه من أن يكون لقي الله تعالى فأحب الله لقاءه قال وإن الفاجر والكافر إذا حُضِر جاءه بما هو صائر إليه من الشر أو ما يلقى من الشر فكره لقاء الله فكره الله لقاءه قال ابن كثير وهذا حديث صحيح وقد ورد في الصحيح من غير هذا الوجه.

كنا نسددكم ونحفظكم من الوقوع في المعاصي، وفي الآخرة نستقبلكم عند الخروج من قبوركم حتى تدخلوا جنة ربكم. ولكم فيها أي في الجنة ما تشتهي أنفسكم من الملاذ ولكم فيها ما تدعون أي تطلبون مما ترغبون فيه وتشتهون. نزلا أي قرىً وضيافة من لدن ربّ غفور لكم رحيم بكم لا إله إلا هو ولا رب سواه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات :
1- فضل الإيمان والاستقامة عليه بأداء الفرائض واجتناب النواهي.
2- بشرى أهل الإيمان والاستقامة عند الموت بالجنة وهؤلاء هم أولياء الله المؤمنون المتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وهي هذه وفي الآخرة عند خروجهم من قبورهم.
3- في الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ولأحدهم كل ما يطلبه ويدعيه وفوق ذلك النظر إلى وجه الله الكريم وتلقي التحية منه والتسليم.
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ(33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(36)
شرح الكلمات:
ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله : أي لا أحد أحسن قولا منه أي ممن دعا إلى توحيد الله وطاعته.
وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين: وعمل صالحاً وهي شرط أيضاً وقال إنني من المسلمين شرط ثالث.

ولا تستوي الحسنة ولا السيئة : أي لا تكون الحسنة كالسيئة ولا السيئة كالحسنة.
ادفع بالتي هي أحسن : أي ادفع أيها المؤمن السيئة بالخصلة التي هي أحسن كالغضب بالرضى، والقطيعة بالصلة.
كأنه ولي حميم : أي كأنه صديق قريب في محبته لك إذا فعلت ذلك.
وما يلقاها إلا الذين صبروا: أي وما يعطى هذه الخصلة التي هي أحسن.
إلا ذو حظ عظيم: أي ثواب عظيم وأجر جزيل هذا في الآخرة وأما في الدنيا فالخلق الحسن والكمال.
وإما ينزغنك من الشيطان نزغ : أي وإن يوسوس لك الشيطان بترك خير أو فعل شر.
فاستعذ بالله : أي فاستجر بالله قائلاً أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
إنه هو السميع العليم : أي هو تعالى السميع لأقوال عباده العليم بما يصيبهم وينزل بهم.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى بشرى أهل الإيمان وصالح الأعمال ذكر هنا بشرى ثانية لهم أيضاً فقال: {وَمَنْ(1) أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} هذه ثلاثة شروط الأول دعوته إلى الله تعالى بأن يعبد فيطاع ولا يعص ويذكر ولا ينسى، ويشكر ولا يكفر والثاني وعمل صالحاً فأدى الفرائض واجتنب المحارم، والثالث وفاخر بالإسلام معتزا به وقال إنني من المسلمين، فلا أحد أحسن قولاً من هذا الذي ذكرت شروط كماله، ويدخل في هذا أولا الرسل، وثانياً العلماء، وثالثاً المجاهدون ورابعاً المؤذنون وخامساً الدعاة الهداة المهديون هذا ما دلت عليه الآية الأولى (23). وقوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} هذا تقرير إلهي يجب أن يعلم وهو أن الحسنة لا تستوي(2) مع السيئة وأن السيئة لا تستوي مع الحسنة فالإيمان لا يساوى بالكفر، والتقوى لا يساوى بالفجور، والعدل لا يساوى بالظلم.
كما أن جنس الحسنات لا يتساوى، وجنس السيئات لا يتساوى بل يتفاضل فصيام رمضان لا يساوى بصيام رجب أو محرم تطوعاً، وسيئة قتل المؤمن لا تستوي مع شتمه أو ضربه وقوله
__________
1- يدخل في هذه الآية دخولاً أولياً رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هو أحق وأجدر وهي نازلة فيه رداً على الذين يلغون في القرآن عند سماعه وهي تتناول كل مؤمن متصف بهذه الصفات المعبر عنها في التفسير بالشروط.
2- لا في قوله ولا السيئة صلة زيدت للتأكيد إذ الأصل ولا تستوي الحسنة والسيئة وشاهدها قول الشاعر:
ما كان يرضى رسول الله فعلهم
والطيبان أبو بكر ولا عمر

تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ(1)} أي بعد أن عرفت يا رسولنا عدم تساوي الحسنة مع السيئة إذاً فادفع السيئة بالخصلة التي هي أحسن من غيرها فإذا الذي(2) بينك وبينه عداوة قد انقلب في بره بك واحترامه لك واحتفائه بك كأنه ابن عم لك يحبك ويحترمك ولما كانت هذه الخصلة وهي الدفع بالتي هي أحسن لا تتأتى إلا لذوي الأخلاق الفاضلة والنفوس الكاملة الشريفة قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا} أي وما يعطى هذه الخصلة {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} فكان الصبر خلقاً من أخلاقهم {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} في الأخلاق والكمال النفسي، في الدنيا، والآخرة والأجر العظيم وهو الجنة في الآخرة.
وقوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ(3) بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} يرشد الرب تعالى عبده ورسوله وكل فرد من أفراد أمته إن نزغه من الشيطان نزغ بأن وسوس له بفعل شر أو ترك خير، أو خطر له خاطر سوء أن يفزع إلى الله تعالى يستجير به فإن الله تعالى هو السميع العليم فالاستجارة به من الشيطان تحمي العبد وتقيه من وسواس الشيطان وما يلقيه في النفس من خواطر سيئة، ولله الحمد والمنة على هذا الإرشاد الرباني الذي لا يستغني عنه أحد من عباده.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان فضل الدعوة إلى الله تعالى وشرف الدعاة العاملين.
2- فضل الإسلام والاعتزاز به والتفاخر الصادق به.
3- تقرير أن الحسنة لا تتساوى مع السيئة. كما أن الحسنات تتفاوت والسيئات تتفاوت.
4- وجوب دفع السيئة من الأخ المسلم بالحسنة من القول والفعل.
5- فضل العبد الذي يكمل في نفسه وخلقه فيصبح يدفع السيئة بالحسنة.
__________
1- قال ابن عباس ادفع بحملك جهل من يجعل عليك. وقيل أيضا هو الرجل يسب الرجل فيقول المسبوب إن كنت صادقاً فغفر الله لي وإن كنت كاذباً فغفر لك وقال مجاهد أن يسلم المرء على من يعاديه إذا لقيه فهو معنى (بالتي هي أحسن).
2- قال ابن عباس في هذه الآية ادفع بالتي هي أحسن إلى قوله ولي حميم أمره الله تعالى بالصبر عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند الإساءة وهو كما قال رضي الله عنه.
3- فائدة الاستعاذة بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تجديد داعيه العصمة المركوزة في نفس النبي صلى الله عليه وسلم لأن الاستعاذة بالله من الشيطان استمداد للنعمة وصقل النفس مما يغان على القلب كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة".

1- وجوب الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم إذا وسوس أو ألقى بخاطر سوء إذ لا يقي منه ولا يحفظ إلا الله السميع العليم.
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ(38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(39)
شرح الكلمات:
ومن آياته : أي من جملة آياته الدالة على ألوهية الرب تعالى وحده.
الليل والنهار : أي وجود الليل والنهار والشمس والقمر.
لا تسجدوا للشمس ولا للقمر: أي لا تعبدوا الشمس ولا القمر فإنهما من جملة مخلوقاته الدالة عليه.
إن كنتم إياه تعبدون : أي إن كنتم حقاً تريدون عبادته فاعبدوه وحده فإن العبادة لا تصلح لغيره.
فالذين عند ربك : أي الملائكة.
وهم لا يسأمون: أي لا يملون من عبادته ولا يكلون.
ترى الأرض خاشعة : يابسة جامدة لا نبات فيها ولا حياة.
اهتزت وربت : أي تحركت، وانتفخت وظهر النبات فيها.
إن الذي أحياها لمحيي الموتى: أي إن الذي أحيا الأرض قادر على إحياء الموتى يوم القيامة.

معنى الآيات:
قوله تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ} أي ومن جملة آياته العديدة الدالة على وجوده وقدرته وعلمه وحكمته والموجبة للإيمان به وعبادته وتوحيده، الليل والنهار وتعاقبهما وانتظام ذلك بينهما فليس الليل سابق النهار، وكذا الشمس والقمر خلقهما وسيرهما في فلكيهما بانتظام ودقة فائقة وحساب دقيق وعليه فلا تسجدوا(1) للشمس ولا القمر أيها الناس فإنهما مخلوقان من جملة المخلوقات، ولكن اسجدوا لخالقهما إن كنتم إياه تعبدون(2) كما تزعمون. ثم قال تعالى لرسوله: فإن أبوا أن يستجيبوا لك ويسمعوا منك ما قلت لهم مستكبرين فاعلم أن الذين عند ربك وهم الملائكة يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون من ذلك ولا يملون.
وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ} أي علامات قدرته على إحياء الموتى(3) للبعث والجزاء إنك أيها الإنسان ترى الأرض أيام المحل والجدب هامدة جامدة لا حركة لها فإذا أنزل الله تعالى عليها ماء المطر اهتزت وربت أي تحركت تربتها وانتفخت وعلاها النبات وظهرت فيها الحياة كذلك إذا أراد الله إحياء الموتى أنزل عليهم ماء من السماء وذلك بين النفختين نفخة الفناء ونفخة البعث فينبتون كما ينبت البقل وقوله: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ} تعالى على فعل كل شيء وأراده قدير لا يمتنع عنه ولا يعجزه، وكيف لا، وهو إذا أراد شيئاً إنما يقول له كن فيكون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد بالأدلة القطعية الموجبة لله العبادة دون غيره من خلقه.
2- بيان أن هناك من الناس من يعبدون الشمس ويسجدون لها من العرب والعجم وأن ذلك شرك باطل فالعبادة لا تكون للمخلوقات الخاضعة في حياتها للخالق وإنما تكون لخالقهما ومسخرها لمنافع خلقه.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر دليل من أظهر الأدلة وهو موت الأرض بالجدب ثم حياتها
__________
1- لا شك أن هناك من كان يسجد للشمس في بلاد العرب ففي اليمن كانوا يعبدون الشمس على عهد ملكة سبأ لقوله تعالى على لسان الهدهد {وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله} ووجد في أصنام قريش صنم يقال له شمس ولذا سموا عبد شمس.
2- لا شك أن هنا سجدة من عزائم السجدات إلا أنهم اختلفوا في موضع السجود فمالك يرى أنه يسجد عند قوله {إن كنتم إياه تعبدون} والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم يرى السجود عند {وهم لا يسأمون} والأمر واسع ففي أي الموضعين سجد أجزأ والحمد لله.
3- في الآية تقرير عقيدة البعث والجزاء بعد تقرير عقيدة الألوهية وسيأتي في الآيات بعد تقرير النبوة المحمدية وهذه أعظم أركان العقيدة الإسلامية. التوحيد البعث والجزاء والنبوة وباقي أركان العقيدة تابعة لهذه الأركان العظيمة.

بالغيث، إذ لا فرق بين حياة النبات والأشجار في الأرض بالماء وبين حياة الإنسان بالماء كذلك في الأرض بعد تهيئة الفرصة لذلك بعد نفخة الفناء ومضي أربعين عاماً عليها ينزل من السماء ماء فيحيا الناس وينبتون من عجب الذنب كما ينبت النبات، بالبذرة الكامنة في التربة.
1- تقرير قدرة الله على كل شيء أراده، وهذه الصفة خاصة به تعالى موجبة لعبادته وطاعته. بعد الإيمان به وتأليهه.
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ(41) لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(42)
شرح الكلمات:
يلحدون في آيات الله : أي يجادلون فيها ويميلون بها فيؤولونها على غير تأويلها لإبطال حق أو إحقاق باطل.
لا يخفون علينا : أي إنهم مكشوفون أمامنا وسوف نبطش بهم جزاء إلحادهم.
أم من يأتي آمنا يوم القيامة: أي نعم الذي يأتي آمنا يوم القيامة خير ممن يلقى في النار.
اعملوا ما شئتم : هذا تهديد لهم على إلحادهم وليس إذناً لهم في العمل كما شاءوا.
إن الذين كفروا بالذكر: أي جحدوا بالقرآن أو ألحدوا فيه فكفروا بذلك.
وإنه لكتاب عزيز: أي القرآن لكتاب عزيز أي منيع لا يقدَر على الزيادة فيه ولا النقص منه.
لا يأتيه الباطل من بين يديه: أي لا يقدر شيطان من الجن والإنس أن يزيد فيه شيئاً وهذا معنى من بين يديه.
ولا من خلفه : أي ولا يقدر شيطان من الجن والإنس أن ينقص منه شيئا

وهذا معنى من خلفه، كما أنه ليس قبله كتاب ينتقصه، ولا بعده كتاب ينسخه، فهو كله حق وصدق ليس فيه ما لا يطابق الواقع.
معنى الآيات:
يتوعد الجبار عز وجل الذين يلحدون في آيات كتابه بالتحريف والتبديل والتغيير بأنهم لا يخفون عليه، وأنه سينزل بهم نقمته إن لم يكفوا عن إلحادهم.
وقوله: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} إذا كان لا يوجد عاقل يقول الذي يلقى النار خير ممن يأتي آمناً يوم القيامة فالإلقاء في النار سببه الكفر والإلحاد والباطل فليترك هذه من أراد النجاة من النار، والأمن يوم القيامة من كل خوف من النار وغيرها سببه الإيمان والتوحيد فليؤمن ويوحد الله تعالى في عبادته ولا يلحد في آياته من أراد الأمن يوم القيامة بعلمه أنه خير من الإلقاء في النار. هذا أسلوب في الدعوة عجيب انفرد به القرآن الكريم.
وقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ(1) إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ(2) بَصِيرٌ} هذا الكلام يقال للمستهزئين بالأحكام الشرعية المستخفين بها فهو تهديد لهم وليس إذناً وإباحةً لهم أن يفعلوا ما شاءوا من الباطل والشرك والشر، ويدل على التهديد قوله بعد إنه بما تعملون بصير.
ومثله قوله {إِنَّ الَّذِينَ(3) كَفَرُوا بِالذِّكْرِ} أي القرآن، {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} (4) أي منيع بعيد المنال لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه بالزيادة والنقصان أو التبديل والتغيير.
ولما كان المراد من هذا الكلام التهديد سكت عن الخبر إذ هو أظهر من أن يذكر والعبارة قد تقصر عن أدائه بالصورة الواقعة له. وقد يقدر لنفعلن بهم كذا كذا...
وقوله {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} أي القرآن المنيع كماله وشرفه ومناعته أتته أنه تنزيل من حكيم في أفعاله وسائر تصرفاته حميد بذلك وبغيره من فواضله وآلائه ونعمه.
__________
1- الأمر هنا ليس للإباحة وإنما هو للتهديد كما في التفسير.
2- قوله {إنه بما تعملون بصير} الجملة تعليلية متضمنة الوعيد والتهديد فهي مؤكدة لما تضمنه قوله تعالى {اعملوا ما شئتم} من التهديد.
3- الخبر مقدر تقديره: هالكون أو معذبون وما ذكر في التفسير في تقدير الخبر حسن.
4- معنى عزيز ممتنع عن الناس أن يقولوا مثله.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- حرمة الإلحاد في آيات الله بالميل بها عن القصد والخروج بها إلى الباطل.
2- التهديد الشديد لكل من يحرف آيات الله أو يؤولها على غير مراد الله منها.
3- تقرير مناعة القرآن وحفظ الله تعالى له، وأنه لا يدخله النقص(1) ولا الزيادة إلى أن يرفعه الله إليه إذ منه بدأ وإليه يعود.
مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ(43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ(44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ(45) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ(46)
__________
1- تضمنت الآية ست صفات للقرآن العظيم هي كالتالي: أنه ذكرٌ يذكر الناس بما يغفلون عنه. أنه ذكرٌ للعرب أي شرف لهم كقوله {وإنه لذكر لك ولقومك} أنه كتاب عزيز والعزيز النفيس والمنيع أيضا إذ عجز الإنس والجن أن يأتوا بمثله أنه لا يتطرق إليه الباطل ولايخالطه بحال أنه مشتمل على الحكمة وهو حكيم وذو حكمة وحاكم أيضا وأنه تنزيل من حميد والحميد المحمود حمداً كثيرا.

شرح الكلمات:
ما يقال لك : أي من التكذيب أيها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
إلا ما قد قيل للرسل من قبلك : أي من التكذيب لهم والكذب عليهم.
إن ربك لذو مغفرة : أي ذو مغفرة واسعة تشمل كل تائب إليه صادق في توبته.
وذو عقاب أليم : أي معاقبة شديدة ذات ألم موجع للمصرين على الكفر والباطل.
ولو جعلناه قرآنا أعجمياً : أي القرآن كما اقترحوا إذ قالوا: هلا أنزل القرآن بلغة العجم.
لقالوا: لولا فصلت آياته: أي بينت حتى نفهمها.
أأعجمي وعربي : أي أقرآن أعجمي والمنزل عليه وهو النبي عربي يستنكرون ذلك تعنتاً منهم وعناداً ومجاحدة.
هدى وشفاء : أي هدى من الضلالة، وشفاء من داء الجهل وما يسببه من أمراض.
والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر : أي ثقل فهم لا يسمعونه وهو عليهم عمى فلا يفهمونه.
أولئك ينادون من مكان بعيد : والمنادى من مكان بعيد لا يسمع ولا يفهم ما ينادى له.
ولقد آتينا موسى الكتاب : أي التوراة.
فاختلف فيه : أي بالتصديق والتكذيب في العمل ببعض ما فيه وترك البعض الآخر كما هي الحال في القرآن الكريم.
ولولا كلمة سبقت من ربك : أي ولولا الوعد بجمع الناس ليوم القيامة وحسابهم ومجازاتهم هناك.
لقضي بينهم : أي لحكم بين المختلفين اليوم وأكرم الصادقون وأهين الكاذبون.
وما ربك بظلام للعبيد: أي وليس ربك يا رسولنا بذي ظلم للعبيد.
معنى الآيات:
بعد توالي الآيات الهادية من الضلالة الموجبة للإيمان كفار قريش لا يزيدهم ذلك إلا عناداً وإصراراً على تكذيب الرسول والكفر به وبما جاء به من عند ربه، ولما كان الرسول بشراً يحتاج إلى عون حتى يصبر أنزل تعالى هذه الآيات في تسليته صلى الله عليه وسلم وحمله على الثبات والصبر فقال

تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ}( 1) يا رسولنا من الكذب عليك والتكذيب لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك. وقوله تعالى: إن ربك لذو مغفرة أي لمن تاب فلذا لا يتعجل بإهلاك المكذبين رجاء أن يتوبوا ويؤمنوا ويوحدوا، وذو عقاب أليم أي موجع شديد لمن مات على كفره.
وقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} أي كما اقترح بعض المشركين، لقالوا: {لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} أي هلاّ بينت آياته لنا حتى نفهمها، ثم قالوا: {أَأَعْجَمِيٌّ(2) وَعَرَبِيٌّ} أي أقرآن أعجمي(3) ونبي عربي مستنكرين ذلك متعجبين منه وكل هذا من أجل الإصرار على عدم الإيمان بالقرآن الكريم والنبي الكريم وتوحيد الرب الكريم.
ولما علم تعالى ذلك منهم أمر رسوله أن يقول لهم قل هو أي القرآن الكريم هدى وشفاء(4) هدى يهتدى به إلى سبيل السعادة الكمال والنجاح، وشفاء من أمراض الشك والشرك والنفاق والعجب والرياء والحسد والكبر، والذين لا يؤمنون بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً هو أي القرآن في آذانهم وقر أي حمل ثقيل أولئك ينادون من مكان بعيد ولذا فهم لا يسمعون ولا يفهمون.
هذه تسلية وأخرى في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} أي التوراة فاختلفوا فيه فمنهم المصدق ومنهم المكذب، ومنهم العامل بما فيه المطبق ومنهم المعرض عنه المتبع لهواه وشيطانه الذي أغواه وقوله تعالى {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ(5) مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} فيما اختلفوا فيه لحكم لأهل الصدق بالنجاة وأهل الكذب بالهلاك والخسران وقوله: إنهم لفي شك منه أي من القرآن مريب أي موقع في الريبة وذلك من جراء محادته والمعاندة والمجاحدة، وقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} وهذه تسلية أعظم فإن من عمل صالحاً في حياته بعد الإيمان فإن جزاءه قاصر عليه ينتفع به دون سواه، ومن أساء أي عمل السوء وهو ما يسوء النفس من الذنوب والآثام فعلى نفسه عائد سوءه الذي عمله ولا يعود على غيره، وأخرى في قوله تعالى وما ربك بظلام للعبيد(6) أي ليس هو تعالى بذي ظلم لعباده. فقوله تعالى من عمل صالحاً فلنفسه عائد ذلك ومن أساء فعليها أي عائد الإساءة إن فيه لتسلية لكل من أراد أن يتسلى ويصبر.
__________
1- الجملة مستأنفة استئنافا بيانياً فهي جواب لسؤال يثيره قوله تعالى {إن الذي يلحدون في آياتنا} الخ.
2- في الآية إشارة واضحة إلى عموم رسالته صلى الله عليه وسلم.
3- معنى قرآناً كتاباً مقروءاً إذ ورد في الحديث الصحيح تسمية الزبور قرآناً بمعنى يقرأ ويكتب إذ قال صلى الله عليه وسلم "إن داود يسر له القرآن فكان يقرأ القرآن كله "الزبور" في حين يسرج له فرسه".
4- حقيقة الشفاء زوال المرض وهو هنا مستعار للبصارة بالحقائق وانكشاف الالتباس من النفس كما يزول المرض عند حصول الشفاء.
5- فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم على تكذيب المشركين وكفرهم بالقرآن بأنه ليس بأوحد في ذلك فقد أوتي الكتاب فاختلف فيه بالتصديق والتكذيب والعمل والترك
6- المراد بنفي الظلم من الله للعبيد أنه لا يعاقب من ليس منهم بمجرم، لأنه تعالى لما وضع الشرائع وأرسل الرسل صار وذلك قانوناً فمن تعداه مهملا له معرضا عنه فقد استوجب العذاب وتعذيبه عدل وليس بظلم.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تسلية الرسول أي حمله على الصبر والسلوان ليواصل دعوته إلى نهايتها.
2- بيان مدى ما كان عليه المشركون من التكذيب للرسول والمعاندة والمجاحدة.
3- القرآن دواء وشفاء لأهل الإيمان، وأهل الكفر فهم على العكس من أهل الإيمان.
4- بيان سنة الله في الأمم السابقة في اختلافها على أنبيائها وما جاءتها به من الهدى والنور.
5- قوله تعالى {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ } أجري مجرى المثل عند العالمين.
6- نفي الظلم عن الله مطلقاً(1).
__________
1- فقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا. وأيضا فالله هو الملك وهل ما يفعله الملك العليم الرحيم العادل في ملكه وعبيده يقال له ظلم؟ والجواب لا.

الجزء الخامس والعشرون
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ(47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ(48)
إليه يرد علم الساعة(1) : أي إلى الله يرد علم الساعة أي متى تقوم إذ لا يعلمها إلا هو.
شرح الكلمات
وما تخرج من ثمرات من أكمامها : أي من أوعيتها واحد الأكمام كِمّ وكم الثوب مخرج اليد.
وما تحمل من أنثى : أي من أي جنس كان إنساناً أو حيواناً.
ولا تضع إلا بعلمه : أي ولا تضع حملهما إلا ملابسا بعلم الله تعالى المحيط بكل شيء.
قالوا آذناك : أي أعلمناك الآن.
ما منا من شهيد : أي ليس منا من يشهد بأن لك شريكاً أبداً.
وظنوا ما لهم من محيص : أي أيقنوا أنه مالهم من مهرب من العذاب.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أن علم الغيب انحصر فيه فليس لأحد من خلقه علم الغيب وخاصة علم الساعة أي علم قيامها متى تقوم؟ كما أخبر عن واسع علمه وأنه محيط بكل الكائنات فما تخرج من ثمرة من كمها(2) وعائها وتظهر منه إلا يعلمها على كثرة الثمار والأشجار ذات الأكمام، وما تحمل(3) من أنثى بجنين ولا تضعه يوم ولادته أو إسقاطه إلا يعلمه أي يتم ذلك بحسب علمه تعالى وإذنه، وهذه مظاهر الربوبية المستلزمة للألوهية فلا إله غيره ولا رب سواه، ومع هذا فالجاهلون يتخذون له شركاء أنداداً من أحجار وأوثان يعبدونها معه ظلماً وسفها. {وَيَوْمَ(4) يُنَادِيهِمْ} وذلك يوم القيامة {أَيْنَ شُرَكَائِي}؟ أي الذين كنتم تزعمون أنهم شركاء لي، فيتبرءون منهم ويقولون: آذناك
__________
1- روي أن المشركين قالوا يا محمد إن كنت نبياً فاخبرنا متى قيام الساعة فنزلت {إليه يرد علم الساعة} والرد الإرجاع.
2- الأكمام جمع كم بكسر الكاف وتشديد الميم والكمة بضم الكاف والتأنيث مثله وهو الجف وكفرى الطلع يقال له كفه.
3- فهذه ثلاثة أمور وجب رد علمها إلى الله تعالى الأول علم ما تخرجه أكمام النخل من الثمر بقدره وجودته وثباته وسقوطه والثاني حمل الأنثى من الناس والحيوان والتي تلقح والتي لا تلقح، والثالث وقت وضع الأجنة فهذه وجب رد علمها إلى الله تعالى إذ لا يعلمها إلا هو كسائر الغيوب.
4- ويوم يناديهم: متعلق بمحذوف تقديره اذكر يوم يناديهم، لما سألوا عن الساعة أعلمهم أن أمر علم وقتها مرده إلى الله وحده فناسب ذكر بعض أحداثها فذكر لهم ذلك.

أعلمناك الآن أنه ما منا من شهيد يشهد بأن لك شريكاً إنه لا شريك لك وضل عنهم أي غاب عنهم ما كانوا يدعون من قبل في الدنيا، وظنوا أيقنوا ما لهم من محيص أي مهرب من عذاب الله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- استئثار الله تعالى بعلم الغيب وخاصة علم متى تقوم الساعة.
2- إحاطة علم الله تعالى بكل شيء فما تخرج من ثمرة من أوعيتها ولا تحمل من أنثى ولا تضع حملها إلا بعلم الله تعالى وإذنه.
3- براءة المشركين يوم القيامة من شركهم، وغياب شركائهم عنهم.
لا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ(49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ(50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ(51)
شرح الكلمات:
لا يسأم الإنسان من دعاء الخير: أي لا يمل ولا يكل من سؤال طلب المال والصحة والعافية.
وإن مسه الشر فيئوس قنوط: أي المرض والفقر وغيرهما فيؤوس من رحمة الله قنوط ظاهر عليه اليأس.
من بعد ضراء مسته : أي من بعد شدة أصابته وبلاء نزل به.
ليقولن هذا لي : أي استحققته بعملي ومما لي من مكانة.
وما أظن الساعة قائمة : أي ينكر البعث ويقول: ما أظن الساعة قائمة.
إن لي عنده للحسنى : أي وعلى فرض صحة ما قالت الرسل من البعث إن لي عند الله الجنة.

أعرض ونأى بجانبه : أي أعرض عن الشكر ونأى بجانبه متبختراً مختالاً في مشيته.
فذو دعاء عريض : أي فهو ذو دعاء لربه طويل عريض يا رباه يا رباه.
معنى الآيات:
يخبر تعالى عن الإنسان(1) الكافر الذي لم تزك نفسه ولم تطهر روحه بالإيمان وصالح الأعمال إنه لا يسأم ولا يمل من دعاء الخير(2) أي المال والولد والصحة والعافية فلا يشبع من ذلك بحال. ولئن مسه الشر من ضر وفقر ونحوهما فهو يئوس(3) قنوط يؤوس من الفرج وتبدل الحال من عسر إلى يسر قنوط ظاهر عليه آثار اليأس في منطقه وفي حاله كله هذا ما تضمنته الآية الأولى (49) {لا يَسْأَمُ(4) الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} وأما الآية (50) فإن الله تعالى يخبر أيضا عن الإنسان الكافر إذا أذاقه الله رحمة منه من مال وصحة واجتماع شمل مثلا، وذلك من بعد ضراء مسته من مرض وفقر ونحوهما ليقولن لجهله وسفهه: هذا لي أي استحققته بمالي من جهد ومكانة وعلم وإذا ذكر بالساعة من أجل أن يرفق أو يتصدق يقول ما أظن الساعة قائمة كما تقولون وإن قامت على فرض صحة قولكم إن لي عنده أي عند الله للحسنى أي للحالة الحسنى من غنى وغيره(5) وجنة إن كانت كما تقولون.
وقوله تعالى {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا} أي يوم القيامة عند عرضهم علينا، ولنذيقنهم من عذاب غليظ يخلدون فيه لا يخرجون منه أبداً.
وقوله تعالى في الآية الأخيرة (51) {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ} بنعمة المال والولد والصحة أعرض عن ذكرنا وشكرنا وتخلى عن طاعتنا ونأى(6) بجانبه متباعداً متبختراً مختالاً يكاد يضاهي الطاووس في مشيته. وإذا سلبناه ذلك ومسه الشر من مرض وفقر وجهد وبلاء فهو ذو دعاء عريض لنا يا رب يا رب يا رب. هذا ليس الرجل الأول الذي ييأس ويقنط، ذاك كافر، وهذا مؤمن ضعيف الإيمان جاهل لا أدب عنده ولا خلق. وما أكثر هذا النوع من الرجال في المسلمين اليوم والعياذ
__________
1- قيل المراد بالإنسان الكافر هنا الوليد بن المغيرة، وقيل عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية بن خلف. والآية تحمل وصفاً للإنسان الكافر أياً كان والمراد من الدعاء الطلب والرغبة الملحة.
2- شاهده من السنة قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح " لو أن لابن آدم واديين من ذهب لتمنى الثالث ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب".
3- اليأس كالقنوط من رحمة الله كفر بالمؤمن لقوله تعالى {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}.
4- اشتملت الآية على خلقين عجيبين الأول خلق البطر بالنعمة والغفلة عن الشكر لله تعالى والثاني اليأس والقنوط من رجوع النعمة بعد فقدها.
5- يروى عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم للكافر أمنيتان أما في الدنيا فيقول لئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى، وأما في الآخرة فيقول يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين.
6- النأي البعد وهو كناية عن عدم التفكر في المنعم عليه ليشكره فعبر عن هذا بالبعد.

بالله تعالى فالأول عائد إلى ظلمة نفسه بالكفر، وهذا عائد إلى سوء تربيته وسوء خلقه وظلمة جهله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان حال الإنسان قبل الإيمان فإنه يكون أحط المخلوقات قدراً وأضعفها شأناً.
2- تقرير عقيد البعث والجزاء بذكر بعض الأحداث فيها.
3- ذم اليأس والقنوط والكبر والاختيال، والكفر للنعم ونسيان المنعم وعدم شكره.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ(52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ(54)
شرح الكلمات:
قل أرأيتم إن كان من عند الله: أي أخبروني إن كان القرآن من عند الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم كفرتم به : أي ثم كفرتم به بعد العلم أنه من عند الله.
من أضل ممن هو في شقاق بعيد : أي من يكون أضل منكم وأنتم في شقاق بعيد؟ لا أحد.
في الآفاق وفي أنفسهم : أي في أقطار السموات والأرض من المخلوقات وأسرار خلقها وفي أنفسهم من لطائف الصنعة وعجائب وبدائع الحكمة.
حتى يتبين لهم أنه الحق : أي أن القرآن كلام الله ووحيه إلى رسوله حقاً، وأن الإسلام حق.
ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم : أي في شك من البعث الآخر حيث يعرضون على الله تعالى.
ألا إنه بكل شيء محيط : أي علما وقدرة وعزة وسلطاناً.
معنى الآيات:
يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمكذبين بالوحي الإلهي الذي يمثله القرآن الكريم حيث قالوا فيه شعر وسحر وأساطير الأولين يأمره أن يقول لهم مستفهماً لهم أرأيتم أي أخبروني إن كان أي القرآن الذي كذبتم به من عند الله وكفرتم به أي كذبتم؟ من يكون أضل منكم وأنتم تعيشون في

شقاق بعيد(1) اللهم لا أحد يكون أضل منكم عن طريق الهدى إذاً فلم لا تثوبون إلى رشدكم وتؤمنون بآيات ربكم فتكملوا عليها وتسعدوا.
ثم قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ(2) آيَاتِنَا} على صدقنا وصدق رسولنا فيما أخبرناهم به ودعوناهم إليه من الإيمان والتوحيد والبعث والجزاء وذلك في(3) الآفاق أي من أقطار السموات والأرض مما ستكشف عنه الأيام من عجائب تدبير الله ولطائف صنعه. وفي أنفسهم(4) أيضاً أي في ذواتهم حتى يتبين لهم أنه الحق، من ذلك فتح القرى والأمصار وانتصار الإسلام كما أخبر به القرآن، ووقعة بدر وفتح مكة من ذلك وما ظهر لِحَدِّ الآن من كشوفات في الآفاق وفي الأنفس مما أشار إليه القرآن ما هو أعجب من ذلك قوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فنظام الزوجية الساري في كل جزئيات الكون شاهد قوي على صدق القرآن وأنه الحق من عند الله، وأن الله حق وأن الساعة حق وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِ(5) بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ؟} هذا توبيخ لهؤلاء المكذبين بإعلامهم أن شهادة الله كافية في صدق محمد وما جاء به إن الله هو المخبر بذلك والآمر بالإيمان به فكيف يطالبون بالآيات على صدق القرآن ومن نزل عليه والله المرسل للرسول والمنزل للكتاب وقوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} إعلام منه تعالى بما عليه القوم من الشك في البعث والجزاء وهو الذي سبب لهم كثيراً من أنواع الشر والفساد. وقوله: {أَلا إِنَّهُ(6) بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} علماً وقدرة وعزة وسلطاناً فما أخبر به عنهم من علمه وما سيجزيهم به من عذاب إن أصروا على كفرهم من قدرته وعزته. ألا فليتق الله امرؤ مصاب بالشك في البعث وكل الظواهر دالة على حتميته ووقوعه في وقته المحدد له.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- التنديد بالكفر بالقرآن والتكذيب بما جاء فيه من الهدى والنور.
2- لا أضل ممن يكذب بالقرآن لأنه يعيش في خلاف وشقاق لا أبعد منه.
3- صدق وعد الله تعالى حيث أرى المشركين وغيرهم آياته في الدالة على وحدانيته وصحة دينه وصدق أخباره ما آمن عليه البشر الذين لا يعدون كثرة.
__________
1- الشقاق العداء والمراد به العداء لله والرسول والمؤمنين الناجم عن ردهم القرآن وتكذيبهم بالوحي المثبت للنبوة المحمدية.
2- الآيات تشمل آيات القرآن والآيات الخارجة عن القرآن.
3- الآفاق جمع أفق الناحية من الأرض المتميزة عن غيرها والناحية من قبة السماء.
4- قال القرطبي "وفي أنفسهم" من لطيف الصنعة وبديع الحكمة حتى سبيل الغائط والبول فإن الرجل يشرب ويأكل من مكان واحد ويتميز ذلك من مكانين، وبديع صنعة الله وحكمته في عينيه اللتين هم قطرة ماء ينظر بهما، وفي أذنيه وكيف يفرق بين الأصوات المختلفة إلى غير ذلك.
5- المعنى: تكفيك شهادة ربك بصدقك فلا تلتفت إلى تكذيبهم.
6- وصف الله بالمحيط هو كذلك محيط بعلمه وقدرته وقهره لكل خلقه.

1- ما من اكتشاف ظهر ويظهر إلا والقرآن أدخله في هذه الآية سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم.
2- الإشارة إلى أن الإسلام سيعلم صحته وسيدين به البشر أجمعون في يوم ما من الأيام.
3- تقرير البعث والجزاء ومظاهر قدرة الله تعالى المقررة له.

سورة الشورى
...
سورة الشورى
مكية
وآياتها ثلاث وخمسون آية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حم(1) عسق(2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ(4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ(6)
شرح الكلمات:
حم عسق(1) : هذه أحد الحروف المقطعة تكتب هكذا: حم عسق وتقرأ هكذا: حا ميمْ عَيْنْ سِيْنْ قَافْ.
كذلك يوحي(2) إليك وإلى الذين من قبلك : أي مثل ذلك الإيحاء يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الذي يوحى إليك.
له ما في السموات وما في الأرض : أي خلقاً وملكاً وتصرفاً.
وهو العزيز الحكيم: أي العزيز في انتقامه من أعدائه الحكيم في تدبيره لأوليائه.
يتفطرن من فوقهن : أي يتشققن من عظمة الرحمن وجلاله.
والذين اتخذوا من دونه أولياء : أي آلهة يعبدونها.
__________
1- إن قيل لم ما وصلت حم عسق ببعضهما كما وصلت في المص، المر فالجواب أن عسق ثلاثة أحرف فلم توصل بـ حم بخلاف المص المر فإن الموصول حرف واحد وهو الصاد والراء.
2- العدول عن صيغة الماضي إلى المضارع إيذان بأن إيحاء الرسول متجدد لا ينقطع مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

الله حفيظ عليهم : أي يحصي لهم أعمالهم ويجزيهم بها.
وما أنت عليهم بوكيل : أي ولست موكلا بحفظ أعمالهم وإنما عليك البلاغ.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {حم عسق} الله أعلم بمراده به وقد تقدم التنبيه إلى أن هذا من المتشابه الذي يجب الإيمان به وتفويض أمر فهم معناه إلى منزله وهو الله سبحانه وتعالى وقد ذكرنا أن له فائدتين جليلتين تقدمتا في كثير من فواتح السور المبدوءة بمثل هذه الحروف المقطعة فليرجع إليها.
وقوله {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ(1)} أي مثل ذلك الإيحاء بأصول الدين الثلاثة وهي التوحيد والنبوة والبعث يوحي إليك بمعنى أوحى إليك وإلى الذين من قبلك من الرسل الله العزيز(2) في انتقامه من أعدائه الحكيم في تدبيره لأوليائه وقوله {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ(3) وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي خلقاً وملكاً وهو العلي أي ذو العلو المطلق على خلقه العظيم في ذاته وشأنه وحكمه وتدبيره سبحانه لا إله إلا هو ولا رب سواه.
وقوله تعالى {تَكَادُ(4) السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ} أي يتصدعن ويتشققن من فوقهن من عظمة الرب تبارك وتعالى والملائكة يسبحون بحمد(5) ربهم أي يصلون له ويستغفرون لمن في الأرض أي يطلبون المغفرة للمؤمنين فهذا من العام الخاص بما في سورة المؤمن إذ فيها ويستغفرون للذين آمنوا وقوله تعالى {أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} إخبار بعظيم صفاته عز وجل وهما المغفرة والرحمة يغفر لمن تاب من عباده ويرحم بالرحمة العامة سائر مخلوقاته في هذه الحياة ويرحم بالرحمة الخاصة عباده الرحماء وسائر عباده المؤمنين في دار السلام وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا(6) مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} أي شركاء آلهة يعبدونهم هؤلاء الله حفيظ عليهم فيحصي عليهم أعمالهم ويجزيهم بها يوم القيامة، وليس على الرسول من ذلك شيء إن عليه إلا البلاغ وقد بلغ وهو معنى قوله : {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} تحفظ عليهم أعمالهم وتجزيهم بها وفي الآية تسلية للرسول وتخفيف عليه لأنه كان يشق عليه إعراض المشركين وإصرارهم على الشرك بالله تعالى.
__________
1- المعنى الإجمالي لهذه الجملة هو كما في قوله {إن أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} فهو تشبيه إيحاء بإيحاء.
2- العزيز الحكيم: وصفان لاسم الجلالة هما مقتضى الوحي الإلهي إذ الوحي يكون من عزيز لا يحال بين إرادته وحكيم يضع الأمور في مواضعها فلا يعاب عليه اختياره للوحي إليك.
3- هذه الجملة مقررة لما تقدم من جلال الله وكماله وعلمه وحكمته الموجبة لتوحيده ولقائه وبعثه رسوله.
4- قرأ نافع وحده يكاد بالياء وقرأ باقي القراء حفص وغيره بالتاء وسبب تفطرهن هو الخوف من عظمة الرب قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما "فرقا" أي خوفا.
5- أي ينزهه عما لا يجوز وصفه به وعمّا لا يليق بجلاله، وقيل يتعجبون من جرأة المشركين فيسبحون.
6- لما أقام تعالى الحجج والبراهين على توحيده ونبوة رسوله فسبحت له الملائكة واستغفرت للمؤمنين الموحدين وبقي المشركين على اتخاذهم أولياء كأنما قال لرسوله لا يهمك أمرهم فإن الله يحصي أعمالهم ويحفظها لهم ويجزيهم بها.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وحدة الوحي بين سائر الأنبياء إذ هي تدور على التوحيد والنبوة والبعث والجزاء والترغيب في العمل الصالح، والترهيب من العمل الفاسد.
2- بيان عظمة الله تعالى وجلاله وكماله حتى إن السموات تكاد يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمده تعالى ويستغفرون للمؤمنين(1).
3- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والتخفيف عنه بأنه غير موكل بحفظ أعمال المشركين ومجازاتهم عليها إنما هو الله تعالى، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ(7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(9)
شرح الكلمات:
وكذلك أوحينا إليك : أي ومثل ذلك الإيحاء إليك وإلى من قبلك أوحينا إليك.
قرآنا عربياً : أي بلسان عربي.
لتنذر أم القرى ومن حولها : أي علة الإيحاء هي إنذارك أهل أم القرى مكة ومن حولها من القرى أي تخوفهم عذاب الله إن بقوا على الشرك.
وتنذر يوم الجمع : أي وتنذر الناس من يوم القيامة إذ هو يوم يجمع الله فيه الخلائق.
لا ريب فيه : أي لا شك في مجيئه وجمع الناس فيه.
__________
1- جائز أن يكون المستغفرين للمؤمنين حملة العرش وقد ورد هذا في السنة وأن يكون غيرهم يستغفرون لمن في الأرض عندما يرون كفرهم وباطلهم وجرأتهم على ربهم يطلبون لهم عدم المؤاخذة إذ لو آخذهم بذنوبهم لأهلكهم.

فريق في الجنة : أي المؤمنون المتقون.
وفريق في السعير: أي الكافرون.
ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة : أي على دين الإسلام وبذلك يكون الجميع في الجنة.
ولكن يدخل من يشاء في رحمته : أي في الإسلام أولاً ثم في الجنة ثانياً.
والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير: أي المشركون ليس لهم من ولي يتولاهم ولا نصير ينصرهم فهم في النار.
أم اتخذوا من دون الله أولياء: أي بل اتخذوا من دونه تعالى شركاء ألّهُوهم من دون الله.
فالله هو الولي : أي الولي الحق ومن عداه فلا تنفع ولايته ولا تضر.
معنى الآيات:
قوله تعالى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً(1)} أي ومثل ذلك الإيحاء الذي أوحينا إليك وإلى الذين من قبلك أوحينا إليك قرآناً عربياً بلسان عربي يفهمه قومك لأنه بلسانهم لتنذر به أي تخوف أم القرى(2) ومن حولها من الناس عاقبة الشرك والكفر والظلم والفساد وتنذر أيضا الناس يوم الجمع وهو يوم القيامة فإنه يوم هول عظيم وشر مستطير ليتوقوه بالإيمان والتقوى. إنه يوم يكون فيه الناس والجن فريقين لا ثالث لهما: فريق في الجنة(3) بإيمانه وتقواه لله بفعل أوامره وترك نواهيه، وفريق في السعير بشركه وكفره بالله وعدم تقواه فلا امتثل أمراً ولا اجتنب نهياً.
وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ(4) أُمَّةً وَاحِدَةً} أي في الدنيا على دين الإسلام الذي هو دين آدم فنوح وإبراهيم فسائر الأنبياء موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. إذ هو عبارة عن الإيمان بالله وبما أمر الله بالإيمان به، والانقياد لله ظاهراً وباطناً بفعل محابه تعالى وترك مكارهه ولو كانوا في الدنيا على ملة الإسلام لكانوا في الآخرة فريقاً واحداً وهو فريق الجنة ولكن لم يشأ ذلك لحكم عالية فهو تعالى يدخل من يشاء في رحمته في الدنيا وهي الإسلام وفي الآخرة هي الجنة، والظالمون أي المشركون الذين رفضوا التوحيد والإسلام لله ما لهم من ولي ولا نصير فهم إذا في عذاب السعير. وقوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا(5)} أي الظالمون من دون الله أولياء من دون الله ليشفعوا
__________
1- القرآن مصدر نحو غفران وأطلق على المقروء مبالغة في الاتصاف بالمقروئية لكثرة ما يقرأه القارئون لحسنه وفوائده وعظيم مثوبته.
2- كنيت مكة بأم القرى لأنها أقدم المدن العربية وقيل لأن الأرض دحيت من تحتها.
3- جملة فريق الخ ابتدائية لأنها جواب لمن سأل عن حال الناس وهم مجتمعون في عرصات القيامة فأجيب بأنهم فريقان فريق في الجنة وفريق في السعير.
4- سبق هذا الكلام مستأنفاً استئنافاً ابتدائياً لغرض تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لما ينالهم من هم وكرب من عدم إيمان من يدعونهم إلى الإيمان ولم يؤمنوا.
5- أم للإضراب الانتقالي والاستفهام إنكاري ينكر على المشركين اتخاذهم أولياء من دون الله لا تنفعهم أي نفع ويتركون الله الولي الحميد فهو أحق بأن يتخذ ولياً في الدنيا والآخرة.

لهم جهلاً منهم بأنه لا يشفع أحد إلا بإذن الله ورضاه فعلوا ذلك وما كان لهم ذلك لأن الولي الحق هو الله فلم لا يتخذونه وليا، وهو الولي الحميد وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير فمن أحق بأن يُتَوَلَّى من يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير أم من لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، والجواب معلوم، ولا يهلك على الله إلا هالك.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية بإثبات الوحي الإلهي.
2- شرف مكة بتسميتها أم القرى أي أم المدن والحواضر.
3- مشروعية التعليل للأفعال والأحكام.
4- انقسام الناس يوم القيامة إلى سعيد وشقي لا غير.
5- لم يشأ الله أن يجعل الناس أمة واحدة لحكم عالية علمها إليه سبحانه وتعالى.
6- من طلب ولاية غير الله هلك؟ ومن والى الله دون من سواه كفاه الله ما أهمّه في دنياه وأخراه.
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(12)
شرح الكلمات:
وما اختلفتم فيه من شيء : أي من أمور الدين والدنيا مع الكفار أو مع المؤمنين.
فحكمه إلى الله : هو الذي يقضي فيه في الدنيا بما ينزل من وحي على رسوله وفي الآخرة إذ الحكم له دون غيره.
ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه : أي قل لهم يا رسولنا ذلكم الحاكم العدل العظيم الله ربي عليه

أنيب توكلت أي فوضت أمري إليه، وإليه لا إلى غيره أرجع في أموري كلها.
فاطر السموات والأرض : خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق.
جعل لكم من أنفسكم أزواجاً : أي بأن جعلكم ذكراً وأنثى، ومن الأنعام كذلك.
يذرأكم فيه : أي يخلقكم في هذا التدبير وهو من الذكر والأنثى يخرجكم.
ليس كمثله شيء : أي ليس مثل الله شيء إذ هو الخالق لكل شيء فلا يكون مخلوق مثله بحال من الأحوال.
وهو السميع البصير : أي السميع لأقوال عباده العليم بأعمالهم وأحوالهم.
معنى الآيات:
يقول تعالى {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ(1) فِيهِ مِنْ شَيْءٍ} من أمور الدين والدنيا أيها الناس فحكمه إلى الله تعالى هو الذي يحكم فيه بالعدل فردوه إليه سبحانه وتعالى فإنه يقضي بينكم بالحق. وهنا أمر رسوله أن يقول للمشركين ذلكم المذكور بصفات الجلال والكمال الحَكم العدل الذي يقضي ولا يقضى عليه الله ربي الذي ليس لي رب سواه عليه توكلت ففوضت أمري إليه واثقاً في كفايته وإليه وحده أنيب أي أرجع في أموري كلها، ثم واصل ذكر صفاته الفعلية فقال {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي خالق السموات السبع والأرض مبدعهما من غير مثال سابق {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ(2) أَزْوَاجاً} إذ خلق حواء من ضلع آدم ثم جعلكم تتناسلون من ذكر وأنثى ومن الأنعام أزواجاً أيضاً وهما الذكر والأنثى وقوله {يَذْرَأُكُمْ فِيهِ} أي(3) يخلقكم فيه أي في هذا النظام نظام الذكر والأنثى كأن الذكورة والأنوثة معمل من المعامل يتم فيه خلق الإنسان والحيوان فسبحان الخلاق العليم.
وقوله: {لَيْسَ(4) كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(5)} هذا تعريف عرف تعالى به نفسه ليعرف بين عباده وهو أنه عز وجل ليس كمثله شيء أي فلا شيء مثله فعرف بالتفرد بالوحدانية فالذي ليس له
__________
1- قول القرطبي هذا حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين ما هو بظاهر، بل هو إرشاد الله لرسوله والمؤمنين أن يقولوا لمن خالفهم من المشركين وأهل الكتاب إن الله قد حكم بصحة الإسلام فهو الدين الذي يجب أن يدين به الإنسان لربه عز وجل لا غيره من الأديان الباطلة.
2- الجملة في موضع نصب على الحال من ضمير فاطر.
3- الذرء: بث الخلق وتكثيره والمضارع يذرؤكم لإفادة الحدوث والتجدد المستمرين.
4- ومعنى ليس كمثله شيء: ليس مثله شيء فالكاف مقحمة لا غير، ولما كانت للتشبيه ومثله كذلك فهي إذاً لتأكيد نفي الشبيه لله تعالى.
5- لما كانت جملة ليس كمثله شيء صفة سلبية أعقب عليها بصفات إيجابية وهي كونه تعالى سميعا بصيرا، وهكذا الحكم في صفات الله تعالى فيثبت له ما أثبته هو لنفسه وأثبته له رسوله من الصفات العلى وينفى عنه من صفات النقص كالمثلية والتشبيه وما نفاه تعالى هو عن نفسه ونفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.

مثل ولا مثله شيء هو الله ذو الأسماء الحسنى والصفات العليا وهو السميع لكل الأصوات العليم بكل الكائنات.
وقوله تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ(1)} أي له مفاتيح خزائن السموات والأرض، وله مغاليقها فهو تعالى يبسط الرزق لمن يشاء امتحاناً ويضيق ابتلاء، لأنه بكل شيء عليم فلا يطلب الرزق إلا منه، ولا يلجأ فيه إلا إليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب ردّ ما اختلف فيه إلى الله تعالى ليحكم(2) فيه وهو الرد إلى الكتاب والسنة.
2- وجوب التوكل عليه والإنابة إليه في كل الأمور.
3- تنزيه الرب تعالى عن مشابهته لخلقه مع وجوب الإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العليا.
4- وجوب الإيمان بأن الله هو الرزاق بيده مفاتيح خزائن الأرزاق فمن شاء وسع عليه، ومن شاء ضيق، وأنه يوسع لحكمة ويضيق لأخرى.
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ(13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ(14)
__________
1- المقاليد جمع إقليد أو مقلاد على غير قياس وهو المفتاح، والمقاليد للخزائن وهي ما أودع الله تعالى من أرزاق السموات والأرض لعباده، فلذا هو يبسط الرزق ويقدر حسب علمه وحكمته.
2- شاهده قوله تعالى: {وإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} "الآية من سورة النساء"

شرح الكلمات:
ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك : أي شرع لكم من الدين الذي وصى به نوحاً والذي أوحينا به إليك.
وما وصينا به إبراهيم وموسى : أي والذي وصينا باقي أولى العزم وهم إبراهيم وموسى وعيسى وهو أن يعبدوا الله وحده بما شرع من العبادات.
أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه: أي بأن أقيموا الدين الذي شرع لكم ولا تضيعوه ولا تختلفوا فيه.
كبر على المشركين ما تدعوهم إليه : أي عظم على كفار قريش ما تدعوهم إليه وهو لا إله إلا الله محمد رسول الله.
الله يجتبي إليه من يشاء : أي يختار إلى الإيمان به والعمل بطاعته من يريده لذلك.
ويهدي إليه من ينيب : أي ويوفق لطاعته من ينيب إليه في أموره ويرجع إليه في جميع شأنه، بخلاف المعرضين المستكبرين.
بغياً بينهم : أي حملهم البغي على التفرق في دين الله.
ولولا كلمة سبقت من ربك : أي ولولا ما قضى الله به من تأخير العذاب على هذه الأمة إلى يوم القيامة.
لقضي بينهم: أي لحكم الله بينهم فأهلك الكافرين وأنجى المؤمنين.
وإن الذين أورثوا الكتاب من: أي وإن الذين أورثوا الكتاب من بعد الأولين وهم اليهود والنصارى ومشركو العرب.
لفي شك منه مريب : أي لفي شك مما جئتهم به من الدين الحق وهو الإسلام.
معنى الآيات:
يخاطب تعالى رسوله المؤمنين فيقول وقوله الحق: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً(1)} إذ هو أول حامل شريعة من الرسل والذي أوحينا إليك يا محمد {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} من أولي العزم من الرسل {أَنْ أَقِيمُوا(2) الدِّينَ} وهو دين واحد قائم على الإيمان والتوحيد والطاعة لله في أمره ونهيه وإقامة ذلك بعدم التفريط فيه أو في شيء منه، وعدم التفرق فيه، لأن التفرق فيه يسبب تضيعه كلاً أو بعضا.
__________
1- المراد مما شرع لنا هو الإيمان به تعالى رباً وإلها وعبادته وحده وترك عبادة ما سواه، أما الأحكام فتختلف بحسب الأمم والأزمان فهذه الآية هي كقوله تعالى {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}.
2- أن أقيموا الدين في محل رفع خبر. أي هو إقامة الدين وعدم التفرق فيه أي الموصى به هو إقامة الدين، وإقامته جعله قائما تعتقد عقائده وتؤدى عبادته وتقام أحكامه لا يسقط منه شيء.

وقوله تعالى: {كَبُرَ عَلَى(1) الْمُشْرِكِينَ} من كفار قريش {مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} أي عظم عليهم ولم يطيقوا حمله ما تدعوهم إليه من عبادة الله تعالى وحده وترك عبادة الأصنام، إذاً فادعهم واصبر على أذاهم والله يجتبي إليه أي يختار للإيمان به وعبادته من يشاء ممن لا يصرون على الباطل، ولا يستكبرون عن الحق إذ عرفوه، ويهدى إليه أي ويوفق لطاعته مَنْ مِنْ شأنه الإنابة والرجوع إلى ربه في أموره كلها.
وقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا(2) } أي وما تفرق العرب واليهود والنصارى في دين الله فآمن بعض وكفر بعض إلا من بعد ما جاءهم العلم الصحيح يحمله القرآن الكريم ونبيه محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. والحامل لهم على ذلك هو البغي والحسد. وقوله ولولا كلمة سبقت من ربك وهو عدم معاجلة هذه الأمة المحمدية بعذاب الإبادة والاستئصال، وترك عذابهم إلى يوم القيامة لولا هذا لعجل لهم العذاب من أجل اختلافهم فأهلك الكافرين وأنجى المؤمنين. وهو معنى قوله تعالى {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ(3) مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي فرغ منهم بالفصل بينهم بإهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ(4)} أي من بعد اليهود والنصارى وهم العرب إذ أنزل الله فيهم كتابه القرآن الكريم لفي شك منه أي من القرآن والنبي والدين الإسلامي مريب أي بالغ الغاية في الريبة والاضطراب النفسي، كما أن اللفظ يشمل اليهود والنصارى إذ هم أيضاً ورثوا الكتابين عمن سبقهم وأنهم فعلاً في شك من القرآن ونبيه والإسلام وشرائعه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- دين الله واحد وهو الإيمان والاستقامة على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
2- حرمة الاختلاف في دين الله المسبب تضييع الدين كلا أو بعضاً.
3- مرد التفرق في الدين إلى الحسد والبغي بين الناس، فلو لم يحسد بعضهم بعضاً ولم يبغ بعضهم على بعض لما تفرقوا في دين الله ولأقاموه مجتمعين فيه.
__________
1- قال قتادة كبر على المشركين فاشتد عليهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وضاق بها إبليس وجنوده فأبى الله عز وجل إلا أن ينصرها ويعليها ويظهرها على من ناوأها.
2- قال ابن عباس يعني قريشاً وهو صحيح إذ كانوا يقولون: لو أن عندنا ذكراً من الأولين لكنا عباد الله المخلصين. وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم إلا أن دخول أهل الكتاب في هذا الخطاب وارد وله شواهد إذ الآية مبينة لسنة من سنن الله تعالى وهي كون الأمة متحدة على الباطل فإذا جاءها الحق قبله أناس ورفضه آخرون فيكون التفرق.
3- أي في تأخير العذاب على مستحقيه إلى الموعد الذي حدده لهم في الدنيا أو في الآخرة لكان عز وجل حكم بينهم فأهلك الكافرين وأنجى المؤمنين.
4- أل في الكتاب للجنس ليشمل التوراة والإنجيل.

فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ(16)
شرح الكلمات:
فلذلك فادع : أي فإلى ذلك الدين الذي شرع الله لكم ووصى به نوحاً وأوحاه إليك يا محمد فادع عباد الله.
واستقم كما أمرت: أي استقم على العمل به ولا تزغ عنه واثبت عليه كما أمرك الله.
ولا تتبع أهواءهم : أي ولا تتبع أهواء المشركين وأهل الكتاب فتترك الحنيفية التي بعثت بها فإنها الحق.
وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب : أي ولست كالذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.
وأمرت لأعدل بينكم : أي أمرني ربي أن أحكم بينكم بالعدل الذي هو خلاف الجور.
الله ربنا وربكم : أي خالقنا وخالقكم ورازقنا ورازقكم وإلهنا وإلهكم.
لنا أعمالنا ولكم أعمالكم : وسيجزى كل منا بعمله خيراً كان أو شراً.
لا حجة بيننا وبينكم : أي ما هناك حاجة إلى المحاجة الآن بعد ظهور الحق.
الله يجمع بيننا : أي يوم القيامة.
والذين يحاجون في الله : أي يجادلون في دين الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم.
من بعد ما استجيب له : أي بالإيمان لظهور معجزته وهم اليهود.

حجتهم داحضة : أي باطلة عند ربهم.
وعليهم غضب : أي من الله ولهم عذاب شديد يوم القيامة.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ(1)} أي فإلى ذلك الدين الحق الذي هو الإسلام الذي شرعه الله لكم ووصى به نوحاً وأوحاه إليك فادع جميع الناس عربهم وعجمهم فإنه دين الله الذي لا يقبل ديناً سواه، ولا يكمل الإنسان في أخلاقه ومعارفه وآدابه ولا يسعد في الدارين إلا عليه واستقم(2) عليه(3) كما أمرك ربك، فلا تزغ عنه ولا تعدل به غيره فإنه الصراط المستقيم الذي لا يزيغ عنه إلا هالك ولا تتبع أهواء المشركين ولا أهواء أهل الكتاب. وقل في صراحة ووضوح آمنت بما أنزل من كتاب فلا أومن ببعض وأكفر ببعض كما أنتم عليه معشر اليهود والنصارى، وقل لهم أمرني ربي أن أعدل(4) بينكم في الحكم إذا تحاكمتم إليّ، كما أني لا أفرق بينكم إذ أعتبركم على الكفر سواء فكل من لم يكن على الإسلام الذي كان عليه نوح وإبراهيم وموسى وعيسى والذي عليه أنا وأصحابي اليوم فهو كافر من أهل النار.
وقوله تعالى {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} أي أمرني أن أقول لكم هذا الله ربنا وربكم إذ لا رب سواه فهو رب كل شيء ومليكه، {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}( 5) وسَيُجزى كل منا بعلمه السيئة بمثلها والحسنة بعشر أمثالها، إلا أن الكافر لا تكون له حسنة ما دام قد كفر بأصل الدين فلم يؤمن بالله ولقائه، ولا بوحيه ولا برسوله وقوله {لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} أي اليوم إذ ظهر الحق ولاح الصبح لذي عينين فلا داعي إلى الجدال والخصومة معكم يا أهل الكتابين من يهود ونصارى الله يجمع بيننا يوم القيامة إذ المصير في النهاية إليه لا إلى غيره وسوف يحكم بيننا فيما اختلفنا فيه فيقضي لأهل الحق بالنجاة من النار ودخول الجنة ويقضي لأهل الباطل بالنار والخلود فيها.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ(6) فِي اللَّهِ} أي في دين الله النبي والمؤمنين يريدون أن يردوهم
__________
1- قال القرطبي اللام هنا بمعنى إلى وله نظائر مثل بأن ربك أوحى لها أي إليها وأولى أن تكون اللام للتعليل أي لأجل ما ذكر من الأمر بإقامة الدين وعدم التفرق فيه فادع.
2- الاستقامة الاعتدال والسين والتاء فيها للمبالغة مثل أجاب استجاب والمراد هنا الاستقامة المعنوية وهي ملازمة الآداب الرفيعة والأخلاق الفاضلة والتمسك بأهداف الشريعة.
3- كما أمرت هذه الكاف كالتي في قوله تعالى واذكروه كما هداكم أعطيت معنى التقليل مثل كما صليت على إبراهيم وما في التفسير أولى من هذا فإن المراد على نحو ما أمرك لا تخالفه.
4- هذا من الغيب الذي أخبر به القرآن قبل وقوعه فكان كما أخبر فقد نصر الله رسوله وحكم اليهود وعدل بينهم وذلك في المدينة وخيبر وتيماء والآية نزلت بمكة.
5- هذه صور من صور الإنصاف والعدل.
6- قال مجاهد في قوله تعالى والذين يحاجون في الله الآية قال هؤلاء رجال طمعوا أن تعود الجاهلية بعد ما دخل الناس في الإسلام. وقيل إنهم اليهود والنصارى والكل جائز ويقع وواقع وما في التفسير أوضح وأصح.

إلى باطلهم من بعد ما استجيب للرسول ودخل الناس في دين الله أفواجاً، هؤلاء حجتهم داحضة عند ربهم أي باطلة، وعليهم غضب أي من ربهم ولهم عذاب شديد في الدنيا والآخرة هذه الآية نزلت في يهود بالمدينة نصبوا أنفسهم خصوماً لأصحاب رسول الله يجادلونهم يريدون تشكيكهم في الإسلام والعودة بهم إلى وثنية الجاهلية وكان هذا قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فرد تعالى عليهم وأسكتهم بهذه الآية متوعداً إياهم بالغضب والعذاب الشديد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب الدعوة إلى الإسلام بين أمم العالم إذ لا نجاة للبشرية إلا بالإسلام.
2- حرمة اتباع أهواء أهل الأهواء والسير معهم(1) وموافقتهم في باطلهم.
3- وجوب الاستقامة على الإسلام عقائد وعبادات وأحكام قضائية وآداب وأخلاق.
4- تعين ترك الحجاج والمخاصمة مع أهل الكتاب وكذا أهل الأهواء والبدع لأنا على الحق وهم على الباطل، فكيف نحاجهم إذ الواجب أن يسلموا وكفى.
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ(17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ(18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ(19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ(20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ
__________
1- الأهواء جمع هوى وهو الحب وغلب على حب ما لا نفع فيه إذ هو نابع عن ميل نفساني مناف للخير والعدل ويغلب إطلاق لفظ العشق عليه.

مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(21)
شرح الكلمات:
الله الذي أنزل الكتاب بالحق : أي أنزل القرآن متلبساً بالحق والصدق لا يفارقه أبداً.
والميزان: : أي وأنزل الميزان وهو العدل ليحق الحق.
وما يدريك لعل الساعة قريب: أي أيّ شيء يجعلك تدري قرب الساعة إلا أن يكون الوحي الإلهي.
يستعجل بها الذين لا يؤمنون : أي يطالب المكذبون بها لأنهم لا يخافون ما فيها لعدم إيمانهم به.
والذين آمنوا مشفقون منها : أي خائفون وذلك لإيمانهم فهم لا يدرون ما يكون لهم فيها من سعادة أو شقاء ولذا هم مشفقون.
ويعلمون أنها الحق : أي أن الساعة حق واجبة الإتيان لا محالة.
إن الذين يمارون في الساعة: أي إن الذين يجادلون في الساعة شاكين في وقوعها.
الله لطيف بعباده : أي برهم وفاجرهم بدليل أنهم يعصونه وهو يرزقهم ولا يعاقبهم.
من كان يريد حرث الآخرة : أي من كان يريد بعمله ثواب الآخرة.
نزد له في حرثه : أي نضاعف له ثوابه الحسنة بعشر أمثالها وأكثر.
ومن كان يريد حرث الدنيا : أي من كان يريد بعمله متاع لحياة الدنيا من طيباتها.
نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب : أي نعطه منها ما قدر له وليس له في الآخرة من حظ ولا نصيب.
أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين : أي بل لهم شركاء من الشياطين شرعوا لهم من الدين.
ما لم يأذن به الله : أي ما لم يشرعه الله تعالى وهو الشرك.
ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم : أي ولولا كلمة الفصل التي حكم الله بها بتأخير العذاب إلى يوم القيامة لأهلكهم اليوم على شركهم وأنجى المؤمنين.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ(1)} يخبر تعالى رسوله والمؤمنين بأنه هو
__________
1- جائز أن يكون الكتاب اسم جنس يشمل الكتب الإلهية إذ الله تعالى هو منزلها وجائز أن يكون المراد به القرآن. وأل فيه للتفخيم من شأنه كأنه الكتاب الفذ في بابه.

الذي أنزل الكتاب أي القرآن بالحق والصدق وأنزل الميزان(1) وذلك من أجل إحقاق الحق في الأرض وإبطال الباطل فيها، فلا يعبد إلا الله ولا يحكم إلا شرع الله وفي ذلك كمال الإنسانية وسعادتها، وقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ(2) لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} أي أيّ شيء جعلك تدري قرب الساعة إنه الوحي الإلهي لا غير وقوله {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا} أي الذين لا يؤمنون بالبعث الآخر والجزاء فيه هم الذين يطالبون بإتيانها في غير وقتها ويستعجلون الرسول بها بقولهم متى الساعة؟ أما المؤمنون بالبعث والجزاء فإنهم مشفقون أي خائفون من وقوعها لأنهم لا يدرون مصيرهم فيها ولا يعلمون ما هم صائرون إليه من سعاة أو شقاء وقوله {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} أي والمؤمنون يعلمون أن الساعة حق واجبة الوقوع ليحكم الله فيها بين عباده ويجزي كل واحد بعمله، ويقتص فيها من الظالم للمظلوم فلذا هي واقعة حتماً لا تتخلف أبداً.
وقوله تعالى: {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} يخبر تعالى مؤكداً الخبر بأن الذين يشككون في الساعة ويجادلون في صحة وقوعها في ضلال عن الهدى والصواب والرشد، بعيد لا يرجى لهم معه العودة إلى الصواب والهدى في هذه المسألة من مسائل العقيدة. وقوله تعالى {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} يخبر تعالى بأنه ذو لطف بعباده مؤمنهم وكافرهم برهم وفاجرهم يكفر به الكافرون ويعصيه العاصون وهو يطعمهم ويسقيهم ويعفو عنهم ولا يهلكهم بذنوبهم فهذا من دلائل لطفه بهم. يرزق من يشاء أي يوسع الرزق على من يشاء ويقدر على من يشاء حسب ما تقتضيه تربيتهم فلا يدل على الغنى على الرضاء ولا الفقر على السخط. وهو تعالى القوي القادر الذي لا يعجزه شيء العزيز في انتقامه ممن أراد الانتقام منه وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ(3) الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} ، وهذا من مظاهر لطفه بعباده وهو أن من أراد منهم بعمله ثواب الآخرة وما أعد الله فيها للمؤمنين المتقين نزد له في حرثه أي يضاعف له أجر عمله الحسنة بعشر إلى سبعمائة ويضاعف لمن يشاء ومن كان يريد بعمله حرث الدنيا أي متاع الحياة الدنيا يؤته على قدر عمله للدنيا وهو ما قدره له أزلاً وجعله مقدوراً له لا بد نائله، وماله في الآخرة من نصيب لأنه لم يعمل لها فلا حظ له ولا نصيب له فيها إلا النار وبئس القرار.
وقوله تعالى في الآية (21) {أَمْ(4) لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} يقول
__________
1- هل المراد من الميزان العدل أو هو الآلة التي يوزن بها والظاهر أنه الآلة التي يوزن بها إذ بها يتم العدل ولقوله تعالى {وأنزلنا معهم الكتاب الميزان ليقوم الناس بالقسط} وإنزاله إلهام وضعه والعمل به.
2- ما استفهامية أي من جعلك تدري قرب الساعة. قال ابن عباس ما قال تعالى فيه وما أدراك فقد أدراه، وما قال فيه وما يدريك فإنه لم يدره به.
3- المراد بالحرث العمل والكسب قال الشاعر:
كلانا إذا ما نال شيئاً أفاته
ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل
بهذه الآية رد على من زعم أن المرء لو دخل ماء للتبرد فيه أن له أن يصلي به لأن الآية نص في إرادة العمل والثواب بحسب الإرادة التي هي النية.
4- أم للإضراب الانتقالي والاستفهام للتفريع والتوبيخ.

أللمشركين من كفار قريش شركاء من الشياطين شرعوا لهم ديناً وهو الشرك لم يأذن به الله، وهذا إنكار عليهم، وإعلان غضب شديد أجل شركهم الذي زينته لهم الشياطين فصرفتهم عن الدين الحق إلى الدين الباطل، ولذا قال: {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي ولولا أنه تعالى قضى بأن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة لعذبهم في الدنيا وأهلكهم فيها قبل الآخرة، وذلك لاتخاذهم دينا لم يشرعه الله لهم. وقوله تعالى وإن الظالمين أي المشركين لهم عذاب أليم أي موجع وذلك يوم القيامة وهذا وعيد للمشركين الذين اتخذوا الجاهلية والشرك وعبادة الأوثان ديناً وأعرضوا عن دين الله الذي أوصى به نوحاً وأوحاه إلى محمد خاتم رسله، كما أوصى به إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- بيان بعض الحكمة في إنزال الكتاب أي القرآن والميزان وهو أن يحكم الناس بالقسط.
2- بيان قرب الساعة وأن معرفة قربها كان بالوحي الإلهي مثل اقترب للناس حسابهم.
3- المستعجلون بالساعة هم الكافرون الجاحدون لها.
4- بيان لطف الله بعباده فله الحمد وله المنة والشكر.
5- بيان وجوب إصلاح النيات فإن مدار العمل قبولاً ورفضاً بحسبها.
6- حظر التشريع بجميع أنواعه عن غير الله ورسوله.
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ(23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ

كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ(25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ(26)
شرح الكلمات:
ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا : أي ترى أيها المرء الظالمين يوم القيامة خائفين من جزاء ما عملوا.
وهو واقع بهم: أي وهو أي جزاء ما كسبوا من الباطل والشرك نازل بهم معذبون به لا محالة.
والذين آمنوا وعملوا الصالحات : آمنوا بالله ولقائه وآياته ورسوله وأدوا الفرائض واجتنبوا المحارم.
في روضات الجنات : أي هم في روضات الجنات، والروضة في الجنة أنزه مكان فيها.
لهم ما يشاءون عند ربهم : أي لهم ما تشتهيه أنفسهم وتلذه أعينهم في جوار ربهم.
قل لا أسألكم عليه أجراً : أي قل يا رسولنا لقومك لا أسألكم على التبليغ أجراً أي ثواباً.
إلا المودة في القربى : أي لكن أسألكم أن تودوا قرابتي فتمنعوني حتى أبلغ رسالتي.
ومن يقترف حسنة : أي ومن يكسب حسنة بقول أو عمل صالح.
نزد له فيها حسنا : أي نضاعفها له أضعافاً.
أم يقولون افترى على الله كذبا: أي أيقول هؤلاء المشركون إن محمداً افترى على الله كذباً فنسب إليه القرآن وهو ليس بكلامه ولا بوحيه.
فإن يشأ الله يختم على قلبك: أي إن يشإ الله تعالى يطبع على قلبك وينسيك القرآن أي أن الله قادر على أن يمنعك من الافتراء عليه كما زعم المشركون.
ويمحوا الله الباطل ويحق الحق: أي إن من شأن الله تعالى أنه يمحوا الباطل.

بكلماته : أي بالآيات القرآنية وقد محا الباطل وأحق الحق بالقرآن.
وهو الذي يقبل التوبة عن عباده : أي هو تعالى الذي يقبل توبة التائبين من عباده.
ويعفوا عن السيئات : أي لا يؤاخذ بها من تاب منها فهذا هو الإله الحق لا الأصنام التي ليس لها شيء مما هو لله ألبتة.
ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات : أي ويجيب تعالى عباده الذين آمنوا به وعملوا الصالحات إلى ما دعوه فيه فيعطيهم سؤلهم.
ويزيدهم من فضله : أي يعطيهم ما سألوا ويعطيهم ما لم يسألوه من الخير.
والكافرون لهم عذاب شديد : أي والكافرون بالله ورسوله ولقاء الله وآياته لهم عذاب شديد.
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله {تَرَى الظَّالِمِينَ}( 1) يوم القيامة مشفقين أي خائفين مما كسبوا أي من جزاء ما كسبوا من الشرك والمعاصي، وهو أي العذاب واقع بهم نازل عليهم لا محالة وقوله {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} أي في الوقت الذي يكون فيه الظالمون مشفقين مما كسبوا يكون الذين آمنوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولا وعملوا الصالحات من الفرائض والنوافل بعد اجتناب الشرك والكبائر في روضات الجنات وهي أنزهها وأحسنها لهم ما يشاءون من النعيم مما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين كل ذلك في جوار رب كريم وقوله تعالى {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(2)} أي ذاك الذي أخبر تعالى به أنهم فيه من روضات الجنات وغيره هو الفضل الكبير الذي تفضل الله تعالى عليهم به.
وقوله في الآية الثانية (23) {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي ذلك المذكور من روضات الجنات وغيره هو الذي يبشر الله تعالى به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات في كتابه وعلى لسان رسوله.
وقوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ(3) عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} يأمر تعالى رسوله أن يقول لقومه من المشركين لا أسألكم على إبلاغي إياكم دعوة ربي إلى الإيمان به وتوحيده لتكملوا وتسعدوا أجراً أي مالاً لكن أسألكم أن تودوا قرابتي منكم فلا تؤذوني وتمنعوني من الناس حتى
__________
1- هذا عرض لما يجري من أحوال في عرصات القيامة وما ينتهي إليه الموقف من إسعاد أهل الإيمان والعمل الصالح وإشقاء أهل الشرك والمعاصي.
2- لا يوصف ولا يهتدي العقول إلى معرفة كنه صفته لأن الله تعالى إذا قال كبير كان مما لا يقادر قدره.
3- هذا الخطاب خاص بقريش قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والاستثناء منقطع فهو بمعنى لكن ومعنى الآية قل لا أسألكم عليه أي على البلاغ أجراً أي ثواباً وجزاءً إلا أن تودّوني من قرابتي منكم أي تراعوا ما بيني وبينكم فتصدقوني وتنصروني حتى أبلغ رسالتي وذلك أنه ما من بطن من بطون قريش إلا وفيه للرسول صلى الله عليه وسلم قرابة رحم وأما توجيه الآية على آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو تمحل واضح إلا أن حب آل البيت وتعظيمهم واجب أكيد ووردت فيه أحاديث كثيرة صالحة للاحتجاج بها.

أبلغ دعوة ربي.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} أي من يعمل حسنة نزد له فيها حسنا بأن نضاعفها له إذ الله غفور للتائبين من عباده شكور للعاملين منهم فلا يضيع أجر من أحسن عملا.
وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ(1) افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} أي بل يقولون أفترى على الله كذبا أي يقول المشركون إن محمداً افترى على الله كذباً فادعى أن القرآن كلام الله ووحيه وما هو إلا افتراء افتراه على الله. فأبطل الله تعالى هذه الدعوة وقال: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} أي يطبع على قلبك فتنسى القرآن ولا تقدر على قوله والنطق به، فكيف إذًا يقال إنه يفتري على الله كذباً والله قادرٌ على منعه والإحالة بينه وبين ما يقوله. وقوله: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} هذا شأنه تعالى يمحوا الباطل ويحق الحق بالقرآن وقد فعل فمحاَ الباطل وأحق الحق فما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الجزيرة من يعبد غير الله تعالى. وقوله {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فلواسع علمه وعظيم قدرته محا الباطل وأحق الحق بالقرآن ولو كان القرآن مفترى ما محا باطلاً ولا أحق حقاً وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} أي إن تابوا إليه وأنابوا، ويعفوا عن سيئاتهم فلا يؤاخذهم بها، ويعلم ما يفعلون في السر والعلن ويجزي كلاً بما عمل وهو على كل شيء قدير.
وقوله تعالى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ(2) آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي يجيب دعاءهم فيما طلبوه ويزيدهم من فضله فيعطيهم ما لم يطلبوه فما أعظم كرمه وما أوسع رحمته!! هذا للذين آمنوا وعملوا الصالحات. وأما الكافرون فلهم عذاب شديد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير حق القرابة ووجوب المودة فيها. واحترام قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم وتقديرها.
2- تبرئة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الافتراء على الله عز وجل.
3- مضاعفة الحسنات، وشكر الله للصالحات من أعمال عباده المؤمنين.
4- وجوب التوبة وقبول الله تعالى لها، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوب إلى الله في اليوم مائة مرة. وللتوبة ثلاثة شروط: الإقلاع الفوري عن المعصية، والاستغفار، والندم على ما فعل من
__________
1- أم للإضراب الانتقالي والاستفهام إنكاري ينكر تعالى على المشركين الذين قالوا إن محمداً يفتري على الله الكذب فيقول أرسلني الله وما أرسله ويقول القرآن من وحي الله، والله ما أوحى إليه فأنكر تعالى هذا على قائليه ووضح لهم أن دعواهم لا تمت إلى الواقع بصلة.
2- فاعل يستجيب هو الله عز وجل والذين مفعول به في محل نصب والسين والتاء للتأكيد إذ استجاب هو بمعنى أجاب.

المعصية بترك الواجب أو بفعل المحرم. وإن كان الذنب يتعلق بحق آدمي زاد شرط رابع وهو التحلل من الآدمي بأداء الحق أو بطلب العفو منه.
5- وعد الله تعالى باستجابة دعاء المؤمنين العاملين للصالحات وهم أولياء الله تعالى الذين إن سألوا أعطاهم وإن استعاذوه أعاذهم وإن استنصروه نصرهم. اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم.
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ(27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ(28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ(29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ(30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(31)
شرح الكلمات:
ولو بسط الله الرزق لعباده : أي لو وسع الرزق لجميع عباده.
لبغوا في الأرض: أي لطغوا في الأرض جميعا.
ولكن ينزل بقدر ما يشاء: أي ينزل من الأرزاق بقدر ما يشاء فيبسط ويضيق.
إنه بعباده خبير بصير : أي إنه بأحوال عباده خبير إذ منهم من يفسده الغنى ومنهم من يصلحه ومنهم من يصلحه الفقر ومنهم من يفسده.
وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا : أي المطر من بعد يأسهم من نزوله.
وينشر رحمته : أي بركات المطر ومنافعه في كل سهل وجبل ونبات وحيوان.
وهو الولي الحميد : أي المتولي لعباده المؤمنين المحسنن إليهم المحمود عندهم.

وما بث فيهما من دابة : أي فرق ونشر من كل ما يدب على الأرض من الناس وغيرهم.
وهو على جمعهم إذا يشاء قدير: أي للحشر والحساب والجزاء يوم القيامة قدير.
وما أصابكم من مصيبة : أي بلية وشدة من الشدائد كالمرض والفقر.
فبما كسبت أيديكم : أي من الذنوب والآثام.
ويعفو عن كثير : أي منها فلا يؤاخذ به، وما عفا عنه في الدنيا لا يؤاخذ به في الآخرة.
وما أنتم بمعجزين في الأرض : أي ولستم بفائتي الله ولا سابقيه هربا منه إذا أراد مؤاخذتكم بذنبكم.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ(1) اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} هذا شروع في عرض مظاهر القدرة والعلم والحكمة الموجبة لربوبية الله تعالى المستلزمة لألوهيته على عبادته فقال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ} أي رب العباد الرزق فوسعه عليه لبغوا في الأرض فطغا بعضهم على بعضهم وظلم بعضهم بعضاً ولزم ذلك فساد كبير(2) في الأرض قد تتعطل معه الحياة بكاملها.
ولكن ينزل بقدر ما يشاء أي ينزل من الأرزاق بمقادير محددة حسب تدبيره لحياة عباده ويدل على هذا قوله إنه بعباده خبير(3) بصير أي إنه بما تتطلبه حياة عباده ذات الآجال المحدودة، والأعمال المقدرة الموزونة، والنتائج المعلومة أزلا. هذا مظهر من مظاهر العلم والقدرة والحكمة ومظهر آخر في قوله، {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} ، فإنزال المطر بكميات ومقادير محدودة وفي أماكن محددة، وفي ظروف محددة هذا التصرف ما قام إلا على مبدأ القدرة القاهرة والخبرة التامة، إنه يمنع عن عباده المطر فيمحلوا ويجدبوا حتى ييأسوا ويظهر عجزهم وعجز آلهتهم التي يعبدونها ظلما فاضحاً إذ لا تستحق العبادة بحال من الأحوال ثم ينزل الغيث(4) وينشر الرحمة فتعم الأرزاق والخيرات والبركات، وهو الولي الذي لا تصلح والولاية لغيره الحميد أي المحمود بصنائع بره وعوائد خيره ومظاهر رحمته. هو الولي بحق والمحمود
__________
1- روي أن خباب بن الأرت قال هذه الآية نزلت فينا نظرنا إلى أموال بني النضير وقريظة وقينقاع فتمنيناها فنزلت {ولو بسط الله} الآية والآية تضمنت رداً على من يقول ما دام الله يستجيب للذين آمنوا الخ لم لا يسألونه سعة الرزق فيغنيهم ويثريهم بألاموال فكان الجواب ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض.
2- وشاهده من السنة هو قوله صلى الله عليه وسلم فو الله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم فتتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم.
3- القدر بفتحتين: المقدار والتعيين والجمع بين صفتي "خبير" و "بصير" لأن وصف خبير دال على العلم بمصالح العباد وأحوالهم قبل تقديرها وتقدير أسبابها أي العلم بما سيكون ووصف بصير دال على العلم المتعلق بأحوالهم التي حصلت.
4- الغيث المطر وسمي غيثاً لأن به غيث الناس المضطرين.

بحق، ومظهر آخر في قوله تعالى ومن آياته الدالة على وجوده وقدرته وعلمه وحكمته الموجبة لربوبيته لسائر خلقه المستلزمة لألوهيته على سائر عباده: {خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إيجادهما بما هما عليه من عجائب الصفة، وما بث أي فرق ونشر فيهما من دابة تدب على الأرض، أو ملك يسبح في السماء. فهذا الخلق والإبداع ناطق بربوبيته تعالى صارخ بألوهيته لعباده فلم إذاً يعبد غيره من مخلوقاته وتترك عبادته وفوق هذا المظهر للخلق والرزق التدبير مظهر آخر وهو قدرته تعالى على جمع سائر خلقه في صعيد واحد ومتى؟ وإنه بعد إفنائهم وتصييرهم عظاما ورفاتا، وهو معنى قوله: وهو على جمعهم إذا يشاء قدير(1).
وقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ(2) أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}( 3)، وهذا مظهر آخر للقدرة والعلم يتجلى فيما يصيب الإنسان من مصيبة في نفسه وولده وماله إن كل مصاب ينزل بالإنسان في هذه الحياة ناتج عن مخالفة لله تعالى فيما وضع من القوانين والشرائع والسنن. وأعظم دلالة أن يعطل القانون الماضي ويوقف مفعوله فيكسب العبد الذنب ولا يؤاخذ به عفواً من الله تعالى عليه، وهو معنى قوله تعالى {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} فله الحمد وله المنة. ومظهر آخر من مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته هو أن الناس مهما أوتوا من قوة وتدبير وعلم ومعرفة لم ولن يعجزوا الله تعالى {أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} فالسماء فوقهم والأرض تحتهم إن يشأ يخسف الأرض من تحتهم أو يسقط عليهم السماء كسفاً من فوقهم. فإلى أين المهرب والجواب إلى الله فقط بالاستسلام له والانقياد بالطاعة وفي ذلك نجاتهم وعزهم وكرامتهم زيادة على سعادتهم وكمالهم في الحياتين وقوله: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} أي وليس لكم أيها الناس مع عجزكم من ولي يتولاكم ولا ناصر ينصركم. إذاً ففروا إلى الله بالإيمان والإسلام له تنجوا وتسعدوا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان الحكمة في تقدير الأرزاق وإعطائها بمقادير محددة.
2- من مظاهر ربوبية الله تعالى الموجبة لألوهيته على عباده إنزال الغيث بعد اليأس والقنوط وخلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة.
3- بيان حقيقة علمية ثابتة وهي أن المخالفة للقوانين يترتب عليه ضرر يصيب المخالف.
4- بيان أنه ما من مصيبة تصيب المرء في نفسه أو ولده أو ماله إلا بذنب ارتكبه.
__________
1- تقرير لعقيدة البعث والجزاء أثناء تقرير عقيدة التوحيد والنبوة المحمدية.
2- قرأ نافع بما كسبت وقرأ حفص فبما كسبت بزيادة الفاء.
3- قال الحسن لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب، ولما يعفوا الله عنه أكثر. وشاهد آخر من كتاب الله تعالى قوله تعالى {من يعمل سوء يجز به}.

1- بيان أن من الذنوب ما يعفو(1) الله تعالى عنه ولا يؤاخذ به تكرماً وإحسانا.
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ(32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ(34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ(35)
شرح الكلمات:
ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام: أي ومن علامات ربوبيته للخلق إيجاد السفن كالجبال في البحار وتسخير البحار للسير فيها لمنافع العباد.
إن يشأ يسكن الريح : أي يوقف هبوب الريح فلا نسيم ولا عواصف.
فيظللن رواكد على ظهره: أي تقف السفن وتظل راكد حابسة على ظهر البحر.
إن في ذلك لآيات : أي في هذه المظاهر من خلق السفن والبحار وتسخير البحار وسير السفن وركودها عند سكون الرياح لدلالات واضحة على وجود الله وقدرته وعمله وحكمته.
لكل صبار شكور: أي إن هذه الآيات لا يراها ولا ينتفع بها إلا من كان صباراً عند الشدائد والمحن شكوراً عند الآلاء والنعم.
أو يوبقهن بما كسبوا : أي وإن يشأ يجعل الرياح عواصف فيهلك تلك السفن ويغرقها بمن فيها بسبب ذنوب أصحابها، وهو على ذلك قدير.
ويعفو عن كثير: أي إنه تعالى ليعفو عن كثير من الذنوب والخطايا فلا يؤاخذ بها إذ لو آخذ بكل ذنب ما بقي أحد على وجه الأرض لقلة من لا يذنب فيها.
ويعلم الذين يجادلون في آياتنا : أي ويعلم المكذبون بآيات الله من المشركين عندما تعصف العواصف وتضطرب السفن ويخاف الغرق.
ما لهم من محيص : أي ليس لهم من مهرب إلا إلى الله فيجأرون بدعائه وحده ناسين آلهتهم الباطلة.
__________
1- ولذا قال علي رضي الله عنه أرجى آية في كتاب الله تعالى هي هذه الآية وإذا كان يكفر عني بالمصائب ويعفو عن كثير فما يبقى بعد كفارته وعفوه؟.

معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر مظاهر الربوبية المستلزمة لألوهية الله تعالى ووجوب عبادته وحده دون سواه فقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ(1) فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ} أي ومن حججه عليكم يا عباد الله الدالة على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته أيضاً هذه السفن الجوار في البحر كأنها جبال عالية تسير من إقليم إلى إقليم بتسخير الله تعالى البحار وإرسال الرياح وهي تجري بمنافعكم حيث تنقل الركاب والبضائع من إقليم إلى آخر. فهذا مظهر قدرة الله ورحمته، وإن يشأ تعالى إسكان الريح فإنها تسكن فلا تهب ولا تنسم بنسيم ألبتة فتقف السفن وتركد على سطح(2) الماء فلا تتحرك، وإن يشأ أيضاً يرسل عليها عواصف من الريح فتضطرب وتغرق بما فيها ومن فيها وذلك بذنوب أصحابها إن القاعدة الثابتة المقررة أنه ما من مصيبة إلا بذنب. وهذا معنى قوله {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ}.
وقوله تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي إن في هذه المظاهر من خلق السفن والبحار وتسخير البحار وسير السفن عليها وركودها عند سكون الريح لحجج واضحة قوية على وجود الله وقدرته وعلمه ورحمته وحكمته ولكن لا يراها ولا ينتفع بها أمثال البهائم، ولكن هي من نصيب كل عبد صبار على طاعة الله وبلائه شكور لآلائه ونعمه عليه.
وقوله {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا(3)}. وقوله {وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ(4)} أي ولا يؤاخذ بكل ذنب فقد يعفو عن كثير من الذنوب. إذ لو عاقب على كل ذنب وآخذ بكل خطيئة لما بقي على وجه الأرض أحد إذ ما من أحد إلا ويذنب اللهم إلا ما كان من المعصومين من الأنبياء والمرسلين فإنهم لا يذنبون، ولكن قد يذنب أصولهم وفروعهم فيهلكون ومن أين يوجدون!!
__________
1- الجوار جمع جارية والأعلام جمع علم والعلم الجبل والآيات جمع آية وهي العلامة الدالة على الشيء الهادية إليه المعروفة به. وسميت السفينة جارية لأنها تجري في البحر وسميت الشابة من النساء جارية لأنها يجري فيها ماء الشباب.
قال الخليل كل شيء مرتفع عند العرب فهو علم واستشهد بقول الخنساء وهي ترثي أخاها صخرا:
وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار
2- يقال راكد الماء ركوداً سكن وكذلك الريح والسفن والشمس إذا قام قائم الظهيرة وكل ثابت في مكان فهو راكد والرواكد جمع راكدة مؤنث راكد.
3- أي وإن يشأ يجعل الرياح عواصف فيوبق السفن أي يغرقهن بذنوب أهلها إذ الباء سببية.
4- ويعفو عن كثير أي من أهلها فلا يغرقهم معها، كما يتجاوز عن كثير من الذنوب فلا يؤاخذ بها. ويعف مجزوم بحذف آخره لأنه معطوف على إن يشأ يسكن الريح أي وإن يشأ يعف.

وقوله تعالى: {وَيَعْلَمَ(1) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ(2)} أي وعندما تكون الريح عاصفة وتضطرب السفن وتشرف على الغرق هنا يعلم المشركون الذين يخاصمون رسول الله ويجادلونه في الوحي الإلهي ويكذبون به يعلمون أنهم في هذه الحال ما لهم من محيص أي من ملجأ ولا مهرب من الله إلا إليه فيجأرون بدعاء الله وحده كما قال تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مظاهر ربوبية الله وألوهيته على خلقه.
2- فضل الصبر والشكر وفضيلة الصابرين الشاكرين.
3- تقرير قاعدة ما من مصيبة إلا بذنب مع عفو الله عن كثير.
4- عند معاينة العذاب يعرف الإنسان ربه ولا يعرف غيره.
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ(37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ(39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ(41)
__________
1- قرأ نافع ويعلم بالرفع على أنه كلام مستأنف وقرأ حفص ويعلم بالنصب عطفاً على فعل مدخول للام التعليل تضمن (أن) بعده، والتقدير لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون الخ..
2- المحيص مصدر ميمي من حاص يحيص حيصاً إذا أخذ في الفرار والهرب مائلاً في سيره وفي حديث أبي سفيان: فحاصوا حيصة حمر الوحش. والمعنى ما لهم من فرار ومهرب من لقاء الله تعالى.

شرح الكلمات:
فما أوتيتم من شيء: أي فما أعطيتم من شيء من متاع الدنيا كالمال والولد والمطعم والمشرب والملبس والمسكن والمنكح والمركب.
فمتاع الحياة الدنيا: أي يتمتع به زمناً ثم يزول ولا يبقى.
وما عند الله خير وأبقى : أي وما عند الله من ثواب الآخرة فهو خير في نوعه وأبقى في مدته.
للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون: أي ما عند الله خير وأبقى لأصحاب الصفات التالية:
الإيمان، والتوكل على الله، واجتناب كبائر الإثم والفواحش، والتجاوز عمن أساء إليهم، والاستجابة لربهم في كل ما دعاهم إليه فعلاً أو تركاً، وإقام الصلاة والمشورة(1) بينهم والإنفاق مما رزقهم الله، والانتصار عند البغي عليهم هذه عشرة صفات أصحابها ما أعده الله تعالى لهم يوم يلقونه خير من متاع الدنيا بكامله.
وجزاء سيئة سيئة مثلها : أي جزاء سيئة المسيء عقوبته بما أوجبه الله عليه.
فمن عفا وأصلح فأجره على الله : أي فمن عفا عمن أساء إليه وأصلح ما بينه وبينه فأجره على الله ثابت له.
إنه لا يحب الظالمين: أي لا يحب البادئين بالظلم، ومن لم يحبه الله أذن في عقوبته.
ولمن انتصر بعد ظلمه: أي ومن ظلمه ظالم فأخذ منه بحقه.
فأولئك ما عليهم من سبيل : أي لمؤاخذتهم، لأنهم ما بدأوا بالظلم.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ(2) مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} هذا شروع في بيان صفات الكمال في المسلم التي يستوجب بها نعيم الآخرة ضمن التعريض بزينة الحياة الدنيا الفانية فقال تعالى {فَمَا أُوتِيتُمْ} أيها الناس من مؤمن وكافر من شيء في هذه الحياة الدنيا من لذيذ الطعام والشراب وجميل اللباس، وفاخر المساكن وأجمل المناكح وأفره المراكب كل ذلك متاع الحياة الدنيا يزول ويفنى. أما ما عند الله أي ما أعده الله لأوليائه في الدار الآخرة فهو خير وأبقى لكن لمن أعده؟
__________
1- ومما يقال في المشورة نظماً قول بشار بن برد:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن
برأي لبيب أو مشورة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة
فإن الخوافي قوة للقوادم
الخوافي ريشات إذا ضم الطير جناحيه خفيت، والقوادم عشر ريشات في مقدم الجناح وهي كبار الريش.
2- قال القرطبي في قوله تعالى: {فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا} يريد من الغنى والسعة في الدنيا

والجواب للذين آمنوا أي بالله وآياته ولقائه ورسوله وبكل ما جاء به والذين على ربهم لا على سواه يتوكلون ثقة في كفايته واعتماداً عليه، والذين يجتنبون أي يتركون كبائر(1) الإثم كالشرك والقتل والظلم وشرب الخمر وأكل الحرام والفواحش كالزنى واللواط. والذين إذا غضبوا يتجاوزون(2) عمن أغضبهم ويغفرون له زلته أو إساءته إليهم والذين استجابوا لربهم(3) عندما ناداهم ودعاهم لكل ما طلبه منهم، والذين أقاموا الصلاة فأدوها على وجهها المطلوب لها من خشوع مراعين شرائطها وأركانها وواجباتها وسننها وآدابها، والذين أمرهم شورى بينهم أي أمرهم الذي يهمهم في حياتهم أفراداً وجماعات وأمماً وشعوباً يجتمعون عليه ويتشاورون(4) فيه ويأخذون بما يلهمهم ربهم بوجه الصواب فيه. والذين مما رزقهم الله من مال وعلم وجاه وصحة بدن ينفقون شكرا لله على ما رزقهم واستزادة للثواب يوم الحساب. والذين إذا أصابهم البغي أي إذا بغى عليهم البغاة الظلمة من الكافرين ينتصرون لأنفسهم إعذارا لها وإكراما لأنها أنفس الله وليها فالعزة واجبة لها. هذه عشر صفات متى اتصف بها العبد لا يضره شيء لو عاش الدهر كله فقيراً نقياًّ محروماً من لذيذ الطعام والشراب ومن جميل اللباس، والسكن والمركب إذ ما عند الله تعالى له خير أبقى مع العلم أن أهل تلك الصفات سوف لا يحرمون من طيبات الحياة الدنيا بل هم أولى بها من غيرهم إلا أنها ليست شيئاً يذكر إلى جانب ما عند الله يوم يلقونه ويعيشون في جواره.
وقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} هذا هو الحكم الشرعي جزاء المسيء العقوبة بما أوجب الله تعالى له في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وقوله تعال فمن عفا عمن أساء إليه، أصلح ما بينه وبينه فعادت المودة وعاد الإخاء فأجره على الله وهو خير له وأبقى من شفاء صدره بعقوبة أخيه الذي أساء إليه. وقوله تعالى {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} تعليل لعظم الأجر لمن عفا أي كونه تعالى لا يحب الظالمين ضاعف الأجر وأجزل المثوبة للمظلوم إذا عفا وأصلح. وقوله: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ(5)} أي وللذي ظلم فانتصر لنفسه وردّ الظلم عنها فهؤلاء لا سبيل لكم إلى أذيتهم وعقوبتهم. هذا حكم الله وشرعه.
__________
1- روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الفواحش الزنا وأن كبير الإثم الشرك وهو كذلك.
2- وإذا ما غضبوا هم يغفرون أي يتجاوزون ويحملون عمن ظلمهم، قيل نزلت في عمر حين شتم بمكة وقيل في أبي بكر حين لامه الناس على إنفاقه ماله كله وحين شتم فحلم.
3- قال ابن زيد: هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم حين أنفذ إليهم اثني عشر نقيباً منهم قبل الهجرة.
4- قال ابن العربي: الشورى ألفة للجماعة ومسبار للعقول وسبب إلى الصواب وما تشاور قوم قط إلا هدوا وفي الحديث "ما خاب من استخار ولا ندم من استشار وما عال من اقتصد". والشورى والمشورة بمعنى واحد.
5- لقد مدح الله تعالى المنتصر من الظلم ومدح العفو عن الجرم، فالانتصار يكون من الظالم المعلن الفجور الوقح في الجمهور المؤذي للصغير والكبير فهذا الانتقام منه أفضل، والعفو يكون في الفلتة، وفيمن يعترف بالزلة ويطلب العفو.

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- متاع الحياة الدنيا إذا قوبل بما أعد الله للمؤمنين المتقين لا يعد شيئاً يذكر أبدا.
2- بيان أكمل الشخصيات الإسلامية وهي الشخصية التي تتصف بالصفات العشر التي تضمنتها الآيات الأربع ذات الرقم (36- 37- 38- 39).
3- مشروعية القصاص وعقوبة الظالم.
4- عدم مؤاخذة من ظلم فأخذ بحقه بلا زيادة عنه ما لم يكن حداً فإن الحدود يقيمها الإمام.
5- فضيلة العفو على الإخوة المسلمين والإصلاح بينهم.
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ(43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ(44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ(45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ(46)
شرح الكلمات:
إنما السبيل : أي بالعقوبة والأذية.
على الذين يظلمون الناس : أي يعتدون عليهم في أعراضهم وأبدانهم وأموالهم.

ويبغون في الأرض بغير الحق : أي ويطلبون في الأرض الفساد فيها بالشرك والظلم والإجرام.
ولمن صبر وغفر : أي ولمن صبر فلم ينتصر لنفسه وغفر وتجاوز عمن أساء إليه.
إن ذلك: أي ذلك الصبر والتجاوز عن المسيء.
لمن عزم الأمور : أي لمن معزومات الأمور المطلوبة شرعا.
ومن يضلل الله : أي حسب سنته في الإضلال.
فما له من ولي من بعده: أي فليس له من أحد يتولى هدايته ويقدر عليها.
هل إلى مرد من سبيل: أي هل إلى مرد إلى الحياة الدنيا من سبيل نسلكها لنعود إلى الدنيا.
وتراهم يعرضون عليها : أي على النار خاشعين خائفين متواضعين.
ينظرون من طرف خفي : أي من عين ضعيفة النظر كما ينظر المقتول إلى السيف لا يملأ عينه منه.
يوم القيامة : أي لخلودهم في النار، وعدم وصولهم إلى الحور العين في دار السلام.
ألا إن الظالمين : أي المشركين.
في عذاب مقيم : أي دائم لا يخرجون منه وهو عذاب الجحيم.
ومن يضلل الله فما له من سبيل: أي طريق الهداية في الدنيا، وإلى الجنة يوم القيامة.
معنى الآيات:
لقد تقدم في قوله تعالى في الآية قبل هذه: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} فلما نفى عن المنتصرين السبيل إلى عقوبتهم أثبت هنا أن السبيل إلى العقوبة والمؤاخذة هو على الذين(1) يظلمون الناس بالاعتداء عليهم في أبدانهم أو أعراضهم أو أموالهم يبغون في الأرض بغير الحق أي ويطلبون الفساد فيها بالشرك والظلم والمعاصي، وليس في الشرك والظلم والمعاصي من حق يبيحها، وقوله {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي للذين يبغون في الأرض بغير الحق لهم عذاب أليم أي موجع وهو عذاب الدنيا بعقوبتهم الصارمة ويوم القيامة إن لم يتوبوا من الظلم والفساد في الأرض.
وقوله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ(2)} يخبر تعالى مؤكداً الخبر بلام الابتداء أن من صبر فلم ينتصر لنفسه من أخيه المسلم وغفر لأخيه زلته فتجاوز له عنها فإن ذلك المذكور من الصبر والتجاوز من معزومات الأمور المطلوبة شرعا.
__________
1- هذه الآية تقابل آية التوبة {ما على المحسنين من سبيل} حيث نفت السبيل على المحسنين وهو لومهم وعتابهم وهذه أثبتته على المسيئين الظالمين.
2- قال العلماء هذا فيمن ظلمه مسلم فإنه مندوب إلى الصبر وعدم المؤاخذة وهو العفو روي أن رجلاً سب آخر في مجلس الحسن البصري فكان المسبوب يكظم ويعرق ويمسح العرق ثم قام فتلا هذه الآية فقال الحسن عقلها والله وفهمها إذ ضيعها الجاهلون، والعزم عقد النية على العمل والثبات عليه.

وقوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ(1) مِنْ بَعْدِهِ} أي ومن يضلله الله تعالى حسب سنته في الإضلال فليس له من أحد من بعد الله يهديه. وقوله تعالى: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ} أي المشركين لما رأوا العذاب أي عذاب النار يقولون: متمنيين الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا ويوحدوا حتى ينجوا من عذاب النار ويدخلوا الجنة مع الأبرار: هل إلى مرد من سبيل؟ أي هل إلى مرد إلى الدنيا من طريق؟ قال تعالى {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} أي على النار خاشعين خاضعين متواضعين من الذل ينظرون من طرف خفي(2) يسترقون النظر لا يملأون أعينهم من النظر إلى النار لشدة خوفهم منها. وهنا يقول الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وذلك لخلودهم في النار وحرمانهم من الوصول إلى الحور العين في الجنة دار الأبرار، ويعلن معلن فيقول: ألا إن الظالمين لأنفسهم بالشرك والمعاصي في عذاب مقيم لا يبرح ولا يزول وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يخبر تعالى بأنه لم يكن لأولئك الظالمين من أهل النار من أولياء من دون الله ينصرونهم بتخليصهم من العذاب. وقوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} أي فما له طريق إلى هدايته في الدنيا وإلى الجنة يوم القيامة.
هداية الآيات
من هداية الآيات :
1- لا سبيل إلى معاقبة من انتصر لنفسه بعد ظلمه.
2- وجوب معاقبة الظالم والضرب على يديه.
3- فضيلة الصبر والتجاوز عن المسلم إذا أساء بقول أو عمل.
4- لا أعظم خسرانا ممن يخلد في النار ويحرم الجنة وما فيها من نعيم مقيم.
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ(47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا
__________
1- من ولي (من) زائدة للتوكيد إذ الكلام فما له ولي من بعده وكذلك في قوله الآتي {وما كان لهم من أولياء} فمن زائدة للتوكيد.
2- الطرف مصدر طرف يطرف طرفاً إذا حرك جفنه ولذا هو لا يثنى ولا يجمع قال تعالى {لا يرتد إليهم طرفهم} ويطلق الطرف على العين كما في هذه الآية قال الشاعر:
فغض الطرف إنك من نمير
فلا كعباً بلغت ولا كلابا

أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْأِنْسَانَ كَفُورٌ(48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ(49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ(50)
شرح الكلمات:
استجيبوا لربكم : أي أجيبوه لما دعاكم إليه من التوحيد والعبادة.
من قبل أن يأتي يوم : أي يوم القيامة.
لا مرد له من الله : أي إذا أتى لا يرد بحال.
ما لكم من ملجأ يومئذ: أي تلجأون إليه وتتحصنون فيه.
وما لكم من نكير: أي وليس لكم ما تنكرون به ذنوبكم لأنها في كتاب الله لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
فإن أعرضوا: أي لم يجيبوا ربهم لما دعاهم إليه من التوحيد والعبادة.
إن عليك إلا البلاغ : وقد بلغت فلا مسئولية تخشاها بعد البلاغ.
وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة : أي نعمة كالغنى والصحة والعافية.
وإن تصبهم سيئة : أي بلاء كالمرض والفقر وغير ذلك.
بما قدمت أيديهم: أي من الذنوب الخطايا.
فإن الإنسان كفور : أي للنعمة والمنعم والإنسان هو غير المؤمن التقي.
لله ملك السموات والأرض : أي خلقاً وملكاً وتصرفاً.
يهب لمن يشاء إناثاً: أي يرزق من يشاء من الناس بنات.
ويهب لمن يشاء الذكور: أي ويعطي من يشاء الأولاد الذكور.
أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً: أي يجعلهم ذكوراً وإناثاً.
ويجعل من يشاء عقيماً: أي لا يلد ولا يولد له.

معنى الآيات:
بعد ذلك العرض الهائل لأهوال وأحوال الظالمين في عرصات القيامة طلب الرب تعالى من عباده أن يجيبوه لما طلبه منهم إنقاذاً لأنفسهم من النار فقال: { اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ(1)} بمعنى أجيبوه لما دعاكم إليه من التوحيد والطاعات قبل فوات الفرصة وذلك قبل الموت وقبل يوم القيامة اليوم الذي إذا جاء لا مرد له من الله، إذ لا يقدر على رده إلا الله والله أخبر أنه لا يرده فمن يرده إذاً؟ فبادروا بالتوبة إلى ربكم قبل مجيئه حيث لا يكون لكم يومئذ ملجأ تلجأون إليه هاربين من العذاب ولا يكون لكم نكير يمكنكم أن تنكروا به ذنوبكم إذ قد جمعت لكم في كتاب واحد لم يترك صغيرة من الذنوب ولا كبيرة إلا أحصاها عدا. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (47) وهي قوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ(2)}. وقوله تعالى في الآية الثانية (48) {فَإِنْ أَعْرَضُوا} أي لم يجيبوا ربهم لما دعاهم إليه من التوحيد والطاعة {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} رقيباً تحصي أعمالهم وتحفظها لهم وتجازيهم بها. {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} أي ما عليك إلا البلاغ وقد بلغت وبرئت ذمتك فلا يهمك أمرهم ولا تحزن على إعراضهم .. وقوله تعالى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ(3) مِنَّا رَحْمَةً} أي نعمة كسعة رزق وصحة بدن وكثرة مال وولد فرح بها فرح البطر والأشر، وهذا الإنسان الكافر أو الجاهل الضعيف الإيمان. وإن تصبهم سيئة أي ضيق عيش ومرض وفقر بما قدمت أيديهم من الذنوب فإن الإنسان كفور سرعان ما ينسى النعمة والمنعم ويقع في اليأس والقنوط هذا الإنسان قبل أن يؤمن ويسلم ويحسن فإذا آمن وأسلم وأحسن تغير طبعه وطهر نبعه وأصبح يشكر عند النعمة ويصبر عند النقمة. وقوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ(4) وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} إن بحكم سلطانه على الأرض والسماء فإنه يتصرف كيف يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم له ذكرانا وإناثاً، ويجعل من يشاء من الناس عقيماً لا يلد ولا يولد له، وهذا ناتج عن علم أحاط بكل شيء، وقدرة أخضعت لها كل شيء وهذا معنى قوله {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}( 5) فالواجب أن يسلم العبد لربه فيما وهبه وأعطاه إذ الله يعطي لحكمة ويمنع لحكمة، من السفه الاعتراض على حكم الله.
__________
1- السين والتاء للتوكيد واللام لربكم لتأكيد تعدية الفعل إلى المفعول نحو شكرت له وحمدت له وتسمى هذه اللام لام التبليغ ولام التبيين إذ الأصل أجابه واستجابه.
2- النكير: اسم مصدر أنكر ينكر إنكاراً والنكير اسم المصدر إذ نقصت حروفه والمعنى ما لكم إنكار لما جوزيتم به إذ لا يسعكم إلا الاعتراف.
3- الإذاقة كناية عن الإصابة والمراد بالرحمة أثرها وهي النعمة والتقدير وإنا إذا رحمنا الإنسان فأصبناه بنعمة.
4- الجملة مستأنفة بيانياً إذ لسائل أن يقول لم لا يفطر الله الإنسان على خلق الشكر فكان الجواب لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء.
5- الجملة تعليلية فصفتا العلم والقدرة بهما يكون الولد ولا يكون فليسلم الأمر لله في العقم والولادة.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- وجوب الاستجابة لله تعالى في كل ما دعا العبد إليه، وذلك قبل أن يطلب الاستجابة ولا يمكن منها.
2- على الدعاة إلى الله تعالى إبلاغ مطلوب الله تعالى من عباده، ولا يضرهم بعد ذلك شيء.
3- بيان طبع الإنسان وحاله قبل أن يهذب بالإيمان واليقين والطاعات.
4- لله مطلق التصرف في الملكوت كله فلا يصح الاعتراض عليه في شيء فهو يهب ويمنع لحكم عالية لا تدركها عقول العباد.
5- وجود عقم في الرجال وعقم في النساء، ولا بأس بالعلاج الجائز المشروع عند الشعور بالعقم أو العقر. أما ما ظهر الآن من بنوك المني، والإنجاب بطريق صبّ ماء فحل في فرج امرأة عاقر وما إلى ذلك فهذه من أعمال الملاحدة الذين لا يدينون لله بالطاعة له والتسلم لقضائه، وإن صاموا وصلوا وادعوا أنهم مؤمنون إذ لا حياء لهم ولا إيمان لمن لا حياء له، وحسبهم قبحا في سلوكهم هذا الكشف عن السوءات بدون إنقاذ حياة ولا طلب رضا الله رب الأرض والسموات.
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ(51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ(53)

شرح الكلمات:
إلا وحيا أو من وراء حجاب: أي إعلاما خفيا سريعاً في يقظة أو منام، أو يكلمه من وراء حجاب فيسمع الكلام ولا يرى الذات.
أو يرسل رسولاً : أي يرسل ملكاً في صورة إنسان فيكلمه مبلغاً عن الله تعالى.
إنه علي حكيم : أي الله تعالى ذو علو على سائر خلقه حكيم في تدبير خلقه.
وكذلك أوحينا إليك : أي كما كنا نوحي إلى سائر رسلنا أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن.
روحاً من أمرنا : أي وحياً ورحمة من أمرنا الذي نوحيه إليك.
ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان: أي لم تكن قبل تدري أي شيء هو الكتاب، ولا الإيمان الذي هو قول وعمل واعتقاد.
ولكن جعلناه نوراً نهدي به: أي جعلنا القرآن نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا إلى صراطنا.
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم : أي الإسلام.
ألا إلى الله تصير الأمور : أي ترجع أمور جميع العباد في يوم القيامة إلى الله تعالى.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً(1)} يخبر تعالى أنه ليس من شأن البشر كائنا من كان أن يكلمه الله تعالى إلا وحيا بأن يعلمه بطريق سريع خفي إلهاماً أو مناماً فيفهم عن الله تعالى ما ألقاه في روعه(2) جازماً أنه كلام الله ألقاه إليه، هذه طريقة وثانية أن يكلمه الله تعالى فيسمعه كلامه بدون أن يرى ذاته كما كلم موسى عليه السلام غيره مرة. وثالثة أن يرسل إليه رسولاً كجبريل عليه السلام فيبلغه كلام ربه تعالى هذا معنى قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ(3) رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ} أي ذو علو على خلقه {حَكِيمٌ} في تدبيره لخلقه.
وقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} أي كما كنا نوحي إلى سائر رسلنا أوحينا إليك يا محمد روحا وهو القرآن وسمي روحاً لأن القلوب تحيا به كما تحيا الأجسام بالأرواح، وقوله
__________
1- روى غير واحد أن الآية نزلت ردا على قول من قال للنبي صلى الله عليه وسلم ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبياً كما كلمه موسى ونظر إليه فإنا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك وجائز أن يكون اليهود الذين أشاروا بهذا على كفار قريش وجائز أن يكون اليهود هم القائلون له.
2- الروع بضم الراء القلب أو العقل، والفتح الفزع. وفي الحديث "إن روح القدس نفثت في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب" والحديث صحيح. وأرج بعضهم خذوا ما حل ودعوا ما حرم.
3- اختلف الفقهاء فيمن حلف ألا يكلم فلاناً فكتب إليه أو أرسل إليه رسولاً فهل يحنث؟ أوجه الأقوال أنه إذا اشترط المشافهة في حلفه أنه لا يحنث وإن لم يشترطها يحنث ولا يحنث إن سلم عليه في الصلاة أما في خارجها فإنه يحنث.

{مِنْ أَمْرِنَا(1)} أي الذي نوحيه إليك الشامل للأمر والنهي والوعد والوعيد وقوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ} أي القرآن {وَلا الْأِيمَانُ(2)} الذي هو عقيدة وقول وعمل. وقوله {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً} أي جعلنا القرآن نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا إلى الإيمان بنا وتوحيدنا وطلب مرضاتنا بفعل محابّنا وترك مساخطنا.
وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي وإنك يا رسولنا لتهدي إلى صراط مستقيم الذي هو الدين الإسلامي وقوله {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي خلقا وملكاً وعبيداً {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} أي وإليه تعالى مصير كل شيء، ومرد كل شيء إذ هو المالك الحق والمدبر لأمر المخلوقات كلها، ولذا وجب تفويض الأمر إليه والرضا بحكمه وقضائه ثقة فيه وفي كفايته.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان طرق الوحي وهي ثلاثة الأولى الإلقاء في الروع يقظة أو مناماً والثانية أن يكلم الله النبي بدون أن يرى ذاته عز وجل كما كلم موسى في الطور وكلم محمداً صلى الله عليه وسلم في الملكوت الأعلى والثالث أن يرسل إليه الملك إما في صورته الملائكية أو في صورة رجل من بني آدم فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه من أمره.
2- القرآن الكريم روح تحيا به القلوب الميتة كما تحيا الأجسام بالأرواح.
3- القرآن نور يستضاء به في الحياة فتعرف به طرق السعادة وسبل النجاة.
__________
1- أي من شأننا العظيم المقتضي الإيحاء إليك بالقرآن الحاوي للشرائع والأحكام وأنواع الهدايات المكملة للإنسان الآخذ بها المسعدة له في الحياتين.
2- المنفي من الإيمان هو التفصيلي أما الإجمالي فقد ولد صلى الله عليه وسلم مؤمناً موحداً، ولذا لم يقل وما كنت مؤمناً فالمنفي شرائع الإيمان وتفاصيله.

سورة الزخرف
...
سورة الزخرف
مكية وآياتها تسع وثمانون آية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حم(1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ(2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ(4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ(5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ(6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ(8)
شرح الكلمات:
حم : هذا أحد الحروف المقطعة يكتب حم ويقرأ: حا ميم.
والكتاب المبين : أي والقرآن الموضح لطريق الهدى وسبيل السلام.
إنا جعلناه قرآناً عربياً: أي جعلناه قرآنا بلسان العرب يقرأ بلسانهم ويفهم به.
لعلكم تعقلون: أي رجاء أن تعقلوا أيها العرب، ما تؤمرون به وما تنهون عنه.
وإنه في أم الكتاب لدينا: أي في اللوح المحفوظ كتاب المقادير كلِّها عندنا.
لعلي حكيم : أي لذو علو وشأن على الكتب قبله لا يوصل إلى مستواه في علوه ورفعته حكيم أي ذو حكمة بالغة عالية لا يرام مثلها.
أفنضرب عنكم الذكر صفحاً : أنمهلكم فنضرب عنكم الذكر صفحا أي لا ينزل القرآن بأمركم ونهيكم ووعدكم ووعيدكم.
أن كنتم قوماً مسرفين: لأن كنتم قوما مسرفين متجاوزين الحد في الشرك والكفر كلا لا نفعل.
وكم أرسلنا من نبي في الأولين: أي وكثيراً من الأنبياء أرسلناهم في القرون الأولى من الأمم الماضية.
فأهلكنا أشد منهم بطشاً : أي فأنزلنا عذابنا بأشدهم قوة وبطشاً من قومك فأهلكناهم.

ومضى مثل الأولين: أي ومضى في الآيات القرآنية صفة هلاك الأولين.
معنى الآيات:
حم الله أعلم بمراده به، {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ}( 1) أي والقرآن الموضح لكل ما ينجي من عذاب الله ويكسب جنته ورضاه وهذا قسم أقسم الله به، والمقسم عليه قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} أي جعلنا الكتاب المبين الذي هو القرآن عربياً أي بلسان العرب ولغتهم.
وقوله {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} بيان للحكمة في جعل القرآن عربياً أي كي تعقلوا معانيه وتفهموا مراد الله منزله منه فيما يدعوكم إليه فيسهل عليكم العمل به فتكملوا وتسعدوا وقوله {وَإِنَّهُ} أي القرآن {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} أي اللوح المحفوظ لدينا عندنا {لَعَلِيٌّ} أي ذو علو وشأن على سائر الكتب قبله حكيم ذو حكمة بالغة عالية لا يرام مثلها.
وقوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ(2) عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ(3) قَوْماً مُسْرِفِينَ} أي أنمهلكم فنضرب عنكم الذكر صفحاً فلا ننزل القرآن حتى لا تؤمروا ولا تنهوا من أجل أنكم قوم مسرفون في الشرك والكفر والتكذيب كلا لا نفعل إذ الاستفهام للإنكار عليهم وقوله {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ(4) نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ} أي وكثيرا من الأنبياء أرسلنا في الأمم السابقة {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي ما أتى أمة من تلك الأمم رسول منا إلا سخروا منه واستهزأوا به، وبما جاءهم به من الإيمان والتوحيد ودعاهم إليه من فعل الصالحات وترك المحرمات إذاً فاصبر على قومك فإنهم سالكون سبيل من سبقهم في الكفر والتكذيب والسخرية والاستهزاء. وقوله تعالى: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً} أي أهلكنا من هم أشد بطشا في تلك الأمم الماضية لما كذبوا رسلنا واستهزأوا بهم فكيف بهؤلاء الذين هم أضعف منهم وأقل قوة وقدرة فأحرى بهم أن لا يمتنعوا من عذابنا متى أردنا إنزاله بهم. وقوله {وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} أي مضى في الآيات القرآنية صفة هلاك الأولين كقوم عاد وثمود وأصحاب مدين والمؤتفكات ألم يكن لقومك في ذلك عبرة لو كانوا يعتبرون؟
__________
1- الكتاب هو القرآن أقسم به تعالى للإعلان عن مكانته وعلو شأنه وجعله قرآناً يقرأ بلسان العرب مكتوباً في سطورهم، ومحفوظاً في صدورهم للعلة الحكيمة التي تضمنها قوله {لعلكم تعقلون}.
2- الفاء للتفريع والاستفهام إنكاري أي أتحسبون أن إعراضكم عما نزل من هذا الكتاب يبعثنا على أن نقطع عنكم تجدد التذكير بإنزال شيء آخر من القرآن؟ كما لا يجوز أن نضرب عنكم صفحاً فلا ننزل القرآن من أجل إسرافكم في الشرك والتكذيب، الصفح: الإعراض بصفح الوجه أي جانبه وهو أشد الإعراض.
3- قرأ نافع {إن كنتم} بكسر الهمزة وقرأ حفص {أن كنتم} بأن المصدرية. وإقحام "قوماً" إشارة إلى أن الإسراف صار طبعاً لهم لا يفارقهم.
4- كم أرسلنا إلى قوله في الأولين تضمن الكلام الإلهي أمرين الأول تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين والثاني تهديد المشركين المسرفين بأنهم يتعرضون للهلاك الذي تعرضت له أمم قبلهم أشد منهم بطشاً وأكثر منهم قوة فأهلكوا وبقوا أثراً بعد عين.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية الإقسام بالله تعالى.
2- بيان شرف القرآن الكريم وعلو مكانته على سائر الكتب السابقة.
3- كون الناس مسرفين في الشرك والفساد لا يمنع وعظهم ونصحهم وإرشادهم.
4- بيان سنة بشرية وهي أنهم ما يأتيهم من رسول إلا استهزأوا به.
5- في إهلاك الأقوى دليل على أن إهلاك من هو دونه أحرى وأولى لا سيما مع شدة الكفر.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ(9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ(11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ(12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ(13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ(14)
شرح الكلمات:
ولئن سألتهم : أي ولئن سألت هؤلاء المشركين من قومك يا رسولنا.
من خلق السموات والأرض: أي من بدأ خلقهن وأوجدهن ليقولن خلقهن الله ذو العزة والعلم.
الذي جعل لكم الأرض مهدا(1) : أي الله الذي جعل لكم الأرض فراشاً كالمهد للصبي.
__________
1- قرأ نافع مهاداً وقرأ عاصم مهداً. والمهاد اسم للشيء يمهد أي يوطأ ويسهل لما يحل فيه. والمهد مراد به هنا المهاد.

وجعل لكم فيها سبلا : أي طرقا.
لعلكم تهتدون : أي إلى مقاصدكم في أسفاركم.
ما ء بقدر : أي على قدر الحاجة ولم يجعله طوفاناً مغرقاً ومهلكاً.
فأنشرنا به بلدة ميتاً: أي فأحيينا به بلدة ميتاً أي لا نبات فيها ولا زرع.
كذلك تخرجون : أي مثل هذا الإحياء للأرض الميتة بالماء تحيون أنتم وتخرجون من قبوركم.
والذي خلق الأزواج كلها : أي خلق كل شيء إذ الأشياء كلها زوج ولم يعرف فرد إلا الله.
وجعل لكم من الفلك والأنعام : أي السفن، والإبل.
لتستووا على ظهوره : أي تستقروا على ظهور ما تركبون.
وما كنا له مقرنين : أي مطيقين ولا ضابطين.
وإنا إلى ربنا لمنقلبون: أي لصائرون إليه راجعون.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة المشركين إلى التوحيد بقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} أي ولئن سألت يا رسولنا هؤلاء المشركين من قومك قائلاً من خلق السموات والأرض أي من أنشأهن وأوجدهن بعد عدم لبادروك بالجواب قائلين الله ثم هم مع اعترافهم بربوبيته تعالى لكل شيء يشركون في عبادته أصناماً وأوثاناً. في آيات أخرى صرحوا باسم الجلالة الله وفي هذه الآية قالوا: العزيز العليم(1) أي الله ذو العزة التي لا ترام والعلم الذي لا يحاط به. وقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً} أي فراشاً(2) وبساطاً كمهد الطفل وهذا من كلام الله تعالى لا من كلام المشركين إذ انتهى كلامهم عند العزيز العليم فلما وصفوه تعالى بصفتي العزة والعلم ناسب ذلك ذكر صفات جليلة أخرى تعريفاً لهم بالله سبحانه وتعالى فقال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً} أي بساطا وفراشا، وجعل لكم فيها سبلاً أي طرقاً لعلكم تهتدون إلى مقاصدكم لنيل حاجاتكم في البلاد هنا وهناك، والذي نزل من السماء ماء بقدر هو المطر بقدر أي بكميات موزونة على قدر الحاجة منها فلم تكن ضحلة قليلة لا تنفع ولا طوفانا مغرقا مهلكا، وقوله
__________
1- من الجائز أن يكون العزيز العليم من قول المشركين إذ هم لا ينكرون عزة الله وعلمه وقدرته كما درجنا عليه في التفسير إذ هو الظاهر من اللفظ والسياق وجائز أن يكون من قول الله تعالى وهما صفتان لاسم الجلالة (الله) الذي أجابوا به في غير آية من القرآن ثم ذكر من صفاته الموجبة لعبادته وحده دون من سواه فذكر ست صفات من صفات الجلال والكمال وهي متضمنة إنعامه وإفضاله على عباده بخلقهم ورزقهم
2- كون الأرض مهداً لا ينافي كون جسمها كروياً.

{فَأَنْشَرْنَا(1)} أي أحيينا بذلك المطر بلدة ميتا أي أرضا يابسة لا نبات فيها ولا زرع. وقوله {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ(2)} أي مثل ذلك الإحياء للأرض الميتة يحييكم تعالى ويخرجكم من قبوركم أحياء. وقوله {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} هذا وصف آخر له تعالى بأنه خلق الأزواج كلها من الذكر والأنثى، والخير والشر والصحة والمرض، والعدل والجور، إذ لا فرد إلا هو سبحانه وتعالى وفي الحديث الصحيح الله وتر يحب الوتر، قل هو الله أحد وقوله {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} هذا وصف آخر بصفاته الفعلية الدالة على وجوده وقدرته وعلمه والموجبة لألوهيته إذ جعل للناس من الفلك أي السفن ما يركبون ومن الأنعام كالإبل ومن البهائم كالخيل والبغال والحمير كذلك وقوله {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} أي تستقروا على ظهوره أي ظهور ما تركبون، ثم تذكروا نعمة ربكم بقلوبكم إذا استويتم عليه وتقولوا بألسنتكم سبحان الذي سخر لنا هذا أي الله لنا وأقدرنا على التحكم فيه، وما كنا له أي لذلك الحيوان المركوب بمقرنين أي بمطيقين ولا ضابطين لعجزنا وقوته، {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} أي لصائرون إليه بعد موتنا راجعون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد بذكر صفات الربوبية المقتضية للألوهية.
2- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
3- معجزة القرآن في الإخبار بالزوجية وقد قرر العلم الحديث نظام الزوجية وحتى في الذرة فهي زوج موجب وسالب.
4- مشروعية التسمية والذكر عند ركوب ما يركب فإن كان سفينة أو سيارة قال العبد باسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم، وإن كان حيواناً قال عند الشروع باسم الله وإذا استوى قاعدا: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون.(3)
__________
1- أصل النشر البسط لما كان مطويا وأريد به هنا إحياء الأرض بالنبات بعد محلها ويبسها وحسن إطلاق لفظ النشر لانتشار الحياة فيها بالنباتات.
2- {وكذلك تخرجون} إن إحياءكم بعد موتكم وخروجكم من الأرض منتثرين فيها كإحياء الأرض بالمطر وانتشار النباتات والزروع فيها فبأي حق تنكرون البعث وتكذبون به؟.
3- روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي أن علياً رضي الله عنه أتى بدابة فلما وضع رجله في الركاب قال بسم الله فلما استوى عليها قال الحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ثم حمد الله ثلاثاً وكبر الله ثلاثاً ثم قال سبحانك لا إله إلا الله ظلمت نفسي فاغفر لي ثم ضحك فقيل له مما ضحكت؟ فقال رأيت رسول الله فعل مثل ما فعلت ثم ضحك فقلت مما ضحكت يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم يعجب الرب تبارك وتعالى من عبده إذا قال ربي اغفر لي ويقول علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري.

وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْأِنْسَانَ مُبِينٌ(15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ(16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ(17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ(18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ(19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ(20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ(21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ(22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ(23)
شرح الكلمات:
وجعلوا له من عباده جزاء : أي جعل أولئك المشركون المقرون بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض من عباده جزءاً إذ قالوا الملائكة بنات الله.
إن الإنسان لكفور مبين : أي إن الإنسان المعترف بأن الله خلق السموات وجعل من عباده جزءاً هذا الإنسان لكفور مبين أي لكثير الكفر بينه.
وأصفاكم بالبنين: أي خصكم بالبنين وأخلصهم لكم.
بما ضرب للرحمن مثلاً (1): أي بما جعل للرحمن شبهاً وهو الولد.
__________
1- المراد من المثل: الأنثى بدليل قوله تعالى في سورة النحل {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم}. وتفسيره بالولد أعمّ وأولى لأن النصارى كاليهود قبلهم قالوا: عزير ابن الله، وعيسى ابن الله؛ وكذبوا، وقال بعض العرب: الملائكة بنات الله؛ تعالى الله عن الولد- ذكرا أو أنثى- علواً كبيراً.

ظل وجهه مسوداً وهو كظيم: أي أقام طوال نهاره مسود الوجه من الحزن وهو ممتلئ غيظا.
أو من ينشأ في الحلية : أي أيجترئون على الله ويجعلون له جزءاً هو البنت التي تربى في الزينة.
وهو في الخصام غير مبين : أي غير مظهر للحجة لضعفه بالأنوثة.
عباد الرحمن إناثاً : أي لأنهم قالوا بنات الله.
أشهدوا خلقهم: أي حضروا خلقهم عندما كان الرحمن يخلقهم.
ستكتب شهادتهم: أي سيكتب قولهم إن الملائكة إناثاً.
ويسألون : أي يوم القيامة عن شهادتهم الباطلة ويعاقبون عليها.
ما لهم بذلك من علم : أي دعواهم أن الله راض عنهم بعبادة الملائكة لا دليل لهم عليه ولا علم.
إن هم إلا يخرصون : أي ما هم إلا يكذبون يتوارثون الجهل عن بعضهم بعضا.
أم آتيناهم كتاباً من قبله : أي أم أنزلنا عليهم كتاب قبل القرآن.
فهم به مستمسكون: أي متمسكون بما جاء فيه، والجواب لم يقع ذلك أبداً.
بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة : أي إنهم لا حجة لهم إلا التقليد الأعمى لآبائهم.
وإنا على آثارهم مهتدون : أي على طريقتهم وملتهم ماشون وهي عبادة غير الله من الملائكة وغيرهم من الأصنام والأوثان.
إلا قال مترفوها : أي متنعموها.
إنا وجدنا آباءنا على أمة : أي ملّة ودين.
وإنا على آثارهم مقتدون : أي على طريقتهم متبعون لهم فيها.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة المشركين إلى التوحيد، والمكذبين إلى التصديق فقال تعالى منكراً عليهم باطلهم موبخاً لهم على اعتقاده والقول به، فقال: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} أي وجعل أولئك المشركون الجاهلون لله جزءاً أي نصيباً من خلقه حيث قالوا الملائكة بنات الله، وهذا من أكذب الكذب وأكفر الكفر إذ كيف عرفوا أن الملائكة إناث، وأنهم بنات الله، وأنهم يستحقون العبادة مع الله فعبدوهم؟ حقاً إن الإنسان لكفور(1) مبين أي كثير الكفر وكبيره وبينه لا يحتاج فيه إلى دليل وقوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذَ(2) مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ(3) بِالْبَنِينَ} أي أتقولون أيها المشركون المفترون اتخذ الله مما يخلق من
__________
1- قال الحسن يعد المصائب وينسى النعم ومبين معناه مظهر للكفر.
2- أم اتخذ الميم صلة أي زائدة لتقوية الكلام والاستفهام للتوبيخ والتأنيب.
3- {أصفاكم} قال القرطبي: اختصكم وأخلصكم بالبنين يقال أصفيته بكذا أي آثرته به وأصفيته الود أخلصته له.

المخلوقات بنات، وخصكم بالبنين، بمعنى أنه فضلكم على نفسه بالذكور الذين تحبون ورضي لنفسه الإناث اللاتي تبغضون. عجباً منكم هذا الفهم السقيم. وقوله تعالى وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا أي بما جعل لله شبها وهو الولد ظلّ وجهه مسوداً وهو كظيم، أي إن هؤلاء الذين يجعلون لله البنات كذبا وافتراء، إذا ولد لأحدهم بنت فشر بها أي أخبر بأن امرأته جاءت ببنت ظل وجهه طوال النهار مسوداً من الكآبة والغم وهو كظيم أي ممتلئ غماً وحزناً.
وقوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ(1) غَيْرُ مُبِينٍ} ينكر تعالى عليهم ويوبخهم على كذبهم وسوء فهمهم فيقول: أيجترئون ويبلغون الغاية في سوء الأدب ويجعلون لله من يربى في الزينة لنقصانه وهو البنات، وهو في الخصام غير مبين لخفة عقله حتى قيل ما أدلت امرأة بحجة إلا كانت عليها لا لها. فقوله {غَيْرُ مُبِينٍ} أي غير مظهر للحجة لضعفه بالخِلقة وهي الأنثى والضمير عائد على من في قوله {أَوَمَنْ يُنَشَّأ(2)ُ فِي الْحِلْيَةِ} أي في الزينة.
وقوله تعالى {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ(3) الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} أي حيث قالوا الملائكة بنات الله وعبدوهم لذلك طلباً لشفاعتهم والانتفاع بعبادتهم. قال تعالى موبخاً لهم مقيما الحجة على كذبهم: أشهدوا خلقهم أي أحضروا خلقهم عندما كان الله يخلقهم، والجواب لا، ومن أين لهم ذلك وهم ما زالوا لم يخلقوا بعد ولا آباؤهم بل ولا آدم أصلهم عليه السلام وقوله تعالى {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} هذه وهي قولهم إن الملائكة بنات الله ويسألون عنها ويحاسبون ويعاقبون عليها بأشد أنواع العقاب، لأنها الكذب والافتراء، وعلى؟ إنه على الله، والعياذ بالله وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ(4) مَا عَبَدْنَاهُمْ}. أي قال أولئك المشركون المفترون لمن أنكر عليه عبادة الملائكة وغيرها من الأصنام قالوا: لو شاء الرحمن منا عدم عبادتهم ما عبدناهم. قال تعالى في الرد عليهم {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} أي ليس لهم أي علم برضا الله تعالى بعبادتهم لهم، ما هم في قولهم ذلك إلا يخرصون أي يقولون بالخرص والكذب إذ العلم يأتي من طريق الكتاب أو النبي ولا كتاب عندهم ولا نبي فيهم قال بقولتهم. ولذا قال تعالى منكراً
__________
1- أي في المجادلة والإدلاء بالحجة قال قتادة ما تكلمت امرأة ولها حجة إلا وجعتلها على نفسها.
2- في الآية دليل على جواز لبس الذهب والحرير للنساء وهو إجماع إلا أن بعض السلف كان ينزه بناته عنه لقول أبي هريرة إياك يا بنية والتحلي بالذهب فإني أخاف عليك اللهب، وقرأ نافع {ينشأ} وقرأ حفص {ينشّأ} فالأول بتخفيف الشين والثاني بتشديدها الأول من: أنشأ والثاني من نشأ.
3- قرأ نافع عند الرحمن وقرأ حفص عباد الرحمن ولا منافاة والملائكة عند الرحمن في الملكوت الأعلى في حضرة القدس يتلقون خطاب الله مباشرة بلا واسطة وهم في واقع الأمر عباد الرحمن وجملة (الذين هم عند الرحمن إناثا) صفة للملائكة فهي في محل نصب.
4- قولهم منظور فيه إلى أن مشيئة الله وهي إرادته قسمان إرادة كونية وإرادة تكليفية شرعية فالإرادة الكونية القدرية هذه لا تتخلف أبداً فما شاء الله كان والإرادة الشرعية التكليفية هي التي قد تتخلف لأن الله تعالى وهب عبده إرادة واختياراً وبحسب ما يختاره يكون جزاؤه والمشركون لا علم لهم بهذا فلذا نفى عنهم العلم راداً باطلهم بجهلهم.

عليهم قولتهم الفاجرة {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} ؟ لا لا، ما آتاهم الله من كتاب ولا جاءهم قبل محمد من نذير إذاً فلا حجة لهم إلا التقليد الأعمى للآباء والأجداد الجهال الضلال وهو ما حكاه تعالى عنهم في قوله: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} أي ملة(1) {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} أي ماشون مقتفون آثارهم وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ} أي رسول إلا قال مترفوها أي متنعموها بنضارة العيش وغضارته {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} أي ملة ودين {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} أي متبعون لهم فيها. فهذه سنة الأمم قبل أمتك يا رسولنا فلا تحزن عليهم ولا تك في ضيق بما يقولون ويعتقدون ويفعلون أيضاً. وهو معنى قوله تعالى {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} إلى آخر الآية.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- تقرير صفة من صفات الإنسان قبل شفائه بالإيمان والعبادة وهي الكفر والواضح المبين.
2- وجوب إنكار المنكر ومحاولة تغييره في حدود ما يسمح به الشرع وتتسع له طاقة الإنسان.
3- بيان حال المشركين العرب في الجاهلية من كراهيتهم البنات خوف العار وذلك لشدة غيرتهم.
4- بيان ضعف المرأة ونقصانها ولذا تكمل بالزينة، وإن النقص فيها فطري في البدن والعقل معا.
5- بيان أن من قال قولاً وشهد شهادة باطلة سوف يسأل عنها يوم القيامة ويعاقب عليها.
6- حرمة القول على الله بدون علم فلا يحل أن ينسب إلى الله تعالى شيء لم ينسبه هو تعالى لنفسه.
7- حرمة التقليد للآباء وأهل البلاد والمشايخ فلا يقبل قول إلا بدليل من الشرع.
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ(24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(28) بَلْ
__________
1- لفظ الأمة هنا يراد به الدين والملة والطريقة أيضاً ومن شواهد ذلك:
كنا على أمة آبائنا
ويقتدي الآخر بالأول.
وهل يستوي ذو أمة وكفور؟.

مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ(29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ(30) وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ(31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ(32)
شرح الكلمات:
قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم : قال لهم رسولهم: أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بأهدى أي خير مما وجدتم عليه آباءكم هداية إلى الحق والسعادة والكمال.
قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون: أي قال المشركون لرسلهم ردّا عليهم إنا بما أرسلتم به كافرون أي جاحدون منكرون غير معترفين به.
فانظر كيف كان عاقبة المكذبين : أي كانت دماراً وهلاكاً إذا فلا تكترث بتكذيب قومك يا رسولنا.
وإذ قال إبراهيم : أي واذكر إذ قال إبراهيم أبو الأنبياء خليل الرحمن.
إنني براء مما تعبدون : أي بريء مما تعبدون من أصنام لا أعبدها
إلا الذي فطرني فإنه سيهدين : أي لكن الذي خلقني فإني أعبده وأعترف به فإنه سيهديني أي يرشدني إلى ما يكملني ويسعدني في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وجعلها كلمة باقية في عقبه( 1): أي وجعل إبراهيم كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" باقية دائمة في ذريته إذ وصاهم بها كما قال تعالى ووصى بها إبراهيم بنيه.
لعلهم يرجعون : أي رجاء أن يتوبوا إلى الله ويرجعوا إلى توحيده كلما ذكروها وهي لا إله إلا الله.
__________
1- لفظ العقب الوارد في الآية وفي الحديث الصحيح من أعمر عُمرى فهي له ولعقبه فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث قال ابن العربي ترد هذه اللفظة على أحد عشر لفظاً وهي الولد والبنون والذرية والعقب والنسل والآل والقرابة والعشيرة والقوم والموالي.

بل متعت هؤلاء وآباءهم: أي هؤلاء المشركين وآباءهم بالحياة فلم أعاجلهم بالعقوبة.
حتى جاءهم الحق ورسول مبين : أي إلى أن جاء القرآن يحمل الدين الحق، ورسول مبين لا شك في رسالته وهو محمد صلى الله عليه وسلم يبين لهم طريق الهدى والأحكام الشرعية.
وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم: أي وقال هؤلاء المشركون الذين متعناهم بالحياة فلم نعاجلهم، هلاّ نزل هذا القرآن على أحد رجلين من قريتي مكة أو الطائف أي الوليد بن المغيرة بمكة أو عروة بن مسعود الثقفي من الطائف.
أهم يقسمون رحمة ربك : أي ينكر تعالى عليهم هذا التحكم والاقتراح الفاسد فقال أهم يقسمون رحمة ربك إذ النبوة رحمة من أعظم الرحمات. وليس لهم حق في تنبئة أحد إذ هذا من حق الله وحده.
نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا : أي إذا كنا نحن نقسم بينهم معيشتهم فنغني هذا ونفقر هذا ونملك هذا ونعزل هذا، فكيف بالنبوة وهي أجل وأغلى من الطعام والشراب فنحن أحق بها منهم فننبئ من نشاء.
ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً: أي جعلنا هذا غنيا وذاك فقيراً ليتخذ الغني الفقير خادماً يسخره في خدمته بأجرة مقابل عمله.
ورحمة ربك خير مما يجمعون: أي والجنة التي أعدها الله لك ولأتباعك خير من المال الذي يجمع هؤلاء المشركون الكافرون.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى قول المشركين لرسلهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} "ملة" {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} ، قال مخبراً عن قول الرسول لأمته المكذبة المقلدة للآباء الظالمين {قَالَ أَوَلَوْ(1) جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} أي أتتبعون آباءكم ولا تتبعوني ولو جئتكم بأهدى إلى الخير والسعادة مما وجدتم عليه آباءكم، وهذا إنكار من الرسول عليهم في صورة استفهام وهو(2) توبيخ أيضاً إذ العاقل يتبع الهدى جاء به من جاء قريباً كان أو بعيداً. وقوله تعالى {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ(3) بِهِ كَافِرُونَ} هذا قول الأمم المكذبة المشركة لرسلهم أي كل أمة قالت هذا لرسولها: إننا بما أرسلتم به من التوحيد وعقيدة البعث والجزاء والشرع وأحكامه كافرون أي منكرون
__________
1- قرأ نافع والجمهور قل بصيغة الأمر وقرأ حفص قال بصيغة الماضي فيعود الضمير إلى نذير الذين قالوا {إنا وجدنا آباءنا}.. الخ . وأما على قراءة نافع فهو أمر للرسول صلى الله عليه وسلم ليقول للمشركين ما أمره أن يقوله لهم.
2- هذا الاستفهام تقريري إلا أنه مشوب بالإنكار والتوبيخ.
3- في قولهم هذا معنى التهكم برسلهم إذ أثبتوا لهم الرسالة وهم مكذبون بها كقول قريش مال هذا الرسول يأكل الطعام.

مكذبون غير مصدقين، قال تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ(1)} أي لتكذيبهم فأهلكناهم فانظر يا رسولنا كيف كان عاقبتهم وهم المكذبون إنها دمار شامل وهلاك تام. وليذكر هذا قومك لعلهم يذكرون.
وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ(2) وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} أي واذكر يا رسولنا لقومك قول إبراهيم الذي ينتسبون إليه باطلا لأبيه وقومه: إنني براء مما تعبدون أي إني بريء من آلهتكم التي تعبدونها فلا أعبدها ولا أعترف بعبادتها. وقوله {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} أي لكن أعبد الله الذي خلقني فهو أحق بعبادتي مما لم يخلقني ولم يخلق شيئاً وهو مخلوق أيضا. وقوله {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} أي يرشدني دائما إلى ما فيه سعادتي وكمالي. وقوله تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي وجعل براءته من الشرك والمشركين، وعبادته خاصة بالله رب العالمين جعلها كلمة باقية في ذريته حيث وصاهم بها كما جاء ذلك في سورة البقرة إذ قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} أي بأن لا يعبدوا إلا الله وهي إذاً كلمة لا إله إلا الله ورثها إبراهيم في بنيه لعلهم يرجعون إليها كلما غفلوا ونسوا وتركوا عبادة الله تعالى والإنابة إليه بعوامل الشر والفساد من شياطين الإنس والجن فيذكرون ويتوبون إلى الله تعالى فيوحدونه ويعبدونه فجزى الله إبراهيم عن المؤمنين خيرا. وقوله تعالى: {بَلْ مَتَّعْتُ(3) هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} أي بل لم يتحقق ما ترجاه إبراهيم كاملاً إذا أشرك من بنيه من أشرك ومنهم هؤلاء المشركون المعاصرون لك أيها الرسول وآباءهم، ومتعهم بالحياة حتى جاءهم الحق الذي هو هذا القرآن يتلوه هذا الرسول المبين أي الموضح لكل الأحكام والمبين لكل الشرائع. {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} هكذا قالت قريش لما جاءها الحق الذي هو القرآن الحامل للشرائع والأحكام والرسول المبين لذلك الموضح له قالوا هذا سحر يسحرنا به، وإنا به أي بالقرآن والرسول كافرون أي جاحدون منكرون مكذبون وقالوا أبعد من ذلك في الشطط والغلط وهو ما حكاه تعالى عنهم في قوله: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} أي هلاّ نزل هذا القرآن على رجل شريف ذي مكانة مثل الوليد بن المغيرة(4) في مكة أو عروة بن مسعود في الطائف
__________
1- الفاء للتفريع وفي الآية تهديد ووعيد لكفار قريش بأن يحل بهم ما حل بالمكذبين قبلهم.
2- لما ادعى المشركون أنهم مقلدون آباءهم في الدين ذكر لهم ما ينبغي أن يقلدوه من آبائهم هو إبراهيم وإسماعيل وإلا فليس الأمر كما يدعون وإنما هم متبعون أهواءهم.
3- بل للإضراب الإبطالي أي لم يحصل ما رجاه إبراهيم كاملاً بل هناك من لم يرجع إلى التوحيد من ذرية إبراهيم إذ جاء عمرو بن لحيّ بالأصنام وعبدها آباء هؤلاء وهم لها عابدون حتى مجيء الحق ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
4- هذا المشهور من الأقوال في الرجلين ومنهم من قال هما عمير بن عبد ياليل الثقفي من الطائف وعتبة بن ربيعة من مكة وهو قول مجاهد، وقيل عظيم الطائف هو حبيب بن عمرو أما القريتان فلا خلاف في أنهما مكة والطائف لكونهما أكبر مدن تهامة.

وهذه نظرة مادية بحتة إذ رأوا أن الشرف بالمال، ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم لا مال له ولا ثراء رأوا أنه ليس أهلا للرسالة ولا للمتابعة عليها، فرد تعالى عيهم نظريتهم المادية الهابطة هذه بقوله: {أَهُمْ(1) يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} ؟ أما يخجلون عندما قالوا أهم يقسمون رحمة ربك فيعطون منها من شاءوا ويمنعون من شاءوا أم نحن القاسمون؟ إنا قسمنا بينهم معيشتهم: طعامهم وشرابهم وكساهم وسكنهم ومركوبهم في الحياة الدنيا فالعاجز حتى عن إطعام نفسه وسقيها وكسوتها كيف لا يستحي أن يعترض على الله في اختياره من هو أهل لنبوته ورسالته؟ وقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} أي في الرزق فهذا غني وذاك فقير من أجل أن يخدم الفقير الغني وهو معنى قوله تعالى: {لِيَتَّخِذَ(2) بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً}، إذ لو كانوا كلهم أغنياء لما خدم أحد أحداً وتعطلت الحياة وقوله تعالى: {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ} أي الجنة دار السلام خير مما يجمعون من المال الذي فضلوا أهله وإن كانوا من أحط الناس قدرا أدناهم شرفاً. ورأوا أنهم أولى بالنبوة منك لمرض نفوسهم بحب المال والشهوات.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- من الكمال العقلي أن يبتع المرء الهدى ولو خالفه قومه وأهل بلاده.
2- وجوب البراءة من الشرك والمشركين وهذا معنى لا إله إلا الله.
3- فضيلة من يورث أولاده هدى وصلاحاً.
4- لا يعترض على الله أحد في شرعه وتدبيره إلا كفر والعياذ بالله تعالى.
5- بيان الحكمة في الغنى والفقر، والصحة والمرض والذكاء والغباء.
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ(33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ(34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ
__________
1- الاستفهام إنكاري متضمن التوبيخ لهؤلاء الزاعمين اختيار من شاءوا للاصطفاء والرسالة فعلموا أنه لا حق لهم في هذا الاختيار إذ هم لا خيار لهم حتى في طعامهم وشرابهم فضلا عن اختيار من يرسل ومن لا يرسل.
2- الجملة تعليلية للتفاضل في الرزق أي فاضل بينهم في الغنى والفقر ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً أي يستخدم الغني الفقير في قضاء حاجتة وليأخذ الفقير منه ما يسد به حاجته والسخري هنا بمعنى التسخير للعمل وليس بمعنى السخرية والاستهزاء إذ أجمع السبعة على قراءة ضم السين وعدم كسرها.

كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ(35)
شرح الكلمات:
أمة واحدة : أي على الكفر.
ومعارج : أي كالسلم والمصعد الحديث والمعارج جمع معرج وهو المصعد.
عليها يظهرون: أي يعلون عليها إلى السطح.
زخرفاً : أي ذهباً أي لجعلنا لبيوتهم سقفاً من فضة وذهب وكذلك الأبواب والمصاعد والسرر بعضها من فضة وبعضها من ذهب.
وإن كل ذلك : أي وما كل ذلك المذكور.
لما متاع الحياة الدنيا : أي وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا يتمتع به فيها ثم يزول.
والآخرة : أي الجنة ونعيمها خير لأهل الإيمان والتقوى من متاع الدنيا.
معنى الآيات:
لما فضل تعالى الجنة على المال والمتاع الدنيوي في الآيات السابقة قال هنا: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي على الكفر لجعلنا لمن يكفر بالرحمن (يعني نفسه عز وجل) لبيوتهم سقفاً من فضة، ومعارج(1) عليها يظهرون(2) أي مراقي ومصاعد عليها يعلون إلى الغرف والسطوح من فضة ولجعلنا كذلك لبيوتهم أبواباً وسررا عليها يتكئون من فضة أيضاً، وزخرفاً أي وذهباً أي بعض المذكور من فضة وبعضه من ذهب ليكون أجمل وأبهى من الفضة وحدها، وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا أي وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا يتمتع به الناس ثم يزول ويذهب بزوالهم وذهابهم. والآخرة عند ربك أي الجنة وما فيها من نعيم مقيم للمتقين الذين آمنوا واتقوا الشرك والمعاصي وما عند الله خير مما عند الناس، وما يبقى خير مما يفنى، ولذا قال الحكماء لو كانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف "طين" لاختار العاقل الآخرة على الدنيا، وهو اختيار ما يبقى على ما ينفى.
__________
1- المعارج السلم وجمع السلم سلاليم وواحد المعارج معرج ومعرج بكسر الميم وفتحها وهي المرقاة والجمع مراقي.
2- روي أن نابغة بن جعدة أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا:
علونا السماء عزة ومهابة
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا.
فغضب الرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إلى أين؟ قال إلى الجنة قال "أجل إن شاء الله" وهنا قال الحسن: والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها وما فعل ذلك فكيف لو فعل؟!

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الميل إلى الدنيا وطلب متاعها فطري في الإنسان فلذا لو أعطيها الكافر بكفره لمال إليها كل الناس وطلبوها بالكفر.
2- هوان الدنيا على الله وعدم الاكتراث بها إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء رواه الترمذي وصححه وفي صحيح مسلم: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.(1)
3- بيان أن الآخرة خير للمتقين.
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ(36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ(37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ(38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ(39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(40)
شرح الكلمات:
ومن يعش عن ذكر الرحمن: أي يعرض متعاميا متغافلا عن ذكر الرحمن الذي هو القرآن متجاهلا له.
نقيض له شيطاناً : أي نجعل له شيطاناً يلازمه لإضلاله وإغوائه.
فهو له قرين: أي فهو أي من عشا عن ذكر الرحمن قرين للشيطان.
وإنهم ليصدونهم عن السبيل : أي وإن الشياطين المقارنين لهم ليصدون عن طريق الهدى.
ويحسبون أنهم مهتدون : أي ويحسب العاشون عن القرآن وحججه وعن ذكر الرحمن
__________
1- أنشد بعهم في ذم الدنيا فقال:
فلو كانت الدنيا جزاء لمحسن
إذاً لم يكن فيها معاش لظالم
لقد جاع فيها الأنبياء كرامة
وقد شبعت فيها بطون البهائم

وطاعته أنهم مهتدون أي أنهم على الحق والصواب وذلك بتزيين القرين لهم.
بُعد المشرقين : أي كما بين المشرق والمغرب من البعد قال هذا تبرؤاً منه.
ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم: أي ولن ينفعكم اليوم أيها العاشون إذ ظلمتم أنفسكم بالشرك والمعاصي.
أنكم في العذاب مشتركون: اشترككم في العذاب غير نافع لكم.
أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي: : أي إنك يا رسولنا لا تسمع الصم، ولا تهدي العمي والقوم قد أصمهم الله وأعمى أبصارهم لأنهم عشوا عن ذكره.
ومن كان في ضلال مبين: أي كما أنك لا تقدر على هداية من كان في ضلال مبين عن الحق والهدى.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في عرض الهداية على الضالين بالكشف عن أحوالهم وإضاءة الطريق لهم قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ(1) عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} أي يعرض متعاميا متغافلا عن ذكر الرحمن الذي هو القرآن وعبادة الرحمن متجاهلا ذلك نقيض(2) له شيطاناً أي نسبب له نتيجة إعراضه شيطاناً ونجعله له قريناً لا يفارقه في الدنيا ولا في الآخرة. فهو له قرين دائما. وقوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} أي وإن القرناء الذين جعلهم تعالى حسب سنته في الأسباب والمسببات للعاشين عن ذكره يصدونهم بالتزيين والتحسين لكل المعاصي حتى انغمسوا في كل اثم وولغوا في كل باطل وشر، وضلوا عن سبيل الهدى والرشد ومع هذا يحسبون أنهم مهتدون وغيرهم هم الظالمون.
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا}( 3) أي يوم القيامة قال العاشي عن ذكر الرحمن يا ليت متمنياً بيني وبينك بعد المشرقين أي يتمنى لو أن بينه وبين قرينه من الشياطين من البعد كما بين المشرق والمغرب. قال تعالى لأولئك العاشين ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنفسكم بالشرك والمعاصي في الدنيا أنكم في العذاب مشتركون أي إن اشتراككم في العذاب غير نافع لكم ولا مجدٍ أبدا. وقوله تعالى لرسوله: {أَفَأَنْتَ(4) تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ
__________
1- هذا مضارع عشا يعشو عشواً كغزا (يغزو) غزواً إذا نظر إلى الشيء نظراً غير ثابت يشبه نظر الأعشى والعشا بفتح العين والشين اسم ضعف العين عن رؤية الأشياء. وعشى كرضى إذا كان في بصره آفة العشا.
2- قيض يقيض تقييضاً فالتقييض: الإتاحة وتهيئة شيء لملازمة شيء لعمل حتى يتمه وهو مشتق من اسم جامد وهو قيض البيضة أي القشر المحيط بالمح، وهو لا يفارقه حتى يخرج منها الفرخ فيتم ما أتيح له القيض.
3- قرأ نافع جاءانا أي من يعش عن ذكر الرحمن والشيطان المقيض له وقرأ حفص بالإفراد جاءنا أي العاشي عن ذكر الرحمن.
4- الاستفهام إنكاري وفي الآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسجيل أن الكافر أصم وأعمى ويقابله المؤمن يسمع ويبصر.

مُبِينٍ} ينكر تعالى على رسوله ظنه أنه يقدر على هدايتهم وحده بدون إرادة الله تعالى ذلك لهم إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في دعائهم، وهم لا يزدادون إلا تعاميا وتجاهلا وكفرا فقال تعالى يخاطب رسوله {أَفَأَنْتَ} والاستفهام للإنكار تسمع الصم الذين ذهب الله بأسماعهم، أو تهدي العمي الذين ذهب الله بأبصارهم، ومن كان في ضلال مبين عن الحق وسبيل الرشد والهدى إنك لا تقدر على ذلك فهون على نفسك وترفق في دعوتك فإنك لا تكلف غير البلاغ وقد بلغت.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله تعالى فيمن يعرض عن ذكر الله فإنه يسبب له شيطاناً يضله ويحرمه الهداية أبدا فيقيم على الذنوب والآثام ضالاً الطريق المنجي المسعد وهو يحسب أنه مهتدٍ، وهذا يتعرض له المعرضون عن الكتاب والسنة كالمبتدعة وأصحاب الأهواء والشهوات والعياذ بالله تعالى.
2- الاشتراك في العذاب يوم القيامة لا يخففه.
3- بيان أن من أعماه الله وأصمه حسب سنته في ذلك لا هادي له ولا مسمع له ولا مبصر.
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ(41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ(42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ(44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ(45)
شرح الكلمات:
فإما نذهبن بك : أي فإن نذهبن بك أي نميتك(1) قبل تعذيبهم، وما زائدة أدغمت فيها إن الشرطية فصارت إمّا.
فإنا منهم منتقمون : أي معذبوهم في الدنيا وفي الآخرة.
وإما نرينك الذي وعدناهم: أي وإن نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب.
__________
1- أو بالخروج من مكة مكرهاً عليه من قبل أعدائك، وهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ما كانت إلا بإرادته الحرة ولم يكن فيها مكرهاً ولا مُلجأ ولذا لم ينتقم الله من أهل مكة كما هو في التفسير.

فإنا عليهم مقتدرون : أي لا يعوقنا عائق لأنا عليهم قادرون.
فاستمسك بالذي أوحي إليك : أي دم على استمساكك بالقرآن سواء عجلنا لك بالموعود به أو أخرناه.
إنك على صراط مستقيم : أي إنك على طريق الحق والهدى فواصل سيرك.
وإنه لذكر لك ولقومك : أي وإن القرآن لشرف لك وشرف لقومك.
وسوف تسألون : أي عن القرآن أي عن العمل به بتطبيق شرائعه وإبلاغه لغيركم.
واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا: أي اسأل مؤمني أهل الكتابين التوراة والإنجيل.
أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون: أي هل جعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون والجواب لم نجعل أبداً فليفهم هذا مشركو مكة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة كفار قريش إلى الإيمان والتوحيد فقوله تعالى {فَإِمَّا(1) نَذْهَبَنَّ بِكَ} أي إن نذهب بك أي نخرجك من بين أظهرهم فإنا منهم منتقمون أي فنعذبهم كما عذبنا الأمم من قبلهم عندما يخرجون رسولهم أو نرينك الذي وعدناهم من نصرك عليهم وغلبتك لهم فإنا عليهم مقتدرون أي قادرون على أن نفعل بهم ذلك.
وقوله تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ(2) بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي فتمسك يا رسولنا بما يأمرك به هذا القرآن الذي أوحاه إليك ربك إنك على صراط مستقيم وهو الإسلام الذي لا يشقى من تمسك به فعاش عليه ومات عليه. وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} أي وأن القرآن الذي أوحي إليك وأمرت بالتمسك به هو ذكر لك أي شرف لك وأي شرف(3) ولقومك من قريش كذلك إذا آمنوا به وعملوا بما جاء فيه وسوف تسألون(4) عن العمل به وتطبيق أحكامه والالتزام بشرائعه.
__________
1- الفاء تفريعية فالجملة متفرعة عما تقدم من قوله أفأنت تسمع الصم الخ والذهاب هنا قابل للموت والإخراج كرهاً بقرينة الوعيد المترتب عليه.
2- فاستمسك الفاء تفريعية عما قبلها والآية تحض على التمسك بالإسلام تشريعاً وعملاً.
3- هذه الآية كآية الأنبياء وهي: {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم} ومنشأ هذا الشرف هو أن قريشا نزل القرآن بلغتها فكل الناس محتاجون إلى معرفة لغتهم ليعرفوا ما طلب منهم من عقائد وعبادات وآداب فبهذا شرفت قريش.
4- من فسر السؤال بالعمل هو حق وكذا من فسره بالشكر فهو حق لأن شكر العلم العمل به وتعليمه.

وقوله {وَاسْأَلْ(1) مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} ؟ أي واسأل يا رسولنا مؤمني أهل الكتابين التوراة والإنجيل إذ سؤالهما سؤال رسلهم الذين ماتوا من قبلك هل جعل الله تعالى من دونه آلهة يعبدون؟ وسوف يجيبونك بقولهم حاشا لله أن يأذن بعبادة غيره من خلقه وهو الله لا إله إلا هو، وهذا من أجل تنبيه أذهان قريش إلى خطأها الفاحش في إصرارهم على عبادة الأصنام إن القرآن نزل لهدايتهم وهداية غيرهم من بني آدم على الإطلاق إلا أنهم هم أولاً وغيرهم ثانيا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- من سنة الله في الأمم إذا أخرج الرسولَ قومُه مكرها انتقم الله تعالى له منهم فأهلكهم.
2- صدق وعد الله تعالى لرسوله فإنه ما توفاه حتى أقر عينه بنصره على أعدائه.
3- وجوب التمسك بالكتاب والسنة اعتقاداً وعملاً.
4- شرف هذه الأمة بالقرآن فإن أضاعَتْه أضاعها الله وأذلهّا وقد فَعَلَ.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآياتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ(47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ(49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ(50)
__________
1- جائز أن يكون الكلام على ظاهره وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع الله تعالى له العديد من الرسل والأنبياء في بيت المقدس ليلة الإسراء والمعراج وسألهم فأجابوا بالحق وهو أن الله تعالى لم يأذن أبداً في عبادة غيره وجائز أن يكون في الكلام حذف دل عليه واقع الحياة إذ لا يسأل الأموات وإنما يسأل الأحياء وتقدير المحذوف واسأل أتباع من أرسلنا من قبلك وهم مؤمنو أهل الكتابين من أتباع موسى وعيسى كما هو في التفسير.

شرح الكلمات:
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا: أي أرسلناه بالمعجزات الدالة على صدق رسالته.
إلى فرعون وملأه : أي وقومه من القبط.
إذا هم منها يضحكون: أي سخرية واستهزاء.
وما نريهم من آية : أي آيات العذاب كالطوفان.
إلا هي أكبر من أختها: أي من قرينتها التي قبلها من الآيات.
وقالوا يا أيها الساحر: أي أيها العالم بالسحر المتبحر فيه.
بما عهد عندك : أي من كشف العذاب عنا إن آمنا.
إنا لمهتدون : أي إن كشفت عنا العذاب إنا مؤمنون.
إذا هم ينكثون : أي ينقضون عهدهم فلم يؤمنوا.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} إيراد هذا القصص هنا كان لمشابهة حال قريش بحال فرعون من جهة إذ قال رجال قريش لم لا يكون الرسول من ذوي المال والجاه كالوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود وقال فرعون: أم أنا خير من هذا الذي هو مهين أي حقير يعني موسى عليه السلام.
ومن جهة أخرى كان لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله على الصبر كما صبر موسى وهو أحد أولي العزم الخمسة فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا} أي بحججنا الدالة على صدق موسى في رسالته إلى فرعون وقومه بأن يعبدوا الله ويتركوا عبادة غيره، وإن يرسلوا مع موسى بني إسرائيل ليذهب بهم إلى أرض المعاد "فلسطين" فلما جاءهم قال إني رسول رب العالمين جئتكم لآمركم بعبادة الله وحده وترك عبادة من سواه، إذ لا يستحق العبادة إلا الله. فطالبوه بالآيات على صدق دعواه فلما جاءهم بالآيات العظام فاجأوه بالضحك منها والسخرية والاستهزاء بها وهو معنى قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآياتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ}( 1).
وقوله تعالى: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا}( 2) أي وما نري فرعون وملأه من آية إلا هي أكبر دلالة على صدق موسى من الآية التي سبقها. قال تعالى {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ
__________
1- أي استهزاء وسخرية يوهمون أتباعهم أن تلك الآيات سحر وتخييل وأنهم قادرون على الإتيان بمثلها.
2- الأخت هنا بمعنى المشاكلة والمجانسة النوعية كما يقال هذه صاحبة تلك أي قريبة منها في المعنى والكبر والمراد به الكبر في الدلالة على صدق موسى وصحة دعوته إذ المعجزات تتفاوت في العظمة كما قال الشاعر:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم
مثل النجوم التي يسري بها الساري

يَرْجِعُونَ} إلى الحق فيؤمنون ويوحدون. وقالوا لموسى يا أيها الساحر(1) أي العليم بالسحر المتبحر فيه ظناً منهم أن المعجزات كانت عمل ساحر. ادع لنا ربك(2) بما عهد عندك إنا لمهتدون أي سل ربك يرفع عنا هذا العذاب كالطوفان والجراد والقمل والضفادع إنا مؤمنون وكانوا كلما نزل بهم العذاب سألوا موسى ووعدوه بالإيمان به إن رفع الله عنهم العذاب وفي كل مرة ينكثون عهدهم وهو قوله تعالى {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} أي ينقضون العهد ولا يؤمنون كما واعدوا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- الآيات دليل على صدق من جاء بها، ولكن لا تستلزم الإيمان ممن شاهدها.
2- قد يؤاخذ الله الأفراد أو الجماعات بالذنب المرة بعد المرة لعلهم يتوبون إليه.
3- حرمة خلف الوعد ونكث العهد، وأنهما من آيات النفاق وعلاماته.
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ(51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ(52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ(53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ(54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ(55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ(56)
__________
1- هذا النداء في هذا الموقف كان نداء تكريم وتعظيم كعادتهم في توقير وتعظيم علمائهم السحرة لأنهم لما أصابهم من البلاء اعترفوا بمكانة موسى وسيادته وأيّه تكتب بدون ألف اتباعاً للمصحف وحذفت الألف نظراً إلى سقوطها في النطق للوصل والهاء حرف تنبيه أتي بها للفصل بين أي وبين نعتها في النداء.
2- هذا جرياً على اعتقاد الأقباط وهو أن لكل أمة أو قبيلة رباً خاصاً بها لذا قالوا لموسى ادع لنا ربك.

شرح الكلمات:
ونادى فرعون في قومه: أي نادى فيهم افتخاراً وتبجحا بما عنده.
وهذه الأنهار تجري من تحتي : أي من النيل تجري من تحت قصوري.
أفلا تبصرن : أي عظمتي وما أنا عليه من الجلال والكمال.
أم أنا خير : أي من موسى الذي هو مهين ولا يكاد يبين أي يفصح لِلثُّغة التي في لسانه.
فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب : أي هلاّ ألقي عليه أسورة من ذهب من قِبَل الذي أرسله.
أو جاء معه الملائكة مقترنين : أي أو جاءت الملائكة يتبع بعضها بعضاً تشهد له بالرسالة.
فاستخف قومه فأطاعوه: أي استفز فرعون قومه أي قال لهم ما حركهم به فخفوا لطاعته.
إنهم كانوا قوما فاسقين: أي أطاعوه لكونهم قوماً فاسقين ففسقهم هو علة طاعتهم.
فلما آسفونا انتقمنا منهم: أي فلما أغضبونا انتقمنا منهم.
فجعلناهم سلفا : أي فرعون وقومه سلفاً أي سابقين ليكونوا عبرة لمن بعدهم.
ومثلاً للآخرين: أي يتمثلون بحالهم فلا يقدمون على مثل فعلهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصة موسى مع فرعون قال تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ(1) فِي قَوْمِهِ} لأجل الافتخار والتطاول إرهاباً للناس قال يا قوم أليس لي ملك مصر، وهذه الأنهار أي أنهار النيل(2) تجري من تحتي(3) أي من تحت قصوره، أفلا يبصرون فإذا أبصرتم فقولوا أنا خير(4) من هذا الذي هو مهين أي حقير يتولى الخدمة بنفسه، ولا يكاد يبين أي يفصح بلسانه لعلة به وهي اللثغة أم هو؟. فلولا ألقي عليه أساورة(5) من ذهب أي هلاّ ألقى عليه من أرسله أساورة من ذهب أو بعث معه الملائكة مقترنين يشهدون له بالرسالة. قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ} أستفزهم بقوله هذا وحركهم فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين، والفاسق جبان خواف يستجيب بسرعة للباطل إن كان ممن يخاف عادة كالحاكم الظالم.
__________
1- قيل لما كشف الله عنهم العذاب بدعوة موسى أضمر فرعون وملؤه نكث العهد الذي أعطاه لموسى وهو أنهم يهتدون فخاف فرعون أن يتبع قومه موسى فقام بهذه المناورة الرخيصة فنادى في قومه فجمعهم وقال فيهم ما ذكر تعالى.
2- هذه الأنهار هي فروع النيل وهي أربعة هي نهر الملك ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنّيس.
3- جائز أن تكون الأنهار له تسلط على مصابها فلذا هدد قومه بذلك.
4- أم أنا خير (أم) المنقطعة بمعنى بل للإضراب الانتقالي والتقدير بل أنا خير والاستفهام تقريري أراد تفضيل نفسه على موسى عليه السلام والمهين: الذليل الذي لم يكن من بيوت الشرف والجاه.
5- قرأ نافع والجمهور أساورة جمع أسوار لغة في سوار، وقرأ حفص أسورة جمع سوار والمراد من قوله ألقي عليه أساورة يريد إن كان ملكاً أو رسولا كما يزعم لم لا يلقى إليه من السماء أساورة كالتي يلبسها ملوك فارس ومصر، أو تأتي معه الملائكة يشهدون له بالرسالة بما يدعي وكل هذا من باب دفع معرة الهزيمة التي لحقته.

وقوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا} أي أغضبونا بنكثهم وكفرهم وكبريائهم وظلمهم أغرقناهم أجمعين أي فلم نبق منهم أحداً والمراد فرعون وجنوده. وقوله تعالى {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً(1) وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ} أي جعلنا فرعون، ومن أغرقنا معه من ملائه وجيوشه سلفاًً أي سابقين ليكونوا عبرة لمن بعدهم، ومثلاً يتمثل به من بعدهم فلا يقدمون على ما أقدموا عليه من الكفر والظلم والعلو والفساد، وأولى من يعتبر بهذا قريش التي نزل لينبّهها ويحرك كامن نفسها لتنتبه من غفلتها فتؤمن وتوحد فتنجوا وتكمل وتسعد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- ذم الفخر والمباهاة إذ هما من صفات المتكبرين والظالمين.
2- الاحتقار للفقراء والازدراء بهم من صفات الجبارين الظلمة المتكبرين.
3- الفسق يجعل صاحبه مطية لكل ظالم أداة يسخره كما يشاء.
4- التحذير من غضب الرب تبارك وتعالى فإنه متى غضب انتقم فبطش.
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ(57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ(58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ(59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ(60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(62)
شرح الكلمات:
ولما ضرب ابن مريم مثلا : أي ولما جعل عيسى بن مريم مثلا، والضارب ابن الزبعري.
إذا قومك منه يصدون : أي إذ المشركون من قومك يصدون أي يضحكون فرحاً بما سمعوا.
__________
1- السلف: جمع سالف كخدم جمع خادم وحرس جمع لحارس والسالف: من يسبق غيره في الوجود.

وقالوا أآلهتنا خير أم هو؟ : أي ألهتنا التي نعبدها خير أم هو أي عيسى ابن مريم فنرضى أن تكون آلهتنا معه.
ما ضربوه لك إلا جدلا : أي ما جعلوه أي المثل لك إلا خصومة بالباطل لعلمهم أن ما لغير العاقل فلا يتناول اللفظ عيسى عليه السلام.
بل هم قوم خصمون : أي شديدو الخصومة.
إن هو إلا عبد أنعمنا عليه : أي ما هو أي عيسى إلا عبد أنعمنا عليه بالنبوة.
وجعلناه مثلا لبني إسرائيل : أي لوجوده من غير أب كان مثلا لبني إسرائيل لغرابته يستدل به على قدرة الله على ما يشاء.
ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة : أي ولو نشاء لأهلكناكم وجعلنا بدلكم ملائكة.
في الأرض يخلفون : أي يعمرون الأرض ويبعدون الله فيها يخلفونكم فيها بعد إهلاككم.
وإنه لعلم للساعة : أي وإن عيسى عليه السلام لعلم للساعة تُعلم بنزوله إذا نزل.
فلا تمترن بها : أي لا تشكن فيها أي في إثباتها ولا في قربها.
واتبعون هذا صراط مستقيم : أي وقل لهم اتبعون على التوحيد هذا صراط مستقيم وهو الإسلام.
ولا يصدنكم الشيطان: أي ولا يصرفنكم الشيطان عن الإسلام.
إنه لكم عدو مبين : أي إن الشيطان لكم عدو بين العدواة فلا تتبعوه.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} روي أن ابنَ الزبعري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لما نزلت آية الأنبياء إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها ورادون قال: أهذا لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم، فقال ابن الزبعري خصمتك ورب الكعبة، أليست النصارى يعبدون المسيح واليهود يعبدون العزير وبنو مليح يعبدون الملائكة فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم، ففرح بها المشركون وضحكوا وضجوا بالضحك مرتفعة أصواتهم بذلك ونزلت في هذه الحادثة الآية: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ(1) مَثَلاً} أي ولما جعل ابن الزبعري عيسى بن مريم مثلاً إذ جعله مشابها للأصنام من حيث أن النصارى اتخذوه إلهاً وعبدوه من دون الله، وقال فإذا كان عيسى والعزير
__________
1- المراد بالمثل هنا الممثل به والمشبه به لأن ابن الزبعري شبه آلهتهم بعيسى في أنها عبدت من دون الله مثله فإذا كانوا في النار فعيسى كذلك.

والملائكة في النار فقد رضينا أن نكون وآلهتنا معهم ففرح بها المشركون وصدوا(1) وضجوا بالضحك. وقالوا آلهتنا خير أم هو أي المسيح؟ قال تعالى لرسوله: ما ضربوه لك إلا جدلاً أي ما ضرب لك ابن الزبعري هذا المثل طلباً للحق وبحثاً عنه وإنما ضربه لك لأجل الجدل والخصومة بل هم قوم خصمون مجبولون على الجدل والخصام.
وقوله {إِنْ هُوَ} أي عيسى {إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} بالنبوة والرسالة، {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ} يستدلون به على قدرة الله وأنه عز وجل على كل ما يشاء قدير إذ خلقه من غير أب كما خلق آدم من تراب ثم قال له كن فكان.
وقوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} أي ولو نشاء لأهلكناكم يا بني آدم ولم نبق منكم أحدا. وجعلنا بدَلَكم في الأرض ملائكة يخلقونكم فيها فيعمرونها ويعبدون الله تعالى فيها ويوحدونه ولا يشركون به سواه.
وقوله {وَإِنَّهُ(2) لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} أي إن عيسى عليه السلام لعلامة للساعة أي إن نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان علامة على قرب الساعة. فلا تمترن بها أي فلا تشكّن في إتيانها فإنها آتية وقريبة. وقوله واتبعون أي وقل لهم يا رسولنا واتبعون على التوحيد وما جئتكم به من الهدى هذا صراط مستقيم أي الإسلام القائم على التوحيد الذي نزل به القرآن وجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يصدنكم الشيطان عن الإسلام بوساوسه وإغوائه فيصرفكم عن التوحيد والإسلام إنه لكم عدو مبين وليس أدل على عدوانه من أنه أخرج آدم بإغوائه من الجنة حسداً له وبغياً عليه. فمثل هذا العدو لا يصح أبداً الاستماع إليه والمشي وراءه واتباع خطواته. ومن يتبع خطواته يهلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان أن قريشا أوتيت الجدل والقوة في الخصومة.
2- ذم الجدل لغير إحقاق حق أو إبطال باطل وفي الحديث ما ضل قوم بعد هُدى كانوا عليه إلا أتوا الجدل.
3- شرف عيسى وعلو مكانته وأن نزوله إلى الأرض علامة كبرى من علامات قرب الساعة.
4- تقرير البعث والجزاء.
5- حرمة اتباع الشيطان لأنه يضل ولا يهدي.
__________
1- قرأ نافع يصدون من صد يصد عن كذا إذا أعرض فيصدون بمعنى يعرضون عن القرآن ويقولون إن فيه تناقضاً من أجل فرية ابن الزبعري، وقرأ حفص يصدون بكسر الصاد من الصد بمعنى الصخب والضجيج
2- وجائز أن يكون الضمير في (وإنه) عائد إلى القرآن أو إلى المنزّل عليه محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال صلى الله عليه وسلم "بعثت أنا والساعة كهاتين وقرن بين السبابة والوسطى مشيراً إليهما". وما في التفسير مروي عن كبار التابعين مجاهد وقتادة وابن عباس الصاحب الجليل رضي الله عنهما ولذا قدمته في التفسير.

وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ(65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(66)
شرح الكلمات :
ولما جاء عيسى بالبينات : أي ولما جاء عيسى بن مريم إلى بني إسرائيل بالمعجزات والشرائع.
قال قد جئتكم بالحكمة : أي قال لبنى إسرائيل قد جئتكم بالنبوة وشرائع الإنجيل .
ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه : أي وجئتكم لأبين لكم ما اختلفتم فيه من أحكام التوراة من أمر الدين وغيره.
فاتقوا الله وأطيعون: أي خافوا الله وأطيعون فيما أبلغكموه عن الله من الأمر والنهى .
إن الله ربي وربكم فاعبدوه: أي إن الله إلهي وإلهكم فاعبدوه بحبه وتعظيمه والذلة له.
هذا صراط مستقيم: أي تقوى الله وطاعة الرسول وعبادة الله بما شرع هو الإسلام المعبر عنه بالصراط المستقيم.
فاختلف الأحزاب من بينهم: أي في شأن عيسى أهو الله: أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة.
فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم : أي فويل للذين كفروا بما قالوا في عيسى من الكذب والباطل.
هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون : أي ما ينتظر هؤلاء الأحزاب مع إصرارهم على ما قالوه في عيسى إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فجأة وهم لا يشعرون.
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى جدل المشركين في مكة وفرحهم بالباطل الذي قاله ابن الزبعري في شأن

الملائكة والعزير وعيسى عليهم السلام من أنهم في النار مع من عبدوهم، وبرأ تعالى الملائكة والعزير وعيسى لأنهم ما أمروا الناس بعبادتهم حتى يؤاخذوا بها، وإنما أمر بعبادتهم الشيطان فالشيطان ومن عبدوهم هم الذين في النار. وذكر تعالى شرف عيسى ومكانته وأنه عبد أنعم عليه بالنبوة وجعله مثلا لبني إسرائيل يستدلون به على قدرة الله تعالى إذ خلقه من غير أب كما خلق آدم من غير أب ولا أم وإنما خلقه من تراب ذكر رسالة عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل ليكون ذلك موعظة لكفار مكة فقال تعالى ولما جاء عيسى بالبينات(1) أي جاء بني إسرائيل مصحوباً بالبينات هي الإنجيل والمعجزات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وما إلى ذلك، قال لهم قد جئتكم بالحكمة أي النبوة من عند الله، ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه من أحكام التوراة وأمور الدين إذاً فاتقوا الله(2) يا بني إسرائيل أي خافوا عقابه المترتب على معاصيه وأطيعون فيما أبلغكموه من أمر ونهي عن الله تعالى، إن الله ربي وربكم أي إلهي وألهكم لا إله إلا هو فاعبدوه بفعل محابه وترك مساخطه حبا فيه وتعظيماً له ورهبة ورغبة. وقوله {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي هذا الذي دعوتكم إليه من اتقاء الله، وطاعة رسوله وعبادته وحده هو الطريق المستقيم الذي يفضي بسالكه إلى سعادة الدارين. قال تعالى: {فَاخْتَلَفَ(3) الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} أي من بين بني إسرائيل من يهود ونصارى فقالت طائفة من اليهود افتراء أن عيسى ابن مريم ابن زنا وأمه بغى وقالوا ساحر. وقال النصارى: هو الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة.
قال تعالى {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} أي مؤلم فتوعدهم الرب تعالى بالويل الذي هو واد يسيل في جهنم بما يتجمع من صديد فروج أهل النار وأبدانهم من دماء وقروح وأوساخ وهو عذاب يوم القيامة الأليم توعد هؤلاء الظالمين بما قالوا في عيسى عبد الله ورسوله عليه السلام وقال تعالى: {هَلْ(4) يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ} أي ما ينظرون إلا الساعة لأنهم ما تابوا إلى الله ولا راجعوا الحق فيما قالوه في عيسى بل أصروا: اليهود يصفونه بأخس الصفات والنصارى يصفونه بالألوهية التي هي حق الله رب عيسى ورب العالمين أن تأتيهم بغتة أي فجأة وهم لا يشعرون لأنهم مشغولون بالذرة والهدرجين والاستعمار والتجارة والانغماس في الشهوات كما هو واقع ومشاهد اليوم. وصدق الله العظيم.
__________
1- قال ابن عباس يريد إحياء الموتى وإبراء الأسقام وخلق الطير والمائدة وغيرها والإخبار بكثير من الغيوب.
2- أي اتقوا الشرك ولا تعبدوا إلا الله وحده ومن قال هذا فكيف يكون إلهاً يُعبَد وهو عبد يَعبُد ويوحد؟.
3- ومن اختلافاتهم التي نعيت عليهم اختلاف فرق النصارى من النسطورية والملكية واليعقوبية اختلفوا في عيسى فقالت النسطورية هو ابن الله وقالت اليعقوبية هو الله وقالت الملكية ثالث ثلاثة أحدهم الله قاله الكلبي وغيره.
4- الجملة مستأنفة بيانياً لما تقدم مما يثير في النفس تساؤلا فكان الجواب أن العذاب آت وأهله ما ينظرون إلا الساعة وأهل العذاب هم المختلفون من أهل الكتاب والمشركين إذ الجميع ظلموا بالشرك والكفر والتكذيب والآية تدعوهم إلى التوبة لينجوا من العذاب الأليم.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان رسالة عيسى إلى بني إسرائيل.
2- وجوب التقوى لله وطاعة الرسول، وتوحيد الله في عبادته.
3- بيان شؤم الخلاف، وما يجره من التوغل في الكفر والفساد.
4- وعيد الله لليهود والنصارى الذين لم يدخلوا في الإسلام بالويل وهو عذاب يوم أليم.
الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ(67) يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ(68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ(69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ(70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ(73)
شرح الكلمات:
الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو : أي الأحباء يوم إذ تأتيهم الساعة بغتة.
إلا المتقين : فإن محبتهم تدوم لهم لأنها كانت في الله وطاعته.
يا عباد لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون: أي ينادون فيقال لهم لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون بل تحبرون أي تسرون وتكرمون.
يطاف عليهم بصحاف من ذهب: أي يطوف عليهم الملائكة بقصاع من ذهب وفيها الطعام وأكواب من ذهب فيها الشراب اللذيذ.
وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين: أي في الجنة ما تشتهيه الأنفس تلذذاً وتلذ الأعين نظراً إليه.
وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون : أي يقال لهم وهذه هي الجنة التي أورثكموها الله بأعمالكم

الصالحة التي هي ثمرة إيمانكم الصادق وإخلاصكم الكامل.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر أحداث الساعة قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ(1) بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} أي إذا جاءت الساعة الأخلاء أي الأحباء في الدنيا يوم إذ تأتي الساعة بعضهم لبعض عدو فتنقطع تلك الخلة والمودة وتصبح عداء لأنها كانت على معصية الله تعالى وقوله إلا المتقين أي الله عز وجل بفعل أوامره وترك نواهيه فإن مودتهم وخلتهم لا تنقطع لأنها كانت محبة في الله وما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل يناديهم ربهم بقوله {يَا عِبَادِ(2) لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ(3) وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}، ويصفهم بقوله {الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا} أي بالقرآن {وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} أ ي منقادين لله ظاهراً وباطناً، ويقول لهم {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} أي أنتم وزوجاتكم المؤمنات تفرحون وتسرون وقوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} بيان لنعيم الجنة الذي ينعمون به وهو أنه يطاف عليهم بصحاف من ذهب(4) وهي قصاع، فيها ألذ الطعام وأشهاه، وأكواب من ذهب أيضاً فيها ألذ الشراب والأكواب جمع كوب وهو إناء لا عروة له ولا خرطوم حتى يمكن الشرب منه من أي جهة من جهاته وفيها أي في الجنة ما تشتهيه الأنفس من سائر المستلذات، وتلذ الأعين من سائر المرئيات ويقال لهم لكم ما تشتهون وأنتم فيها خالدون لا تخرجون منها ولا تموتون فيها.
وقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ}( 5) أي وهذه هي الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون من الصالحات والخيرات، وجه الوراثة أن الله تعالى خلق لكل إنسان منزلين أحدهما في الجنة والثاني في النار فكل من دخل الجنة ورث منزل أحد دخل النار فهذا أوجه التوارث والباء في بما
__________
1- ذكر القرطبي رواية عن النقاش أن هذه الآيات نزلت في أمية بن خلف الجمحي وعقبة بن أبي معيط كانا خليلين وكان عقبة يجالس النبي صلى الله عليه وسلم فقالت قريش قد صبأ عقبة فقال أمية له وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمداً ولم تتفل في وجهه ففعل عقبة عليهما لعائن الله ذلك فنذر النبي صلى الله عليه وسلم قتله فقتله يوم بدر صبراً وقتل أمية في المعركة ففيهم نزلت هذه الآية والآية عامة في كل كافر وظالم.
2- قرأ نافع والجمهور يا عبادي بالياء بعد الدال وهي ياء المتكلم وقرأ حفص بحذفها تخفيفا لدلالة اللفظ والسياق عليها.
3- روي أن المنادي لما يقول يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون يرفع أهل العرصة رؤوسهم فيقول المنادي الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين فينكس أهل الأديان رؤوسهم إلا المسلمين.
4- في الصحيحين عن حذيفة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة". وفي صحيح مسلم أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون. قالوا فمال الطعام؟ قال جشأ ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد والتكبير.
5- أشار إليها بلام البعد لعلوها وعظيم منازلها وسمو درجاتها.

كنتم تعملون سببية أي بسبب أعمالكم الصالحة التي زكت نفوسكم وطهرت أرواحكم فاستوجبتم دخول الجنة وإرث منازلها.
وقوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ(1) مِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي يقال لهم هذا إكراما لهم وإسعاداً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- كل خلة يوم القيامة تنقطع إلا خلة كانت في الله ولله سبحانه وتعالى، ولذا ينبغي أن تكون المودة في الدنيا لله لا لغيره تعالى.
2- بيان فضل التقوى وشرف المتقين الذين يتقون الشرك والمعاصي.
3- بيان أن الرجل يجمع الله بينه وبين زوجته المسلمة في الجنة.
4- بيان نعيم أهل الجنة من طعام وشراب وسائر المستلذات.
5- الإيمان والعمل الصالح سبب في دخول الجنة كما أن الشرك والمعاصي سبب في دخول النار.
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ(74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ(75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ(76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ(77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ(78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ(79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ(80)
شرح الكلمات:
إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون : أي إن الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك والمعاصي في جهنم خالدون لا يخرجون ولا يموتون.
لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون : أي لا يخفف عنهم العذاب وهم فيه ساكتون سكوت يأس.
__________
1- الفاكهة قال ابن عباس رضي الله عنهما هي الثمار كلها رطبها ويابسها، وبائعها يقال له الفاكهي.

ونادوا يا ملك ليقض علينا ربك : أي نادوا مالكاً خازن النار قائلين له ليمتنا ربك.
قال إنكم ماكثون: أي أجابهم بعد ألف سنة مضت على دعوتهم بقوله إنكم ما كثون أي مقيمون في عذاب جهنم دائما.
لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون : أي علة بقائكم أنا جئناكم بالحق على لسان رسولنا والحق التوحيد وعبادة الله بما شرع فكره أكثركم الحق.
أم أبرموا أمراً فإنا مبرمون: أي أحكموا في الكيد للنبي محمد صلى الله عليه وسلم فإنا محكمون كيدنا في إهلاكهم.
ورسلنا لديهم يكتبون: أي وملائكتنا من الحفظة يكتبون ما يسرون وما يعلنون.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى الجنة ونعيمها ذكر في هذه الآيات النار وعذابها وهذا هو الترغيب والترهيب الذي امتاز به أسلوب القرآن في الدعوة إلى الله تعالى وهداية الخلق إلى الإصلاح قال تعالى {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ(1)} أي الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها بالشرك والمعاصي هؤلاء في عذاب جهنم خالدون، لا يفتر عنهم العذاب أي لا يخفف وهم فيه أي في العذاب مبلسون أي ساكتون آيسون قانطون. وقال تعالى {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} في تعذيبنا لهم بهذا العذاب ولكن كانوا هم الظالمين، حيث داسوا أنفسهم بالشرك والمعاصي.
وقوله تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا(2) رَبُّكَ} يخبر تعالى أن أصحاب ذلك العذاب الدائم الذي لا يفتر فيخفف نادوا مالكاً خازن النار وقالوا له ليمتنا ربك فنستريح من العذاب فأجابهم مالك بعد ألف(3) سنة قائلاً قال أي ربي إنكم ماكثون أي في عذاب جهنم، وعلل لهذا الحكم بالمكث أبداً فقال: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ} أي أرسلنا إليكم رسولنا بالحق يدعوكم إليه وهو الإيمان والعمل الصالح المزكي للنفوس فكره أكثركم(4) ذلك فلم تؤمنوا ولم تعملوا صالحاً مؤثرين شهوات الدنيا على الآخرة فمتم على الشرك والكفر فهذا جزاء الكافرين.
__________
1- الجملة مستأنفة بيانياً لأن سائلاً بعد أن علم بحال أهل الإيمان والتقوى يسأل عن حال أهل الإجرام فأجيب بأن المجرمين الخ.
2- قال ابن مسعود وأبو الدرداء قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: ونادوا يا مال أي رخم الاسم المنادى بحذف الحرف الأخير منه وهو شائع في كلام العرب فيقال في مالك مال وفي حارث يا حار وفي فاطمة فاطم قال الشاعر:
يا حار لا أرثين منكم بداهية
لم يلقها سوقة قبلي ولا ملك
وقال آخر:
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
3- روى هذا الترمذي وهناك رواية أخرى في ذكر المدة التي يجابون بعدها.
4- الذين كرهوا الحق هم الرؤساء حفاظاً على مراكزهم وأما الأتباع فلم يكرهوا الحق ولكن اتبعوا الرؤساء فماتوا على الشرك والكفر فدخلوا النار معهم.

وقوله تعالى: {أَمْ أَبْرَمُوا(1) أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} أي بل أبرم هؤلاء المشركون أمراً يكيدون فيه للرسول ودعوته فإن فعلوا ذلك فإنا مبرمون أي محكمون أمراً مضاف لهم بتعذيبهم وإبطال ما أحكموه من الكيد للرسول ودعوته. وقوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى} نسمع ذلك ورسلنا وهم الحفظة لديهم يكتبون ما يقولون سراً وجهراً. روي أن ثلاثة نفر قالوا وهم تحت أستار الكعبة فقال أحدهم أترون أن الله يسمع كلامنا؟ فقال أحدهم إذا جهرتم سمع، وإذا أسررتم لم يسمع وقال الثاني إن كان يسمع إذا أعلنتم فإنه يسمع إذا أسررتم فنزلت {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ(2) وَنَجْوَاهُمْ} أي نسمع سرهم ونجواهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- بيان عقوبة الإجرام على النفس بالشرك والمعاصي.
2- عذاب الآخرة لا يطاق ولا يقادر قدره يدل عليه طلبهم الموت ليستريحوا منه وما هم بميتين.
3- أكبر عامل من عوامل كراهية الحق حب الدنيا والشهوات البهيمية في الأكل والشرب والنكاح هذه التي تكرّه إلى صاحبها الدين وشرائعه التي قد تقيد من الإسراف في ذلك.
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ(81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ(82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ(83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ(84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(85)
__________
1- أم المنقطعة تفسر ببل للإضراب الانتقالي والاستفهام محذوف الأداة تخفيفاً أي أأبرموا أمراً والاستفهام تقريري والمراد بالأمر ما يبيتونه من مكر بالرسول صلى الله عليه وسلم وأجمعوا عليه وهو قتله صلى الله عليه وسلم وذلك في دار الندوة فأبرم الله أمراً فأهلكهم في بدر.
2- السر: ما يسرونه في أنفسهم من وسائل المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالنجوى ما يتناجون به بينهم في ذلك بحديث خفي.

شرح الكلمات:
قل إن كان للرحمن ولد : أي قل يا رسولنا لهؤلاء المشركين الزاعمين أن الملائكة بنات الله إن كان للرحمن ولد فرضاً.
فأنا أول العابدين: أي فأنا أول من يعبده تعظيما لله وإجلالاً ولكن لا ولد له فلا عبادة إذاً لغيره.
سبحان رب السموات : أي تنزّه وتقدس.
عما يصفون : أي عما يصفون به الله تعالى من أن له ولداً وشركاء.
فذرهم يخوضوا ويلعبوا: أي اتركهم يا رسولنا يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم.
وهو الذي في السماء إله : أي معبود في السماء.
وفي الأرض إله : أي ومعبود في الأرض.
وتبارك الذي له ملك السموات : أي تعاظم وجل جلال الذي له ملك السموات.
وعنده علم الساعة : أي عنده علم وقت مجيئها.
معنى الآيات:
سبق أن بكّت تعالى المشركين في دعواهم أن الملائكة بنات الله وتوعدهم بالعذاب على قولهم الباطل وهنا قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم قل لهم إن كان للرحمن(1) ولد كما تفترون فرضاً وتقديراً فأنا أول العابدين له(2)، ولكن لم يكن للرحمن ولد. فلم أكن لأعبد غير الله تعالى، هذا ما دل عليه قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}. وقوله: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} نزه تعالى نفسه وقدسها وهو رب السموات والأرض ورب العرش أي مالك ذلك كله وسلطانه عليه جميعه عما يصفه المشركون به من أن له ولداً وشركاء. وهنا قال تعالى لرسوله إذا أصروا على باطلهم من الشرك والكذب على الله والافتراء عليه فذرهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون وهو يوم عذابهم المعد لهم وذلك يوم القيامة.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} أي معبود في السماء ومعبود في الأرض أي معظم غاية التعظيم، ومحبوب غاية الحب ومتذلل له غاية الذل في الأرض والسماء وهو الحكيم في صنعه وتدبيره العليم بأحوال خلقه فهل مثله تعالى يفتقر إلى زوجة وولد تعالى
__________
1- يروى عن ابن عباس والحسن والسدي أن: إن ليست شرطية وهي نافية بمعنى ما وتقدير الكلام ما كان للرحمن ولد. وهنا تم الكلام ثم قال فأنا أول العابدين وهذا الرأي ضعيف ويتنافى مع السياق وما في التفسير هو الصواب.
2- له أي لذلك الولد لأن تعظيم الولد تعظيم للوالد إلا أنه لا ولد له ولا ينبغي له لغناه المطلق.

الله عن ذلك علواً كبيراً. وقوله {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ(1) مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي تعاظم وجل جلاله وعظم سلطانه الذي له {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} والدنيا والآخرة، وعنده علم الساعة وإليه ترجعون أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة، وهو على كل شيء قدير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- مشروعية التلطف في الخطاب والتنزل مع المخاطب لإقامة الحجة عليه كقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وكما هنا قل إن كان للرحمن ولد من باب الفرض والتقدير فأنا أول العابدين له ولكن لا ولد له فلا أعبد غيره سبحانه وتعالى.
2- تهديد المشركين بعذاب يوم القيامة.
3- إقامة البراهين على بطلان نسبة الولد إلى الله تعالى.
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ(87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ(88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(89)
شرح الكلمات:
ولا يملك الذين يدعون : أي يعبدونهم.
من دونه : أي من دون الله.
الشفاعة : أي لأحدٍ.
إلا من شهد بالحق : أي لكن الذي شهد بالحق فوحد الله تعالى على علم هذا الذي تناله شفاعة الملائكة والأنبياء.
فأنى يؤفكون : أي كيف يصرفون عن الحق بعد معرفته.
وقيله : أي قول النبي يا رب إن هؤلاء.
__________
1- تعاظم وتسامى عما يصفه المشركون من الشريك والصاحبة والولد وتبارك هو خبر لفظاً وإنشاء معنىً إذ هو لفظ أريد به المدح العظيم لذي الخير العظيم.

فاصفح عنهم : أي أعرض عنهم.
وقل سلام فسوف : أي أمري سلام منكم، فسوف تعلمون عاقبة كفركم.
معنى الآيات:
لما أعلم تعالى في الآية السابقة أن رجوع الناس إليه يوم القيامة، وكان المشركون يزعمون أن آلهتهم من الملائكة وغيرها تشفع لهم يوم القيامة واتخذوا هذا ذريعة لعبادتهم فأعلمهم تعالى في هذه الآية (86) أن من يدعونهم بمعنى يعبدونهم من الأصنام والملائكة وغيرهم(1) من دون الله لا يملكون الشفاعة لأحد، فالله وحده هو الذي يملك الشفاعة ويعطيها لمن يشاء هذا معنى قوله تعالى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} وقوله تعالى {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي استثنى الله تعالى أن من شهد بالحق أي بأنه لا إله إلا الله، وهو يعلم ذلك علماً يقيناً فهذا قد يشفع له الملائكة أو الأنبياء فقال عز وجل {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}( 2) بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم فالموحدون تنالهم الشفاعة بإذن الله تعالى. وقوله تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} أي ولئن سألت هؤلاء المشركين من خلقهم لأجابوك قائلين الله. فسبحان الله كيف يقرون بتوحيد الربوبية وينكرون توحيد العبادة فلذا قال تعالى: {فَأَنَّى(3) يُؤْفَكُونَ} أي كيف يصرفون عن الحق بعد معرفته يعرفون أن الله هو الخالق لهم ويعبدون غيره ويتركون عبادته.
وقوله {وَقِيلِهِ(4) يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} أي ويعلم تعالى قيل رسوله وشكواه وهي يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون لما شاهد من عنادهم وتصلبهم شكاهم إلى ربه تعالى فأمره ربه عز وجل أن يصفح(5) عنهم أي يتجاوز عما يلقاه منهم من شدة وعنت وأن يقول لهم سلام وهو سلام متاركة لا سلام تحية وتعظيم أي قل لهم أمري سلام. فسوف تعلمون(6) عاقبة هذا الإصرار على الكفر والتكذيب فكان هذا منه تهديداً لهم بذكر ما ينتظرهم من أليم العذاب إن ماتوا على كفرهم.
__________
1- مثل عيسى والعزير.
2- وهم يعلمون الجملة حالية وفي هذا دليل على أن من لم يفهم معنى لا إله إلا الله ويقولها لا تنفعه ولا ينال بها الشفاعة يوم القيامة إذ لا بد من فهمه ماذا نفى وماذا أثبت ولذا إيمان المقلد اختلف في صحته أهل العلم.
3- أنى اسم استفهام عن المكان فمحله نصب على الظرفية أي إلى أي مكان يصرفون؟ وماضي يؤفكون أفك يأفك أفكاً على وزن ضرب يضرب ضرباً وأفكه كضربه.
4- هذا على قراءة نافع وهي نصب قيله أما على قراءة حفص فقيله مجرور عطفاً على قوله وعنده علم الساعة وعلم قيل رسوله كذا. وهو (قيل) مصدر قال كالقول، وأصله قول فعل بمعنى مفعول كذبح بمعنى مذبوح والضمير في قيله يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذ هو القائل يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون لطول ما دعاهم وهم معرضون عن الحق مصرون على الكفر.
5- مثل هذا (فاصفح وقل سلام) منسوخ بآيات القتال التي نزلت بالمدينة النبوية بعد الهجرة.
6- قرأ نافع تعلمون بالتاء وقرأ حفص والجمهور يعلمون بالياء فالأول مما أمر الله تعالى رسوله أن يقوله للمشركين، والثاني على أنه وعد من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه ينتقم من المكذبين.

هداية الآيات
من هداية الآيات:
1- لا يملك الشفاعة يوم القيامة أحدٌ إلا الله تعالى فمن أذن له شفع ومن لم يأذن له لا يشفع، ولا يشَّفَعُ إلا لأهل التوحيد خاصة أما أهل الشرك والكفر فلا شفاعة لهم.
2- مشركو العرب على عهد النبوة موحدون في الربوبية مشركون في العبادة.
3- مشروعية الصفح والتجاوز عند العجز عن إقامة الحدود وإعلاء كلمة الله تعالى.

المجلد الخامس
سورة الدخان
...
سورة الدخان
مكية وآياتها تسع وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
شرح الكلمات:
حم :هذا أحد الحروف المقطعة تكتب هكذا حم وتقرأ هكذا حاميم.
والكتاب المبين :أي القرآن المظهر للحلال والحرام في الأقوال والأعمال والاعتقادات.
إنا أنزلناه في ليلة مباركة :أي في ليلة القدر من رمضان.

فيها يفرق كل أمر حكيم :أي يفصل كل أمر محكم من الآجال والأرزاق وسائر الأحداث.
أمراً من عندنا :أي فيها في ليلة القدر يفرق كل أمر حكيم أمراً من عندنا أي أمرنا بذلك أمراً من عندنا.
إنا كنا مرسلين رحمة من ربك :أي إنا كنا مرسلين الرسل محمداً ومن قبله رحمة من ربك بالمرسل إليهم من الأمم والشعوب.
إنه هو السميع العليم :أي السميع لأصوات مخلوقاته العليم بحاجاتهم.
إن كنتم موقنين :أي بأنه رب السماوات والأرض فآمنوا برسوله واعبدوه وحده.
بل هم في شك يلعبون :أي فليسوا بموقنين بل هم في شك من ربوبية الله تعالى لخلقه وإلا لعبدوه وأطاعوه
بل هم في شك يلعبون بالأقوال والأفعال لا يقين لهم في ربوبية الله تعالى وإنما هم مقلدون لآبائهم في ذلك.
معنى الآيات :
قوله تعالى {حم} 1 هذا أحد الحروف المقطعة وهو من المتشابه الذي يفوض فهم معناه الى منزله فيقول: المؤمن: الله أعلم بمراده به، وقد ذكرنا له فائدتين جليلتين تقدمتا غير مامرة الأولى: أنه لما كان المشركون يمنعون سماع القرآن خشية التأثر به جاءت هذا الفواتح بصيغة لم تعهدها العرب في لغتها فكان إذا قرأ القارئ رافعا صوته مادّاً به هذه الحروف يستوقف السامع ويضطره إلى أن يسمع فإذا سمع تأثر واهتدى غالباً وأعظم بهذه الفائدة من فائدة والثانية: أنه لما ادعى العرب أن القرآن ليس وحيا إلهيا وإنما هو شعر أو سحر أو قول الكهان أو اساطير تحداهم الله تعالى بالإتيان بمثله فعجزوا فتحداهم بعشر سور فعجزوا فتحداهم بسورة فعجزوا فأعلمهم ان هذا المعجز انما هو مؤلف من مثل هذه الحروف حم طسم آلم فألفوا نظيره فعجزوا فقامت عليهم الحجة لعجزهم وتقرر أن القرآن الكريم كلام الله ووحيه أوحاه إلى رسوله ويؤكد هذه الفائدة أنه غالبا إذا ذكرت هذه الحروف في فواتح السور يذكر القرآن بعدها نحو طس تلك آيات القرآن، حم والكتاب المبين، آلم تلك آيات الكتاب الحكيم.
قوله تعالى {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} هذا قسم أقسم الله تعالى بالقرآن تنويها بشأنه ولله أن يقسم بما يشاء فلا حجر عليه وإنما الحجر على الإنسان أن يحلف بغير ربه عز وجل، والمراد من الكتاب المبين المقسم
__________
1 ورد في فضل هذه السورة عدة أحاديث ضعيفة ولكثرتها قد ترتفع إلى درجة الحسن منها: عن أبي أمامة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بنى الله له بيتاً في الجنة".

به القرآن العظيم, وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} أي القرآن { فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} أي كثيرة البركة والخير وهي ليلة القدر1 والتي هي خير من الف شهر. وقوله {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}، ولذلك أرسلنا الرسول وأنزلنا القرآن لننذر الناس عذاب يوم القيامة حيث لا ينجى منه إلا الإيمان والعمل الصالح، ولا يعرفان إلا بالوحي فكان لابد من الرسول الذي يوحي إليه ولابد من الوحي الحامل لبيان الإيمان وأنواع العمل الصالح. وقوله فيها يفرق كل أمر حكيم أي في تلك الليلة المباركة يفصل كل أمر محكم مما قضى الله أن يتم في تلك السنة من أحداث في الكون يؤخذ ذلك من كتاب المقادير فيفصل عنه وينفذ خلال السنة من الموت والحياة والغنى والفقر والصحة والمرض والتولية والعزل فكل أحداث تلك السنة تفصل من اللوح المحفوظ ليتم احداثها في تلك السنة حتى إن الرجل ليتزوج ويولد له وهو في عداد من يموت فلا تنتهي السنة إلا وقد مات وقوله: {أَمْراً مِنْ2 عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أي كان ذلك أمراً من عندنا أمرنا به.
وقوله: إنا كنا مرسلين أي الرسل محمداً فمن قبله من الرسل رحمة من ربك بالناس المرسل إليهم إنه هو السميع لأقوالهم وأصواتهم العليم بحاجاتهم، فكان ارسال الرسل رحمة من ربك أيها الرسول فاحمده واشكره فإنه أهل الحمد والثناه وقوله: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أي خالق ومالك السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين، أي بأنه رب السموات والأرض وما بينهما فاعبدوه وحده فانه لا إله إلا هو يحي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين. قوله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} دال على أن إقرارهم بأن الله رب السموات ورب الخلق عندما يسألون لم يكن عن يقين إذ لو كان على يقين لما أنكروا توحيد الله وكفروا به إذاً فهم في شك يلعبون بالأقوال فقط كما يلعبون بالأفعال، لا يقين لهم في ربوبيته تعالى وانما هم مقلدون لآبائهم في ذلك.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان فضل ليلة القدر3 وأنها في رمضان.
__________
1 شاهده قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر} وقوله شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن حيث ابتدأ نزوله في غار حراء في شهر رمضان وجائز أن يكون نزل كله في ليلة القدر من أم الكتاب إلى بيت العزة في سماء الدنيا ثم نزل منجماً فتم نزوله خلال ثلاث وعشرين سنة.
2 نصب أمراً من عندنا على الحال، والأمر الحكيم المشتمل على الحكمة ورحمة مفعول لأجله من إنا كنا مرسلين.
3 رويت آثار وأحاديث يزعم أصحابها أن الليلة المباركة هي ليلة النصف من شعبان وردها أهل العلم قال ابن العربي: ومن قال إنها ليلة النصف من شعبان هو باطل لأن الله تعالى قال في كتابه الصادق القاطع: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن فنص على أنه ميقات نزوله في رمضان ثم عين زمانه من الليل ها هنا بقوله في ليلة مباركة فمن زعم أنه في غيره فقد أعظم الفرية على الله. وليس في ليلة النصف من شعبان حديث واحد يعول عليه لا في فضلها ولا في نسخ الآجال فيها فلا تلتفتوا إليها.

2- تقرير عقيدة القضاء والقدر وإثبات اللوح المحفوظ.
3- إرسال الرسل رحمة من الله بعباده، فلم يكن زمن الفترة وأهلها أفضل من زمن الوحي.
4- لم يكن إفراد المشركين بربوبية الله تعالى لخلقه عن علم يقيني بل هم مقلدون فيه فلذا لم يحملهم على توحيد الله في عبادته، وهذا شأن كل علم أو معتقد ضعيف.
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
شرح الكلمات:
فارتقب :أي انتظر.
بدخان مبين : أي هو ما كان يراه الرجل من قريش لشدة الجوع بين السماء والأرض من
دخان.
يغشى الناس :أي يغشى أبصارهم من شدة الجهد الناتج عن الجوع الشديد.
ربنا اكشف عنا العذاب :أي يا ربنا إن كشفت عنا العذاب آمنا بك وبرسولك.
أنى لهم الذكرى :أي من أي وجه يكون لهم التذكر والحال أنه قد جاءهم رسول مبين فتولوا عنه وقالوا معلم مجنون.
معلم مجنون :أي أنه يعلمهم القرآن بشر مجنون أي مختلط عليه أمره غير مدرك لما يقول.
إنكم عائدون :أي إلى الكفر والجحود.
البطشة الكبرى :أي الأخذة القوية التي أخذناهم بها يوم بدر حيث قتلوا وأسروا.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ}1 الآية نزلت بعد أن دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش يوم كثر استهزاؤهم به
وسخريتهم منه وبما جاء به من الدين الحق فقال اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف أي
__________
1 ارتقب معناه انتظر يا رسولنا يوم تأتي السماء الخ. وقيل ارتقب معناه أحفظ لأن الرقيب يطلق على الحافظ.

أي سبع سنين من القحط والجدب فأمره ربه أن ينتظر ذلك فقال له فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى
الناس هذا عذاب أليم، واستجاب تعالى لرسوله وأصحاب قريشاً بقحط وجدب ماتت فيه مواشيهم وأصابهم جوع
أكلوا فيه العهن1 وشربوا فيه الدم، وكان الرجل يرفع رأسه إلى السماء فلا يرى إلا دخانا2 يغشى بصره من شدة الجوع، حتى ضرعوا إلى الله وبعثوا إلى الرسول يطلبون منه أن يدعو الله تعالى أن يرفع عنهم هذا العذاب وهو معنى قوله تعالى:{ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} أي برسولك وبما جاء به من الهدى والدين الحق.
وقوله تعالى: {أَنَّى لَهُمُ3 الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} أي ومن أين يأتيهم التذكر فينيبوا إلى ربهم ويسلموا له، والحال أنه قد جاء رسول مبين للحق مظهر له فعرفوه أنه رسول حق وصدق ثم تولوا عنه أي أعرضوا عنه وعما جاء به وقالوا معلم أي4 هو رجل يعلمه غيره الذي يقوله ولم يكن رسولا وقالوا مجنون فلذا تذكرهم وتوبتهم مستبعدة جداً. وقوله تعالى: إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون وفعلاً كشف الله عنهم عذاب المخمصة ونزل الغيث بديارهم وسعدت بلادهم بعد شقاء دام سبع سنوات، وعادوا إلى الشرك وحرب الإسلام والمسلمين.
وقوله تعالى :{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}5 أي وارتقب يا رسولنا يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون، وكان ذلك ببدر حيث انتقم الله منهم فقتل رجالهم بل صناديدهم وأسر من أسر منهم، وكان بطشة لم تعرفها قريش قط.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- صدق وعد الله لرسوله واستجابة دعائه صلى الله عليه وسلم.
2- الإيمان عند معاينة العذاب لا يجدي ولا ينفع.
__________
1 العهن الصوف يصبغ بالدم ويشوى ويؤكل لشدة الجوع الذي أصابهم.
2 لا منافاة بين هذا الدخان الثابت بالقرآن والسنة، وبين الدخان الذي هو من أشراط الساعة والثابت بالسنة الصحيحة في حديث مسلم وهو أنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر – الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم.
3 أنى اسم استفهام الأصل أنه يستفهم به عن المكان ويتوسع فيه فيستفهم به عن الحال كما هي هنا والاستفهام هنا إنكاري أي كيف يتذكرون وهم في شك يلعبون وجملة قد جاءهم رسول حالية فهي في محل نصب.
4 أي لم يكتفوا بالأعراض بل زادوا عليه الافتراء والسب إذ قالوا معلم مجنون.
5 يقال انتقم منه أي عاقبه والنقمة بالكسر والفتح والجمع نقم كعنب ونقمات ككلمات والظرف (يوم) متعلق بجملة (إنا منتقمون) أي منتقمون يوم البطش.

3- بيان ما قابلت به قريش دعوة الإسلام من جحود وكفران.
4- إخبار القرآن بالغيب وصدقه في ذلك آية أنه وحي الله وكلامه تعالى.
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)
شرح الكلمات:
ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون :أي ولقد اختبرنا قبلهم أي قبل كفار قريش قوم فرعون من الأقباط.
وجاءهم رسول كريم :أي موسى بن عمران صلوات الله عليه وسلامه.
أن أدوا إلي عباد الله :أي ادفعوا إلي عباد الله بني إسرائيل وأرسلوهم معي.
إني لكم رسول أمين :أي إني رسول الله إليكم أمين على وحيه ورسالته.
وأن لا تعلوا على الله :أي وبأن لا تطغوا على الله فتكفروا به وتعصوه.
إني آتيكم بسلطان مبين :أي بحجة واضحة تدل على صدقي في رسالتي وما أطالبكم به.
وإني عذت بربي وربكم أن :أي وأنى قد اعتصمت بربي وربكم واستجرت به أن ترجموني.
ترجمون
وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون :أي إن لم تصدقوني في ما جئتكم به فخلوا سبيلي واتركوني.
فدعا ربه :أي فلما كذبه فرعون وقومه وهموا بقتله نادى ربه يا رب.
إن هؤلاء قوم مجرمون :أي إن هؤلاء قوم مجرمون بالكفر والظلم.
فأسري بعبادي ليلا إنكم : أي فأجابه ربه بأن قال له فأسري بعبادي أي بني إسرائيل ليلاً إن
متبعون

فرعون وجنده متبعوكم ليردوكم.
وأترك البحر رهواً : أي وإذا اجتزت أن وقومك البحر فتركه رهواً ساكناً كما هو حين دخلته مع بني إسرائيل.
إنهم جند مغرقون :أي إن فرعون وقومه جند والله مغرقهم في البحر.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا}1 هذا شروع في قصة موسى مع فرعون لوجود تشابه بين أكابر مجرمي قريش وبين فرعون في ظلمه وعلوه، والقصد تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم، وتخفيف ألمه النفسي من جراء ما يلاقي من أكابر مجرمي قريش في مكة فقال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ} أي قبل كفار قريش قوم فرعون من القبط وجاءهم رسول كريم أي على ربه وعلى قومه من بني إسرائيل هو موسى بن عمران عليه السلام، أن أدوا أي بأن أدوا أي ادفعوا إلى عباد الله بني إسرائيل وأرسلوهم معي إني لكم رسول أمين على رسالتي صادق في قولي، وبأن لا تعلوا على الله أي بأن لا تطغوا على الله فتكفروا به وتعصوه فيما يأمركم به وينهاكم عنه. إني آتيكم بسلطان مبين أي بحجة بينة واضحة على صحة ما أطالبكم به. وإني عذت2 بربي وربكم أي استجرت و تحصنت أن ترجمون بأقوالكم3 أو أعمالكم، وإن لم تؤمنوا أي لم تصدقوا بما جئتكم به فاعتزلون ولما أبوا إلا أذاه وأرادوا قتله دعا ربه قائلا رب إن هؤلاء قوم مجرمون كفرة ظلمة يعني فرعون وملأه فأوحى إليه ربه تعالى فأسري4 بعبادي أي بني إسرائيل إذ هم المؤمنون وغيرهم من القبط كافرون ليلا في آخر الليل وأعلمه أن فرعون وجنوده متبعون لهم ليردوهم وينكلوا بهم. وقوله تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ5 رَهْواً إِنَّهُمْ6 جُنْدٌ مُغْرَقُونَ}. إنه لما ضرب موسى البحر بعصاه فانفلق فلقتين ودخل بنو إسرائيل البحر فاجتازوه أراد موسى أن يضرب البحر ليلتئم كما كان حتى لا يدخله فرعون وجنده فيدركوهم فقال له ربه تعالى أترك البحر رهواً أي ساكنا كما كان حين دخلتموه حتى إذا دخل فرعون وجنوده أطبقناه عليهم إنهم جند مغرقون وهذا الذي حصل فنجى7 الله موسى وبني إسرائيل وأغرق فرعون وجنوده أجمعين.
__________
1 فتنا بمعنى ابتلينا وهو الأمر بالإيمان والطاعة أي عاملتهم معاملة المختبر لهم وذلك ببعث موسى وأخيه هارون عليهما السلام.
2 كأنهم هددوه بالقتل فلذا استجار بالله تعالى.
3 الرجم بالقول الكذب على الشخص والافتراء عليه كذباً والرجم بالأعمال معناه القتل بالحجارة.
4 قرأ نافع وغيره بهمزة وصل وقرأ حفص وغيره بهمزة قطع لأن الفعل ثلاثيا نحو سرى يسري سرياً وأسرى يسري إسراء.
5 المراد بالبحر هنا بحر القلزم المعروف اليوم بالبحر الأحمر ورهوا منصوب على الحال والرهوة الفجوة الواسعة مأخوذ من (رها) إذا فتح بين رجليه ومعناه: اترك البحر مفتوحاً ساكناً حتى يدخل فرعون وجنده فيهلكون.
6 جملة إنهم جند مغرقون تعليلية ومغرقون مقضياً ومحكوم بإغراقهم.
7 وكانت هذه النجاة يوم عاشوراء وهو عاشر شهر المحرم بحديث صيام اليهود فيه لأن الله أنجا فيه موسى وبني إسرائيل فصامه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه وقال نحن أولى بموسى منهم.

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجود تشابه كبير بين فرعون وكفار قريش في العلو والصلف والكفر والظلم.
2- مشروعية الاعتبار بما سلف من أحداث في الكون والائتساء بالصالحين.
3- وجوب الاستعاذة بالله تعالى والاستجارة به إذ لا مجير على الحقيقة إلا هو ولا واقي سواه.
4- مشروعية دعاء الله تعالى على الظالمين وسؤاله النصر عليهم والنجاة منهم.
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ(27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآياتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ (33)
شرح الكلمات:
كم تركوا من جنات :أي بساتين وحدائق غناء.
ومقام كريم :أي مجلس حسن ومحافل مزينة ومنازل حسنة.
ونعمة كانوا فيها فاكهين :أي نضرة عيش ولذاذته كانوا فيها ناعمين.
وأورثناها قوماً آخرين :أي بني إسرائيل.
فما بكت عليهم السماء :أي لهوانهم على الله بسبب كفرهم وظلمهم.
والأرض
وما كانوا منظرين :أي ممهلين حتى يتوبوا.
من العذاب المهين :أي قتل أبنائهم واستخدام نسائهم.
ولقد اخترناهم على علم على : أي اخترناهم على علم منا على عالمي زمانهم من الإنس والجن. وذلك لكثرة
العالمين الأنبياء منهم وفيهم.

وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء :أعطيناهم من النعم ما فيه بلاء مبين أي واضح كانفلاق البحر والمن والسلوى.
مبين
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصة موسى عليه السلام مع عدو الله فرعون عليه لعائن الرحمن قال تعالى: {كَمْ تَرَكُوا1 مِنْ جَنَّاتٍ} أي كم ترك فرعون وجنوده اللذين هلكوا معه في البحر أي تركوا كثيراً من الجنات أي البساتين والعيون الجارية فيها سقي الزروع، ومقام كريم أي منازل حسنة ومحافل مزينة بأنواع الزينة والمحفل مكان الاحتفال، ونعمه2 أي متعة عظيمة كانوا فيها فاكهين أي ناعمين مترفين وقوله تعالى: كذلك3 هكذا كانت نعمتهم فسلبناهما منهم لكفرهم بنا وتعاليهم على شرائعنا وأوليائنا، {وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ4} هم بنو إسرائيل إذ رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون. وقوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} ، لأنهم كانوا كافرين لم يعملوا على الأرض خيراً ولم يعرج إلى السماء من عملهم خيرٌ فلم يبكون إنما يبكي المسلم تبكيه الأرض التي كان يسجد عليها ويعبد الله تعالى فوقها وتبكيه السماء التي كان كل يوم وليلة يصعد إليها عمله الصالح، وقوله وما كانوا منظرين أي ممهلين بل عاجلهم الرب بالعقوبة, ولم يمهلهم علهم يتوبون لعلم الله تعالى بطبع قلوبهم وكم واعدوا موسى إن رفع عنهم العذاب يؤمنون, وماآمنوا. وقوله تعالى ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين هذه بعض أياديه على بني إسرائيل وهي أنه نجاهم من العذاب المهين الذي كان فرعون وقومه يصبونه عليهم إذ كانوا يذبحون أبنائهم ويستحيون نسائهم للخدمة والامتهان وأي عذاب مهين أكبر من هذا؟ من فرعون أي من عذاب فرعون الذي كان ينزله بهم إنه كان عالياً من المسرفين أي كان فرعون جباراً طاغياً من المسرفين في الكفر والظلم. وقوله تعالى {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ} أي بني إسرائيل على علم أي منا على العالمين أي عالمي زمانهم من الثقلين الإنس والجن, وقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُمْ} أي أعطيناهم من الآيات { مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ5} أي اختبار عظيم ومن تلك الآيات انفلاق البحر،
__________
1 كم للتكثير كرب للتقليل غالباً.
2 النعمة بفتح النون التنعيم يقال نعمه فتنعم، والنعمة بالكسر اليد والصنيعة والمنة وما أنعم به على المرء ومثلها النعماء والنعمى.
3 كذلك قيل الأمر كذلك فيوقف على كذلك وقيل كذلك أفعل بمن عصاني أو كذلك كان أمرهم.
4 يرى بعضهم أن المراد بقوم آخرين أنهم غير بني إسرائيل وإنما هم من الأقباط أهل مصر أنفسهم لأن بني إسرائيل لم يعودوا إلى مصر بعد أن خرجوا منها مستدلاً بأن الله تعالى قال {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ} ولم يقل (ولقد نجيناهم) فيعود الضمير على بني إسرائيل لكن في آية الشعراء قال تعالى {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ} فهذا نص صريح وطريق الجمع أن يقال أن بني إسرائيل بعد موت موسى وانتصارهم على الكنعانيين والعمالقة وإقامة دولة في فلسطين دخلوا مصر وحكموها أما على عهد سليمان فإنهم حكموا غالب المعمورة وهذا وجه الجمع والله أعلم.
5 في هذا البلاء المبين أربعة أوجه ذكرها القرطبي وهي نعمة ظاهرة –عذابه شديد- اختبار يتميز به الكافر من المؤمن – ابتلاء بالشدة والرخاء.

وتظليل الغمام لهم والمن والسلوى في التيه إلى غير ذلك مما هو اختبار عظيم لهم أيشكرون أم يكفرون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات :
1- بيان سنة الله في سلب النعم وإنزال النقم بمن كفر نعم الله ولم يشكرها فعصى ربه وأطاع هواه ونفسه فترك الصلاة واتبع الشهوات وترك القرآن واشتغل بالأغاني، وأعرض عن ذكر الله واقبل على ذكر الدنيا ومفاتنها.
2- بيان هوان أهل الكفر والفسق على الله وعلى الكون كله، وكرامة أهل الإيمان والتقوى على الله وعلى الكون كله حتى أن السماء والأرض تبكيهم إذا ماتوا.
3- ذم العلو في الأرض وهو التكبر والإسراف في كل شيء.
4- بيان أن الله يبتلي أي يختبر عباده بالخير والشر.
إِنَّ هَؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
شرح الكلمات:
إن هؤلاء :أي المشركين من قريش.
إن هي إلا موتتنا الأولى :أي لا حياة بعدها ولا موت وهذا تكذيب بالبعث الآخر.

وما نحن بمنشرين :أي بمبعوثين أحياء من قبورنا بعد موتنا.
فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين :أي فأت يا محمد بآبائنا الذين ماتوا إن كنت صادقاً في أننا بعد موتنا وبلانا نبعث أحياء من قبورنا.
أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم :أي هؤلاء المشركون خير في القوة والمناعة أم قوم تبع والذين من قبلهم كعاد.
أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين :أي أنزلنا بهم عقوبتنا فأهلكناهم إنهم كانوا قوما مجرمين.
لاعبين :أي عابثين بخلقهما لا لغرض صالح.
ما خلقناهما إلا بالحق :أي إلا لأمر اقتضى خلقهما وهو أن أذكر فيهما وأشكر.
إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين :أي إن يوم القيامة الذي يفصل فيه بين الخلائق ويحكم ميعادهم أجمعين حيث يجمعهم الله فيه.
يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً :أي يوم لا يكفي قريب قريبه بدفع شيء من العذاب عنه.
ولا هم ينصرون :أي لا ينصر بعضهم بعضا.
إلا من رحم الله :أي لكن من رحمه الله فإنه يدفع عنه العذاب وينصر.
إنه هو العزيز الرحيم :أي الغالب المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في طلب هداية قوم النبي محمد صلى الله عليه وسلم فما ذكر قصص موسى وفرعون إلا تنبيها وتذكيراً لعلهم يتذكرون فقال تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ} الأدنون الهابطين بعقولهم إلى أسوأ المستويات ما يستحون ولا يخجلون فيقولون إن هي1 إلا موتتنا الأولى منكرين للبعث والجزاء ليواصلوا كفرهم وفسقهم، فلذا قالوا وما نحن بمنشرين أي بمبعوثين أحياء من قبورنا كما تعدنا يا محمد، وإن أصررتم على قولكم بالحياة الثانية فأتوا بآبائنا الذين ماتوا {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ2} في ذلك وقولهم فأتوا وإن كنتم ليس من باب تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما شعور منهم أنه ليس وحده في هذه الدعوة بل وراءه من هو دافع له على ذلك.3
__________
1 إن هي إلا موتتنا الأولى مبتدأ وخبر نحو إن هي إلا حياتنا الدنيا فإن نافية بمعنى ما والضمير مبتدأ وما بعد إلا الخبر.
2 قيل في هذا القائل أنه أبو جهل قال للرسول صلى الله عليه وسلم يا محمد إن كنت صادقاً في قولك فابعث لنا رجلين من آبائنا أحدهما قصي بن كلاب فإنه كان رجلاً صادقاً لنسأله عما كان بعد الموت.
3 جائز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وجائز أن يكون مع المؤمنين وهذا هو الظاهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معه أصحابه يدعون بدعوته وعلى رأسهم أبو بكر الصديق ومن آمن معه من أعيان مكة وأشرافها كعثمان وعلي وعمر رضي الله عنهم أجمعين.

وقوله تعالى: {أَهُمْ1 خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّع2ٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} ؟ انهم ليسوا بخير منهم بأي حال لا في المال ولا في الرجال فكما أهلكناهم نهلك هؤلاء، وأهلكنا الأولين لأنهم كانوا مجرمين أي على أنفسهم بالشرك والمعاصي، وهؤلاء مجرمون أيضاً فهم مستوجبون للهلاك وسوف يهلكون إن لم يتوبوا فيؤمنوا ويوحدوا ويطيعوا الله ورسوله.
وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} ما خلقناهما إلا بالحق {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} هذا دليل على البعث والجزاء إذ ليس من الحكمة أن يخلق الله الكون لا لشيء ثم يعدمه ولا شيء وراء ذلك هذا من اللعب والعبث الذي يننزه عنه العقلاء فكيف بواهب العقول جل وعز إنه ما خلق الكون إلا ليذكر فيه ويشكر فمن ذكره فيه وشكره أكرمه وجزاه بأحسن الجزاء، ومن تركه وكفره أهانه وجزاه بأسوء الجزاء وذلك يتم بعد نهاية هذه الحياة ووجود الحياة الثانية وهو يوم القيامة.
ولذا قال تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} أي إنً يوم القيامة لفصل القضاء والحكم بين الناس فيما اختلفوا من التوحيد والشرك، والبرور والفجور هو ميعادهم الذي يحضرون فيه أجمعين يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً ولا هم ينصرون أي يوم لا يكفي أحد قريب كابن العم عن أحد بدفع شيء من العذاب عنه، ولا بنصر بعضهم بعضاً كما كانوا في الدنيا، وقوله تعالى إلا من رحم الله أي لكن من رحم الله في الدنيا بالإيمان والتوحيد فإنه يرحمه في الآخرة فيشفع فيه ولياً من أوليائه إنه تعالى هو العزيز أي الانتقام من أعدائه الرحيم بأوليائه. والناس بين ولي الله وعدوه فأولياؤه هم المؤمنون المتقون وأعداؤه هم الكافرون الفاجرون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- الإجرام هو سبب الهلاك والدمار كيفما كان فاعله.
3- تبع الحميرى كان عبدا3 صالحا ملكاً حاكماً وكان قومه كافرين فأهلكهم الله وأنجاه ومن معه
__________
1 الاستفهام إنكاري أي ليسوا خيرا من قوم تبع والذين من قبلهم كعاد وثمود وقد أهلكهم الله والمراد من قوم تبع أقوام ملوك التبابعة إذ تبع لقب لمن يملك بلاد اليمن كلها ككسرى للفرس وقيصر للروم.
2 في مسند أحمد رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا تسبوا تبعاً فإنه كان قد أسلم" ولذا ذكر تعالى هلاك قومه ولم يذكره معهم ويقال له أسعد ويكنى أبا كرب وكان قبل البعثة المحمدية بألف سنة أو ما يقارب ذلك وقصة حياته مشهورة في كتب السيرة وفي كتابنا هذا الحبيب بيان ذلك.
3 إنه غزا المدينة بعد عودته من غزو العراق وأراد خرابها ثم ترك لما علم من قبل اليهود أنها مهاجر نبي اسمه أحمد فقال شعراً تركه عند أهلها فتوارثوه كابراً عن كابر إلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فأدوه إليه ومر بالكعبة فكساها وهذا شعره:
شهدت على أحمد أنه
رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره
لكنت وزيرا له وابن عم

من المؤمنين الصالحين ففي هذا الملك الصالح عبرة لمن يعتبر.
4- تنزه الرب تعالى عن اللعب والعبث فيما يخلق ويهب، ويأخذ ويعطي ويمنع.
5- يوم القيامة وهو يوم الفصل ميعاد الخليقة كلها حيث تجمع لفصل القضاء.
6- لا تنفع قرابة ولا خلة ولا صداقة يوم القيامة، ولكن الإيمان والعمل الصالح.
إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
شرح الكلمات:
إن شجرت الزقوم :أي الشجرة التي تثمر الزقوم وهي من اخبث الشجر ثمراً مرارة وقبحاً.
طعام الأثيم :أي ثمرها طعام الأثيم أبي جهل وأصحابه من ذوي الآثام الكبيرة.
كالمهل :أي كدردي الزيت الأسود.
يغلي في البطون كغلي الحميم :أي الماء الشديد الحرارة.
خذوه فاعتلوه :أي يقال للزبانية خذوه فاعتلوه أي جروه بغلظة وشدة.
إلى سواء الجحيم :أي إلى وسطها.
ذق إنك أنت العزيز الحكيم :أي ذق العذاب إنك كنت تقول ما بين جبلي مكة أعز وأكرم مني.
ما كنتم به تمترون :أي إن هذا العذاب الذي كنتم تمترون به أي تشكون فيه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر النار وما فيها من ضروب العذاب قال تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ} كأبي جهل وأضرابه من ذوي الآثام، وشجرة الزقوم تنبت في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين في القبح وثمرها الذي هو الزقوم مر أشد المرارة جعلها الله تعالى

طعام الأثيم أبي جهل وذوي الآثام الكبيرة. وقوله تعالى في الإخبار عنها {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي1 الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} أ ي كدردي الزيت يغلي في بطون الآثمين كغلي الحميم أي الماء الحار الشديد الحرارة. وقوله تعالى: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى2 سَوَاءِ الْجَحِيمِ} ، ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم أي بقال للزبانية وهم الملائكة الموكلون بالنار وعذابها خذوه فاعتلوه أي ادفعوه واجذبوه بعنف إلى وسط الجحيم، ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم أي صبوا فوق رأسه الماء الحار الشديد الحرارة ويقال له: تهكما به ذق إنك أنت3 العزيز الكريم أي كما كنت تقول في الدنيا إذ كان أبو جهل يقول: ما بين جبلي مكة أعز وأكرم مني، وكان يجمع أولاده ويضع بين أيديهم الزبدة وتمر العجوة ويقول لهم تزقموا هذا هو الزقوم الذي يهددنا به محمد اللهم صلي وسلم على نبينا محمد وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} أي يقال لهم إن هذا أي العذاب الذي كنتم تشكون في أنه كائن يوم القيامة، وذلك لتكذيبهم بالبعث والجزاء يوم القيامة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- عظم عذاب النار وفظاعة ما يلاقيه ذوو الآثام الكبيرة فيها.
3- يوجد شجرة بأريحا من الغور لها ثمر كالتمر حلو عفيص، لنواه دهن عظيم المنافع عجيب الفعل في تحليل الرياح الباردة وأمراض البلغم وأوجاع المفاصل والنقرس وعرق النسا والريح اللاحجة في حق الورك، يشرب منه زنة سبعة دراهم ثلاثة أيام، وربما أقام الزمنى، والمقعدين. ذكر هذا صاحب حاشية الجمل على الجلاليين عند تفسير هذه الآية. ولو أمكن أخذ هذا الثمر واستخراج زيته وتداوي به لكان خيرا.
4- من أشد أنواع العذاب في النار العذاب النفسي بالتهكم والسخرية من المعذبين وهو العذاب المهين الذي يهين المعذبين ويدوس كرامتهم.
__________
1 قرأ نافع تغلي بالتاء وقرأ حفص بالياء على رجوع الضمير إلى الطعام لا إلى المهل.
2 العتل القود بعنف وشدة. وقرأ نافع فاعتلوه بضم التاء وقرأ حفص فاعتلوه بجر التاء.
3 هذا مقول قول محذوف تقديره: قولوا له ذق.. والذوق مستعار للإحساس وصيغة الأمر هنا مستعملة في الإهانة وجملة. إنك أنت العزيز الكريم جملة تعليلية للأمر قبله ذق إنك. والمراد بها التهكم والإزدراء إذ المراد أن أنت الذليل المهان.

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
شرح الكلمات:
إن المتقين في مقام أمين :أي إن الذين اتقوا ربهم في الدنيا فآمنوا وعملوا الصالحات بعد اجتناب الشرك والمعاصي في مجلس آمين لا يلحقهم فيه خوف بحال.
في جنات وعيون :هذا هو المقام الأمين.
من سندس وإستبرق :أي مارق من الديباج، وما غلظ منه.
متقابلين :أي لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لأن الأسرة تدور بهم.
كذلك، وزوجناهم :أي الأمر كذلك وزوجناهم.
بحور عين :أي بنساء بيض واسعات الأعين.
يدعون فيها :أي يطلبون الخدم فيها أن يأتوهم بكل فاكهة.
آمنين :أي من انقطاعها ومن مضراتها ومن كل مخوفٍ.
لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة :أي لكن الموتة الأولى فقد ذاقوها.
الأولى
فإنما يسرناه بلسانك :أي سهلنا القرآن بلغتك.
لعلهم يتذكرون :أي يتعظون فيؤمنون ويوحدون لكنهم لا يؤمنون.
فارتقب إنهم مرتقبون :أي فانتظر هلاكهم فإنهم منتظرون هلاكك.

معنى الآيات:
لما ذكر تعالى حال أهل النار عقب عليه بذكر حال أهل الجنة وهذا هو أسلوب الترغيب والترهيب الذي تميز به القرآن
الكريم لأنه كتاب دعوة و هداية زيادة على أنه كتاب تشريع وأحكام فقال عز قائل :{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي1 مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون} فأخبر تعالى أن الذين اتقوه في الدنيا فآمنوا به وأطاعوه في أمره و نهيه ولم يشركوا به هؤلاء في مقام أمين أي في مجلس آمن لا يلحقهم فيه خوف، وبين ذلك المقام الآمن بقوله {فِي جَنَّاتٍ} أي بساتين وعيون. يلبسون أي ثيابهم من2 سندس واستبرق، والسندس مارق من الحرير والاستبرق ما غلظ منه، وقوله متقابلين أي لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لأن الأسرة التي هم عليها تدور. وقوله تعالى :{كَذَلِكَ} أي الأمر كذلك أي كما وصفنا وزوجناهم بحور3 عين، الحوراء من النساء البيضاء ومن في عينيها حور وهو كبر بياض العين على سوادها والعين جمع عيناء وهو واسعة العينين. وقوله {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} أي يطلبون الخدمة أن يوافوهم بكل فاكهة حال كونهم آمنين من انقطاعها ومن ضررها ومن كل مخوف يلحق بسببها أو بسبب غيرها.
وقوله تعالى :{لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى}4 أي لا يذوقون في الجنة الموت بعد الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا فإن أهلها لا يمرضون ولا يهرمون ولا يموتون وقوله تعالى :{وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}، وهذا دال على أن غير المتقين من الموحدين قد يذوقون عذاب الجحيم قبل دخولهم الجنة بخلاف المتقين فإنهم لا يدخلون النار البتة وقوله تعالى: {فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ} أي كان ذلك الإنعام و التكريم فضلا من ربك إذ لم يستوجبوه لمجرد تقواهم وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم "سددوا وقاربوا وأبشروا واعلموا أنه لن يدخل أحدكم الجنة عمله" قالوا ولا أنت يا سول الله قال "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل". وقوله ذلك هو الفوز العظيم. أي النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم وهو كما في قوله من سورة آل عمران:{ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}.
وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون5َ} أي فإنما سهلنا القرآن بلغتك العربية
__________
1 المقام بضم الميم مكان الإقامة، والمقام بالفتح مكان القيام ويتناول السكن وما يتبعه. وقرأه نافع بضم الميم وقرأه حفص بفتح الميم.
2 من سندس من لبيان الجنس والمبين محذوف دل عليه يلبسون أي ثياباً.
3 عن ابن مسعود أن المرأة من الحور العين ليرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم. وقال مجاهد إنما سميت الحور حوراً لأنهن يحار الطرف في حسنهن وبياضهن وصفاء لونهن ولا منافاة بين هذه الصفات. وروى أن خراج القمامة من المسجد مهور الحور العين في أثرين أحدهما عن أنس ونصه كنس المساجد مهور الحور العين.
4 الاستثناء منقطع أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا.
5 الباء سببية أي يسرناه للحفظ والفهم بسبب لغتك العربية إذ المراد باللسان اللغة لا الجارحة المعروفة.

لعلهم يتذكرون فيتعظون فيؤمنون ويتقون. لكن أكثرهم لم يتعظ فارتقب ما يحل بهم فإنهم منتظرون ما يكون لك من نجاح أو إخفاق.
هداية الآيات:
من هداية الآيات :
1- فضل التقوى وكرامة أهلها والتقوى هي خشية من الله تحمل على طاعة الله بفعل محابه وترك مكارهه.
2- بيان شيء من نعيم أهل الجنة ترغيباً في العمل لها.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
4- بيان الحكمة من تسهيل فهم القرآن الكريم وهو الاتعاظ المقتضي للتقوى.

سورة الجاثية
...
سورة الجاثية
مكية وآياتها سبع وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)
شرح الكلمات:
حم : هذا أحد الحروف الهجائية يكتب هكذا: حم ويقرأ هكذا: حاميم
تنزيل الكتاب :أي القرآن.
من الله العزيز الحكيم :أي من عند الله العزيز الانتقام من أعدائه الحكيم في تدبيره.

إن في السموات والأرض :أي إن في خلق السموات والأرض.
لآيات :أي لدلالات واضحات على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته وهي موجبات الربوبية و الألوهية له وحده دون سواه.
للمؤمنين :أي لأنهم بالإيمان أ؛ياء يبصرون ويسمعون فيرون الآيات.
وفي خلقكم :أي وفي خلقكم أيها الناس وتركيب أعضائكم وسلامة بناينكم.
وما بث من دابة :أي وما خلق ونشر من أنواع الدواب من بهائم وغيرها.
آيات لقوم يوقنون :أي علامات على قدرة الله تعالى على البعث الآخر إذ الخالق لهذه العوالم قادر على إعادتها بعد موتها، ولكن هذه الآيات لا يراها إلا القوم الموقنون في إيمانهم بربوبية الله وألوهيته وصفات الجلال والكمال له.
واختلاف الليل والنهار :أي بمجيء هذا وذهاب ذاك وطول هذا وقصر ذاك على مدى الحياة.
وما أنزل الله من السماء من رزق :أي من مطر، وسمي المطر رزقاً لأنه يسببه.
فأحيا به الأرض بعد موتها :أحيا بالمطر الأرض بعد موت نباتها بالجدب.
وتصريف الرياح :أي من صبا إلى دبور، ومن شمال إلى جنوب، ومن سموم إلى باردة ومن نسيم إلى عاصفة.
آيات لقوم يعقلون :أي في اختلاف الليل والنهار وإنزال المطر وإحياء الأرض وتصريف الرياح دلالات واضحة على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته واقتضاء ذلك ربوبية الله وألوهيته، لقوم يعقلون أي يستعملون عقولهم في إدراك الأشياء واستنتاج النتائج من مقدماتها.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {حم}: الله أعلم بمراده به إذ هو من المتشابه الذي أمرنا أن نؤمن به ونفوض أمر معناه إلى من أنزله سبحانه وتعالى. وقد ذكرنا مرات فائدتين لهذه الحروف المقطعة فلتراجع في أكثر السور المفتتحة بالحروف المقطعة كحم الدخان السورة التي قبل هذه السورة. وقوله

تعالى تنزيل1 الكتاب من الله العزيز الحكيم أي تنزيل القرآن كان من عند الله العزيز أي الانتقام من أعدائه الحكيم في تدبير أموره خلقه وقوله تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي في خلقهما وإيجادهما وما فيها من عجائب الصنعة كآيات للمؤمنين2 تدلهم على استحقاق ربهم للعبادة دون سواه من سائر خلقه، وخص المؤمنون بهذه الآيات لأنهم أحياء يسمعون ويبصرون ويعقلون فهم إذا نظروا في السموات والأرض تجلت لهم حقائق أن الخالق لهذه العوالم لن يكون إلا قادراً عليماً حكيماً عزيزاً ومن ثم وجب أن لا يعبد إلا هو، وكل عبادة لغيره باطلة.
وقوله: وفي خلقكم أيها الناس أي في أطوار خلقكم من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى بشر سوى الخلقة معتدل المزاج والتركيب له سمع وبصر ونطق وفكر.
وما يبث من دابة أي وما يخلق وما يفرق وينشر في الأرض من أنواع الدواب والبهائم والحيوانات على اختلافها من برية وبحرية آيات لقوم3 يوقنون أي يوقنون في إيمانهم بالله تعالى وآياته، كما يوقنون بحقائق الأشياء، الثابتة لها فالواحد مع الواحد اثنان والموجود ضد المعدوم، والأبيض خلاف الأسود، والابن لابد به من أب، والعذب خلاف المر فأصحاب هذا اليقين يرون في خلق الإنسان والحيوان آيات دالة على وجود الله وعلمه وعزته وحكمته وقدرته على البعث والجزاء الذي أنكره عادموا العقول من المشركين والكافرين. وقوله: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَار} أي بتعاقبهما بمجيء الليل وذهاب النهار، والعكس كذلك وبطول أحدهما وقصر الآخر تارة والعكس كذلك وما أنزل الله من السماء من رزق أي من مطر هو سبب الرزق فأحيا به الأرض بعد موتها بيبس النبات وموته عليها، وتصري الرياح من صبا إلى دبور، ومن شمال إلى جنوب ومن رخاء لينة إلى عاصفة ذات برد أو سموم إن في المذكورات آيات حججاً ودلائل دالة على وجود عبادة الله وتوحيده في ذلك، ولكن لقوم4 يعقلون أي لذوي العقول النيرة السليمة. أم الذين لا عقول لهم فلا يرون ولا في غيرها آية فضلا عن آياتٍ.
__________
1 تنزيل الكتاب مبتدأ خبره من الله وإيثار وصفي العزيز الحكيم من بين أسماء الله وصفاته الإيماء إلى أن هذا الكتاب ذو نبأ عظيم فهو عزيز بعزة منزله لا يقدر على مثله وذو حكم لا يخلو منها.
2 كون الآيات للمؤمنين دون الكافرين باعتبار أنهم هم المنتفعون بها لأنهم يسمعون ويبصرون ويعقلون والكافرون فاقدون لذلك فلم تكن الآيات لهم لعدم انتفاعهم بها.
3 اليقين لا يكون إلا بعد الإيمان فالإيمان يثمر اليقين فالمؤمن يرى في خلق السموات والأرض أي في إيجادهما على ما هما عليه آيات على قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته فيرتفع إيمانهم إلى مرتبة اليقين فيرون في أدق الأشياء كالأجنة في الأرحام وما هو أخفى يرون فيه آيات تزيد في يقينهم وتحملهم على حبهم لله وطاعتهم له والتقرب إليه.
4 والعقل مرتبة ثالثة بعد الإيمان واليقين في باب الاهتداء فالذي يرى اختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار وما ينجم عنها من نباتات وزروع ولم يهتد إلى الإيمان فيؤمن قهو غير عاقل ولا يصح نسبته إلى العقلاء.

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- عظم شأن القرآن الكريم لأنه تنزيل الله العزيز الحكيم.
2- الإيمان أعم من اليقين ومقدم عليه في الترتيب واليقين أعلى في الرتبة.
3- فضل العق1ل السليم إن استخدم في الخير وما ينفع.
4- تقرير ألوهية الله تعالى بتقرير ربوبيته في الخلق والتدبير والعلم والحكمة.
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
شرح الكلمات:
تلك آيات الله : أي تلك الآيات المذكورة آيات الله أي حججه الدالة على وحدانيته.
نتلوها عليك بالحق :أي نخبرك عنها بالحق لا بالباطل كما يخبر المشركون عن آلهتهم أنها تقربهم إلى الله زلفى كذبا وباطلا.
فبأي حديث بعد الله وآياته :أي فبأي حديث أيها المشركون بعد حديث الله هذا الذي يتلوه عليكم وبعد حججه هذه.
تؤمنون :أي تصدقون والجواب أنكم لا تؤمنون.
ويل لكل أفاك أثيم :أي عذاب الويل لكل كذاب ذي آثام كبيرة وكثيرة.
__________
1 من شروط التكليف العقل بلا خلاف بين أئمة الإسلام والكافر غير مكلف بفروع الشريعة أيضاً لأنه لو عقل لآمن ولو آمن لكلف فالكافر لا يسمع ولا يبصر ولا يعقل فكيف يكلف؟

يسمع آيات الله تتلى عليه :أي يسمع آيات القرآن كتاب الله تقرأ عليه.
ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها :أي ثم يصر على الكفر حال كونه مستكبراً عم الإيمان والتوحيد كأن لم يسمعها.
وإذا علم من آياتنا شيئاً :أي إذا بلغه شيء من القرآن وعلم أنه من القرآن.
اتخذها هزوا :أي اتخذ تلك الآية أو الآيات مهزواً بها متهكما ساخراً منها.
له عذاب مهين :أي ذو إهانة لهم يهانون به وتكسر أنوفهم.
من ورائهم جهنم :أي أمامهم جهنم وذلك يوم القيامة، والوراء يطلق على الأمام كذلك.
ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً :أي لا يكفى عنهم ما كسبوه من المال والأفعال التي كانوا يعتزون بها شيئاً من الإغناء.
ولا ما اتخذوا من دون الله من :أي ولا يغني عنهم كذلك ما اتخذوه من أصنام آلهة عبدوها دون الله تعالى.
أولياء
هذا هدىً :أي هذا القرآن الذي أنزله الله تعالى على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم هدىً أي كله حجج وبراهين ودلالات هادية.
والذين كفروا بآيات ربهم :أي والذين كفروا بالقرآن فلم يهتدوا به وبقوا على ضلالهم من الشرك والمعاصي.
لهم عذاب من رجز أليم :أي لهم عذاب موجع من نوع الرجز وهو أشد أنواع العذاب.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في طلب هداية قريش فبعد أن بين تعالى آياته في الآفاق وفي الأنفس قال لرسوله صلى الله عليه وسلم1 تلك آيات الله أي تلك الآيات المذكورة أي آيات الله أي حججه الدالة على وجوده وعلمه وقدرته وموجبة لربوبيته على خلقه و ألوهيته فهو الإله الحق الذي لا إله إلا هو حق سواه.
وقوله فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون أي إن لم يؤمن هؤلاء المشركون بالله رباً وإلهاً ولا رب غيره ولا إله سواه، وبآياته القرآنية الحاملة للهدى والخير والنور فبأي شيء يؤمنون أي يصدقون لا شيء يؤمنون لأن الاستفهام إنكاري والإنكار كالنفي في معناه. وقوله {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ2} يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها هذا
__________
1 أشار إليها بلام البعد للدلالة على علو شأنها وعزة مرامها ولولا هذا لقال هذه آيات الله لقرب ذكرها.
2 صاحب هاتين الصفتين كثرة الإفك وكثرة الإثم هو في خبث نفسه كالشياطين سواء بسواء إذ مثله هو الذي تنزل عليه الشياطين ويتحد معها على الخبث والكفر والشر والإفساد.

وعيد من الله تعالى شديد لكل كذاب يقلب الكذب فيصف الطاهر بالخبيث والخبيث بالطيب والكاذب بالصادق، والصادق بالكاذب أثيم منغمس في كبائر الإثم والفواحش. يسمع هذا الأفاك الأثيم آيات الله تتلى عليه وهي القرآن الكريم، ثم يصر على الكفر مستكبراً عن الإيمان وبما يدعوا إليه من التوحيد كأن لم يسمع تلك الآيات. قال تعالى لرسوله فبشره1 بعذاب أليم وقوله تعالى وإذا علم أي ذلك الأفاك الأثيم من آياتنا شيئاً كأن تبلغه الآية أو الآيات من القرآن اتخذها هزواً أي أخذ يهزأ بها ويسخر منها، ويواصل ذلك فيجعلها هزواً بها، قال تعالى: أولئك أي الأفاكون الآثمون وما أكثرهم لهم عذاب مهين أي فيه إهانة زائدة تنكسر منها أنوفهم التي كانت تأنف الحق وتستكبر عنه. وقوله تعالى: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} هذا وعيد لهم تابع للأول إذ أخبر تعالى أن من ورائهم جهنم وذلك يوم القيامة ولفظ الوراء يطلق ويراد به الأمان فهو من الألفاظ المشتركة في معنيين فأكثر وقوله {وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا2 شَيْئاً} أي ولا يكفي عنهم أموالهم ولا أولادهم ولا جاههم ولا كل ما كسبوا في هذه الدنيا أي لا يدفع ذلك عنهم شيئا من العذاب، وكذلك لا تغني عنهم آلهتهم التي عبدوها من دون الله شيئا من دفع العذاب. ولهم عذاب عظيم لا يقادر قدره، وكيف والعظيم جل جلاله وصفه بأنه عظيم.
وقوله تعالى: {هَذَا هُدىً3} أي هذا القرآن هدى أي يخرج من الضلالة إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان ومن الشرك إلى التوحيد لما فيه من الهدى والنور، ولما يدعو إليه من الحق والعدل والخير والذين كفروا به وأعرضوا عنه وهو آيات الله وحججه على خلقه هؤلاء لهم عذاب من رجز أليم أي عذاب هو من أشد أنواع العذاب لأنهم بالكفر بالآيات لم يزكوا أنفسهم ولم يطهروها فماتوا على أخبث النفوس وشرها فلا جزاء لهم إلا رجز العذاب.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- القرآن نور و أعظم نور فمن لم يهتد عليه لا يرجى له الهداية أبداً.
2- الوعيد الشديد لأهل الإفك و الآثام, و الإفك الكذب المقلوب.
3- شر الناس من إذا سمع آيات الله استهزأ وسخر منها أو ممن يتلوها.
__________
1 البشارة تكون بالخبر السار الذي تتهلل به البشرة بالبشر والطلاق و التبشير بالعذاب يورث اسوداد الوجه وكلوحه فالبشارة هنا من باب التهكم به أو لكون البشرة تتغير للخبر فصح إطلاق البشارة عليه.
2 في الآية إشارة إلى أن أصحاب هذه الصفات يكونون من أرباب الأموال لأنهم يكتسبونها بكل وسيلة ولو ببيع عقولهم وضمائرهم وأموالهم والمحافظة عليها من عوامل ردهم لدعوة الإسلام ومحاربتها كما هو مشاهد.
3 هذا هدى أي هذا القرآن هدى في ذاته وما يدعوا إليه ومن كفر به فحرم الهداية فلم يهتد فلا جزاء له إلا جزاء العذاب الأليم.

4- لم يغن عمن مات على الكفر شيء من كسب في هذه الحياة الدنيا من مال وولد وجاه وسلطان.
5- لم يغن عن المشرك ما كان يعبد من دون الله أو مع الله من أصنام وأوثان وملائكة أو أنبياء أو أولياء.
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
شرح الكلمات:
الله الذي سخر لكم البحر : أي الله المعبود بحق لا الآلهة الباطلة سخر لكم أي لأجلكم البحر بأن جعله أملس تطفو فوقه الأخشاب ونحوها.
لتجري الفلك فيه بأمره :أي جعله كذلك لتجري السفن فيه بإذن الله تعالى.
ولتبتغوا من فضله :أي لتسافروا إلى طلب الرزق من إقليم إلى إقليم.
ولعلكم تشكرون :أي رجاء أن تشكروا نعم الله عليكم.
وسخر لكم ما في السموات :أي من شمس وقمر ونجوم ورياح وماء أمطار.
وما في الأرض جميعا :أي وما في الأرض من جبال وأنهار وأشجار ومعادن منه تعالى.
إن في ذلك لآيات :أي علامات ودلائل وحجج على وجود الله وألوهيته.
لقوم يتفكرون :أي لقوم يستخدمون عقولهم فيتفكرون في وجود هذه المخلوقات ومن أوجدها ولماذا أوجدها فتتجلى لهم حقائق وجود الله وعلمه وقدرته ورحمته فيؤمنوا ويوحدوا.
قل للذين آمنوا يغفروا :أي قل يا رسولنا للمؤمنين من عبادنا يغفروا أي يتجاوزوا

ولا يؤخذوا.
الذين لا يرجون أيام الله :أي لا يتوقعون أيام الله أي بالإدالة منهم للمؤمنين فيذلهم الله وينصر المؤمنين عليهم وهم الرسول وأصحابه وهذا قبل الأمر بجهادهم.
ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون :أي ليجزي تعالى يوم القيامة قوماً منهم وهم الذين علم تعالى أنهم لا يؤمنون بما كسبوه من أذى الرسول والمؤمنين.
من عمل صالحاً فلنفسه :أي فهو الذي يرحم ويسعد به.
ومن أساء فعليها :أي ومن عمل سوءاً فالعقوبة تحل به لا بغيره.
ثم إلى ربكم ترجعون :أي يعد الموت ويحكم بينكم في ما كان بينكم من خلاف وأذى.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في هداية قوم النبي صلى الله عليه وسلم فقوله تعالى: { اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ1} تذكير لأولئك المعرضين بالحجج والآيات الدالة على وجوب الإيمان بالله وتوحيده وطاعته فهو تعالى يعرفهم أن ما بهم من نعم هي من الله لا من غيره من تلك الآلهة الباطلة. الله لا غيره هو الذي سخر لكم أي ذلل ويسر وسهل ما في السموات من شمس وقمر ونجوم وسحب وأمطار ورياح لمنافعكم، وسخر لكم ما في الأرض من جبال وأشجار وأنهار وبحار ومعادن وحيوانات على اختلافها كل ذلك منه2 وهو وهبه لكم، إن في ذلك المذكور من إنعام الله عليكم بكل ما سخر لكم لآيات لقوم3 يتفكرون فيهديهم تفكيرهم إلى وجوب حمد الله تعالى وشكره بعد أن آمنوا به ووحدوه في ربوبيته وألوهيته. وقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا4 يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ5 لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. يأمر الله تعالى رسوله أن يقول لصحابته أيام الخوف في مكة قبل الهجرة اصفحوا وتجاوزوا عمن يؤذيكم من كفار قريش، ولا تردوا الأذى بأذى مثله بل اغفروا لهم ذلك وتجاوزوا عنه، وقد نسخ هذا بالأمر بالجهاد.
وقوله تعالى {لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} تعليل للأمر بالصفح والتجاوز أي ليؤخر لهم
__________
1 ذكر تعالى في هذه الآيات كمال قدرته وتمام نعمته على عباده وبين أمه خلق ما خلق لمنافعهم.
2 منه من ابتدائية أي جميع ذلك المذكور المسخر من عند الله تعالى ليسر لغيره فيه أدنى شركة وموقع (منه) موقع الحال أي سخر لكم ما سخر حال كونه منه.
3 التفكر هو منبع الإيمان واليقين والعقل إذا من فكر عقل ومن عقل آمن ومن آمن أيقن ومن أيقن طلب النجاة من النار والفوز بالجنان بالإيمان وصالح الأعمال بعد ترك الشرك والمعاصي.
4 يغفروا مجزوم لأنه في جواب الأمر (قل) وجائز أن يكون مجزوما بتقدير لام الأمر محذوفة أي ليغفروا.
5 جائز أن يراد بأيام الله ثوابه وعقابه أو نصره لأوليائه وإيقاعه بأعدائه. أو البعث الآخر ولقائه.

ذلك إلى يوم القيامة ويجزيهم به أسوأ الجزاء لأنه كسب من شر المكاسب إنه أذية النبي والمؤمنين أولياء الله، وفي تنكير قوما يدل على أن بعضهم سيؤمن ولا يعذب يوم القيامة فلا يعذب إلا من مات على الكفر والشرك منهم.
قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ1} أي من عمل صالحاً في هذه الحياة الدنيا من إيمان وطاعة لله ولرسوله في أوامرهما ونواهيهما فزكت بذلك نفسه وتأهل لدخول الجنة فإن الله يدخله الجنة ويكون عمله الصالح قد عاد عليه ولم يعد على غيره إن الله غني عن عمل عباده، وغير العامل لا تطهر نفسه ولا تزكو بعمل لم يباشره بنفسه، وقوله من أساء أي في حياته فلم يؤمن و لم يعمل صالحاً يزكي به نفسه، فجزاء كسبه السيء من الشرك والمعاصي عائد على نفسه عذاباً في النار وخلوداً فيها.2
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} أي إنكم أيها الناس بعد هذه الحياة وما عملتم فيها من صالح وسيء ترجعون إلى الله يوم القيامة ويجزيكم كلاً بحسب عمله الخير بالخير والشر بمثله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد والبعث3 والجزاء والنبوة.
2- بيان علة الإنعام الإلهي على العبد وهي أن يشكر الله تعالى بحمده والثناء عليه وصرف تلك النعم في مرضاته تعالى لا في معاصيه الموجبة لسخطه.
3- مشروعية التسامح مع الكفار والتجاوز عن أذاهم في حال ضعف المسلمين.
4- تقرير قاعدة أن المرء لا يؤخذ بجريرة غيره.
5- تقرير أن الكسب يؤثر في النفس ويكون صفة لها و به يتم الجزاء في الدار الآخرة من خير وغيره قال تعالى سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم (الأنعام).
__________
1 العمل الصالح شرطه الإيمان ولذا ما ذكر العمل الصالح في القرآن إلا والإيمان مقرناً به إلا ما ندر كهذه الآية.
2 الخلود في النار خاص بالمشركين والكافرين أما أهل الإيمان والتوحيد فلا يخلدون في النار لحسنة الإيمان والتوحيد.
3 هذه الأصول الثلاثة عليها مدار استقامة العبد وجل السور المكية تعالجها فلا تكاد توجد سورة تخلو من تحقيقها والدعوة إليها.

وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
شرح الكلمات:
الكتاب :أي التوراة لأنها الحاوية للأحكام الشرعية بخلاف الزبور والإنجيل.
والحكم :أي الفصل في القضايا بين المتنازعين على الوجه الذي يحقق العدل.
والنبوة ورزقناهم من الطيبات :أي جعلنا فيهم النبوة كنبوة موسى وهارون وداود وسليمان, ورزقهم من الطيبات كالمن و السلوى وغيرهما.
وفضلناهم على العالمين :أي على عالمي زمانهم من الأمم المعاصرة لهم.
إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا :أي لم يخلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بغياً بينهم أي حسداً للعرب أولاد إسماعيل أن تكون النبوة فيهم.
ثم جعلناك على شريعة1 من الأمر :أي ثم جعلناك يا رسولنا على شريعة من أمر الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده.
__________
1 الشريعة لغة المذهب و الملة و يقال لمشرعة الماء أي مشرعة الشاربة شريعة ومنه الشارع لأنه طريق إلى المقصد فالشريعة ما شرع الله لعباده من الدين و الجمع شرائع.

فأتبعها :أي ألزم الأخذ بها والسير على طريقتها فأنها تفضي بك إلى سعادة الدارين.
ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون : من مشركي العرب ومن ضلال أهل الكتاب.
إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا :أي إن أنت تركت ما شرع لك واتبعت ما يقترحون عليك أن تفعله مما يوافق أهواءهم إنك إن اتبعتهم لن يدفعوا عنك من العذاب الدنيوي والأخروي شيئا.
وإن الظالمين بعضهم أولياء :أي ينصر بعضهم بعضا في الدنيا أما في الآخرة فإنهم لا ينصرون.
بعض
والله ولي المتقين : أي متوليهم في أمورهم كلها وناصرهم على أعدائهم.
هذا بصائر للناس وهدى :أي هذا القرآن أي أنوار هداية يهتدون به إلى ما يكملهم ويسعدهم، وهدى ورحمة، ولكن لأهل اليقين في إيمانهم فهم الذين يهتدون به ويرحمون عليه أما غير الموقنين فلا يرون هداه ولا يجدون رحمته لأن شكهم وعدم إيقانهم يتعذر معهما أن يعملوا به في جد وصدق وإخلاص.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في طلب هداية قوم النبي صلى الله عليه وسلم فعرض عليهم حالاً شبيهة بحالهم لعلهم يجدون فيها ما يذكرهم ويعظهم فيؤمنوا ويوحدوا قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي1 إِسْرائيلَ} أي أعطينا بني إسرائيل وهم أولاد يعقوب الملقب بإسرائيل وهو ابن اسحق بن إبراهيم خليل الرحمن آتيناهم { الْكِتَابَ} التوراة { وَالْحُكْمَ} وهو الفقه بأحكام الشرع والإصابة في العمل والحق فيها ثمرة إيمانهم وتقواهم {وَالنُّبُوَّة} فجعلنا منهم أنبياء ورسلاً كموسى وهارون ويوسف وداود وسليمان وعيسى، وفضلناهم2 على العالمين أي على فرعون وقومه من الأقباط، وعلى من جاور بلادهم من الناس، وذلك أيام إيمانهم واستقامتهم، وآتيناهم بينات3 من الأمر أمر الدين تحملها التوراة والإنجيل { فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} الإلهي يحمله القرآن ونبيه فاختلفوا فيما كان عندهم من الأنباء عن نبي آخر الزمان ونعوته وما سيورثه الله وأمته من الكمال الدنيوي والأخروي فحملهم بغي حدث
__________
1 ذكر تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ما أعطى بني إسرائيل من إفضالات ثم ذكر ما أعطاه هو صلى الله عليه وسلم ليكون ذلك جارياً على سنته في إكرام من يشاء من عباده فلا يكون ذلك داعياً إلى إنكار المشركين ولا أهل الكتاب نبوة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لو كانوا يعقلون.
2 بأن جمع الله لهم بين استقامة الدين والخلق وبين حكم أنفسهم بأنفسهم وبين أصول العدل فيهم مع حسن العيش وشمول الأمن والرخاء لهم.
3 أي علمناهم حججا وعلوما في أمر دينهم ونظام حياتهم بحيث يكونون على بصيرة في تدبير مجتمعهم وعلى سلامته من الشرور والمفاسد.

بينهم وهو الحسد على الكفر فكفروا به وكذبوه فهذه الآية نظيرها آية البقرة: { فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} وكقوله في سورة البينة { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً} وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة، ومن جهة أخرى إعلام منه تعالى بأنه سيحكم بينهم ويفصل ويؤدي كل واحد ثمرة كسبه من خير وشر في هذه الحياة وذلك يوم القيامة.
وقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَة1ٍ مِنَ الْأَمْرِ} أي من أمر ديننا الإسلام الذي هو دين الأنبياء من قبلك فلم تختلف شريعتك في أصولها على شرائعهم، وعليه فاتبعها ولا تحد عنها متبعا أهواء الذين لا يعلمون من زعماء قريش الذين يقدمون لك اقتراحاتهم من الوقت إلى الوقت ولا أهواء ضلال أهل الكتابين من اليهود والنصارى إنهم جهال لا يعلمون هدى الله، ولا ما هو سبيل النجاة من النار والفوز بالجنة في الآخرة، ولا هو سبيل العزة والكرامة والدولة والقوة في الدنيا.
وقوله: {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أي إنك إن اتبعت أهوائهم واستوجبت العذاب لن يدفعوا عنك ولن يكفوك شيئا منه، وقوله: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي في الدنيا فيتعاونون على الباطل والشر أما في الآخرة فلا ينصر بعضهم بعضا ولا هم ينصرون من قبل أحد والله ولي المتقين، أما المتقون فالله وليهم في الدنيا والآخرة، فعليك بولاية الله، ودع ولاية أعدائه، فإنها لن تغني عنك شيئاً.
وقوله تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ 2لِلنَّاسِ} يريد القرآن الكريم إنه عيون القلوب بها تبصر النافع من الضار والحق من الباطل فمن آمن به وعمل بما فيه اهتدى إلى سعادته وكماله ومن لم يؤمن به ولم يعمل بما فيه ضل وشقي. وقوله {وَهُدىً وَرَحْمَةٌ3 لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي أن القرآن الكريم كتاب هداية ورحمة عليه يهتدي المهتدون، ويرحم المرحومون وهم الذين أيقنوا بهدايته ورحمته فعملوا به عقائد وعبادات وأحكاماً وآدابا وأخلاقاً فحصل لهم ذلك كما حصل للسلف الصالح من هذه الأمة، وما زال القرآن كتاب هداية ورحمة لكل من آمن به وأيقن فعمل وطبق بجد وصدق أحكامه وشرائعه وآدابه وأخلاقه التي جاء بها وقد كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم القرآن لقول عائشة رضي الله عنها في الصحيح كان خلقه القرآن.
__________
1 على للاستعلاء أي التمكن والثبات والشريعة الدين والملة المتبعة والأمر الشأن العظيم والأمر هو أمر الله تعالى الذي أراده لك ولأمتك من الدين المنجي المسعد في الدارين.
2 البصائر جميع بصيرة وهي إدراك العقل الأمور على حقيقتها شبهت ببصر العين.
3 القرآن هدى ورحمة لكل من يهتدي بهداه ويتعرض لرحمته العمل به وخص به لذلك أهل اليقين لأنهم القادرون على الأخذ بهدايته والتعرض لرحمته والعمل به.

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن كفر أهل الكتاب كان حسداً للنبي صلى الله عليه وسلم وقومه من العرب.
2- بيان إفضال الله تعالى على بني إسرائيل حيث أعطاهم الكتاب والحكم والنبوة.
ومع هذا اختلفوا في الحق حسداً وطمعاً في الرئاسة وإقامة مملكة بني إسرائيل من النيل إلى الفرات.
3-تقرير البعث والجزاء والنبوة والتوحيد.
4- وجوب لزوم تطبيق الشريعة الإسلامية وعدم التنازل عن شيء منها.
5- تقرير ولاية الله تعالى لأهل الإيمان به وتقواه بفعل محابه وترك مساخطه.
6- بيان أن القرآن كتاب هداية وإصلاح، ولا يتم شيء من هداية الناس وإصلاحهم إلا عليه.
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23)
شرح الكلمات:
اجترحوا السيئات :أي اكتسبوا بجوارحهم الشرك والمعاصي.
سواء محياهم ومماتهم : أي محياهم ومماتهم سواء، لا لا المؤمنون في الجنة والمشركون في النار.
ساء ما يحكمون :أي ساء حكماً حكمهم بالتساوي مع المؤمنين.
ولتجزى كل نفس بما كسبت :أي وليجزي الله كل نفس ما كسبت من خير وشر.
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه :أي أخبرني عمن اتخذ أي جعل إلهه أي معبوده هواه.

وأضله الله على علم :أي على علم من الله تعالى بأنه أهل للإضلال وعدم الهداية.
وجعل على بصره غشاوة :أي ظلمة على عينيه فلا يبصر الآيات والدلائل.
أفلا تذكرون :أي أفلا تتذكرون أيها الناس فتتعظون.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى في الآيات قبل هذه الظالمين والمتقين وجزاء كل منهم وأنه كان مختلفا باختلاف نفوس الظالمين والمتقين خبثا وطهراً ذكر هنا ما يقرر ذلك الحكم وهو اختلاف جزاء الظالمين والمتقين فقال: أم حسب1 الذين اجترحوا السيئات أي اكتيبوها بجوارحهم، والمراد بها الشرك والمعاصي أن نجعلهم كالذين آمنوا بالله ربا وإلهاً وبكل ما أمر تعالى بالإيمان به، وعمل الصالحات من إقام الصلاة وآيتاه الزكاة وصيام رمضان والجهاد والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما إلى ذلك من الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون2 أي ساء حكما حكمهم هذا ومعنى هذا أن الله تعالى أنكر على من يحسب هذا الحسبان ويظن هذا الظن الفاسد وهو أن يعيش الكافر والمؤمن في هذه الحياة الكافر يعيش على المعاصي والذنوب والمؤمن على الطاعة والحسنات ثم يموتون ولا يجزى الكافر على كفره والمؤمن على إيمانه، وأسوأ من هذا الظن ظن آخر كان ليعضهم وهو أنهم إذا ماتوا يكرمون وينعم عليهم بخير ما يكرم به المؤمن وينعم به عليهم. وهذا غرور عجيب، فأنكر تعالى عليهم هذا الظن الباطل وحكم أنه لا يسوى بين بر وفاجر، ولا بين مؤمن وكافر لأن ذلك مناف للعدل والحق والله خلق السموات والأرض بالحق، وأنزل الشرائع وأرسل الرسل ليعمل الناس في هذه الحياة الدنيا فمن آمن وعمل صالحا كانت الحسنى له جزاء، ومن كفر وعمل سوءاً كانت جهنم جزاءه، وهو معنى قوله تعالى: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ3} أي من خير وشر، وهم لا يظلمون لأن العدالة الإلهية هي التي تسود يوم القيامة وتحكم.
وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ4 مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} أي جعل معبوده ما تهواه نفسه فما هويت قولا إلا قاله، ولا عملا إلا عمله ولا اعتقاداً إلا اعتقده ضارباً بالعقل والشرع عرض الحائط فلا يلتفت
__________
1 أم للإضراب الانتقالي والاستفهام المقدر بعد أم استفهام إنكاري أي لا يحسب الذين اجترحوا السيئات أنهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات. والآية نزلت كما قال البغوي في نفر من المشركين في مكة قالوا للمؤمنين إن كان ما تقولون حقاً لنفضلن عليكم في الآخرة كما فضلنا عليكم في الدنيا.
2 ساء ما يحكمون هذه الجملة تذييل لما قبلها من إنكار حسبانه وما اتصل به من المعاني، والحياة والممات مصدران ميميان من الحياة والموت.
3 الباء للتعويض لأن ما كسبته النفس لا تجزى به وإنما تجزى بمثله وما يناسبه من خير وشر.
4 الاستفهام للتعجب من حال هذا الذي اتخذ إلهه هواه والمخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم وكل ذي أهلية لأن يفهم عن الله تعالى من المؤمنين.

إليهما ولا يستمع الى ندائهما. وقوله تعالى {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ1} أي منه تعالى حيث سبق في علمه أن هذا الإنسان لا يهتدي ولو جاءته كل آية فكتب ذلك عليه فهو كائن لا محالة، وقوله {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} أي وختم تعالى على سمعه حسب سنته في ذلك فأصبح لا يسمع الهدى ولا الحق كأنه أصم ولا يسمع، وأصبح لا يعقل معاني ما يسمع وما يقال له كأنه لا قلب له، وأصبح لما على بصره من ظلمة لا يرى الادلة ولا العلامات الهادية الى الحق والى الطريق المستقيم المفضي بسالكه إلى النجاة من النار ودخول الجنة. وقوله تعالى: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} وقد أضله الله والجواب لا أحد. كقوله تعالى من سورة النحل {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن يُضل} أي من أضله الله تعالى حسب سنته في الإضلال وهي أن يدعى العبد إلى الحق والمعروف والخير فيتكبر ويسخر ويحارب فترة يصبح بعدها غير قابل لهداية فهذا لا يهدي أحد بعد أن أضله الله تعالى.
وقوله تعالى : {أَفَلا تَذَكَّرُونَ2} أي أفلا تذكرون فتتعظون أيها الناس فتؤمنوا وتوحدوا وتعملوا الصالحات فتكملوا وتسعدوا في الدنيا وتنجو من النار وتدخلوا الجنة في الآخرة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بطلان اعتقاد الكافرين في أن الناس يحيون ويموتون بلا جزاء على الكسب صالحه وفاسده.
2- تقرير البعث والجزاء.
3- موعظة كبيرة في هذه الآية أم حسب الذين اجترحوا السيئات إلى آخرها حتى إن أحد رجال السلف الصالح قام يتهجد من الليل فقرأ حتى انتهى الى هذه الآية فأخذ يرددها ويبكي حتى طلع الفجر.
4- التنديد بالهوى والتحذير3 من اتباعه فقد يفضي بالعبد إلى ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى فيصبح معبوده هواه لا الرب تعالى مولاه.
5- التحذير من ارتكاب سنن الضلال المفضي بالعبد إلى الضلال الذي لا هداية معه.
__________
1 على علم أي أضله الله مع ما عنده من العلم الذي لو خلع عن نفسه الكبر والعناد والميل إلى الهوى لاهتدى ونجا وسعد ولكن أو على علم من الله تعالى بأنه ليس أهلاً للهداية كما في التفسير.
2 قرأ نافع تذكرون بتشديد الذال وقرأه حفص بتخفيفها الأولى على إدغام إحدى التائين في الذال فشددت والثانية على حذف إحدى التائين فخففت.
3 من الكلمات المأثورة في هذا قولهم ثلاث من المهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه.

وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26)
شرح الكلمات:
وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا :أي قال منكرو البعث ما هي إلا هذه الحياة،وليس ورائها حياة أخرى.
نموت ونحيا :أي يموت بعضنا ويحيا بعضنا ويحيا بعضنا بأن يولدوا فيحيوا ويموتوا.
وما يهلكنا إلا الدهر :أي وما يميتنا إلا مرور الزمان علينا.
وما لهم بذاك من علم :أي وليس لهم أدنى علم على قولهم لا من وحي وكتاب إلهي ولا من عقل صحيح.
إن هم إلا يظنون :أي ما هم إلا يظنون فقط والظن لا قيمة له ولا يبنى عليه حكم.
وإذا تتلى عليهم آيتنا بينات :أي وإذا قرئت عليهم الآيات الدالة على البعث والجزاء الأخرى بوضوح.
ما كان حجتهم :أي لم تكن لهم من حجة إلا قولهم.
إلا أن قالوا أئتوا بآبائنا :إلا قولهم احيوا لنا آباءنا الذين ماتوا وأتوا بهم إلينا.
إن كنتم صادقين :إن كنتم صادقين فيما تخبروننا به من البعث والجزاء.
قل الله يحيكم ثم يميتكم :أي قل لهم يا رسولنا الله الذي يحيكم حين كنتم نطفاً ميتة، ثم يميتكم.
ثم يجمعكم إلى يوم القيامة :أي ثم بعد الموت يجمعكم إلى يوم القيامة للحساب والجزاء.
لا ريب فيه :أي يوم القيامة الذي لا ريب ولا شك في مجيئه في وقته المحدد له.
ولكن أكثر الناس لا يعلمون :أي لا يعلمون تلقيهم العلم عن الوحي الإلهي لكفرهم بالرسل والكتب.

معنى الآيات:
تقدم في الآيات بيان اعتقاد بعض المشركين في استواء حال المؤمنين والكافرين يوم القيامة وأن الله تعالى أبطل ذلك الاعتقاد منكراً له عليهم، وهنا حكى قول منكري البعث بالكلية ليرد عليهم وفي ذلك دعوة لعامة الناس إلى الإيمان والعمل الصالح للإسعاد والكمال في الحياتين ولله الحمد والمنة فقال عز وجل: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا1 الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ2} أي وقال منكرو البعث والجزاء يوم القيامة ما هناك إلا حياتنا هذه التي نحياها وليس ورائها حياة أخرى، إننا نموت ونحيا أي نموت نحن الأحياء ويحيى أبناؤنا من بعدنا وهكذا تستمر الحياة أبداً يموت الكبار ويحيى الصغار، وما يهلكنا إلا الدهر أي وما يميتنا ويفنينا إلا مرور الزمان وطول الأعمار وهو إلحاد كامل وإنكار للخالق عز وجل وهو تناقض منهم لأنهم إذا سألوا من خلقهم يقولون فينسبون إليه الخلق وهو أصعب ولا ينسبوا إليه الإماتة وهي أهون من الخلق فرد تعالى عليهم مذهبهم "الدهري" بقوله: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} أي ليس3 لهم على معتقدهم هذا أدنى علم نقلياً كان ولا عقلياً أي يتلقوه عن وحي أوحاه الله إلى من شاء من عباده ولا عن عقل سليم راجح لا ينقض حكمه كالواحد مع الواحد اثنان والأبيض خلاف الأسود وما إلى ذلك من القضايا العقلية التي لا ترد فهؤلاء الدهريون ليس لهم شيء من ذلك ما لهم إلا الظن والخرص وقضايا العقيدة لا تكون بالظن. والظن أكذب الحديث.
وقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي وإذا قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات القرآن الدالة على البعث والجزاء تدعوهم إلى الإيمان به واعتقاده { مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ4} أي لم تكن لهم من حجة يردون بها ما دعوا إليه إلا قولهم5: أئتوا بآبائنا إن كنتم صادقين أي أحيوا لنا آبائنا الذين ماتوا وأحضروهم عندنا إن كنتم صادقين في ما تخبروننا من البعث والجزاء. فقال تعالى في رد هذه الشبهة وبيان للحق في المسألة قل الله يحيكم ثم يميتكم، ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب6 فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي قل يا رسولنا لهؤلاء الدهرين المنكرين للبعث الله يحيكم إذ كنتم نطفاً ميته
__________
1 هي ضمير القصة والشأن والجملة نموت ونحيا مبينة لجملة ما هي إلا حياتنا الدنيا أي ليس بعد هذا العالم عالم آخر فالحياة هي هذه لا غير.
2 روي عن أبي هريرة عن النبي صلى لله عليه وسلم أنه قال: "كان أهل الجاهلية يقولون ما يهلكنا إلا الليل والنهار وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحينا فيسبون الدهر ". قال الله تعالى "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار".
3 قال القرطبي كان المشركون أصنافاً منهم هؤلاء ومنهم من كان يثبت الصانع وينكر البعث ومنهم من يشك بالبعث ولا يقطع بإنكاره.
4 فإن قيل لم سمى قولهم حجة وليس هو بحجة؟ قيل لأنهم أدلوا به كما يدلي المحتج بحجته وساقوه مساقها فسميت حجة على سبيل التهكم.
5 أي أحيوا لنا الموتى نسألهم عن صدق ما تقولون.
6 جملة لا ريب فيه حال يوم القيامة أي لا ريب في وجوده وكونه لا ريب فيه لأنه علة الحياة كلها فلولاه ما كانت هذه الحياة فمن هنا لامعنى للشك فيه بالكلية.

فأحياكم، ثم يميتكم بدون اختياركم فالقادر على الإحياء والإماتة وفعلا هو يحي ويميت لا يحيل العقل أن يحيى أن من أحياهم ثم أماتهم وإنما لم يحيهم اليوم كما طلبتم لأنه لا فائدة من إحيائهم بعد أن أحياهم ثم أماتهم هذا أولاً وثانيا إحياؤهم لكم اليوم يتنافى مع الحكمة العالية في خلق هذه الحياة الدنيا والآخرة إذ خلقوا ليعلموا، ثم يجازوا بأعمالهم خيرها وشرها.ولهذا قال ثم يجمعكم أي أحياء في يوم القيامة للحساب والجزاء وقوله لا ريب فيه أي لا شك في وقوعه ومجيئه إذ مجيئه حتمى لقيام الحياة الدنيا كلها عليه. ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذا لأمرين الأول أنهم لا يفكرون ولا يتعقلون والثاني أنهم لتكذيبهم بالوحي الإلهي سدوا في وجوههم طريق العلم الصحيح فهم لا يعلمون، ولا يعلمون حتى يؤمنوا بالوحي ويسمعوه ويتفهموه.
هدية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير البعث والجزاء.
2- الرد على الدهريين وهم الذين ينسبون الحياة والموت للدهر وينفون وجود الخالق عز وجل.
3- بيان أن الكفار لا دليل لهم عقلي ولا نقلي على صحة الكفر عقيدة كان أو عملا.
4- عدم إحياء الله تعالى للمطالبين بحياة من مات حتى يؤمنوا لم يكن عن عجز بل لأنه يتنافى مع الحكمة التي دار عليها الكون كله.
5- بيان أن أكثر الناس لا يعلمون وذلك لأنهم كذبوا بالوحي الإلهي في الكتاب والسنة.
6- بيان أنه لا علم صحيح إلا من طريق الوحي الإلهي.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً

مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
شرح الكلمات:
ولله ملك السموات والأرض :أي خلقا وملكاً وتصرفا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
يخسر المبطلون :أي ويوم تقوم الساعة التي أنكرها الكافرون يخسر أصحاب الباطل بصيرورتهم إلى النار.
وترى كل أمة جاثية :أي كل أمة ذات دين جاثية على ركبها تنتظر حكم الله فيها.
تدعى إلى كتابها :أي إلى كتاب أعمالها فهو الحكم فيها إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر.
اليوم تجزون ما كنتم تعملون :أي يقال لهم اليوم تجزون ما كنتم تعملون في الدنيا من خير وشر.
هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق :أي ديوان الحفظة الذي دونوه من أعمال العقلاء من الناس شاهد عليكم بالحق.
إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون :أي نأمر بنسخ ما كنتم تعملون.
فيدخلهم ربهم في رحمته :أي فيدخلهم في جنته.
ذلك هو الفوز المبين :أي الفوز البين الظاهر وهو النجاة من النار ودخول الجنة.
أفلم تكن آياتي تتلى عليكم :أي يقال لهم ألم تأتكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم.
فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين :أي عن آيات الله فلم تؤمنوا بها وكنتم بذلك قوما كافرين.
إن وعد الله حق :أي بالبعث والجزاء العادل يوم القيامة حق ثابت.
إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين :أي ما كنا مستيقنين بالبعث وإنما كنا نظنه لا غير ولا نجزم به.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} خلقا وإيجاداً وملكاًُ وتصرفا ومن كان هذا وصفه من القدرة والعلم والحكمة لا ينكر عليه بعث العباد بعد موتهم وجمعهم للحساب والجزاء. وقوله ويوم1 تقوم الساعة التي ينكرها المنكرون يومئذ يخسر المبطلون يخسرون كل شيء حتى أنفسهم يخسرون منازلهم في الجنة يرثها عنهم المؤمنون و يرثون هم المؤمنين منازلهم في النار ذلك هو الخسران المبين و قوله تعالى:
__________
1 ويوم تقوم الساعة: هو ظرف متعلق بيخسر قدم عليه للاهتمام به ويومئذ توكيد ليوم تقوم الساعة.

{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً1} أي وترى أيها الرسول يوم القيامة كل أهل دين وملة وقد جثوا على ركبهم خوفاً وذلاً مستوفزين للعمل بما يؤمرون به. و قوله {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} أي الذي أنزل على نبيها لتعمل بما جاء فيه من عقائد وشرائع ويقال لهم اليوم تجزون ما كنتم تعملون أي في الدنيا من خير وشر. فإذا حاولوا الإنكار قيل لهم: هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق، وهو كتاب الأعمال الذي دونته الحفظة وقوله {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي نأمر ملائكتنا بنسخ أعمالهم أي بإثباتها وحفظها وهاهي ذي بين أيديكم ناطقة صارخة بما كنتم تعملون.
قال تعالى مفصلا للحكم الناتج عن شهادة الكتاب {فَأَمَّا الَّذِينَ2 آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي وتركوا الشرك والمعاصي فيدخلهم ربهم جزاء لهم في رحمته وهي الجنة دار المتقين ذلك هو الفوز المبين أي إدخاله الجنة بعد إنجائهم من النار هو الفوز المبين إذا الفوز معناه، النجاة من المرهوب والظفر بالمرغوب المحبوب. هذا جزاء أهل الإيمان والتقوى وأما الذين كفروا وهم أهل الشرك والمعاصي فيقال لهم: {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي ألم تأتكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم؟ بل كانت تتلى عليكم فاستكبرتم عنها فلم تتعرفوا إلى ما فيها وإلى ما تدعوا إليه، وكنتم باستكباركم عنها قوما مجرمين3 على أنفسكم إذا أفسدتموها بالشرك والمعاصي.
وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي وعده تعالى بالبعث والجزاء حق لابد واقع والساعة آتية لا ريب فيها أي جائية لا محالة ولا ريب في وقوعها بحال من الأحوال قلتم ما ندري ما الساعة متجاهلين لها متعجبين من وقوعها. و قلتم إن نظن إلا مجرد ظن فقط و ما نحن بمستيقنين4 بمجيئها، وهذا بالنسبة إلى بعض الناس، وإلا فقد تقدم أن بعضهم كان ينكر البعث بالكلية وهذا ظاهر في كثير من الناس الذين يؤمنون بالله وبلقائه وهم لا يفترون من المعاصي ولا يقصرون عن فعل الشر والفساد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر بعض ما يقع يوم القيامة.
2- تقرير عقيدة كتابة أعمال العباد وتقديمها لهم يوم القيامة في كتاب خاص.
__________
1 الأمة الجماعة العظيمة أمرها واحد يجمعهم دين والجثو البروك على الركب في استنفار وهي هيئة الخضوع.
2 فأما..الخ هذه الفاء عاطفة لمفصل من الكلام على مجمل منه وهو قوله تعالى وترى كل أمة جاثية والبدأ بتفصيل المؤمنين تعجيلاً للمسرة لهم وتنويها لشأن الإيمان والعمل الصالح.
3 إقحام لفظ (قوما) للدلالة على أن الإجرام صار خلقاً لهم مخالطاً لنفوسهم حتى صار مما يمقتون به ولولا هذا لقال بل كنتم مجرمين، دون ذكر (قوم) والاستفهام في قوله أفلم تكن آياتي للتقرير والتوبيخ.
4 هذه الجملة تأكيد لجملة إن نظن إلا ظناً، والسين والتاء في بمستيقنين للمبالغة في عدم حصول الفعل.

3- تقرير أن الإيمان والعمل الصالح سبب الفوز، وأن الشرك والمعاصي سبب الخسران المبين.
4- الظن في العقائد كالكفر بها، والعياذ بالله تعالى.
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
شرح الكلمات:
وبدا لهم سيئات ما عملوا :أي ظهر لهم في يوم القيامة جزاء سيئات ما عملوه في الدنيا من الشرك والمعاصي.
وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون :أي نزل وأحاط بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به إذا ذكروا به وخوفوا منه في الدنيا.
وقيل اليوم ننساكم :أي وقال الله تعالى لهم اليوم ننساكم أي نترككم في النار.
كما نسيتم لقاء يومكم هذا :أي مثل ما نسيتم يومكم هذا فلم تعملوا له بما ينجي فيه وهو الإيمان والعمل الصالح، وترك الشرك والمعاصي.
ومأواكم النار :أي ومحل إقامتكم النار.
ومالكم من ناصرين :أي من ناصرين ينصرونكم بإخراجكم من النار.
ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله :أي ذلكم العذاب كان لكم بسبب كفركم واتخاذكم آيات الله هزواً.
هزواً :أي شيئا مهزؤاً به.
وغرتكم الحياة الدنيا :أي طول العمر والتمتع بالشهوات والمستلذات.
ولا هم يستعتبون :أي لا يؤذن لهم في الاستعتاب ليعتبوا فيتوبوا.

فلله الحمد رب السموات ورب :أي فلله وحده الوصف بالجميل لإنجاز وعيده لأعدائه.
الأرض
وله الكبرياء في السموات والأرض :أي العظمة والحكم النافذ الناجز على من شاء.
وهو العزيز الحكيم :أي وهو العزيز في انتقامه من أعدائه الحكيم في تدبير خلقه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في عرض مشاهد القيامة وبعض ما يتم فيها من عظائم الأمور لعل السامعين لها يتعظون بها فقال تعالى {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ 1يَسْتَهْزِئُونَ} أي وظهر للمشركين المكذبين بالبعث والجزاء ظهر لهم وشاهدوا العذاب الذي كانوا إذا ذكروا به أو خوفوا منه استهزأوا به وسخروا منه. وقد حل بهم ونزل بساحتهم وأحاط بهم وقال لهم الرب تعالى اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا أي نترككم في عذاب النار كما تركتم العمل المنجي من هذا العذاب وهو الإيمان والعمل الصالح بعد التخلي عن الشرك والمعاصي. ومأواكم2 النار أي هي مأواكم ودار إقامتكم {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أي وليس لكم من ينصركم فيخلصكم من النار، وعلة هذا الحكم عليهم بينها تعالى بقوله {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً3 وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } أي حكم عليكم بالعذاب والخذلان بسبب اتخاذكم آيات الله الحاملة للحجج والبراهين الدالة على وجود الله ووجوب توحيده وطاعته هزواً أي شيئا مهزواً به، {وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} بزخرفها وزينتها، وطول أعماركم فيها فلم تؤمنوا ولم تعملوا صالحا ينجيكم من هذا العذاب الذي حاق بكم اليوم. قال تعالى {فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} وترك مخاطبتهم إشعاراً لهم بأنهم لا كرامة لله لهم اليوم فلم يقل فاليوم لا تخرجون منها، بل عدل عنها إلى قوله {فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي لن يطلب منهم أن يعتبوا ربهم بالتوبة إليه، إذ لا توبة بعد الموت والرجوع إلى الدنيا غير ممكن في حكم الله وقضائه وهنا تعظم حسرتهم ويشتد العذاب عليهم ويعظم كربهم.
وقوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ4 السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي رب كل شيء ومليكه حمد نفسه، وقصر الحمد عليه بعد أن أنجز ما أوعد به الكافرين، وذكر موجب الحمد وهو سلطانه القاهر في السموات وفي الأرض، وقوله {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ5} أي العظمة والسلطان {في
__________
1 من أنواع الاستهزاء ما روي أن العاص بن وائل قال لخباب بن الأرت وقد طالبه بدين له عليه لئن بعثت كما تقول لأوتين مالاً وولدا في الآخرة فاقض منه دينك.
2 التعبير بالمأوى إشارة إلى تأييد الخلود فيها إذ المأوى مكان الإيواء والاستقرار ولا مكان غيره.
3 الهزء مصدر كالخلق أطلق أريد به اسم المفعول أي مهزؤاً به.
4 الفاء للتفريع فهذه الجملة (الحمد لله) والثناء عليه متفرع عما ورد في هذه السورة من مظاهر ربوبيته تعالى وألطافه إحسانه بإحقاق الحق وإبطال الباطل وعدله في قضائه بين عباده.
5 تقديم الجار والمجرور في قوله فلله الحمد، وقوله وله الكبرياء مؤذن بالحصر والاختصاص والكبرياء هي الكبر الحق العظيم وهما الكمال في الذات والكمال في الصفات والوجود.

السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ} الذي لا يمانع ولا يغالب، الشديد الانتقام، الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه الحكيم في تدبير خلقه ويتجلى ذلك في إكرام أوليائه برحمتهم، وإهانة أعدائهم بتعذيبهم في دار العذاب النار و بئس المصير.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن الاستهزاء بآيات الله وشرائعه كفر موجب للعذاب.
2- تقرير قاعدة الجزاء من جنس العمل، وكما يدين الفتى يدان.
3- مشروعية الحمد عند الفراغ من أي عمل صالح أو مباح.

سورة الأحقاف
...
الجزء السادس والعشرون
سورة الأحقاف1
مكية
وآياتها خمسة وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
شرح الكلمات:
حم :هذا أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا: حم ويقرأ هكذا: حاميم.
تنزيل الكتاب :أي تنزيل القرآن.
من الله العزيز الحكيم :أي من لدن الله العزيز في ملكه الحكيم في صنعه.
إلا بالحق وأجل مسمى :أي ما خلقنا السماوات والأرض إلا خلقا متلبسا بالحق وبأجل مسمى لفنائهما.
__________
1 وجه تسميتها بالأحقاف لذكر لفظ الأحقاف فيها ولم يكن لها اسم غيره والأحقاف جمع حقف بكسر الحاء وسكون القاف الرمل المستطيل الكبير.

عما أنذروا معرضون :أي عن ما خوفوا به من العذاب معرضون عنه غير ملتفتين إليه.
ما تدعون من دون الله : أي من الأصنام والأوثان.
أروني ماذا خلقوا من الأرض :أي أشيروا إلى شيء خلقوه من الأرض.
أم لهم شرك في السموات :أي أم لهم شركة.
ائتوني بكتاب من قبل هذا :أي منزل من قبل القرآن.
أو أثارة من علم :أي بقيةٍ من علم يؤثر عن الأولين بصحة دعواكم في عبادة الأصنام.
إن كنتم صادقين :أي في دعواكم أن عبادة الأصنام والأوثان تقربكم من الله تعالى.
من لا يستجيب له إلى يوم القيامة :أي لا أحد أضل ممن يدعو من لا يستجيب له في شيء يطلبه منه أبداً.
وهم عن دعائهم غافلون :أي وهم الأصنام أي عن دعاء المشركين إياهم غافلون لا يعرفون عنهم شيئاً.
وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء :أي في يوم القيامة كانت الأصنام أعداء لعابديها.
وكانوا بعبادتهم كافرين :أي وكانت الأصنام بعبادة المشركين لها جاحدة غير معترفة.
معنى الآيات:
قوله تعالى {حم} الله أعلم بمراده به إذ هذه من المتشابه الذي يجب الإيمان به وتفويض أمر معناه إلى الله منزله. وقوله {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} أي تنزيل القرآن الكريم من لدن الله العزيز الحكيم العزيز في ملكه الحكيم في صنعه وتدبيره. وقوله تعالى {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} من العوالم والمخلوقات {إِلَّا بِالْحَقِّ} أي إلا لحكم عالية وليس من باب العبث واللعب، وإلا بأجل مسمى عنده وهو وقت إفنائهما وإنهاء وجودهما لاستكمال الحكمة من وجودهما. وقوله تعالى { وَالَّذِينَ1 كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} 2 يخبر تعالى بأن الذين كفروا بتوحيد الله ولقائه وآياته ورسوله عما خوفوا به من عذاب الله المترتب على كفرهم وشركهم معرضون غير مبالين به, وذلك لظلمة نفوسهم, وقساوة قلوبهم. وقوله تعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ3 مَا
__________
1 هذه الجملة حالية فهي في موضع نصب حال من الضمير المقدر في متعلق الجار و المجرور في قوله:(بالحق) و المقصود من الإخبار هو التعجب من إعراض الكافرين عن دعوة الحق التي يدعون إليها وهي: الإيمان والعمل الصالح بعد ترك الشرك, والمعاصي لنجاتهم وسعادتهم.
2 (عما أنذروا) جائز أن تكون (ما) موصولة, والعائد محذوف أي: أنذروه وجائز أن تكون مصدرية أي: عن إنذارهم معرضون.
3 (قل أرأيتم ): الاستفهام تقريري هو بمعنى: أخبروني, وفعل أروني للتعجيز لإبطال دعوى الشرك بالله تعالى, والعاجز عن خلق شيء كيف يستحق العبادة, والتأليه, و (ماذا خلقوا) هو بمعنى ماذا الذي خلقوا أي: أي شيء خلقوه.

تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي من الأصنام والأوثان { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} أي من شي {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ } ولو أدنى شرك وأقله, وقوله {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} أي بقية من علم تشهد1 بصحة عبادة ودعاء آلهة لم تخلق شيئا من الأرض وليس لها أدنى شرك في السموات { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في دعواكم أنها آلهة تستحق أن تعبد. وقوله تعالى {وَمَنْ2 أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } ينفي تعالى على علم تام أنه لا أضل من أحد يدعو من غير الله تعالى معبوداً لا يستجيب له في قضاء حاجة أو قضاء وطر مهما كان صغيراً أبداً وحقا لا أحد أضل ممن يقف أمام جماد لا يسمع ولا يبصر ولا ينطق يدعوه ويسأله حاجته وقوله { وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ3 غَافِلُونَ} أي وأولئك الأصنام المدعوون غافلون تماما عن داعيهم لا يعلمون عنه شيئا لعدم الحياة فيهم, ولو كانوا يوم القيامة ينطقهم الله و يتبرءون ممن عبدوهم ويخبرون أنهم ما عبدوهم ولكن عبدوا الشيطان الذي زين لهم عبادتهم, وهو ما دل عليه قوله تعالى {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ} أي ليوم القيامة كانوا لهم4 أعداء وخصوماً وكانوا بعبادتهم من دعاء وذبح ونذر وغيره كافرين أي جاحدين غير معترفين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- إثبات النبوة المحمدية بتقرير أن القرآن تنزيل الله على رسوله المنزل عليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
2- انتفاء العبث عن الله تعالى في خلقه السموات والأرض وما بينهما وفي كل أفعاله وأقواله.
3- تقرير حقيقة علمية وهي من لا يخلق لا يُعبد.
4- بيان أنه لا أضل في الحياة من أحد يدعوا من لا يستجيب له أبداً كمن يدعون الأصنام والقبور والأشجار بعنوان التوسل والاستشفاء و التبرك.
__________
1 (من علم) أي: من أهل العلم السابقين غير ومكتوبة في الكتب، وهذا التوسيع عليهم في أنواع الحجج ليكون عجزهم بعد ذلك أقطع لحجتهم وإبطال دعواهم في الشرك. ذكر القرطبي عند تفسير: (أو أثارة من علم) أن بعضهم فسر الأثارة: بالخط، وإن نبيا كان يخط، والمراد التعرف إلى علم الغيب، وختم القول بكلمة لابن العربي أنهى بها الموضوع، إذ قال: إن الله تعالى لم يبق في الأسباب الدالة على الغيب إلا الرؤية إذ هي جزء من النبوة، والفأل الحسن لا غير وأنشد لبعضهم:
الفال والزجر والكهان كلهم
مضللون ودون الغيب أقفال
2الاستفهام للإنكار والتعجب معاً، والمعنى: لا أحد أشد ضلالاً وأعجب حالاً ممن يدعون ... الخ
3 الجملة حالية، وجملة: (وإذا حشر الناس) معطوفة عليها.
4 فالعابدون كالمعبودين سواء في التبرؤ من بعضهم بعضا يوم القيامة وإعلان العداء لبعضهم بعضاً.

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
شرح الكلمات:
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات : أي أهل مكة من كفار قريش، والآيات آيات القرآن والبينات الواضحات.
قال الذين كفروا للحق لما جاءهم : أي من كفار قريش للحق أي القرآن لما قرأه عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا سحر مبين :أي قالوا في القرآن سحر مبين أي ظاهر لما رأوا من تأثيره على النفوس.
أم يقولون افتراه :أي بل أيقولون افتراه أي اختلقه من نفسه.
قل إن افتريته :أي قل لهم يا نبينا إن اختلقته من نفسي.
فلا تملكون لي من الله شيئا : أي فأنتم لا تملكون لي من الله شيئا إن أراد أن يعذبني.
هو أعلم بما تفيضون فيه :أي هو تعالى أعلم بما تخوضون فيه من القدح والطعن في وفي القرآن.
كفى به شهيداً بيني وبينكم :أي كفى به تعالى شهيدا بيني وبينكم.
ما كنت بدعاً من الرسل :أي لم أكن أول رسول فأكون بدعا من الرسل بل سبقني رسل كثيرون.
وما أدري ما يفعل بي ولا بكم :أي في هذه الحياة هل أخرج من بلدي، أو أقتل، وهل

ترجمون بالحجارة أو يخسف بكم.
إن أتبع إلا ما يوحى إلي :أي ما أتبع إلا ما يوحيه إلي ربي فأقول وأفعل ما يأمرني به.
وما أنا إلا نذير مبين :أي وما أنا إلا نذير لكم بين الانذار.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة العرب عامة وقريش خاصة إلى الإيمان والتوحيد فإذا قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن دعوة لهم إلى الإيمان والتوحيد قالوا رداً عليه ما أخبر به تعالى في قوله {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ } أي على كفار قريش { آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي ظاهرات الدلالة واضحات المعاني {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بالله وبرسوله ولقائه وتوحيده قالوا {لَلْحَقُّ1} وهو القرآن {لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} بل قالوا ما هو أشنع في الكذب وأبشع في النظر إذ قالوا ما أخبر به تعالى عنهم في قوله {أَمْ يَقُولُونَ2 افْتَرَاهُ} أي بل أيقولون افتراه أي اختلقه وتخرصه من نفسه وليس هو بكلام الله ووحيه إليه. وقوله تعالى {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} أي على فرض أنني افتريته على الله وقلت أوحي إلي ولم يوح إلي وأراد الانتقام مني بتعذيبي، فهل أنتم أو غيركم يستطيع دفع العذاب عني، وعليه فكيف أعرض نفسي للعذاب بالافتراء على الله تعالى، فهذا لن يكون مني أبداً. وقوله تعالى {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ3 فِيهِ} أي الله جل جلاله هو أعلم من كل أحد بما تخوضون فيه مندفعين في الكلام تطعنون في وفي القرآن فتقولون في ساحر وفي القرآن سحر مبين وتقولون في مفترٍ وفي القرآن افتراء إلى غير ذلك من المطاعن والنقائص. {كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ4} أي كفى بالله شهيدا علي وعليكم فيما أقول وفيما تقولون وسيجزي كلا بما عمل {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّ5حِيمُ} لمن تاب فتوبوا إليه يغفر كفركم وخوضكم في الباطل ويرحمكم فإنه تعالى غفور لمن تاب رحيما بمن آمن وأناب. وقوله تعالى في الآية (9) {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً 6مِنَ الرُّسُلِ} يأمر تعالى رسوله أن
__________
1 (للحق) اللام تعليلية. وليست للتعدية, أي: قال الكافرون بعضهم لبعض لأجل رد الحق وإبطاله, هذا سحر مبين, والحق: القرآن, يصفونه بالسحر حتى لا يؤمنوا به.
2 (أم) هي المنقطعة المقدرة ببل, والاستفهام أي: أيقولون افتراه والاستفهام وبل للإضراب الانتقالي من نوع إلى آخر من أنواع ضلالهم, والاستفهام للنفي والإنكار معاً.
3 (تفيضون فيه) أي: من قول الباطل والخوض في تكذيب الحق, إذ الإفاضة في الشيء: الخوض فيه والاندفاع, ومنه: أفاضوا في الحديث: إذا اندفعوا يقولون, وأفاض الناس من عرفات إلى مزدلفة, أي اندفعوا.
4 إذ هو يعلم صدقي ويعلم أنكم مبطلون.
5 الغفور لمن تاب من عباده الرحيم بالمؤمنين.
6 البدع: الأول: والبديع كالبدع بكسر الباء مثل: نصف ونصيف, وأبدع في كذا أتى بالبدع فيه أي بما لم يأت به غيره, والبديع: صفة مشبهة, وهو من أسماء الله تعالى, ومعناه: خالق الأشياء ومخترعها.

يقول لأولئك المشركين المفيضين في الطعن في القرآن والرسول في أغلب أوقاتهم وأكثر مجالسهم { مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} أي ما أنا بأول عبد نبئ وأرسل فأكون بدعاً في هذا الشأن فينكر علي أو يستغرب مني بل سبقتني رسل كثيرة. وقوله { وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ1 بِي وَلا بِكُمْ} أي وقل لهم أيضاً أني لا أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي مستقبلا فهل أخرج من هذه البلاد أو أقتل أو تقبل دعوتي وأنصر ولا ما يفعل بكم من تعذيبكم بحجر أو مسخ أو هدايتكم ونجاتكم. وقوله {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي ما أتبع إلا الذي أوحى إلي ربي باعتقاده أو قوله أو عمله, فلا أحدث و لا أبتدع شيئا لم يوح الله به أبداً {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي ما أنا بالذي يملك شيئا لنفسه أو لغيره من خير أو ضير وإنما أنا نذير من عواقب الكفر و التكذيب و الشرك و المعاصي فمن قبل إنذاري فكف عما يسبب العذاب نجا, ومن رفض إنذاري فأمره إلى ربي إن شاء عذبه و إن شاء تاب عليه و هداه و رحمه.
{ قلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ(11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى(12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(13) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(14)}
__________
1 هذا رد على المتعنتين من المشركين الذين يطالبون الرسول صلى الله عليه وسلم بما لم يكن في وسعه من أمور الغيب, وليس معناه كما قيل: إنه لا يدري هل يكون بعد موته في الجنة أو في النار, و لا يدري هل يكون المشركون في النار أو الجنة, إذ هذا قول باطل. وأما حديث عثمان بن مظعون في البخاري" فإنه لما قالت المرأة رحمة الله عليك يا أبا السائب إن الله أكرمك فقال لها: و ما يدريك أن الله أكرمه فإني و أنا رسول الله لا أدري ما يفعل بي" فإن المراد منه عدم الجزم بمصير من مات من المسلمين ووجوب تفويض الأمر إلى الله تعالى.

شرح الكلمات:
قل أرأيتم :أي أخبروني ماذا تكون حالكم.
إن كان من عند الله :أي إن كان القرآن من عند الله.
وكفرتم به :أي وكذبتم به أي بالقرآن.
وشهد شاهد من بني إسرائيل :أي و شهد عبد الله بن سلام.
على مثله فآمن :أي عليه إنه من عند الله فآمن.
و استكبرتم :أي واستكبرتم أنتم فلم تؤمنوا ألستم ظالمين.
لو كان خيرا ما سبقونا إليه :أي لو كان ما جاء به محمد من القرآن و الدين خيرا ما سبقنا إليه المؤمنون.
و إذ لم يهتدوا به :أي بالقرآن العظيم.
فسيقولون هذا إفك قديم :أي هذا القرآن إفك قديم أي هو من كذب الأوليين.
وهذا كتاب مصدق :أي القرآن مصدق للكتب التي سبقته.
لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا :أي حال كونه بلسان عربي لينذر به الظالمين المشركين.
وبشرى للمحسنين :وهو أي القرآن بشرى لأهل الإحسان في عقائدهم و أقوالهم و أعمالهم.
ثم استقاموا :أي فلم يرتدوا و استمروا على فعل الواجبات وترك المحرمات.
فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون :أي في الدنيا و في البرزخ و في عرصات القيامة.
بما كانوا يعملون :أي جزاهم الله بما جزاهم به ينفي الخوف والحزن عليهم بأعمالهم الصالحة وتركهمالأعمال الفاسدة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في طلب هداية قوم النبي صلى الله عليه وسلم من قريش الذين ردوا الدعوة و قالوا في كتابها سحر مبين و في صاحبها مفتر فقال تعالى لرسوله قل يا محمد لأولئك المشركين الذين قالوا في القرآن سحر مبين {أَرَأَيْتُمْ} 1 أي أخبروني ماذا تكون حالكم إن كان القرآن من عند الله. وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل وهو عبد الله بن سلام على2 مثله أي على التوراة أنها نزلت من
__________
1 الاستفهام تقريري للتوبيخ, ومفعولا (رأيتم) محذوفا ن تقديرهما: أنفسكم ظالمين.
2 المثل: المماثل أي: المشابه في فعل أو صفة, وضمير مثله: عائد على القرآن, وجائز أن يكون المراد بالمثل: التوراة, و الشاهد هو موسى عليه السلام أو عبد الله بن سلام كما في التفسير, و جائز أن يكون لفظ(مثل) مقحماً زائد نحو: (ليس كمثله شيء) أي: ليس مثله شيء, ويكون المعنى. وشهد شاهد- وهو عبد الله بن سلام- على صدق القرآن وكونه وحي الله أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.

عند الله وهي مثل القرآن فلا يستنكر أن يكون القرآن نزل من عند الله لا سيما والكتابان التوراة و القرآن يصدق بعضهما بعضاً, بدلالتهما معا ًعلى أصول الدين كالتوحيد و البعث والجزاء بالثواب والعقاب ومكارم الأخلاق والعدل والوفاء بالعهد. { ِفَآمَنَ } هذا الشاهد1 { وَاسْتَكْبَرْتُمْ} أي وكفرتم أنتم مستكبرين عن الإيمان بالحق ألم تكونوا شر الناس وأظلمهم وتحرمون الهداية إن الله لا يهدي القوم2 الظالمين أي الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي فحرموها الهداية الإلهية وقوله تعالى في الآية (11) {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } هذا القول جائز أن يقوله يهود المدينة للمؤمنين بها, وجائز أن يقوله المشركون في مكة و في غيرها من العرب إذ المقصود هو الاعتذار عن عدم قبول الإسلام بحجة انه لا فائدة منه تعود عليهم في دنياهم ولا خير يرجونه منه إن دخلوا فيه إذ لو كان فيه ما يرجون من الفوائد المادية لاعتنقوه ودخلوا فيه ولم يسبقهم إليه الفقراء والمساكين. وهو معنى ما أخبر تعالى به عنهم في قول {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ3 آمَنُوا } أي في شأن الذين قالوا لو كان الإسلام خيراً ما4 سبقونا إليه فآمنوا وكفرنا. وقوله تعالى {وإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} أي وإن ظهر عنادهم وعظم عتوهم واستكبارهم فعموا فلم يهتدوا بالقرآن5 فسيقولون { هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} وقد قالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ومعنى إفك قديم كذب أفكه غير محمد و عثر عليه فهو يقول به ما أفسد هذا القول وما أقبحه وأقبح قائله.
وقوله تعالى {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً } أي ومن قبل القرآن الذي أنكر المشركون نزوله كتاب موسى التوراة وقد أنزلناه عليه إماما يؤتم به فيقود المؤتمين به العاملين بهدايته إلى السعادة والكمال وأنزلنا اليوم القرآن هدى ورحمة وبشرى للمحسنين. وهو ما دل عليه قوله هذا كتاب مصدق لما قبله من الكتب لسانا6 عربيا أي أنزلناه لسانا عربيا لينذر به رسولنا المنزل عليه.
__________
1 لا حاجة إلى أن نقول الشاهد هو موسى عليه السلام بحجة أن السورة مكية، وعبد الله بن سلام أسلم بعد الهجرة، إذ من الجائز أن تكون السورة مكية والآيات مدنية، وهو الحق في هذا والله أعلم.
2 الجملة تعليلية لما هو محذوف في الكلام وهو: ضللتم ضلالا لا يرجى لكم هداية بعده، لأن الله لا يهدي القوم الظالمين.
3 اللام تعليلية أي: قالوا ما قالوه لأجل الذين آمنوا حتى يردوا دعوتهم ولا يقبلوا الإسلام.
4 ضمير (سبقونا) عائد إلى غير مذكور وأرادوا به المستضعفين مثل بلال وعمار ووالده وشمية وزنيرة على وزن شريرة، وسكيرة: أمة رومية كانت من السابقين إلى الإسلام.
5 المضارع هنا مراد به سيديمون قولهم هذا كلما أرادوا رد القرآن: قالوا هذا إفك قديم.
6 كلمة (لساناً) فيها إيماء إلى أنه عربي اللغة لا الأخلاق والعادات العربية والأحكام القبلية لأنها فسدت بالشرك وانقطاع الوحي وموت العلماء قروناً عديدة.

وهو محمد صلى الله عليه وسلم لينذر1 به الذين ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي عذاب الله المترتب على تدسية النفوس بأوضار الشرك والمعاصي وهو بشرى للمحسنين من المؤمنين الذين احسنوا النية والعمل بالفوز العظيم يوم القيامة وهو النجاة من النار ودخول الجنة وقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا2} بعد أن ذكر تعالى المبطلين وباطلهم عقب على ذلك بذكر المحسنين وأعمالهم على نهج الترهب والترغيب فأخبر تعالى أن الذين قالوا ربنا الله أي آمنوا وصرحوا بإيمانهم وجاهروا به ثم استقاموا على منهج لا إله إلا الله فعبدوا الله بما شرع وتركوا عبادة غيره حتى ماتوا على ذلك هؤلاء يخبر تعالى عنهم أنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة فهم آمنون في الحيوات الثلاث، وبشرهم بالجنة فأخبر أنهم أصحابها الخالدون فيها، وأشار إلى أن ذلك الفوز والبشرى كانا نتيجة أعمالهم في الدنيا من الإيمان والعمل الصالح الذين دل عليها قوله {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- اعتبار الشهادة وانها أداة يتوصل بها إلى احقاق الحق و ابطال الباطل فلذا يشترط عدالة صاحبها والعدالة هي إجتناب الكبائر واتقاء الصغائر غالبا.
2- تقرير قاعدة من جهل شيئا عاداه, إذ المشركون لما لم يهتدوا بالقرآن قالوا هذا إفك قديم.
3- بيان تآخي وتلاقي الكتابين التوراة والقرآن فشهادة أحدهما للآخر أثبتت صحته.
4- وجوب تعلم العربية لمن أراد أن يحمل رسالة الدعوة المحمدية فينذر ويبشر.
5- فضل الإستقامة3 حتى قيل أنها خير من ألف كرامة,و الإستقامة هي التمسك بالإيمان والعبادة كما جاء بذلك القرآن وبينت السنة.
{وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ
__________
1 قرأ نافع (لتنذر) بالتاء الفوقية حطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وقرأ حفص ( لينذر) بالياء أي القرآن.
2 ثم للتراخي الرتبي, إذ الإيمان يحصل بالنظر و التأمل دفعة واحدة وأما الإستقامة فتحتاج إلى مراقبة النفس وذكر الوعد والوعيد في كل طاعة من فعل أو ترك..
3 روى مسلم والترمذي وغيرهما عن عبد الله الثقفي قال: "قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحداً بعدك قال صلى الله عليه وسلم" قل آمنت بالله ثم استقم".

أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ(15) أولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ(16)}
شرح الكلمات:
ووصينا الإنسان بوالديه :أي أمرناه أمراً مؤكداً بالإيصاء.
إحسانا1 : أي أن يحسن بهما إحسانا وهو المعاملة بالحسنى.
حملته أمه كرها ووضعته كرها :أي حملته أثناء حمله في بطنها على مشقة وولدته كذلك على مشقة.
وحمله وفصاله ثلاثون شهرا :أي مدة حمله في بطنها و فطامه من الرضاع ثلاثون شهرا.
حتى إذا بلغ أشده :أي اكتمال قوته البدنية و العقلية وهي من الثلاث والثلاثين فما فوق.
رب أوزعني أن أشكر نعمتك :أي ألهمني ووفقني أن أشكر نعمتك بصرفها فيما تحب.
وأن أعمل صالحا ترضاه :أي وبأن أعمل صالحا ترضاه مني أي تتقبله عني.
ونتجاوز عن سيئاتهم : أي فلا نؤاخذهم بها بل نغفرها.
في أصحاب الجنة :أي في جملة أصحاب الجنة وعدادهم.
وعد الصدق الذي كانوا يوعدون :أي في مثل قوله تعالى وعد الله المؤمنين و المؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار الآية.
معنى الآيات:
إن الفرد كالجماعة فقد أوصى تعالى الإنسان بالإحسان بوالديه وببرهما في جميع كتبه وعلى ألسنة كافة رسله, و الإنسان بعد ذلك قد يحسن ويبر وقد يسئ ويعق, فكذلك الجماعة و الأمة من الناس يرسل إليهم الرسول فمنهم من يؤمن ومنهم من يكذب, ومنهم من يتابع ومنهم من يخالف فلما ذكر تعالى اختلاف قوم النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان بما جاء به, والكفر به ذكر أن هذه الحال
__________
1 قرأ نافع(حسناً) و(كرهاً) بفتح الكاف, وقرأ حفص(إحساناً)و (كرهاً) بضم الكاف.

الإنسان فقال تعالى {وَوَصَّيْنَا الْإنْسَانَ1} أي جنس الإنسان أي أمرناه بما هو آكد من الأمر وهو الوصية بوالديه أي أمه وأبيه إحسانا بهما وذلك بكف الأذى عنهما وإيصال الخير بهما وطاعتهما في المعروف وببرهما أيضا بعد موتهما. فمن الناس من ينفذ هذه الوصية ومنهم من يهملها ولا ينفذها وقوله، حملته أمه كرها ووضعته كرها بيان لوجوب الإحسان بهما وبرهما إذ معاناة الأم وتحملها مشقة الحمل تسعة أشهر ومشقة الوضع وهي مشقة لا يعرفها إلا من قاسى آلامها كالأمهات. وقوله {وَحَمْلُهُ2 وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} بيان لمدة تحمل المشقة إنها ثلاثون شهرا بعضها للحمل وبعضها للإرضاع والتربية وقوله تعالى حتى إذ بلغ أي عاش حتى إذا بلغ أشده أي اكتمال قواه البدنية والعقلية وذلك من ثلاث وثلاثين سنة إلى الأربعين وبلغ أربعين3 سنة قال أي الإنسان البار بوالديه المنفذ للوصية الإلهية كأبي بكر الصديق رضي الله عنه إذ بلغ الأربعين من عمره بعد البعثة المحمدية بسنتين. {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} 4 وهي نعمة الإيمان والتوحيد والإسلام علي وعلى والدي إذ آمن وآمن أبواه أبو قحافة عثمان بن عامر التيمي وآمنت أمه أم الخير سلمى، وأولاده عامة من بنين وبنات ولم يحصل لأحد من الصحابة أن سأل ربه أن يدفعه دفعا إلهاميا وتوفيقا ربانيا لأن يشكر نعمة الله عليه وعلى والديه بالإسلام، وأن يدفعه كذلك إلى العمل الصالح الذي يرضاه الله ويتقبله عن صاحبه، وقد استجاب له ربه فأعتق تسعة أعبد مؤمنين من استرقاق الكافرين لهم منهم بلال رضي الله عنه، وقوله {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} أي اجعل الصلاح ساريا في ذريتي حتى يشملهم جميعا وقد استجاب الله تعالى له فآمن أولاده أجمعون ذكورا وإناثا، وقوله {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} هذا توسل منه رضي الله عنه لقبول دعائه فقد توسل إلى ربه بالتوبة من الشرك والكفر إلى الإيمان والتوحيد، وبالإسلام إلى الله وهو الخضوع لله والانقياد لأمره ونهيه. وقوله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ5 مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} فلا يؤاخذهم بها بعد توبتهم منها في جملة أصحاب الجنة إذ لا يدخل الجنة أحد إلا بعد مغفرة ذنبه، وقوله {وَعْدَ الصِّدْقِ6}
__________
1 روي من عدة طرق أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
2 وحمله وفصاله ثلاثون شهراً هذه الآية الكريمة مع قوله تعالى من سورة البقرة: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} دلتا على أن أقل مدة الحمل: ستة أشهر، فلا يثبت الحمل بأقل من ستة أشهر ويثبت بالستة والسبعة والثمانية والتسعة، فمن بنى بامرأة وولدت قبل ستة أشهر من البناء بها فالولد لا يلحق الزوج.
3 لم خص الدعاء للوالدين في هذا الوقت بالذات؟ لأنه وقت يصبح فيه الولد مشغولا بزوجة وأولاد وتكاليف فهو في هذه الحال أحوج ما يكون إلى عون الله تعالى على بر والديه.
4 من بركة صلاح الذرية أن يدعو الولد لوالده بعد موته ففي صحيح الحديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعوا له).
5 قرأ نافع: (يتقبل) و(يتجاوز) بالبناء للمفعول، و(أحسن) مرفوع نائب فاعل، وقرأ حفص بنون المتكلم فيهما ونصب (أحسن) على أنه مفعول به.
6 الوعد: مصدر بمعنى المفعول كالرد بمعنى المردود.

أي أنجز لهم هذا لأنه وعد صدق وعدهم فأنجزه لهم، وقوله {الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} أي في الكتاب مثل قوله تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} الآية.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب البر بالوالدين بطاعتهما في المعروف والإحسان بهما بعد كف الأذى عنهما.
2- الإشارة إلى أن مدة الحمل قد تكون ستة أشهر فأكثر، وأن الرضاع قد يكون حولين فأقل.
3- جواز التوسل بالتوبة إلى الله والانقياد له بالطاعة.
4- فضيلة آل أبي بكر الصديق على غيرهم من سائر الصحابة ما عدا آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5- بشارة الصديق وأسرته بالجنة، إذ آمنوا كلهم وأسلموا أجمعين وماتوا على ذلك.
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
شرح الكلمات:
والذي قال لوالديه :الذي اسم موصول استعمل استعمال الجنس فدل على متعدد بدليل الخبر عنه وهو أولئك الذين حق عليهم القول.

أفٍ لكما :أي نتناً وقبحاً لكما.
أن اخرج :أي من القبر حيا بعد موتي.
وقد خلت القرون :أي مضت الأمم قبلي ولم يخرج منها أحد من قبره.
وهما يستغيثان الله :أي يطلبان الغوث برجوع ولدهما إلى الإيمان بعد الإلحاد والكفر.
ويلك آمن :أي يقولان له إن لم ترجع ويلك أي هلاكك أي هلكت آمن بالبعث.
إن وعد الله حق : وقد وعد العباد بالرجوع إليه ومحاسبتهم على أعمالهم ومجازاتهم بها.
فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين :أي ما القول بوجود بعث للناس أحياء بعد الموت إلا أكاذيب الأولين.
أولئك الذين حق عليهم القول :أي وجب عليهم القول بالعذاب يوم القيامة.
في أمم قد خلت من قبلهم :أي في جملة أمم قد مضت من قبلهم من الجن والإنس.
ولكل درجات مما عملوا :أي ولكل من المؤمنين البارين، والكافرين الفاجرين درجات مما عملوا درجات المؤمنين في الجنة ودرجات الكفار في النار.
أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا :أي يقال لهم أذهبتم طيباتكم باشتغالكم بملذاتكم في الدنيا.
واستمتعتم بها :أي تمتعتم بها في الحياة الدنيا.
فاليوم تجزون عذاب الهون :أي جزاؤكم عذاب الهوان.
بما كنتم تستكبرون في الأرض :أي تتكبرون في الأرض.
بغير الحق :أي إذ لا حق لكم في الكبر والكبرياء لله، ولم يأذن لكم فيه.
وبما كنتم تفسقون :أي تخرجون عن طاعة الله ورسوله.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى الرجل المؤمن وأعماله الصالحة ومواقفه المشرفة ذكر هنا الرجل الكافر وأعماله الباطلة ومواقفه السيئة وذلك من باب الدعوة إليه تعالى للترغيب والترهيب فقال تعالى {وَالَّذِي1
__________
1 قيل: إن هذه الآية نزلت في أحد ابني أبي بكر الصديق عبد الرحمن أو عبد الله وأنكرت عائشة رضي الله عنها ذلك، ومن قال به رد اسم الإشارة (أولئك الذين حق عليهم القول..) إلى من طالب الولد بإحيائهم ممن ماتوا على الشرك لأن كلا من عبد الله وعبد الرحمن قد أسلم وحسن إسلامه استجابة الله دعوة أبي بكر.

قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي1 أَنْ أُخْرَجَ2 وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} يخبر الله تعالى عن أخبث إنسان هو ذاك الملحد العاق لوالديه المنكر للبعث والجزاء إذ قال لوالديه أمه وأبيه أف لكما أي نتناً وقبحا لكما أتعدانني بأن أخرج من قبري حياً بعد ما مت، وقد مضت أمم وشعوب قبلي، وما خرج منها أحد من قبره فكيف تعدانني أنتما ذلك إن هذا لتخلف عقلي وتأخر حضاري وقوله تعالى {وَهُمَا 3يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ} أي ووالداه يستغيثان الله ويستصرخانه طلبا إغاثتهما بهداية ولدهما الملحد الشيوعي، ويقولان للولد ويلك أي هلاكك حضر يا ولد هلكت آمن بالبعث والجزاء وصل وصم واترك الزنا والخمر ويلك إن وعد الله حق أي إن ما وعد الله به عباده من إحيائهم للحشر والحساب والجزاء حق فلا يتخلف أبدا فيرد عليهما الولد الملحد الدهري ا بما أخبر تعالى به عنه في قوله فيقول {مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ4} أي أكاذيبهم التي كانوا يعيشون عليها ويقصونها في مجالسهم، وبما أن الذي قال لوالديه لفظه مفرد ولكنه دال على جنس كان الخبر جمعا فقال تعالى في الإخبار عنهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ5 حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} أي القول بالعذاب الدال عليه قوله تعالى {لأمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} ، وفي قوله {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} أي في جملة أمم سبقتهم في الإلحاد والكفر من العالمين عالم الجن وعالم الإنس وقوله {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ6} وأي خسران أعظم من عبد يخسر نفسه وأهله ويعش في جهنم خالدا فيها أبدا. وقوله تعالى {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ7 مِمَّا عَمِلُوا} أي ولكل من المؤمنين البارين والكافرين العاقين درجات مما عملوا من خير أو شر إلا أن درجات المؤمنين في الجنة تذهب في علو متزايد ودرجات الكافرين في النار تذهب في سفل متزايد إلى أسفل سافلين. وقوله تعالى {وَلِيُوَفِّيَهُمْ8 أَعْمَالَهُمْ } كاملة غير منقوصة الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها وهم لا يظلمون بنقص حسنة ولا بزايدة سيئة. وقوله تعالى {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} أي اذكر يا رسولنا لهؤلاء المشركين يوم يعرضون على النار ويقال لهم في توبيخ وتقريع {أَذْهَبْتُمْ
__________
1 (أتعدانني) الاستفهام للإنكار والتعجب.
2 (أن أخرج) أي: من قبري حياً بعد موتي و فنائي, إنكاراً منه للبعث الآخر.
3 وقد أجاب الله دعاء أبي بكر وزوجه أم الرمان حيث أسلم ابنهما رضي الله عنهم أجمعين.
4 (أساطير الأولين) أي: أحاديثهم وما سطروه مما لا أصل له.
5 الإشارة هنا إلى أولئك الذين ذكرهم ابن أبي بكر كعبد الله بن جدعان وعثمان بن عمرو ومشايخ قريش فقال أين فلان و أين فلان إنكاراً منه للحياة بعد الموت.
6 خسروا أعمالهم حيث ضاع سعيهم في الحياة الدنيا وخسروا أنفسهم و أهليهم يوم القيامة.
7 (ولكل) التنوين عوض أي: لكل من الفريقين المؤمنين و الكافرين الأبرار والفجار درجات مما عملوا, وهي مراتبهم التي لهم في الجنة أو في النار.
8 قرأ الجمهور(ولنوفيهم) بالنون وقرأ حفص(وليوفيهم) بالياء.

طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} أي بإقبالكم على الشهوات والملاذ ناسين الدار الآخرة فاستمتعتم بكل الطيبات ولم تبقوا للآخرة شيئا {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} أي الهوان {بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} إذ لاحق لكم في الكبر لضعفكم وعجزكم إنما الكبرياء لله الملك الحق أما أنتم فقد ظلمتم باستكباركم عن الإيمان بربكم ولقائه
وعن طاعته {وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} أي وبفسقكم عن طاعة ربكم وطاعة رسوله. إذاً فادخلوا جهنم داخرين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمة عقوق الوالدين وأنها من الكبائر.
2- بيان حنان الوالدين وحبهما لولدهما و بذل كل ما يقدران عليه من أجل إسعاده وهدايته.
3- التحذير من الانغماس في الملاذ و الشهوات و الاستمتاع.
4- التحذير من الكبر و الفسق وأن الكبر من أعمال القلوب والفسق من أعمال الجوارح.
5- مدى فهم السلف الصالح لهذه الآية { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}.
1) قرأ يزيد حتى بلغ { وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} ثم قال تعلمون والله إن أقواما يسترطون حسناتهم استبقى رجل طيباته إن استطاع ولا قوة إلا بالله.
2) روي أن عمر بن الخطاب كان يقول لو شئت لكنت أطيبكم طعاما و ألينكم لباسا, ولكن استبقي طيباتي.
وذكر أنه لما قدم الشام صنع له طعام لم ير قبله مثله, قال هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟ فقال له خالد بن الوليد لهم الجنة, فاغرورقت عينا عمر رضي الله عنه وقال لئن كان حظنا الحطام وذهبوا بالجنة لقد باينونا بونا بعيدا.
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ(23)

فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
شرح الكلمات:
واذكر أخا عاد :أي نبي الله هودا عليه السلام.
إذ أنذر قومه بالأحقاف :أي خوف قومه عذاب الله بوادي الأحقاف.
وقد خلت النذر : أي مضت الرسل.
من بين يديه ومن خلفه : أي من قبله ومن بعده إلى أممهم.
ألا تعبدوا إلا الله :أي أنذروهم بأن لا يعبدوا إلا الله.
إني أخاف عليكم : أي إن عبدتم غير الله.
عذاب يوم عظيم :أي هائل بسبب شرككم بالله وكفركم برسالتي.
أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا :أي لتصرفنا عن عبادتها.
فأتنا بما تعدنا :أي من العذاب على عبادتها.
إن كنتم من الصادقين :أي في أنه يأتينا قطعا كما تقول.
قل إنما العلم عند الله :أي علم مجيء العذاب ليس لي وإنما هو لله وحده.
وأبلغكم ما أرسلت به إليكم :أي وإنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلني به ربي إليكم.
ولكني أراكم قوما تجهلون :أي حظوظ أنفسكم وما ينبغي لها من الإسعاد والكمال وإلا كيف تستعجلون العذاب مطالبين به.
فلما رأوه عارضا :أي رأوا العذاب سحابا يعرض في الأفق.
مستقبل أوديتهم :أي متجها نحو أوديتهم التي فيها مزارعهم.
قالوا هذا عارض ممطرنا :أي قالوا مشيرين إلى السحاب هذا عارض ممطرنا.
بل هو ما استعجلتم به :أي ليس هو بالعارض الممطر بل العذاب الذي استعجلتموه.
ريح تدمر كل شيء : أي ريح عاتية تهلك كل شيء تمر به.
بأمر ربها :أي بإذن ربها تعالى.

فأصبحوا لا يرى إلا مساكتهم :أي أهلكتهم عن آخرهم فلم يبق إلا مساكنهم.
كذلك نجزي القوم المجرمين : أي كذلك الجزاء الذي جازينا به عاداً قوم هود وهو الهلاك الشامل نجزي المجرمين من سائر الأمم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في مطلب هداية قوم النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقال تعالى {وَاذْكُرْ} أي لقومك للعبرة والاتعاظ {أَخَا عَادٍ} وهو هود عليه السلام والأخوة هنا أخوة نسب لا دين. إذ كره {إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} إذ خوفهم عذاب الله إن لم يتوبوا إلى الله ويوحدوه، والأحقاف وادي القوم1 الذي به مزارعهم ومنازلهم وهو ما بين حضرموت ومهرة وعُمان جنوب الجزيرة العربية. وقوله {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ2 مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِه} أي وقد مضت الرسل من قبله ومن بعده في أممهم. أي لم يكن هود أول نذير، ولا أمته أول أمة أنذرت العذاب وقوله {لَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} أي كل رسول أنذر أمته عاقبة الشرك فأمرهم أن لا يعبدوا إلا الله، وهو بمعنى لا إله إلا الله التي دعا إليها محمد صلى الله عليه وسلم أمته فهي أمر بعبادة الله وترك الشرك فيها، وقوله {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يوم هائل عظيم وهو يوم القيامة، فكان رد القوم ما أخبر تعالى به في قوله {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا3} أي تصرفنا عن عبادة آلهتنا. {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} أي من العذاب {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فيما4 توعدنا به وتهددنا، فأجابهم هود عليه السلام بما أخبر تعالى به عنه بقوله {قَالَ} أي هود {إِنَّمَا 5الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} أي علم مجيء العذاب وتحديد وقته هذا ليس لي وإنما هو لله منزله، فمهمتي أن أنذركم العذاب قبل حلوله بكم وأبلغكم ما أرسلت به إليكم من الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك والمعاصي، {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ6} أي بما يضركم وما ينفعكم في الدنيا والآخرة وإلا كيف تستعجلون العذاب وتطالبون به إذ المفروض أن تطلبوا الرحمة والسعادة لا العذاب والشقاء قوله تعالى7 {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} أي فلما رأى قوم هود العذاب متجها
__________
1 الأحقاف: جمع حقف بكسر وسكون: الرمل العظيم المستطيل.
2 جائز أن تكون (النذر) جمع نذارة، وكونها الرسل هو الذي عليه المفسرون.
3 الاستفهام إنكاري والإفك، بفتح الهمزة الصرف، وبالكسر الكذب أو أسوأه.
4 جواب الشرط محذوف دل عليه ما تقدمه وهو: (فأتنا بما تعدن) ولفظ الصادقين، أبلغ في الوصف مما لو قالوا، إن كنت صادقاً.
5 (ال) في (العلم) للاستغراق العرفي أي: علم كل شيء، ومنه علم وقت مجيء العذاب.
6 أي: تجهلون صفات الله تعالى وحكمة إرسال الرسل، وتجهلون حتى ما ينفعكم وما يضركم وإلا فكيف تطالبون بالعذاب، كما في التفسير.
7 الفاء هنا: للتفريع فما ذكر بعدها متفرع عما تقدمها من قصة هود مع قومه.

نحو أوديتهم التي بها مزارعهم ومنازلهم { قَالُوا هَذَا عَارِضٌ1 مُمْطِرُنَا} أي هذا سحاب يعرض في السماء ذاهباً صوب وادينا ليسقينا، وهو معنى قوله {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} أي ممطر أراضينا المصابة بالجفاف الشديد. قال تعالى {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} أي ليس بالسحاب الممطر بل هو العذاب الذي طالبتم به لجهلكم وخفة أحلامكم، وبينه بقوله {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي تحمل في ثناياها العذاب الموجع، تدمر كل شيء تمر به فتهلكه {بِأَمْرِ رَبِّهَا} أي بإذنه وقد أتت عليهم عن آخرهم ولم ينج إلا هود والذين آمنوا معه برحمة من الله خاصة، {فَأَصْبَحُوا لا2 يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} أي لا يرى الرائي إذا نظر إليهم إلا مساكنهم خالية ما بها أحد. قال تعالى {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ3} أي كهذا الجزاء بالدمار والهلاك نجزي المجرمين أي المفسدين أنفسهم بالشرك والمعاصي.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله في الأمم في إرسال الرسل إليهم.
2- وبيان مهمة الرسل وهي النذارة والبلاغ.
3- بيان سفه وجهل الأمم التي تطالب بالعذاب وتستعجل به.
4- بيان أن عاداً أهلكت بالريح الدبور، وأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم نصر بريح الصبا كما في الحديث الصحيح.
5- بيان سنة الله تعالى في إهلاك المجرمين وهم الذين يصرون على الشرك والمعاصي.
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ
__________
1 العارض: السحاب الذي يعترض جو السماء، والاستقبال التوجه نحو الشيء ليكون قبالته.
2 قرأ الجمهور ومنهم نافع: (لا ترى) بالتاء المفتوحة، وقرأ حفص وغيره (لا يرى) بالياء والبناء للمجهول، والمراد بالمساكن: آثارها وبعض الجدران الشاخصة منها.
3 في الآية دليل على إفساد الإجرام وأنه سبب كل هلاك، وحقيقته: أنه إفساد الروح بالشرك والمعاصي فعلا وتركاً.

أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
شرح الكلمات:
ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه : أي ولقد مكنا قوم عاد من القوة التي لم نمكنكم أنتم من مثلها.
وجعلنا لهم سمعا وأبصاراً :وجعلنا لهم أسماعاً وأبصاراً.
فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء: أي من الإغناء
إذ كانوا يجحدون بآيات الله :أي لعلة هي أنهم كانوا يجحدون بآيات الله وهي حججه البينة.
وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون :أي نزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به.
ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى :أي من أهل القرى كعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين.
وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون :أي كررنا الحجج وضربنا الأمثال ونوعنا الأساليب لعلهم يرجعون إلى الحق فيؤمنون ويوحدون.
فلولا نصر الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة : أي فهلا نصرهم بدفع العذاب عنهم الذين اتخذوهم من دون الله آلهة يتقربون بهم إلى الله في زعمهم.
بل ضلوا عنهم :أي غابوا عنهم عند نزول العذاب.
وذلك إفكهم وما كانوا يفترون :أي خذلان آلهتهم لهم وعدم نصرتهم لهم بل غيابهم عنهم هو إفكهم وافتراؤهم الذي كانوا يفترونه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في مطلب هداية قريش أنه لما قص تعالى عليهم قصة عاد وتجلت فيها عظات كثيرة وعبرة كبيرة قال لهم {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ1} أي قوم عاد مكناهم في الأرض فأعطيناهم من مظاهر
__________
1 الجملة في محل نصب على الحال من واو الجماعة في قوله: (قالوا أجئتنا) والكلام مستعمل من عدم انتفاعه بما مواهب عقولهم.

القوة المادية {فِيمَا إِنْ1 مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ2} أنتم يا معشر كفار قريش وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة أي قلوباً فيما أغنى عنهم سمعهم أي أسماعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء من الإغناء إذ كانوا يجحدون بآيات الله أي بحججه وبيناته الدالة على وجوب توحيده وحاق أي نزل بهم العذاب الذي كانوا إذا خوفوا به وأنذروا استهزأوا وسخروا وقوله تعالى {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى} كعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين وقوله {وَصَرَّفْنَا الْآياتِ} أي وكررنا الحجج وضربنا الأمثال ونوعنا العظات والعبر لعلهم يرجعون إلى الحق الذي انصرفوا عنه وهو التوحيد والاستقامة فأبوا إلا الإصرار على الشرك والباطل فأهلكناهم.3 فلولا أي فهلا نصرهم الذين4 اتخذوهم من دون الله قرباناً آلهة يتقربون بها إلى الله في زعمهم والجواب ما نصروهم بل ضلوا عنهم أي غابوا فلم يعثروا عليهم بالكلية. قال تعالى {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ5 وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي ذلك الذي تم لهم من الخذلان والعذاب هو إفكهم أي كذبهم وافتراؤهم الذي كانوا يعيشون عليه قبل هلاكهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن الإعراض عن دين الله والإصرار على الفسق عن أمر الله، والاستمرار على الخروج على طاعته إذا استوجب صاحبه العذاب ونزل به لم يغن عنه ذكاؤه ولا دهاؤه ولا علمه وحضارته ولا علوه وتطاوله.
2- بيان أن الآيات والحجج وضرب الأمثال وسوق العبر والعظات لا تنفع في هداية العبد، إذا لم يرد الله هدايته {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ} ويحيق به العذاب ويهلكه جزاء تكذيبه وكفره وإعراضه وفسقه.
__________
1 {فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} (ما) موصولة و(إن) نافية عدولا عن النفي بما حتى لا تجتمع ميمان، الموصولة والنافية ارتقاء في الأسلوب.
2 التمكين: إعطاء المكنة: بفتح الميم وكسر الكاف وهي: القدرة والقوة، يقال: مكن من كذا وتمكن إذا قدر عليه، وكنه أقدره عليه.
3 أصل لولا إذا دخلت على الجملة الفعلية كانت للتحضيض على تحصيل ذلك الفعل فإذا كان الفاعل غير المخاطب بالكلام كانت للتوبيخ، إذ لا طائل في تحضيض المخاطب على فعل غيره، والإتيان بالموصول لما في الصلة من التنبيه على الخطأ والغلط في عبادة الأصنام التي لم تغن عنهم شيئاً كقول الشاعر:
إن الذين ترونهم إخوانكم
يشقي غليل صدورهم أن تصرعوا
4الكلام تضمن التوبيخ للأمم الهالكة على شركهم وعنادهم لرسلهم تعريضاً بقريش المصرة على الخطأ نفسه الذي هلكت به الأمم المجاورة لها لعلهم يتذكرون فيتوبون.
5 (وذلك إفكهم) هذه فذلكة قوله تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا} الخ والإشارة إلى ما تضمنه قوله: اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة والافتراء نوع من الكذب كابتكار الأخبار الكاذبة، ويرادف الاختلاق.

3- بيان غياب الشركاء من الأنداد التي كانت تعبد عن عابديها فضلا عن نصرتها لهم وذلك الخذلان هو جزاء كذبهم وافترائهم في الحياة الدنيا.
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)
شرح الكلمات:
وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن :أي واذكر إذ أملنا إليك نفراً من الجن جن نصيبين أو نينوي.
فلما حضروه قالوا أنصتوا :أي حضروا سماع القرآن قالوا أي بعضهم لبعض أصغوا لاستماع القرآن.
فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين :أي فرغ من قراءته رجعوا إلى قومهم مخوفين لهم من العذاب.
مصدقا لما بين يديه :أي من الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها.
يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم :أي من العقائد في الشرائع والاسلام.
ويجركم من عذاب أليم :أي ويحفظكم هو عذاب يوم القيامة.
فليس بمعجز في الأرض :أي فليس بمعجز الله هرباً منه فيفوته.
أولئك في ضلال مبين :أي الذين لم يجيبوا داعي الله وهو محمد صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان.:أي في ضلال عن طريق الإسعاد والكمال ظاهر بين.

معنى الآيات:
ما زال السياق في طلب هداية قوم النبي صلى الله عليه وسلم إنه بعد أن ذكرهم بعاد وما أصابها من دمار وهلاك نتيجة شركها وكفرها وإصرارها على ذلك فقال تعالى {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} إلى آخر الآيات ذكرهم هنا بما هو تقريع لهم وتوبيخ إذا أراهم أن الجن خير منهم لسرعة استجابتهم للدعوة والقيام بتبليغها فقال تعالى {وَإِذْ1 صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ2 } أي اذكر لقومك من كفار مكة وغيرها إذ صرفنا إليك نفراً من الجن وهم عدد ما بين السبعة إلى التسعة من جن نصيبين وكانوا من أشراف الجن وسادتهم صرفناهم إليك أي أملناهم إليك وأنت تقرأ في صلاة الصبح ببطن نخلة بين مكة والطائف صرفناهم إليك يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا3 أي أصغوا واستمعوا ولا تشوشوا, قاله بعضهم لبعض, فلما قضي أي القرآن فرغ منه، ولوا إلى قومهم أي رجعوا إلى قومهم من الجن بنصيبين ونينوي منذرين إياهم أي مخوفينهم من عذاب الله إذا استمروا على الشرك والمعاصي فماذا قالوا لهم قالوا ما أخبر تعالى به عنهم قالوا يا قومنا4 إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى5 وهو القرآن مصدقا لما بين يديه أي من الكتب الإلهية التي سبق نزولها كصحف إبراهيم والتوراة والزبور والإنجيل، ووصفوا القرآن بما يلي يهدي إلى الحق والصواب في كل شيء اختلف فيه الناس من العقائد والديانات والأحكام، ويهدي إلى صراط مستقيم أي طريق قاصد غير جور ألا وهو الإسلام دين الأنبياء عامة.
وقالوا مبلغين منذرين {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ}6 وهو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَآمِنُوا بِهِ} أجيبوه إلى ما يدعو إليه من توحيد الله وطاعته وآمنوا بعموم رسالته بكل ما جاء به من الهدى ودين الحق ويكون جزاؤكم على ذلك أن {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أي يغفر لكم الذنوب التي بينكم وبين الله تعالى بسترها عليكم ولا يؤاخذكم بها، وأما الذنوب التي بينكم وبين بعضكم بعضاً فإنها لا تغفر إلا من قبل المظلوم نفسه باستسماحه أو رد الحق إليه، وقوله
__________
1 الجملة معطوفة على قوله (واذكر أخا عاد) وإن طلبت المناسبة بين هذه الآيات وما تقدمها في السور فهي قوله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ}.
2 النفر: العدد دون العشرين.
3 (أنصتوا) أمر بتوجيه الأسماع إلى الكلام اهتماماً به لئلا يفوت منه شيء وفي الحديث:" (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر جابرا في حجة الوداع فقال له: استنصت الناس" قبل أن يبدأ خطبته صلى الله عليه وسلم.
4 جملة: (قالوا يا قومنا) الخ مبنية لقوله تعالى: (منذرين).
5 ظاهر الآية أنهم كانوا يهودا مؤمنين بموسى ولم يكونوا على دين عيسى عليه السلام.
6 قال ابن عباس رضي الله عنهما: استجاب لهم سبعون رجلا من قومهم فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فوافقوه بالبطحاء "مكة" فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم.

ويجركم من1 عذاب أليم ويحفظكم منقذاً لكم من عذاب أليم أي ذي ألمٍ موجع وهو عذاب النار، ثم قالوا: {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ} أي لم يستجب لنداء محمد فيؤمن به ويوحد الله تعالى فليس بمعجز في الأرض أي لله بل الله غالب على أمره ومهما حاول الهرب فإن الله مدركه لا محالة {وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ} يتولون أمره ولا أنصار ينصرونه. قال تعالى {أُولَئِكَ} أي المذكورون في هذا السياق ممن لم يجيبوا داعي الله محمد صلى الله عليه وسلم {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي في عمى وغواية بين أمرهم واضح لا يستره شيء.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- إثبات عالم الجن وتقريره في هذا السياق ولذا كان إنكار الجن كإنكار الملائكة كفراً.
2- وجوب التأدب عند تلاوة القرآن بالإصغاء التام.
3- وجوب البلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الحديث بلغوا عني ولو آية.
4- الإعراض عن دين الله يوجب الخذلان والحرمان.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
__________
1 اختلف في: هل مؤمنو الجن يدخلون الجنة أو لا؟ فذهب أبو حنيفة والحسن البصري قبله إلى أن ثوابهم أن ينجوا من النار فقط ثم يكونون ترابا كسائر الحيوان، وذهب مالك والشافعي وغيرهما إلى أنهم يدخلون الجنة، وحجة المانعين من دخولهم الجنة هذه الآية { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ودليل من قال بدخولهم الجنة قوله تعالى في هذه السورة {لِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}.

شرح الكلمات:
ولم يعي بخلقهن :أي لم يتعب ولم ينصب لخلق السموات والأرض.
بقادر على أن يحييى الموتى بلى :أي إنه قادر على إحياء الموتى وإخراجهم أحياء من قبورهم للحشر.
ويوم يعرض الذين كفروا على النار :أي ليعذبوا فيها.
أليس هذا بالحق :أي يقال لهم تقريعاً: أليس هذا أي العذاب بحق؟.
قالوا بلى وربنا :أي إنه لحق وربنا حلفوا بالله تأكيداً لخبرهم.
فاصبر :أي يا رسولنا محمد على أذى قومك.
أولوا العزم :أي أصحاب الحزم والصبر والعزم وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم أجمعين وسلم وهم أصحاب الشرائع.
ولا تستعجل لهم :أي ولا تستعجل نزول العذاب لأجلهم.
كأنهم يوم يرون العذاب : أي في الآخرة.
لم يلبثوا إلا ساعة :أي لم يقيموا في الدنيا إلا ساعة من النهار وذلك لطول العذاب.
بلاغ :أي هذا القرآن بلاغ للناس أي تبليغهم لهم.
هل يهلك إلا القوم الفاسقون :أي ما يهلك إلا القوم التاركون لأمر الله المعرضون عنه الخارجون عن طاعته.
معنى الآيات:
ما زال السياق في مطلب هداية قريش الكافرة بالتوحيد المكذبة بالبعث والنبوة فقال تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا} أي أعموا {أَوَلَمْ1 يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} إنشاءاً وإبداعا من غير مثال سابق {وَلَمْ يَعْيَ2} أي ينصب ويتعب {بِخَلْقِهِنَّ} أي السموات والأرض بقادر على أن يحييى الموتى لحشرهم إليه ومحاسبتهم ومجازاتهم بحسب أعمالهم في الدنيا الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها {بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقوله تعالى {وَيَوْمَ يُعْرَضُ3 الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} لما أثبت البعث وقرره ذكر بعض ما يكون فيه فقال ويوم يعرض الذين كفروا على النار أي تعرضهم الزبانية على النار فيقولون لهم
__________
1 الاستفهام إنكاري، وجوابه قوله تعالى: {بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
2 عيي كرضي وويعي كيرضى وهو: العجز في الحيلة والرأي وأما الإعياء بمعنى التعب ففعله: أعيا يعيى إعياء إذا تعب، وجائز أن يكون عيي بمعنى نصب وتعب.
3 أظهر في موضع الإضمار للإشارة إلى علة الحكم وهي: الكفر تحذيراً منه.

تقريعاً وتوبيخاً {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ؟1} أي أليس هذا التعذيب بحق؟ فيقولون مقسمين على ثبوته بما أخبر تعالى عنهم في قوله: {قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} فلما اعترفوا قيل لهم {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} أي بسبب كفركم أي جحودكم لتوحيد الله ولقائه. ثم أمر تعالى رسوله أن يتدرع بالصبر وأن يتمثل صبر أولي2 العزم ليكون أقوى منهم صبراً كما هو أعلى منهم درجة فقال له فاصبر يا رسولنا على ما تلاقي من أذى قومك من تكذيب وأذى فأثبت لذلك كما ثبت أولوا العزم من قبلك، والظاهر أنهم المذكورون في قوله تعالى من سورة الأحزاب {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} ، ومن الجائز أن يكون عدد أولي العزم أكثر مما ذكر وقوله تعالى {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} لما أمره بالصبر نهاه عن استعجال العذاب لقومه فقال فاصبر ولا تستعجل العذاب لهم. { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ}3 تعليل لعدم استعجال العذاب لأنه قريب جداً حتى إنهم يوم ينزل بهم ويرونه كأنهم لم يلبثوا في الدنيا على طول الحياة فيها إلا ساعة من نهار وقوله تعالى {بَلاغٌ} أي هذا القرآن وما حواه من تعليم وبيان للهدى تبليغ للناس وقوله {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ}4 ينفي تعالى هلاك غير الفاسقين عن أوامره الخارجين عن طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- الكفر هو الموجب للنار والكفر هو تكذيب بوجود الله تعالى وهو الإلحاد أو تكذيب بلقائه تعالى أو بآياته أو رسله، أو شرائعه بعضاً أو كلاً.
3- وجوب الصبر على الطاعات فعلا، وعن المعاصي تركا، وعلى البلاء بعدم التضجر والسخط.
4- إطلاق الفسق على الكفر باعتباره خروجا عن طاعة الله فيما يأمر به من العقائد والعبادات وينهى عنه من الشرك والمعاصي.
__________
1 الاستفهام تقريري وتنديم على ما كانوا يزعمونه من الباطل، وإقسامهم بقولهم: (وربنا) من باب التحنن والتخضع تلمساً العفو وعدم المؤاخذة.
2 العزم: نية محققة على عمل أو قول دون تردد، والمحمود منه ما كان في امتثال أوامر الله ورسوله واجتناب نواهيهما، ودونه ما كان فيما يجلب خيراً ويدفع شراً.
3 (من نهار) وصف لساعة، وكونها من إشارة إلى قلتها وعدم طولها بخلاف ساعة الليل فإنها ترى طويلة. و(بلاغ) خبر، والمبتدأ محذوف تقديره: هذا بلاغ.
4 (فهل يهلك) الاستفهام للنفي ولذا صح الاستثناء منه، و(ال) في (القوم) للجنس ليشمل كل من فسق، والفسق: الخروج عن طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم بالإصرار على الشرك والكفر.

سورة محمد
...
سورة محمد صلى الله عليه وسلم1
أو القتال
مدنية
وآياتها ثمان وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
شرح الكلمات:
الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله :أي كفروا بتوحيد الله ولقائه وبآياته ورسوله وصدوا غيرهم عن الدخول في الإسلام.
أضل أعمالهم :أي أحبط أعمالهم الخيرية كإطعام الطعام وصلة الأرحام فلا يرى لها أثر يوم القيامة.
والذين آمنوا وعملوا الصالحات :أي آمنوا بالله وآياته ورسوله ولقائه وأدوا الفرائض واجتنبوا النواهي.
وآمنوا بما أنزل على محمد :أي بالقرآن الكريم.
كفر عن سيئاتهم :أي محا عنهم ذنوبهم وغفرها لهم.
وأصلح بالهم :أي شأنهم وحالهم فهم لا يعصون الله تعالى.
ذلك :أي إضلال أعمال الكافرين وتكفير سيئات المؤمنين.
__________
1 تسميتها بسورة محمد أكثر وأشهر في كتب التفسير والحديث معاً.

بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل :أي الشيطان في كل ما يمليه عليهم ويزينه لهم من الكفر والشرك والمعاصي.
وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم :أي التوحيد والعمل الصالح.
كذلك يضرب الله للناس أمثالهم : أي كما بين تعالى حال الكافرين، وحال المؤمنين في هذه الآية يبين للناس أمثالهم ليعتبروا.
معنى الآيات:
قوله تعالى { الَّذِينَ1 كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ2} هذه جملة خبرية أخبر تعالى فيها عن حال من كفر بالله و رسوله وصد عن سبيل الله أي الإسلام غيره من الناس أضل الله عمله3 فأحبطه فلم يحصل له ثواب في الآخرة, ولازمه أنه هالك في النار, و تكون هذه الجملة كأنها جواب لسؤال نشأ عن قوله تعالى في خاتمة سورة الأحقاف قبل هذه السورة وهي فهل يهلك إلا القوم الفاسقون أي ما يهلك إلا القوم الفاسقون فقال قائل من هم القوم الفاسقون؟ فكان الجواب الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وهو وجه ارتباط بين السورتين حسن. هذا وقوله تعالى { وَالَّذِينَ آمَنُوا} أي4 بالله ورسوله وآياته ولقائه وعملوا الصالحات أي أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و صاموا رمضان وحجوا بيت الله الحرام ووصلوا الأرحام و أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. ولو بالاستعداد للقيام بذلك إذ بعض هذه الصالحات لم يشرع بعد وآمنوا بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن الكريم والسنة الصحيحة لأنها وحي إلهي يتلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي صحيح الحديث "ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه" وقوله تعالى :{ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} آي القرآن لأنه ناسخ للكتب قبله ولا ينسخ بكتاب بعده. فهو الحق الثابت الباقي إلى نهاية الحياة. وقوله :{ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي محا عنهم ذنوبهم وأصلح بالهم 5 أي ِشأنهم وحالهم فلم يفسدوا بعد بشرك ولا كفر
__________
1 الكفر الإشراك بالله والصد عن سبيل الله، هو صرف الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والدخول في الإسلام، ويدخل فيه الصد عن المسجد الحرام للاعتمار والحج.
2 قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في المطعمين ببدر وهم اثنا عشر رجلا: أبو جهل والحارث بن هشام وذكرهم، وهم الذين أطعموا الناس يوم بدر ليثبتوا على القتال ولا يفروا, أبطل أعمالهم لعلة شركهم وكفرهم والآية عامة في كل كافر وما بعدها في كل مؤمن.
3 أصل الإضلال: الخطأ عن الطريق، ولما كان المطعمون عملوا عملا ظنوا أنه خير لهم ونافع فلما أبطله الله تعالى عليهم فلم ينتفعوا به كانوا كمن ضل طريقه فشقى وهلك.
4 هذه فئة المؤمنين المقابلة لفئة الكافرين ذكر لها ثلاث صفات كما لتلك ثلاث صفات وهي: الإيمان المقابل للكفر، والإيمان بما نزل على محمد المقابلة للصد عن سبيل الله، وعمل الصالحات المقابلة لما فعله المطعمون من الطعام.
5 البال: يطلق على القلب والعقل، وعلى ما يخطر للمرء من التفكير وهو أكثر إطلاقه ولعله حقيقة فيه، ومجاز في غيره، ويطلق أيضا على الحال والشأن، والقدر لحديث "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر".

هذا جزاؤهم على إيمانهم وصالح أعمالهم. وقوله تعالى :{ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا1 اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ } وهو الشيطان وما يزينه من أعمال الشرك والشر والفساد، {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ } وهو القرآن وما جاء به ودعا إليه من العقائد الصحيحة والعبادات المزكية للنفس المهذبة للأرواح. أي ذلك الجزاء للذين كفروا والذين آمنوا بسبب أن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم. وقوله تعالى {كَذَلِكَ يَضْرِبُ2 اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } أي مثل هذا التبيين لحال الكافرين وحال المؤمنين في هذه الآيات يبين الله للناس أمثالهم أي أحوالهم بالخسران والنجاح ليعتبروا فيسلكوا سبيل النجاح، ويتجنبوا سبيل الخسران، فضلا منه تعالى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1-بيان طريقي الفلاح والخسران فطريق الفلاح الإيمان والعمل الصالح وطريق الخسران الشرك والمعاصي.
2-بيان أعمال البر مع الكفر والشرك لا تنفع صاحبها يوم القيامة ولا تشفع له وقد يثاب عليها في الدنيا فيبارك له في ماله وولده.
3-بيان الحكمة في ضرب الأمثال وهي هداية الناس إلى ما يفلحون به، فينجون من النار ويدخلون الجنة.
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُم(4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(7) )وَالَّذِينَ كَفَرُوا
__________
1 هذا تبيين للسبب الأصلي في إضلال أعمال الكافرين وإصلاح بال المؤمنين والباء: بأن: سببية، واسم الإشارة مبتدأ والخبر: قوله(بأن الذين..) الخ والإشارة إلى ما تقدم من الخبرين (أضل أعمالهم) و (كفر عنهم سيأتهم).
2هذه الجملة تذييل لما سبق من بيان حال كل من الكافرين والمؤمنين و(يضرب) بمعنى يلقى مبيّناً، والأمثال: جمع مثل وهو: الحال التي تمثل صاحبها أي: تشهره للناس وتعرفهم به فلا يلتبس بنظائره.

فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُم (9)
شرح الكلمات:
فإذا لقيتم الذين كفروا :أي إذا كان الأمر كما ذكر فإذا لقيتم الذين كفروا في ساحة المعركة فاضربوا
رقابهم ضرباً شديداً تفصلون فيه الرقاب عن الأبدان.
حتى إذا أثخنتموهم :أي أكثرتم فيه القتل و لم يصبح لهم أمل في الانتصار عليكم.
فشدوا الوثاق :أي فأسروهم بدل قتلهم وشدوا الوثاق أي ما يوثق به الأسير من إسار قدأ كان
أو حبلا حتى لا يتفلتوا ويهربوا.
فإما مناً بعد وإما فداء1 :أي بعد أسركم لهم وشد وثاقهم فإما أن تمنوا مناً أي تفكوهم من الأسر مجاناً,
وإما تفادونهم بمال أو أسير مسلم, وهذا بعد نهاية المعركة.
حتى تضع الحرب أوزارها :أي واصلوا القتال والأخذ و الأسر إلى أن تضع الحرب أوزارها وهي آلاتها وذلك
عند إسلام الكفار أو دخولهم في عهدكم فهذه غاية انتهاء الحرب حتى لا تكون
فتنة ويكون الدين كله لله.
ذلك :أي الأمر ذلك الذي علمتم من استمرار القتال إلى غاية إسلام الكفار أو دخولهم
في عهدكم وذمتكم.
ولو يشاء الله لانتصر منهم :أي بغير قتال منكم كأن يخسف بهم الأرض أو يصيبهم بوباء ونحوه.
ولكن ليبلوا بعضكم ببعض :ولكن أمركم بالقتال وشرعه لكم لحكمة هي أن يبلوا بعضكم ببعض أي يختبركم
من يقاتل منكم ومن لا يقاتل, والمؤمن يقتل فيدخل الجنة والكافر يقتل فيدخل
النار
والذين قتلوا في سبيل الله2 :أي قتلهم العدو, وقرئ قاتلوا في سبيل الله.
__________
1 (منا) و (فداءً): منصوبان على المفعولية المطلقة أي: تمنون مناً وإما تفدون فداء.
2 قرأ نافع (قاتلوا) بالبناء للفاعل, وقرأ حفص: (قوتلوا) بالبناء للمفعول.

فلن يضل أعمالهم :أي لا يحبطها ولا يبطلها.
سيهديهم ويصلح بالهم :أي سيوفقهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم ويصلح شأنهم.
ويدخلهم الجنة عرفها لهم :أي ويدخلهم يوم القيامة الجنة بينها لهم فعرفوها بما وصفها لهم في كتابه وعلى
لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن تنصروا الله :أي في دينه ورسوله وعباده المؤمنين.
ينصركم ويثبت أقدامكم :أي على عدوكم ويثبت أقدامكم في المعارك.
والذين كفروا فتعسا لهم :أي تعسوا تعسا أي هلاكا.
وأضل أعمالهم :أي أحبطها وأبطلها فلم يحصلوا بها على طائل.
ذلك :أي الضلال والتعس.
بأنهم كرهوا ما أنزل الله :أي من القرآن المشتمل على أنواع الهدايات و الإصلاحات.
فأحبط أعمالهم :أي أبطلها و أضلها فلا ينتفعون بها لا في الدنيا و لا في الآخرة.
معنى الآيات:
لقد تقدم أن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد أضل أعمالهم وذلك لكفرهم وصدهم عن سبيل الله إذا كان الأمر كذلك فليقاتلوا لإنهاء كل من المفسدتين كفرهم وصدهم غيرهم عن الإسلام وهذا ما دل عليه قوله تعالى فإذا لقيتم1 الذين كفروا فضرب الرقاب أي2 فاضربوا رقابهم ضربا يفصل الرأس عن الجسد وواصلوا قتالهم حتى إذا أثخنتموهم أي أكثرتم فيهم القتل, فشدوا الوثاق أي3 احكموا ربط الأسرى بوضع الوثاق وهو الحبل في أيديهم وأرجلهم حتى لا يتمكنوا من قتلكم ولا الهرب منكم وبعد ذلك أنتم وما يراه إمامكم من المصلحة العليا فإن رأى المن فمنوا عليهم مجانا بلا مقابل, وإما تفادونهم فداء بمال, أو برجال, وستظل تلك حالكم قتل وأخذ وأسر ثم من عفو مجاني, أو فداء بعوض ومقابل إلى أن تضع الحرب أوزارها أي أثقالها من عدد وعتاد حربي, وذلك لوصولكم إلى الغاية من الحرب وهي أن يسلم الكافر, أو يدخل في ذمة المسلمين, وهو معنى قوله تعالى في سورة البقرة {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ
__________
1 الفاء للتفريع أي: تفريع هذا الكلام على ما قبله, والمقصود تهوين شأن الكافرين في قلوب المسلمين, وإغراء المسلمين بقطع دابر الكافرين و(إذا): ظرفية شرطية, وجوابها: (فضرب الرقاب) واللقاء معناه المقابلة في ساحة الحرب.
2 (فضرب): نصب ضرب على المفعولية المطلقة أي: فاضربوا الرقاب ضرباً, والجملة كناية عن قتل المشركين في ساحة المعركة سواء كان الضرب بالسيف أو الرمح أو السهام, فصارت هذه الجملة لما تحمله من معاني الأخذ بالشدة كأنها مثل سائر.
3 (الوثاق) بفتح الواو, ويجوز كسرها الشيء الذي يوثق به وهو كناية عن الأسر إذ الأسر يستلزم وضع الإسار في يد الأسير ليقاد به.

وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}. وقوله تعالى { ذَلِكَ } أي الأمر الذي علمتم من استمرار القتل والأسر إلى أن تضع الحرب أوزارها1 بالدخول في2 الإسلام أو في ذمة المسلمين وقوله ولو شاء الله لانتصر منهم أي بدون قتال منكم ولكن بخسف أو وباء أو صواعق من السماء و لكن لم يفعل ذلك من أجل أن يبلوا بعضكم ببعض أي ليختبركم بهم. فيعلم المجاهدين منكم والصابرين, ويبلوهم بكم فيعاقب من شاء منهم بأيديكم, ويتوب على من يشاء منهم كذلك, إذ انتصارهم عليكم ووقوعهم تحت سلطانكم يساعدهم على التوبة إلى الله و الرجوع إلى الحق فيسلموا فيفلحوا بالنجاة من النار ودخول الجنة, وقوله تعالى { وَالَّذِينَ قُاتلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وفي قراءة3 والذين قتلوا في سبيل الله وهذه عامة في شهداء أحد وغيرهم وإن نزلت الآية فيهم فإن الله تعالى يخبر عن أنعامه عليهم بقوله فلن يضل أعمالهم سيهديهم في الدنيا ويوفقهم إلى كل خير و يصلح شأنهم, ويدخلهم في الآخرة الجنة عرفها لهم أي بينها لهم في كتابه ولسان رسوله وطيبها لهم أيضاً,4 وفي الآخرة يهديهم إلى منازلهم في الجنة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم " فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة من منزله الذي كان بالدنيا" (البخاري), وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} أي يا من آمنتم بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا أن تنصروا الله بنصر دينه ونبيه وأوليائه بقتال أعدائه ينصركم الله ويجعل الغلبة لكم, ويثبت أقدامكم في كل معترك لقيتم فيه المشركين والكافرين. وهذا وعد من الله تعالى كم أنجزه لعباده المؤمنين في تاريخ الجهاد في سبيل الله، وقوله تعالى والذين كفروا فتعساً5 لهم أي تعسوا تعسا6 وهلكوا هلاكا وخابوا وخسروا، وأضل أعمالهم فلم يعثروا عليها ولم يروا لها أدنى فائدة ذلك الجزاء وتلك العقوبة بأنهم أي بسبب أنهم كرهوا ما أنزل الله أي من القرآن من آيات التوحيد والشرائع والأحكام فأحبط أي لذلك أعمالهم فخسروا في الحياتين.
__________
1 الأوزار: جمع وزر كحمل وأحمال، والمراد بها الأثقال من العتاد الحربي وهي كناية عن انتهاء الحرب بنصر الإسلام والمسلمين.
2 اختلف في: هل هذه الآية منسوخة أو محكمة والصحيح أنها محكمة وأن الإمام مخير بين القتل والأسر والفداء والمن ولكن لابد من النظر في مصلحة الإسلام والمسلمين فنظر الحاكم يكون محققاً للمصلحة العامة.
3 (قاتلوا) قراءة نافع و(قتلوا) قراءة حفص كما تقدم في النهر قريباً.
4 قال ابن عباس (عرفها لهم) أي طيبها لهم بأنواع الملاذ مأخوذ من العرف بفتح العين: الرائحة الطيبة.
5 التعس: الشقاء، ويطلق على الهلاك والخيبة والسقوط والانحطاط.
6 (تعسا): منصوب على المفعولية المطلقة كما في التفسير ويجوز أن يكون مستعملاً في الدعاء عليهم لقصد التحقير والتفضيع لشأنهم وهو مثل سقياً ورعياً له وتباً له وويحاً له، وإن كان هذا فإنه يتعين تقدير قول محذوف أي: فقال الله: تعساً لهم. كقول أم مسطح: تعس مسطح دعاء عليه.

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب الجهاد على أمة الإسلام ومواصلته كما بين تعالى في هذه الآيات إلى أن لا يبقى كافر يحارب بأن يدخلوا في الإسلام أو يعاهدوا ويدخلوا في ذمة المسلمين ويقبلوا على إصلاح أنفسهم وإعدادها للخير والفلاح.
2- إمام المسلمين مخير في الأسرى بين المن والفداء، والقتل أيضا لأدلة من السنة.
3- بشرى المجاهدين في سبيل الله بإكرام الله لهم وإنعامه عليهم في الدنيا والآخرة.
4- يظفر بالنصر الحقيقي من نصر الله تعالى في دينه وأوليائه.
5- إنذار الكافرين بالتعاسة والشقاء في الدنيا والآخرة.
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)
شرح الكلمات:
أفلم يسيروا في الأرض :أي أغفل هؤلاء المشركون فلم يسيروا في البلاد.
فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم :أي كيف كانت نهاية الذين من قبلهم كعاد وثمود.
دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها :أي دمر عليهم مساكنهم فأهلكهم وأولادهم وأموالهم وللكافرين أمثال تلك العاقبة السيئة.

وأن الكافرين لا مولى لهم :أي لا ناصر لهم.
والذين كفروا يتمتعون ويأكلون :أي بمتع الدنيا من مطاعم ومشارب وملابس ويأكلون.
كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم :أي كأكل الأنعام بنهم وازدراد والنار مأواهم.
وكأين من قرية :أي وكثير من أهل قرية هي أشد قوة. هي أشد قوة
من قريتك التي أخرجتك :أي مكة إذ أخرج أهلها النبي صلى الله عليه وسلم.
أفمن كان على بينة من ربه :أي على حجة وبرهان من أمر دينه فهو يعبد الله على علم.
كمن زين له سوء عمله :أي كمن زين الشيطان له سوء عمله.
واتبعوا أهواءهم :أي واتبعوا أهواءهم في عبادة الأصنام والجواب ليسوا سواء ولا مماثلة بينهما أبدا.
معنى الآيات:
قوله تعالى {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ1} يوبخ تعالى المشركين المصرين على الشرك والكفر على إصرارهم على الشرك والعناد فيقول أغفلوا {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} كعاد وثمود وقوم لوط إذ دمر تعالى عليهم بلادهم فأهلكهم وأولادهم وأموالهم فيعتبروا بذلك، وقوله تعالى {وَلِلْكَافِرِين} أمثال تلك العاقبة المدمرة، وعيد لكفار مكة بأن ينزل عليهم عقوبة كعقوبة الأولين إن لم يتوبوا من شركهم وإصرارهم عليه، وعنادهم فيه. وقوله {ذَلِكَ2} أي نصر المؤمنين وقهر الكافرين بسبب أن الله مولى الذين آمنوا أي وليهم ومتولي أمرهم وناصرهم. وأن الكافرين لا مولى لهم لأن الله تعالى خاذلهم ومن يخذله الله فلا ناصر له. قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ3 يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} هذا وعد من الله تعالى لأهل الإيمان والعمل الصالح بأن يدخلهم يوم القيامة جنات أي بساتين تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار وقوله {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ} في الدنيا بملاذها وشهواتها، {وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} إذ ليس لهم هم إلا بطونهم وفروجهم، ولذا هم لا
__________
1 الفاء للتفريع، تفريع هذه الجملة الكلامية على الجملة السابقة وهي: (والذين كفروا فتعساً لهم) والاستفهام للتقريرالتوبيخي.
2 جائز أن يكون اسم الإشارة منصرفا إلى مضمون قوله تعالى (وللكافرين أمثالها) فيفيد أن ما أصاب المشركين من الدمار والخزي والعار بسبب أن الله ناصر الذين آمنوا وما في التفسير في غاية الوضوح.
3 كلام مستأنف استئنافاً بيانياً، إذ هو بمثابة جواب لمن سأل عن حال المؤمنين في الآخرة وحال الكافرين في الدنيا، أما في الآخرة فالأمر معلوم وهو أنهم أصحاب النار هم فيها خالدون إذ بين تعالى حال المؤمنين في الآخرة، وحال الكافرين في الدنيا.

يلتفتون إلى الآخرة. {وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ1} أي مقام ومنزل ومصير، وهذا وعيد شديد للكافرين. وهذا هو الترغيب والترهيب الذي هو سمة بارزة في أسلوب القرآن في الهداية البشرية وقوله تعالى {وَكَأَيِّنْ2 مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ3 أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} هذه الآية نزلت ساعة خروج الرسول صلى الله عليه وسلم من بيته إلى غار ثور مهاجراً فقد التفت إلى مكة وقال أنت أحب البلاد إلى الله وأحب بلاد الله إلي ولو أن المشركين لم يخرجونني لم أخرج منك. ومعنى الآية الكريمة وكثير من القرى أهلها أشد قوة من أهل قريتك "مكة" التي أخرجك أهلها حيث حكموا بإعدامه صلى الله عليه وسلم أهلكناهم أي أهل تلك القرى فلا ناصر وجد لهم عند إهلاكنا لهم. فكانت هذه الآية تحمل تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأي تسلية!! وقوله تعالى {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} أي على علم وبرهان من صحة معتقده وعبادته لله تعالى راجياً ثوابه خائفا من عقابه وهؤلاء هم المؤمنون، كمن زين له سوء أي قبيح عمله من الشرك والكفر فهو يعبد الأصنام، واتبعوا أهواءهم هم في ذلك فلم يتبعوا وحياً إلهياً ولا عقلا إنسانيا فهل حالهم كحال من ذكروا قبلهم والجواب لا يتماثلان إذا بينهما من الفوارق كما بين الحياة والموت، والجنة والنار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير قاعدة: العاقل من اعتبر بغيره.
2- تقرير ولاية الله لأهل الإيمان والتقوى.
3- بيان الفرق بين الماديين وأهل الإيمان والاستقامة على منهج الإسلام.
4- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم تخفيفا من آلامه التي يعانيها من إعراض المشركين وصوفهم عن الإسلام.
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ
__________
1 المثوى: مكان الثواء، الذي هو الاستقرار، وشاهده قول الشاعر:
آذنتنا ببينها أسماء
رب ثاوٍ يمل منه الثواء
2(كأين) تدل بوضعها على كثرة العدد مثل كم والمراد بالقرية أهلها بدليل أهلكناهم إذ لم يقل: أهلكناها، والمراد بالقرية هنا: مكة أم القرى وأضيفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشريفاً لها زيادة على شرفها إذ هي بلد الله الأمين.
3 أطلق الإخراج على ما عامل به المشركون الرسول صلى الله عليه وسلم من الجفاء والأذى ومحاربة نشر الدعوة فكان ذلك سبب خروجه منها، فأطلق الإخراج على مسبباته، وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم خرج باختياره ولم يكرهه المشركون على الخروج بل كانوا يحاولون منعه من الخروج.

يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
شرح الكلمات:
مثل الجنة التي وعد المتقون :أي صفة الجنة دار السلام التي وعد الله بها عباده المتقين له.
من ماء غير آسن : أي غير متغير الريح والطعم لطول مكثه.
وأنهار من عسل مصفى :أي من الشمع وفضلات النحل.
وسقوا ماء حميما :أي حاراً شديد الحرارة.
فقطع أمعاءهم : أي مصارينهم فخرجت من أدبارهم.
معنى الآيات:
قوله تعالى {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي1 وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} هذه الآية الكريم تضمنت شرح وافية لأنهار الجنة، وشراب أهل النار، كما اشتملت على مقارنة بين حال أهل الإيمان والتقوى وما وعدوا به من مغفرة ذنوبهم وإدخالهم الجنة، وبين حال أهل النار وهم خالدون فيها وما وعدوا فيها من ألوان العذاب الشديد فقوله تعالى {مَثَلُ الْجَنَّةِ} أي صفتها الممثلة لها الشارحة لحالها التي وعد المتقون أي التي وعد الله تعالى بها عباده المتقين له وهم أولياؤه الذين عبدوه ووحدوه فأطاعوه في الأمر والنهي فاقوا بذلك الشرك والمعاصي. فيها أنهار من ماء غير آسن2 أي غير متغير الطعم ولا الريح بطول المكث وأنهار من لبن لم يتغير طعمه أي بحموضة ولم يصر قارصا ولذلك لم يتغير ريحه أيضا وأنهار من خمرة لذة للشاربين3 أي وفيها أنهار من خمر هي لذة لمن يشربها وسبب لذاذتها أنها غير كدرة ولا مسكرة ولا ريح غير طيبة لها، وأنهار من عسل مصفى أي وفيها أنهار من عسل مصفى أي من الشمع وفضلات النحل وقوله ولهم فيها من كل الثمرات أي من سائر أنواع
__________
1 هذه الآية مستأنفة استئنافاً بيانياً إذ فيها بيان لما قد يسأل عنه السائل. (ومثل الجنة) مبتدأ والخبر محذوف يقدر بمثل مما سيوصف لكم أو ما سيتلى عليكم أو مما يتلى عليكم مثل الجنة وجملة: (فيها أنهار) بدل مفصل من مجمل.
2 أسن الماء: كضرب يأسن، وكنصر وفرح أيضاً فهو آسن: إذا تغير لونه.
3 اللذة: وصف وليست اسماً وهي تأنيث اللذ أي اللذيذ قال الشاعر:
ذكرت شباب اللذ غير قريب
ومجلس له طاب بين شروب
اللذاذة انفعال نفساني.

الثمار من فواكه وغيرها. ومع ذلك مغفرة من ربهم لسائر ذنوبهم فهل يستوي من هذه حالهم بحال من هو خالد في النار لا يخرج منها وسقوا ماء حميما حارا شديد الحرارة فلما سقوه وشربوه قطع أمعاءهم1 أي مصارينهم فخرجت من أدبارهم والعياذ بالله من النار وحال أهل النار اللهم أجرنا من النار اللهم أجرنا من النار اللهم أجرنا من النار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التقوى هي السبب المورث للجنة هكذا جعلها الله عز وجل، والتقوى هي بعد الإيمان فعل المأمورات وترك المنهيات من سائر أنواع الشرك والمعاصي.
2- بيان بعض نعيم الجنة من الشراب والفواكه.
3- بيان بعض عذاب النار وهو الخلود فيها وشرب الحميم.
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء، وأن لا مماثلة بين أهل السعادة وأهل الشقاء.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
شرح الكلمات:
ومنهم من يستمع إليك :أي ومن الكفار المنافقين من يستمع إليك في خطبة الجمعة.
ماذا قال آنفا :أي الساعة أي استهزاء منهم وسخرية يعنون أنه شيء لا يرجع إليه ولا يعتد به لعدم فائدته.
__________
1 الأمعاء: جمع معي بكسر الميم وقد تفتح وهو ما ينتقل إليه الطعام بعد نزوله من المعدة، ويسمى عفج بوزن كتف.

طبع الله على قلوبهم :أي بالكفر فلذا هم لا يعون.
واتبعوا أهواءهم :أي في الكفر والنفاق.
والذين اهتدوا :أي المؤمنون.
زادهم هدى :أي زادهم الله هدى.
وآتاهم تقواهم :أي ألهمهم ما يتقون به عذاب الله تعالى.
فهل ينظرون إلا الساعة :أي ما ينتظر أهل مكة إلا الساعة.
أن تأتيهم بغتة :أي فجأة.
فقد جاء أشراطها :أي علاماتها كبعثة النبي صلى الله عليه وسلم وانشقاق القمر والدخان.
فأنى لهم إذ جاءتهم ذكراهم :أي أنى لهم إذا جاءتهم التذكر الذي ينفعهم إذ قد أغلق باب التوبة.
فاعلم أنه لا إله إلا الله :أي فبناء على ما تقدم لك يا نبينا فاعلم أنه لا يستحق العبودية إلا الله فاعبده وتوكل عليه.
واستغفر لذنبك :أي قل استغفر الله أو اللهم اغفر لي.
وللمؤمنين والمؤمنات :أي واستغفر للمؤمنين والمؤمنات.
والله يعلم متقلبكم :أي متصرفكم في النهار وأنتم تتصرفون في أمور دنياكم.
ومثواكم :أي مكان ثواكم وإقامتكم ونومك بالليل.
معنى الآيات:
قوله تعالى {ومنهم من يستمع } إلي هذه الآية (16) والآية التي بعدها مدنيتان لا شك لأنهما نزلت في شأن النافقين قال تعالى مخبراً رسوله عن بعض المنافقين {وَمِنْهُمْ} أي ومن بعض المنافقين {مَنْ يَسْتَمِعُ1 إِلَيْكَ} أي إلى حديثك يوم الجمعة وأنت تخطب الناس على المنبر {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ} أي من المسجد {قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}2 من أصاحبك كعبد الله بن مسعود {مَاذَا قَالَ آنِفاً} 3، وقولهم هذا ظاهر عليه الخبث إذا لو كانوا مؤمنين محبين لقالوا
__________
1 روي عن مقاتل أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول ورفاعة بن التابوت والحارث بن عمرو وزيد بن الصلت، ومالك بن الدخشم من المنافقين بالمدينة إلا أن مالك بن الدخشم قد أسلم وحسن إسلامه والاستماع السماع ولكن بعناية واهتمام يتظاهرون بذلك نفاقا لا غير.
2 هم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عبد الله بن مسعود، وأبوا الدرداء وابن عباس وإن كان يومها صغيراً فإنه لا مانع أن يسأل ويجيب لما هو مؤهل له من طلب العلم والكمال فيه.
3 (آنفاً): أي الآن وهو أقرب الأوقات، وسؤالهم هذا سؤال استهزاء، وآنفاً لم يسمع إلا ظرفاً هكذا، وقيل هو مشتق من الأنف لأنه أول ما يظهر من البعير فأطلق على أقرب الوقت، ومنه أمر أنف، ورقة أنف لم ترع بعد قال الشاعر:
ويحرم سر جارتهم عليهم
ويأكل جارهم أنف القصاع==

ج10. أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري

 

ماذا قال رسول الله آنفا، ولكن قالوا ماذا قال آنفا، وهم يعنون أن ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بشيء مفيد يرجع إليه. قال تعالى {أُولَئِكَ} أي البعداء في الشر والنفاق الذين طبع الله على قلوبهم أي بالكفر والنفاق وذلك لكثرة تلوثهم بأوضار الكفر والنفاق حتى ران على قلوبهم ذلك فكان ختما وطابعا على قلوبهم، واتبعوا أهواءهم فهما علتان الأولى الطبع المانع من طلب الهداية والثانية اتباع الهوى وهو يعمي ويصم، فلذا هم لا يهتدون، وقوله تعالى {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} إلى الإيمان الصحيح والعمل الصالح زادهم الله هدى حسب سنته في نماء الأشياء وزكاتها وزيادتها، وآتاهم تقواهم1 أي ألهمهم ما يتقون وأعانهم على ذلك فهم يتقون مساخط الله تعالى ومن أعظمها الشرك والمعاصي. وقوله تعالى في الآية الثالثة من هذا السياق (18) فهل ينظرون أي كفار قريش2 من زعماء الكفر في مكة إلا الساعة أي ما ينظرون إلا الساعة أي القيامة أن تأتيهم بغتة أي فجأة إن كانوا ما ينظرون بإيمانهم إلا الساعة فالساعة قد جاء أشراطها وأول أشراطها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وثانيها الدخان، وثالثها انشقاق القمر. وقوله تعالى {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ3} أي أنى لهم التذكر الذي ينفعهم إذا جاءت الساعة بل شروطها أي بظهور علاماتها الكبرى4 لا تقبل التوبة من أحد لم يكن مؤمناً لقوله تعالى من سورة الأنعام {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً}. على كل حال فالآية تستبطئ إيمان كفار مكة وتنكر عليهم تأخر إيمانهم الذي لا داعي له مع ظهور أدلة العقل والنقل ووضوح الحجج والبراهين الدالة على توحيد الله ووجوب عبادته وحده دون سواه ولذا قال تعالى فاعلم5 أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين6 والمؤمنات أي فاعلم يا محمد أنه لا معبود تنبغي له العبادة وتصلح له إلا الله الذي هو خالق كل شيء ومالكه واستغفر أي اطلب من ربك المغفرة لك وللمؤمنين والمؤمنات، وهذا الكلام وإن وجه للرسول صلى الله عليه وسلم فالمراد منه على الحقيقة أو بالأصالة غيره صلى الله عليه وسلم فكأنما قالب تعالى يا عباد الله أيها الناس والرسول على
__________
1 مما ذكر في هذه الزيادة أنه آتاهم تقواهم في الآخرة وأنه بين لهم ما يتقون وأنه وفقهم للأخذ بالعزائم وترك الرخص وما في التفسير أشمل وأوضح.
2 يبدو أنه ما هناك حاجة إلى تخصيص كفار قريش بهذا الخطب وإن كانوا داخلين فيه لأن السورة مدنية.
3 أي: من أين لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة.
4 في صحيح مسلم عن حذيفة والبراء قالا: كنا نتذاكر الساعة إذا أشرف علينا رسول الله صلى عليه وسلم فقال: "بما تتذاكرون؟ قلنا نتذاكر الساعة. قال: إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات، :الدخان ودابة الأرض وخسفاً بالمشرق وخسفاً بالمغرب وخسفاً بجزيرة العرب، والدجال وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى وناراً تخرج من عدن".
5 هذه الآية من أدلة وجوب العلم قبل القول والعمل، وهو ما بوب به البخاري رحمه الله تعالى.
6 لا ذنب للرسول صلى الله عليه وسلم لعصمته، وإنما هو من باب قوله صلى الله عليه وسلم " إنه ليغان على قلبي وإني استغفر الله في اليوم مائة مرة".

رأسكم اعلموا أنه لا إله إلا الله واستغفروا لذنوبكم مؤمنين ومؤمنات والله يعلم متقلبكم أي تصرفكم في النهار في مصالح معاشكم ومعادكم ويعلم مثواكم1 في فرشكم نائمين فهو يعلمكم على ما أنتم عليه في كل ساعة من ليل أو نهار فاخشوه واتقوه حتى تفوزوا برضاه في جنات النعيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- من الجائز أن تكون السورة مكية وبها آية أو أكثر مدنية.
2- التحذير من اتباع الهوى فإنه يعمي ويصم والعياذ بالله.
3- بيان أن لقيام الساعة أشراطاً أي2 علامات تظهر قبلها فتدل على قربها.
4- وجوب العلم بأنه لا إله إلا الله، وذلك يتم على الطريقة التالية:
الاعتراف بأن الإنسان مخلوق كسائر المخلوقات حوله، وكل مخلوق لابد له من خالق فمن خالق الإنسان والكون إذاً؟ والجواب قطعا: الله. فما دام الله هو الخالق فمن عداه مخلوق مفتقر إلى الله خالقه في حفظ حياته، ومن يؤله ويعبد إذاً الخالق أم المخلوق؟ والجواب: الخالق. إذا تعين أنه لا معبود إلا الله وهو بمعنى لا إله إلا الله ولما كانت العبادة لا تعرف إلا بالوحي وجب الإيمان برسول الله فكان لابد من زيادة محمد رسول الله فنقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)
__________
1 المثوى: المآل والمرجع.
2 روى مسلم وغيره عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بعثة أنا والساعة كهاتين وضم السبابة والوسطى".

شرح الكلمات:
لولا نزلت سورة : أي هلا نزلت سورة يقول هذا المؤمنون طلباً للجهاد.
سورة محكمة :أي لم ينسخ منها شيء من أوامرها ونواهيها.
وذكر فيها القتال :أي طلب القتال بالدعوة إليه والترغيب فيه.
في قلوبهم مرض :أي شك وهم المنافقون.
نظر المغشي عليه من الموت :أي خوفا من القتال وكراهية لهم فتراهم ينظرون إلى الرسول مثل نظر المغشي عليه من سكرات الموت.
فأولى لهم طاعة وقول معروف :أي فأجدر بهم طاعة لرسول الله وقول معروف حسن له.
فإذا عزم الأمر :أي فرض القتال وجد أمر الخروج إليه.
فلوا صدقوا الله :أي وفوا له ما تعهدوا به من أنهم يقاتلون.
لكان خيرا لهم :أي الوفاء بما تعهدوا به خيرا في دنياهم وآخرتهم.
فهل عسيتم أن توليتم :أي أعرضتم عن الإيمان الصوري الذي أنتم عليه وأعلنتم عن كفركم.
أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم :أي تفسدوا في الأرض بالشرك والمعاصي ولا تصلوا أرحامكم.
فأصمهم وأعمى أبصارهم :أي فعل تعالى ذلك بهم فلذا هم لا يسمعون الحق ولا يبصرون الخير والمعروف.
معنى الآيات:
قوله تعالى ويقول الذين آمنوا إلى آخر السورة ظاهرهُ أنه مدني وليس بمكي وهو كذلك فأغلب آي السورة مدني إذاً، ولا حرج: لأن القتال لم يفرض إلا بعد الهجرة النبوية والنفاق لم يظهر إلا بعد الهجرة كذلك السياق الآن في علاج النفاق وأمور الجهاد قال تعالى ويقول الذين آمنوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متمنين الجهاد لولا نزلت1 سورة أي هلا أنزل الله سورة قرآنية تأمر بالجهاد قال تعالى فإذا أنزلت سورة محكمة ليس فيها نسخ وذكر فيها القتال أي الأمر به والترغيب فيه. رأيت يا محمد الذين في قلوبهم مرض أي مرض الشك والنفاق ينظرون إليك يا رسولنا2 نظر أي مثل نظر المغشي أي المغمي عليه من الموت أي من سياقات الموت وسكراته. قال تعالى
__________
1 شوقاً إلى الجهاد وما أعد الله من ثواب لأهله، كما هو اشتياق للوحي ونزوله.
2 نظر مغمومين مغتاظين بتحديد وتحديق كمن يشخص بصره عند الموت.

{فأوْلَى لَهُمْ} هذا اللفظ صالح لأن يكون دعاء عليهم بالهلاك1 أي هلاك لهم لجبنهم ونفاقهم وصالح أن يكون بمعنى الأجدار بمثلهم طاعة لله ورسوله وقول معروف أي حسن لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى فإذا عزم أي جد الأمر للجهاد فلو صدقوا الله ما عاهدوا عليه من أنهم يقاتلون مع رسوله لكان خيراً لهم في الدنيا والآخرة. ثم قال لهم مخاطباً إياهم توبيخاً وتقريعاً فهل عسيتم بكسر السين2 وفتحها قراءتان إن توليتم أي عن الإيمان الصوري إلى الكفر الظاهر فأعلنتم عن ردتكم أن تفسدوا في الأرض بفعل الشرك وارتكاب المعاصي وتقطعوا أرحامكم بإعلان الحرب على أقربائكم المؤمنين الصادقين. هذا إذا كان التولي بمعنى الرجوع إلى الكفر العلني وإن كان بمعنى الحكم فالأمر كذلك إذا حكموا ليفعلون ما هو أعظم من الشرك والفساد في الأرض وتقطيع الأرحام، وأخيراً سجلت الآية (22) لعنة الله فقال تعالى أولئك أي البعداء في الخسة والحطة الذين لعنهم الله فأبعدهم من رحمته فأصمهم عن سماع الحق وأعمى أبصارهم عن رؤية الهدى والطريق المستقيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- جواز تمني الخير والأولى أن يسأل الله تعالى ولا يتمنى بلفظ ليت كذا.
2- في القرآن محكم ومنسوخ من الآيات وكله كلام الله يتلى ويتقرب به إلى الله تعالى ويعمل بالمحكم دون المنسوخ وهو قليل جداً.
3- ذم الجبن والخور والهزيمة الروحية.
4- شر الخلق من إذا تولى أفسد في الأرض بالشرك والمعاصي.
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ
__________
1 أولى: قال الأصمعي معناه قاربه ما يهلكه.
2 قرأ نافع وحده بكسر السين وفتحها ما عداه حفص وغيره.

(26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)
شرح الكلمات:
أفلا يتدبرون القرآن :أي يتفكرون فيه فيعرفون الحق من الباطل.
أم على قلوب أقفالها :أي بل على قلوب لهم أقفالها فهم لا يفهمون إن تدبروا.
إن الذين ارتدوا على أدبارهم :أي رجعوا كافرين بنفاقهم.
من بعد ما تبين لهم الهدى :أو من بعد ما تبين له صدق الرسول وصحة دينه بالحجج والبراهين.
الشيطان سول لهم وأملي لهم :أي زين لهم الشيطان نفاقهم وأملى لهم أي واعدهم بطول العمر ومناهم.
ذلك بأنهم قالوا الذين كرهوا ما أنزل الله :أي ذلك الإضلال بسبب قولهم للذين كرهوا ما أنزل الله وهم المشركون.
سنطيعكم في بعض الأمر : أي بأن نتعاون معكم على عداوة الرسول وبتثبيط المؤمنين عن الجهاد وكان ذلك سرا منهم لا جهرة فأظهره الله لرسوله.
يضربون وجوههم وأدبارهم : أي بمقامع من حديد يضربون وجوههم وظهورهم.
ذلك بأنهم اتبعوا ما اسخط الله :أي التوفي على الحالة المذكورة من الضرب على الوجوه والظهور بسبب إتباعهم ما أسقط الله من الشرك والمعاصي.
وكرهوا رضوانه :أي ما يرضيه تعالى من التوحيد والعمل الصالح.
فأحبط أعمالهم :أي أبطلها فلم يحصلوا منها على ثواب حسن.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تأديب المنافقين بعيبهم والإنكار عليهم وتهديدهم لعلهم يرجعون إذ حالهم كحال المشركين في مكة فقال تعالى {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ1 الْقُرْآنَ} أي مالهم؟ أغفلوا فلم يتدبروا
__________
1 الاستفهام للتعجب من سوء عملهم بالقرآن وإعراضهم عن سماعه و(بل) للإضراب الانتقالي أي: بل على قلوبهم أقفال، والتدبر: التفهم مشتق من دبر الشيء أي: خلقه.

القرآن أي يتفكروا فيه فيعرفوا الحق من الباطل والهدى من1 الضلال لأن القرآن نزل لبيان ذلك. أم على قلوب أقفالها أي بل على قلوب2 لهم أقفالها أي اقفل الله على قلوبهم فلا يعقلون ما أنزل الله في كتابه من المواعظ والعبر والحجج والأدلة والبراهين حتى يكون الله هو الذي يفتح تلك الأقفال، والله تعالى يقفل ويفتح حسب سنن له في ذلك وقد ذكرنا هذا المعنى مرات في بيان الهداية والإضلال، وقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ3 ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} أي رجعوا إلى الكفر بقلوبهم دون ألسنتهم وهم المنافقون من بعد ما تبين لهم الهدى أي صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحة دينه الإسلام هؤلاء المرتدون الشيطان سول لهم أي زين له ذلك الارتداد وأملى لهم أي واعدهم ممنياً لهم بطول العمر والبقاء الطويل في الحياة والعيش الطيب الواسع فيها وقوله تعالى ذلك أي الإضلال الذي حصل لهم بسبب أنهم قالوا للذين كرهوا ما أنزل الله من القرآن والشرائع وإبطال الشرك والشر والفساد وهم المشركون قالوا لهم سرا وخفية سنطيعكم في بعض الأمر، وذلك كعدم قتالكم وتثبيط الناس عن القتال إلى غير ذلك مما أسروه لإخوانهم المشركين. وقوله تعالى والله يعلم إسرارهم4 يخبر تعالى انهم لما كانوا يسرون كلمات الكفر للمشركين كان تعالى مطلعا عليهم فهو يعلم إسرارهم وأسرارهم وها هو ذا قد أطلع عليهم رسوله والمؤمنين. وقوله تعالى فكيف أي حالهم إذا توفتهم الملائكة ملك الموت وأعوانه من ملائكة العذاب وهم يضربون بمقامع من حديد وجوههم وأدبارهم أي ظهورهم. وقوله تعالى ذلك أي العذاب النازل بهم بسبب أنهم اتبعوا ما أسخط الله من الكفر به وبرسوله. وكرهوا رضوانه أي ما يرضيه عنهم وهو الجهاد في سبيله فأحبط الله أعمالهم أي أبطلها فلم يثبهم عليها لأنهم مشركون كافرون وعمل المشرك والكافر باطل وهو خاسر.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب تدبر القرآن الكريم عند تلاوته أو سماعه وهو تفهم معانيه في حدود قدرة المسلم على الفهم.
__________
1 ويعرفوا كذلك ما أعد الله للذين لم يتولوا عن الإسلام من عزة ونصر في الدنيا، ومن نعيم مقيم في الآخرة.
2 لم يقل على قلوبهم فنكر القلوب وقال: (على قلوب) لتدخل قلوب غيرهم فلا يكون خاصا بهم، والقفل: حديده يغلق بها الباب.
3 اختلف في هؤلاء المرتدين فقال قتادة هم كفار أهل الكتاب وقال ابن عباس وغيره: هم المنافقون، وكونهم المنافقين أعم إذ من اليهود منافقون.
4 قرأ نافع والجمهور (أسرارهم) بفتح الهمزة، وقرأ حفص (إسرارهم) بكسرها فالإسرار بالكسر: مصدر أسر إسرارا وبالفتح جمع سر.

2- الارتداد عن الإسلام كالرجوع عن الطاعة إلى المعصية سببهما تزيين الشيطان للعبد ذلك وإملاؤه له بالتمني والوعد الكاذب.
3- من الردة التعاون مع الكافرين على المؤمنين بأي شكل من أشكال التعاون ضد الإسلام والمسلمين.
4- تقرير عقيدة عذاب القبر وأنه حق ثابت أعاذنا الله منه آمين.
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)
شرح الكلمات:
في قلوبهم مرض :أي مرض النفاق.
أن لن يخرج الله أضغانهم :أي أن لن يظهر أحقادهم على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
ولو نشاء لأريناكهم :أي لعرفناك بهم فلعرفتهم.
سيماهم :أي بعلاماتهم.
ولتعرفنهم في لحن القول :أي إذا تكلموا عند في لحن القول أي معناه وذلك بأن يعرضوا فيه بتهجين أمر المسلمين أي تقبيح أمرهم.
والله يعلم أعمالكم :أي أيها المؤمنون إن الله يعلم أعمالكم وسيجزيكم بها خيراً.
ولنبلونكم :ولنختبرنكم بالجهاد وغيره من التكاليف.
حتى نعلم :أي نعلم علم ظهور لكم ولغيركم إذ الله يعلم ذلك قبل ظهوره لما حواه كتاب المقادير.

المجاهدين منكم والصابرين :أي الذين جاهدوا وصبروا من غيرهم.
ونبلوا أخباركم :أي ونظهر أخباركم للناس من طاعة وعصيان في الجهاد وفي غيره.
إن الذين كفروا :أي بالله ولقائه ورسوله وما جاء به من الدين الحق.
وصدوا عن سبيل الله :أي عن الإسلام.
وشاقوا الرسول : أي خالفوه وعادوه وحاربوه.
من بعد ما تبين لهم الهدى : أي عرفوا أن الرسول حق والإسلام حق كاليهود وغيرهم.
لن يضروا الله شيئا :أي من الضرر لأنه متعال أن يناله خلقه بضرر.
وسيحبط أعمالهم :أي يبطلها فلا تثمر لهم ما يرجونه منها في الدنيا والآخرة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في مطلب هداية المنافقين بكشف عوارهم وإزاحة الستار عما في قلوبهم من الشك والنفاق فقال تعالى {أم}1 أي أحسب الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون والمرض هو مرض النفاق الناجم عن الشك في الإسلام وشرائعه أن لن يخرج الله أضغانهم2 أي أحقادهم فيظهرها لرسوله والمؤمنين فحسبانهم هذا باطل وقوله تعالى لرسوله {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} أي بعلامات النفاق فيهم وقوله {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}3 أي وعزتي وجلالي لتعرفنهم في لحن القول أي في معاني كلامهم إذا تكلموا عندك وبين يديك فإن كلامهم ل يخلو من التعريض باللمؤمنين بانتقاصهم والقدح في أعمالهم، كما قيل (من أضمر سريرة ألبسه الله رداءها) وقوله تعالى في خطابه المؤمنين {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} ولازم أنه سيجزيكم بها فاصبروا على الإيمان والتقوى. { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ4} أي ولنختبرنكم بالجهاد والإنفاق والتكاليف {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} أي حتى نظهر ذلك لكم فتعرفوا المجاهد من القاعد والصابر من الضاجر منكم وبينكم، {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} أي ما تخبرون به عن أنفسكم وتتحدثون به فنظهر الصدق من خلافه فيه، ولذا كان الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى إذا قرأ هذه الآية بكى وقال اللهم لا تبتلنا فإنك إذا بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا، وقوله جل ذكره {إِنَّ
__________
1 (أم) هي المنقطعة المقدرة ببل وهمزة الاستفهام: فبل: للإضراب الانتقالي، والاستفهام إنكاري.
2 الأضغان: جمع ضغن كحمل وأحمال، وهو الحقد والعداوة ومحلها القلب: قال الشاعر:
الضاربين بكل أبيض مخذم
والطاعنين مجامع الأضغان
3 (لحن القول) هو ما يفهم من الكلام بالتعريض والإشارة ل بصريح القول.
4 بلا يبلوا بلواً المرء اختبره، فالبلو: الاختبار والتعرف على حال الشيء، ويكون في الشرع بالأمر والنهي.

الَّذِينَ كَفَرُوا1} أي كذبوا الله ورسوله {وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي الإسلام فصرفوا الناس عنه بأي سبب من الأسباب، {وَشَاقُّوا الرَّسُولَ} أي خالفوه وعادوه وحاربوه {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} أي ظهر لهم الحق وأن الرسول حق والإٍسلام حق بالحجج والبراهين هؤلاء الكفرة لن يضروا الله شيئا من الضرر لتنزهه عن صفات المحدثين من خلقه ولا امتناعه تعالى وعزته، {وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} أي يبطلها عليهم فلا ينالون بها ما يؤملون في الدنيا بذهاب كيدهم وخيبة أملهم إذ ينصر الله رسوله ويعلي كلمته، وفي الآخرة لأن الأعمال المشرك والكافر باطلة حابطة لا ثواب عليها سوى ثواب الجزاء المهين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان حقيقة وهي من أسر سريرة ألبسه الله رداءها فكشفه للناس.
2- ومن أحب شيئا ظهر على وجهه وفلتات لسانه.
3- تقرير قاعدة وهي أنه لبد من الابتلاء لمن دخل في الإسلام ليكون الإيمان على حقيقته لا إيمانا صوريا أدنى فتنه تصيب صاحبه يرتد بها عن الإسلام.
4- أعمال المشرك والكافر باطلة لا ثواب خير عليها لأن الشرك محبط للأعمال الصالحة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ
__________
1 يدخل في هذا اللفظ كفار قريش وكفار اليهود والمنافقون.

لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
شرح الكلمات:
ولا تبطلوا أعمالكم :أي بالرياء والشرك والمعاصي.
وصدوا عن سبيل الله :أي عن الإسلام.
فلن يغفر الله لهم :أي لأنهم ماتوا على الكفر والكفر محبط للعمل.
فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم :أي فلا تضعفوا وتدعوا إلى الصلح مع الكفار.
وأنتم الأعلون :أي الغالبون القاهرون.
ولن يتركم أعمالكم :أي ولن ينقصكم أجر أعمالكم وثوابها.
إنما الحياة الدنيا لعب ولهو :أي الاشتغال بالدنيا والتفرغ لها ما هو إلا لهو ولعب لعدم الفائدة منه.
ولا يسألكم أموالكم :أي ولا يكلفكم بإنفاق أموالكم كلها بل الزكاة فقط.
فيحفكم تبخلوا :أي بالمبالغة في طلبكم المال تبخلوا.
ويخرج أضغانكم :أي أحقادكم وبغضكم لدين الإسلام.
فإنما يبخل عن نفسه :أي عائد ذلك على نفسه لا على غيره فهو الذي يحرم الثواب.
وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم :أي عن طاعة الله وطاعة رسوله يأت بآخرين غيركم.
ثم لا يكونوا أمثالكم :أي في الطاعة أي يكونوا أطوع منكم لله ورسوله.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى الكفار ومشاقتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم نادى المؤمنين1 وأمرهم بطاعته وطاعة رسوله فقال يا أيها الذين آمنوا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول أي فيما يأمرانكم به وينهيانكم عنه من المعتقدات والأقول والأعمال ولا تبطلوا2 أعمالكم أي وينهاهم أن
__________
1 بقوله: (يا أيها الذين آمنوا) وجملة النداء معترضة بين جملة (إن الذين كفروا وصدوا) الخ وبين (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار).
2 إبطال العمل: أي جعله باطلا أي: لا فائدة منه لا ثواب، فالإبطال تتصف به الأشياء الموجودة، وكان الحسن البصري يقول: لا تبطلوا أعمالكم بالمعاصي، وما يبطل العمل على الحقيقة هو أمور ثلاثة: الشرك والرياء، وأداء العمل على غير الوجه المشروع عليه.

يبطلوا أعمالهم بالشرك والرياء والمعاصي والمراد من إبطال الأعمال أي حرمانهم من ثوابها، ثم أعلمهم مذكرا واعظا لهم فقال إن الذين كفروا أي بالله ورسوله وصدوا عن سبيل الله أي عن الإسلام بأي سبب من الأسباب ثم ماتوا وهم كفار قبل أن يتوبوا. فهؤلاء لن يغفر الله لهم ويعذبهم العذاب المعد لأمثالهم وقوله تعالى فلا تهنوا وتدعوا1 إلى السلم وأنتم2 الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم ينهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يضعفوا عن قتال أعدائهم من الكافرين ويدعوا الكافرين إلى الصلح والمهادنة وهم أقوياء قادرون وهو معنى قوله وأنتم الأعلون أي الغالبون القاهرون. ولن 3يتركم أعمالكم أي لا ينقصكم أجر أعمالكم بل يجزيكم بها ويزدكم من فضله وقوله {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} هذه حقيقة وهي أن الحياة الدنيا إن أقبل عليها العبد ناسيا الدار الآخرة مقبلا على الدنيا لن تكون في حقه إلا لهواً ولعبا باعتبار أنه لم يظفر منها على طائل ولم تعد عليه بعائد خير وإسعاد كاللاعب اللاهي بشيء يلعب ويلهو فترة ثم لا يعود عليه ذلك اللعب بشيء كلعب الصبيان ولهوهم فإنهم يلهون ويلعبون بجد ثم يعودون إلى والديهم يطلبون الطعام والشراب. وقوله وإن تؤمنوا أي الإيمان الصحيح وتتقوا ما يغضب ربكم ويسخطه عليكم من الشرك والمعاصي يؤتكم أجوركم المترتبة على الإيمان والتقوى. وقوله ولا يسألكم أموالكم أي ولا يطلب منكم أموالكم كلها أي كراهة إحفائكم بذلك إن يسألكموها فيحفكم4 أي بكثرة الإلحاح عليكم تبخلوا إذ هذا معروف من طباع البشر أن الإنسان إذا ألح وألحف عليه في الطلب يبخل بالمال ولم يعطه وقد يترك الإسلام لذلك، وقوله ويخرج أضغانكم أي أحقادكم وبغضكم للدين وكراهيتكم له ولذا لم يسألكم أموالكم وقوله تعالى: 5 {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ6 لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي جزءاً من أموالكم في الزكاة أو الجهاد لا كل أموالكم لما يعلم تعالى من شح النفس بالمال وقوله {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ} أي يمنع ومن يبخل فإنما يبخل عن7 نفسه إذ هي التي حرمها أجر النفقة في سبيل الله ذات الأجر العظيم وقوله {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ
__________
1 الفاء للتفريع.
2 و(الأعلون) معناه الغالبون المنتصرون.
3 أي: لا ينقصكم، ومنه الموتور: الذي قتل له قتيل، وفي الحديث الصحيح: "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله".
4 يقال: أحفى في المسألة وألح بمعنى واحد.
5 (ها): حرف تنبيه، وفي إعراب الجملة وجهان الأول: وهو أن يكون (أنتم) مبتدأ و(هؤلاء) منادى معترض، و(تدعون) الخبر، والثاني: أن يكون (أنتم) مبتدأ و(هؤلاء) خبره، وجملة: (تدعون) مستأنفة مؤكدة ومقررة لما سبق.
6 أي: في الحال وجائز أن يدعو في المستقبل، إذ الجهاد مستمر والحاجة إلى الإنفاق لا تنقطع، سبيل الله: والمراد بها الجهاد وهي كل ما يوصل إلى مرضاة الله تعالى.
7 يجوز في (يبخل) أن يعدى بعن وبعلى يقال: بخل عليه بكذا أو بخل عنه بكذا أو يضمن معنى أمسك، وحينئذ فتعديته بعلى نحو: أمسك عليك لسانك.

الْفُقَرَاءُ} إلى الله تعالى فهو غني عنكم لا يحضكم على النفقة لحاجته إليها ولكن لحاجتكم أنتم إليها إذ بها تزكوا نفوسكم وتقوم أموركم وتنتصروا على عدوكم وقوله وإن تتولوا أي ترجعوا عن الإسلام إلى الكفر والعياذ بالله يستبدل الله بكم قوما غيركم أي يذهبكم ويأت بآخرين ثم لا يكونوا أمثالكم بل يكونون أطوع إلى الله تعالى منكم وأسرع امتثالا لما يطلب منهم. وحاشاهم أن يتولوا وما تولوا ولا استبدل الله تعالى بهم غيرهم. وإنما هذا من باب حثهم على معالي الأمور والأخذ بعزائمها نظرا لمكانتهم من هذه الأمة فهم أشرفها وأكملها وأطوعها لله وأحبها له ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب طاعة الله وطاعة رسوله.
2- وجوب إتمام العمل الصالح من صلاة وغيرها بالشروع فيه.
3- بطلان العمل الصالح بالرياء أو إفساده عند أدائه أو بالردة عن الإسلام.
4- حرمة الركون إلى مصالحة الأعداء مع القدرة على قتالهم والتمكن من دفع شرهم.
5- التنفير من الإقبال على الدنيا والإعراض عن الآخرة.
6- حرمة البخل مع الجدة والسعة.

سورة الفتح
...
سورة الفتح1
مدنية
وآياتها تسع وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً(2)
__________
1 نزلت ليلا بعد صلح الحديبية بين مكة والمدينة قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أنزلت علي اللسلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس". البخاري

وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7)
شرح الكلمات:
إنا فتحنا لك فتحا مبينا :أي قضينا لك بفتح مكة وغيرها عنوة بجاهدك فتحا ظاهرا بيناً.
ليغفر لك الله :أي بسبب شكرك له وجهادك في سبيله.
ما تقدم من ذنبك وما تأخر : أي ما تقدم الفتح وما تأخر عنه.
ويتم نعمته عليك :أي ينصرك على أعدائك وإظهار دينك ورفع ذكرك.
ويهديك صراطا مستقيما :ويرشدك طريقا من الدين لا اعوجاج فيه يفضي بك إلى رضوان ربك.
وينصرك الله نصراً عزيزا :أي وينصرك الله على أعدائك ومن ناوأك نصر عزيزا لا يغلبه غالب، ولا يدفعه دافع.
أنزل السكينة في قلوب المؤمنين :أي الطمأنينة بعد ما أصابهم من الاضطراب والقلق من جراء الصلح.
وكان الله عليما حكيما :أي عليما بخلقه حكيما في تدبيره لأوليائه.
ليدخل المؤمنين والمؤمنات :أي قضى بالفتح ليشكروه ويجاهدوا في سبيله ليدخلهم جنات.

وكان ذلك عند الله فوزا عظيما :أي وكان ذاك الإدخال والتكفير للسيئات فوزا عظيما.
ويعذب المنافقين والمنافقات :والمشركين والمشركات أي يعذبهم بالهم والحزن لما يرون من نصرة الإسلام وعزة أهله.
الظانين بالله ظن السوء :أي أن الله لا ينصر محمداً وأصحابه.
عليهم دائرة السوء :أي بالذل والعذاب والهوان.
وكان الله عزيزا حكيما :أي كان وما زال تعالى غالبا لا يغلب حكيما في الانتقام من أعدائه.
معنى الآيات:
قوله تعالى {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} الآيات هذه فاتحة سورة الفتح التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد أنزلت علي سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً1 مُبِيناً}" وذلك بعد صلح الحديبية سنة ست من الهجرة وفي منصرفه منه وهو في طريقه عائد مع أصحابه إلى المدينة النبوية. وقد خالط أصحابه حزن وكآبة حيث صدوا عن المسجد الحرام فعادوا ولم يؤدوا مناسك العمرة التي خرجوا لها، وتمت أحداث جسام تحمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يقدر عليه من أولي العزم غيره فجزاه الله وأصحابه وكافاهم على صبرهم وجهادهم بما تضمنته هذه الآيات إلى قوله {وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً} فقوله تعالى {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} يا رسولنا {فَتْحاً مُبِيناً} أي قضينا لك بفتح مكة وخيبر وغيرهما ثمرة من ثمرات جهادك وصبرك وهو أمر واقع لا محالة وهذا الصلح بادية الفتح فاحمد ربك واشكره ليغفر لك بذلك وبجهادك وصبرك ما تقدم من2 ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك بنصرك على أعدائك وعلى كل من ناوأك، ويهديك صراطاً مستقيما أي ويرشدك إلى طرق لا اعوجاج فيه يفضي بك وبكل من يسلكه إلى الفوز في الدنيا والآخرة وهو الإسلام دين الله الذي لا يقبل دينا سواه. وينصرك الله نصراً عزيزا أي وينصرك ربك على أعدائك وخصوم دعوتك نصرا عزيزا إي ذا عز لا ذل معه هذه أربع عطايا
__________
1 الماضي هنا بمعنى المستقبل إذ فتح مكة المومى إليه كان سنة ثمانٍ وأطلق الماضي مع إرادة المضارع لتحقق الوقوع وتأكده نحو: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) واللام في (لك): لام الأجل أي: فتحنا لأجلك.
2 اضطرب المفسرون في تعليق لام (ليغفر لك) فالسيوطي علقه بكلمة (بجهادك) زادها بعد جملة ليغفر لك أي بجهادك يوم فتحك مكة، وفي التفسير قدرنا جملتي: فاحمده على الفتح واشكره عليه ليغفر لك. وأما الذنب مع إجماعهم أن لا ذنب كبير لعصمته صلى الله عليه وسلم فإن أحسن ما قيل فيه هو ما يلي: أما الذنب المتقدم فهو قوله صلى الله عليه وسلم في بدر: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض أبداً" فأوحى إليه: من أين تعلم هذا؟ فكان هذا الذنب المتقدم، والثاني: أنه لما انهزم المسلمون: يوم حنين قال لعمه ناولني كفاً من حصباء فناوله فرمى به المشركين فانهزموا فقال لأصحابه: "لولا أني رميتهم ما انهزموا" فهذا الذنب المتأخر. والحقيقة أن هذا لو عد ذنباً لكان من باب: حسنات الأبرار سيئات المقربين.

كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففرح بها وهي مغفرة الذنب السابق واللاحق، الفتح للبلاد، الهداية إلى أقوم طريق يفضي إلى سعادة الدارين، والنصر المؤزر العزيز، فلذا قال أنزلت علً آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا. وقوله تعالى {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي1 قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} أي هو الله المنعم عليك بما ذكر لك الذي أنزل السكينة أي الطمأنينة على قلوب المؤمنين من أصحابك وكان عددهم ألفا وأربعمائة صاحب أنزل السكينة عليهم بعد اضطراب شديد أصاب نفوسهم دل عليه قول عمر رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى، قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت فلما نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري. قلت أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال فأتيت أبا بكر فقلت يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا؟ قال بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال بلى، قلت: فلما الدنية في ديننا؟ قال أيها الرجل إنه رسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه أي سر على نهجه ولا تخالفه. فوالله إنه لعلى الحق، قلت أليس كان يحدثنا أنه سيأتي البيت ويطوف به؟ قال بلى. قال فهل أخبرك أنه العام؟ قلت: لا قال فإنك تأتيه وتطوف به . وقوله {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} أي بشرائع الإسلام كلما نزل حكم آمنوا به وعملوا به ومن ذلك الجهاد وبذلك يكون إيمانهم في ازدياد. وقوله تعالى ولله جنود2 السموات والأرض أي ملائكة السماء وملائكة الأرض وكل ذي شوكة وقوة من الكائنات هو لله كغيره ويسخره كما شاء ومتى شاء فقد يسلط جيشاً كافراً على جيش كافر نصرة للجيش مؤمن والمراد من هذا أنه تعالى قادر على نصرة نبيه ودينه بغيركم أيها المؤمنون وكان الله وما زال أزلا وأبدا عليما بخلقه حكيما في تدبير أمور خلقه. وقوله تعالى {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ3 وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ} أي الإدخال للجنة وتكفير السيئات فوزاً عظيما أي فتح على رسوله والمؤمنين ليشكروا بالطاعة والجهاد والصبر أي تم كل ذلك ليدخل المؤمنين والمؤمنات الآية. وقوله {وَيُعَذِّبَ4 الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ
__________
1 (السكينة) السكون والطمأنينة، قال ابن عباس: كل سكينة في القرآن فهي بمعنى الطمأنينة إلا في البقرة. يريد قوله تعالى: { فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُم}.
2 هذه الجملة تزييلية مذيل بها الكلام السابق، والجنود: جمع جند، والجند: اسم للجماعة المقاتلين لا واحد له من لفظه وجمع باعتبار الجماعات التي يتكون منها وهي المقدمة والميمنة والميسرة والقلب والساقا.
3 اللام: لام التعليل متعلقه بفعل، {ليَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ } وذكر المؤمنات مع المؤمنين هنا لدفع ما يتوهم أن هذا الوعد خاص بالمؤمنين دون المؤمنات في حين أن موقف أم المؤمنين أم سلمة كان عظيماً وذكر المؤمنات مع المؤمنين هنا لدفع ما يتوهم أن هذا الوعد خاص بالمؤمنين دون المؤمنات في حين أن موقف أم المؤمنين أم سلمة كان عظيماً إذ استشارها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أبى أصحابه أن يتحللوا فأشارت عليه بما جعلهم يتحللون.
4 هذا معطوف على قوله تعالى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} وهذ التعذيب المذكور في الآية تعذيب خاص زائداً على عذاب الكفر والنفاق وفي قوله: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} إشارة إلى ذلك.

وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} أي فتح على رسوله والمؤمنين ونصرهم ووهبهم ما وهبهم من الكمال ليكون ذلك غما وهما وحزنا يعذب الله به المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات في الدنيا والآخرة وقوله {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ1} هذا وصف للمنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات حيث إنهم كانوا ظانين أن الله2 لا ينصر رسوله والمؤمنين ولا يعلي كلمته ولا يظهر دينه وقوله تعالى {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} إخبارا منه عز وجل بأن دائرة السوء تكون على المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات كما أخبر عنهم بأنه غضب عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا ومعنى أعد هيأ وأحضر لهم، وساءت جهنم مصيرا يصير إليه الإنسان والجان. بعد نهاية الحياة الدنيا، فقوله تعالى {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ينصر بها من يشاء ويهزم بها من يشاء {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً} أي غالبا لا يمانع في مراده {حَكِيماً} في تدبيره وصنعه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات :
1- الذنب الذي غفر لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المعلوم بالضرورة أنه ليس من الكبائر في شيء وهو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين.
2- إنعام الله على العبد يوجب الشكر والشكر يوجب المغفرة وزيادة الإنعام.
3- بيان مكافئة الله لرسوله والمؤمنين على صبرهم وجهادهم.
4- بيان أن الكافرين يحزنون ويغمون بنصر المؤمنين وعزهم فيكون ذلك عذاب لهم في الدنيا.
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
__________
1 (ظن السوء) بفتح السين: قراءة العشرة في قوله: { ظَنَّ السَّوْءِ} وفي {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} الجمهور على الفتح، وقرأ بعض بضم السين.وهما لغتان كالكره والكره، والضعف والضعف بالفتح والضم.
2 ومعنى ظنهم بالله ظن السوء: أن الله ما وعد الرسول بالفتح ولا أمره بالخروج إلى العمرة ولم ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم.

فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)
شرح الكلمات:
شاهدا ومبشرا ونذيرا :أي شاهدا على أمتك أمة الدعوة يوم القيامة ومبشراً من آمن منهم وعمل صالحا بالجنة ونذيراً من كفر أو عصى وفسق بالنار.
ليؤمنوا بالله ورسوله :أي هذه علة للإرسال.
وتعزروه وتوقروه :أي ينصروه ويعظموه وهذا لله وللرسول.
وتسبحوه بكرة وأصيلا :أي الله تعالى بالصلاة والذكر والتسبيح.
إن الذين يبايعونك :أي بيعة الرضوان بالحديبية.
إنما يبايعون الله :لأن طاعة الرسول طاعة لله تعالى
يد الله فوق أيديهم :أي لأنهم كانوا يبايعون الله إذ هو الذي يجاهدون من أجله ويتلقون الجزاء من عنده.
فمن نكث :أي نقض عهده فلم يقاتل مع الرسول والمؤمنين.
فإنما ينكث على نفسه :أي وبال نقضه عهده عائد عليه إذ هو الذي يجزي به.
فسيؤتيه أجرا عظيما :أي الجنة إذ هي الأجر العظيم الذي لا أعظم منه إلا رضوان الله عز وجل.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بيان ما أنعم الله تعالى به على رسوله فقال تعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً}1 لله تعالى بالوحدانية والكمال المطلق له عز وجل وشاهدا على هذه الأمة التي أرسلت فيها وإليها عربها وعجمها ومبشراً لأهل الإيمان والتقوى بالجنة ونذيرا لأهل الكفر والمعاصي أي مخوفا لهم من عذاب الله يوم القيامة. وقوله تعالى {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي أرسلناه كذلك لتؤمنوا بالله ورسوله {وَتُعَزِّرُوهُ} بمعنى تنصروا {وَتُوَقِّرُوهُ} بمعنى تجلوه وتعظموه وهذه واجبة لله ولرسوله الإيمان والتعزير والتوقير، وأما التسبيح والتقديس فهو لله تعالى وحده ويكون بكلمة سبحان الله وبالصلاة وبالذكر لا إله إلا الله، وبدعاء الله وحده
__________
1 بيان لحكمة الإرسال وما يترتب عليه و (شاهدا) إنه بالنظر إلى شهادته يوم القيامة فهي حال مقدرة، وبالنظر إلى شهادته في الدنيا مع تبشيره ونذارته فهي حال مقارنة. و (إن أرسلناك) الخ .. كلا مستأنف ابتدائي.

وقوله {بُكْرَةً وَأَصِيلاً}1 أي تسبحون الله {بُكْرَةً} أي صباحاً {وَأَصِيلاً} أي عشية وقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} يخبر تعالى رسوله بأن الذين يبايعونه على قتال أهل مكة وألا يفروا عند اللقاء { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ}2 إذ هو تعالى الذي أمرهم بالجهاد وواعدهم الأجر فالعقد وإن كانت صورته مع رسول الله فإنه في الحقيقة مع الله عز وجل، ولذا قال { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وقوله تعالى {فَمَنْ نَكَثَ} أي نقض عهده فلم يقاتل { فإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} {وَمَنْ أَوْفَى} بمعنى وفا {بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ3 اللَّهَ} ومن نصرة الرسول والقتال تحت رايته حتى النصر {فَسَيُؤْتِيهِ} 4 الله { أَجْراً عَظِيماً} الذي هو الجنة دار السلام.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والإعلان عن شرفه وعلو مقامه.
2- وجوب الإيمان بالله ورسوله ووجوب نصرة الرسول وتعظيمه صلى الله عليه وسلم.
3- وجوب تسبيح الله وهو تنزيهه عن كل ملا يليق بجلاله وكماله مع الصلاة ليلا ونهارا.
4- وجوب الوفاء بالعهد، وحرمة نقض العهد ونكثه.
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى
__________
1 البكرة: أول النهار، والأصيل: آخره أي: غدوة وعشياً. قال الشاعر:
لعمري لأنت البيت أكرم أهله
وأجلس في أفيائه بالأصائل
جمع أصيل: العشي.
2 هذه هي البيعة التي بايعها المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية تحت الشجرة (السمرة) وكانوا ألفاً وأربعمائة، وأول من بايع النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة: أبو سنان الأسدى، وتسمى بيعة الرضوان لقوله تعالى: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}.
3 قرأ نافع وورش (عليه) بكسر هاء الضمير، وقرأ حفص بضمها (عليهُ الله) فمن كسر رقق اسم الجلالة، ومن ضم فخمه.

أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14)
شرح الكلمات:
المخلفون من الأعراب :أي الذين حول المدينة وقد خلفهم الله عن صحبتك لما طلبتهم ليخرجوا معك إلى مكة خوفا من تعرض قريش لك عام الحديبية وهم غفار ومزينة وجهينة وأشجع.
شغلتنا أموالنا وأهلونا :أي عن الخروج معك.
استغفر لنا :أي الله من ترك الخروج معك.
يقولون بألسنتهم :أي كل ما قالوه وهو من أسنتهم وليس في قلوبهم منه شيء.
قل فمن يملك لكم من الله شيئا :أي لا أحد لأن الاستفهام هنا للنفي.
إن أراد بكم ضراً أو أراد بكم :وبخهم على تركهم صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفا من قريش.
نفعاً
بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون :أي حسبتم أن قريشا تقتل الرسول والمؤمنين فلم يرجع أحد منهم إلى المدينة.
وظننتم ظن السوء : هو هذا الظن الذي زينه الشيطان في قلوبهم.
وكنتم قوما بورا : أي هالكين عند الله بهذا الظن السيء، وواحد بور بائر. هالك.
فإنا اعتدنا للكافرين سعيرا : أي ناراً شديدة الاستعار والالتهاب.
يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء : يغفر لمن يشاء وهو عبد تاب وطلب المغفرة بنفسه، ويعذب من يشاء وهو عبد ظن السوء وقال غير ما يعتقد وأصر على ذلك الكفر والنفاق.
وكان الله غفورا رحيما : كان وما زال متصفا بالمغفرة والرحمة فمن تاب غفر الله له ورحمه.

ما زال السياق الكريم في مطلب هداية المنافقين في الحضر والبادية وذلك بتأنيبهم وتوبيخهم وذكر معايبهم إرادة إصلاحهم فقال تعالى لرسوله {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ} وهم غفار ومزينة وجهينة وأشجع1 وكانوا أهل بادية وأعرابا حول المدينة استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا معه إلى مكة للعمرة تحسبا لما قد تقدم عليه قريش من قتاله صلى الله عليه وسلم إلا أن هؤلاء المخلفين من الأعراب أصابهم خوف وجبن من ملاقاة قريش وزين لهم الشيطان فكرة أن الرسول والمؤمنين لن يعودوا إلى المدينة فإن قريشا ستقضي عليهم وتنهي وجودهم فلذلك خلفهم الله وحرمهم صحبة نبيه والمؤمنين فحرموا من مكرمة بيعة الرضوان وأخبر رسوله عنهم وهو عائد من الحديبية بما يلي {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ} معتذرين لك عن تخلفهم {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا} فتخلفنا لأجل إصلاحها، {وَأَهْلُونَا} كذلك {فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} أي اطلب لنا من الله المغفرة. ولم يكن هذا منهم حقا وصدقا بل كان باطلا وكذبا فقال تعالى فاضحاً لهم {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} فهم إذاً كاذبون. وهنا أمر رسوله أن يقول لهم أخبروني إن أنتم عصيتم الله ورسوله وتركتم الخروج مع المؤمنين جبنا وخوفا من القتل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضراً أي شراً لكم أو أراد بكم نفعاً أي خيرا لكم؟ والجواب قطعاً لا أحد إذاً فإنكم كنتم مخطئين في تخلفكم وظنكم معاً، وقوله { بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} اضرب تعالى عن كذبهم واعتذارهم ليهددهم على ذلك بقوله {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} وسيجزيكم به وما كان عملهم إلا الباطل والسوء، ثم أضرب عن هذا أيضا إلى آخر فقال {بَلْ ظَنَنْتُمْ2 أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} إذ تقتلهم قريش فتستأصلهم بالكلية. وزين ذلك الشيطان في قلوبكم فرأيتموه واقعا، وظننتم ظن السوء وهو أن الرسول والمؤمنين لن ينجوا من قتال قريش لهم، وكنت أي بذلك الظن قوما بورا لا خير فيكم هلكى لا وجود لكم. وقوله تعالى {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً} وهو إخبار أريد به تخويفهم لعلهم يرجعون من باطلهم في اعتقادهم وأعمالهم إلى الحق قولا وعملا، ومعنى اعتدنا أي هيئنا وأحضرنا وسعيراً بمعنى نار مستعره شديدة الالتهاب وقوله في الآية الأخيرة من هذا السياق (15) {وَلِلَّهِ مُلْكُ3
__________
1 والديل كذلك، وخرج من أسلم مائة رجل من بينهم مرداس بن مالك الأسلمي والدعباس الشاعر، وعبد الله بن أبي أوفي وزاهر بن الأسود، وأهبان ابن أوس وسلمة بن الأكوع الأسلمي، ومن غفار: خفاف بن أيماء ومن مزينة: عائز بن عمرو، وتخلف عن الخروج أكثرهم.
2 هذه الجملة بدل اشتمال من جملة: (بل كان الله بما تعملون خبيراً) و(إن) مخففة من الثقيلة، واسمها: ضمير الشأن و(لن) لإفادة استمرار النفي، وأكد أيضاً ب(أبداً) لأن ظنهم كان قوياً.
3 هذا الكلام معطوف على قوله تعالى {فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً } وهو انتقال من التخويف الشديد إلى الأطماع في المغفرة والرحمة ليكون سبباً في هدايتهم، وتقديم الرحمة على العذاب مشعر بذلك.

السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي بيده كل شيء {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} من عباده ويعذب من يشاء فاللائق بهم التوبة والإنابة إليه لا الإصرار على الكفر والنفاق فإنه غير مجد لهم ولا نافع بحال وقد تاب بهذا أكثرهم وصاروا من خيرة الناس، وكان الله غفورا رحيما فغفر لكل من تاب منهم ورحمه. ولله الحمد والمنة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- إخبار القرآن بالغيب وصدقه في ذلك دال على أنه كلام الله أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
2- لا يملك النفع ولا الضر على الحقيقة إلا الله ولذا وجب أن لا يطمع إلا فيه، ولا يرهب إلا منه.
3- حرمة ظن السوء في الله عز وجل، ووجوب حسن الظن به تعالى.
4- الكفر موجب لعذاب النار، ومن تاب تاب الله عليه، ومن طلب المغفرة بصدق غفر له.
5- ذم التخلف عن المسابقة في الخيرات والمنافسة في الصالحات.
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً (15)
شرح الكلمات:
المخلفون من الأعراب :أي المذكورون في الآيات قبل هذه وهم غفار وجهينة ومزينة وأشجع.
إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها :أي مغانم خيبر إذ وعدهم الله بها عند رجوعهم من الحديبية.
ذرونا نتبعكم :أي دعونا نخرج معكم لنصيب من الغنائم.
يريدون أن يبدلوا كلام الله :أي أنهم بطلبهم الخروج إلى خيبر لأخذ الغنائم يريدون أن يغيروا وعد الله لأهل الحديبية خاصة بغنائم خيبر.

كذلك قال الله من قبل :أي قاله تعالى لنا قبل عودتنا إلى المدينة فلن تتبعونا ولن تخرجوا معنا.
فسيقولون بل تحسدوننا :أي فسيقولون بل تحسدوننا وفعلا فقد قالوا ذلك وزعموا أنه ليس أمراً من الله هذا المنع، وإنما هو من الرسول والمؤمنين حسداً لهم، وهذا دال على نفاقهم وكفرهم والعياذ بالله.
بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا :أي لا يفهمون فهم الحاذق الماهر إلا قليلا وفي أمور الدنيا لا غير.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في مطلب هداية المنافقين من الحضر والبادية وذلك بالحديث عنهم وكشف عوارهم ودعوتهم إلى التوبة والرجوع إلى الحق عند ظهور انحرافهم وسوء أحوالهم فقال تعالى لرسوله. سيقول المخلفون الذين تقدم الحديث عنهم وأنهم تخلفوا عن الحديبية من الأعراب الذين هم مزينة وجهينة وغفار وأشجع. أي سيقولون لكم إذا انطلقتم إلى مغانم1 لتأخذوها ذرونا نتبعكم،وذلك أن الله تعالى بعد صلح الحديبية وما نال أهلها من آلام نفسية أكرمهم بنعم كثيرة منها أنه واعدهم بغنائم خيبر بأن يتم لهم فتحها ويغنمهم أموالها وكانت أموالا عظيمة، فلما عادوا إلى المدينة وأعلن الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخروج إلى خيبر جاء هؤلاء المخلفون يطالبون بالسير2 معهم لأجل الغنيمة لا غير، قال تعالى {يرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ3 اللَّهِ} وهو وعده لأهل الحديبية بأن يغنمهم غنائم خيبر، ولذا أمر رسوله أن يقول لهم لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل أي فقد أخبرنا تعالى بحالكم ومقالكم هذا قبل أن تقولوه وتكونوا عليه. وقوله {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} هذا من جملة ما أخبر تعالى به رسوله والمؤمنين قبل قولهم له وقد قالوه أي ما منعتمونا من الخروج إلى خيبر إلا حسداً لنا أن ننال من الغنائم أي لم يكن الله أمركم بمنعنا ولكن الحسد هو الذي أمركم وقوله تعالى بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا أي وصمهم بوصمة الجهل وجعلها هي علة تخبطهم وحيرتهم وضلالهم، أنهم قليلو الفهم والإدراك فليسوا على مستوى الرجل الحاذق الماهر البصير الذي يحسن القول والعمل.
__________
1 هي مغانم خيبر لأن الله تعالى وعد أهل الحديبية فتح خيبر وأنها لهم خاصة من غاب منهم ومن حضر سواء، ولم يغب منهم عنها إلا جابر بن عبد الله فقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم كسهم من حضر.
2 روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: "إن خرجتم لم أمنعكم إلا أنه لا سهم لكم" وقالوا هذا حسد.
3 (يريدون أن يبدلوا كلام الله) أي: يريدون أن يغيروه يعني يريدون أن يغيروا وعد الله الذي وعد به أهل الحديبية، وذلك أن الله تعالى جعل لهم غنائم خيبر عوضا عن فتح مكة.

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وعد الله رسوله والمؤمنين بغنائم خيبر وهم في طريقهم من الحديبية إلى المدينة وإنجازه لهم دال على وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته وكلها موجبة للإيمان والتوحيد وحب الله والرغبة إليه والرهبة منه.
2- بيان حيرة الكافر واضطراب نفسه وتخبط قوله وعمله.
3- ذم الجهل وتقبيحه إنه بئس الوصف يوصف به المرء، ولذا لا يرضاه حتى الجاهل بنفسه فلو قلت لجاهل يا جاهل لا تفعل كذا أو لا تقل كذا لغضب عليك.
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً (17)
شرح الكلمات:
قل للمخلفين من الأعراب :أي الذين تخلفوا عن الحديبية وطالبوا بالخروج إلى خيبر لأجل الغنائم اختباراً بهم.
ستدعون إلى قوم أولي بئس شديد :أي ستدعون في يوم ما من الأيام إلى قتال قوم أولي بئس وشدة في الحرب.
تقاتلونهم أو يسلمون :أي تقاتلونهم. أو هم يسلمون فلا حاجة إلى قتالهم.
فإن تطيعوا :أي أمر الداعي لكم إلى قتال القوم أصحاب البأس الشديد.
يؤتكم الله أجرا حسنا :أي عودة اعتباركم مؤمنين صالحين في الدنيا والجنة في الآخرة.

وإن تولوا :أي تعرضوا عن الجهاد كما توليتم من قبل حيث لم تخرجوا للحديبية.
يعذبكم عذابا أليما :في الدنيا بالقتل والإذلال وفي الآخرة بعذاب النار.
حرج :أي إثم.
ومن يتول :أي يعرض عن طاعة لله ورسوله.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في مطلب هداية المنافقين من الأعراب إذ قال تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم قل للمخلفين الذين أصبح وصف التخلف شعاراً لهم يعرفون به وفي ذلك من الذم واللوم والعتاب ما فيه قل لهم مختبراً إياهم ستدعون في يوم من الأيام إلى قتال قوم أولي بأس شديد في الحروب تقاتلونهم، أو يسلمون1 فلا تقاتلوهم وذلك بأن يرضوا بدفع الجزية وهؤلاء لا يكونون إلا نصارى أو مجوساً فهم إما فارس وإما الروم وقد اختلف في تحديدهم2 فإن تطيعوا الأمر لكم بالخروج الداعي للجهاد فتخرجوا وتجاهدوا يؤتكم الله أجراً حسناً غنائم في الدنيا وحسن الصيت والأحدوثة والجنة فوق ذلك، وإن تتولوا أي تعرضوا عن طاعة من يدعوكم ولا تخرجوا معه كما توليتم من قبل حيث لم تخرجوا مع رسول الله إلى مكة للعمرة خوفاً من قريش ورجاء أن يهلك الرسول والمؤمنون ويخلو لكم الجو يعذبكم عذاباً أليماً أي في الدنيا بأن يسلط عليكم من يعذبكم وفي الآخرة بعذاب النار وقوله تعالى ليس3 على الأعمى حرج الآية إنه لما نزلت آية المنافقين قل للمخلفين من الأعراب وكان ختامها وإن تتولوا عن الجهاد يعذبكم عذابا أليما خاف أصحاب الأعذار من مرض وغيره وبكوا فأنزل الله تعالى قوله ليس على الأعمى حرج أي إثم إذا لم يخرج للجهاد ولا على الأعرج4 حرج وهو الذي به عرج في رجليه لا يقدر على المشي والجري والكر والفر ولا على المريض حرج وهو المريض بالطحال أو الكبد أو السعال من الأمراض
__________
1 في هذه الآية دليل على خلافة أبي بكر إذ هو الذي دعا إلى قتال أصحاب مسيلمة الكذاب، إذ هم الذين لا تقبل منهم الجزية وإنما الإسلام أو القتل، لقوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} أما فارس أو الروم فهم مجوس ونصارى قد تؤخذ منهم الجزية.
2 وقيل: إنهم أصحاب مسيلمة الكذاب، وقال رافع بن خديج. والله لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} فلا نعلم من هم حتى دعانا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فقلنا: إنهم هم.
3 قال ابن عباس لما نزلت: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} قال أهل الزمانة: كيف بنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت {ليس على الأعمى حرج ولا على المريض حرج} أي: لا إثم عليهم في التخلف عن الجهاد.
4 العرج: آفة تعرض لرجل واحدة، قال مقاتل: هم أهل الزمانة الذين تخلفوا عن الحديبية، وقد عذرهم. وفي هذه الآية بيان من يجوز لهم التخلف عن الجهاد، ولا إثم عليهم وهم العميان والمرضى والعرج.

المزمنة التي لا يقدر صاحبها على القتال وكان يعتمد على الفر والكر ولابد كذلك من سلامة البدن وقدرته على القتال.
وقوله {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي في أوامرهما ونواهيهما {يُدْخِلْهُ1 جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} وهذا وعد صادق من رب كريم رحيم، ومن يتول عن طاعة الله ورسوله يعذبه عذاباً أليما وهذا وعيد شديد قوي عزيز ألا فليتق الله امرؤ فإن الله شديد العقاب.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية الاختبار والامتحان لمعرفة القدرات والمؤهلات.
2- بيان أن غزوا الإسلام ينتهي إلى أحد أمرين إسلام الأمة المغزوة أو دخولها في الذمة بإعطائها الجزية بالحكم الإسلامي وسياسته.
3- دفع الإثم والحرج في التخلف عن الجهاد لعذر العمى أو العرج أو المرض.
4- بيان وعد الله ووعيده لمن أطاعه ولمن عصاه، الوعد بالجنة. والوعيد بالنار.
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19)
شرح الكلمات:
لقد رضي الله عن المؤمنين :أي الراسخين في الإيمان الأقوياء فيه وهم أهل بيعة الرضوان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذ يبايعونك :أي بالحديبية أيها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
تحت الشجرة :أي سمرة وهم ألف وأربعمائة بايعوا على أن يقاتلوا قريشا ولا يفروا.
__________
1 قرأ نافع (ندخله) و(نعذبه) بالنون، وقرأ حفص: (يدخله) و(يعذبه) بالياء.

فعلم ما في قلوبهم فأنزل :أي علم الله ما في قلوبهم من الصدق والوفاء فأنزل الطمأنينة والثبات على ما هم
السكينة عليهم عليه.
وأثابهم فتحاً قريبا :أي هو فتح خيبر بعد انصرافهم من الحديبية في ذي الحجة. وفي آخر المحرم من سنة سبع غزوا خيبر ففتحها الله تعالى عليهم.
ومغانم كثيرة يأخذونها :أي من خيبر.
وكان الله عزيزا حكيما :أي كان وما زال تعالى عزيزا غالبا حكيما في تصريفه شؤون عباده.
معنى الآيتين:
قوله تعالى لقدر رضي1 الله عن المؤمنين2 هذا إخبار منه تعالى برضاه عن المؤمنين الكاملين في إيمانهم وهو ألف وأربعمائة الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم تحت شجرة سمرة إلا الجد بن قيس الأنصاري فإنه لم يبايع حيث كان لاصقا بإبط ناقته مختبئا عن أعين الأصحاب وكان منافقا ومات على ذلك لا قرت له عين. وسبب هذه البيعة كما ذكره غير واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على جمل له يقال له الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له (وهو الاعتمار) وذلك حين نزل الحديبية. فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله فمنعته الأحابيش (فرق من شتى القبائل يقال لهم الأحابيش واحدهم أحبوش يقال لهم اليوم: اللفيف الأجنبي عبارة عن جيش أفراده من شتى البلاد والدول. فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهنا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليهم، ولكني أدلك على رجل وهو أعز بها مني عثمان بن عفان فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائراً لهذا البيت معظما لحرمته فراح عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة، أو قبل أن يدخلها فنزل عن دابته فحمله بين يديه ثم ردفه وأجاره
__________
1 هذا رجوع إلى تفصيل ما جزى به الله تعالى أهل بيعة الرضوان الذي تقدم إجماله في قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} الآية.
2 في قوله تعالى عن المؤمنين {إِذْ يُبَايِعُونَكَ} إعلام بأن من لم يبايع ممن خرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم كالجد بن قيس لم يفز برضى الله تعالى وأنه غير مؤمن.

حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به قال ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله والمسلمين أن عثمان قتل. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم عندئذ لا نبرح حتى نناجز القوم ودعا الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، هذا معنى قوله تعالى {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ1 تَحْتَ الشَّجَرَةِ2 فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي من الصدق والوفاء فأنزل السكينة أي الطمأنينة والثبات عليهم وأثابهم أي جزاهم على صدقهم ووفائهم فتحا قريبا وهو صلح الحديبية وفتح خيبر،3 ومغانم كثيرة يأخذونها وهي غنائم خيبر، وكان الله4 عزيزا أي غالبا على أمره، حكيما في تدبيره لأوليائه.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- بيان فضل أهل بيعة الرضوان وكرامة الله لهم برضاه عنهم.
2- ذكاء عمر وقوة فراسته إذ أمر بقطع الشجرة خشية أن تعبد، وكم عبدت من أشجار في أمة الإسلام في غيبة العلماء وأهل القرآن.
3- مكافأة الله تعالى للصادقين الصابرين المجاهدين من عباده المؤمنين بخير الدنيا والآخرة.
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا
__________
1 (إذ يبايعونك) ظرف متعلق ب(رضي) والمضارع بمعنى الماضي وإنما جيء بالمضارع لاستحضار حالة المبايعة الجليلة وصورتها العظيمة. وكون الرضى حصل قبل انتهاء البيعة إيذان بفضلها وفضل أهلها.
2 (تحت الشجرة) التعريف للشجرة للعهد الذي عرفه أهلها حين كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً في ظلها فبايع أصحابه كلهم إلا الجد بن قيس وكان منافقاً غير مؤمن فلم يبايع كما في التفسير، حين كان لاصقاً بإبط ناقته.
3 المغانم الكثيرة: هي مغانم بلاد خيبر من أرض وأنعام ومتاع وحوايط وبساتين، ووصف الغنائم بجملة يأخذونها دال على تحقيق حصول فائدة هذا الوعد لجميع أهل البيعة وبشارة لهم بأنه لم يهلك منهم أحداً قبل صولهم على هذه الغنائم وكذلك كان والحمد لله.
4 هذه الجملة معترضة ذيل بها قوله تعالى: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً و َمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} لأن ما حصل لهم من نصر وخير كان من مظاهر عزة الله وعظيم حكمته.

وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا(23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24)
شرح الكلمات:
وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها :أي من الفتوحات الإسلامية التي وصلت الأندلس غربا.
فعجل لكم هذه :أي غنيمة خيبر.
وكف أيدي الناس عنكم :أي أيدي اليهود حيث هموا بالغارة على بيوت الصحابة وفيها أزواجهم وأولادهم وأموالهم فصرفهم الله عنهم.
ولتكون آية للمؤمنين :أي تلك الصرفة التي صرف اليهود المتآمرين عن الاعتداء على عيال الصحابة وهم غيب في الحديبية أو خيبر آية يستدلون بها على كلاءة الله وحمايته لهم في حضورهم ومغيبهم.
ويهديكم صراطا مستقيما :أي طريقا في التوكل على الله والتفويض إليه في الحضور والغيبة لا اعوجاج فيه.
وأخرى لم تقدروا عليها :أي ومغانم أخرى لم تقدروا عليها وهي غنائم فارس والروم.
قد أحاط بها :أي فهي محروسة لكم إلى حين تغزون فارس والروم فتأخذونها.
ولو قاتلكم الذين كفروا :أي المشركون في الحديبية.
لولوا الأدبار :أي لانهزموا أمامكم وأعطوكم أدبارهم تضربونها.
سنة الله قد خلت من قبل :أي هزيمة الكافرين ونصر المؤمنين الصابرين سنة ماضية في كل زمان ومكان.
وهو الذي كف أيديهم عنكم :حيث جاء ثمانون من المشركين يريدون رسول الله والمؤمنين ليصيبوهم بسوء.

وأيديكم عنهم ببطن مكة :فأخذهم أصحاب رسول الله أسرى وأتوا بها إلى رسول الله فعفا عنهم.
من بعد أن أظفركم عليهم :وذلك بالحديبية التي هي بطن مكة.
معنى الآيات:
ما زال السياق في ذكر إفضال الله تعالى وإنعامه على المؤمنين المبايعين الله ورسوله على مناجزة المشركين وقتالهم وأن لا يفروا فقد ذكر أنه أنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً ومغانم خيبر الكثيرة فعطف على السابق خبراً عظيماً آخر فقال {وَعَدَكُمُ1 اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} أي غنيمة خيبر، {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ2 عَنْكُمْ} وذلك أن يهود المدينة تمالأوا مع يهود خيبر وبعض العرب على أن يغيروا على دور الأنصار والمهاجرين بالمدينة ليقتلوا من بها وينهبوا ما فيها فكف تعالى أيديهم وصرفهم عما هموا به كرامة للمؤمنين، وقوله {وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}3 أي تلك الصرفة التي صرف فيها قلوب من هموا بالغارة على عائلات وأسر الصحابة بالمدينة وهم غيب بالحديبية آية تهديهم إلى زيادة التوكل على الله والتفويض إليه والاعتماد عليه. {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} أي ويسددكم طريقا واضحا لا اعوجاج فيه وهو أن تثقوا في أموركم كلها بربكم فتتوكلوا عليه في جميعها فيكفيكم كل ما يهمكم، ويدفع عنكم ما يضركم في مغيبكم وحضوركم. وقوله تعالى {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} أي وغنائم أخرى لم تقدروا وهي غنائم الروم وفارس. وقد أحاط الله بها فلم يفلت منها شيء حتى تغزوا تلك البلاد وتأخذوها كاملة، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} ومن مظاهر قدرته أن يغنمكم وأنتم أقل عددا وعددا غنائم أكبر دولتين في عالم ذلك الوقت فارس والروم. وقوله {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} أي ومن جملة إنعامه عليكم أنه لو قاتلكم أهل مكة وأنتم ببطنها لنصركم الله عليهم ولا انهزموا أمامكم مولينكم ظهورهم ولا يجدون ولياً يتولاهم بالدفاع عنهم ولا ناصراً ينصرهم لأنا سلطناكم عليهم. وقوله تعالى {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} أي في الأمم السابقة وهي لأن الله ينصر أولياءه على أعدائه لابد فكان هذا كالسنن الكونية التي
__________
1 هذه الجملة مستأنفه بيانيا إذ قوله تعالى {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} يثير في نفس أحدهم سؤالاً وهو: هل من بعد هذا الفتح والغنائم من غنائم أخرى فكان الجواب: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ..} الخ فقولي في التفسير فعطف ليس هو من باب العطف النحوي وإنما هو من باب الإرداف والإلحاق.
2 هذه منة أخرى عظيمة حيث صرف عنهم قتال قريش لهم وإلا كانوا يتعرضون لأتعاب فد تحول بينهم وبين ما أوتوه من فتح خيبر والفوز بغنائمها.
3 (ولتكون) هذه الجملة علة لأخرى مقدرة وهي ولتشكروه (ولتكون آية) الخ أي: كف أيدي الناس عنكم لتشكروه ولتكون آية.

لا تتبدل، وهو معنى قوله {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}، وقوله تعالى في الآية الأخيرة من هذا السياق (24) {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ1 عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} هذه منة أخرى وكرامة عظيمة وهي أن قريش بعثت بثمانين شابا إلى معسكر رسول الله في الحديبية لعلهم يصيبون غرة من الرسول وأصحابه فينالونهم بسوء فأوقعهم تعالى أسرى في أيدي المسلمين فمن الرسول صلى الله عليه وسلم بالعفو فكان ذلك سبب صلح الحديبية. وقوله {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} أي مطلعا عالما بكل ما يجري بينكم فهو معكم لولايته لكم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- صدق وعد الله لأصحاب رسوله في الغنائم التي وعدوا بها فتحققت كلماته بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي غنائم فارس والروم.
2- كرامة الله للمؤمنين إذ حمى ظهورهم من خلفهم مرتين الأولى ما هم به اليهود من غارة على عائلات وأسر الصحابة بالمدينة النبوية، والثانية ما هم به رجال من المشركين للفتك بالمؤمنين ليلا بالحديبية إذ مكن الله منهم رسوله والمؤمنين، ثم عفا عنهم رسول الله وأطلق سراحهم فكان ذلك مساعدا قويا على تحقيق صلح الحديبية.
3- بيان سنة الله في أنه ما تقاتل أولياء الله مع أعدائه إلا نصر الله أولياءه على أعدائه.
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا
__________
1 روي عن أنس أنه قال: إن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأخذناهم سلماً فاسحييناهم فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ} الآية.

فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26)
شرح الكلمات:
هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام :أي بالله ورسوله ومنعوكم من الوصول إلى المسجد الحرام.
والهدي معكوفا أن يبلغ1 محله2 :أي ومنعوا الهدي محبوسا حال بلوغ محله من الحرم.
ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات :أي موجودون في مكة.
لم تعلموهم :أي لم تعرفوهم مؤمنين ومؤمنات.
أن تطأوهم :أي قتلا عند قتالكم المشركين بمكة.
فتصيبكم منهم معرة بغير علم :أي إثم وديات قتل الخطأ وعتق أو صيام لأذن لكم الله تعالى في دخول مكة.
ليدخل الله في رحمته من يشاء :أي لم يؤذن لكم في دخول مكة فاتحين ليدخل الله في الإسلام من يشاء.
لو تذيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما :أي لو تميزوا فكان المؤمنون على حدة والكافرون على حدة لأذنا لكم في الفتح وعذبنا الذين كفروا بأيديكم عذبا أليما وذلك بضربهم وقتلهم.
إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم :أي لعذبناهم إذ جعل الذين كفروا غي قلوبهم الحمية حمية الجاهلية وهي الأنفة
الحمية المانعة من قبول الحق ولذا منعوا الرسول وأصحابه من دخول مكة وقالوا كيف يقتلون أبناءنا ويدخلون بلادنا واللات والعزى ما دخلوها.
__________
1 جائز أن يكون: (أن يبلغ محله) بدل اشتمال من الهدي، وجائز أن يكون معمولا لحرف جر محذوف وهو (عن) أي عن أن يبلغ محله.
2 المحل: بكسر الحاء: محل الحل مشتق من فعل حل ضد حرم أي المكان الذي يحل فيه نحر الهدي، وذلك بمكة عند المروة بالنسبة للعمرة، ومنى بالنسبة للحج.

فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين :أي فهم الصحابة أن يخالفوا أمر رسول الله بالصلح فأنزل الله سكينته عليهم فرضوا ووافقوا فتم الصلح.
وألزمهم كلمة التقوى :أي ألزمهم كلمة لا إله إلا الله إذ هي الواقية من الشرك.
وكانوا أحق بها وأهلها :أي أجدر بكلمة التوحيد وأهلا للتقوى.
وكان الله بكل شيء عليما :أي من أمور عبادة وغيرها ومن ذلك علمه بأهلية المؤمنين وأحقيتهم بكلمة التقوى (لا إله إلا الله).
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن صلح الحديبية فقال تعالى في المشركين ذاماً لهم عائبا عليهم صنيعهم {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي بالله ورسوله وصدوكم عن المسجد الحرام أن تدخلوه وأنت محرمون والهدى معكوفاً أي وصدوا الهدى1 والحال أنه محبوس ينتظر به دخول مكة لينحر وقوله تعالى {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ2 مُؤْمِنَاتٌ} بمكة لم تعلموهم لأنهم كانوا يخفون إسلامهم غالباً، كراهة أن تطأوهم أثناء قتالكم المشركين فتصيبكم منهم معرة بغير علم3 منكم بهم والمعرة العيب والمراد به هنا التبعة وما يلزم من قتل المسلم خطأ من الكفارة والدية لولا هذا لأذن لكم بدخول مكة غازين فاتحين لها وقوله تعالى {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي لم يأذن لكم في القتال ورضي لكم بالصلح ليدخل في رحمته من يشاء فالمؤمنون نالتهم رحمة الله إذ لم يؤذوا بدخولكم مكة فاتحين والمشركون قد يكون تأخر الفتح سببا في إسلام من شاء الله تعالى له الإسلام لا سيما عندما رأوا رحمة الإسلام وتتجلى في ترك القتال رحمة بالمؤمنين والمؤمنات حتى لا يتعرضوا للأذى فدين يراعي هذه الأخوة دين لا يحرم منه عاقل. وقوله تعالى {لَوْ تَزَيَّلُوا} أي4 لو تميز المؤمنون والمؤمنات على المشركين بوجودهم في مكان خاص بهم لأذنا لكم في دخول مكة وقتال المشركين وعذبناهم بأيديكم عذباً أليما وقوله { إِذْ جَعَلَ5 الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ
__________
1 الهدي، والهدي بكسر الدال وتشديد الياء، لغتان والواحدة هدية.
2 كسلمة بن هشام وعباس بن أبي ربيعة وأبي جندل بن سهيل. وأشباههم، وجواب لولا محذوف تقديره: لأذن الله لكم في دخول مكة ولسلطناكم عليهم.
3 (بغير علم) فيه تفضبل للصحابة وإخبار عن كمالهم في الخلق والدين، وهذا قول النملة في سليمان وجنوده: (لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون)؛
4 (لو تذيلوا) أي: تميزوا وتفرقوا. و(لو) حرف امتناع لامتناع امتنع الشرط وهو التفرق، فامتنع التسلط، والقتل بالإذن للمسلمين بقتالهم وقتلهم. وفي هذا دليل على أنه لا يجوز إغراق باخرة للكافرين بها مسلمون، ولا ضرب حصن بالقذائف داخله مسلمون وهو ما رآه مالك.
5 يجوز أن يكون الظرف، (إذا) متعلقاً بقوله تعالى: {ا لَعَذَّبْنَا } وجائز أن يعلق بمحذوف تقديره: واذكروا إذ جعل الخ.

الْحَمِيَّةَ1 حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} هذا تعليل للإذن بقتال المشركين في مكة وتعذيبهم العذاب الأليم لولا وجود مؤمنين ومؤمنات بها يؤذيهم ذلك والمراد من الحمية الأنفة والتعاظم وما يمنع من قبول الحق والتسليم به وهذه من صفات أهل الجاهلية فقد قالوا، كيف نسمح لهم بدخول بلادنا وقد قتلوا أبناءنا واللات والعزى ما دخلوا علينا أبداً، وقوله تعالى {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وذلك بما هم المؤمنون بعدم قبول الصلح لما فيه من التنازل الكبير للمشركين وهم على الباطل والمؤمنون على الحق فلما حصل هذا في نفوس المؤمنين أنزل الله سكينته عليهم وهي الطمأنينة والوقار والحلم فرفضوا بالمصالحة وتمت وكان فيها خير كثير حتى قيل فيها إنها فتح أولي أو فاتحة فتوحات لا حد لها. وقوله تعالى {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى2 وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} أي وشرف الله وأكرم المؤمنين بإلزامهم التشريعي بكلمة لا إله إلا الله. إذ هي كلمة التقوى أي الواقية من الشرك والعذاب في الدارين وجعلهم أحق بها وأهلها. أي أجدر من غيرهم بكلمة التوحيد وأكثر أهلية للتقوى وكان الله بكل شيء عليما ومن ذلك علمه بأهلية أصحاب رسول الله بما جعلهم أهلا له من الإيمان والتقوى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان حكم المحصر وهو من منع من دخول المسجد الحرام وهو محرم بحج أو بعمرة فإنه يتحلل بذبح هدي ويعود إلى بلاده، ويذبح الهدي حيث أحصر، وليس واجبا إدخاله إلى الحرم.
2- الأخذ بالحيطة في معاملة المسلمين حتى لا يؤذى مؤمن أو مؤمنة بغير علم.
3- بيان أن كلمة التقوى هي لا إله إلا الله.
4- الإشارة إلى ما أصاب المسلمين من ألم نفسي من جراء الشروط القاسية التي اشترطها ممثل قريش ووثيقة الصلح. وهذا نص الوثيقة وما تحمله من شروط لم يقدر عليها إلا رسول الله بما آتاه الله من العلم والحكمة والحلم والصبر والوقار، ولما أنزل الله ذلك على المؤمنين من السكينة فحملوها وارتاحت نفوسهم لها نص الوثيقة: (ورد أن قريشا لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم الحديبية بعثت إليه ثلاثة
__________
1 قال الزهري، حميتهم أنفتهم من الإقرار للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة والاستفتاح بسم الله الرحمن الرحيم ومنعهم من دخول مكة.
2 ورد في (كلمة التقوى) آثار منها أنها لا إله إلا الله، ومنها أنها لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومنها أنها: لا إله إلا الله والله أكبر ومنها أنها لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، والكل حق لا باطل فيه.

رجال هم سهيل بن عمرو القرشي، وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص على أن يعرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع من عامه ذلك على أن يخلي له قريش مكة من العام المقبل ثلاثة أيام فقبل ذلك وكتبوا بينهم كتابا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب أكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقالوا: ما نعرف هذا اكتب باسمك اللهم، فكتب ثم قال اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة فقالوا لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب ما يريدون فهم المؤمنون أن يأبوا ذلك ويبطشوا بهم فأنزل الله السكينة عليهم فتوقروا وحلموا وتم الصلح على ثلاثة أشياء هي:
1- أن من أتاهم من المشركين مسلماً ردوه إليهم.
2- أن من أتاهم من المسلمين لم يردوه إليهم.
3- أن يدخل الرسول والمؤمنون مكة من عام قابل ويقيمون بها ثلاثة أيام لا غير ولا يدخلها بسلاح. فلما فرع من الكتاب قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه قوموا فنحروا ثم احلقوا.
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (28)
شرح الكلمات:
لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق :أي جعل الله رؤيا رسوله التي رآها في النوم عام الحديبية حقاً.
لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين :هذا مضمون الرؤيا أي لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين.
محلقين رؤوسكم و مقصرين :أي حالقين جميع شعوركم أو مقصرينها.

لا تخافون :أي أبداً حال الإحرام وبعده.
فعلم ما لم تعلموا :أي في الصلح الذي تم، أي لم تعلموا من ذلك المعرة التي كانت تلحق المسلمين بقتالهم إخوانهم المؤمنين وهم لا يشعرون.
فجعل من دون ذلك فتحاً قريبا :هو فتح خيبر وتحققت الرؤية في العام القابل.
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ةدين الحق :فلذا لا يخلفه رؤياه بل يصدقه فيها.
ليظهره على الدين كله :أي ليعليه على سائر الأديان بنسخ الحق فيها، وإبطال الباطل فيها، أو بتسليط المسلمين على أهلها فيحكمونهم.
وكفى بالله شهيدا :أي أنك مرسل بما ذكر أي بالهدى ودين الحق.
معنى الآيات:
ما زال السياق في صلح الحديبية وما تم فيه من أحداث فقال تعالى {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ} أي محمداً صلى الله عليه وسلم {الرُّؤْيا بِالْحَقِّ} 1 أي2 الرؤية التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر بها أصحابه عند خروجهم من المدينة إلى مكة فقد أخبر بها أصحابه فسروا بذلك وفرحوا ولما تم الصلح بعد جهاد سياسي وعسكري مرير، وأمرهم الرسول أن ينحروا ويحلقوا اندهشوا لذلك وقال بعضهم أين الرؤيا التي رأيت؟ ونزلت سورة الفتح عند منصرفهم من الحديبية وفيها قوله تعالى {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ3 اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ4 رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} ، وقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق فلما جاء العام القابل وفي نفس الأيام من شهر القعدة خرج رسول الله والمسلمون محرمين يلبون وأخلت لهم قريش المسجد الحرام فطافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة وتحللوا من عمرتهم فمنهم المحلق ومنهم المقصر.
__________
1 روي أن أبا بكر رضي الله عنه قال: إن المنام لم يكن موقتا بوقت أي: فقد تتأخر الرؤية سنوات أو شهوراً أو أياماً فكان ما بين رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهور مصداقها في الواقع سنة كاملة.
2 (بالحق) الباء للملابسة، وهو ظرف مستقر وقع صفة لمصدر محذوف تقديره أي: صدقاً وملابساً للحق.
3 (إن شاء الله) هل هذا الإستثناء من جملة ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في منامه فأعاده كما سمعه في الرؤية ويكون هذا تعليماً من الله عز وجل للمؤمنين أن يقولوا مثله في كل ما هو مستقبل من الأقوال والأعمال أو قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم عملا بقول الله تعالى: { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}.
4 (آمنين) و(محلقين) و(مقصرين): منصوبة على الحال، وجملة (لا تخافون) في موضع الحال أيضا مؤكدة ل(آمنين) الحال.

وقوله تعالى فعلم ما لم تعلموا فأثبت الصلح وقرره لأنه لو كان قتال ولم يكن صلح لهلك المؤمنون بمكة والمؤمنات بالحرب وتحصل لذلك معرة كبرى للمسلمين الذين قتلوا إخوانهم في الإسلام هذا من بعض الأمور التي اقتضت الصلح وترك القتال وقوله وجعل من دون ذلك فتحا قريبا الصلح1 فتح، وفتح خيبر فتح، وفتح مكة فتح، وكلها من الفتح القريب. وقوله هو الذي أرسل رسوله أي محمد بالهدى ودين الحق أي الإسلام فكيف إذاً لا يصدقه رؤياه كما ظن البعض وكفا بالله شهيداً على أنك يا محمد مرسل بما ذكر تعالى من الهدى والدين الحق وإظهاره على الدين كله بنسخ الحق الذي فيه وإبطال الباطل الذي ألصق به. أو بتسليط المسلمين على قهر وحكم أهل تلك الأديان الباطلة وقد حصل من هذا شيء كبير.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1-تقرير أن رؤيا الأنبياء حق.
2- تعبير الرؤيا قد يتأخر سنة أو أكثر.
3- مشروعية الحلق والتقصير للتحلل من الحج أو العمرة وإن الحلق أفضل لتقدمه.
4- مشروعية قول إن شاء الله في كل قول أو عمل يراد به المستقبل.
5- الإسلام هو الدين الحق وما عداه فباطل.
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)
__________
1 ومن أنواع الفتح القريب ما تم بالهدنة من دخول الناس في الإسلام إذ أصبح الناس آمنين فيتصلون بالمؤمنين ويتعرفون إلى الإسلام ويدخلون فيه، فدخل في الإسلام أعداد هائلة في هذه الهدنة.

شرح الكلمات:
محمد رسول الله والذين معه :أي أصحابه رضوان الله عليهم.
أشداء على الكفار :أي غلاظ لا يرحمونهم.
رحماء بينهم :أي متعاطفون متوادون كالوالد مع الولد.
تراهم ركعا سجدا :أي تبصرهم ركعاً سجداً أي راكعين ساجدين.
يبتغون فضلا من الله ورضوانا :أي يطلبون بالركوع والسجود ثواب من ربهم هو الجنة ورضوانا هو رضاه عز وجل.
سيماهم في وجوههم :أي نور وبياض يعرفون به يوم القيامة أنهم سجدوا في الدنيا.
ذلك : أي الوصف المذكور.
مثلهم في التوراة :أي صفتهم في التوراة كتاب موسى عليه السلام.
أخرج شطأه :أي فراخه.
فآزره : أي قواه وأعانه.
فاستغلظ فاستوى :أي غلظ واستوى أي قوي.
على سوقه : جمع ساق أي على أصوله.
يعجب الزراع :أي زارعيه لحسنه.
ليغيظ بهم الكفار :هذا تعليل أي قواهم وكثرهم ليغيظ بهم الكفار.
معنى الآيات:
لما أخبر تعالى أنه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله شهادة منه بذلك أخبر أيضا عنه بما يؤكد تلك الشهادة فقال تعالى {مُحَمَّدٌ1 رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} من أصحابه {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} أي غلاظ قساة عليهم، وذلك لأمرين الأول أنهم كفروا بالله وعادوه ولم يؤمنوا به ولم يجيبوه، والله يبغضهم لذلك فهم إذاً غلاظ عليهم لذلك والثاني أن الغلظة والشدة قد تكون سببا في هدايتهم لأنهم يتألمون بها، ويرون خلافها مع المسلمين فيسلمون فيرحمون ويفوزون. وقوله تعالى {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} أي فيما بينهم يتعاطفون يتراحمون فترى أحدهم يكره أن يمس جسمه أو ثوبه جسم الكافر أو ثوبه، وتره مع المسلم إذا رآه صافحه وعانقه ولاطفه
__________
1 جائز الوقف على (رسول الله) مبتدأ وخبر، ويبدأ الكلام: (والذين معه أشداء..) الخ وهو الأشبه، وجائز أن يكون: (والذين معه ) عطف على (محمد رسول الله) والخبر: (أشداء..) الخ .

وأعانه وأظهر له الحب والود. وقوله تعالى {تَرَاهُمْ} أي تبصرهم أيها المخاطب {رُكَّعاً سُجَّداً1} أي راكعين ساجدين في صلواتهم {يَبْتَغُونَ} أي يطلبون بصلاتهم بعد إيمانهم وتعاونهم وتحاببهم وتعاطفهم مع بعضهم، يطلبون بذلك {فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} أي الجنة ورضا الله. وهذا أسمى ما يطلب المؤمن أن يدخله الله الجنة بعد أن ينقذه من النار ويرضى عنه. وقوله {سِيمَاهُمْ2 فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} أي علامات إيمانهم وصفائهم في وجوههم من أثر السجود إذ يبعثون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} وفي الدنيا عليهم سيما التقوى والصلاح والتواضع واللين والرحمة. وقوله تعالى {ذَلِكَ} أي المذكور {مَثَلُهُمْ فِي3 التَّوْرَاةِ} {مَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ4 شَطْأَهُ} أي فراخه {فَآزَرَهُ} أي قواه وأعانه {فَاسْتَغْلَظَ} أي غلظ {فَاسْتَوَى} أي قوي {عَلَى سُوقِه} جمع ساق ما يحمل السنبلة من أصل لها {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} أي الزراعين له وذلك لحسنه وسلامة ثمرته وقوله تعالى {ليَغِيظَ بِهِمُ5 الْكُفَّار} أي قواهم وكثرهم من أجل أن يغيظ بهم الكفار ولذا ورد عن مالك بن أنس رحمه الله تعالى أن من يغيظه أصحاب رسول الله فهو كافر وقوله {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً} أي لذنوبهم {وَأَجْراً عَظِيماً} هو الجنة. هذا وعد خاص بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم وهناك وعد عام لسائر المؤمنين والمؤمنات وذلك في آيات أخرى مثل آية المائدة {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}.
هداية الآية الكريمة:
من هداية الآية الكريمة:
1- تقرير نبوة رسول الله وتأكيد رسالته.
2- بيان ما كان عليه رسول الله وأصحابه من الشدة والغلظة على الكفار والعطف والرحمة على أهل الإيمان وهذا مما يجب الأتساء بهم فيه والاقتداء.
3- بيان فضل الصلاة ذات الركوع والسجود والطمأنينة والخشوع.
__________
1 إخبار بكثرة ركوعهم وسجودهم وهو كذلك، إذ لم تر الدنيا أكثر من المسلمين ركوعاً وسجودا من سائر الأمم التي دانت لله بالإسلام.
2 السيما: (العلامة ولها ثلاثة مظاهر، الأول: هو يبوسة في الجبهة ولا يتعمدونها ولكنها تحدث من كثرة السجود على الأرض، والثاني: الأثر النفسي من التواضع والخشوع ونور الصلاح. والثالث: نور يوم القيامة يعلو وجوههم ويشهد له قوله تعالى {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} الآية.
3 موجود في التوراة قبل تحريفها إذ فيها نعوت هذه الأمة ونعوت نبيها محمد صلى الله عليه وسلم وهي إلى الآن واليهود يتأولونها هروباً من الحق حتى لا يلزموا به.
4 فراخ الزرع فروع الحبة منه.
5 الجملة تعليلية لما سبقها من صفات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أي: وهبهم ذلك الكمال ليغيظ بهم الكفار.

4- صفة أصحاب رسول الله في كل من التوراة والإنجيل ترفع من درجتهم وتعلي من شأنهم.
5- بيان أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأوا قليلين ثم اخذوا يكثرون حتى كثروا كثرة أغاظت الكفار.
6- بغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنافى مع الإيمان منافاة كاملة لا سيما خيارهم وكبارهم كالخلفاء الراشدين الأربعة والمبشرين بالجنة العشرة وأصحاب بيعة الرضوان، وأهل بدر قبلهم. ولذا روي عن مالك رحمه الله تعالى: أن من1 يغيظه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر.
__________
1 الرواية كما رواها القرطبي هي: روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير قال كنا عند مالك بن أنس فذكروا رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ مالك هذه الآية: (محمد رسول الله والذين معه..) حتى بلغ: (يعجب الزراع ليغيظ به الكفار) فقال مالك من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية. يريد ألزمته بالكفر.

سورة الحجرات
...
سورة الحجرات
وآياتها ثماني عشرة آية
وهي بداية المفصل1
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
__________
1 أشهر الأقوال أن أول المفصل (الحجرات) وأول وسط المفصل (عبس) وأول قصار المفصل: (والضحى) هذا أشهر أقوال المالكية، وطلب هذا لأجل الصلاة المفروضة ففي الصبح يستحب القراءة بطوال المفصل وفي الظهر والعشاء بمتوسطه وفي المغرب بقصاره.

شرح الكلمات:
يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا :أي لا تتقدموا بقول ولا فعل إذ هو من قدم بمعنى تقدم.
بين يدي الله ورسوله :كمن ذبح يوم العيد قبل أن يذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكإرادة أحد الشيخين تأمير رجل على قوم قبل استشارة الرسول صلى الله عليه وسلم.
واتقوا الله إن الله سميع عليم :أي خافوا الله إنه سميع لأقوالكم عليم بأعمالكم.
لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي :أي إذا نطقتم فوق صوت النبي إذا نطق.
ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض :أي إذا ناجيتموه فلا تجهروا في محادثتكم معه كما تجهرون في ما بينكم إجلالا له صلى الله عليه وسلم وتوقيراً وتقديراً.
أن تحبط أعمالكم :أي كراهة أن تبطل أعمالكم فلا تثابون عليها.
وأنتم لا تشعرون :بحبوطها وبطلانها. إذ قد يصحب ذلك استخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم لا سيما إذا صاحب ذلك إهانة وعدم مبالاة فهو الكفر والعياذ بالله.
يغضون أصواتهم عند رسول الله :أي يخفضونها حتى لكأنهم يسارونه ومنهم أبو بكر رضي الله عنه.
امتحن الله قلوبهم للتقوى :أي شرحها ووسعها لتتحمل تقوى الله. مأخوذ من محن الأديم إذا وسعه.
لهم مغفرة وأجر عظيم :أي مغفرة لذنوبهم وأجر عظيم وهو الجنة.
معنى الآيات:
قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}1 لو بحثنا عن المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها لتجلت لنا واضحة إذا رجعنا بالذاكرة إلى موقف عمر رضي الله عنه وهو يريد أن لا يتم صلح بين المؤمنين والمشركين، وإلى موقف الصحابة كافة من عدم التحلل من إحرامهم ونحر هداياهم والرسول يأمر وهم لا يستجيبون حتى تقدم صلى الله عليه وسلم فنحر هديه ثم نحروا بعده وتحللوا، إذ تلك المواقف التي أشرنا إليها فيها معنى تقديم الرأي والقول بين يدي الله ورسوله وفي ذلك مضرة لا يعلم مداها إلا الله، ولما انتهت تلك الحال وذلك الظرف الصعب أنزل الله تعالى قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}
__________
1 ذكر لسبب نزول هذه السورة عدة روايات منها ما ذكره الواحدي ورواه البخاري وهو أن ركباً من بني تميم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر: أمر الأقرع بن حابس فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي فقال عمر ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت في ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..} الخ

أي بالله رباً وإلها وبالإسلام شرعة ودينا وبمحمد نبيا ورسولا ناداهم بعنوان الإيمان ليقول لهم ناهيا {لا تُقَدِّمُوا 1بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي قولا ولا عملا ولا رأيا ولا فكرا أي لا تقولوا ولا تعملوا إلا تبعا لما قال الله ورسوله، وشرع الله ورسوله {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في ذلك فإن التقدم بالشيء قبل أن يشرع الله ورسوله فيه معنى أنكم أعلم وأحكم من الله ورسوله وهذه زلة كبرى وعاقبتها سوأى. ولذا قال {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} أي لأقوالكم {عَلِيمٌ} بأعمالكم وأحوالكم. ومن هنا فواجب المسلم أن لا يقول ولا يعمل2 ولا يقضي ولا يفتي برأيه إلا إذا علم قول الله ورسوله وحكمهما وبعد أن يكون قد علم أكثر أقوال الله والرسول وأحكامهما، فإذا لم يجد من ذلك شيئا اجتهد3 فقال أو عمل بما يراه أقرب إلى رضا الله تعالى فإذا لاح له بعد ذلك نص من كتاب أو سنة عدل عن رأيه وقال بالكتاب والسنة وهذا ما دلت عليه الآية الأولى (1) أما الآية الثانية (2) وهي قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} فإنها تطالب المسلم بالتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأولا نهاهم رضي الله عنهم عن رفع أصواتهم فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هم تحدثوا معه وأوجب عليهم إجلال النبي وتعظيمه وتوقيره بحيث يكون صوت أحدهم إذا تكلم مع رسول الله أخفض من صوت الرسول صلى الله عليه وسلم ولقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا كلم رسول الله يساره الكلام مسارة وثانيا ونهاهم إذا هم ناجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض بل يجب عليهم توقيره وتعظيمه.وأعلمهم أنه يخشى عليهم إذ هم لم يوقروا رسول الله ولم يجلوه أن تحبط أعمالهم كما تحبط بالشرك والكفر وهم لا يشعرون. إذ رفع الصوت للرسول ونداؤه بأعلى الصوت يا محمد يا محمد أو يا نبي الله ويا رسول الله وبأعلى الأصوات إذا صاحبه استخفاف أو إهانة وعدم مبالاة صار كفراً محبطاً للعمل قطعا. وفي الآية الثالثة (3) يثني الله تعالى على أقوام يغضون أصواتهم أي يخفضونها عند رسول الله أي في حضرته وبين يديه كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما هؤلاء يخبر تعالى أنه امتحن قلوبهم بالتقوى أي وسعها وشرحها
__________
1 هذه السورة نزلت في الأمر بمكارم الأخلاق ورعاية الآداب زيادة على ما تضمنت من الأحكام الشرعية والهدايات القرآنية.
2 ومن هنا قال العلماء: لا يحل لامرئ مسلم أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه.
3 شاهده حديث معاذ رضي الله عنه حيث قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن "بما تحكم ؟ قال بكتاب الله تعالى قال صلى الله عليه وسلم فإن لم تجد؟ قال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم فإن لم تجد؟ قال رضي الله عنه: اجتهد رأيي، فضرب في صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم".
4 روى البخاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس رضي الله عنه فقال رجل يا رسول الله أنا أعلم لك علمه فأتاه فوجده في بيته منكساً رأسه فقال له: ما شأنك؟ فقال شر، كان: يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله فهو من أهل النار فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا، فقال: اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة.

لتحمل تقوى الله والرسول صلى الله عليه وسلم يقول "التقوى1 ها هنا ويشير إلى صدره ثلاثا" ، ويذكر لهم بشرى نعم البشرى وهي أن لهم منه تعالى مغفرة لذنوبهم، وأجراً عظيما يوم يلقونه وهو الجنة دار المتقين جعلنا الله منهم بفضله ورحمته.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- لا يجوز للمسلم أن يقدم رأيه أو اجتهاده على الكتاب والسنة فلا رأي ولا اجتهاد إلا عند عدم وجود نص من كتاب أو سنة وعليه إذا اجتهد أن يكون ما اجتهد فيه أقرب إلى مراد الله ورسوله، أي ألصق بالشرع، وإن ظهر له بعد الاجتهاد نص من كتاب أو سنة عاد إلى الكتاب والسنة وترك رأيه أو اجتهاده فوراً وبلا تردد.
2- بما أن الله تعالى قد قبض إليه نبيه ولم يبق بيننا رسول الله نتكلم معه أو نناجيه فنخفض أصواتنا عند ذلك فإن علينا إذا ذكر رسول الله بيننا أو ذكر حديثه أن نتأدب عند ذلك فلا نضحك ولا نرفع الصوت، ولا نظهر أي استخفاف أو عدم مبالاة وإلا يخشى علينا أن تحبط أعمالنا ونحن لا نشعر.
3- على الذين يغشون مسجد رسول اله صلى الله عليه وسلم أن لا يرفعوا أصواتهم فيه إلا لضرورة درس أو خطبة أو أذان أو إقامة.
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ
__________
1 هذا بعض حديث صحيح أخرجه واحد من أصحاب السنن.

الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
شرح الكلمات:
إن الذين ينادونك من وراءالحجرات :أي حجرات نسائه والذين نادوه من أعراب بني تميم منهم الزبرقان بن بدر
والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن.
أكثرهم لا يعقلون :أي فيما فعلوه بمحلك الرفيع ومقامك السامي الشريف.
ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم :أي ولو أنهم انتظروك حتى تخرج بعد قيامك من قيلولتك.
لكان خيراً لهم :أي من ذلك النداء بأعلى أصواتهم من كل أبواب الحجرات.
والله غفور رحيم :أي غفور لمن تاب منهم رحيم بهم إذا أساءوا مرتين الأولى برفع أصواتهم والثانية كانوا ينادونه أن اخرج إلينا فإن مدحنا زين وذمنا شين.
واسق بنبأ :أي ذو فسق وهو المرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب والنبأ الخير ذو الشأن.
فتبينوا :أي تثبتوا قبل أن تقولوا أو تفعلوا أو تحكموا.
أن تصيبوا قوما بجهالة :أي خشية إصابة قوم بجهالة منكم.
فتصبحوا على ما فعلتم نادمين :أي فتصيروا على فعلكم الخاطئ نادمين.
واعلموا أن فيكم رسول الله :أي فاحذروا أن تكذبوا أو تقولوا الباطل فإن الوحي ينزل وتفضحون بكذبكم وباطلكم.
لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم :أي لوقعتم في المشقة الشديدة والإثم أحيانا.
وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان :أي بغض إلى قلوبكم الكفر والفسوق كالكذب والعصيان بترك واجب أو فعل محرم.
أولئك هم الراشدون :أي الذين فعل بهم ما فعل من تحبيب الإيمان وتكريه الكفر وما ذكر معه هم الراشدون أي السالكون سبيل الرشاد.

فضلا من الله ونعمة :أي أفضل بذلك عليهم فضلا وأنعم إنعاما ونعمة.
والله عليم حكيم :أي عليم بخلقه وما يعملون حكيم في تدبيره لعباده هذا بعامة وبخاصة عليم بأولئك الراشدين حكيم في إنعامه عليهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تأديب المؤمنين إزاء نبيهم صلى الله عليه وسلم فقد عاب تعالى أقواما معهم جفاء وغلظة قيل أنهم وفد من أعراب بني تميم منهم الزبرقان بن بدر، والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن جاءوا والرسول قائل وقت القيلولة ووقفوا على أبواب الحجرات1 ينادون بأعلى أصواتهم يا محمد يا محمد صلى الله عليه وسلم أن اخرج إلينا فإنما مدحنا زين وإن ذمنا شين فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية الكريمة تأديبا لهم {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} حجرات نساء الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت أبواب الحجرات إلى المسجد. {أَكْثَرُهُمْ لا2 يَعْقِلُونَ} أي فيما فعلوه بمقام الرسول الشريف ومكانته الرفيعة. {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} بعد هبوبك من قيلولتك {لَكَانَ3 خَيْراً} أي من ذلك النداء بتعالي الأصوات من وراء الحجرات وقوله تعالى {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي غفور لمن تاب منهم رحيم بهم إذ لم يعجل لهم العقوبة وفتح لهم باب التوبة وأدبهم ولم يعنف ولم يغلظ، وقوله تعالى في الآية الثالثة من هذا السياق (6) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ4 بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا5 قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} هذه الآية وإن كان لها سبب في نزولها وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق ليأتي بزكاة أموالهم، وكان بينهم وبين أسرة الوليد عداء في الجاهلية فذكره الوليد وهاب أن يدخل عليهم دارهم وهذا من وسواس الشيطان فرجع وستر على نفسه الخوف الذي أصابه فذكر أنهم منعوه الزكاة وهموا بقتله فهرب منهم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بغزوهم. وما زال كذلك حتى أتى وفد منهم يسترضي رسول الله ويستعتب عنده خوفا من أن يكون قد بلغه عنهم سوء فأخبروه بأنهم على العهد وأن الوليد رجع من الطريق ولم يصل إليهم وبعث الرسول خالد بن الوليد من جهة فوصل
__________
1 الحجرات: جمع حجرة وهي تسع تدخل ضمن البيت النبوي.
2 هذا الاحتراس دال على أن من الوفد من كان متأدباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يناد نداءهم بصوت عال وألفاظ نابية لا تليق بمقام الرسول صلى الله عليه وسلم.
3 أي: لو انتظروا خروجك لكان أصلح لهم في دينهم ودنياهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتجب عن الناس إلا في أوقات يشتغل فيها بمهمات نفسه فكان إزعاجه في تلك الحالة من سوء الأدب.
4 فسر الفاسق. بالكاذب وبالمعلن بالذنب، وبالذي لا يستحي من الله وهو قابل لكل ما ذكر.
5 أن تصيبوا: أي: لئلا تصيبوا.

إليهم قبل المغرب فإذا بهم يؤذنون و يصلون المغرب والعشاء فعلم أنهم لم يرتدوا وأنهم على خير والحمد لله. وجاء بالزكوات وأنزل الله تعالى هذه الآية قلت إن هذه الآية وإن نزلت في سبب معين فإنها عامة وقاعدة أساسية هامة فعلى الفرد والجماعة والدولة أن لا يقبلوا من الأخبار التي تنقل إليهم ولا يعملوا بمقتضاها إلا بعد الثبت والتبين الصحيح كراهية أن يصيبوا فردا أو جماعة بسوء بدون موجب لذلك ولا مقتض الإقالة سوء وفرية قد يريد بها صاحبها منفعة لنفسه بجلب مصلحة أو دفع مضرة عنه. فالأخذ بمبدأ التثبت والتبين عند سماع خبر من شخص لم يعرف بالتقوى والاستقامة الكاملة والعدالة التامة واجب صونا لكرامة الأفراد وحماية لأرواحهم وأموالهم. والحمد لله على شرع عادل رحيم كهذا. فقوله {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} المراد بالفاسق من يرتكب كبيرة من كبائر الذنوب كالكذب مثلا, والنبأ الخبر ذو الشأن والتبين التثبت وقوله {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} أن تصيبوهم في أبدانهم وأموالهم بعدم علم منكم وهي الجهالة وقوله {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} أي من جراء ما اتخذتم من إجراء خاطئ، وقوله تعالى في الآية (7) {وَاعْلَمُوا} يلفت الرب تعالى نظر المسلمين إلى حقيقة هم غافلون عنها وهو وجود الرسول صلى الله عليه وسلم حياً بينهم ينزل عليه الوحي فإن هذه حال تتطلب منهم التزام الصدق في القول والعمل وإلا يفضحهم الوحي فوراً إن هم كذبوا في قول أو عمل كما فضح الوليد لما أخبر بغير الحق. هذا أولا وثانيا لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يطيعهم في كل ما يرونه ويقترحونه لوقعوا في مشاكل تعرضهم لمشاق لا تطاق، بل وفي آثام عظام. هذا معنى قوله تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ1 فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} وقوله {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ2 إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} فوقاكم كثيرا من أن تكذبوا على رسولكم أو تقترحوا عليه أو تفرضوا آراءكم. وقوله {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ3} أي أولئك أصحاب رسول الله هم السالكون سبيل الرشاد فلا يتهوكون ولا يضلون وقوله {فَضْلاً4 مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} أي هدايتهم كانت فضلا من الله ونعمة، والله عليم بهم وبنياتهم وبواعث نفوسهم حكيم5 في تدبيره فأهل أصحاب رسول الله
__________
1 لو: حرف امتناع لامتناع، امتنعت طاعته صلى الله عليه وسلم لهم فامتنع عنتهم الذي هو: الوقوع في المشقة والشدة.
2 (لكن) هذه الاستدراكية العاطفة، وهذا الاستدراك ناشيء عن كون بعضهم يحب أن يطيعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلموا أن الله حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان وجعلهم من الراشدين، فكفاهم خواطر السوء، ورغبات الباطل، فلم يبق مجال للاقتراحات التي تسيء إليهم وإلى جانب نبيهم صلى الله عليه وسلم.
3 الرشاد، والرشد: ما كان خلاف الغي، والباطل والسيء.
4 نصب: (فضلا ونعمه) على المفعولية المطلقة.
5 جملة : (والله عليم حكيم) تذييلية لما تقدم من قوله: (واعلموا أن فيكم رسول الله) إلى قوله: (ونعمة).

للخير وأضفاه عليهم فهم أفضل هذه الأمة على الإطلاق ولا مطمع لأحد أتى بعدهم أن يفوقهم في الفضل والكمال في الدنيا ولا في الآخرة فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين وعنا معهم آمين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان سمو المقام المحمدي وشرف منزلته صلى الله عليه وسلم.
2- وجوب التثبت في الأخبار ذات الشأن التي قد يترتب عليها أذى أو ضرر بمن قيلت فيه، وحرمة التسرع المفضي بالأخذ بالظنة فيندم الفاعل بعد ذلك في الدنيا والآخرة.
3- من أكبر النعم على المؤمنين تحبيب الله تعالى الإيمان إليه وتزيينه في قلبه، وتكريه الكفر إليه والفسوق والعصيان وبذلك أصبح المؤمن أرشد الخلق بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ

وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
شرح الكلمات:
وإن طائفتان من المؤمنين :أي جماعتان قل أفرادهما أو كثروا من المسلمين.
اقتتلوا فأصلحوا بينهما :أي هموا بالاقتتال أو باشروه فعلا فأصلحوا ما فسد بينهما.
فإن بغت إحداهما على الأخرى :أي تعدت بعد المصالحة بأن رفضت ذلك ولم ترض بحكم الله.
فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلىأمر الله :أي قاتلوا أيها المؤمنون مجتمعين الطائفة التي بغت حتى ترجع إلى الحق.
فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل :أي رجعت إلى الحق بعد مقاتلتها فأصلحوا بينهما بالعدل أي بالحق.
وأقسطوا إن الله يحب المقسطين :أي وأعدلوا في حكمكم إن الله يحب أهل العدل.
إنما المؤمنون إخوة :أي في الدين الإسلامي.
فأصلحوا بين أخويكم :أي إذا تنازعا شيئا وتخاصما فيه.
واتقوا الله لعلكم ترحمون :أي خافوا عقابه رجاء أن ترحموا إن أنتم اتقيتموه.
لا يسخر قوم من قوم : أي لا يزدر قوم منكم قوما آخرين ويحتقرونهم.
عسى أن يكونوا خيرا منهم :أي عند الله تعالى والعبرة بما عند الله لا ما عند الناس.
ولا تلمزوا أنفسكم :أي لا تعيبوا بعضكم بعضا فإنكم كفرد واحد.
ولا تنابزوا بالألقاب :أي لا يدعو بعضكم بعضا بلقب يكرهه نحو يا فاسق يا جاهل.

بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان :أي قبح اسم الفسوق يكون للمرء بعد إيمانه وإسلامه.
ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون :أي من لمز ونبز المؤمنين فأولئك البعداء هم الظالمون.
اجتنبوا كثيرا من الظن :أي التهم التي ليس لها ما يوجبها من الأسباب والقرائن.
إن بعض الظن إثم :أي كظن السوء بأهل الخير من المؤمنين.
ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا: أي لا تتبعوا عورات المسلمين وما بهم بالبحث عنها.
أيحب أحدكم أن يأكل لحم :أي لا يحسن به حب أكل لحم أخيه ميتا ولا حيا معا.
أخيه ميتا
فكرهتموه :أي وقد عرض عليكم الأول فكرهتموه فاكرهوا أي كما كرهتم أكل لحمه ميتا فاكرهوه حيا وهو الغيبة.
وجعلناكم شعوبا وقبائل :أي جمع شعب والقبيلة دون الشعب.
لتعارفوا :أي ليعرف بعضكم بعضا فتعارفوا لا للتفاخر بعلو الأنساب.
إن أكرمكم عند الله أتقاكم :أي أشدكم تقوى لله بفعل أوامره وترك نواهيه هو أكرم عند الله.
إن الله عليم خبير : أي عليم بكم وبأحوالكم خبير بما تكونون عليه من كمال ونقص لا يخفى عليه شيء من أشياء العباد.
معنى الآيات:
قوله تعالى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا1} الآيات ما زال السياق الكريم في طلب تأديب المسلمين وتربيتهم وإعدادهم للكمال الدنيوي والأخروي ففي الآيتين (9) و (10) من هذا السياق يرشد الله تعالى المسلمين إلى كيفية علاج مشكلة النزاع المسلح بين المسلمين الذي قد يحدث في المجتمع الإسلامي بحكم الضعف الإنساني من الوقت إلى الوقت وهو مما يكاد يكون من ضروريات الحياة البشرية وعوامله كثيرة لا حاجة إلى ذكرها فقال تعالى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ} أي جماعتان {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} ولو كان ذلك بين اثنين فقط {فَأَصْلِحُوا} أيها المسلمون {بَيْنَهَا2} بالقضاء على أسباب الخلاف وترضية الطرفين بما هو حق وخير وليس هذا
__________
1 قال مجاهد: نزلت هذه الآية في الأوس والخزرج حيث تقاتل حيان من الأنصار بالعصي والنعال.
2 قال القرطبي: بالدعاء إلى كتاب الله لهما أو عليهما وقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كما قال معاذ: أحكم بكتاب الله فإن لم أجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

بصعب مع وجود قلوب مؤمنة وهداية ربانية وقوله {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا} أي اعتدت إحدى الطائفتين بعد الصلح
{عَلى الْأُخْرَى} بأن رفضت حكم الله الذي قامت المصالحة بموجبه {فَقَاتِلُو} 1 مجتمعين {الَّتِي تَبْغِي} أي تعتدي { حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أي إلى الحق {فَإِنْ فَاءَتْ} أي أذعنت للحق ورضيت به {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا} في حكمكم دائما وأبدا {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}2 . وقوله تعالى في الآية(10) {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ3 وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} يقرر تعالى الأخوة الإسلامية ويقصر المؤمنين عليها قصرا فليس المؤمنون إلا أخوة لبعضهم بعضا ولذا وجب رأب كل صدع وإصلاح كل فاسد يظهر بين أفرادهم وعدم التساهل في ذلك { وَاتَّقُوا اللَّهَ} في ذلك فلا تتوانوا أو تتساهلوا حتى تسفك الدماء المؤمنة ويتصدع بنيان الإيمان والإسلام في دياره وقوله {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فلا يتصدع بنيانكم ولا تتشتت أمتكم وتصبح جماعات وطوائف متعادية يقتل بعضها بعضا. ولما لم يتق المؤمنون الله في الإصلاح الفوري بين الطوائف الإسلامية المتنازعة حصل من الفساد والشر ما الله به عليم في الغرب الإسلامي والشرق. وقوله في الآية(11) {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} إذ من عوامل النزاع والتقاتل وأسبابهما سخرية المؤمن بأخيه واحتقاره لضعف حاله ورثاثة ثيابه وقلة ذات يده فحرم تعالى بهذه الآية على المسلم أن يحتقر أخاه المسلم ويزدريه منبهاً إلى أن من احتقر وازدرى به وسخر منه قد يكون غالبا خيرا عند الله من المحتقر له والعبرة بما عند الله لا بما عند الناس والرجال في هذا والنساء سواء فلا يحل لمؤمنة أن تزدري وتحتقر أختها المؤمنة عسى أن تكون عند الله خيرا منها والعبرة بالمنزلة عند الله لا عند الناس وكما حرم السخرية بالمؤمنين والمؤمنات لإفضائها إلى العداوة والشحناء ثم التقاتل حرم كذلك اللمز والتنابز بالألقاب فقال تعالى {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ} ومعنى لا تلمزوا أنفسكم أي لا يعب4 بعضكم بعضا بأي عيب من العيوب فإنكم كشخص واحد فمن عاب
__________
1 هذه الآية نص صريح في وجوب قتال أهل البغي, وهم الذين يخرجون عن إمام المسلمين ظلماً وعدواناً بعد دعوتهم إلى الطاعة لله ورسوله وإمام المسلمين, ولا التفات إلى من يرى غير هذا, ومن أحكام قتال أهل البغي أنه لا يقتل أسيرهم ولا يذفف على جريحهم أي لا يجهز عليه قتلا ولا تسبى ذراريهم ولا نساؤهم ولا أموالهم.
2 روى مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال" المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من نور عن يمين العرش: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا".
3 الآية دليل على أن اسم الإيمان لا يزول بالبغي فإن الله تعالى قال (بين أخويكم) فأثبت أخوة الإيمان ولم يسقطها بالبغي. روى أن علياً سئل عن قتال أهل البغي من أهل الجمل, وصفين, أمشركون هم؟ قال: لا, من الشرك فروا فقيل: أمنافقون؟ قال لا لأن المنافقين لايذكرون الله إلا قليلا, فقيل له فما حالهم؟ قال: إخواننا بغوا علينا.
4 قال عبد الله بن مسعود: البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلباً.

أخاه المسلم كأنما عاب نفسه كما أن المعاب قد يرد العيب بعيب من عابه وهذا معنى ولا تلمزوا أنفسكم وقوله ولا تنابزوا بالألقاب أي لا يلقب المسلم أخاه بلقب يكرهه فإن ذلك يفضي إلى العداوة والمقاتلة وقوله {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ} أي قبح أشد القبح أن يلقب المسلم بلقب الفسق بعد أن أصبح مؤمنا عدلا كاملا في أخلاقه وآدابه فلا يحل لمؤمن أن يقول لأخيه يا فاسق أو يا كافر أو يا عاهر أو يا فاسد, إ بئس الاسم اسم الفسوق كما أن الملقب للمسلم بألقاب السوء يعد فاسقا وبئس الاسم له أن يكون فاسقا بعد إيمانه بالله ولقائه والرسول وما جاء به, وقوله تعالى {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ} أي من احتقار المسلمين وازدرائهم وتلقيبهم بألقاب يكرهونها {أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} المتعرضون لغضب الله وعقابه. وقوله في الآية(12) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} ينادي الله تعالى المسلمين بعنوان الإيمان إذ به أصبحوا أحياء يسمعون ويبصرون ويقدرون على الفعل والترك إذ الإيمان بمثابة الروح إذا أحلت الجسم تحرك فأبصرت العين وسمعت الأذن ونطق اللسان وفهم القلب.
فيقول {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ1} وهو كل ظن ليس له ما يوجبه من القرائن و الأحوال والملابسات المقتضية له, ويعلل هذا النهي المقتضي للتحريم فيقول {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وذلك كظن السوء بأهل الخير والصلاح فالأمة فإن ظن السوء فيهم قد يترتب عليه قول باطل أو فعل سوء أو تعطيل معروف, فيكون إثما كبيرا, وقوله {وَلا تَجَسَّسُوا} أي لا تتبعوا عورات المسلمين ومعايبهم بالحث عنها والاطلاع عليها أمل في ذلك من الضرر الكبير, وقوله {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ2 بَعْضاً} أي لا يذكر أحدكم أخاه في غيبته بما يكره وهنا يروى في الصحيح من الأحاديث ما معناه أن رجلا سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الغيبة فقال له ذكرك أخاك بما يكره فقال الرجل فإن كان فيه ما يكره قال فإن كان فيه ما يكره فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته والبهتان أسوأ الغيبة. وقوله أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا؟ والجواب لا قطعاً إذاً فكما عرض عليكم لحم أخيكم ميتا فكرهتموه فاكرهوا إذاً أكل لحمه حياً وهو 3عرضه والعرض أعز
__________
1 قالت العلماء: الظن هو هنا التهمة بدون قرينة حال تدل عليها أو تدعو إليها وقد صح الحديث بتحريم الظن السيء بقوله صلى الله عليه وسلم
في رواية الصحيح "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا".
2 الغيبة عامة في الدين والخلق والحسب والنسب ولا وجه لتخصيصها بواحد مما ذكر, وكيف وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله" ذكرك أخاك بما يكره".
3 قال قتادة كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً كذلك يجب أن يمتنع من غيبته حياً, واستعمل أكل اللحم مكان الغيبة لأن عادة العرب جارية بذلك قال الشاعر:
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم
وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

وأغلى من الجسم وقوله {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في غيبة بعضكم بعضا فإن الغيبة من عوامل الدمار والفساد بين المسلمين, وقوله {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} جملة تعليلية للأمر بالتوبة فأخبر تعالى أنه يقبل توبة التائبين وأنه رحيم بالمؤمنين ومن مظاهر ذلك أنه حرم الغيبة للمؤمن لما يحصل له من بها من ضرر وأذى. وقوله تعالى في الآية(13) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} هذا نداء هو آخر نداءات الله تعالى عباده في هذه السورة وهو أعم من النداء بعنوان الإيمان فقال {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} من آدم وحواء باعتبار الأصل كما أن كل آدمي مخلوق من أبوين أحدهما ذكر والآخر أنثى {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ} وبطوناً وأفخاذاً وفصائل كل هذا لحكمة التعارف فلم يجعلكم كجنس الحيوان لا يعرف الحيوان الآخر ولكن جعلكم شعوباً وقبائل وعائلات وأسر لحكمة التعارف المقتضي للتعاون إذ التعاون بين الأفراد ضروري لقيام مجتمع صالح سعيد فتعارفوا وتعاونوا ولا تتفرقوا لأجل التفاخر بالأنساب فإنه لا قيمة للحسب ولا للنسب إذا كان المرء هابطا في نفسه وخلقه وفاسدا في سلوكه إن أكرمكم عند الله أتقاكم1. إن الشرف والكمال فيما عليه الإنسان من زكاة روحه وسلامة خلقه وإصابة رأيه وكثرة معارفه وقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} جملة تعليلية يبين فيها تعالى أنه عليم بالناس عليم بظواهرهم وبواطنهم وبما يكملهم ويسعدهم خبير بكل شيء في حياتهم فليسلم له التشريع بالتحليل والتحريم والأمر والنهي فإنه على علم بالحال والمآل وبما يسعد الإنسان وبما يشقيه فآمنوا به وأطيعوه تكملوا وتسعدوا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب مبادرة المسلمين إلى إصلاح ذات البين بينهم كلما حصل فساد أو خلل فيها.
2- وجوب تعاون المسلمين على تأديب أية جماعة تبغي وتعتدي حتى تفيء إلى الحق.
3- وجوب الحكم بالعدل في أية قضية من قضايا المسلمين وغيرهم.
4- تقرير الأخوة الإسلامية ووجوب تحقيقها بالقول والعمل.
5- حرمة السخرية واللمز والتنابز بين المسلمين.
6- وجوب إجتناب كل ظن لا قرينة ولا حال قوية تدعو إلى ذلك.
7- حرمة التجسس أي تتبع عورات المسلمين وكشفها وإطلاع الناس عليها.
__________
1 روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم" خطب بمكة فقال: يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعاظمها بآبائها فالناس رجلان: بر تقي كريم على الله, وفاجر شقي هين على الله".

1- حرمة الغيبة والنميمة. والنميمة هي نقل الحديث على وجه الإفساد ولذا يجوز ذكر الشخص وهو غائب في مواطن هي التظلم بأن يذكر المسلم من ظلمه لإزالة ظلمه، الاستعانة على تغير المنكر بذكر صاحب المنكر. الاستفتاء نحو قول المستفتي ظلمني فلان بكذا فهل يجوز له ذلك، تحذير المسلمين من الشر بذكر فاعله قصد أن يحذروه، المجاهر بالفسق لا غيبة له، التعريف بلقب لا يعرف الرجل إلا به.
2- حرمة التفاخر بالأنساب ووجوب التعارف للتعاون.
3- لا شرف ولا كرم إلا بشرف التقوى وكرامتها {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وفي الحديث "لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى" رواه الطبراني.
قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)

شرح الكلمات:
قالت الأعراب آمنا :هم نفر من بني أسد قدموا على الرسول وقالوا له آمنا وهم غير مؤمنين.
قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا :أي قل لهم إنكم ما آمنتم بعد ولكن قولوا أسلمنا أي استسلمنا وانقدنا.
ولما يدخل الإيمان في قلوبكم :أي ولما يدخل الإيمان بعد في قلوبكم ولكنه يتوقع له الدخول.
وإن تطيعوا الله ورسوله :أي في الإيمان والقيام بالفرائض واجتناب المحارم.
لا يلتكم من أعمالكم شيئا :أي لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا.
إن الله غفور رحيم :أي غفور للمؤمنين رحيم بهم إن هم صدقوا في إيمانهم.
إنما المؤمنون :أي حقا وصدقا لا إدعاء ونطقا هم.
الذين آمنوا بالله ورسوله :أي بالله ربا وإلها وبالرسول محمد نبيا ورسولا.
ثم لم يرتابوا :أي لم يشكوا فيما آمنوا به.
وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله :أي جاهدوا مع رسول الله أعداء الله وهم الكافرون بأموالهم وأنفسهم.
أولئك هم الصادقون :أي في إيمانهم لا الذين قالوا آمنا بألسنتهم واستسلموا ظاهراً ولم يسلموا باطناً.
قل أتعلمون الله بدينكم :أي قل لهم يا رسولنا أي لهؤلاء الأعراب أتشعرون الله بدينكم.
يمنون عليك أن أسلموا :أي كونهم أسلموا بدون قتال وغيرهم أسلم بعد قتالٍ.
قل لا تمنوا علي إسلامكم :أي لا حق لكم في ذلك بل الحق لله الذي هداكم للإيمان إن كنتم صادقين في دعواكم أنكم مؤمنون.
إن الله يعلم غيب السماوات والأرض :أي أن الله يعلم ما غاب في السماوات وما غاب في الأرض فلا يخفى عليه أمر من صدق في إيمانه وأمر من كذب، ومن أسلم رغبة ومن أسلم رهبة.
معنى الآيات:
قوله تعالى {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا1} هؤلاء جماعة من أعراب بني أسد وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
1 هذه الآية نزلت في أعراب بني أسد، وليست عامة في كل الأعراب لأن منهم من يؤمن بالله واليوم الآخر كبعض أعراب أسلم و غفار وجهينة ومزينة.

بالمدينة بأولادهم ونسائهم في سنة مجدبة فأظهروا له الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في نفوسهم، فكانوا يغدون على الرسول صلى الله عليه وسلم ويروحون ويقولون: أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحها، ونحن قد جئناك بالأطفال والعيال والذرارى ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، يمنون على رسول الله وهم يريدون الصدقة ويقولون أعطنا فأنزل الله تعالى هذه الآية تربية لهم وتعليما إتماما لما اشتملت عليه سورة الحجرات من أنواع الهداية والتربية الإسلامية فقال تعالى {قَالَتِ الأَعْرَابُ} أعراب بني أسد آمنا أي صدقنا بتوحيد الله وبنبوتك. قل لهم ردا عليهم لم تؤمنوا بعد، ولكن الصواب أن تقولوا أسلمنا أي أذعنا للإسلام وانقدنا لقبوله وهو الإسلام الظاهري، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم بعد وسيدخل إن شاء الله. وإن تطيعوا الله ورسوله أيها الأعراب في الإيمان الحق وفي غيره من سائر التكاليف لا يلتكم1 أي لا ينقصكم الله تعالى من أجور أعمالكم الصالحة التي تعملونها طاعة لله ورسوله شيئا وإن قل. وقوله إن الله غفور رحيم في هذه الجملة ترغيب لهم في الإيمان الصالح والإسلام الصحيح فأعلمهم أن الله تعالى غفور للتائبين رحيم بهم وبالمؤمنين فتوبوا إليه واصدقوه يغفر لكم ويرحمكم وقوله تعالى في الآية (15) إنما المؤمنون الآية يعرفهم تعالى بالإيمان الصحيح دعوة منه لهم لعلهم يؤمنون فقال {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ2} أي حقا وصدقا الذين آمنوا بالله رباً وإلها ورسوله نبيا مطاعا، ثم لم يرتابوا، أي لم يشكوا أبدا في صحة ما آمنوا به، وجاهدوا أي أنفسهم وألزموها الاستعداد للنهوض بالتكاليف الشرعية في المنشط والمكره، كما جاهدوا بأموالهم وأنفسهم أعداء الإسلام من المشركين والكافرين وذلك الجهاد بالنفس والمال لا هدف له إلا طلب رضا الله سبحانه وتعالى أي لم يكن لأي غرض مادي دنيوي وإنما لرضا الله ولإعلاء كلمة الله وهؤلاء هم الصادقون في دعوى الإيمان وقوله تعالى في الآية (16) {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} أي قل يا رسولنا لأولئك الأعراب الذين قالوا آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم أتعلمون الله بدينكم أي بإيمانكم وطاعتكم وتشعرونه بهما والحال أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض، والله بكل شيء عليم إنه لا معنى لتعليمكم الله بدينكم وهو يعلم ما في السماوات وما في الأرض وهو بكل شيء عليم إنه مظهر من مظاهر جهلكم بالله تعالى، إذ لو علمتم أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض من دقيق
__________
1 (لا يلتكم) أي لا ينقصكم يقال: لاته يلته، ويلوته إذا نقصه وقرأ أبو عمرو (لا يألتاكم) مهموزا من ألت يألت ألتاً نحو قوله تعالى: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} وشاهد الأول:
وليلة ذات ندى سريت
ولم يلتني عن سراها ليت
2 لما نزلت هذه الآية: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} حلف الأعراب أنهم مؤمنون في السر والعلانية فأكذبهم الله تعالى في دعواهم الكاذبة فأنزل عز وجل {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} أي: الذي أنتم عليه؟

وجليل لما فهمتم بما فهمتم به من إشعاركم الله بإيمانكم وطاعتكم له. قوله تعالى في الآية (17) 1{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} 2 أي من أولئك الأعراب عليك يا رسولنا إيمانهم إذ قالوا آمنا بك ولم نقاتلك كما فعل غيرنا قل لهم لا تمنوا علي إسلامكم واضرب عن هذا وقل لهم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان، فالمنة لله عليكم لا أن تمنوا أنتم على رسوله. وقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ3 السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي كل ما غاب في السماوات وما غاب في الأرض من سانح في السماء وسابح في الماء وسارح في الغبراء فليس في حاجة أن تعلموه بدينكم وتمنونه على رسوله صلى الله عليه وسلم بما تعملون من عمل قل أو كثر خفي أو ظهر فاعلموا هذا وتأدبوا مع الله وأحسنوا الظن فيه تنجوا من هلاك لازم لمنا أساء الظن بالله وأساء الأدب مع رسول الله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان طبيعة أهل البادية وهي الغلظة والجفاء والبعد عن الكياسة والأدب.
2- بيان الفرق بين الإيمان والإسلام إذا اجتمعا فالإيمان من أعمال القلوب والإسلام من أعمال الجوارح. وإذا افترقا فالإيمان هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان والحقيقة هي أنه لا يوجد إيمان صحيح بدون إسلام صحيح، ولا إسلام صحيح بدون إيمان صحيح، ولكن يوجد إسلام صوري بدون إيمان، وتوجد دعوى إيمان كاذبة غير صادقة.
3- بيان المؤمنين حقا وهم الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم.
4- بيان حكم المن وأنه مذموم من الإنسان ومحمود من الرحمن عز وجل وحقيقة المن هي عد النعمة وذكرها للمنعم عليه وتعدادها المرة بعد المرة.
5- بيان إحاطة علم الله بسائر المخلوقات، وأنه لا يخفى عليه من أعمال العباد شيء.
__________
1 (يمنون) إشارة إلى قولهم جئناك بالأثقال والعيال كما تقدم في التفسير.
2 (أن أسلموا) حرف الجر محذوف الأصل، بأن أسلموا أي: إسلامهم.
3 ذبل الكلام بهذه الجملة (إن الله يعلم) الخ ليعلموا أن الله لا يكتم وأنه لا يكذب عليه لعلمه بالغيوب كلها، وفي هذا تقويم لأخلاقهم وتربية وتأديب لهم.

سورة ق
...
سورة ق1
مكية
وآياتها خمس وأربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ(2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
شرح الكلمات:
ق : هذا أحد الحروف المقطعة التي تكتب هكذا ق وتقرأ هكذا قاف.
والقرآن المجيد :أي والقرآن المجيد أي الكريم قسمي لقد أرسلنا محمدا مبلغا عنا.
بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم :أي بل عجب أهل مكة من مجيء منذر أي رسول منهم ينذرهم عذاب الله يوم القيامة.
فقال الكافرون هذا شيء عجيب :أي فقال المكذبون بالبعث هذا أي البعث بعد الموت والبلى شيء عجيب.
أئذا متنا وكنا ترابا :أئذا متنا وصرنا ترابا أي رفاة وعظاما نخرة نرجع أحياء.
ذلك رجع بعيد :أي بعيد بالإمكان في غاية البعد.
قد علمنا ما تنقص الأرض منهم :أي قد أحاط علمنا بكل شيء فعلمنا ما تنقص الأرض من
__________
1 صح في الموطأ وفي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بهذه السورة في صلاة الصبح وفي عيدي الأضحى والفطر أيضاً مع سورة القمر.

أجساد الموتى وما تأكل من لحومهم وعظامهم فكيف يستبعد منا إحياؤهم بعد موتهم.
وعندنا كتاب حفيظ :أي كتاب المقادير الذي قد كتب فيه كل شيء ومن بين ذلك أعداد الموتى وأسماؤهم وصورهم وأجسامهم ويوم إعادتهم.
بل كذبوا بالحق لما جاءهم :بل كذب المشركون بما هو أقبح من تكذيبهم بالبعث وهو تكذيبهم بالنبوة المحمدية وبالقرآن ومن نزل عليه.
فهم في أمر مريج :أي مختلط عليهم فهم فيه مضطربون لا يثبتون على شيء إذ قالوا مرة سحر ومرة قالوا شعر ومرة كهانة وأخرى أساطير.
معنى الآيات:
قوله تعالى {ق} الله أعلم بمراده به إذ هو من الحروف المقطعة الأحادية نحو ص. ون وقوله تعالى {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ1} أي الكريم فالقرآن مجيد كريم بما فيه من الخير والبركة إذ قراءة الحرف الواحد منه بعشر حسنات. وقوله والقرآن المجيد قسم والجواب محذوف تقديره إن محمداً لرسول أمين. وقوله تعالى {بَلْ عَجِبُوا2 أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} أي إنهم لم يستنكروا أصل الإرسال إليهم وإنما أنكروا كون المرسل بشراً مثلهم ينذرهم عذاب يوم القيامة وهم لا يؤمنون بالبعث الآخر فلذا قالوا ما أخبر تعالى به عنهم وقوله {فَقَالَ الْكَافِرُونَ} أي بالبعث {هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} أي أمر يدعو إلى التعجب إذ من مات وصار ترابا لا يعقل أن يبعث مرة أخرى فيسأل ويحاسب ويجزي وقد أفصحوا عن معتقدهم بقولهم {أَإِذَا مِتْنَا3 وَكُنَّا تُرَاباً} ذلك الرجوع إلى الحياة رجوع بعيد التحقيق. قال تعالى {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ4 الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ5 حَفِيظٌ} هذه برهنة واضحة على إبطال دعواهم وتحقيق عقيدة البعث أي قد علمنا ما تنقص الأرض منهم بعد الموت من لحم وعظم، وعندنا كتاب حفيظ قد حوى كل شيء وحفظه مادة وكمية وكيفية بمقتضاه يعود
__________
1 المجيد: المتصف بقوة المجد، والمجد والمجادة: الشرف الكامل، وكرم النوع ولذا فالقرآن يفوق في مجده كل كلام على الإطلاق حتى الكلام الموحى به إلى رسل الله عليهم السلام.
2 (بل) للإضراب الانتقالي، وهو انتقال من تقرير النبوة المحمدية التي أثبتها بالقسم إلى تقرير عقيدة البعث والجزاء إذ أورد قول الكافرين المنكرين لها ثم أثبتها بالأدلة القاطعة من عدة آيات كأنما قال: دع ذا واسمع ما أقول. و(أن جاءهم) مجرور بمن محذوفة أي من أن جاء وبعد السبك من مجيئهم.
3 الاستفهام للإبطال والتعجيب والمتعجب منه محذوف تقديره أنرجع إلى الحياة بعد انعدامنا بالموت وصيرورتنا ترابا؟
4 قوله (ما تنقص الأرض) إشارة إلى أن هناك أجساداً لا تبيد كلها بل يبقى أبعاضها، وإلى أن عجب الذنب لا يفنى ولا يبيد بل يبقى كما هو ليعاد الخلق به يوم القيامة.
5 التنكير في (كتاب) للتعظيم ويدل عليه قوله (حفيظ).

الخلق كما بدأ لا ينقص منه شيء وقوله، {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} أي إن هناك ما هو أشنع من إنكارهم وأقبح عقلا وهو تكذيبهم بالقرآن ومن أنزل عليه وهو الحق من الله فلذا هم فيه في أمر مريج أي مختلط فمرة قالوا في الرسول إنه ساحر وقالوا شاعر وقالوا مفتر كذاب وقالوا في القرآن أساطير الأولين فهم حقا في أمر مريج مختلط عليهم لا يدرون ما يقولون ويثبتون عليه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان شرف القرآن ومجده وكرمه.
2- تقرير البعث والوحي الإلهي.
3- البرهنة الصحيحة الواضحة على صحة البعث والجزاء وإمكانهما.
4- تقرير عقيدة القضاء والقدر بتقرير كتاب المقادير.
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
شرح الكلمات:
أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم :أي أعملوا فلم ينظروا بعيونهم معتبرين بعقولهم إلى السماء كائنة فوقهم فيعلموا أن استبعادهم للبعث غير صحيح.
كيف بنيناها وزيناها :أي كيف بنيناها بلا عمد. وزيناها بالكواكب.
وما لها من فروج :أي وليس لها من شقوق تعيبها.
والأرض مددناها1 :أي بسطناها
__________
1 (الأرض) منصوب على الاشتغال أي: مددنا الأرض مددناها.

وألقينا فيها رواسي :أي جبالا رواسي ثوابت لا تسير ولا تتحرك مثبتة للأرض كي لا تميد بأهلها.
وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج1 :أي وأنبتنا في الأرض من كل صنف من أنواع النباتات حسن.
تبصرة وذكرى لكل عبد منيب :أي جعلنا ذلك تبصرة وذكرى منا لكل عبد منيب إلى طاعتنا رجاع إلينا.
ونزلنا من السماء ماء مباركا :أي ماء المطر كثير البركة.
فأنبتنا به جنات وحب الحصيد :أي أنبتنا بماء السماء بساتين وحب الحصيد أي المحصود من البر والشعير.
والنخل باسقات2 :أي وأنبتنا بالماء النخيل الطوال العاليات.
لها طلع نضيد :أي لها طلع منضد متراكب بعضه فوق بعض.
رزقا للعباد :أي أنبتنا ما أنبتنا من الجنات والحب الحصيد والنخل الباسقات قوتا للعباد ورزقا لهم مؤمنهم وكافرهم.
وأحيينا به بلدة ميتة :وأحيينا بذلك الماء الذي أنزلناه بلدة ميتة لا نبات فيها من الجدب الذي أصابها والقحط.
كذلك الخروج :أي كما أخرجنا النبات من الأرض الميتة بالماء نخرجكم أحياء من قبوركم يوم القيامة بماء ننزله من السماء على الأرض فتنبتون كما ينبت البقل.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث وهي العقيدة التي بني عليها كل إصلاح يراد للإنسان بعد عقيدة الإيمان بالله تعالى ربا وإلهاً قال تعالى {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا3 إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ4 بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} أي أعمي أولئك المنكرون للبعث المكذبون بلقاء ربهم يوم القيامة فلم ينظروا بعيونهم معتبرين بعقولهم إلى حجم السماء الواسع العالي الرفيع الكائن فوقهم وقد رفع بلا عمد ولا سند. وقد زينه خالقه بكواكب نيرة وأقمار منيرة وشموس مضيئة ولم ير في السماء
__________
1 (من) ليست للتبعيض بل هي للتأكيد إلا أن زيادتها مع الإثبات نادرة كما هنا.
2 لا يقال للطويل: باسق إلا إذا كان طوله في علو وارتفاع أما ما يكون طوله في امتداد وانبساط فلا يقال له باسق.
3 الاستفهام للإنكار عليهم عدم النظر لتقرر به عقيدة البعث والجزاء، والفاء تفريعية على إنكارهم السابق للبعث الآخر.
4 (فوقهم) ظرف في محل الحال، وأطلق البناء على خلق العلويات بجامع الارتفاع والاستمساك وعدم السقوط والانهيار.

من تصدع ولا شقوق1 ولا تفطر الحياة كلها أليس على خلق السماء قادر على إحياء موتى خلقهم وأماتهم بقدرته أليس القادر على الخلق ابتداء وعلى الإماتة ثانية بقادر على إحياء من خلق وأمات؟2 وقوله {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} أي مالهم لا ينظرون إلى الأرض أي بسطها وألقى فيها الجبال لتثبيتها حتى لا تميد بهم, وقوله {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ} أي صنف من النباتات والزروع بهيج المنظر حسنه, وقوله {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} وقوله {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيد وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبَادِ3} أي أليس الذي أنزل من السماء ماء مباركاً لما يكثر به من الخيرات والبركات من النبات والحيوان فأنبت به جنات أي بساتين من أشجار ونخيل وأعناب, وأنبت به حب الحصيد وهو كل حب يحصد عند طيبه من قمح وشعير وذرة وغيرها وأنبت به النخل الباسقات العاليات المرتفعات في السماء لها طلعها النضيد المتراكب بعضه فوق بعض ليتحول إلى رطب شهي يأكله الإنسان وقوله رزقا للعباد أي قوتا لهم يقتاتون به مؤمنين وكافرين إلا أن المؤمن إذا أكل شكر والكافر إذا أكل كفر, وقوله {وَأَحْيَيْنَا بِهِ} أي بالماء الذي أنزلناه من السماء مباركاً بلدة ميتا لا نبات بها ولا عشب ولا كلأ فأصبحت تهتز رابية كذلك الخروج أي هكذا يكون خروجكم من قبوركم أيها المنكرون للبعث ينزل الله من السماء ماء فتنبتون وتخرجون من قبوركم كما يخرج الشجر والزرع من الأرض بواسطة الماء المبارك فبأي عقل تنكرون البعث أيها المنكرون. إنها كما قال تعالى {لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث بمظاهر القدرة الإلهية في الكون.
2- مشروعية النظر والاعتبار فيما يحيط بالإنسان من مظاهر الكون والحياة للعبرة طلبا لزيادة الإيمان والوصول به إلى مستوى اليقين.
3- فضل العبد المنيب وفضيلة الإنابة إلى الله تعالى والمنيب هو الذي يرجع إلى ربه في كل ما يهمه والإنابة التوبة إلى الله والرجوع إلى طاعته بعد معصيته.
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ
__________
1 من آيات القدرة والعلم الإلهيين: كون السماء على شكل قبة مرفوعة في قالب لا تشقق فبها ولا تصدع مزينة بأنواع النجوم والكواكب.
2 بلى إنه لقادر بلا مرية ولا شك.
3 (رزقا) منصوب على أنه مفعول لأجله.

لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
شرح الكلمات:
كذبت قبلهم قوم نوح :أي قبل قومك يا رسولنا بالبعث والتوحيد والنبوة قوم نوح.
وأصحاب الرس وثمود : أي وكذب أصحاب الرس وهي بئر كانوا مقيمين حولها يعبدون الأصنام وثمود وهم أصحاب الحجر قوم صالح.
وعاد وفرعون :وكذبت عاد قوم هود، وكذب فرعون موسى عليه السلام.
وإخوان لوط وأصحاب الأيكة :أي وكذب قوم لوط أخاهم لوطا، وكذب أصحاب الأيكة شعيبا.
وقوم تبع :أي وكذب قوم تبع الحميري اليمني.
كل قد كذب الرسل :أي كل من ذكر قد كذب الرسل فلست وحدك المكذب يا محمد صلى الله عليه وسلم.
فحق وعيد :أي فوجب وعيدي لهم بنزول العذاب عليهم فنزل فهلكوا.
أفعيينا بالخلق الأول1 :أي أفعيينا بخلق الناس أولا والجواب لا إذاً فكيف نعي بخلقهم ثانية وإعادتهم كما كانوا؟.
بل هم في لبس من خلق جديد :أي هم غير منكرين لقدرة الله عن الخلق الأول بل هم في خلط وشك من خلق جديد لما فيه من مخالفة العادة وهي أن كل من مات منهم يرونه يفنى ولا يعود حياً.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث والجزاء وإثبات النبوة للرسول صلى الله عليه وسلم فقال تعالى {كَذَّبَتْ2 قَبْلَهُمْ} أي قبل قريش المكذبين بالبعث والجزاء وبالنبوة المحمدية كذبت قبلهم قوم نوح وهي أول أمة كذبت وعاش نوح نبيها ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوها إلى الله فلم يؤمن منهم أكثر من نيف وثمانين نسمة، وأصحاب الرس أيضا قد أخذوا نبيهم ورسوه في بئر فقتلوه فأهلكهم الله
__________
1 أي: (أفعيينا) به فنعني بالبعث وهو توبيخ لمنكري البعث وجواب على قولهم ذلك رجع بعيد يقال: عييت بالأمر: إذا لم تعرف وجهه هذا في المعاني أما في الذوات فعيي بمعنى عجز ولم يقدر عليه.
2 هذا استئناف ابتدائي الغرض منه تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بإعلامه أن أمما كثيرة قد كذبت رسلها قبل تكذيب قومه له صلى الله عليه وسلم.

تعالى في بئر كانوا يقيمون على أصنام حولها يعبدونها فأهلكهم في تلك البئر وأهلك ثموداً وهم قوم صالح، وعاداً وهم قود هود وفرعون موسى وقوم لوط1، وأصحاب الأيكة أي الشجر الملتف إذ كانوا يعبدون أشجار تلك الأيكة، وقوم تبع وهو تبع الحميري اليمني. وقوله تعالى {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} أي كل تلك الأمم التي ذكرنا كذبوا الرسل ولم يؤمنوا بهم ولا بما جاءوهم به من التوحيد والشرع {فَحَقَّ وَعِيدِ}2 أي فوجب لذلك عذابهم الذي وعدتهم به على ألسنة رسلي إن لم يؤمنوا فأهلكناهم أجمعين وقومك يا محمد هم موعودون أيضاً بالعذاب إن لم يبادروا بالإيمان والطاعة. قوله تعالى {أَفَعَيِينَا3 بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ } والجواب لا إذ الاستفهام للنفي أي لم يعي الله تعالى بخلق كل ما خلق من الملائكة والإنس والجن فكيف إذاً يعيى بالإعادة وهي أهون من البدء والبداية، وقوله تعالى {بَلْ هُمْ4 فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي أنهم غير منكرين لقدرتنا على الخلق الأول بل هم في لبس أي خلط وشك من خلق جديد لما فيه من مخالفة العادة حيث هم يرون الناس يموتون ولا يحيون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تعزية الرسول صلى الله عليه وسلم وتسليته بإعلامه بأن قومه ليسوا أول من كذب الرسل.
2- تهديد المصرين على التكذيب من كفار قريش بالعذاب إذ ليسوا بأفضل من غيرهم وقد أهلكوا لما كذبوا.
3- تقرير البعث والجزاء وإثبات عقيدتهما بالأدلة العقلية كبدء الخلق.
4- ضعف إدراك المنكرين للبعث لظلمة نفوسهم بالشرك والمعاصي.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ
__________
1 قوله تعالى: {وَإِخْوَانُ لُوطٍ} عبر بالإخوان دون القوم تنويع للأسلوب والمراد بهم قوم لوط، والأخوة هنا أخوة تلازم ومواطنه وما هي بأخوة دين ولا نسب وأصحاب الأيكة: هم قوم شعيب عليه السلام.
2 أي: صدق وعده فيهم ووجب وقوعه عليهم.
3 الاستفهام للإنكار والتغليظ إذ لا يسعهم إلا الاعتراف بأن الله تعالى الذي خلق كل شيء في الأرض والسماء ومن جملة ذلك خلقهم هم المنكرون للبعث فكيف يعجز عن إعادة خلقهم مرة أخرى للجزاء والحساب.
4 (بل) للإضراب الإبطالي أي: ما عيينا بالخلق الأول.

(17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) َقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
شرح الكلمات:
ولقد خلقنا الإنسان :أي خلقناه بقدرتنا وعلمنا لحكمة1 اقتضت خلقه فلم نخلقه عبثا.
ونعلم ما توسوس به نفسه :أي ونعلم ما تحدث به نفسه أي نعلم ما في نفسه من خواطر وإرادات.
ونحن أقرب إليه من حبل الوريد :أي نحن بقدرتنا على الأخذ منه والعطاء والعلم بما يسر ويظهر أقرب إليه من حبل الوريد الذي هو في حلقه.
إذ يتلقى المتلقيان :أي نحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عمله فيكتبانه.
عن اليمين وعن الشمال قعيد2 :أي أحدهما عن يمينه قعيد والثاني عن شماله قعيد أيضا.
ما يلفظ من قول :أي ما يقول من قول.
إلا لديه رقيب عتيد :أي إلا عنده ملك رقيب حافظ عتيد حاضر معد للكتابة.
وجاءت سكرة الموت بالحق :أي غمرة الموت وشدته بالحق من أمر الآخرة حتى يراه المنكر لها عيانا.
ذلك ما كنت منه تحيد :أي ذلك الموت الذي كنت تهرب منه وتفزع.
ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد :أي ونفخ إسرافيل في الصور الذي هو القرن ذلك يوم الوعيد للكفار بالعذاب.
معها سائق وشهيد :أي معها سائق يسوقها إلى المحشر وشهيد يشهد عليها.
__________
1 هذه الحكمة هي ذكره تعالى وشكره بأنواع العبادات بقوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وسائر المخلوقات هي لأجل الناس فعاد الأمر إلى أن المخلوقات كلها مخلوقة لعلة العبادة.
2 القعيد معنى القاعد كالجليس بمعنى الجالس.

لقد كنت في غفلة من هذا :أي من هذا العذاب النازل بك الآن.
فكشفنا عنك غطاءك :أي أزلنا عنك غفلتك بما تشاهده اليوم.
فبصرك اليوم حديد :أي حاد تدرك به ما كنت تنكره في الدنيا من البعث والجزاء.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ} حسب سنتنا في الخلق خلقناه بقدرتنا وعلمنا لحكمة1 اقتضت خلقه منا ولم نخلقه عبثا ونحن نعلم ما توسوس به نفسه أي ما تتحدث به نفسه من إرادات أو خواطر، ونحن أي رب العزة والجلال أقرب إليه من حبل الوريد2 فلو أردنا أن نأخذ منه أو نعطيه أو نسمع منه أو نعلم به لكنا على ذلك قادرين وقربنا في ذلك منه أقرب من حبل عنقه إلى نفسه وذلك في الوقت الذي يتلقى فيه الملكان المتلقيان سائر أقواله وأعماله يثبتانها ويحفظانها وقوله عن اليمين وعن الشمال قعيد أي أحد الملكين وهو المتلقيان عن يمينه قاعد والثاني عن شماله قاعد هذا يكتب الحسنات وذاك يكتب السيئات.
ولفظ قعيد معناه قاعد كجليس بمعنى مجالس أو جالس، وقوله تعالى {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} أي ما يقول الإنسان إلا لديه رقيب عتيد أي إلا عنده ملك رقيب حافظ، وعتيد حاضر لا يفارقانه مدى الحياة إلا أنهما يتناوبان ملكان بالنهار وملكان بالليل ويجتمعون في صلاتي الصبح والعصر وقوله تعالى {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ3 بِالْحَقِّ} أي وإن طال العمر فلابد من الموت وهاهي ذي قد جاءت سكرة الموت أي غمرته وشدته بالحق من أمر الآخرة حتى يراه المنكر للبعث والدار الآخرة المكذب به يراه عياناً. {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} أي قال له هذا الموت الذي كنت منه تحيد أي تهرب وتفزع. قوله تعالى {وَنُفِخَ فِي الصُّور} أي نفخ إسرافيل في الصور أي القرن الذي قد التقمه وجعله في فيه من يوم بعث النبي الخاتم نبي آخر الزمان محمد صلى الله عليه وسلم وهو ينتظر متى يؤمر فينفخ نفخة الفناء ذلك أي يوم ينفخ في الصور هو يوم الوعيد4 بالعذاب للكافرين، وفعلا نفخ في الصور نفخة البعث بعد نفخة الفناء {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} أي ملك يسوقها إلى
__________
1 تقدم بيان الحكمة للخلق تحت رقم واحد من هذا السياق في شرح الكلمات.
2 الوريد: واحد الشرايين، وهو ثاني شريانين يخرجان من التجويف الأيسر من القلب وهما عرقان يكتنفان صفحتي العنق في مقدميهما متصلان بالوتين يردان من الرأس إليه، والحبل: العرق والجمع عروق ويختلف اسمه باختلاف موضعه من الجسم.
3 السكرة: اسم لما يعتري الإنسان من ألم واختلال في المزاج يحد من إدراك العقل فيختل الإدراك ويعتري العقل غيبوبة وهو مشتق من السكر وهو الغلق لأنه يغلق العقل، ومنه جاء وصف السكران.
4 يوم وعيد للكافرين ويم وعد صادق للمؤمنين, ولما كان السياق في دعوة الكافرين إلى الإيمان ذكر الوعيد دون الوعد.

المحشر وملك شاهد يشهد عليها. ويقال لذلك الذي جاء به سائق يسوقه وشاهد يشهد عليه لقد كنت في غفلة من هذا أي كنت في الدنيا في غفلة عن الآخرة وما فيها وغفلتك من شهواتك ولذاتك وغرورك بالحياة الدنيا من هذا العذاب النازل بك الآن فكشفنا عنك غفلتك بما تشاهده اليوم عيانا بيانا من ألوان العذاب فبصرك اليوم حديد أي حاد تدرك به وتبصر ما كنت تكفر به في الدنيا وتنكره.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان قدرة الله وعلمه وأنه أقرب إلى الإنسان من حبل وريده ألا فليتق الله امرؤ.
2- تقرير عقيدة أن لكل إنسان مكلف ملكين يكتبان حسناته وسيئاته.
3- بيان أن للموت سكرات قطعا اللهم هون علينا سكرات الموت.
4- ساعة الاحتضار يؤمن كل إنسان بالدار الآخرة إذ يرى ما كان ينكره يراه بعينه.
5- تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرض بعض أحوال وأهوال الآخرة.
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) 1يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
شرح الكلمات:
وقال قرينه :أي الملك الموكل به.
هذا ما لدي عتيد :أي هذا عمله حاضر لدي.
__________
1 قرأ نافع: (يوم يقول) بالياء, وقرأ حفص(نقول) بالنون.

كل كفار عنيد :أي كثير الكفر والجحود لتوحيد الله وللقائه ولرسوله معاند كثير العناد.
مناع للخير معتد مريب :أي مناع للحقوق والواجبات من مال وغيره.
الذي جعل مع الله إلهاً آخر :أي أشرك بالله فجعل معه آلهة أخرى يعبدها.
ربنا ما أطغيته :أي يقول قرينه من الشياطين يا ربنا ما أطغيته أي ما حملته على الطغيان.
ولكن كان في ضلال بعيد :أي ولكن الرجل كان في ضلال بعيد عن كل هدى متوغلا في الشرك والشر.
وقد قدمت إليكم بالوعيد :أي قدمت إليكم وعيدي بالعذاب في كتبي وعلى لسان رسلي.
ما يبدل القول لدي :أي ما يغير القول عندي وهو قوله لأملأن جهنم منكم أجمعين.
يوم نقول لجهنم هل امتلأت :أي وما الله بظلام للعبيد يوم يقول لجهنم هل امتلأت.
وتقول هل من مزيد :أي لم أمتليء هل من زيادة فيضع الجبار عليها قدمه فتقول قط قط.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر مشاهد القيامة وأحوال الناس فيها فقال تعالى {وَقَالَ قَرِينُهُ1} أي قال قرين2 ذلك الكافر الذي جيئ به إلى ساحة فصل القضاء ومعه سائق يسوقه وشهيد يشهد عليه. قال قرينه وهو الملك الموكل به هذا ما لدي أي من أعمال هذا الرجل الذي وكلت بحفظ أعماله وكتابتها عتيد أي حاضر. وهنا يقال لمن استحق النار {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} وهو الخطاب لمن3 جاءا به وهما السائق والشهيد {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ} فهذه خمس صفات قد اجتمعت في شخص واحد فأوبقته الأولى {كَفَّارٍ} أي كثير الكفر الذي هو الجحود لما يجب الإيمان به والتصديق من سائر أركان الإيمان الستة، والثانية عنيد والعنيد التارك لكل ما يوجب عليه المعاند في الحق المعاكس في المعروف وهي شر صفة، الثالثة مناع للخير أي كثير المنع للخير مالاً كان أو غيره لا يبذل معروفاً قط؛ الرابعة معتدٍ أي على حدود
__________
1 الواو واو الحال، والجملة حالية، وصاحب الحال تاء الخطاب في قوله تعالى {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} والقرين، بمعنى مقرون وهو مأخوذ من القرن بفتح القاف والراء وهو الحبل إذ كانوا يقرنون البعير بمثله بحبل سموه القرن.
2 اختلف في تحديد القرين على ثلاثة أقوال وما ذكر في التفسير هو أرجحها.
3 وجائز أن يكون خطاباً لواحد بصيغة التثنية على حد قول الشاعر: قفا بنك من ذكرى حبيب ومنزل.

الشرع معتد على الناس ظالم لهم بأكل حقوقهم وأذيتهم في أعراضهم وأموالهم وأبدانهم الخامسة مريب أي شاك لا يعرف التصديق بشيء من أمور الدين فهو جامع لكل أنواع الكفر وقوله {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً} وهذا وصف سادس وهو أسوأ تلك الصفات وهو اتخاذه إلهاً آخر يعبده دون الله تعالى وقوله تعالى {فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} هذا أمر آخر أكد به الأمر الأول وهو ألقيا في جهنم كل كفار عنيد. وقوله تعالى {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} قال هذا القول القرين لما قال المشرك معتذراً رب إن قريني من الشياطين أطغاني فرد عليه القرين بما أخبر تعالى به عنه في قوله قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد فقال الرب تعالى {لا تَخْتَصِمُوا1 لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} فرد الله حجة كل من الكافر والقرين من الشياطين وأعلمهما أنه قد قدم إليهما بالوعيد في كتبه وعلى ألسن رسله من كفر بالله وأشرك به وعصى رسله فإن له نار جهنم خالداً فيها أبداً.
وقوله تعالى {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} أخبر2 تعالى أن حكمه نافذ فيمن كفر به وعصى رسله إذ سبق قوله لإبليس عندما أخرج آدم من الجنة بوسواسه وهو لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين. فهذا القول الإلهي لا يبدل ولا يقدر أحد على تبديله وتغيريه وقوله {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} نفى تعالى الظلم عن نفسه والظلم هو أن يعذب مطيعا، أو يدخل الجنة كافراً عاصياً. وقوله تعالى {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} أي اذكر يا نبينا لقومك المنهمكين في الشرك والمعاصي ما ينتظر أمثالهم من عذاب جهنم اذكر لهم يوم نقول لجهنم هل امتلأت فتقول هل من مزيد بعدما يدخل فيها كل كافر وكافرة من الإنس والجن وتقول طالبة الزيادة هل من مزيد؟ ولما لم يبق أحد يستحق عذاب النار يضع الجبار فيها قدمه فينزوي بعضها في بعض وتقول قط قط والحديث معناه في الصحيحين وغيرهما.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- التحذير من الصفات الست التي جاءت في الآية وهي الكفر والعناد ومنع الخير والاعتداء
__________
1 النهي عن المخاصمة دال على أن النفوس الكافرة ادعت أن قرناءها أطغوها، وأن القرناء تنصلوا من ذلك، وأن النفوس أعادت القول فكانت بذلك خصومة فأسكتهم الحق عز وجل بقوله: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ}.
2 المبالغة في وصف (ظلام) راجعة إلى تأكيد النفي المطلق إذ المراد لا أظلم شيئا من الظلم، وليس المعنى ما أنا بكثير الظلم أو شديده إذ الأمر في أمثلة المبالغة أن يقصد بها المبالغة في النفي. قال طرفة:
ولست بحلال التلاع مخافة
ولكن متى يسترفد القوم أرفد
إذ لم يرد نفي كثرة حلوله التلاع وإنما أراد كثرة النفي إذ هو لم يحل في تلعة بالمرة جبناً وخوفاً.

والشك والشرك.
3- بيان خصومة أهل النار من إنسان وشيطان.
4- نفي الظلم عن الله تعالى وهو كذلك فلا يظلم الله أحدا من خلقه.
5- إثبات1 صفة القدم للرب تعالى كما يليق هذا الوصف بذاته التي لا تشبه الذوات سبحانه وتعالى عن صفات المحدثين من خلقه.
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
شرح الكلمات:
وأزلفت الجنة للمتقين :أي قربت الجنة للمتقين الذي اتقوا الشرك والمعاصي.
غير بعيد2 : أي مكانا غير بعيد منهم بحيث يرونها.
لكل أواب حفيظ :أي رجاع إلى طاعة الله كلما ترك طاعة عاد إليها حافظ لحدود الله.
من خشي الرحمن بالغيب :أي خاف الله تعالى فلم يعصه وإن عصاه تاب إليه وهو لم يره.
وجاء بقلب منيب :أي مقبل على طاعته تعالى.
ادخلوها بسلام :أي ويقال لهم وهم المتقون ادخلوها أي الجنة بسلام أي مع سلام وحال كونكم سالمين من كل مخوف.
ولدينا مزيد :أي مزيد من الإنعام والتكريم في الجنة وهو النظر إلى وجه الله الكريم.
__________
1 أخرج مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول قط قط بعزتك وكرمك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشء الله لها خلقاً فيسكنهم فضل الجنة " نزع هنا بعض أهل العلم كالقرطبي إلى تأويل القدم ففسرها بما يقدم للنار من أقوام وأولوا كذلك لفظ الرجل في حديث "حتى يضع الله عليها رجله" وقال الرجل بمعنى العدد الكثير من الناس كالرجل من الجراد، ولا داعي لهذا التأويل الذي لم يؤوله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث به أصحابه فالأسلم للمؤمن أن يؤمن بصفات الله ويمرها كما جاءت فالقدم، والرجل كاليد والعين صفات ذات لله يؤمن العبد بها وهو يعتقد أنها لا تشبه صفات العباد وهي كذلك والحمد لله.
2 (غير بعيد) نعت لمحذوف تقديره مكانا غير بعيد من المتقين والإزلاف للتقريب.

معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير البعث والجزاء بذكر بعض مظاهره قال تعالى بعدما ذكر ما لأهل النار من عذاب {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ} أي1 أدنيت وقربت {للمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} وهم الذين اتقوا الله تعالى بترك الشرك والمعاصي فلا تركوا فريضة ولا غشوا كبيرة.2 وقوله تعالى هذا ما توعدون أي يقال لهم هذا ما توعدون أي من النعيم المقيم، لكل أواب حفيظ أي رجاع إلى طاعة الله تعالى حفيظ أي حافظ لحدود الله. حفيظ أيضا بذنوبه لا ينساها كلما ذكرها استغفر الله تعالى منها. وقوله من خشي الرحمن بالغيب هذا بيان للأواب الحفيظ وهو من خاف الرحمن تعالى بالغيب أي وهو غائب عنه لا يراه ولم يعصه بترك واجب ولا بفعل حرام، وقوله وجاء بقلب منيب3 أي إلى ربه أي مقبل على طاعته بذكر الله فلا ينساه ويطيعه فلا يعصيه، وقوله تعالى ادخلوها أي يقال لهم أي للمتقين ادخلوها أي الجنة4 بسلام أي مسلما عليكم مسالمين من كل مخوف كالموت والمرض والألم والحزن وذلك يوم الخلود أي في الجنة وفي النار فأهل اللجنة خالدون فيها وأهل النار خالدون5 فيها وقوله لهم ما يشاءون فيها أي لأهل الجنة ما يشاءون أي ما تشتهيه أنفسهم وتلذه أعينهم وقوله ولدينا مزيد أي وعندنا لكم مزيد من النعيم وهو النظر إلى وجهه الكريم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضل التقوى وكرامة المتقين على رب العالمين.
2- فضل الأواب الحفيظ وهو الذي كلما ذكر ذنبه استغفر ربه.
3- بيان أكبر نعيم في الجنة وهو رضا الله والنظر إلى وجهه الكريم.
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ
__________
1 عطف على (يوم نقول لجهنم هل امتلأت).
2 أ, تركوا وغشوا ولكن تابوا وصحت توبتهم فقبلت منهم فهم كمن لم يترك لم يترك فريضة ولم يغش كبيرة إذ التوبة تجب ما قبلها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
3 أي: حضر يوم القيامة مصاحباً قلبه المنيب إلى الله، وفي الحديث: "من مات على شيء بعث عليه" فهذا العبد عاش ومات على قلب منيب فبعثه به شاهد عليه بالإنابة إلى ربه.
4 هذا كقوله تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ}.
5 هذا المطلق من الأخبار مقيد قطعاً بمن مات على الشرك والكفر أما من مات على الإيمان والتوحيد فإنه لا يخلد في النار بل يخرج منها إلى الجنة ومن ينكر هذا كالخوارج فقد كذب الله ورسوله ومن كذب الله ورسوله عامداً فقد كفر.

لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (4 5)
شرح الكلمات:
وكم أهلكنا قبلهم من قرن: أي كثيرا من أهل القرون قبل كفار قريش وأهلكناهم.
هم أشد منهم بطشا: أي أهل القرون الذين أهلكناهم قبل كفار قريش هم أشد قوة وأعظم أخذا من كفار قريش ومع هذا أهلكناهم.
فنقبوا في البلاد هل من محيص : أي بحثوا وفتشوا في البلاد علهم يجدون مهرباً من الهلاك فلم يجدوا.
إن في ذلك لذكرى : أي إن في المذكور من إهلاك الأمم القوية موعظة.
لمن كان له قلب أو ألقى السمع: أي موعظة تحصل للذي له قلب حي وألقى سمعه يستمع.
وهو شهيد: وهو شهيد أي حاضر أثناء استماعه حاضر القلب والحواس.
وما مسنا من لغوب: أي من نصب ولا تعب.
فاصبر على ما يقولون: أي فاصبر يا رسولنا على ما يقوله اليهود وغيرهم من التشبيه لله والتكذيب بصفاته.

وسبح بحمد ربك قبل طلوع: أي صل حامداً لربك قبل طلوع الشمس وهي صلاة الفجر.
الشمس
وقبل الغروب: أي صل صلاة الظهر والعصر.
ومن الليل فسبحه : أي صل صلاتي المغرب والعشاء.
وأدبار السجود: أي بعد أداء الفرائض فسبح بألفاظ الذكر والتسبيح.
واستمع : أي أيها المخاطب إلى ما أقول لك.
يوم ينادي المناد من مكان قريب : أي يوم ينادي إسرافيل من مكان قريب من السماء وهو صخرة بيت المقدس فيقول أيتها العظام البالغة والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء.
يوم يسمعون الصيحة بالحق : أي نفخة إسرافيل الثانية وهي نفخة البعث يعلمون عاقبة تكذيبهم.
ذلك يوم الخروج: أي من القبور.
يوم تشقق الأرض عنهم سراعا: أي يخرجون من قبورهم مسرعين بعد تشقق القبور عنهم.
ذلك حشر علينا يسير : أي ذلك حشر للناس وجمع لهم في موقف الحساب يسير سهل علينا.
نحن أعلم بما يقولون: أي من الكفر والباطل فلا تيأس لذلك سننتقم منهم.
وما أنت عليهم بجبار: أي بحيث تجبرهم على الإيمان والتقوى.
فذكر بالقرآن: أي عظ مرغبا مرهبا بالقرآن فقرأه على المؤمنين فهم الذين يخافون وعيد الله تعالى ويطمعون في وعده.
معنى الآيات:
بعد ذلك العرض العظيم لأحوال القيامة وأهوالها على كفار قريش المكذبين بالتوحيد والنبوة والبعث ولم يؤمنوا فكانوا بذلك متعرضين للعذاب فأخبر تعالى رسوله أن هلاكهم يسير فكم1 أهلك تعالى {قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً} أي قوة وأخذاً ولما جاءهم العذاب فروا يبحثون
__________
1 قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ} هذا تعريض بالتهديد للمشركين وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. و(كم) خبرية.

عن مكان يحيصون إليه أي يلجأون فلم يجدوا وهو معنى قوله تعالى {فَنَقَّبُوا فِي1 الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ2} وقوله تعالى {إِنَّ ذَلِكَ} 3 أي الذي ذكرنا من قوله وكم أهلكنا قبلهم من قرن لذكرى أي موعظة يتعظ بها عبد كان له قلب حي وألقى سمعه يستمع وهو شهيد أي حاضر بكل مشاعره وأحاسيسه. وقوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أولها الأحد وآخرها الجمعة {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} أي نصب أو تعب، هذا الخبر رد الله تعالى به على اليهود الذين قالوا أتم الله خلق السماوات والأرض في يوم الجمعة واستراح يوم السبت فلذا هم يسبتون أي يستريحون يوم السبت فرد تعالى عليهم بقوله {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} أي تعب، إذ التعب يلحق العامل من الممارسة والمباشرة لما يقوم بعمله والله تعالى يخلق بكلمة التكوين فلذا لا معنى لأن يصيبه تعب أو نصب أو لغوب وقوله تعالى {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ} أي فاصبر يا رسولنا على ما يقوله يهود وغيرهم من الكفر والباطل واستعن على ذلك أي على الصبر وهو صعب بالصلاة والتسبيح قبل طلوع الشمس4 وقبل الغروب، ومن الليل فسبحه وأدبار النجوم فشمل هذا الإرشاد والتعليم الإلهي الصلوات الخمس5، إذ قبل طلوع الشمس فيه صلاة الصبح وقبل الغروب فيه صلاة الظهر والعصر ومن الليل فيه صلاة المغرب والعشاء، ولنعم العون على الصبر الصلاة، ولذا كان صلى الله عليه وسلم إذ حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وقوله أدبار السجود6 أي بعد الصلوات الخمس سبح ربك متلبسا بحمده. نحو سبحان الله والحمد لله والله أكبر. وقوله {وَاسْتَمِعْ7 يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} أي واستمع أيها الخاطب يوم ينادي إسرافيل من مكان
__________
1 (النقب) الثقب فالتنقيب مأخوذ منه، ومعنى الآية أي: ذللوا وأخضعوا وتصرفوا في الأرض بالحفر والغرس والبناء ونحت الجبال وإقامة السدود والحصون وما إلى ذلك من مظاهر القوة في الأرض ولم يغني ذلك عنهم من الله شيئا وجاءهم الموت من حيث لا مهرب منه ولا محيص.
2 المحيص: مصدر ميمي من: حاص: إذا عدل عن الطريق وهرب فالمحيص: المهرب، والاستفهام إنكاري وهو بمعنى النفي.
3 الإشارة إلى كل ما ذكر من الاستدلال والتهديد في الآيات السابقة والذكرى: التذكرة العقلية لمن توفر له ثلاثة شروط: القلب الحي وإلقاء السمع للإصغاء وحضور البال.
4 في الصحيح عن جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم "إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا" ثم قرأ جرير (وسبح بحمد ربك..)
5 وجائز أن يراد بها نوافل الصلاة فيكون الذي قبل طلوع الشمس ركعتا الفجر ولكن ما في التفسير أولى وأصح وأنها الصلوات الخمس إذ السورة مكية ونزلت بعد فرض الصلوات الخمس.
6 قرأ نافع: (وإدبار) بكسر الهمزة، وقرأ حفص (وأدبار) بفتحها.
7 التعبير بالاستماع فيه معنى التشويق لما يسمع، والمعنى، أقم الصلاة وهي زادك إلى الدار الآخرة وانتظر موعد الجزاء فإنه كائن يوم ينادي المنادي للقيام للجزاء على الصبر والصلاة كما هو على الشرك والعصيان، والآية تحمل التسلية وتدعو إلى الصبر والصلاة.

قريب وهو صخرة بيت المقدس وهو مكان قريب من السماء فيقول المنادي وهو إسرافيل أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء وقوله {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} وهي نفخة إسرافيل الثانية نفخة البعث {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} من القبور ويوم يرى المكذبون عاقبة تكذيبهم. وقوله {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ1 عَنْهُمْ سِرَاعا} أي يخرجون مسرعين ذلك المذكور من تشقق الأرض وخروجهم مسرعين حشر علينا لهم يسير أي سهل لا صعوبة فيه، وقوله {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وفيه تهديد لكفار قريش. وقوله {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} أي بذي قوة وقدرة فائقة تجبرهم بها على الإيمان والاستقامة وعليه فمهمتك ليست الإجبار وأنت عاجز عنه وإنما هي التذكير {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ} إذاً {مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} وهم المؤمنون الصادقون والمسلمون الصالحون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- مشروعية تخويف العصاة والمكذبين بالعذاب الإلهي وقربه وعدم بعده.
2- للانتفاع بالمواعظ شروط أن يكون السامع ذا قلب حي واعٍ وأن يلقي بسمعه كاملا وأن يكون حاضر الحواس شهيدها.
3- وجوب الصبر والاستعانة على تحقيقه بالصلاة.
4- مشروعية الذكر والدعاء بعد الصلاة فرادى لا جماعات.
5- تقرير البعث وتفصيل مبادئه.
6- المواعظ ينتفع بها أهل القلوب الحية.
__________
1 قرأ نافع (تشقق) بفتح التاء وتشديد الشين بتائين فأدغمت التاء الثانية في الشين بعد قلبها شيناً، و قرأ حفص بتخفيف الشين على حذف إحدى التائين.

سورة الذريات
...
سورة الذاريات
مكية
وآياتها ستون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً (1) فَالْحَامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5)
وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
شرح الكلمات:
والذاريات ذروا: أي الرياح تذروا التراب وغيره ذروا.
فالحاملات وقرا :أي السحب تحمل الماء.
فالجاريات يسرا :أي السفن تجري على سطح الماء بسهولة.
فالمقسمات أمرا :أي الملائكة تقسم بأمر ربها الأرزاق والأمطار وغيرها بين العباد.
إن ما توعدون لصادق :أي إن ما وعدكم به ربكم لصادق سواء كان خيراً أو شراً.
وإن الدين لواقع :أي وأن الجزاء بعد الحساب لواقع لا محالة.
والسماء ذات الحبك :أي ذات الطرق كالطرق التي تكون على الرمل والحبك جمع حبيكة.
إنكم لفي قول مختلف: أي يا أهل مكة لفي قول مختلف أي في شأن القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم فمنهم من يقول القرآن سحر وشعر وكهانة ومنهم من يقول النبي كاذب أو ساحر أو شاعر.

يؤفك عنه من أفك: أي يصرف عن النبي والقرآن من صرف.
قتل الخراصون :أي لعن الكذابون الذين يقولون بالخرص والكذب.
الذين هم في غمرة ساهون :أي في غمرة جهل تغمرهم ساهون أي غافلون عن أمر الآخرة.
يوم هم على النار يفتنون: أي يعذبون فيها.
معنى الآيات:
قوله تعالى {وَالذَّارِيَاتِ}1 هذا شروع في قسم ضخم أقسم الله تعالى به وهو الذاريات ذروا أي الرياح تذروا التراب وغيره من الأشياء الخفيفة {فَالْحَامِلاتِ2 وِقْراً} أي السحب تحمل الماء {فَالْجَارِيَاتِ3 يُسْراً} أي السفن تجري على سطح الماء {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} أي الملائكة تقسم الأرزاق والأمطار وغيرها بأمر ربها كل هذا قسم أقسم الله به وجوابه {إِنَّمَا تُوعَدُونَ} أيها الناس من البعث والجزاء بالنعيم المقيم أو بعذاب الجحيم لصادق وإن الدين أي الجزاء العادل لواقع أي كائن لا محالة. وقوله {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} 4 هذا قسم آخر أي ذات الطرق كالتي على الرمل جمع حبيكة بمعنى طريقة {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} هذا جواب القسم فمنكم من يقول محمد ساحر ومنكم من يقول كاذب أو كاهن. ومنكم من يقول في القرآن سحر وشعر كهانة وقوله تعالى {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} أي يصرف عن القرآن ومن نزل عليه من أفك أي صرف بقضاء الله وقدره. وقوله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} أي لعن الكذابون الذين يقولون بالخرص والكذب والظن الذين هم في غمرة جهل تغمرهم ساهون أي غافلون عن أمر الآخرة وما لهم فيه من عذاب لو شاهدوه ما ذاقوا طعاماً ولا شراباً لذيذاً.
__________
1 هنا ذكر القرطبي موعظة عجباً وهي أن رجلاً يقال له: صبيغ بلغ عمر عنه أن يسأل عن يسأل عن تفسير مشكل القرآن فقال: اللهم أمكني منه فدخل الرجل على عمر يوماً وهو لابس ثياباً وعمامة وعمر يقرأ القرآن فلما فرغ قام إليه الرجل وقال: يا أمير المؤمنين ما الذاريات ذروا؟ فقام عمر فحسر عن ذراعيه وجعل يجلده ثم قال: ألبسوه ثيابه واجعلوه على قتب وأبلغوا به أهله ثم ليقم خطيباً فليقل: إن صبيغاً طلب العلم فأخطأ فلم يزل وضيعاً في قومه بعد أن كان سيداً فيهم. وأخرى وهو أن ابن الكواء سأل علياً رضي اللع عنه فقال: يا أمير المؤمنين ما (الذاريات) قال: ويلك سل تفقهاً ولا تسأل تعنتاً.
2 (فالحاملات وقرا) السحب تحمل الماء كما تحمل ذوات الأربع الوقر: أي الحمل الثقيل.
3 جائز أن يراد ب(الجاريات) السفن، وأن يراد بها الرياح تجري بالسحب بعد تراكمها، واليسر: اللين والهون، أي الجاريات جرياناً لينا هيناً شأن السير بالشيء الثقيل كما قال الأعشى.
كأن مشيتها من بيت جارتها
مشي السحابة لا ريث ولا عجل
4 (الحبك) بفتح فسكون: إجادة النسج وإتقان الصنع، وجائز أن يكون المراد بالحبك حبك السماء أي: نجومها لأنها تشبه الطرائق الموشاة في الثوب. وعن الحسن أنها طرائق المجرة أو طرائق السحاب، والكل جائز.

وقوله تعالى يسألون أيان يوم الدين أي متى قيام الساعة ومجيئها وهم في هذا مستهزئون ساخرون وجوابهم في قوله تعالى {يوم هم على النار يفتنون} أي يعذبون ويقال لهم ذوقوا فتنكم أي عذابكم هذا الذي كنتم به تستعجلون أي تطالبون به رسولنا بتعجيله لكم استخفافا وتكذيبا منكم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء حيث أقسم تعالى على ذلك.
2- تقرير عقيدة القضاء والقدر في قوله يؤفك عنه من أفك.
3- لعن الله الخراصين الذين يقولون بالخرص والكذب ويسألون استهزاء وسخرية لا طلبا للعلم والمعرفة للعمل.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
شرح الكلمات:
إن المتقين في حنات وعيون :أي إن الذين1 اتقوا ربهم في بساتين وعيون تجري خلال تلك البساتين والقصور التي فيها كقوله تجري من تحتها الأنهار.
آخذين ما آتاهم ربهم: أي آخذين ما أعطاهم ربهم من الثواب.
__________
1 لما ذكر تعالى مآل الكافرين وهو أنهم على النار يفتنون أي: يعذبون كما قال الشاعر:
كل امرئ من عباد الله مضطهد
ببطن مكة مقهور ومفتون
ذكر مآل المؤمنين المتقين فقال: (إن المتقين) فذكر ما هم فيه من النعيم المقيم.

إنهم كانوا قبل ذلك محسنين: أي كانوا قبل دخولهم الجنة محسنين في الدنيا أي في عبادة ربهم وإلى عباده.
كانوا قليلا من الليل ما يهجعون :أي كانوا في الدنيا يحيون الليل ولا ينامون فيه إلا قليلا.
وبالأسحار هم يستغفرون: أي وفي وقت السحور وهو السدس الأخير من الليل يستغفرون يقولون ربنا اغفر لنا.
وفي أموالهم حق للسائل والمحروم :أي للذي يسأل والمحروم الذي لا يسأل لتعففه وهذا الحق أوجبوه على أنفسهم زيادة على الزكاة الواجبة.
وفي الأرض آيات للموقنين :أي من الجبال والأنهار والأشجار والبحار والإنسان والحيوان دلالات على قدرة الله مقتضية للبعث والموجبة للتوحيد للموقنين أما غير المؤمنين فلا يرون شيئا.
وفي أنفسكم أفلا تبصرون :أي آيات من الخلق والتركيب والأسماع والأبصار والتعقل والتحرك أفلا تبصرون ذلك فتستدلون به على وجود الله وعلمه وقدرته.
وفي السماء رزقكم وما توعدون: أي من الأمطار التي بها الزرع والنبات وسائر الأقوات وما توعدون من ثواب وعقاب إن كل ذلك عند الله في السماء مكتوب في اللوح المحفوظ.
فورب السماء والأرض إنه لحق :إنه لحق أي ما توعدون لحق ثابت.
مثل ما أنكم تنطقون :أي إن البعث لحق مثل نطقكم فهل يشك أحد في نطقه إذا نطق والجواب لا يشك فكذلك ما توعدون من ثواب وعقاب.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء التي كذب بها المشركون في مكة فقال تعالى {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي إن الذين اتقوا ربهم فلم يشركوا به ولم يعصوه بترك الواجبات ولا بفعل المحرمات هؤلاء يوم القيامة في بساتين وعيون تجري في تلك البساتين وقوله {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} أي ما أعطاهم ربهم من ثواب هو نعيم مقيم في دار السلام. ثم ذكر تعالى مقتضيات هذا العطاء العظيم والثواب الجزيل فقال {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ } دخولهم الجنة {مُحْسِنِينَ} في الدنيا فأحسنوا نياتهم وأعمالهم أخلصوها لله ربهم وأتوا بها وفق ما ارتضاه وشرعه لعباده بلا زيادة ولا نقصان كما أحسنوا إلى عباده ولم يسيئوا إليهم بقول ولا عمل هذا موجب وآخر أنهم {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا

يَهْجَعُونَ} 1 أي لا ينامون من الليل إلا قليلاً إذ أكثر الليل يقضونه في الصلاة وهو التهجد وقيام الليل وبالأسحار أي وفي السدس الأخير من الليل هم يستغفرون أي يقولون ربنا اغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار وثالث {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ} والمحروم أي وزيادة على الزكاة المفروضة في كل مال بلغ النصاب فإنهم أوجبوا على أنفسهم في أموالهم حقا يبذلونه للسائل الذي يسأل والمحروم الذي لا يسأل لحيائه وعفته. هذه موجبات العطاء الكريم الذي أعطاهم ربهم من النعيم المقيم في جنات وعيون. وقوله تعالى {وَفِي الْأَرْضِ2 آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} أي وفي ما خلق في الأرض من مخلوقات من جبال وأنهار و زروع وضروع وأنواع الثمار، وإنسان وحيوان آيات أي دلائل وعلامات على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته وكلها موجبة له التوحيد ومقررة لقدرته على البعث الآخر والجزاء وكون هذه الآيات للموقنين مبني على أن الموقنين ذووا بصائر وإدراك لما يشاهدون في الكون فكلما نظروا إلى آية في الكون ازداد إيمانهم وقوى فبلغوا اليقين فيه فأصبحوا أكثر من غيرهم في الاهتداء والانتفاع بكل ما يسمعون ويشاهدون. وقوله تعالى {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} أي وفي أنفسكم3 أيها الناس من الدلائل والبراهين المتمثلة في خلق الإنسان وأطواره التي يمر بها من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى طفل إلى شاب فكهل وفي إدراكه وسمعه وبصره ونطقه إنها آيات أخرى دالة على وجود الله وتوحيده وقدرته على البعث والجزاء وقوله {أَفَلا تُبْصِرُونَ} توبيخ لأهل الغفلة والإعراض عن التفكر والنظر إذ لو نظروا بأبصارهم متفكرين ببصائرهم لاهتدوا إلى الإيمان والتوحيد والبعث والجزاء. وقوله تعالى وفي السماء رزقكم وما توعدون أي4 يخبر تعالى عباده أن رزقهم في السماء يريد تدبير الأمر في السماء والأمطار التي هي سبب كل الثمار والحبوب وسائر الخضر والفواكه التي هي غذاء الإنسان في السماء وقوله وما توعدون من خير وشر من رحمة وعذاب الكل في السماء إذ الأمر لله وهو يحكم بالرحمة والعذاب على من يشاء وكتاب المقادير التي كتب فيه كل شيء هو في السماء. وقوله تعالى {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
__________
1 الهجوع: النوم ليلا، والتهجاع: النومة الخفيفة قال الشاعر:
قد حصت البيضة رأسي فما
أطعم نوماً غير تهجاع
والفعل يهجع هجوعاً، و(ما) زائدة لتقوية الكلام أي: كانوا ينامون قليلا من الليل، والجملة: (وكانوا قليلا) الخ بدل من جملة: (كانوا قبل ذلك محسنين) بدل بعض من كل.
2 هذا متصل بالقسم في قوله: {وَالذَّارِيَاتِ} إنه بعد أن حقق عقيدة البعث بالاقسام عليها عطف شواهد من الأدلة على ذلك.
3 مما هو آية في النفس أن المرء يأكل ويشرب من مكان واحد ويخرج من مكانين ولو شرب لبناً محضاً لخرج منه الماء ومنه الغائط فتلك الآية في النفس.
4 يروى أن الحسن رحمه الله تعالى كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه فيه والله رزقكم ولكنكم تحرمونه بخطاياكم.

إِنَّهُ لَحَقٌّ1 مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ2} هذا قسم منه تعالى أقسم فيه بنفسه على أن البعث والجزاء يوم القيامة حق ثابت واجب الوقوع كائن لا محالة إذا كنا لا نشك في نطقنا إذا نطقنا أن ما نقوله ونسمعه لا يمكن أن يكون غير ما نطقنا به وسمعناه فكذلك البعث الآخر واقع لا محالة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان ما للمتقين من نعيم مقيم في الدار الآخرة.
2- بيان صفات المتقين من التهجد بالليل والاستغفار في آخره والإنفاق في سبيل الله.
3- بيان أن في الأرض كما في الأنفس آيات أي دلائل وعلامات على قدرة الله على البعث والجزاء.
4- بيان أن في السماء رزق العباد3 فلا يطلب إلا من الله تعالى وأن ما نوعده من خير وشر أمره في السماء ومنها ينزل بأمره تعالى فليكن طلبنا الخير من الله دائما وتعوذنا من الشر بالله وحده.
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
__________
1 (ما) في {مِثْلَ مَا أَنَّتُمْ تَنْطِقُونَ} مزيدة للتوكيد، والمضارع { تَنْطِقُونَ} جيء به بدلا عن المصدر نطقكم لإفادته التشبيه بنطقهم المتجدد المحسوس لهم وتقدير الكلام أن ما توعدونه من البعث والجزاء لحق مثل نطقكم الذي لا تنكرونه إذ لا يوجد من ينكر نطقه أبداً..
1 (ما) في (مثل ما أنكم تنطقون) مزيدة للتوكيد، والمضارع (تنطقون) جيء به بدلا عن المصدر نطقكم الذي لا تنكرونه إذ لا يوجد من ينكر نطقه أبداً.
2 قيل: خص النطق من بين سائر الحواس: لأن ما سواه من الحواس يدخله التشبيه, والنطق سبيم من ذلك.
3 ذكر القرطبي عند تفسير هذه الآية قصة مأثورة عن الأصمعي خلاصتها: أن أعرابيا قال له: اقرأ علي من كلام الرحمن شيئا فقرأ عليه: (وفي السماء رزقكم و ما توعدون) ففهمها الأعرابي علقيقتها فكسر قوسه ونحر بعيره فتصدق به وتاب إلى ربه ولقيه بعد سنة فطلب منه أن يسمعه من كلام الرحمن فقرأ عليه فورب السماء والأرض إنه لحق...) الآية فأخذ الأعرابي رداءه وهو يقول: من يغضب الرحمن. وما زال يرددها حتى مات.

شرح الكلمات:
هل أتاك حديث: أي قد أتاك يا نبينا حديث أي كلام.
ضيف إبراهيم المكرمين :أي جبريل وميكائيل وإسرافيل أكرمهم إبراهيم الخليل.
وقالوا سلاما :أي نسلم عليك سلاما.
قال سلام قوم منكرون :أي عليكم سلام أنتم قوم منكرون أي غير معروفين.
فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين :أي عدل ومال إلى أهله فجاء بعجل سمين حنيذ.
فقال ألا تأكلون :أي فأمسكوا عن الأكل فقال لهم ألا تأكلون.
فأوجس منهم خيفة : أي فأضمر في نفسه خوفا منهم.
بغلام عليم :أي بولد يكون ذا علم كبير غزير.
فأقبلت امرأته في صرة: أي في رنة وصيحة.
فصكت وجهها :أي لطمت وجهها أي ضربت بأصابعها جبينها متعجبة.
وقالت عجوز عقيم :أي كبيرة السن وعقيم لم يولد لها قط.
قالوا كذلك قال ربك :أي قالت الملائكة لها كالذي قلنا لك قال ربك.
إنه هو الحكيم العليم: أي إنه هو الحكيم في تدبيره وتصريف شؤون عباده. العليم بما يصلح للعبد وما لا يصلح فليفوض الأمر إليه.
معنى الآيات:
قوله تعالى {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ1 ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ}2 هذا الحديث يشتمل على موجز قصة قد ذكرت في سورة هود والحجر والمقصود منه تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إن مثل هذا القصص لا يتم لأمي لا يقرأ ولا يكتب إلا من طريق الوحي كما أنه يحمل في نهايته التهديد بالوعيد لمشركي قريش المصرين على الكفر والتكذيب والإجرام الكبير إذ في نهاية القصة يسأل إبراهيم الملائكة قائلا فما خطبكم أيها المرسلون فيجيبون قائلين إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين أي لتدميرهم وإهلاكهم من أجل إجرامهم، وقريش في هذا الوقت مجرمة مستحقة للعذاب كما استحقه إخوان لوط. فقوله تعالى في خطاب رسوله هل أتاك حديث ضيف إبراهيم
__________
1 هذا الكلام مستأنف ابتدائي سيق لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتقرير نبوته وإنذار قومه المكذبين المصرين على الشرك والظلم، ولفظ الضيف، يطلق على الواحد فأكثر وافتتاح الكلام بهل للتفخيم للحدث الذي يخبر عنه والتهويل من شأنه.
2 قال فيهم المكرمين: لخدمة إبراهيم إياهم وإكرامه لهم بتقديم العجل الحنيذ، وقيل هم مكرمون من قبل الله تعالى .

الخليل وهم ملائكة في صورة رجال من بينهم1 جبريل وميكائيل وإسرافيل إذ دخلوا عليه أي على إبراهيم وهو في منزله فسلموا عليه2 فرد السلام ثم قال أنتم قوم منكرون أي لا نعرفكم بمعنى أنكم غرباء لستم من أهل هذا البلد فلذا سارع في إكرامهم فراغ إلى أهله أي عدل ومال إلى أهله فعمد إلى عجل سمين من أبقاره وكان ماله يومئذ البقر فشواه بعد ذبحه وسلخه وتنظيفه. فقربه إليهم وكأنهم أمسكوا عن تناوله فعرض عليهم الأكل عرضا بقوله ألا تأكلون فقالوا إنا لا نأكل طعاما إلا بحقه. فقال إذاً كلوه بحقه، فقالوا وما حقه؟ قال أن تذكروا اسم الله في أوله وتحمدوا الله في آخره أي تقولون بسم الله في البدء والحمد لله في الختم فالتفت جبريل إلى ميكائيل وقال له حق للرجل أن يتخذه ربه خليلا ولما لم يأكلوا أوجس منهم خيفة أي خوفا أي شعر بالخوف في نفسه منهم لعدم أكلهم لأن العادة البشرية وهي مستمرة إلى اليوم إذا أراد المرء بأخيه سوءاً لا يسلم عليه ولا يرد عليه السلام، ولا يأكل طعامه هذا حكم غالبي وليس عاما. قالوا لا تخف وبشروه بغلام وأعلموه أنهم مرسلون من ربه إلى قوم لوط لإهلاكهم من أجل إجرامهم وبشروه بغلام يولد له ويكبر ويولد له فالأول إسحق والثاني يعقوب كما جاء في سورة هود فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحق يعقوب وقوله {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} 3 أخذت في رنة لما سمعت البشرى فصكت أي لطمت وجهها بأصابع يدها متعجبة وهي تقول أألد وأنا عجوز4 وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب إذ كان عمرها تجاوز التسعين وعمر إبراهيم تجاوز المئة وكانت عقيما لا تلد قط فلذا قالت عجوز5 عقيم كيف ألد يا للعجب؟ فأجابها الملائكة قائلين كذلك أي هكذا قال ربك فاقبلي البشرى واحمديه واشكريه. إنه تعالى هو الحكيم في تصرفاته في شؤون عباده العليم بما يصلح لهم وما لا يصلح فليفوض الأمر إليه ولا يعترض عليه.
__________
1 قيل إنهم كانوا تسعا وسما منهم غير الثلاثة رفائيل عليه السلام.
2 في الآية مشروعية السلام إلقاء ورداً إلا أن الإلقاء سنة والرد واجب لآية النساء: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}.
3 الصرة: الصيحة والضجة، والصرة، الجماعة، والصرة: الشدة من كرب وغيره قال الشاعر:
فألحقه بالهاديات ودونه
جواحرها في صرة لم تزين
الهاديات: أوائل بقر الوحش وجواحرها: متخلفاتها ولم تزيل لم تنفرق الشاهد في الصرة هنا فإنها بمعنى الضجة والجماعة والشدة. وهو يمدح فرسه الذي ألحقه بأوائل بقر الوحش الذي يصيد.
4 نص آية هود: { قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ}.
5 أي: كيف ألد وأنا عجوز عقيم ف(عجوز) خبر، و(عقيم) بدل منه والمبتدأ محذوف أي: أنا والعجوز يشترك فيه المذكر والمؤنث يقال رجل عجوز وامرأة عجوز فهو فعول بمعنى فاعل مشتق من العجز والعقيم كذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث وهو فعيل بمعنى مفعول مأخوذ من عقمها الله: إذا خلقها لم تحمل بجنين، وكانت سارة لم تحمل قط.

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة المحمدية.
2- فضيلة إبراهيم أبي الأنبياء وإمام الموحدين.
3- وجوب إكرام الضيف.
4- الخوف الفطري عند وجود أسبابه لا يقدح في العقيدة ولا يعد شركا.

الجزء السابع والعشرون
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (37)
شرح الكلمات:
قال فما خطبكم أيها المرسلون :أي ما شأنكم أيها المرسلون.
إلى قوم مجرمين :أي إلى قوم كافرين فاعلين لأكبر الجرائم وهي إتيان الفاحشة.
حجارة من طين :أي مطبوخ بالنار.
مسومة :أي معلمة على كل حجر اسم من يرمى به.
للمسرفين: أي المبالغين في الكفر والعصيان كإتيان الذكران.
غير بيت من المسلمين :وهو بيت لوط وابنتيه ومن معهم من المؤمنين.
وتركنا فيها آية: أي بعد إهلاكهم:تركنا فيها علامة على إهلاكهم وهي ماء أسود منتن.
للذين يخافون العذاب الأليم :أي عذاب الآخرة فلا يفعلون فعلهم الشنيع.
معنى الآيات:
ما زال السياق في قصة إبراهيم مع ضيفه من الملائكة إنه لاحظ بعد أن عرف أنهم سادات الملائكة أن مهمتهم لم تكن مقصورة على بشارته فقط بل هي أعظم فلذا سألهم قائلا: فما1 خطبكم أيها المرسلون؟ فأجابوه قائلين: إنا أرسلنا أي أرسلنا ربنا عز وجل إلى قوم مجرمين2 أي
__________
1 الفاء: هي الفاء الفصيحة إذ أفصحت أي: دلت على كلام محذوف تقديره: لما كنتم مرسلين من قبل الله تعالى فما خطبكم أي ما شأنكم وما مهمتكم العظيمة التي جئتم لها؟.
2 هم أهل سدوم وعمورية.

على أنفسهم بالكفر، وفعل الفاحشة، والعلة من إرسالنا إليهم هي لنرسل عليهم حجارة من طين1 مطبوخ بالنار، وتلك الحجارة مسومة أي معلمة عن ربك للمسرفين أي قد كتب على كل حجر اسم من يرمى به، وذلك في السماء قبل أن تنزل إلى الأرض. وقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا} أي من تلك القرية وهي سدوم من كان فيها من2 المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وهو بيت لوط عليه السلام وما به سوى لوط وابنتيه ومن الجائز أن يكون معهم بعض المؤمنين إذ قيل كانوا ثلاثة عشر نسمة وقوله تعالى: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً3} أي علامة على إهلاكهم وهي ماء أسود منتن كالبحيرة وتعرف الآن بالبحر الميت. وقوله { لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} وهم المؤمنون الذين يخافون عذاب الآخرة حتى لا يفعلوا فعل قوم لوط من الكفر وإيتان الفاحشة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- جواز تشكل الملائكة بصورة رجال من البشر.
2- التنديد بالإجرام وفاعليه.
3- جواز الإهلاك بالعذاب الخاص الذي لم يعرف له نظير.
4- تقرير حقيقة علمية وهي أن كل مؤمن صادق الإيمان مسلم, وليس كل مسلم مؤمنا حتى يحسن إسلامه بانبنائه على أركان الإيمان الستة.4
وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ
__________
1 (من طين) فيه احتراس من أن تكون من البرد الذي ينزل مع المطر من السماء, وجائز أن تكون من بركان قذفته الأرض فارتفع بقوة الضغط فسقط عليهم فدمرهم بأمر الله تعالى وتدبيره فيهم.
2 قوله :(من المؤمنين): إشارة إلى أن سبب نجاتهم هو إيمانهم وفي قوله :(من المسلمين) كذلك أي: سبب النجاة الإسلام كما هو التنويه بشأن كل من الإيمان والإسلام إذ الدعوة النبوية تدور عليهما.
3 الضمير)فيها) عائد إلى القرية التي أصبحت خربة تدل على قدرة الله تعالى ونقمته من أعدائه.
4 هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله, واليوم الآخر, والقدر خيره وشره, كما في آية البقرة, (ليس البر) وفي حديث جبريل عند مسلم.

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (46)
شرح الكلمات:
وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون :أي فكذبه وكفر, فأغرقناه ومن معه آية كآية سدوم.
بسلطان مبين :أي بحجة ظاهرة قوية وهي اليد والعصا.
فتولى بركنه :أي أعرض عن الإيمان مع رجال قومه.
وقال ساحر أو مجنون :أي وقال فرعون في شأن موسى ساحر أو مجنون.
فنبذناهم في اليم :أي طرحناهم في البحر فغرقوا أجمعين.
وهو مليم :أي آت بما يلام عليه إذ هو الذي عرض جيشاً كاملاً للهلاك زيادة على ادعائه الربوبية وتكذيبه لموسى وهرون وهما رسولان.
وفي عاد :أي وفي إهلاك عاد آية أي علامة على قدرتنا وتدبيرنا.
الريح العقيم: أي التي لا خير فيها لأنها لا تحمل المطر ولا تلقح الشجر وهي الدبور, لقول الرسول صلى الله عليه وسلم "نصرت بالصبا" وهي الريح الشرقية "وأهلكت عاد بالدبور" وهي الريح الغربية بالحجاز.
ما تذر من شيء أتت عليه :من نفس أو مال.
إلا جعلته كالرميم: أي البالي المتفتت.
وفي ثمود: أي وفي إهلاك ثمود آية دالة على قدرة الله وكرهه تعالى للكفر والإجرام.
إذ قيل لهم :أي بعد عقر الناقة تمتعوا إلى انقضاء آجالكم بعد ثلاثة أيام.
فأخذتهم الصاعقة :أي بعد ثلاثة أيام من عقر الناقة.
فما استطاعوا من قيام: أي ما قدروا على النهوض عند نزول العذب بهم.
وقوم نوح من قبل :أي وفي إهلاك قوم نوح بالطوفان آية وأعظم آية.

قوله تعالى {وَفِي مُوسَى}1 الآية إنه تعالى لما ذكر إهلاك قوم لوط وجعل في ذلك آية دالةً على قدرته وعلامةً تدل العاقل على نقمه تعالى ممن كفر به وعصاه ذكر هنا في هذه الآيات التسع من هذا السياق أربع آيات
أخرى، يهتدي بها أهل الإيمان الذين يخافون يوم الحساب فقال عز من قائل: وفي موسى بن عمران نبي بني إسرائيل إذ أرسلناه إلى فرعون ملك القبط بمصر {بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي بحجة قوية ظاهرة قوة السلطان وظهوره وهي العصا2 فلم يستجب لدعوة الحق فتولى بركنه أي 3بجنده الذي يركن إليه ويعتمد عليه، وقال في موسى رسول الله إليه: هو ساحر أو 4مجنون فانتقمنا منه بعد الإصرار على الكفر والظلم فنبذناهم أي طرحناهم في اليم البحر فهلكوا بالغرق. في هذا الصنيع الذي صنعناه بفرعون لما كذب آيةٌ من أظهر الآيات. وقوله تعالى: {وَفِي عَادٍ5} حيث أرسلنا إليهم
أخاهم هوداً فدعاهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه فكذبوه {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} التي لا تحمل مطراً ولا تلقح شجراً6 ما تذر من شيء أتت عليه أي مرت به من أنفس أو أموال إلا جعلته كالرميم7 البالي المتفتت في هذه الإهلاك آية من أعظم الآيات الدالة على قدرة الله الموجبة لربوبيته وعبادته والمستلزمة لقدرته تعالى على البعث والجزاء يوم القيامة.
وقوله تعالى {وَفِي ثَمُودَ8} إذ أرسلنا إليهم أخاهم صالحاً فدعاهم إلى عبادة الله وحده وترك الشرك فكذبوه وطالبوه بآية تدل على صدقه فأعطاهم الله الناقة آية فعقروها استخفافاً منهم وتكذيباً {إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ } أي إلى إنقضاء الأجل الذي حدد لهلاكهم. فبدل أن يؤمنوا ويسلموا
__________
1 (وفي موسى) أي: وتركنا أيضاً في قصة موسى آية، والعطف على قوله: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ}.
2 وجائز أن يكون غير العصا من الآيات التسع.
3 وجائز أن يكون بقوته كما قال عنترة:
فما أوهى مراس الحرب ركني
ولكن ما تقادم من زماني
أراد بركنه: قوته، وركن الشيء: جانبه الأقوى.
4 (أو) بمعنى الواو أي: قال مرة في موسى ساحر وقال مرة أخرى مجنون وشاهده قول الشاعر:
أثعلبة الفوارس أو رياحاً
عدلت بهم طهية والخشايا
أي: ورياحاً فأو بمعنى الواو العاطفة لا غير وطهية كسمية: حي من تميم والخشاب: بطون من تميم أيضاً.
5 (وفي عاد) أي: وتركنا في عاد آية كالتي في موسى.
6 ولا خير فيها ولا بركة ولا منفعة البتة مأخوذة من: امرأة عقيم لا تحمل ولا تلد، وهي الدبور لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور}.
7 (الرميم) الشيء الهاك البالي. قال مجاهد، ومنه قول الشاعر:
تركتني حين كف الدهر من بصري
وإذ بقيت كعظم الرمة البالي
مأخوذ من رم العظم: إذا بلى يقال: رم العظم يرم بالكسر رمة فهو رميم.
8 (وفي ثمود) أي: وتركنا في ثمود آية للموقنين دالة على قدرة الله وعلمه وحكمته وهي موجبات ألوهيته.

فيعبدوا الله ويوحدوه عتوا عن أمر ربهم وترفعوا متكبرين {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} صاعقة العذاب وهم ينظرون بأعينهم الموت يتخطفهم {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ} من مجالسهم وهم جائمون على الركب {وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} في إهلاك ثمود أصحاب الحجر آية للذين يخافون العذاب الأليم فلا يفعلوا فعلهم حتى لا يهلكوا هلاكهم.
وقوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ1 مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} أي وفي إرسالنا نوحاً إلى قومه وتكذيبهم إياه وإصرارهم على الشرك والكفر والتكذيب ثم إهلاكنا لهم بالطوفان وانجائنا المؤمنين آية من أعظم الآيات الدالة على وجود الله تعالى وربوبيته و ألوهيته للعالمين، والمستلزمة لقدرته على البعث والجزاء الذي يصر الملاحدة على إنكاره ليواصلوا فسقهم وفجورهم بلا تأنيب ضمير ولا حياء ولا خوف أو وجل.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير كل من التوحيد والنبوة والبعث لما في الآيات من دلائل على ذلك.
2- قوة الله تعالى فوق كل قوة إذ كل قوة في الأرض هو الذي خلقها ووهبها.
3- اتهام المبطلين لأهل الحق دفعاً للحق وعدم قبول له يكاد يكون سنة بشرية في كل زمان ومكان.
4- من عوامل الهلاك العتو عن أمر الله أي عدم الإذعان لقبوله، والفسق عن طاعته وطاعة رسله.
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
__________
1 قرأ حمزة والكسائي (وقوم) بالكسر أي: وفي قوم نوح آية، وقرأ الجمهور بالنصب أي: وأهلكنا قوم نوح من قبل عاد وثمود ومدين.

شرح الكلمات:
والسماء بنيناها بأيدٍ :أي وبنينا السماء بقوة ظاهرة في رفع السماء وإحكام البناء.
وإنا لموسعون: أي لقادرون على البناء والتوسعة.
والأرض فرشناها: أي مهدناها فجعلناها كالمهاد أي الفراش الذي يوضع على المهد.
فنعم الماهدون :أي نحن أثنى الله تعالى على نفسه بفعله الخيري الحسن الكبير.
ومن كل شيء خلقنا زوجين: أي وخلقنا من كل شيء صنفين أي ذكراً وأنثى، خيراً وشراً، علواً وسفلاً.
لعلكم تذكرون: أي تذكرون أن خالق الأزواج كلها هو إله فرد فلا يعبد معه غيره.
ففروا إلى الله :أي إلى التوبة بطاعته وعدم معصيته.
إني لكم منه نذير مبين :أي إني وأنا رسول الله إليكم منه تعالى نذير مبين بين النذارة أي أخوفكم عذابه.
ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر :أي لا تعبدوا مع الله إلها أي معبوداً آخر إذ لا معبود بحق إلا هو.
إني لكم منه نذير مبين :إني لكم منه تعالى نذير بين النذارة أخوفكم عذابه إن عبدتم معه غيره.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في عرض مظاهر القدرة الإلهية الموجبة له تعالى الربوبية لكل شيء والألوهية على عباده. فقال تعالى: {وَالسَّمَاءَ1 بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} فهذا أكبر مظهر من مظاهر القدرة الإلهية إنه بناء السماء وإحكام ذلك البناء وارتفاعه وما تعلق به من كواكب ونجوم وشمس وقمر تم هذا الخلق بقوة الله التي لا توازيها قوة. وقوله {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} أي لقادرون على توسعته أكثر مما هو عليه، وذلك لسعة قدرتنا.
__________
1 هذا عرض آخر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته الدالة على قدرته على البعث الآخر (والسماء): منصوب على الاشتغال، والأيد جمع يدٍ وكثر إطلاقه على القوة نحو: (واذكر عبدنا داود ذا الأيد) أي: القوة، والموسع: القادر على توسعة ما يريد توسعته من رزق وغيره.

ومظهر ثانٍ هو في قوله: {وَالْأَرْضَ1 فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} والأرض فرشها بساطاً ومهدها مهاداً فنعم الماهدون نحن نعم الماهد الله تعالى لها إذ غيره لا يقدر على ذلك ولا يتأتى له، وثالث مظاهر القدرة في قوله: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ2 خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فهذا لفظ عام يعم سائر المخلوقات وأنها كلها أزواج وليس فيها فرد قط. والذوات كالصفات فالسماء يقابلها الأرض، والحر يقابله البرد، والذكر يقابله الأنثى، والبر يقابله البحر، والخير يقابله الشر، والمعروف يقابله المنكر، فهي أزواج بمعنى أصناف كما أن سائر الحيوانات هي أزواج من ذكر وأنثى. وقوله {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي خلقنا من كل شيء زوجين رجاء أن تذكروا فتعلموا أن خالق هذه الأزواج هو الله الفرد الصمد الواحد الأحد لا إله غيره ولا رب سواه فتعبدوه وحده ولا تشركوا به سواه من سائر خلقه.
وقوله تعالى {فَفِرُّوا إِلَى3 اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي بعد أن تبين لكم أيها الناس أنه لا إله غير الله ففروا إليه تعالى أي بالإيمان به وبطاعته وبفعل فرائضه وترك نواهيه اهربوا إلى الله يا عباد الله بالإسلام إليه والانقياد لطاعته إني لكم منه تعالى نذير من عقاب شديد، ونذارتي بينة لا شك فيها وأنصح لكم أن لا تجعلوا مع الله إلهاً آخر أي معبوداً غيره تعالى تعبدونه إن الشرك به يحبط أعمالكم ويحرم عليكم الجنة فلا تدخلوها أبداً واعلموا أني لكم منه عز وجل نذير مبين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد والبعث بمظاهر القدرة الإلهية التي لا يعجزها شيء ومظاهر العلم والحكمة المتجلية في كل شيء.
2- ظاهرة الزوجية في الكون في الذرة انبهر لها العقل الإنساني وهي مما سبق إليه القرآن الكريم وقرره في غير موضع منه: سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن
__________
1 نصب الأرض على الاشتغال، والفرش: البسط يقال: فرش البساط: إذا نشره وقوله: (فنعم الماهدون) أثنى تعالى على نفسه بهذه المنة على خلقه وهي: بسط الأرض وتمهيدها للحياة عليها وفي هذا تعليم للعباد أن يحمدوا الله ويشكروه: فله الحمد تعالى وله المنة.
2 في خلق الله تعالى للذكر والأنثى والتناسل منهما دليل ظاهر على البعث الذي ينكره الكافرون فمن فكر في إيجاد الحياة من جماد النطفة سهل عليه الإيمان بالحياة الثانية بعد انتهاء هذه ولذا عقب على ذلك بجملة (لعلكم تذكرون) وهي جملة تعليلية.
3 الفاء للتفريع إنه بعد أن بين للمشركين ضلالهم وخطأهم في الشرك والكفر وإنكار البعث بما ساق من الأدلة وأبرز عن البراهين القطعية قال لرسوله: قل لهم أيها الناس ففروا إلى الله أي: اهربوا إليه لينجيكم من الخسران فإنه ليس لكم إلا هو فآمنوا به واعبدوه ووحدوه وعلل ذلك بقوله لهم { إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}.

أنفسهم ومما لا يعلمون. فدل هذا قطعاً على أن القرآن وحي الله وأن من أوحى به إليه وهو محمد بن عبد الله لن يكون إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- التحذير من الشرك فإنه ذنب عظيم لا يغفر إلا بالتوبة الصحيحة النصوح.
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
شرح الكلمات:
كذلك ما أتى الذين من قبلهم :أي الأمر كذلك ما أتى الذين من قبل قومك يا محمد من رسول.
إلا قالوا ساحر أو مجنون: أي هو ساحر أو مجنون.
أتواصوا به بل هم قوم طاغون :أي أتواصت الأمم كل أمة توصي التي بعدها بقولهم للرسول هو ساحر أو مجنون, والجواب, لا أي لم يتواصوا بل هم قوم طاغون يجمعهم على قولهم هذا الطغيان.
فتول عنهم فما أنت بملوم: أي أعرض عنهم يا رسولنا فما أنت بملوم لأنك بلغتهم فأبرأت ذمتك.
وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين :أي عظ بالقرآن يا رسولنا فإن الذكرى بمعنى التذكير ينفع المؤمنين أي من علم الله أنه يؤمن.
وما خلقت الجن والإنس :أي خلقتهم لأجل أن يعبدوني فمن عبدني أكرمته ومن ترك عبادتي أهنته.

ما أريد منهم من رزق :أي لا لي ولا لأنفسهم ولا لغيرهم.
وما أريد أم يطمعون :أي لا أريد منهم ما يريد أرباب العبيد من عبيدهم هذا يجمع المال وهذا يعد الطعام، والله هو الذي يرزقهم.
ذو القوة المتين: أي صاحب القوة المتين الشديد الذي لا يعجزه شيء.
ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم :أي نصيباً من العذاب مثل نصيب أصحابهم الذين ماتوا على الكفر.
فلا يستعجلون :أي فلا يطالبوني بالعذاب فإن له موعداً لا يخلفونه.
من يومهم الذي يوعدون :أي يوم القيامة.
معنى الآيات:
بعد عرض تلك الأدلة المقررة للتوحيد والبعث والمستلزمة للرسالة المحمدية والمشركون ما زالوا في إصرارهم على الكفر والتكذيب قال تعالى مسلياً رسوله مخففاً عنه ما يجده من إعراضٍ وتكذيب: {كَذَلِكِ} أي الأمر والشأن كذلك وهو أنه ما أتى الذين من قبلهم أي من قبل قومك للرسول إلا قالوا فيه هو ساحر1 أو مجنون كما قال قومك لك اليوم. ثم قال تعالى: {أَتَوَاصَوْا2 بِهِ} أي بهذا القول كل أمة توصي التي بعدها بأن تقول لرسولها: ساحر أو مجنون. بل هم قوم طاغون أي لم يتواصوا به وإنما جمعهم على هذا القول الطغيان الذي هو وصف عام لهم فإن الطاغي من شأنه أن ينكر ويكذب ويتهم بأبعد أنواع التهم والحامل له على ذلك طغيانه. وما دام الأمر هكذا فتول عنهم يا رسولنا أي أعرض عنهم ولا تلتفت إلى أقوالهم وأعمالهم فما أنت بملوم في هذا القول لأنك قد بلغت رسالتك وأديت أمانتك ولا يمنعك هذا التولي عنهم أن تذكر أي عظ بالقرآن بل عظ وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين الذين علم الله تعالى أنه يؤمنون ممن هم غير مؤمنين الآن كما تنفع المؤمنين حالياً بزيادة إيمانهم وصبرهم على طاعة الله ربهم.
وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ3} أي لم يخلقهما للهو ولا للعب ولا
__________
1 أو: بمعنى الواو إذ هم مرة يقولون ساحر ومرة يقولون مجنون وليس معنى ساحر أو مجنون أن يكون إما ساحراً أو مجنوناً فتكون أو بأحد الشيئين.
2 الاستفهام للتعجب، و(بل) للإضراب الإبطالي، أي لم يتواصوا بهذا القول الفاسد، وإنما جمعهم الطغيان فقالوا ما قالوا ولم يتخلف قوم منهم في ذلك.
3 قوله: {وَمَا خَلَقْتُ...} الخ فيه تعريض للمشركين والكافرين التاركين لعبادته تعالى، والإنس واحده إنسي، والاستثناء مفرغ من علل لم تذكر، والإرادة هنا؛ هي الإرادة الشرعية التكليفية ليست الإرادة الكونية التي لا تتخلف، ولذا فلا معنى لمن قال: المراد بالناس هنا المؤمنون فقط، أو هو على تقدير لآمرهم وأنهاهم أو أن المراد من العبادة: ظهور قدرة الله تعالى فيهم من الخلق والإحياء والإماتة.

لشيء وإنهما خلقهما ليعبدوه بالإذعان له والتسليم لأمره ونهيه. وقوله تعالى {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} أي إن شأني معهم ليس كشأن السادة مالكي العبيد الذين يتعبدونهم بالقيام بحاجاتهم. هذا يجمع المال وهذا يعد الطعام بل خلقتهم ليعبدوني أي يوحدوني في عبادتي، إذ عبادتهم لي مع عبادة غيري لا أقبلها منهم ولا أثيبهم عليها بل أعذبهم على الطاعة حيث عبدوا من لا يستحق العبادة من سائر المخلوقات.
قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ1} قرر به غناه عن خلقه، وأعلم أنه ليس في حاجة إلى أحدٍ وذلك لغناه المطلق، وقدرته التي لا يعجزها في الأرض ولا في السماء شيء. وقوله فإن للذين ظلموا2 ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم أي إذا عرفت حال من تقدم من قوم عاد وثمود وغيرهم فإن لهؤلاء المشركين ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم أي نصيباً من العذاب وعبر بالذنوب التي هي الدلو الملأى بالماء عن العذاب لأن العذاب يصب عليهم كما يصب الماء من الدلو ولأن الدلاء تأتى واحدا بعد واحد فكذلك. الهلاك يتم لأمة بعد أمة حتى يسقوا كلهم مر العذاب, وقوله {فَلا يَسْتَعْجِلُونِ} أي ما هناك حاجة بهم الى استعجال العذاب فإنه آت في إبانه ووقته المحدد له لا محالة. وقوله تعالى {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي بالله ولقائه والنبي وما جاء به ويل لهم من يومهم الذي يوعدون أي العذاب الشديد لهم من يومهم الذي أوعدهم الله تعالى به وهو يوم القيامة والويل وادٍ في جهنم يسيل بصديد أهل النار والعياذ بالله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان سنة بشرية وهي التكذيب والاتهام بالباطل وقلب الحقائق لكل من جاءهم يدعوهم إلى خلاف مألوفيهم وما اعتادوه من باطلٍ وشرٍ فيدفعون بالقول فإذا أعياهم ذلك دفعوا بالفعل وهي الحرب والقتال.
2- بيان أن طغيان النفس يتولد عنه كل شر والعياذ بالله.
3- مشروعية التذكير، وأنه ينتفع به من أراد الله إيمانه ممن لم يؤمن، ويزداد به إيمان المؤمنين الحاليين.
4- بيان علة خلق الإنس والجن وهي عبادة الله وحده.
__________
1 الجملة تعليلية لما سبقها من قوله :{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} و(الرزاق): كثير الإرزاق و (ذو القوة): صاحبها ومن خصائص (ذو) أنها لا تضاف إلا إلى أمر مهم,(والمتين): الكامل في قوته الذي لا يعارض ولا يدانى.
2 في قوله تعالى (ذنوباً) إشارة إلى مل حصل لصناديد قريش إذ بعد قتلهم ألقوا في قليب ببدر فكان ذلك مصداق قوله {فَإِنَّ لِلَّذِين كفروا ذَنُوباً} وهي الدلو الملأى فعجباً لهذا القرآن العظيم.

5- بيان غنى الله تعالى عن خلقه، وعدم احتياجه إليهم بحال من الأحوال.
6- توعد الرب تبارك وتعالى الكافرين وأن نصيبهم من العذاب نازل بهم لا محالة.

سورة الطور
...
سورة الطور
مكية
وآياتها تسع وأربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
شرح الكلمات
والطور :أي والجبل الذي كلم الله عز وجل عليه موسى عليه السلام.
وكتاب مسطور :أي وقرآن مكتوب.
في رق منشور :أي في جلد رقيق أو ورق منشور.
والبيت المعمور :أي بالملائكة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون أبداً.
والسقف المرفوع :أي السماء التي هي كالسقف المرفوع للأرض.
والبحر المسجور :أي المملوء المجموع ماؤه بعضه في بعض.

يوم تمور السماء موراً :أي تتحرك وتدور.
في خوض يلعبون :أي في باطل يلعبون أي يتشاغلون بكفرهم.
يدعون إلى نار جهنم دعا :أي يدفعون بعنف دفعاً.
أفسحر هذا :أي العذاب الذي ترون كما كنتم تقولون في القرآن.
أم أنتم لا تبصرون :أي أم عدمتم الأبصار فأنتم لا تبصرون.
اصلوها :أي اصطلوا بحرها.
فاصبروا أو لا تصبروا :أي صبركم وعدمه عليكم سواء.
معنى الآيات :
قوله تعالى {وَالطُّورِ1 وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} هذه خمسة أشياء عظام أقسم الله تعالى بها, وبالتتبع لما يقسم الله تعالى به يرى أنه إذا أقسم بشيء إنما يقسم به إما لكونه مظهراً من مظاهر القدرة الإلهية, كالسماء مثلاً, وإما لكونه معظما نحو لعمرك إذ هو إقسام بحياة النبي صلى الله عليه وسلم. وإما لكونه ذا فائدة للإنسان ونفع خاص به كالتين والزيتون وقوله تعالى {وَالطُّورِ} وهو جبل الطور الذي كلم تعالى عليه موسى وهو مكان مقدس, وقوله {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ2} أي منشور في ورق أو جلد رقيق وهو التوراة أو القرآن و الإقسام به لما فيه من حرمة وقدسية عند الله تعالى, والبيت المعمور3 وهو بيت في السماء تغشاه الملائكة كل يوم وتعمره بالعبادة وهو بحيال الكعبة بحيث لو وقع لوقع فوقها والسقف المرفوع وهو السماء وهي كالسقف للأرض وهي مظهر من مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه ومثلها البحر المسجور4 أي المملوء بكميات المياه الهائلة فإنه مظهر من مظاهر القدرة والعلم والحكمة الإلهية هذا القسم الضخم جوابه أو المقسم عليه هو قوله إن عذاب ربك يا رسولنا لواقع ماله من دافع ليس له من5 دافع يدفعه أبداً, وإن له وقتاً محدداً يقع فيه, وعلامات تدل عليه وهي
__________
1 (الطور): الجبل باللغة السريانية ونقل إلى العربية بهذا اللفظ بمعنى الجبل وأصبح علماً بالغلبة على جبل طور سيناء الذي ناجى الله تعالى فيه نبيه موسى عليه السلام.
2 الرق: بفتح الراء, ما رق من الجلد ليكتب فيه, والمنشور: المبسوط وجائز أن يكون المراد به التوراة أو القرآن, إذ القرآن يقرؤه المؤمنون من المصاحف وتقرأه الملائكة من اللوح المحفوظ والرق بكسر الراء الملك.
3 جائز أن يكون المراد بالبيت المعمور الكعبة المشرفة بمكة المكرمة,
وجائز أن يكون بيتاً في السماء كما في التفسير, ويقال له: الضراح بضم الضاد وفي الطبري: أن علياً سئل عن البيت المعمور فقال: بيت في السماء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه أبداً.
4 جائز أن يكون المراد بالبحر: البحر الأحمر, (القلزم) الذي أغرق الله تعالى فيه فرعون وملأه. لمناسبة ذكر الطور, وجائز أن يكون المحيط ووصف بالمسجور وهو المملوء: حتى لا يدخل فيه الأنهار التي تملأ بالأمطار والأودية والسيول.
5 زيدت (من) في قوله تعالى (ما له من دافع) لتأكيد النفي.

قوله تعالى {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ 1مَوْراً} أي تتحرك بشدة وتدور وتسير الجبال سيراً فتكون كالهباء المنبث هنا وهناك فويل يومئذ للمكذبين والويل واد في جهنم مملوء بقيح وصديد أهل النار, والمكذبون هم الكافرون بالله وبما جاءت به رسله عنه من أركان الإيمان وقواعد الإسلام وقوله :{الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} أي في باطلهم وكفرهم يتشاغلون به عن الإيمان الحق والعمل الصالح المزكى للنفس المطهر لها. وقوله {يَوْمَ2 يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} أي يوم يدفعون بشدة وعنف إلى جهنم ويقال لهم توبيخاً وتقريعاً لهم هذه النار التي كنتم بها تكذبون. أخبرونا: أفسحر3 هذا أي العذاب الذي أنتم فيه الآن تعذبون أم أنتم لا تبصرون فلا تعاينونه. ويقال لهم أيضا تبكيتاً وتقريعاً فاصبروا على عذاب النار أو لا تصبروا سواء عليكم أي صبركم وعدمه عليكم سواء. إنما 4تجزون ما كنتم تعلمون أي في الدنيا من الشرك والمعاصي.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير البعث والجزاء.
2- لله تعالى أن يقسم بما يشاء من خلقه وليس للعبد أن يقسم بغير الله تعالى.
3- عرض سريع لأهوال القيامة وأحوال المكذبين فيها.
4- تقرير قاعدة الجزاء من جنس العمل.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
شرح الكلمات:
إن المتقين :أي الذين اتقوا ربهم فعبدوه وحده بما شرع لهم فأدوا الفرائض واجتنبوا النواهي.
__________
1 المور: التحرك باضطراب, ومور السماء: اضطراب أجسامها من الكواكب, واختلال نظامها عند نهاية الحياة.
2 (يوم يدعون) بدل اشتمال من {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً}.
3 (أم) هي المنقطعة التي تقدر ببل والاستفهام, والاستفهام هنا للتهكم والتوبيخ والتقدير: بل أنتم لا تبصرون أي المرئيات.
4 (إنما تجزون): جملة تعليلية وإن حرف توكيد وما الموصولة بها هي الكافة وإنما المركبة من إن المشددة وما: الكافة لها عن العمل أفادت التعليل.

فاكهين :أي متلذذين بأكل الفواكه الكثيرة التي آتاهم ربهم.
ووقاهم عذاب الجحيم :أي وحفظهم من عذاب الجحيم عذاب النار.
على سرر مصفوفة :أي بعضها إلى جانب بعض.
وزوجناهم بحور عين :أي قرناهم بنساء عظام الأعين حسانها.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى حال أهل النار ذكر حال أهل الجنة وهذا أسلوب الترغيب والترهيب الذي أمتاز به القرآن الكريم فقال تعالى مخبراً عن حال أهل الجنة: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ} أي الذين اتقوا في الدنيا الشرك والمعاصي {فِي جَنَّاتِ} أي بساتين ونعيم مقيم يحوي كل ما لذ وطاب مما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين. فاكهين1 بما آتاهم ربهم أي متلذذين بأكل الفواكه الكثيرة الموصوفة بقول الله تعالى: لا مقطوعة ولا ممنوعة. {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} أي حفظهم من عذاب النار. ويقال لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا2 هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي بسبب ما كنتم تعملونه من أعمال البر والإصلاح بعد الفرائض واجتناب الشرك والمعاصي. وقوله {مُتَّكِئِينَ} أي حال كونهم وهم في نعيمهم متكئين على سرر3 مصفوفة قد صف بعضها إلى جنب بعض. وقوله تعالى {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} أي قرناهم بزوجات من الحور العين والحور جمع حوراء وهي التي يغلب بياض عينهم على سوادها والعين جمع عيناء وهي الواسعة العينين. جعلنا الله ممن يزوجون بهن إنه كريم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضل التقوى وكرامة أهلها.
2- بيان منة الله وفضله على أهل الإيمان والتقوى وهم أولياء الله تعالى.
3- مشروعية الدعاء بكلمة هنيئا لمن أكل أو شرب ائتساء بأهل الجنة.
4- الإيمان والأعمال الصالحة سبب في دخول الجنة وليست ثمنا لها لأن الجنة أغلى من عمل
__________
1 (فاكهين): أي: ذوي فاكهة كثيرة، يقال: رجل فاكه: أي ذو فاكهة كما يقال: لابن وتامر أي: ذو لبن وتمر، قال الشاعر:
وغررتني وزعمت أنك لابن بالصيف تامر
وفعله فكه كفرح فهو فاكه وفكه، وقرأ الجمهور بالأول وقرأ أبو جعفر بالثاني، والفاكه: من طابت نفيه وسرت بما به من نعيم.
2 الهنيئ: مالا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر يقال لهم: ليهنأكم ما صرتم إليه (هنيئاً).
3 (سرر) جمع سرير، وفي الكلام حذف تقديره: متكئين على نمارق سرر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت، والسرير كما بين مكة وأيلة.

الإنسان، وإنما العمل الصالح يزكى النفس فيؤهل صاحبها لدخول الجنة فالباء في قوله {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} سببية وليست للعوض كما في قولك بعتك الدار بألف مثلا.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
شرح الكلمات:
والذين آمنوا :أي حق الإيمان المستلزم للإسلام والإحسان.
واتبعتهم ذريتهم بإيمان : أي كامل مستوفٍ لشرائطه ومنها الإسلام.
ألحقنا بهم ذريتهم :أي وإن لم يعملوا عملهم بل قصروا في ذلك.
وما ألتناهم من عملهم من شيء : أي وما نقصناهم من أجور أعمالهم شيئاً.
كل امرئ بما كسب رهين :أي كل إنسان مرهون أي محبوس بكسبه الباطل.
يتنازعون فيها كاساً :أي يتعاطون بينهم فيها أي في الجنة كأساً من خمر.
لا لغو فيها ولا تأثيم :أي لا يقع لهم بسبب شربها لغو وهو كل كلام لا خير فيه ولا إثم.
ويطوف عليهم غلمان :أي ويدور بهم خدم لهم.
كأنهم لؤلؤ مكنون : أي مصون.
وأقبل بعضهم على بعض :أي يسأل بعضهم بعضاً عما كانوا عليه في الدنيا وما وصلوا إليه في الآخرة.

قالوا إنا كنا قبل :أي قالوا مشيرين إلى علة سعادتهم إنا كنا قبل أي في الدنيا.
في أهلنا مشفقين :أي بين أهلنا وأولادنا مشفقين أي خائفين من عذاب الله تعالى.
فمن الله علينا :أي بالمغفرة.
ووقانا عذاب السموم :أي وحفظنا من عذاب النار التي يدخل حرها في مسام الجسم.
إنا كنا ندعوه :أي في الدنيا نعبده موحدين له.
إنه هو البر الرحيم :أي المحسن الصادق في وعده الرحيم العظيم الرحمة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر افضال الله تعالى وإنعامه على أوليائه في الجنة إذ قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} أي حق الإيمان الذي هو عقد بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان واتبعتهم1 ذريتهم بإيمان كامل صحيح إلا أنهم لم يبلغوا من الأعمال الصالحة ما بلغه آباؤهم ألحقنا بهم ذريتهم لتقر بذلك أعينهم وتعظم مسرتهم وتكمل سعادتهم باجتماعهم مع ذريتهم. وقوله تعالى: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ2 مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} أي وما نقصنا الآباء من عملهم الصالح من شيء بل وفيناهموه كاملاً غير منقوص ورفعنا إليهم ابناءهم بفضلٍ منا ورحمة. وقوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ3 رَهِينٌ} إخبار منه تعالى أن كل نفس عنده يوم القيامة مرتهنة بعملها تجزى به إلا أنه تعالى تفضل على أولئك الآباء فرفع إلى درجاتهم أبناءهم تفضلا وإحسانا. وقوله عز وجل: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ} أي الآباء والأبناء من سكان الجنة بفاكهة ولحم مما يشتهون من اللحمان. هذا طعامهم أما الشراب فإنهم 4يتنازعون أي يتعاطون في الجنة كأساً من خمر لا لغو فيها. أي لا تسبب هذاياناً من الكلام إذ اللغو الكلام الذي لا فائدة منه. وقوله: {وَلا تَأْثِيمٌ} 5 أي وليس في شربها إثم وقوله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ} أي خدم لهم كأنهم في جمالهم وحسن منظرهم لؤلؤ مكنون في أصدافه.
__________
1 قرأ الجمهور {وَاتَّبَعَتْهُمْ} وقرأ أبو عمرو وحده {وأتبعناهم} وقرأ الجمهور (ذريتهم) بالإفراد، وقرأ ابن عامر بالجمع: {ذرياتهم} مفعول لأتبعناهم، وقرأ نافع {ذرياتهم} الأخيرة بالجمع وقرأ حفص بالإفراد {ذريتهم} كالأولى.
2 {وما ألتناهم} قرأ الجمهور بفتح اللام، وق{وقرأه ابن كثير بكسر اللام، والواو للحال، فالجملة حالية، والمعنى: أن الله تعالى ألحق بهم ذرياتهم في الدرجة من دون أن ينقص من حسناتهم شيئاً.
3 الجملة معترضة بين جملة: {وما ألتناهم} وجملة {وأمددناهم} والجملة تقرير لعدالة الرب تعالى في الحكم بين عباده فيجزي كل نفس بما كسبت، وله أن يتفضل ويرفع من يشاء درجات.
4 أطلق التنازع على التداول والتعاطي والمعنى: أن بعضهم يصب للبعض ويناوله إيثاراً له وكرامة.
5 اللغو: سقط الكلام وهذيانه الصادر عن الخلل في العقل. والتأثيم: ما يؤثم به فاعله من ضرب أو شتم أو تمزيق ثوب.

وقوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} أي عما كان لهم في الدنيا، وما انتهوا إليه في الآخرة من هذا النعيم المقيم. وقالوا مشيرين إلى سبب نعيمهم في الآخرة إنا كنا أي في الدنيا في أهلنا مشفقين أي خائفين من عذب ربنا فترتب على ذلك أن من الله علينا بدخول الجنة ووقانا عذاب السموم الذي هو عذاب النار الذي ينفذ إلى المسام والعياذ بالله تعالى. إنا1 كنا من قبل أي في الدنيا قبل الآخرة ندعوه ونتضرع إليه أن يجيرنا من النار ويدخلنا الجنة إنه هو تعالى البر بأوليائه الرحيم بعباده المؤمنين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وصف كامل لأهل الجنة وهو تقرير في نفس الوقت للبعث والجزاء بذكر ما يكون فيه.
2- فضل الإيمان وكرامة أهله عند الله بإلحاق الأبناء قليل العمل الصالح بآبائهم الكثيري العمل الصالح.
3- تقرير قاعدة أن المرء يوم القيامة يكون رهين كسبه لا يفكه إلا الله عز وجل فمن استطاع أن يفك رقبته فليفعل وذلك بالإيمان والإسلام والإحسان.
4- فضيلة الإشفاق في الدنيا من عذاب الآخرة.
5- فضل الدعاء والتضرع إلى الله تعالى.
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (ا32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)
__________
1 قرأ نافع بفتح همزة أنه على تقدير حرف جر لأنه للتعليل، وقرأ حفص بالكسر. والجملة تعليلية.

شرح الكلمات:
فذكر فما أنت بنعمة ربك :أي فذكر بالقرآن وعظ من أرسلت إليهم من قومك وغيرهم فلست بنعمت ربك عليك بالعقل وكمال الخلق والوحي إليك.
بكاهن ولا مجنون : أي بمتعاطٍ للكهانة فتخبر عن الغيب بواسطة رئي من الجن ولا أنت بمجنون.
نتربص به ريب المنون :أي تنظر به حوادث الدهر من موت وغيره.
أم تأمرهم أحلامهم بهذا :أي أتأمرهم أحلامهم أي عقولهم بهذا وهو قولهم إنك كاهن ومجنون لم تأمرهم عقولهم به.
أم هم قوم طاغون :أي بل هم قوم طاغون متجاوزون لكل حد تقف عنده العقول.
أم يقولون تقوله؟ :أي أختلق القرآن وكذبه من تلقاء نفسه.
فليأتوا بحديث مثله :أي فليأتوا بقرآن مثله يختلقونه بأنفسهم.
إن كانوا صادقين :أي في أن محمداً صلى الله عليه وسلم اختلق القرآن.
معنى الآيات:
بعد ذلك العرض لأحوال أهل النار وأهل الجنة فلم يبق إلا التذكير يا رسولنا فذكر أي قومك ومن تصل إليهم كلمتك من سائر الناس بالقرآن وما يحمل من وعد ووعيد، وما يدعوا إليه من هدىً وطريق مستقيم، فما أنت بنعمة ربك أي بما أولاك ربك من رجاحة العقل وكمال الخلق وكرم الفعال وشرف النبوة بكاهن تقول الغيب بواسطة رئي من الجن، ولا مجنون تخلط القول وتقول بما لا يفهم عنك ولا يعقل. وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ 1نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}2 أي بل يقولون هو شاعر كالنابغة وزهير نتربص به حوادث الدهر حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء ولا ندخل معه في خصومة وجدل قد يغلبنا. وقوله تعالى قل تربصوا3 أي ما دمتم قد رأيتم التربص بي فتربصوا فإني معكم من المتربصين، وقوله تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا} والاستفهام للنفي والتوبيخ والجواب لم تأمرهم عقولهم بهذا بل هم قوم طاغون أي إن طغيانهم هو الذي يأمرهم بما يقولون
__________
1 أم: هي المنقطعة المفسرة ببل والاستفهام قيل للإضراب الإنتقالي من قول إلى آخر والاستفهام إنكاري.
2 روى الطبراني عن قتادة: أنهم كانوا يقولون: تربصوا بمحمد الموت يكفيكموه كما كفاكم شاعر بني فلان وشاعر بني فلان، (والمنون) من أسماء الموت، والريب: أحداث الدهر. والمعنى: ينتظرون به أحداث الدهر المفضية به إلى الموت.
3 أمر الله رسوله أن يقول لهم (تربصوا) بي ريب المنون فإني متربص بكم ما سيحدث لكم من أحداث تهلكون فيها وبهذا: معنى المفاصلة وإنهاء الجدال والمخاصمة.

ويفعلون من الباطل والشر والفساد وقوله أم يقولون تقوله والجواب وإن قالوا تقوله فإن قولهم لم ينبع من عقولهم ولم يصدر من أحلامهم بل عن كفرهم وتكذيبهم بل لا يؤمنون، والدليل على صحة ذلك تحدي الله تعالى لهم بالإتيان بحديث مثله وعجزهم عن ذلك فلذا هم لا يعتقدون ولا يرون أن الرسول تقول القرآن من عنده، وإنما لما لم يؤمنوا به لابد أن يقولوا كلمة يدفعون بها عن أنفسهم فقالوا تقوله فقال تعالى {بَلْ لا يُؤْمِنُونَ1 فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} أي مثل القرآن {إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} في قولهم إن الرسول تقوله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب التذكير والوعظ والإرشاد على أهل العلم بالكتاب والسنة لأنهم خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في أمته.
2- ذم الكهانة بل حرمتها لأنها من أعمال الشياطين، والكاهن من يقول بالغيب.
3- ذم الطغيان فإنه منبع كل شر ومصدر كل فتنة وضلال.
4- حرمة الكذب مطلقا وعلى الله ورسوله وبخاصة لما ينشأ عنه من فساد الدين والدنيا.
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
__________
1 (بل لا يؤمنون) أي: علة لقولهم (تقوله). إذ هم يعرفون تمام المعرفة أنه ليس من قول الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما مما يوحى إليه من الله تعالى وإنما قالوا: تقوله لعدم إيمانهم، ثم تحداهم الحق تعالى بقوله {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} في دعواهم أنه تقوله أي: فليتقولوا مثله!!

شرح الكلمات
أم خلقوا من غير شيء؟ :أي من غير خالقٍ خلقهم وهذا باطل.
أم هم الخالقون؟ :أي لأنفسهم وهذا محال إذ الشيء لا يسبق وجوده.
أم خلقوا السماوات والأرض؟ :أي لم يخلقوهما لأن العجز عن خلق أنفسهم دال على عجزهم عن خلق غيرهم.
بل لا يوقنون :أي أن الله خلقهم وخلق السماوات والأرض كما يقولون إذ لو كانوا موقنين لما عبدوا غير الله ولآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم.
أم عنهم خزائن ربك :أي من الرزق والنبوة وغيرهما فيخصوا من شاءوا بذلك من الناس.
أم هم المسيطرون :أي المتسلطون الغالبون فيتصرفون كيف شاءوا.
أم لهم سلم يستمعون فيه :أي ألهم مرقىً إلى السماء يرقون فيه فيسمعون كلام الملائكة فيأتون به ويعارضون الرسول في كلامه.
فليأتوا بسلطان مبين :أي بحجة بينة تدل على صدقه1 وليس لهم في ذلك كله شيء.
أم له البنات ولكم البنون؟ :أي أله تعالى البنات ولكم البنون إن أقوالكم كلها من هذا النوع لا واقع لها أبداً إنها افتراءات.
أم تسألهم أيها الرسول أجراً :أي على إبلاغ دعوتك.
فهم من مغرم مثقلون :أي فهم من فداحة الغرم مغتمون ومتعبون فكرهوا ما تقول لذلك.
أم عندهم الغيب فهم يكتبون :أي علم الغيب فهم يكتبون منه لينازعوك ويجادلوك به.
أم يريدون كيداً : أي مكراً وخديعة بك وبالدين.
فالذين كفروا هم المكيدون :أي فالكافرون هم المكيدون المغلوبون.
أم لهم إله غير الله :أي ألهم معبود غير الله والجواب: لا.
سبحان الله عما يشركون :أي تنزه الله عما يشركون به من أصنام وأوثان.

معنى الآيات:
بعد أن أمر تعالى رسوله بالتذكير وأنه أهل لذلك لما أفاض عليه من الكمالات وما وهبه من المؤهلات. أخذ تعالى يلقن رسوله الحجج فيذكر له باطلهم موبخاً إياهم به ثم يدمغه بالحق في أسلوب قرآني عجيب لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى. ومنه قوله: {أَمْ خُلِقُوا1 مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} أي أخلقوا من غير خالق {أَمْ هُمُ2 الْخَالِقُونَ} والجواب لم يخلقوا من غير خالق، ولا هم خلقوا أنفسهم إذ الأول باطل فما هناك شيء موجود وجد بغير موجد؟! والثاني محال، إن المخلوق لا يوجد قبل أن يخلق فيكف يخلقون أنفسهم وهم لم يخلقوا بعد؟! ويدل على جهلهم وعمي قلوبهم ما رواه البخاري عن جبير بن مطعم أنه ذكر أنه لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في شأن فداء الأسرى سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب بسورة الطور قال فلما بلغ في القراءة عند هذه الآية {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} كاد قلبي يطير. سمعها وهو مشرك فكانت سبباً في إسلامه فلو فتح القوم قلوبهم للقرآن لأنارها وأسلموا في أقصر مدة. وقوله تعالى: {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ3 وَالْأَرْضَ} والجواب: لا، إذ العاجز عن خلق ذبابة فما دون عن خلق السماوات والأرض وما فيهما أعجز. وقوله تعالى {بَلْ لا يُوقِنُونَ} أن الله هو الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض فقولهم عند سؤال من خلقهم: الله، وعن خلق السماوات والأرض: الله لم يكن عن يقين إذ لو كان عن يقين منهم لما عبدوا الأصنام ولما أنكروا البعث ولما كذبوا بنبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} أي من الأرزاق والخيرات والفواضل والفضائل فيخصوا من شاءوا منها ويحرموا من شاءوا والجواب ليس لهم ذلك فلما إذاً ينكرون على الله ما أتى رسوله من الكمال والإفضال؟ أم هم المسيطرون أي الغالبون القاهرون المتسلطون فيصرفون كيف شاءوا في الملك؟ والجواب: لا، إذاً فلما هذا التحكم الفاسد. وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ4 فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي ألهم مرقى
__________
1 هذا إضراب إنتقالي إلى إبطال نوع آخر من شبهتهم في إنكار البعث إذ السورة مكية، والغالب على هذه السورة معالجة عقيدة البعث الآخر والاستفهام المقدر بعد (أم) تقريري.
2 الاستفهام المقدر هنا إنكاري.
3 الاستفهام تقريري، ويل المقدرة قبل الاستفهام للانتقال وهكذا يورد. قولهم مقررا لهم ثم يكر عليه فيبطله في جميع هذه الجمل المبدوءة بـ أم المنقطعة.
4 السلم: المصعد، وجمعه سلالم قال الشاعر:
ومن هاب أسباب المنية يلقها
ولو رام أسباب السماء بسلم
وقال آخر:
لا تحرز المرء أحجاء البلاد ولا
يبنى له في السماوات السلاليم
أحجاء البلاد: أرجاؤها ونواحيها.

يرقون فيه إلى السماء فيستمعون إلى الملائكة فيسمعون منهم ما يمكنهم أن ينازعوا فيه رسولنا محمداً صلى الله عليه وسلم فليأت مستمعهم بحجة واضحة ظاهرة على دعواه ومن أين له ذلك وقد حجبت الشياطين والجن عن ذلك فكيف بغير الجن والشياطين.
وقوله :{أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} أي لله تعالى البنات ولكم البنون إن جميع ما تقولونه من هذا النوع هو كذب ساقط بارد، وافتراء ممقوت ممجوج إن نسبتهم البنات لله كافية في رد كل ما يقولون ومبطلة لكل ما يدعون فإنهم كذبة مفترون لا يتورعون عن قول ما تحيله العقول، وتتنزه عنه الفهوم. وقوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} أي أتسألهم يا رسولنا عما تبلغهم عنا أجراً فهم لذلك مغتمون ومتعبون فلا يستطيعون الإيمان بك ولا يقدرون على الأخذ عنك. وقوله: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ1 يَكْتُبُونَ} أي أعندهم علم الغيب فهم منهمكون في كتابته لينازعوك في ما عندك ويحاجوك بما عندهم، والجواب من أين لهم ذلك، وقوله: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً} أي أيريدون بك وبدينك كيداً؛ ليقتلوك ويبطلوا دينك فالذين كفروا2 هم المكيدون ولست أنت ولا دينك. ولم يمض عن نزول هذه الآيات طويل زمن حتى هلك أولئك الكائدون ونصر الله رسوله وأعز دينه والحمد لله رب العالمين.
وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} أي ألهم3 إله أي معبود غير الله يعبدونه والحال أنه لا إله إلا الله {فسُبْحَان4َ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزه الله وتقدس عما يشركونه به من أصنام وأوثان لا تسمع ولا تبصر فضلا عن أن تضر أو تنفع.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد بذكر دلائله.
2- تقرير النبوة المحمدية.
3- تسفيه أحلام المشركين.
4- عدم مشروعية أخذ أجرٍ على إبلاغ الدعوة.
5- لا يعلم الغيب إلا الله.
__________
1 حاصل معنى هذا: أنهم لا قبل لهم بإنكار ما جحدوه من البعث والوعيد والنبوة ولا بإثبات ما أثبتوه من الشرك وما وصفوا به الرسول صلى الله عليه وسلم من صفات مستحيلة الوقوع.
2 لم يمض يسير زمن حتى هلك رؤساء الشرك في بدر مصداق قوله تعالى: {هُمُ الْمَكِيدُونَ} كقوله: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه}.
3 الاستفهام إنكاري.
4 نزه تعالى نفسه أن يكون له شريك كما زعم المشركون وادعوا باطلا فأبطل بذلك كل دعاويهم في تأليه غيره تعالى من الأصنام والشياطين.

6- صدق القرآن في أخباره آية أنه وحي الله وكلامه صدقاً وحقاً إنه لم يمض إلا قليل من الوقت أي خمسة عشر عاماً حتى ظهر مصداق قول الله تعالى فالذين كفروا هم المكيدون.
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)
يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
شرح الكلمات:
وإن يروا كسفا من السماءساقطا :أي وإن ير هؤلاء المشركون قطعة من السماء تسقط عليهم.
يقولوا سحاب مركوم :أي يقولوا في القطعة سحاب متراكم يمطرنا ولا يؤمنوا.
فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون :أي فاتركهم إذاً يجاحدون ويعاندون حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون وهو يوم موتهم.
يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئاولا هم ينصرون :أي اتركهم إلى ما ينتظرهم من العذاب ما داموا مصرين على الكفر وذلك يوم لا يغني عنهم مكرهم بك شيئاً من الإغناء.
وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك :أي وإن لهؤلاء المشركين الظلمة عذاباً في الدنيا دون

عذاب يوم القيامة وهو عذاب القحط سبع سنين وعذاب القتل في بدر.
ولكن أكثرهم لا يعلمون :أي أن العذاب نازل بهم في الدنيا قبل يوم القيامة.
واصبر لحكم ربك :أي بإمهالهم ولا يضق صدرك بكفرهم وعنادهم وعدم تعجيل العذاب لهم.
فإنك بأعيننا :أي بمرأى منا نراك ونحفظك من كيدهم لك ومكرهم بك.
وسبح بحمد ربك حين تقوم :أي واستعن على الصبر بالتسبيح الذي هو الصلوات الخمس والذكر بعدها والضراعة والدعاء صباح مساء.
معنى الآيات:
يذكر تعالى من عناد المشركين أنهم لو رأوا العذاب نازلاً من السماء في صورة قطعة كبيرة من السماء ككوكب مثلا لما أذعنوا ولا آمنوا بل قالوا في ذلك العذاب سحاب مركوم الآن يسقى ديارنا فنرتوي وترتوي أراضينا وبهائمنا. إذاً فلما كان الأمر هكذا فذرهم1 يا رسولنا في عنادهم وكفرهم حتى يلاقوا وجهاً لوجه يومهم الذي فيه يصعقون أي يموتون يوم لا يغني عنهم كيدهم2 شيئا ولا هم ينصرون، فيذهب كيدهم ولا يجدون له أي أثر بحيث لا يغنى عنهم أدنى إغناء من العذاب النازل بهم ولا يجدون من ينصرهم، وذلك يوم القيامة. وقوله تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي أنفسهم أي بالكفر والتكذيب والشرك والمعاصي عذباً دون 3 ذلك المذكور من عذاب يوم القيامة وهو ما أصابهم به من سني القحط والمجاعة وما أنزله بهم من هزيمة في بدر حيث قتل صناديدهم وذلوا وأهينوا ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك، ولو علموا لما أصروا على العناد والكفر. وقوله تعالى: واصبر لحكم ربك وقضائه بتأخير العذاب عن هؤلاء المشركين، ولا تخف ولا تحزن فإنك بأعيننا أي بمرأى منا نراك ونحفظك، وجمع لفظ العين على أعين مراعاة للنون العظمة وهو المضاف إليه (بأعيننا) وقوله {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي قل سبحان الله وبحمده حين تقوم4 من نومك ومن مجلسك
__________
1 يقال في مثل هذا: هو منسوخ بآية السيف.
2 هو ما كانوا يكيدون للرسول صلى الله عليه وسلم وما يمكرون به.
3 جائز أن يكون عذاب القبر.
4 شاهده ما رواه الترمذي بإسناد حسن قوله صلى الله عليه وسلم "من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذاك".

ومن الليل أيضاً فسبحه بصلاة المغرب والعشاء والتهجد وكذا إدبار النجوم أي بعد طلوع الفجر فسبح بصلاة الصبح وغيرها.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان عناد كفار قريش ومكابرتهم في الحق ومجاحدتهم فيه.
2- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وهي للدعاة بعده أيضا.
3- تقرير وخامة عاقبة الظلم في الدنيا قبل الآخرة.
4- وجوب الصبر على قضاء الرب وعدم الجزع.
5- مشروعية التسبيح عند القيام من1 النوم بنحو: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير والحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور.
__________
1 يرى ابن مسعود رضي الله عنه أن قوله: (حين تقوم) شامل لكل قيام يقومه من أي مكان.

سورة النجم
...
سورة النجم
مكية
وآياتها اثنتان وستون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ

نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
شرح الكلمات:
والنجم إذا هوى :أي والثريا إذا غابت بعد طلوعها.
ما ضل صاحبكم :أي ما ضل محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق الهدى.
و ما غوى :أي وما لابس الغى وهو جهل من اعتقاد فاسد.
وما ينطق عن الهوى :أي عن هوى نفسه أي ما يقوله عن الله تعالى لم يصدر فيه عن هوى نفسه.
إن هو إلا وحي يوحى :أي ما هو إلا وحي إلهي يوحى إليه.
علمه شديد القوى : أي علمه ملك شديد القوى وهو جبريل عليه السلام.
ذو مرةٍ : أي لسلامة في جسمه وعقله فكان بذلك ذا قوة شديدة.
فاستوى وهو بالافق الأعلى :أي استقر وهو بأفق الشمس عند مطلعها على صورته التي خلقه الله عليها فرآه النبي صلى الله عليه وسلم وكان بجياد قد سد الأفق إلى المغرب وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي طلب من جبريل أن يريه نفسه في صورته التي خلقه الله عليها .
ثم دنا فتدنى :أي وقرب منه فتدلى أي زاد في القرب.
فكان قاب قوسين أو أدنى :أي فكان في القرب قاب قوسين أي مقدار قوسين.
فأوحى إلى عبده ماأوحى :أي فأوحى الله تعالى إلى عبده جبريل ماأوحاه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ما كذب الفؤاد ما رأى :أي ماكذب فؤاد النبي ما رأى ببصره من صورة جبريل عليه السلام:
أفتمارونه على ما يرى :أي أفاتجادلونه أيها المشركون على مايرى من صورة جبريل.

ولقد رآه نزلة أخرى :أي على صورته مرة أخرى وذلك في السماء ليلة أسري به.
عند سدرة المنتهى :وهي شجرة نبق عن يمين العرش لا يتجاوزها أحد من الملائكة.
عندها جنة المأوى :أي تأوى إليها الملائكة وأرواح الشهداء والمتقين أولياء الله.
إذ يغشى السدرة ما يغشى :أي من نور الله تعالى ما يغشى.
ما زاغ البصر وما طغى :أي ما مال بصر محمد يميناً ولا شمالاً، ولا ارتفع عن الحد الذي حدد له.
لقد رأى من آيات ربه الكبرى :أي رأى جبريل في صورته ورأى رفرفاً أخضر سد أفق السماء.
معنى الآيات:
قوله تعالى {وَالنَّجْمِ1} إلى قوله {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} يقرر به تعالى نبوة محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وقد أقسم بالنجم إذا هوى وهو نجم الثريا إذا غاب في الأفق على أنه ما ضل محمد صاحب قريش الذي صاحبته منذ ولادته ولم يغب عنها ولم تغب عنه مدة تزيد على الأربعين سنة فهي صحبة كاملة ما ضل عن طريق الهدى وهم يعرفون هذا، وما غوى2 أيضا أية رواية وما لابسه جهل في قول ولا عمل فغوى به. وما ينطق بالقرآن وغيره مما يقوله ويدعوا إليه عن هوى3 نفسه كما قد يقع من غيره من البشر إن هو إلا وحي يوحى أي ما هو أي الذي ينطق به ويدعوا إله ويعمله إلا وحي يوحى إليه. علمه إياه ملك شديد القوى4 ذو مرة أي سلامة عقل وبدن وكان بذلك قوياً روحياً وعقلياً وذاتياً وهو جبريل عليه والسلام وقوله: {فَاسْتَوَى} أي جبريل {وهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} ومعنى استوى استقر {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } أي تدلى فدنا أي قرب شيئاً فشيئاً حتى كان من الرسول صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أي قدر قوسين والقوس معروف آلة للرمي {أَوْ أَدْنَى} أي من قاب قوسين5.
__________
1 أصل النجم: الطلوع والظهور يقال: نجم السن: إذا طلع، ونجم السر إذا ظهر وأطلق النجم بالغلبة على الثريا. الهوي: السسقوط يقال: هوى يهوي هوياً كمضى يمضي مضياً. وهوى يهوي هوياً: إذا خسر للسجود، ومن الحب يقال: هوى يهوي هوى كرضي يرضى رضاً: إذا أحب.
2 الغي: ضد الرشد، والغواية مثله: وهو فساد الرأي وتعاطي الإنسان الباطل من الأقوال والأفعال مما لا خير فيه البتة.
3 الهوى: ميل النفس إلى ما تحبه أو تحب أن تفعله دون اقتضاء العقل السليم الحكيم له وفعله: هوى يهوي كرضي يرضى هواىً.
4 (شديد القوى) صفة لموصوف محذوف أي: علمه ملك شديد القوى وهو جبريل إجماعا، والمرة: تطلق على قوة الذات وعلى متانة العقل معاً، وعليهما كان جبريل عليه السلام.
5 أي: مقدار قوسين.

وقوله تعالى {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى1} أي فأوحى الله تعالى إلى جبريل ما أوحى إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقوله {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} أي ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه محمد ببصره وهو جبريل في صورته التي خلقه الله تعالى عليها ذات الستمائة جناح طول الجناح ما بين المشرق والمغرب. وقوله تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} هذا خطاب للمشركين المنكرين لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم ينكر تعالى ذلك عليهم بقوله {أَفَتُمَارُونَهُ} أي تجادلونه وتغالبونه أيها المشركون على ما يرى ببصره. {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى2} أي مرة أخرى {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى3} وذلك ليلة أسرى به صلى الله عليه وسلم، ووصفت هذه السدرة4 وهي شجرة النبق بأن أوراقها كآذان الفيلة وأن ثمرها كغلال هجر قال فلما غشيها من أمر الله تعالى ما غشيها تغيرت فما أحد من خلق الله تعالى يقدر أن ينعتها من حسنها، وسميت سدرة المنتهى لانتهاء علم كل عالم من الخلق إليها أو لكونها عن يمين العرش لا يتجاوزها أحد من الملائكة. وقوله {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} أي الجنة التي تأوى إليها الملائكة وأرواح الشهداء، والمتيقن أولياء الله تعالى.
وقوله تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى5} أي من نور الله تعالى، والملائكة من حب الله مثل الغربان حين تقفز على الشجر كذا روى ابن جرير الطبري. وقوله {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} أي ما مال بصر محمد يميناً ولا شمالاً ولا ارتفع فوق الحد الذي حدد له. {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ6 رَبِّهِ الْكُبْرَى} أي رأى جبريل في خلقه الذي يكون فيه في السماء ورأى رفرفاً أخضر قد سد الأفق ورأى من عجائب خلق الله ومظاهر قدرته وعلمه ما لا سبيل إلى إدراكه والحديث عنه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير النبوة لمحمد وإثباتها بما لا مجال للشك والجدال فيه.
2- تنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن القول بالهوى أو صدور شيء من أفعاله أو أقواله من اتباع الهوى.
3- وصف جبريل عليه السلام.
4- إثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل وعلى صورته التي يكون في السماء عليها مرتين.
5- تقرير حاثة الإسراء والمعراج وإثباتها للنبي صلى الله عليه وسلم.
6- بيان حقيقة سدرة المنتهى.
__________
1 (ما أوحى) إبهام من أجل التفخيم أي: أوحى إليه شيئاً عظيماً.
2 (نزلة) على وزن فعلة من النزول دال على المرة أي: رآه إذ نزل إليه مرة أخرى.
3 السدر شجر معروف صحراوي فيه ثلاث ميزات: ظل ظليل وثمر لذيذ ورائحة ذكية.
4 هذا الوصف رواه مسلم في صحيحه.
5 في قوله (ما يغشى) من التفخيم ما فيه.
6 جملة: (لقد رأى من آيات ربه) تذليل أي: رأى آيات أخرى غير سدرة المنتهى وجنة المأوى وما غشي السدرة من البهجة والجلال والآيات: دلائل عظمة الله تعالى.

أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)
شرح الكلمات:
أفرأيتم اللات والعزى :أي أخبروني عن أصنامكم التي اشتققتم لها أسماء من أسماء الله وأنثتموها.
ومناة الثالثة الأخرى1 :وجعلتموها بناتٍ لله، افتراء على الله وكذباً عليه.
ألكم الذكر وله الأنثى :أي أتزعمون أن لكم الذكر الذي ترضونه لأنفسكم ولله الأنثى التي لا ترضونها لأنفسكم.
تلك إذاً قسمة ضيزى :أي قسمتكم هذه إذاً قسمة ضيزى أي جائزة غير عادلة ناقصة غير تامة.
إن هي إلا أسماء سميتموها :أي ما اللات والعزى ومناة الثالة الأخرى إلا أسماء لا حقيقة لها.
أنتم وآباؤكم :أي سميتموها بها أنتم وآباؤكم.
ما أنزل الله بها من سلطان :أي لم ينزل الله تعالى وحياً يأذن في عبادتها.
إن يتبعون إلا الظن :أي ما يتبع المشركون في عبادة أصنامهم إلا الظن والخرص والكذب.
__________
1 هدمها خالد بن الوليد بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما شرع في هدمها قال لها:
يا عز كفرانك لا سبحانك
إني رأيت الله قد أهانك

وما تهوى الأنفس : أي وما يتبعون إلا ما تهواه نفوسهم وما تميل إليه شهواتهم.
أم للإنسان ما تمنى :أي بل أللإنسان ما تمنى والجواب لا ليس له كل ما يتمنى.
فلله الآخرة والأولى :أي إن الآخرة والأولى كلاهما لله يهب منهما ما يشاء لمن يشاء.
وكم من ملك في السماوات :أي وكثير من الملائكة في السماوات.
لا تغني شفاعتهم شيئاً :أي لو أرادوا أن يشفعوا لأحد حتى يكون الله قد أذن لهم ورضي للمسموح له بالشفاعة.
معنى الآيات:
بعد أن ذكر تعالى مظاهر قدرته وعظمته وعلمه وحكمته في الملكوت الأعلى جبريل وسدرة المنتهى وما غشاها من نور الله وما أرى رسوله من الآيات الكبرى، خاطب المشركين بقوله {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ1 وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} أي أعميتم فرأيتم هذه الأصنام أهلاً لأن تسوى بمن له ملكوت السموات والأرض وعبدتموها معه على حقارتها ودناءتها، وأزددتم عمىً فاشتققتم لها من أسماء الله تعالى أسماء فمن العزيز اشتققتم العزى ومن الله اشتققتم اللات، وجعلتموها بنات لله افتراء على الله بزعمكم أنها تشفع لكم عند الله. أخبروني ألكم الذكر2 لأنكم تحبون الذكران وترضون بهم لأنفسكم، وله الأنثى لأنكم تكرهونها ولا ترضون بها لأنفسكم، إذا كان الأمر على ما رأيتم فإنها قسمة ضيزى3 أي جائزة غير عادلة وناقصة غير تامة فكيف ترضونها لمن عبدتم الأصنام من أجل التوسل بها إليه ليقضي حوائجكم؟ إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم. إن أصنامكم أيها المشركون لا تعدو كونها أسماء لآلهة لا وجود لها ولا حقيقة في عالم الواقع إذ لا إله إلا الله، أما اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى فلم تكن آلهة تحيي وتميت وتعطي وتمنع وتضر وتنفع. إن هي أي ما هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من
__________
1 انتقل الكلام من تقرير النبوة المحمدية إلى تقرير الإلهية الربانية، واللات أصله: لات فأدخلوا عليه ال فصار اللات، وهي صنم لثقيف كانت قريش والعرب يعبدونه، وقيل: هو وصف لرجل كان يلت السوق للحجاج ثم صنع له صنم تمثالاً وألهته ثقيف وقريش وجمهور العرب والعزى اسم مشتق من العز وهي فعلى ككبرى: صنم عليه بناء كان بوادي نخلة فوق (ذات عرق) ميقات أهل العراق قريباً من الطائف ومناة: صنم كان لخزاعة كان بالمشلل حذو قديد بين مكة والمدينة وكان الأوس والخزرج يهلون منه ويطوفون به كالسعي بين الصفا والمروة.
2 تقديم الجار والمجرور في (ألكم الذكر) للاهتمام بالاختصاص.
3 (ضيزى) اسم كدفلي وشعرى، وهو مشتق من ضاز يضيز ضيزاً: إذا ظلم وتعدى وبخس وانتقص. قال الشاعر:
ضازت بنو أسد بحكمهم
إذ يجعلون الرأس كالذنب

سلطان أي لم ينزل بها وحياً يأذن بعبادتها. وهنا التفت الجبار جل جلاله في الخطاب عنهم وقال {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} أي إن هؤلاء المشركين ما يتبعون في عبادة هذه الأصنام إلا الظن، فلا يقين لهم في صحة عبادتها. كما يتبعون في عبادتها {وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} أي هوى أنفسهم {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} فبين لهم الصراط السوي فأعرضوا عنه وهو الحق من ربهم. وتعلقوا بالأماني الكاذبة وأن أصنامهم تشفع لهم، أم للإنسان ما تمنى1 والجواب ليس له تمنى، إذ لله الآخرة والأولى يعطي منها ما يشاء ويمنع ما يشاء وكم من2 ملك في السموات لا يعدون كثرة لا تغني شفاعتهم شيئاً من الإغناء ولو قل إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء أن يشفع من الملائكة وغيرهم، ويرضى عن المشفوع له، وإلا فلا شافع ولا شفاعة تنفع عند الله الملك الحق المبين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التنديد بالشرك والمشركين وتسفيه أحلامهم لعبادتهم أسماء لا مسميات لها في الخارج إذ تسمية حجراً إلهاً لن تجعله إلهاً.
2- بيان أن المشركين في كل زمان ومكان ما يتبعون في عبادة غير الله إلا أهواءهم.
3- بيان أن الإنسان لا يعطى بأمانيه، ولكن بعمله وصدقه وجده فيه.
4- بيان أن الدنيا كالآخرة لله فلا ينبغي أن يطلب شيء منها إلا من الله مالكها.
5- كل شفاعة ترجى فهي لا تحقق شيئاً إلا بتوفر شرطين الأول أن يأذن الله للشافع في الشفاعة والثاني أن يكون الله قد رضي للمشفوع له بالشفاعة والخلاصة هي: الإذن للشافع والرضا عن المشفوع.
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
__________
1 الاستفهام المقدر بعد أم إنكاري المقصود منه إبطال حصول الإنسان على ما يتمناه.
2 هذه الجملة تأكيد لإبطال حصول الإنسان على ما يتمناه وإبطال لاعتقاد المشركين في أن آلهتهم تشفع لهم عند الله عز وجل.

شرح الكلمات:
إن الذين لا يؤمنون بالآخرة :أي إن الذين لا يؤمنون بالبعث والحياة الآخرة.
ليسمون الملائكة تسمية الأنثى :أي ليطلقون على الملائكة أسماء الإناث إذ قالوا بنات الله.
وما لهم به من علم :أي وليس لهم بذلك علم من كتاب ولا هدى من نبي ولا عقل سوي.
إن يتبعون إلا الظن1 :أي في تسميتهم الملائكة إناثاً إلا مجرد الظن، والظن لا تقوم به حجة ولا يعطى به حق.
فأعرض عمن تولى عن ذكرنا :أي القرآن وعبادتنا.
ولم يرد إلا الحياة الدنيا : ولم يرد من قوله ولا عمله إلا ما يحقق رغائبه من الدنيا.
ذلك مبلغهم من العلم :أي ذلك الطلب للدنيا نهاية علمهم إذ آثروا الدنيا على الآخرة.
معنى الآيات:
لما ندد تعالى بالمشركين الذين جعلوا من الأصنام والأوهام والأماني آلهة وجادلوا دونها وجالدوا ذكر ما هو علة ذلك التخبط والضلال فقال: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} دار السعادة الحقة أو الشقاء {لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} فلو آمنوا بالآخرة لما سموا الملائكة بنات الله لأن المؤمن بالآخرة يحاسب نفسه على كل قول وعمل له تبعة يخشى أن يؤخذ بها بخلاف الذي لا يؤمن بالآخرة فإنه يقول ويفعل ما يشاء لعدم شعوره بالمسؤولية والتبعة التي قد يؤخذ بها فيهلك ويخشى كل شيء وهو تعليل سليم حكيم.
وقوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ 2عِلْمٍ} أي ليس لهم في ادعائهم أن الملائكة بنات الله أي علم يعتد به إن يتبعون فيه إلا الظن والظن أكذب الحديث، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً وبناء على هذا أمر تعالى رسوله أن يعرض عمن تولى منهم عن الحق بعد معرفته وعن الهدى بعد مشاهدته فقال تعالى {فَأَعْرِضْ3 عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} أي القرآن والإيمان والتوحيد والطاعة، ولم يرد بقوله وعمله واعتقاده إلا الحياة الدنيا إذ هو لا يؤمن بالآخرة فلذا هو قد كيف حياته بحسب
__________
1 حذر النبي صلى الله عليه وسلم من القول بالظن وكذا العمل به ففي الصحيحين قال "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث"!!
2 نفي العلم عنهم حجة قاطعة على ادعائهم لأن ما لا يثبت بالعلم النقلي أو العقلي لا تقوم به حجة ولا يثبت به شيء وقد وبخهم تعالى في قوله: { أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ}؟
3 قيل نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث، والوليد بن المغيرة، والآية نزلت قبل الأمر بالجهاد.

الدنيا فكل تفكيره في الدنيا، وكل عمله لها فيصبح بذلك أشبه بالآلة منه بالحيوان. وتصبح الحياة معه عميقة الفائدة فلذا يجب الإعراض عنه وتركه إلى أن يأذن الله فيه بشيء.
وقوله تعالى {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ1 مِنَ الْعِلْمِ} أي هذا الطلب للدنيا هو ما انتهى إليه علمهم فلذا هم آثروها عن الآخرة التي لم يعلموا عنها شيئاً.
وقوله تعالى في خطاب رسوله { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ2 عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} أي إن ربك أيها الرسول هو أعلم منك ومن غيرك بمن ضل عن سبيله قدراً وأزلاً فضل في الحياة الدنيا أيضاً، وهو أعلم بمن اهتدى، قضاء وقدراً وواقعاً في الحياة الدنيا وسيجزى كلاً بما عمل من خير أو شر فلا تأس يا رسولنا ولا تحزن وفوض الأمر إلينا فإنا عالمون ومجازون كل عامل بما عمل في دار الجزاء.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- أكثر الأمراض مردها إلى قلب لا يؤمن بالآخرة.
2- أكثر الفساد في الأرض هو نتيجة الجهل وعدم العلم اليقيني.
3- التحذير من الماديين فإنهم شر وخطر وواجب الإعراض عنهم لأنهم شر الخليقة.
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
__________
1 قال الفراء: صغرهم وازدرى بهم أي: ذلك قدر عقولهم ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة.
2 هذه الجملة تعليل لجملة: (فأعرض عمن تولى) والجملة متضمنة زيادة على التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم الوعد والوعيد فالوعد للمهتدين من الرسول والمؤمنين والوعيد للمشركين الضالين عن سبيل الهدى فإن جزاءهم الشقاء في دار الشقاء.

شرح الكلمات:
ولله ما في السموات وما في الأرض :أي خلقاً وملكاً وتصرفاً.
ليجزي الذين أساءوا بما عملوا :ليعاقب الذي أساءوا بما عملوا من الشرك والمعاصي.
ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى :ويثيب الذين أحسنوا في إيمانهم وعملهم الصالح بالجنة.
الذين يجتنبون كبائر الإثم :أي يتجنبون كبائر الذنوب وهو كل ذنب وضع له حد أو لعن فاعله أو توعد عليه بالعذاب في الآخرة.
والفواحش الا اللمم :أي الذنوب القبيحة كالزنا واللواط وقذف المحصنات والبخل واللمم صغائر الذنوب التي تكفر باجتناب كبائرها.
هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض :أي خلق أباكم آدم من تراب الأرض.
وإذا أنتم أجنة في بطون أمهاتكم :أي وأنتم في أرحام أمهاتكم لم تولدوا بعد.
فلا تزكوا أنفسكم :أي فلا تمدحوها على سبيل الفخر والإعجاب.
هو أعلم بمن اتقى :أي منكم بمن اتقى منكم وبمن فجر فلا حاجة إلى ذكر ذلك منكم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير ربوبيته تعالى المطلقة لكل شيء إذ تقدم في السياق قوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} وهنا قال عز من قائل {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} خلقاً وملكاً وتصرفاً وتدبيراً فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء هداية تابعة لحكمة وإضلال كذلك يدل عليه قوله تعالى {لِيَجْزِيَ1 الَّذِينَ أَسَاءُوا} أي إلى أنفسهم بما عملوا من الشرك والمعاصي يجزيهم بالسوء وهي جهنم {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا} إلى أنفسهم فزكوها وطهروها بالإيمان والعمل الصالح يجزيهم بالحسنى2 التي هي الجنة وقوله { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ3 وَالْفَوَاحِشَ} بين فيه وجه إحسان المحسنين إلى أنفسهم حين طهروها بالإيمان وصالح الأعمال ولم يلوثوها بأوضار كبائر الإثم من كل ما توعد فاعله بالنار أو بلعن أو إقامة حدٍ، أو غضب الرب.
__________
1 هذه اللام هي لام التعليل إذ أوجد الله تعالى العوالم العلوية والسفلية من أجل الإنسان، وأوجد الإنسان للذكر والشكر فمن ذكر وشكر وهو المحسن فله الجنة ومن نسي وكفر فله السوأى وهي النار.
2 أي: بالمثوبة الحسنى وهي الجنة، والحسنى صفة لموصوف محذوف وهي المثوبة.
3 (الذين يجتنبون) الخ صفة للذين أحسنوا أي: أحسنوا بفعل الواجبات واجتنبوا كبائر الذنوب والسيئات حتى لا تتلوث أرواحهم بعد طهرها بالأعمال الصالحة.

والفواحش من زنا ولواط وبخل وقوله {إِلَّا اللَّمَمَ1 إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} أي لكن اللمم يتجاوز عنه وهو ما ألم به المرء وتاب منه أو فعله في الجاهلية ثم أسلم، وما كان من صغائر الذنوب كالنظرة والكلمة والتمرة. وقد فسر بقول الرسول صلى الله عليه وسلم إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدركه ذلك لا محالة فزنا العينين النظر وزنا اللسان المنطق والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه. فمغفرة الله واسعة تشمل كل ذنب تاب منه فاعله كما تشمل كل ذنب من الصغائر.
وقوله تعالى {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} أعلم بضعفنا وغرائزنا وحاجاتنا وعجزنا منا نحن بأنفسنا ولذا تجاوز لنا عن اللمم الذي نلم به بحكم العجز والضعف، فله الحمد والمنة. وقوله: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ2} ينهى الرب تعالى عباده المؤمنين عن تزكية المرء نفسه بإدعاء الكمال والطهر الأمر الذي يكون فخراً وإعجاباً والإعجاب بالنفس محبط للعمل كالرياء والشرك فقوله {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} أي لا تشهدوا عليها بأنها زكية بريئة من الذنوب والمعاصي وقوله {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} أي أن الله أعلم بمن اتقى منكم ربه فخاف عقابه فأدى الفرائض واجتنب المحرمات منا ومن المتقى نفسه فلذا لا تمدحوا أنفسكم له فإنه أعلم بكم من أنفسكم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير ربوبية الله تعالى لكل شيء وهي مستلزمة لإلوهيته.
2- تقرير حرية إرادة الله يهدي من يشاء ويضل ويعذب من شاء ويرحم إلا أن ذلك تابع لحكم عالية.
3- تقرير قاعدة الجزاء من جنس العمل.
4- تقرير قاعدة أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر.
5- حرمة تزكية النفس وهي مدحها والشهادة عليها بالخير والفضل والكمال والتفوق.
__________
1 عن ابن عباس: هو الرجل يلم بالذنب ثم ينزع عنه، واستشهد قائلا:
إن تغفر اللهم تغفر جماً
وأي عبد لك ما ألما
2 في الآية دليل على كراهة تزكية العبد نفسه أو تزكية غيره ففي الحديث الصحيح: "أنه لم يرض لهم تسمية برة وقرأ: {فلا تزكوا أنفسكم} الآية: وقال سموها زينب" وفي الصحيح "أنه سمع رجلاً يمدح آخر فقال له: ويلك قطعت عنق صاحبك –مرارا- إذا كان أحدكم مادحاً صاحبه لا محالة فليقل: أحسب فلاناً والله حسيبه ولا أزكي على الله أحداً أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك" روى مسلم "أن رجلاً أتى عثمان فأثنى عليه في وجهه، فجعل المقداد بن الأسود يحثو التراب في وجهه ويقول: أمرنا رسول الله أن نحثوا التراب في وجوه المداحين".

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)
وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)
شرح الكلمات:
أفرأيت الذي تولى :أي عن الإسلام بعد ما قارب أن يدخل فيه.
أعطى قليلاً وأكدى :أي أعطى من زعم أنه يحتمل عنه عذاب الآخرة أعطاه ما وعده من المال ثم منع.
أعنده علم الغيب فهوى يرى : أي يعلم أن غيره يتحمل عنه العذاب والجواب لا.
أم لم ينبأ بما في صحف موسى وابراهيم الذي وفى :أي أم بل لم يخبر بما ورد في الصحف المذكورة وهي التوراة وعشر صحف كانت لإبراهيم عليه السلام.
ألا تزر وازرة وزر أخرى :أي أنه لا تحمل نفس مذنبة ذنب غيرها.
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى :أي من خير وشر، وليس له ولا عليه من سعي غيره شيء.
وأن سعيه سوف يرى :أي يبصر يوم القيامة ويراه بنفسه.

ثم يجزاه الجزاء الأوفى :أي الأكمل التام الذي لا نقص فيه.
إن إلى ربك المنتهى :أي المرجع والمصير إليه ينتهي أمر عباده بعد الموت ويجازيهم.
وأنه أضحك وأبكى :أي أفرح من شاء فأضحكه، وأحزن من شاء فأبكاه.
وإنه أمات وأحيا :أمات في الدنيا وأحيا في الآخرة.
وإنه خلق الزوجين :أي الصنفين الذكر والأنثى.
من نطفة إذا تمنى :أي من منى إذا تمنى تصب في الرحم.
وأن عليه النشأة الأخرى :أي الخلقة الثانية للبعث والجزاء.
وأنه هو أغنى واقنى :أي وأنه هو وحده أغنى بعض الناس بالكفاية، واقنى بعض الناس بالمال المقتنى المدخر للقنية.
وأنه هو رب الشعرى :أي خالقها ومالكها وهي كوكب خلف الجوزاء عبده المشركون.
وأهلك عادا الأولى :أي قوم هود عليه السلام.
وثمودا فما أبقى :أي أهلكها أيضا فلم يبق أحداً وهم قوم صالح.
وقوم نوح من قبل :أي وأهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود وقوم لوط.
والمؤتفكة أهوى :أي وقرى قوم لوط أسقطها بعد رفعها إلى السماء مقلوبة إلى الأرض إذ الائتفاك الانقلاب.
فغشاها ما غشى :أي بالعذاب ما غشى حيث جعل عاليها سافلها وأمطر عليها حجارة من سجيل.
معنى الآيات:
إن هذه الآيات ترسم صورة لقرشي جاهل هو الوليد بن المغيرة إذ قدر له أن استمع إلى قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهش لها ودعاه الرسول فأسلم أو أوشك أن يسلم فعلم به أحد المشركين من شياطينهم فجاءه فعيره بإسلامه وترك دين آبائه فاعتذر له الوليد بأنه يخاف عذاب الله فقال له الشيطان القرشي وكان فقيراً والوليد غنياً أعطني كذا من المال شهرياً أو أسبوعياً أو سنوياً وأنا أتحمل عنك العذاب الذي تخافه وعد إلى دينك واثبت عليه فوافق الوليد على العرض وأخذ

يعطيه المال. ثم أكدى1 أي قطع عنه ما كان يعطيه ومنعه. فأنزل الله تعالى فيه هذه الآيات تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليماً وتحذيراً لكل من تبلغه ويقرأها أو تقرأ عليه فقال تعالى في أسلوب حمل فيه السامع على التعجب: { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} أي عن الإسلام بعد أن قارب الوصول إليه والدخول فيه، {وَأَعْطَى قَلِيلاً} أي من المال للشيطان المشرك الذي اتفق معه على أن يتحمل عليه العذاب مقابل مال يعطيه إياه أقساطاً، {وَأَكْدَى} أي قطع ومنع لأن الذي يحفر بئراً في أرض أحياناً تصادفه كدية من الأرض الصلبة يعجز عن الحفر فينقطع عن الحفر ويمتنع كذلك الوليد أعطى ثم امتنع وهو معنى اكدى أي انتهى إلى كدية من الأرض الصلبة.
وقوله تعالى: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى2} أي أن المرء في إمكانه أن يتحمل عذاب غيره يوم القيامة والجواب لا علم غيب عنده لا من كتاب ولا من سنة، أم لم ينبأ بما في صحف موسى وهي التوراة وإبراهيم الذي وفى لربه في كل ما عهد به إليه من ذبح ولده حيث تله للجبين ليذبحه، ومن بناء البيت والهجرة والختان بالقدوم إلى غير ذلك من التكاليف الشاقة. أي ألم ينبأ أي يخبر هذا الرجل الجاهل بما في صحف موسى بن عمران نبي بني إسرائيل وإبراهيم أبو الأنبياء ثم بين تعالى ما تضمنته تلك الصحف من علم فقال:
* ألا تزر3 وازرة وزر أخرى أن لا تحمل نفس مذنبة ذنب نفس أخرى.
* وأن ليس4 للإنسان من ثواب يوم القيامة إلا ما سعى في تحصيله بنفسه وهذا لا يتعارض مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ولد صالح يدعو له أو صدقة جارية أو علم ينتفع به إذ هذه الثلاثة أمور من عمل الإنسان وسعيه الولد انجبه ورباه و الصدقة الجارية أوقفها بنفسه والعلم تعلمه وبثه في الناس وعلمه فالجميع من سعيه وكسبه.
وأن سعيه أي عمله في الدنيا من خير و شر سوف يرى علانية ويجزى به خيراً كان أو شراً والجزاء الأوفى أي الأكمل الأتم.
__________
1 يقال: أكدى الكافر وأجبل إذا بلغ في حفر كدية أو جبلا فلا يمكنه أن يحفر, ثم استعمل فيمن أعطى ولم يتمم, ولمن طلب شيئا ولم يبلغ آخره. قال الحطيئة:
أعطى قليلا ثم أكدى عطاءه
ومن يبذل المعروف في الناس يحمد
2 الاستفهام إنكاري أي: ينكر عليه ما ادعاه من تحمل العذاب عن غيره, وفيه معنى التعجب فيما ادعاه كأنه يعلم الغيب ويشاهده, وليس له ذلك.
3(أن لا تزر وازرة) أن: هي المخففة من الثقيلة, وموضعها جائز أن يكون حرفا بدلا من (ما) في قوله (بما في صحف) وجائز أن يكون في موضع رفع على إضمار: هو, وهو ما يفهم من التفسير.
4 يظهر أن هذا العام خصصته السنة فقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم الحج والعمرة عن لبغير كما أجاز الصدقة كذلك وقد يقال إن الذي يحج أو يتصدق عن غيره) هو بمثابة متوسل إلى الله تعالى طالب منه المغفرة والرحمة فإذا استجاب الله تعالى له غفر للميت ورحمه وهذا جزاء كل عمل صالح.

* وأن إلى ربك المنتهى أي إليه تصير أمور عباده بعد الموت ويحكم فيها ويجزيهم بها.
* وأنه هو أضحك1 وأبكى أي أفرح من شاء وأحزن فضحك الفرح وبكى الحزن. أضحك أهل الجنة وأبكى أهل النار. زيادة على من أفرح في الدنيا ومن أحزن.
* وأنه أمات و أحيا أمات عند نهاية أجل العبد وأحياه في قبره ويوم نشره وحشره و أحيا بالإيمان وأمات بالكفر وأمات بالقحط و أحيا بالمطر.
* وأنه خلق الزوجين أي الصنفين الذكر والأنثى من سائر الحيوانات من نطفة أي قطرة المني إذا تمنى2 أي تصب في الأرحام.
* وأن عليه تعالى النشأة الأخرى أي هو الذي يقوم بها فيحيي الخلائق بعد موتهم يوم القيامة.
* وأنه هو أغنى وأقنى أي أغنى بعض الناس فسد حاجتهم وكفاهم مؤونتهم، وأقنى آخرين أعطاهم مالاً كثيراً فاقتنوه قنيةً.
* وأنه هو رب الشعرى3 ذلك الكوكب الذي يطلع خلف الجوزاء فالله خالقه ومالكه ومسخره وقد عبده الجاهلون واتخذوه رباً وإلهاً وهو مربوب مألوه.
* { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ4 عَاداً الْأُولَى} قوم هود أرسل عليهم ريحاً صرصراً ما أتت على شيء إلا جعلته كالرميم، عاد تلك الأمة القائلة من أشد منا قوة دمر الله عليهم فأهلكهم أجمعين.
* وثمودا5 فما أبقى أي وأهلك ثمود قوم صالح بالحجر فما أبقى منهم أحداً.
* وقوم نوح من قبل عاد وثمود أهلكهم إنهم كانوا هم أظلم من غيرهم وأطغى.
* والمؤتفكة أي6 قرى قوم لوط سدوم وعمورة أهلكهم فرفع تلك القرى إلى عنان السماء ثم أهوى بها إلى الأرض وأرسل عليهم حجارة من طين من سجيل فغشى تلك المدن من العذاب الأليم ما غشى7 عذاب يعجز الوصف عنه هذا هو الله رب العالمين الذي اتخذ الجهال له أنداداً فعبدوها معه.
__________
1 قيل: لا يوجد في المخلوقات من يضحك ويبكي إلا الإنسان وقيل إن القرد يضحك ولا يبكي، وإن البعير يبكي ولا يضحك. والله أعلم.
2 قيل: سميت مني: مني لأنها تمنى فيها الدماء أيام التشريق وهو كذلك.
3 قال القرطبي: اختلف في من كان يعبد كوكب الشعرى فقيل: كان تعبده حمير وخزاعة وقيل: إن أول من عبده أبو كبشة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أمهاته، ولذا كان المشركون يسمون النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي كبشة لما خالفهم ودعاهم إلى التوحيد.
4 قرأ الجمهور (عاداً) بإظهار تنوين عاد، وقرأ ورش (عاداً الأولى) بحذف همزة الأولى بعد نقل حركتها إلى اللام المعرفة وإدغام نون التنوين من عاد في لام (لولى).
5 قرأ الجمهور (وثموداً) بالتنوين وقرأ حفص (وثمود) وقرأ حفص وحمزة بدون تنوين على إرادة اسم القبيلة.
6 نصب المؤتفكة، على الاشتغال وأهوى. أي جعلها هاوية والإهواء: الإسقاط وجيء بصلتها من مادة وصيغة الفعل الذي أسند إليه لأجل التهويل، والذي غشاها: هو مطر من الحجارة المحما.
7 (ما) موصول فاعل (غشاها).

هذا هو الله الإله الحق الذي اتخذ الناس من دونه آلهة لا تعلم ولا تحكم ولا تقدر. هذا هو الله العزيز المنتقم لأوليائه من أعدائه يشقي عبداً عاداه ويسعد آخر والاه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير ربوبية الله تعالى وإثبات ألوهيته بالبراهين والحجج التي لا ترد بحال.
2- تقرير عدالة الله تعالى في حكمه وقضائه.
3- مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته.
4- تقرير حقيقة علمية وهي أن العمل الذي يزكي النفس أو يدنسها هو ذاك الذي يباشره المرء بنفسه وباختياره وقصده ونيته.
5- تحذير الظلمة والطغاة من أهل الكفر والشرك من أن يصيبهم ما أصاب غيرهم من الدمار والخسران.
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
شرح الكلمات:
فبأي آلاء ربك :أي فبأي أنعم ربك عليك وعلى غيرك أيها الإنسان.
تتمارى :أي تتشكك أو تكذب.
هذا نذير من النذر الأولى :أي هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم من النذر الأولى أي رسول مثل الرسل الأولى الذين أرسلوا إلى أقوامهم.
أزفت الآزفة :أي قربت القيامة ووصفت بالقرب لقربها فعلاً.
ليس لها من دون كاشفة : أي ليس لها أي للقيامة من دون الله نفس كاشفة لها مظهرة لوقتها، إذ لا يجليها لوقتها إلا الله سبحانه وتعالى.
أفمن هذا الحديث :أي القرآن.

تعجبون وتضحكون :أي تعجبون تكذيباً به، وتضحكون سخرية منه كذلك.
وأنتم سامدون :أي لاهون مشتغلون بالباطل من القول كالغناء والعمل كعبادة الأصنام والأوثان.
فاسجدوا لله :أي الذي خلقكم ورزقكم وكلأكم ولا تسجدوا للأصنام.
واعبدوا :أي وذلوا لله وخضعوا له تعظيماً ومحبة ورهبة فإنه إلهكم الحق الذي لا إله لكم غيره.
معنى الآيات:
بعد ذلك العرض العظيم لمظاهر القدرة والعلم والحكمة وكلها مقتضية للربوبية والألوهيتة لله سبحانه وتعالى خاطب الله تعالى الإنسان فقال {فَبِأَيِّ آلاءِ1 رَبِّكَ} أي بعد الذي عرضنا عليك في هذه السورة من مظاهر النعم والنقم وكلها في الباطن نعم فبأي آلاء ربك2 تتمارى أي تتشكك أو تكذب، وكلها ثابتة أمامك لا تقدر على إنكارها وإخفائها بحال من الأحوال. ثم قال تعالى: {هَذَا نَذِيرٌ 3مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} يشير إلى أحد أمرين إما إلى ما في هذه السورة والقرآن كله من نذر أو إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم وكلا الأمرين حق القرآن نذير ومحمد نذير من النذر الأولى التي سبقته وهم الرسل، أو ما خوفت به الرسل أقوامها من عذاب الله تعالى العاجل في الدنيا والآجل في الآخرة. ألا فاحذروا أيها الناس عاقبة إعراضكم.
وقوله تعالى: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ} يخبر تعالى أن القيامة قد آن أوانها وحضرت ساعتها إنها لقريبة جداً. ليس لها من دون الله نفس كاشفة تكشف الستار عنها وتظهرها بل تبقى مستورة لحكمة إلهية قد تفاجأ بها البشرية وويل يومئذ للمكذبين.
وقوله تعالى توبيخا للمشركين والمكذبين: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ} أي غفلتم كل هذه الغفلة فتعجبون من هذا الحديث الإلهي والكلام الرباني وهو القرآن. {وَتَضْحَكُونَ} كأن قلوبكم أصابها الموات، ولا تبكون على أنفسكم وقد بعتموها للشيطان ليقدمها إلى نار جهنم حطباً،
__________
1 فبأي نعم ربك تشك أيها الإنسان المكذب، والآلاء: النعم، واحدها إلى وألى وإلي وألو كدلو.
2 التماري: التشكك، وهو تفاعل من المرية، ولا يصح أن يكون المراد بالمخاطب النبي صلى الله عليه وسلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يشك أبداً، وإن قاله بعضهم، ورده إمام المفسرين ابن جرير الطري.
3 حقيقة النذير: أنه المخبر عن حدث مضر بالمخبر، وجمعه: نذر ويطلق النذير على الإنذار فهو إذاً اسم مصدر، ومنه: {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} أي: إنذاري لكم.

وأنتم سامدون1 ساهون لاهون تغنون وتلعبون. ويلكم أنقذوا أنفسكم فاسجدوا لله واعبدوا2، فإنه لا نجاة لكم من العذاب الأليم إلا بالاطراح بين يديه إسلاماً له وخضوعاً. تعبدونه بتوحيده في عبادته، وتسلمون له قلوبكم ووجوهكم فلا يكون لكم غير الله مألوها ومعبوداً تعظمونه وتحبونه وتتقربون إليه بفعل محابه وترك مكاره.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان قرب الساعة وخفاء ساعتها عن كل خلق الله حتى تأتي بغتة.
2- ذم الضحك مع الانغماس في الشهوات.
3- الترغيب في البكاء من خشية الله.
4- كراهية الغناء واللهو واللعب.
5- مشروعية السجود عند تلاوة هذه الآية لمن يتلوها ولمن يستمع لها، وهي من عزائم السجدات في القرآن الكريم، ومن خصائص هذه السجدة أن المشركين سجدوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حول الكعبة كما في الصحيح.
__________
1 السمود: الغناء بلغة حمير والمعنى: فرحون بأنفسكم تتغنون بالأغاني لقلة اكتراثكم بما تسمعون من القرآن، وفعله: سمد يسمد: اسمد لنا أي عن لنا.
2 جائز أن يراد بالسجود: الصلاة والعبادة والتوحيد إذ كانت الصلاة يومئذ قد فرضت، وجائز أن يكون المراد بالسجود الخضوع لله والإذعان له بالإيمان والتوحيد بعد ترك الشرك والكفر، وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه السورة سجد فسجد المشركون بسجوده متأثرين بما أسمعهم الشيطان من مدح آلهتهم بقوله: تلك الغرانيق العلا.. وإن شفاعتهن لترتجى.

سورة القمر
...
سورة القمر
مكية
وآياتها خمس وخمسون آية
بسم الله ارحمن الرحيم
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ

(5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
شرح الكلمات:
اقتربت الساعة وانشق القمر : أي قربت الساعة، وانفلق القمر فلقتين على جبل أبي قبيس.
وإن يروا آية يعرضوا :أي وإن ير كفار قريش آية أي معجزة يعرضوا عنها ولا يلتفتوا إليها.
ويقولوا سحر مستمر :أي هذا سحر مستمر أي قوي من المرة أو دائم غير منقطع.
وكل أمر مستقر :أي وكل من الخير أو الشر مستقر بأهله في الجنة أو في النار.
ولقد جاءهم من الأنباء :أي من أنباء الأمم السالفة مما قصه القرآن.
ما فيه مزدجر : أي جاءهم من الأخبار ما فيه ما يزجرهم عن التكذيب والكفر.
حكمة بالغة :أي الذي جاءهم من الأنباء هو حكمة بالغة أي تامة.
فما تغن النذر :أي عن قوم كذبوا واتبعوا أهواءهم لا تغن شيئاً.
فتول عنهم :أي لذلك فأعرض عنهم.
يوم يدعو الداع إلى شيء نكر :أي يدع الداع إلى موقف القيامة.
يخرجون من الأجداث :أي من القبور.
مهطعين إلى الداع :أي مسرعين إلى نداء الداع.
هذا يوم عسر : أي صعب شديد.

قوله تعالى {اقْتَرَبَتِ 1السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} يخبر تعالى أن ساعة نهاية الدنيا وفنائها وقيام القيامة قد اقتربت، وأن القمر قد انشق معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم علامة من علامات الساعة، وانشقاق القمر كان بمكة حيث طالبت قريش النبي صلى الله عليه وسلم بمعجزة تدل على نبوته فسأل الله تعالى انشقاق القمر فانشق فلقتين على جبل أبي قبيس فلقة فوق الجبل وفلقة وراءه فشاهدته قريش ولم تؤمن وهو معنى قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ2 مُسْتَمِرٌّ} أي هذا سحر قوي شديد. قال تعالى {وَكَذَّبُوا} أي رسولنا وما جاء به من التوحيد والوحي واتبعوا في هذا التكذيب أهواءهم لا عقولهم ولا ما جاء به رسولهم. وقوله تعالى {وَكُلُّ أَمْرٍ3 مُسْتَقِرٌّ} أي وكل أمر من خير أو شر مستقر بصاحبه إما في الجنة أو النار. وقوله تعالى {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ} أي من أخبار الأمم السابقة وكيف أهلكها الله بتكذيبها رسلها وإصرارها على الشرك والكفر، وذلك في القرآن الكريم ما فيه مزدجر4 أي جاء من الأخبار الواعظة المذكرة من قصص الأنبياء مع أممهم ما فيه زاجر عن التكذيب والمعاصي هو5 حكمة بالغة تامة، والحكمة القول الذي يمنع صاحبه من التردي والهلاك بصرفه عن أسباب ذلك.
وقوله تعالى {فَمَا تُغْنِ6 النُّذُرُ} أي عن قوم كذبوا بالحق لما جاءهم واتبعوا أهواءهم ولم يتبعوا هدى ربهم ولا عقولهم. إذاً فتول عنهم يا رسولنا واتركهم إلى حكم الله فيهم. وقوله: {َيوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ7 نُكُرٍ} أي اذكر يا رسولنا يوم يدعو الداع إلى شيء نكر وهو موقف القيامة خشعاً أبصارهم وكل أجسامهم وإنما ذكرت الأبصار لأنها أدل على الخشوع من سائر الأعضاء {يخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} أي القبور جمع جدث وهو القبر كأنهم جراد منتشر في كثرتهم وتفرقهم وانتشارهم مهطعين إلى الداع أي مسرعين إلى داع الله إلى ساحة الموقف وفصل
__________
1 إنها بالنسبة لما مضى من أيام الدنيا لقريبة جداً إذ أكثر عمر الدنيا قد انقضى، خطب يوماً رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ما بقي من دنياكم فيما مضى إلا مثل ما بقي من هذا اليوم فيما مضى" وما نرى من الشمس إلا يسيرا.
2 (مستمر): يكون بمعنى ذاهب من قولهم مر الشيء واستمر: إذا ذهب ويكون بمعنى محكم قوي شديد مأخوذ من المرة وهي القوة، وكونه مستمراً نافذاً أولى بالمعنى.
3 وجائز أن يكون (مستقر) في أم الكتاب: كائن لا محالة أو أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم إلى استقرار بانتصاره على الباطل وأهله فيكون في الخبر بشرى للنبي صلى الله عليه وسلم.
4 أصل: (مزدجر) مزتجر من زجرته فانزجر فقلبت التاء دالاً لتقارب مخرجي التاء والدال، أي: جاءهم من الأخبار الواعظة ما يزجرهم عن الكفر، لو قبلوه واتعظوا به.
5 أي: جاءهم من مواعظ القرآن وزواجره ما هو حكمة بالغة إلى المقصود مفيدة لصاحبها.
6 جائز أن تكون (ما) نافية أي: لا تغني النذر شيئاً عمن تلك حاله، وجائز أن تكون استفهامية أي: أي شيء تغني النذر مع الإصرار على الكفر والتوغل في الباطل، والاستفهام للنفي أيضاً.
7 (نكر) ما تنكره النفوس وتكرهه، ونكر: وزنه نادر نحو أنف: بمعنى جديد.

القضاء. يومئذ يقول الكافرون هذا يوم عسر وهو كذلك عسير شديد العسر ولكن على المؤمنين يسير غير عسير. كما قال تعالى فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير مفهومه أنه على المؤمنين يسير.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- ذكر بعض علامات الساعة. كبعثة النبي صلى الله عليه وسلم وانشقاق القمر معجزة له صلى الله عليه وسلم.
3- التنديد باتباع الهوى، والتحذير منه فإنه مهلك.
4- عدم جدوى النذر لمن يتنكر لعقلة ويتبع هواه.
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
شرح الكلمات:
فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون :أي كذبوا نوحا عبد الله ورسوله وقالوا هو مجنون.
وازدجر :أي انتهزوه وزجروه بالسب والشتم.
فدعا ربه إني مغلوب فانتصر :أي فسأل ربه قائلاً رب إني مغلوب فانتصر أي لي.
بماء منهمر : أي منصب انصبابا شديدا.
وفجرنا الأرض عيوناً :أي تنبع نبعاً.

فالتقى الماء :أي ماء السماء وماء الأرض.
على أمر قد قدر :أي في الأزل ليغرقوا به فيهلكوا.
وحملناه على ذات ألواح ودسر :أي حملنا نوحاً على سفينة ذات ألواح ودسر وهو ما يدسر به الألواح من مسامير وغيرها. واحد الدسر دسار ككتاب.
تجري بأعيننا :أي بمرأىً منا أي محفوظة بحفظنا لها.
جزاء لمن كان كفر : أي أغرقناهم انتصاراً لمن كان كفر وهو نوح كفروا نبوته وكماله.
ولقد تركناها : أي إغراقنا لهم على الصورة التي تمت عليها.
آية :أي لمن يعتبر بها حيث شاع خبرها واستمر إلى اليوم.
فهل من مدكر :أي معتبر ومتعظ بها.
فكيف كان عذابي ونذر : أي ألم يكن واقعاً موقعه.
ولقد يسرنا القرآن للذكر :أي سهلناه للحفظ، وهيأناه للتذكير.
فهل من مدكر :أي فهل من متعظ به حافظ له نتذكر.
معنى الآيات:
قوله تعالى {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} يخبر تعالى مسليا رسوله مخوفاً قومه فيقول {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} أي قبل قريش قوم نوح وهو أول رسول أرسل إلى قوم مشركين فكذبوا عبدنا1 رسولنا نوحاً كذبوه في دعوة التوحيد كذبوه في دعوة الرسالة، ولم يكتفوا بتكذيبه فقالوا مجنون2 أي هو مجنون {وَازْدُجِرَ} أي أنتهروه وزجروه ببذيء القول وسيء الفعل فدعا أي نوح ربه قائلا {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} لي يا ربي، فاستجاب الله تعالى له ففتح أبواب السماء بماء منهمر3 أي منصب انصباباً شديداً، وفجرنا الأرض عيوناً نابعة من الأرض فالتقى4 الماء النازل من السماء والنابع من الأرض {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي قدره الله في الأزل وقضى بأن يهلكهم بماء الطوفان وقوله تعالى {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} والدسر جمع واحدة دسار ككتاب وكتب وهو ما تدسر به الألواح من مسامير وغيرها وقوله تعالى {تَجْرِي} وهي حاملة لعوالم شتى {بِأَعْيُنِنَا} أي بمرأى منا محفوظة بحفظنا لها وقوله {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} أي أغرقناهم انتصاراً لعبدنا نوح وجزاء له على صبره مع
__________
1 أخبر تعالى أن قوم نوح كذبوا الرسل. وكان في الكلام اجمال ففصله بقوله: (فكذبوا عبدنا) أي: نوحاص، وقالوا مجنون، وفيه إشارة إلى أن المكذب برسول يعتبر مكذباً بكل الرسل.
2 (مجنون) خبر لمبتدأ محذوف أي: هو مجنون. والجملة مقولة القول.
3 (منهمر) أي: كثير والهمر: الصب، وكان انهمار الماء بدون سحاب وقيل استمر أربعين يوماً.
4 التقى الماءان النازل من الماء والنابع من الأرض (على أمر قد قدر) أي: على مقدار معين لم يزد أحدهما على الآخر.

طول الزمن لقد أقام فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً. وقوله {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً} أي تلك الفعلة التي فعلنا بهم وهي إغراقنا لهم تركناها آية للاعتبار لمن يعتبر بها حيث شاع خبرها واستمر إلى اليوم.
وقوله تعالى {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ1} أي معتبر ومتعظ بها. وقوله {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ2} ألم يكن واقعاً موقعه؟ بلى. وقوله تعالى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} أي سهلناه للحفظ وهيأناه للتذكر. فهل من مدكر؛ أي فهل من متعظ به حافظ له والاستفهام للأمر أي فاتعظوا به واحفظوه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم.
2- تحذير قريش من الاستمرار في الكفر والمعاندة.
3- تقرير حادثة الطوفان والتي لا ينكرها إلا سفيه لم يحترم عقله.
4- فضل الله على هذه الأمة بتسهيل القرآن للحفظ والتذكر.
(17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
شرح الكلمات:
كذبت عاد :أي نبيها هوداً عليه السلام فلم تؤمن به ولا بما جاء به.
فكيف كان عذابي ونذر3 :أي فكيف كان عذابي الذي أنزلته بهم وإنذاري لهم كان أشد ما يكون.
إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصراً :أي ريحا عاتية ذات صوت شديد.
__________
1 أصل مدكر متذكر أبدلت التاء ذالاً كما أبدلت الذال دالاً وأدغمت الدالان الأولى في الثانية فصارت مدكر أي معتبر متعظ.
2 ونذر: تقدم أنه اسم مصدر كالإنذار.
3 قال القرطبي: وقعت نذر في هذه السورة في ستة أماكن محذوفة الياء في جميع المصاحف، وقرأها يعقوب مثبتة في الحالين أي: في الوصل والوقف، وقرأها ورش في الوصل لا غير. وحذفها الباقون ولا خلاف في حذف النون في قوله: (فما تغن النذر) والواو في قوله: (يدع) وأما الياء من (الداع) أثبتها ورش وأبو عمرو في الوصل وحذفها الباقون.

في يوم نحس مستمر : أي في يوم نحسٍ أي شؤم مستمر دائم الشؤم قوية حتى هلكوا.
تنزع الناس كأنهم أعجاز1 :أي تقتلعهم من الحفر التي اندسوا فيها وتصرعهم فتدق رقابهم.
نخل منقعر :منفصلة أجسامهم كأنهم والحال كذلك أعجاز أي أصول نخل منقلع.
ولقد يسرنا القرآن للذكر : أي سهلنا القرآن للحفظ والتذكير والتذكر به.
فهل من مدكر :أي تذكروا يا عباد الله بالقرآن فإن منزله سهله للتذكير.
معنى الآيات:
قوله تعالى {كَذَّبَتْ عَادٌ} هذا القصص الثاني في هذه السورة يذكر بإيجاز تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديداً لقومه المكذبين وذكرى للمؤمنين فقال تعالى كذبت عاد أي قوم هود كذبوا رسول الله هودا عليه السلام وكفروا بما جاءهم به من التوحيد و الشرع وقالوا ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين فأرسل تعالى عليهم ريحاً صرصراً ذات صوت شديد في يوم نحس2 وكان مساء الأربعاء لثمان خلون من شهر شوال مستمر بشدة وقوة وشؤم عليهم مدة سبع ليال وثمانية أيام تنزع تلك الريح الناس وقد دخلوا حفراً تحصنوا بها فتنزعهم منها نزعاً وتخرجهم فتصرعهم فتدق رقابهم فتنفصل عن أجسادهم فيصيرون والحال هذه لطول أجسامهم كأنهم أعجاز نخل منقعر3 أي منقلع ساقط على الأرض. وقوله تعالى {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ؟} هذا الاستفهام للتهويل أي إنه كان كأشد ما يكون لعذاب والإنذار. وقوله تعالى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} أي سهلناه وهيأناه بفضل منا ورحمة للحفظ ولولا هذا التسهيل ما حفظه أحد، وهيئناه للتذكر به. فهل من مدكر أي من متذكر والاستفهام للأمر كأنما قال: فاحفظوه وتذكروا به.
__________
1 جملة: { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِر} في موضع نصب على الحال من الناس.
2 النحس: سوء الحال، وقد انجر إلى المسلمين بواسطة عقائد المجوس التشاؤم بيوم الأربعاء من آخر الشهر، ولا تشاؤم في الإسلام والنحس كان على الكافرين الذين
3

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1-بيان عقوبة المكذبين لرسل الله وما نزل بهم من العذاب في الدنيا قبل اللآخرة.
2-بيان أن قوة الإنسان مهما كانت أمام قوة الله تعالى هي لا شيء ولا ترد عذاب الله بحال.
3-بيان تسهيل الله تعالى كتابه للناس ليحفظوه ويذكروا به, ويعملوا بما جاء فيه ليكملوا ويسعدوا في الحياتين.
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
شرح الكلمات:
كذبت ثمود بالنذر : أي كذبت قبيلة ثمود وهم قوم صالح بالحجر من الحجاز بالرسل لأن النذر جمع نذير وهو الرسول كما هو هنا.
فقالوا أبشر منا واحداً نتبعه :أي كيف نتبع بشراً واحداً منا إنكاراً منهم للإيمان بصالح عليه السلام.
إناإذاً لفي ضلال وسعر :أي إنا إذا اتبعناه فيما جاء به لفي ذهاب عن الصواب وجنون.
أألقى عليه الذكر من بيننا :أي لم يوح إليه من بيننا أبداً وإنما هو كذاب أشر.

بل هو كذاب أشر :أي فيما ادعى أنه ألقى إليه من الوحي أشر بمعنى متكبر.
ستعلمون غدا :أي في الآخرة.
من الكذاب الأشر :وهو هم المعذبون يوم القيامة بكفرهم وتكذيبهم.
إنا مرسلو الناقة فتنة لهم :أي إنا مخرجو الناقة من الصخر ومرسلوها لهم محنة.
فارتقب واصطبر :أي انتظر وراقب ماذا يصنعون وما يصنع بهم، واصبر على أذاهم.
ونبئهم أن الماء قسمة بينهم :أي ماء بئرهم مقسوم بينهم وبين الناقة فيوم لها ويوم لهم.
كل شرب محتضر :أي كل نصيب من الماء يحضره قومه المختصون به الناقة أو ثمود.
فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر :أي فملوا ذلك الشرب وسئموا منه فنادوا صاحبهم وهو قدار بن سالف ليقتلها فتعاطى السيف وتناوله فعقر الناقة أي قتلها.
إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة :هي صيحة جبريل صباح السبت فهلكوا.
فكانوا كهشيم المحتظر :أي صاروا بعد هلاكهم وتمزق أجسادهم كهشيم المحتظر وهو الرجل يجعل في حظيرة غنمه العشب اليابس والعيدان الرقيقة يحظر بها لغنمه يحفظها من البرد والذئاب.
معنى الآيات:
قوله تعالى {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} هذا القصص الموجز الثالث وهو قصص ثمود قوم صالح فقال تعالى في بيانه {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} أي التي أنذرها نبيها صالح وهي ألوان العذاب كما كذبته فيما جاء به من الرسالة فقالوا في تكذيبهم له عليه السلام: {أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ1} أي كيف يتم ذلك منا ويقع؟ عجبٌ هذا إنا إذاً لفي ضلال وسعر إنا إذا اتبعناه وهو واحد لا غير ومنا أيضا فهو كغيره من أفراد القبيلة لفي بعد عن الصواب وذهاب عن كل رشد، وسعر2 أي وجنون أيضا،
__________
1 أي: أنتبع فردا ونترك جماعة؟ قرأ الجمهور: (بشراً) منصوباً على الاشتغال، ورفعه بعضهم على الابتداء، وواحد: نعت يتبع المنعوت في النصب والرفع.
2 السعر: الجنون، والمسعور: المجنون قال الشاعر:
تخال بها سعراً إذا السفر هزها
ذميل وايقاع من السير متعب
يصف ناقته بالسعر لشدة نشاطها.

وقالوا مستنكرين متعجبين {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} أي متكبر.
قال تعالى رداً عليهم سيعلمون غدا يوم ينزل بهم العذاب ويوم القيامة أيضا من الكذاب الأشر أصالح أم هم، لن يكونوا إلا هم فهم الذين أخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين.
وقوله تعالى: {إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ} أي كما طلبوا إذ قالوا لصالح إن كنت رسول الله حقا فسله يخرج لنا من هذه الصخرة في هذا الجبل ناقة فقام يصلي ويدعو وما زال يصلي ويدعو حتى تمخض1 الجبل وخرجت منه ناقة عشراء آية في القوة والجمال، وقال لهم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم أليم. ومعنى فتنة لهم أي امتحاناً واختباراً لهم هل يؤمنون أو يكفرون، ولذا قال تعالى لصالح فارتقبهم واصطبر2 أي انظر إليهم وراقبهم من بعد واصطبر على أذاهم. ونبئهم أي أخبرهم بأمرنا أن الماء ماء بئرهم الذي يشربون منه قسمة بينهم3 أي مقسوم بينهم للناقة يوم وللقبيلة يوم، وقوله كل شرب4 محتضر أي كل نصيب خاص بصاحبه يحضره دون غيره. وما تشربه الناقة من الماء نحيله إلى لبن خالص وتقف عند كل باب من أبواب المدينة ليحلبوا من لبنها وطالت المدة وملوا اللبن والسعادة فنادوا صاحبهم غدار بن سالف عاقر الناقة فتعاطى5 السيف وتناوله وعقرها بضرب رجليها بالسيف ثم ذبحها. وقوله تعالى {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي} الذي أنزلته بهم بعد عقر الناقة كيف كان إنذاري لهم أما العذاب فقد كان أليماً وأما الإنذار فقد كان صادقاً، والويل للمكذبين. وهذا بيانه قال تعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} هي صيحة جبريل عليه السلام فانخلعت لها قلوبهم فأصبحوا في ديارهم جاثمين {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}6 أي ممزقين محطمين مبعثرين هنا وهنا كحطب وخشب وعشب الحظائر التي تجعل للأغنام.
__________
1 قال القرطبي: روي أن صالحاً صلى ركعتين ودعا فانصدعت الصخرة التي عينوها عن سنامها، فخرجت ناقة عشراء وبراء.
2 (واصطبر) أصل الكلمة واصتبر قلبت التاء طاءً موافقة للصاد في الإطباق.
3 روي عن جابر قال: لما نزل الحجر في مغزى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك قال: "أيها الناس لا تسألوا في هذه الآيات هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث الله لهم ناقة فبعث الله عز وجل إليهم الناقة فكانت ترد من ذلك الفج فتشرب ماءهم يوما وردها ويحلبون منها مثل الذي كانوا يشربون يوم غبها".
4 الشرب بكسر الشين: الحظ من الماء، ومعنى محتضر: أي يحضره من هو له دون غيره إذ هو من الحضور خلاف الغياب.
5 (فتعاطى) مضارع عاطاه معاطاة وهو مشتق من عطا يعطو: إذا تناول ما يطلبه من شيء كأنهم كانوا مترددين في عقرها كل واحد يريد إعطاء غيره آلة العقر حتى أخذها غدار وعقرها.
6 المحتظر: اسم فاعل: الرجل الذي يتخذ الحظائر لغنمه من الحطب والعيدان وأغصان الشجر.

وقوله تعالى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} يدعو الله تعالى هذه الأمة إلى كتابه قراءة وحفظاً وتذكراً فإنه مصدر كمالهم وسعادتهم لا سيما وقد سهله وهيأه لذلك. ولا يهلك على الله إلا هالك.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان سنة الله في إهلاك المكذبين.
2- بيان أن الآيات لا تستلزم الإيمان وإلا فآية صالح من أعظم الآيات ولم تؤمن بها قوم ثمود.
3- أشقى أمة الإسلام عقبة بن أبي معيط الذي وضع سلى الجذور على ظهر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي حول الكعبة، وعاقر ناقة صالح غدار بن سالف كما جاء في الحديث.
4- دعوة الله إلى حفظ القرآن والتذكير به فإنه مصدر الإلهام والكمال والإسعاد.
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
شرح الكلمات:
كذبت قوم لوط بالنذر :كذبت قوم لوط بالنذر التي أنذرهم بها وخوفهم منها لوط عليه السلام.

إنا أرسلنا عليهم حاصبا : أي ريحاً ترميهم بالحصباء وهي الحجارة الصغيرة فهلكوا.
إلا آل لوط نجيناهم بسحر :أي بنتاه وهو معهم نجاهم الله تعالى من العذاب حيث غادروا البلاد قبل نزول العذاب بها.
نعمة من عندنا :أي إنعاماً منا عليهم ورحمة منا بهم.
كذلك نجزي من شكر :أي مثل هذا الجزاء بالنجاة من الهلاك نجزي من شكرنا بالإيمان والطاعة.
ولقد أنذرهم بطشتنا :أنذرهم لوط أي خوفهم أخذتنا إياهم بالعذاب.
فتماروا بالنذر :أي فتجادلوا وكذبوا بالنذر التي أنذرهم بها وخوفهم منها.
ولقد راودوه عن ضيفه1 :أي أن يخلى بينهم وبين ضيفه وهم ملائكة ليخبثوا بهم.
فطمسنا أعينهم :أي ضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم فكانت كباقي وجوههم.
ولقد صبحهم بكرة عذابٌ :أي نزل بهم بكرة صباحاً عذاب مستقر لا يفارقهم أبداً هلكوا به في الدنيا
مستقر ويصحبهم في البرزخ ويلازمهم في الآخرة.
ولقد يسرنا القرآن للذكر :أي سهلناه للحفظ والتذكر به والعمل بما فيه.
فهل من مدكر؟ :أي من متذكر فيعمل بما فيه فينجو من النار ويسعد في الجنة.
ولقد جاء آل فرعون النذر : أي قوم فرعون الإنذارات على لسان موسى وهارون عليهما السلام.
كذبوا بآياتنا كلها :أي فلم يؤمنوا بل كذبوا بآياتنا التسع التي آتيناها موسى.
فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر :أي فأخذناهم بالعذاب وهو الغرق أخذ قوي مقتدر على كل شيء لا يعجزه شيء.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر موجز لقصص عدد من الأمم السابقة تسلية لرسول لله صلى الله عليه وسلم
__________
1 ليخبثوا بهم، أي: بإتيانهم الفاحشة، في القاموس: الخبث: الزنا، وخبث ككرم: إذا زنى وخبثت المرأة: إذا زنت فهي خبيثة، والزاني: خبيث.

وتهديداً للمشركين المصرين على الشرك بالله والتكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنذاراً لأهل الشرك والمعاصي في كل زمان ومكان فقال تعالى {كَذَّبَتْ1 قَوْمُ لُوطٍ} وهم أهل قرى سدوم2 وعمورة كذبوا رسولهم لوطاً بن أخي إبراهيم عليه السلام هاران. كذبوا بالنذر وهي الآيات التي أنذرهم لوط بها وخوفهم من عواقبها.
وقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً3} أي لما كذبوا بالنذر وأصروا على الكفر وإتيان الفاحشة أرسلنا عليهم حاصباً ريحاً تحمل الحصباء الحجارة الصغيرة فأهلكناهم بعد قلب البلاد بجعل عاليها سافلها. وقوله تعالى {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَر4ٍ} والمراد من آل لوط لوط ومن آمن معه من ابنتيه وغيرهما نجاهم الله تعالى بسحر وهو آخر الليل. وقوله {نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} أي كان انجاؤهم إنعاماً منا عليهم ورحمة منا بهم. وقوله تعالى {كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} أي كهذا الانجاء أي من العذاب الدنيوي نجزي من شكرنا فآمن بنا وعمل صالحاً طاعة لنا وتقربا إلينا وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ5 بَطْشَتَنَا} أي إننا لم نأخذهم بظلم منا ولا بدون سابق إنذار منا لا، لا بل أخذناهم بظلمهم، وبعد تكرر إنذارهم، فكانوا إذا أنذروا تماروا بما أنذروا فجادلوا فيه مستهزئين مكذبين، ومن أعظم ظلمهم أنهم راودوا لوطاً عن ضيفه من الملائكة وهم في صورة بشر، فلما راودوه عنهم ليفعلوا الفاحشة ضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم فأصبحت كسائر وجوههم لا حاجب ولا مقلة ولا مكان للعين بالكلية وقولنا لهم فذوقوا عذابي ونذري أي لأولئك الذين راودوا لوطاً عن ضيفه، أما باقي الأمة فهلاكهم كان كما أخبر تعالى عنه بقوله: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً} أي صباحاً {عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} أي دائم لهم ملازم لا يفارقهم ذاقوه في الدنيا موتاً وصاحبهم بزرخاً ويلازمهم في جهنم لا يفارقهم.وقلنا لهم فذوقوا عذابي ونذر حيث كنتم تمارون وتستهزئون وقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا6 الْقُرْآنَ لِلذِّكْر} أي القرآن للحفظ وسهلناه للفهم والاتعاظ به والتذكر فهل من مدكر أي فهل من متذكر متعظ معتبر فيقبل على طاعة الله متجنباً معاصيه فينجو ويسعد وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَ
__________
1 عرف قوم لوط بالإضافة إليه عليه السلام لأنه لم يكن لتلك الأمة اسم عند العرب يعرفون به.
2 بعضهم يرويها بالذال المعجمة وبعضهم بالدال المهملة، وعمورة بعضهم يرويها بلفظ عمورية.
3 (إنا أرسلنا) الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن من سمع بتكذيبهم تساءل عما فعل الله بهم.
4 لوط داخل في آله بفحوى الخطاب فلا يقال: لم لم يذكر لوط وذكر آله دونه.
5 البطشة المرة: أي الأخذة بشدة وعنف وقوة.
6 هذه المرة الثالثة ينوه فيها القرآن الكريم ولم يذكر هنا ما ذكر في المرتين قبل قوله: (فكيف كان عذابي ونذر) اكتفاء بما سبق ذكره بعداً عن التكرار غير المجدي.

آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ}1 أي قوم فرعون من القبط وجنده منهم كذلك جاءتهم النذر على لسان موسى وأخيه هارون فكذبوا وأصروا على الكفر والظلم، وكذبوا بآيات الله كلها2 وهي تسع آيات آتاها الله تعالى موسى أولها العصا وآخرها انفلاق البحر فبسبب ذلك أخذناهم أخذ عزيز غالب لا يمانع في مراده مقتدر ولا يعجزه شيء فأغرقناهم أجمعين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير ربوبية الله تعالى وألوهيته بالالتزام وتقرير التوحيد وإثبات النبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم. إذ أفعال الله العظيمة من إرسال الرسل والأخذ للظلمة الكافرين بأشد أنواع العقوبات من أجل أن الناس لم يعيدوا ولم يطيعوا دال على ربوبيته وألوهيته، وقص هذه القصص من أمي لم يقرأ ولم يكتب دال على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
2- بيان جزاء الشاكرين لله تعالى بالإيمان به وطاعته وطاعة رسله.
3- مشروعية الضيافة وإكرام الضيف، وفي الحديث: "من كان يؤمن3 بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".
4- تيسير القرآن وتسهيله للحفظ والاتعاظ والاعتبار.
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)
شرح الكلمات:
أكفاركم خير من أولئكم :أي أكفاركم يا قريش حير من أولئكم الكفار المذكورين من قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وفرعون وملائه ؟ فلذا هم
__________
1 هذا آخر قصة تضمنتها سورة القمر تذكيراً وإنذاراً لكفار قريش لعلهم يؤمنون ويوحدون، والمراد من آل فرعون: أتباعه من رجال دولته وجنوده وقومه الأقباط، والشاهد من القصة أنهم كذبوا فأخذوا، فليعلم هذا المصرون على التكذيب من كفار قريش.
2 خمس منها في آية الأعراف: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ }. والأربع الأخرى هي انقلاب العصا حية، وخروج يده من جيبه بيضاء كفلقة القمر وسنو القحط والطمس على الأموال وانفلاق البحر، فهذه التسع آيات التي كذبوا بها كلها.
3 في الصحيح.

لا يعذبون.
أم لكم براءة في الزبر :أم لكم يا كفار قريش براءة من العذاب في الزبر أي الكتب الإلهية.
أم يقولون نحن جميع منتصر :أم يقولون أي كفار قريش نحن جميع1 أي جمع منتصر على محمد وأصحابه.
سيهزم الجمع ويولون الدبر :أي سيهزم جمعهم ويولون الدبر هاربين منهزمين وكذلك كان في بدر.
بل الساعة موعدهم :أي الساعة موعدهم بالعذاب والمراد من الساعة يوم القيامة.
والساعة أدهى وأمر :أي وعذاب الساعة وأهوالها أي هي أعظم بلية وأمر أي أشد مرارة من عذاب الدنيا قطعاً.
معنى الآيات:
يقول تعالى مبكتا مشركي قريش مؤنباً إياهم وهم الذين إن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم يقول الله تعالى لهم: {أَكُفَّارُكُمْ2} يا قريش خير من كفار الأمم السابقة كعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون فلذا هم آمنون من العذاب الذي نزل بكفار الآخرين، أم لكم3 براءة من العذاب جاءت في الكتب مسطورة اللهم لا ذا ولا ذاك ما كفاركم بخير من أولئكم، وليس لكم براءة في الزبر، وإنما أنتم ممهلون فإما أن تتوبوا وأما أن تؤخذوا. وقوله تعالى عنهم {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ4} أي جمه منتصر على كل من يحاربنا ويريد أن يفرق جمعنا نعم قالوا هذا، ولكن سيهزم الجمع ويولون الدبر، وقد تم هذا في5 بدر بعد سنيات ثلاث أو أربع وهزم جمعهم في بدر وولوا الأدبار هاربين إلى مكة. وقوله تعالى {بَلِ السَّاعَةُ6 مَوْعِدُهُمْ} أي الساعة التي ينكرونها ويكذبون بها هي موعد عذابهم
__________
1 جميع: اسم للجماعة كأنهم قالوا: نحن جماعة منتصرة على من يريد حربنا وذكرت الصفة (منتصر) مراعاة للفظ الجميع لا لدلالته على متعدد.
2 جائز أن يكون الاستفهام على بابه حيث يطلب منهم أن يفصحوا عن الحقيقة فإن قالوا كفارنا خير قيل لهم ما وجه الخيرية، وإن قالوا: الكل سواء قيل إذاً فسوف تأخذون بالعذاب كما أخذ الأولون.
3 أم: للإضراب الانتقالي وما يقدر بعدها من استفهام هو للإنكار أي: بل ما لكم براءة في الزبر من العذاب حتى تكونوا آمنين من تكذيبكم وكفركم.
4 (أم) هي المنقطعة المفسرة ببل للإضراب الانتقالي والاستفهام المقدر بعدها للتوبيخ.
5 فكانت هذه آية على أن القرآن كلام الله وأن محمداً رسول الله لتحقق الغيب الذي أخبر به.
6 الساعة في القرآن: علم بالغلبة على يوم القيامة والحساب والجزاء.

الحق أم عذاب الدنيا فهو ليس شيء إذا قيس بعذاب الآخرة . {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} أي أعظم بلية وأكبر داهية تصيب الإنسان وعذابها، {وَأَمَرُّ} أي وعذابها أمر من عذاب الدنيا كله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان حقيقة يغفل عنها الناس وهي أن الكفر كله واحد ومورد للهلاك.
2- لا قيمة أبداً لقوة الإنسان إزاء قوة الله تعالى.
3- صدق القرآن في إخباره بغيب لم يقع ووقع كما أخبر وهو آية أنه وحي الله وكلامه.
4- القيامة موعد لقاء البشرية كافة بحيث لا يتخلف عنه أحد.
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
شرح الكلمات:
إن المجرمين في ضلال وسعر :أي الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك والمعاصي في ضلال الدنيا ونار مستعرة في الآخرة.
ذوقوا مس سقر :أي يوم يسحبون في النار على وجوههم يقال لهم ذوقوا مس سقر جهنم.
إنا كل شيء خلقناه بقدر :أي إنا خلقنا كل شيء بتقدير سابق لخلقنا له وذلك بكتابته في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض فهو يقع كما كتب كمية وصورة وزمانا ومكاناً لا يتخلف في شيء من ذلك.

وما أمرنا إلا واحدة :أي وما أمرنا إذا أردنا خلق شيء إلا أمرةً واحدة فيتم وجوده.
كلمح بالبصر :الشيء بسرعة كلمح البصر وهو النظر بعجلة.
ولقد أهلكنا أشياعكم :أي ولقد أهلكنا أمثالكم أيها المشركون من الأمم السابقة.
فهل من مدكر؟ :أي فذكروا واتعظوا بهذا خيراً لكم من هذا الإعراض.
وكل شيء فعلوه في الزبر :أي وكل ما فعله العباد هو مسجل في كتب الحفظة من الملائكة.
وكل صغير وكبير مستطر :أي وكل صغير وكبير من سائر الأعمال والأحداث في اللوح المحفوظ مستطر مكتوب.
إن المنتقين في جنات ونهر :إن الذين اتقوا ربهم فلم يشركوا به ولم يفسقوا عن أمره في جنات يشربون من أنهار الماء واللبن والخمر والعسل المصفى.
في مقعد صدق :أي في مجلس حق لا لغو به ولا تأثيم.
عند مليك مقتدر :عند مليك أي ذي ملك وسلطان مقتدر على ما يشاء وهو الله جل جلاله.
معنى الآيات:
قوله تعالى {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} يخبر تعالى عن حال المجرمين وهم الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها بالشرك وغشيان الذنوب يخبر تحذيراً وإنذاراً بأن المجرمين في ضلال في حياتهم الدنيا، وسعر ونار مستعرة متأججة يوم القيامة يوم يسحبون في النار على وجوههم يقال لهم ذوقوا تهكماً بهم مس سقر1 تذوقوا العذاب، وسقر طبق من أطباق جهنم وباب من أبوابها وقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ2} إعلام منه تعالى عن نظام الكون الذي خلقه
__________
1 (سقر) قال عطاء: سقر: الطبق السادس من جهنم، ومسها: هو ما يجدون من الألم عند الوقوع فيها، وسقر: اسم من أسماء جهنم لا ينصرف لأنه اسم مؤنث معرفة وكذلك جهنم ولظى.
2 روى الترمذي وحسنه وصححه عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}. وروى مسلم عن طاووس قال: أدركت ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر: قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس".

تعالى وهو أن كل حادث يحدث في هذا العالم قد سبق به علم الله وتقديره له فحدد ذاته وصفاته وأعماله ومآله إلى جنة أو إلى نار، إن كان إنسانا أو جانا وليس هناك شيء يحدث بدون تقرير سابق له وعلم تام به قبل حدوثه. وقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}1 يخبر تعالى عن قدرته كما أخبر عن علمه بأنه تعالى إذا أراد إيجاد شيء في الوجود لم يزد على أمرٍ واحد وهو كن فإذا بالمطلوب يكون كما أراد تعالا أزلاً أن يكون، وبسرعة كسرعة لمح البصر الذي هو نظرة سريعة. وقوله تعالى وهو يخاطب مشركي قريش {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ} أي أمثالكم في الكفر والعصيان أي من الأمم السابقة {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أي متذكر متعظ معتبر قبل فوات الوقت وحصول المكروه من العذاب في الدنيا وفي الآخرة. وقوله تعالى {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ} أي أولئك المشركون { فِي الزُّبُرِ} أي في كتب الحفظة من الملائكة الكرام الكاتبين، وكل صغير وكبير من أعمالهم وأعمال غيرهم بل كل حادثةٍ في الأكوان هي مسطرة في اللوح المحفوظ كتاب المقادير. وقوله تعالى {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ2 وَنَهَر} هذا الإخبار يقابل الإخبار الأول أن المجرمين في ضلال وسعر فالأول إعلام وتحذير وترهيب وهذا إخبار وبشرا وترغيب حيث أخبر أن المتقين الذين اتقوا ربهم فلم يشركوا به ولم يفسقوا عن أمره إنهم في جنات بساتين ذات قصور وحور، وأنهار وأشجار هم جالسون في مقعد صدق3 في مجلس حق لا لغو يسمع فيه ولا تأثيم يلحق جالسه عند4 مليك أي ذي ملك وسلطان مقتدر على ما فعل كل ما يريده سبحانه لا إله إلا هو ولا رب سواه.
__________
1 (إلا واحدة) أي: مرة واحدة (كلمح البصر) أي: قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر، واللمح، النظر بعجلة، يقال لمحه وألمحه: إذا أبصره بنظر خفيف.
2 قرأ في غير السبع ونهر بضم النون والهاء جمع نهار أي لا ليل لهم كسحاب وسحب قال الفراء: أنشدني بعض العرب:
إن تلك ليلاً فإني نهر
متى أرى الصبح فلا أنتظر
وقال آخر:
لولا الثريدان هلكنا بالضحى
ثريد ليل وثريد بالنهر
3 (مقعد صدق) قال القرطبي: أي: مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم وهو الجنة، والعندية هنا عندية القربى والزلفى والمكانة والرتبة العالية والمنزلة الشريفة في جوار أرحم الراحمين ورب العالمين.
4 (مليك) أبلغ من ملك وهو بمعنى: مالك، و(مقتدر) أبلغ من قادر، والتنكير في مليك، ومقتدر: للتعظيم.
م8 أيسر التفاسير (المجلد الخامس

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان مصير المجرمين وضمنه تخويف وتحذير من الإجرام الموبق للإنسان.
2- تقرير عقيدة القضاء والقدر.
3- تقرير أن أعمال العباد مدونة في كتب الكرام الكاتبين لا يترك منها شيء.
4- تقرير أن كل صغيرة وكبيرة من أحداث الكون هي في كتاب المقادير اللوح المحفوظ.
5- بيان مصير المتقين مع الترغيب في التقوى إذ هي ملاك الأمر وجماع الخير.
6- ذكر الجوار الكريم وهو مجاورة الله رب العالمين في الملكوت الأعلى في دار السلام.

سورة الرحمن
...
سورة الرحمن1
مكية
وآياتها ثمان وسبعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ( 5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَان (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
__________
1 روى البيهقي في شعب الإيمان عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لكل شيء عروس وعروس القرآن سورة الرحمن" وذكره صاحب الإتقان كذلك.

شرح الكلمات:
الرحمن :اسم من أسماء الله تعالى.
علم القرآن :أي علم من شاء من عباده القرآن.
خلق الإنسان :آدم كما خلق ذريته أيضاً.
علمه البيان :أي علم آدم البيان الذي هو النطق والإعراب عما في النفس بلغة من اللغات كل هذا تعليم الله عز وجل ولو لا الله ما نطق إنسان.
الشمس والقمر بحسبان :أي يجريان بحساب معلوم مقدر في بروجهما ومنازلهما.
والنجم والشجر يسجدان :النجم مالا ساق له من النبات، والشجر ماله ساق يسجدان يخضعان لله تعالى بما يريد منهما في طواعية كالسجود من المكلفين.
والسماء رفعها :أي فوق الأرض وأعلاها.
ووضع الميزان :أي أثبت العدل بين العباد أمر به وألهم صنع آلته.
ألا تطغوا في الميزان :أي لأجل أن لا تجوروا في الميزان وهو ما يوزن به من آلات.
وأقيموا الوزن بالقسط :أي بالعدل.
ولا تخسروا الميزان :أي لا تنقصوا الموزون الذي تزنونه بل وفوه.
والأرض وضعها للأنام :أي أثبتها وخفضها كما رفع السماء وأعلاها للأنام لحياة الأنام عليها وهم الإنس والجن والحيوان وكل ذي روح.
فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام :أي في الأرض فاكهة وهي كل ما يتفكه به الإنسان من أنواع الفواكه الكثيرة، والنخل ذات الأكمام وهي أوعية طلعها.
والحب ذو العصف :أي وفي الأرض الحب من برٍ وشعير وعصفه تبنه.
والريحان : نبت معروف، والمراد به أنواع الرياحين المشمومة ذات الريح الطيب.
فبأي آلاء ربكما تكذبان :أي فبأي نعم ربكما يا معشر الجن والإنس تكذبان وهي كثيرة لا تعد ولا تحصى. والجواب لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد.

معنى الآيات:
قوله تعالى {الرَّحْمَنُ1 عَلَّمَ الْقُرْآنَ2} يخبر تعالى أنه هو الرحمن الذي علم نبي محمد صلى الله عليه وسلم القرآن لا كما يقول المبطلون إنما يعلمه بشر. الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء وهي متجلية ظاهرة فيما يعدد من آلاء ونعم. منها خلقه الإنسان آدم وذريته، وتعليمهم البيان وهو النطق والإبانة عما في نفوسهم. {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}3 يجريان لإفادة الناس في معرفة أوقات عباداتهم، وآجال ديونهم وهي مظاهر الرحمة، {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} والنجم غذاء بهائمكم والشجر فيه فاكهتكم وبعض غذائكم {يَسْجُدَانِ} خضوعاً لله بما أراد منهما لا يعصيان كما يعصي الثقلان. والسماء رفعها عن الأرض ولم يلصقها بالأرض إنعاماً منه على الثقلين في رفعها وتزينها بكواكبها وشمسها وقمرها، {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ4} أي العدل حيث أمر به وآلهم وضع آلته وغرز في النفوس حبه والرغبة فيه، من أجل ألا تجوروا في الميزان، {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} بالعدل، {وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} أي لا تنقصوه إذا وزنتم بل وفوه كل هذا إنعام وألوان من رحمات الرحمن. والأرض وضعها للأنام أي أثبتها وخفضها ودحاها لحياة الأنام. وهم الإنس والجان والحيوان، {فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ} أي أوعية الطلع، والحب البر والشعير ذو العصف5 أي التبن والريحان هذه أنواع الطعام للإنسان والحيوان طعام وفاكهة وريحان كل هذه مظاهر الرحمة التي أفاضها الرحمن.
{فَبِأَيِّ آلاءِ 6رَبِّكُمَا} يا معشر الجن والإنس {تُكَذِّبَانِ}. لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الرحمن مثل اسم الله لا يصح أن يطلق على غير الرب تبارك وتعالى، فيقال فلان عزيز أو رحيم أو عليم أو حكيم، ولكن لا يقال رحمان، كما لا يقال إله أو الإله أو الله.
__________
1 اختير اسم الرحمن دون سائر الأسماء الإلهية لأمور منها: أنه الاسم الذي كان المشركون ينكرونه، ومنها الرد على الزاعمين أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمه بشر فأخبر تعالى أن الرحمن هو الذي علم القرآن، ومنها: أن يكون في هذا الخبر براعة استهلال إذ السورة تعدد عشرات النعم، ومصدره الرحمن عز وجل.
2 (علم القرآن) هذا الخبر عن الرحمن، و (خلق الإنسان) خبر ثان و (علمه البيان) خبر ثالث، و (الشمس والقمر بحسبان ) خبر رابع، والرابط تقديره بحسبانه، فالضمير عائد على الرحمن سبحانه وتعالى.
3 الحسبان: مصدر حسب بمعنى: عد كالغفران: مصدر غفر والباء للملابسة.
4 أصل الميزان: اسم آلة الوزن، والوزن: تقدير تعادل الأشياء، وضبط مقادير ثقلها، و(وضع) بمعنى: جعل ومنه الحديث: " فضعها حيث أراك الله" أي: اجعلها.
5 سمي التبن عصفاً: لأن الريح تعصف به لخفته.
6 الفاء للتفريع على ما تقدم من ضروب النعم العظيمة.

2- ورد في الصحيح في فضل تعلم القرآن وقوله صلى الله عليه وسلم خيركم من تعلم القرآن وعلمه.
3- وجوب إقامة العدل والتواصي به، ومراقبة الموازين لدى التجار وإصلاح فاسدها.
4- وجوب شكر الله على آلائه.
5- استحباب قول لا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد عند سماع قراءة فبأي آلاء ربكما تكذبان.
6- مشروعية تعلم علم الفلك لمعرفة القبلة ومواقيت الصلاة والصيام والحج.
خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ1 (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلام (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)
شرح الكلمات:
خلق الإنسان من صلصال :أي خلق آدم من طين يابس يسمع له صلصلة كالفخار وهو ما طبخ من الطين.
كالفخار
وخلق الجان من مارج من نار :أي أبا الجن من لهب النار الخالص من الدخان وهو مختلط أحمر وأزرق وأصفر.
رب المشرقين ورب المغربين :أي مشرق الشتاء, مشرق الصيف أي مطلع طلوع الشمس فيهما. وكذا المغربين في الصيف والشتاء.
__________
1 اختلف في تحديد كل من اللؤلؤ والمرجان، فمن قائل: اللؤلؤ كباره والمرجان صغاره، وقيل: المرجان: الخرز الأحمر، وقيل: المرجان: عظام اللؤلؤ وكباره.

مرج البحرين يلتقيان :أي أرسل البحرين العذب والملح يلتقيان في رأي العين.
بينهما برزخ لا يبغيان :أي بينهما حاجز لا يبغى أحدهما على الآخر فيختلط به.
يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان :أي يخرج من مجموعها الصادق بأحدهما وهو الملح اللؤلؤ والمرجان وهو خرز أحمر, وهو صغار اللؤلؤ.
وله الجوار المنشئات في البحر :أي السفن المحدثات في البحر كالأعلام أي كالجبال عظماً وارتفاعاً.
كالأعلام
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر ما أفاض الرحمن جل جلاله من رحمته التي وسعت كل شيء من آلاء ونعم لا تحصى ولا تعد ولا تحصر فقال تعالى {خَلَقَ الْإنْسَانَ} أي الرحمن الذي تجاهله المبطلون وقالوا: وما الرحمن؟ الرحمن الذي خلق الإنسان آدم أول إنسان خلقه ومن أي شيء خلقه {في صَلْصَالٍ} أي من طين ذي1 صلصلة وصوت {كَالْفَخَّارِ} خلق الإنسان، وخلق الجان وهو عالم كعالم الإنسان خلق أصله من مارج وهو ما مرج واختلط من لهب النار. فبأي يا معشر الجن والإنس {آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إن نعم تفوق عد الإنسان من رب المشرقين ورب المغربين من خلقهما من ملكهما من سخرهما لفائدة الإنسان؟ إنه الرحمن فبأي آلاء ربكما تكذبان2؟ لا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد. الرحمن مرج البحرين3 الملح والعذب أرسلهما على بعضهما فمرجا. كأنهما اختلطا إذ جعل بينهما برزخاً حاجزاً فهما لا يبغيان فلا يختلط أحدهما بالثاني، فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ يخرج منهما4 اللؤلؤ والمرجان من خلق في مجموع البحرين اللؤلؤ والمرجان وهما خرز أبيض وأحمر وأخضر ولفائدة من خلقهما الرحمن؟ إنها لفائدة الإنسان إذاً هما نعمة ورحمة من رحمات الرحمن { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} {وَلَهُ الْجَوَارِ} أي5 للرحمن الجوار المنشآت المصنوعات في البحر في أحواض السفن كالأعلام علواً وارتفاعا تظهر في البحر كما تظهر الجبال في البر لمصلحة من خلقها الرحمن لمصلحة الإنسان فهي إذاً رحمة
__________
1 الصلصال: الطين اليابس، والفخار: الطين المطبوخ، ويسمى الخزف وجائز أن يكون كالفخار في محل نصب حال من الإنسان أي: خلقه من صلصال فصار الإنسان كالفخار في لونه وصلابته.
2 الاستفهام هنا: للتوبيخ على ترك الشكر.
3 المرج: الإرسال كقولهم: مرج الدابة: أرسلها ترعى في المرج. والمعنى: أرسل البحرين بحيث لا يحبس ماؤهما عن الجري ولا عن الالتقاء ببعضهما البعض، ومع هذا فقد جعل بينهما برزخاً، وهو الفاصل الذي يفصل الماء الملح الأجاج عن العذب الفرات. هذه مظاهر القدرة والعلم الموجبة للتوحيد والشكر بالطاعة.
4 جائز أن تكون من في منهما: للسببية نحو: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) وجائز أن تكون للابتداء وهو الأظهر.
5 الجوار: صفة لموصوف محذوف وهو السفن أي: وله السفن الجوار في البحر، وجمع الجوار جارية.

الرحمن ونعمته على الإنسان فبأي آلاء ربكما يا معشر الإنس والجن تكذبان؟ أقروا واعترفوا واشكروا الرحمن.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أصل خلق الإنسان والجان فالأول من طين لازب ذي صلصال كالفخار والثاني من مارج من نار وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن خلق الملائكة كان من نور.1
2- معرفة مطالع الشمس ومغاربها في الشتاء والصيف وهما مطلعان ومغربان.
3- معرفة صناعة اللؤلؤ والمرجان, والسفن التي هي في البحر كالجبال علواً وظهوراً.
4- وجوب شكر الرحمن على إنعامه على الإنس والجان.
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)
شرح الكلمات:
كل من عليها فان :أي كل من على الأرض من إنسان وحيوان وجان فانٍ أي هالك.
__________
1 الحديث في صحيح مسلم.

ويبقى وجه ربك :أي ذاته ووجه سبحانه وتعالى.
ذو الجلال والإكرام :أي العظمة والإنعام على عباده عامة والمؤمنين بخاصة.
يسأله من في السموات والأرض :أي يسألونه حاجاتهم التي تتوقف عليها حياتهم من الرزق والقوة على العبادة. والمغفرة للذنب، والعزة من الرب.
كل يوم هو في شأن :أي كل وقت هو في شأن: شؤون يبديها وفق تقديره لها يرفع أقواماً ويضع آخرين.
سنفرغ لكم أيها الثقلان1 :أي لحسابكم ومجازاتكم بعد انتهاء هذه الحياة الدنيا ونجزي كلاً بما عمل.
إن استطعتم أن تنفذوا :أي إن قدرتم على أن تخرجوا.
من أقطار السموات والأرض :أي من نواحي السموات والأرض.
فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان :أي فاخرجوا. لا تنفذون إلا بقوة ولا قوة لكم وهذا تعجيز لهم.
يرسل عليكما شواظ من نار :أي من لهب النار الخالص الذي لا دخان فيه.
ونحاس :أي دخان لا لهب فيه، ولا يبعد أن يكون نحاساً مذاباً.
فلا تنتصران :أي لا تمتنعان من السوق إلى المحشر.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر أيادى الرحمن الرحيم قال عز من قائل {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا2 فَانٍ} كل من على الأرض من إنسان وجانٍ وذوي روح وحيوان فانٍ: هالك، لا تبقى له روح ولا ذات، {وَيَبْقَى3 وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإكْرَامِ} حي لا يموت والإنس والجن يموتون فبأي ألاء ربكما4 تكذبان أبنعمة إيجادكما وإمدادكما بالأرزاق والخيرات طوال الحياة أم بنعمة إنهاء أتعابكما وتكاليفكما أم بإهلاك أعدائكما، وإدنائكما من النعيم المقيم في جنات النعيم، قولوا خيراً لكم لا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد. وقوله {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}5
__________
1 قيل في الإنس والجن: الثقلان لأنهما أثقلا وأتعبا بالتكاليف.
2 الضمير عائد إلى الأرض وإن لم يجر لها ذكر نحو (توارت بالحجاب). لأن المقام دال عليها.
3 أطلق لفظ الوجه وأريد به ذات الرب تعالى جرياً على عرف العرب في كلامهم إذ يطلقون الوجه على الذات والوجه معاً، وعنى (فان) أي: صائر إلى الفناء.
4 جائز أن يكون الفناء نعمة لا تدرك فلذا صح إيراد جملة: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) وأي نعمة أعظم من انتهاء هذه الحياة بكل ما فيها للانتقال إلى الحياة الدائمة حيث الخلد والبقاء فهي لأهل السعادة نعمة توجب أعظم الشكر.
5 السؤال: الدعاء فالملائكة يسألونه تعالى أن يغفر للذين آمنوا وهو قولهم {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ، رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}.

أي يطلبونه بلسان القال أو الحال ما هم في حاجة إليه مما يحفظ وجودهم ويغفر ذنوبهم وقوله تعالى {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} أي لا يفرغ الدهر كله يدبر أمر السماء والأرض يرفع أقواماً ويضع آخرين. وقول الرحمن {1سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} من الإنس والجن فنحاسبكما ونجزيكما محسنكما بالإحسان وسيئكما بالسوء والخسران، وهذا يوم تقومان للرحمن، حفاة عراة وتقفان بين يديه للحكم فيكما والقضاء بينكما فبأي آلاء ربكما تكذبان أبالعدل في الحكم بينكما أم بإسعاد صالحيكما واشقاء مجرميكما.
وقول الرحمن {يَا2 مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا} أي تخرجوا {مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي من جوانبهما وأطرافهما {فَانْفُذُوا} أي اخرجوا هاربين من قضائي وحكمي لكما وعليكما لا تنفذون إلا بقوة قاهرة غالبة ولا قوة لكم ولا سلطان هكذا يتحداهما الرحمن وهم يساقون إلى ساحة فصل القضاء فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ أبنعمة إحيائكما بعد موتكما أم بنعمة إكرام صلحائكما و إهانة فاسديكما وهي العدالة التي لا رحمة ولا نعمة في الحياة الدنيا تساويهما. وقوله تعالى {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ} أي لهب النار الخالص من الدخان، ونحاس وهو دخان خالص فلا تنتصران هذا إن أردتما الفرار من عدالتي وعدم الإذعان لقضائي وحكمي فيكما. فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ أبعظمة ربكم وقوة سلطانه أم برحمة مولاكم ولطفه بكم اللهم لا شيء من آلائك نكذب ربنا و لك الحمد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- بيان جلال الله وعظمته وقوة سلطانه.
3- بيان عجز الخلائق أمام خالقها عز وجل.
4- وجوب حمد الله تعالى وشكره على السراء والضراء.
__________
1 التفرغ للأمر: كناية عن الاشتغال به والعناية به دون غيره و (الثقلان) تثنية ثقل، وهل سمي الإنسان ثقلا لأنه محمول على الأرض الصحيح أن الإنسان والجن سميا بالثقلين لإثقالهما بالتكاليف من باب تسمية الشيء بعمله كتسمية العصفور طائر لأنه يطير.
2 المعشر: اسم للجمع الكثير الذي يعد عشرة دون آحاد.

فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)
شرح الكلمات:
فإذا انشقت السماء : أي انفتحت أبوابا لنزول الملائكة إلى الأرض لتسوق الخلائق إلى المحشر.
فكانت وردة كالدهان :أي السماء محمرة احمرار الأديم أو الفرس الأحمر وذابت فكانت كالدهان في صفائها وذوبانها.
فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان :أي يوم يخرجون من قبورهم لا يسألون عن ذنوبهم لما لهم من علامات كاسوداد الوجوه وبياضها، ويسألون عند الحساب.
يعرف المجرمون بسيماهم :أي سواد الوجوه وزرقة العيون.
فيؤخذ بالنواصي والأقدام :أي تضم ناصية المجرم إلى قدميه ويؤخذ فيلقى في جهنم.
هذه جهنم التي يكذب بها :أي يقال لهم توبيخاً وتبكيتاً هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون في الدنيا.
المجرمون :أي الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك والمعاصي.
يطوفون بينها وبين حميم آن :أي يسعون مترددين بينها وبين ماء حار قد انتهت حرارته إلى حد لا مزيد عليه وهو الحميم الآن يسقونه إذا عطشوا واستغاثوا يطلبون الماء لإرواء غلتهم العطشة.

معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في عرض أحوال القيامة وأهوال الموقف فقال جل جلاله وعظم سلطانه: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ} أي تفتحت لنزول الملائكة فكانت أبواباً بعد أن احمرت وتغيرت زرقتها لحمرة كحمرة الأديم الأحمر أو الفرس الأحمر أو الوردة الحمراء كل ذلك صالح لتشبيه لونها به وذابت فكانت كالدهان كما جاء وصفها في سورة المعارج يوم تكون السماء كالمهل. وهو درديٌ الزيت وعكره. فيومئذ أي1 يوم إذ يقع هذا يعظم الكرب ويشتد البلاء ويخرج الناس من قبورهم لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان أي أنسيً ولا جني فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ وقوله تعالى {يُعْرَفُ2 الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} أي باسوداد وجوههم وزرقة أعينهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام أي فيجمع الملك المكلف الإنس أو الجن المجرم بين ناصيته وقدميه ويأخذه فيرمي به في نار جهنم فبأي آلاء ربكما تكذبان أبنعمة العدالة أم بنعمة إكرام المتقين الصالحين. قولوا لا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد.
وقوله تعالى {هَذِهِ جَهَنَّمُ} أي يقال لهم توبيخاً وتبكيتاً هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون على أنفسهم بالشرك والمعاصي في الحياة الدنيا قال تعالى {يَطُوفُونَ} أي3 يسعون مترددين {بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ4 آنٍ} أي ماء حار اشتدت حرارته فبلغت حداً لا مزيد عليه يسقونه إذا استغاثوا من العطش. فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ إن خزي المجرمين وتعذيبهم نعمة تقربها الفطرة البشرية ولا يقدرها إلا من ذاق طعم الخوف والعذاب الذي ينزله المجرمون بالمتقين فلذا كان تعذيبهم يوم القيامة نعمة، كما أن هذا العرض لأحوال يوم القيامة وأهوالها نعمة إذ عليه آمن المؤمنون واتقى المتقون، فلذا قال تعالى بعد وصف حال أهل النار فبأي آلاء ربكم تكذبان؟5
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان الانقلاب الكوني وخراب العالم للقيامة.
2- يبعث الناس من قبورهم ولهم علامات تميزهم فيعرف السعيد والشقي.
3- التنديد بالإجرام وهو الشرك والظلم والمعاصي.
__________
1 جملة: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} جواب الشرط {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاء...} الخ وجملة: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} معترضة بين الشرط والجواب.
2 الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن قوله: { فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} والسيما: العلامة.
3 المعنى: أنهم يتنقلون بين مكان النار وبين الماء الحار فإذا أصابهم حر النار طلبوا البرد فلاح لهم الماء فأتوه فأصابهم حره فانصرفوا إلى النار وهكذا حالهم تطواف بين النار والحميم.
4 (آن) اسم فاعل من أنى يأني فهو آنٍ: إذا اشتدت حرارته وبلغت منتهاها في الحر.
5 وجائز أ، يكون تكريراً للتقرير والتوبيخ كنظائره.

وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49)
فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)
شرح الكلمات:
ولمن خاف مقام ربه جنتان :أي ولمن خاف الوقوف بين يدي الله في عرصات القيامة فآمن واتقى جنتان.
ذواتا أفنان :أي أغصان من شأنها أن تورق وتثمر وتمد الظل.
فيهما من كل فاكهة زوجان :أي من كل ما يتفكه به من أنواع الفواكه صنفان.
بطائنها من استبرق :أي بطائن الفرش من استبرق وهو ما غلظ من الديباج والظهائر من السندس وهو مارق من الديباج الذي هو الحرير.
وجنى الجنتين دان :أي وما يجنى من ثمار الجنة دان قريب التناول يناله القائم والقاعد.
فيهن قاصرات الطرف :أي قاصرات النظر بأعينهن على أزواجهن فقط.
لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان :أي لم يفتضهن قبل أزواجهن إنس ولا جان.

كأنهن الياقوت والمرجان :أي كأنهن في جمالهن الياقوت في صفائه والمرجان اللؤلؤ الأبيض.
هل جزاء الإحسان إلا الإحسان :أي ما جزاء الإحسان بالطاعة إلا الإحسان بالنعيم.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تعداد النعم وذكر أنواعها فقال تعالى {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه1ِ} أي الوقوف بين يديه في ساحة فصل القضاء يوم القيامة فأطاعه بأداء الفرائض واجتناب المحرمات {جَنَّتَانِ2} أي بستانان فبأي آلاء ربكما تكذبان أبإثابة أحدكم الذي إذا هم بالمعصية ذكر قيامه بين يدي ربه فتركها فأثابه الله بجنتين. وقوله ذواتا أفنان هذا وصف للجنتين وصفهما بأنهما ذواتا أفنان جمع فنن لون أفنان ألوان3 ولأشجارها أغصان من شأنها تورق وتثمر وتمد الظلال فبأي آلاء ربكما تكذبان أبهذا النعيم والإثابة للمتقين تكذبان.
وقوله {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} أي في الجنتين ذواتي الأفنان عينان تجريان بالماء العذب الزلال الصافي خلال تلك القصور والأشجار فبأي آلاء ربكما4 تكذبان يا معشر الجن والإنس أبمثل هذا العطاء والإفضال تكذبان؟ وقول الرحمن فيهما من كل فاكهة زوجان أي في تينك الجنتين من كل فاكهة من الفواكه صنفان فلا يكتفى بصنف واحد إتماماً للنعيم والتنعم فبأي آلاء ربكما تكذبان أبمثل هذا الإنعام والإكرام لأهل التقوى تكذبان؟ وقوله ما أوسع رحمته وهو الرحمن {مُتَّكِئِينَ5} أي حال تنعمهم على فرش على الأرائك بطائن6 تلك الفرش من استبرق وهو الغليظ من الديباج أما الظواهر فهي السندس وهو مارق من الديباج. وقوله {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} أي وثمارها التي تجنى من أشجارها دانية أي قريبة التناول يتناولها المتقي وهو مضطجع أو قاعد أو قائم، لا شوك فيها ولا بعد لها فبأي آلاء ربكما تكذبان أبمثل هذا الإنعام والإكرام
__________
1 (من) من ألفاظ العموم كالجنس.
2 جنتان تحفان بقصره أو واحدة عن يمين القصر وأخرى عن شماله ولا يعرف مدى سعتهما إلا الله تعالى، وذلك لما ثبت أن أحدهم يعطى مثل الدنيا عشر مرات واللام في (لمن خاف) لام الملك.
3 يطلق الفنن على اللون وعلى الغصن فأفنان الفاكهة: ألوانها المختلفة، وأفنان الشجر أغصانه، قال النابغة:
بكاء حمامة تدعو هديلا
مفجعة على فنن تغني
4 الاستفهام في قوله: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) تكرر بتكرار النعم، وهو للتقرير والتوبيخ والحث على الشكر بالعبادة والتوحيد فيها.
5 (متكئين) حال من (ولمن خاف مقام ربه).
6 البطائن: جمع بطانة بكسر الباء مشتقة من البطن خلاف الظهر وضد البطانة الظهارة، فالبطانة: أسفل الثوب والظهارة: ظهره.

تكذبان. قول الرحمن: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ1} أي وفي تينك الجنتين نساء من الحور العين {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أي العين على أزواجهن فلا ترى إلا زوجها أي فلا تنظر إلا إلى زوجها وتقول له وعزة ربي وجلاله وجماله ما أرى في الجنة شيئاً أحسن منك فالحمد لله الذي جعلك زوجي وجعلني زوجك.
وقوله {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} أي لم يجامعهن فيفتضهن قبل أزواجهن {إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} أي لم يجامع الإنسية قبل زوجها الإنسي إنسي ولم يجامع الجنية قبل زوجها الجني جان فبأي آلاء ربكم تكذبان أبمثل هذا الإنعام تكذبان؟
وقوله {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ} أي في صفائهن {وَالْمَرْجَانُ} في بياضهن إذ الحوراء منهن يرى مخ ساقا تحت ثيابها كما يرى الخيط أو السلك في داخل الياقوتة لصفائها فبأي آلاء ربكما تكذبان أبمثل هذا العطاء والإنعام تكذبان.
وقوله عظم فضله وجل عطاؤه وهو الرحمن {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ} أي في الإيمان والطاعات من العبادات {إِلَّا الْإِحْسَانُ} 2 إليه بمثل هذا النعيم العظيم الذي ذكر في هذه الآيات. فبأي آلاء ربكما تكذبان يا معشر الإنس والجان فقولا: لا بشيء من آلاء ربنا نكذب فلك الحمد.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضل الخوف من الله تعالى وذلك كأن تعرض للعبد المعصية فيتركها خوفا من الله تعالى.
2- فضل نساء أهل الجنة في حبهن لأزواجهن بحيث لا ينظرن إلا إليهم.
3- بيان أن أفضل النساء في الدنيا تلك التي تقصر نظرها على زوجها فتحبه ولا تحب غيره من الرجال.
4- بيان أن الجن المتقين يدخلون الجنة ولهم أزواج كما للإنس سواء بسواء.
5- الإشادة بالإحسان وبيان جزائه والإحسان هو إخلاص العبادة لله والإتيان بها على الوجه الذي شرع أداؤها عليه، مع الإحسان إلى الخلق بكف الأذى عنهم وبذل الفضل لمن احتاجه منهم.
__________
1 هؤلاء نسوة الجنة لا أزواج المؤمنين اللائي كن لهم في الدنيا إذ مسهن أزواجهن والزوجة المؤمنة تكون لآخر من تزوجها في الدنيا.
2 جملة: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) تذييل لما قبلها من الجمل المتضمنة إيمان المؤمنين وعملهم الصالح وإحسانهم فيه, والاستفهام للنفي.

وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ (78)
شرح الكلمات:
ومن دونهما جنتان :أي ومن دون تينيك الجنتين جنتان أخريان لمن خاف مقام ربه.
مدهامتان :أي مسودتان من شدة خضرتهما.
فيهما عينان نضاختان :أي فوارتان دائماً وأبداً تفوران بالماء العذب الزلال.
فيهن خيرات حسان :أي في الجنات الأربع نساء خيرات الأخلاق حسان الوجوه.
حور :أي أولئك الخيرات حور أي بيض والواحدة حوراء أي بيضاء.
مقصورات في الخيام :أي مستورات محبوسات على أزواجهن في الخيام والخيمة من در مجوف مضافة إلى
القصور, وطول الخيمة الواحدة ستون ميلا.
لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان :أي لم يجامعهن فيفتض بكارتهن قبل أزواجهن في الجنة أحد.

على رفرف خضر : أي على وسائد أو بسط الواحدة رفرفة خضر جمع أخضر.
وعبقري حسان :أي طنافس جمع طنفسة بساط له خمل رقيق أي بسط حسان.
تبارك اسم ربك :أي تقدس وكثرت بركة اسم ربك الرحمن.
ذي الجلال والإكرام أي ذي العظمة والإكرام لأوليائه والإحسان إلى عباده.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر إنعام الله تعالى وإفضاله على عباده فقال {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} أي ومن دون تينيك الجنتين جنتان أخريان لمن خاف مقام ربه من السابقين وهاتان لمن خاف مقام ربه من أصحاب اليمين وقد يكون العكس كذلك والله أعلم بأي الجنتين أفضل, الله ارزقنا ما شئت منهما فإنا بعطائك رضوان ولك حامدون شاكرون فبأي آلاء ربكما تكذبان أي بأي إفضال وإنعام تكذبان؟ وقوله تعالى {مُدْهَامَّتَانِ} 1 مخضرتان إلى حد الاسوداد فإن الأخضر من الأشياء إذا اشتدت خضرته ضرب إلى السواد ويقال فيها مدهامة2 فبأي آلاء ربكما تكذبان أي بأي إنعام تكذبان يا معشر الجن والإنس {فِيهِمَا} في الجنتين {عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} أي فوارتان بالماء دائماً وأبداً، فبأي آلاء ربكما تكذبان بأي إفضال وإحسان تكذبان وقول الرحمن {فِيهِمَا} أي في الجنتين فاكهة ونخل 3 ورمان لفظ الفاكهة قد يعم النخل والرمان ويصبح ذكر النخل والرمان لمزيد فضيلة كذكر الصلاة الوسطى بعد ذكر الصلوات الخمس في قوله {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} لا بشيء من آلاء ربنا نكذب ربنا فلك الحمد. وقوله تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ4 حِسَانٌ} أي في الجنتين نساءهن خيرات جمع خيرة خيرات الأخلاق حسان الوجوه. فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ أبمثل هذا الإنعام والإكرام على أولياء الرحمن تكذبان؟ {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي5 الْخِيَامِ} إن أولئك الخيرات حور جمع حوراء وهي البيضاء, والحوراء كذلك من يغلب بياض عينيها سوادهما وهو من جمال النساء محبوسات في الخيام لا ينظرن إلى غير أزواجهن, والخيمة من درة مجوفة طولها ستون ميلا مضافة إلى قصورهم.
__________
1 (مدهامتان) وصف مشتق من الدهمة, بضم الدال وهو لون السواد الناتج عن شدة الخضرة.
2 الاستفهام كسابقه للتقرير والتوبيخ.
3 عطف النخل والرمان على (فاكهة) من باب عطف الجزء على الكل أو الخاص على العام كقوله تعالى :{ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} .
4 (خيرات) بسكون الياء جمع خيرة وهو وصف لموصوف محذوف أي: نساء خيرات, والأصل: خيرات بتشديد الياء المكسورة جمع خيرة مؤنث خير وهو المختص بوصف الخير ضد الشر وخفف في الآية طلبا للخفة مع السلامة من اللبس.
5 المقصورات: صفة لموصوف أي: نساء مقصورات والقصور على الخيمة بعد الخروج منها: وصف للترف والنعيم لا تخرج من الخيمة والقصر لغناها بخلاف من تخرج للعمل لحاجتها إلى العمل في البستان أو غيره.

وقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} أي لم يجامعهن فيفتض بكارتهن إنس ولا جان من قبل أزواجهن في الجنة فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ والجواب: لا بشيء من آلاء ربنا نكذب ربنا فلك الحمد.
وقوله تعالى :{مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ1 خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} أي متكئين على رفرف خضر والرفرف جمع رفرفة أي على وسائد أو بسط خضر,2 وعبقري حسان أي على طنافس3 ذات خمل دقيق. فبأي آلاء ربكما تكذبان بنعم الدنيا أي بنعم البرزخ أم بنعم الآخرة لا بشيء من آلاء ربنا نكذب.
وقوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإكْرَامِ} أي تبارك اسم ربك أي تقدس وكثرة بركات اسم ربك الرحمن ذي الجلال أي العظمة والإكرام لأوليائه وصالحي عباده.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن نعيم الآخرة أعظم وأجل من نعم الدنيا.
2- فضيلة التمر والرمان فلنبحث منافعهما فإن الحقيقة بنت البحث.
3- فضل المرأة المقصورة في بيتها وذم الولاجة الخارجة كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
4- بيان أن الجن يدخلون الجنة ويسعدون فيها.
5- البركة تنال ببسم الله الرحمن الرحيم.
__________
1 الرفرف: اسم جمع رفرفة, وهي ما يبسط على الفراش للنوم عليه, ويغلب عليها اللون الأخضر ولذلك شبه ذو الرمة الرياض بالبسط العبقرية في قوله:
حتى كأن رياض القف ألبسها
من وشي عبقر تجليل وتنجيد
وكانت الثياب الخضر. عزيزة إذ هي لباس الملوك والكبراء. قال النابغة:
يصون أجساداً قديما نعيمها
بخالصة الأردان خضر المناكب
2 العبقري: وصف لكل ما كان فائقا في صفته عزيز الوجود وهو نسبة إلى عبقر اسم بلاد الجن في معتقد العرب فنسبوا إليه كل ما تجاوز العادة في الإتقان والحسن, ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم في رؤياه لعمر :" فلم أر عبقرياً يفري فريه".
3 جمع طنفسة وهي البساط ذو الخمل, و(حسان) جمع حسناء, وهو وصف لعبقري لأنه اسم جامع.

سورة الواقعة
...
سورة الواقعة
مكية
وآياتها ست وتسعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ

(3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
شرح الكلمات:
إذا وقعت الواقعة :أي قامت القيامة وقال فيها لأنها واقعة لا محالة.
ليس لوقعتها كاذبة :أي نفس تكذب بها بأن تنفيها كما نفتها في الدنيا.
خافضة رافعة :أي مظهرة لخفض أقوام بدخولهم النار, ولرفع آخرين بدخولهم الجنة.
إذا رجت الأرض رجا :أي حركت حركة شديدة.
وبست الجبال بسا :أي فتتت تفتيتاً.
فكانت هباء منبثا :أي غباراً منتشراً.
وكنتم أزواجاً ثلاثة: أي في القيامة أصنافاً ثلاثة.
فأصحاب الميمنة :أي الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم.
ما أصحاب الميمنة :أي تعظيم لشأنهم بدخولهم الجنة.
وأصحاب المشأمة : أي الشمال الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم.
ما أصحاب المشأمة :أي تحقير لشأنهم بدخولهم النار.
والسابقون :أي إلى الخير وهم الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة في أول الدعوة.
السابقون :تعظيم لشأنهم.
أولئك المقربون :أي هم المقربون الذين يقربهم الله منه يوم القيامة إذا أدخلهم الجنة.
في جنات النعيم :في بساتين النعيم الدائم.

معنى الآيات:
قوله تعالى في تقرير البعث والجزاء الذي كذب به المشركون وأنكروه في إصرار وعناد {إِذَا 1وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} أي إذا قامت القيامة {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أي نفس تكذب بها إذ يؤمن بها الجميع، خافضة لأقوام أي مظهرة لحالهم بأنهم أهل النار، رافعة لآخرين مظهرة لحالهم لأنهم من أهل الجنة. وقوله: {إِذَا رُجَّتِ2 الْأَرْضُ رَجّاً} أي حركت حركة شديدة، {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ3 بَسّاً} أي إذا بست الجبال أي فتتت تفتيتاً {فَكَانَتْ4 هَبَاءً مُنْبَثّاً} أي غباراً منتشراً.
وقوله تعالى {وَكُنْتُمْ} أي أيها الناس {أَزْوَاجاً} أي أنواعاً ثلاثة: أصحاب اليمين وأصحاب الشمال والمقربون فأصحاب الميمنة أو الذين يؤتون كتبهم بإيمانهم ما أصحاب5 الميمنة أي أ، شأنهم عظيم وذلك بدخولهم الجنة دار النعيم. وأصحاب المشأمة وهم أصحاب الشمال أي اليساريون الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم أي بمياسرهم ما أصحاب المشأمة أي شأنهم حقير وذلك بدخولهم النار. والسابقون إلى الإيمان والطاعة في أول ظهور الدعوة 6السابقون هذا تعظيم لشأنهم وإعلان عن فوزهم وكرامتهم في جنات النعيم وهي بساتين ذات نعيم دائم جعلنا الله منهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير البعث والجزاء في الآخرة.
2- الإيمان والتقوى يرفعان والشرك والمعاصي يضعان ويخفضان.
3- السابقون إلى الطاعات لهم فضل الأسبقية في كل زمان زمكان.
4- اليساريون هم أشقياء الدنيا والآخرة. لأنهم عندما أخذ غيرهم ذات اليمين طالبين الإيمان والاستقامة أخذوا هم ذات الشمال طالبين الكفر والفسوق.
__________
1 (الواقعة) علم بالغلبة على القيامة، وأصل الواقعة: الحادثة، ومن ذلك قولهم واقعة أحد أو بدر مثلاً، وإذا ظرف ضمن معنى الشرط متعلق بالكون المقدر في قوله: {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} و {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا} مستأنفة بيانية.
2 (إذا رجت الأرض) بدل من (إذا) الأولى، وجواب الشرط (إذا) الأولى والمبدلة منها هو قوله: (فأصحاب الميمنة).. الخ.
3 البث: بمعنى التفتت للأجزاء المجموعة، ومنه: البسيسة: للسويق ويطلق البث على السوق للماشية، وفي الحديث: "فيأتي قوم فيبسون بأموالهم وأهليهم- أي: يسوقونهم – والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون".
4 الهباء: ما يلوح في خيوط شعاع الشمس من دقيق الغبار.
5 (أصحاب الميمنة): (ما) مبتدأ والخبر: أصحاب الميمنة، والجملة خبر فأصحاب الميمنة وكذا (ما أصحاب المشأمة).
6 يجوز أن يكون (السابقون): خبر عن الأول، وجملة: (أولئك المقربون) مستأنفة، ويجوز أن يكون (السابقون) الثاني: ويجوز أن تكون تأكيداً للأول، والخبر: جملة (أولائك).ً

ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)
شرح الكلمات:
ثلة من الأولين :أي جماعة من الأمم الماضية.
وقليل من الآخرين :أي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. هؤلاء هم السابقون.
على سرر موضونة :أي منسوجة مشبكة بالذهب والجواهر.
ولدان مخلدون :أي على شكل الأولاد لا يهرمون فيخدمونهم أبداً.
بأكواب وأباريق :يطوف عليهم الولدان الخدم بأكواب وهي أقداح لا عرا لها, وأباريق لها عرا
وخراطيم.
وكأس من معين :أي وإناء لشرب الحمر ومعين بمعنى جارية من نهر لا ينقطع أبداً.
لا يصدعون :أي لا يحصل لهم من شربها صداع.
ولا ينزفون :أي ولا تذهب عقولهم يقال نزف الشارب وأنزف إذا ذهب عقله بالسكر.
وفاكهه مما يتخيرون :أي يختارون منها ما يروق لهم ويعجبهم وإن كانت كلها معجبة.
وحور عين :أي ولهم نساء بيض عين أي واسعة الأعين وشديدات سواد العيون وبياضها.
كأمثال اللؤلؤ المكنون :أي أولئك الحور العين هن في جمالهن وصفائهن كأمثال اللؤلؤ المصون.

لغواً ولا تأثيما :أي لا يسمعون في الجنة لغواً أي فاحش الكلام وما لا خير فيه ولا ما يوقع في
الإثم.
إلا قيلا سلاما سلاما :إلا قولا سلاما سلاما أي لا يسمعون إلا السلام من الملائكة ومن بعضهم بعضاً.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان أحوال الناس إذا قامت القيامة فذكر أنهم يصيرون أصنافاً ثلاثة أصحاب يمين وأصحاب شمال وسابقين. وهنا يقول في السابقين إنهم ثلة أي جماعة من الأولين أي1 من الأمم الماضية الذين أسلموا وسبقوا إلى الإسلام مع أنبيائهم, وقيل من الآخرين2 أي من هذه الأمة أمة محم صلى الله عليه وسلم وهم الذين سبقوا إلى الإيمان والمجرة والجهاد يذكر نعيمهم فيقول وقوله الحق :{عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} أي إنهم على سرر موضونة أي منسوجة ومشبكة بالذهب والجواهر, حال كونهم متكئين عليها متقابلين لا ينظر أحدهم إلى قفا الآخر بل إلى وجهه, {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ} أي لللخدمة {وِلْدَانٌ } غلمان {مُخَلَّدُونَ3} لا يكبرون فيهرمون ولا يتغيرون بل يبقون كذلك أبداً يطوفون عليهم بأكواب جمع كوب وهو قدح لا عروة له, وأباريق جمع إبريق وهو إناء له عروة وخرطوم, {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} والكأس هنا إناء شرب الجمر والمعين ما كان جاريا لا ينضب والمراد بكأس من نهر الخمر.
وقوله تعالى {لا يُصَدَّعُونَ4 عَنْهَا} أي لا يصيبهم صداع من شربها, ولا ينزفون5 أي لا تذهب عقولهم بشربها بخلاف خمر الدنيا فإنها تصيب شاربها بالصداع وذهاب العقل غالباً وقوله تعالى {وَفَاكِهَةٍ} ويطوف عليهم الغلمان بفاكهة وهو ما يتفكه به وليس بغذاء رئيسي وهو من سائر الفواكه, مما يتخيرون أي يختارون. ولحم طير مما يشتهون أي مما تشتهيه أنفسهم.
وقوله {وَحُورٌ عِينٌ} أي ولهم في الجنة حور عين يستمتعون بهن, واحدة الحور حوراء. وهي البيضاء وواحدة العين العيناء وهو واسعة العينين والحور في العين أن يكون بياضها أكثر من
__________
1 قوله: (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين) اعتراض بين جملة (في جنات النعيم) وجملة: (على سرر موضونة) وثلة: خبر لمبتدأ محذوف أي هم: ثلة الخ.
2 من الأولى والثانية تبعيضية.
3 قيل: إنهم على سن واحدة, وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: الولدان هم أولاد المسلمين الذين يموتون صغاراً. وقال سلمان: هم أولاد المشركين الذين يموتون صغاراً. والله أعلم.
4 التصديع: الإصابة بالصداع, وهو وجع الرأس من الخمار الناشيء عن السكر أي لا تصيبهم الخمر بصداع, وعنها بمعنى: لا يصيبهم صداع ناشيء عنها.
5 قرأ نافع (ينزفون) بفتح الزاي من: أنزفه وقرأها حفص (ينزفون) بكسر الزاي من أنزف القاصر, إذا سكر وذهب عقله.

سوادها وهو ضرب من الجمال, وقوله {كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} أي المصون في كنه أو صدفه.
يريد أنهن جميلات مصونات غير مبتذلات وقد تقدم في الرحمن أنهن مقصورات في الخيام.
وقوله تعالى {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي جزاهم ربهم جزاهم بما كانوا يعملونه من الصالحات بعد الإيمان والتوحيد وترك المعاصي.
وقوله تعالى وهو من إتمام النعيم أنهم لا يسمعون في جنات النعيم ما يكدر صفو نعيمهم أو ينغص لذة حياتهم من قول بذيء سيء فلا يسمعون فيها أي في الجنة لغواً أي1 كلاماً فاحشاً ولا تأثيما وهو ما يؤثم قائله وسامعه. إلا قيلا أي قولا سلاماً سلاماًُ أي إلا ما كان من سلام الرب تعالى عليهم وهو أكبر نعيمهم وسلام الملائكة عليهم وسلام بعضهم على بعض اللهم اجعلنا منهم قل آمين أيها القاريء واطمع فإن ربنا غفور رحيم سميع الدعاء قريب مجيب.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير البعث والجزاء بذكر أحوال الدار الآخرة.
2- بيان شيء من نعيم أهل الجنة وخاصة السابقين منهم.
3- بيان أن السابقين يكونون من سائر الأمم المسلمة.
4-بيان فضل خمر الجنة على خمر الدنيا المحرمة.
5- تقرير قاعدة أن الجزاء من جنس العمل.
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً (36) عُرُباً أَتْرَاباً (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
__________
1 اللغو ن الكلام في الدنيا هو: ما لا يحصل حسنة للمعاد ولا درهما للمعاش وفي الآخرة هو ما لا يسر من كل قول إذ الحياة: حياة سعادة وسور وحبور.

شرح الكلمات:
وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين :هذا شروع في ذكر الزوج الثاني من الأزواج الثلاثة فذكر السابقين وما أعد لهم وهذا ذكرٌ لأصحاب اليمين وما أعد لهم من نعيم مقيم.
في سدر مخضود :في شجر السدر وثمره النبق ومخضود لا شوك فيه.
وطلح منضود :أي شجر موز منضود الحمل من أعلاه إلى أسفله فليس له ساق بارزة.
وظل ممدود :أي دائم إذ لا شمس تنسخه وإن ظل شجرة في الجنة يسير الراكب فيه مائة سنة لا يقطعه.
وماء مسكوب :أي مصبوب لا يحتاج المتنعم بأن يصبه بيده بل هو سائل في غير أخدود أو أنبوب.
لا مقطوعة ولا ممنوعة :أي غير مقطوعة في زمن، ولا ممنوعة بثمن.
وفرش مرفوعة :أي على السرر العالية الرفيعة.
إنا أنشأناهن إنشاء :أي الحور العين اللائي تقدم ذكرهن في قوله وحور عين. إذ كانت الواحدة منهن في الدنيا عجوزاً شمطاء عمشاء رمصاء فأنشأها ربها إنشاء جديداً بكراً تتغنج وتتعشق عرباء تتودد لزوجها وتتحبب.
فجعلناهن أبكاراً :الواحدة بكر وهي التي لم تفتض بكارتها بعد وتسمى العذراء.
عرباً :الواحدة عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل.
أتراباً :أي مستويات في السن الواحدة يقال لها تربٌ والجمع أتراب.
لأصحاب اليمين :وهم الذين يؤخذ بهم في عرصات القيامة ذات اليمين وهم أهل الإيمان في الدنيا والعمل الصالح فيها.
ثلة من الأولين :أي من الأمم السابقة.
وثلة من الآخرين :أي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في عرض أحوال الآخرة وذكر ما لكل صنف من أصناف الناس الثلاثة من سابقين وأصحاب يمين وأصحاب شمال فقال تعالى {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ1} وهم الذين إذا وقفوا في عرصات القيامة أخذ بهم ذات اليمين وهم أهل الإيمان والتقوى في الدنيا وقوله تعالى: {مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ2} تفخيم لشأنهم وإعلان عن كرامتهم ثم بين ذلك بقوله: {فِي سِدْرٍ3 مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ4 وَلا مَمْنُوعَةٍ ، وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ } إنهم في هذا النعيم الدائم المقيم إنهم يتفكهون بالنبق الذي هو أحلى من العسل وأنعم من الزبد شجره مخضود الشوك لا شوك به، ويتفكهون بالطلح أي ثمره وهو الموز، والماء المصبوب الجاري، والفاكهة الكثيرة التي لا تقطع بالفصول الزمانية كما هي الحال في فاكهة الدنيا يوجد منها في الصيف ما لا يوجد في الشتاء مثلا ولا ممنوعة بثمن غال ولا رخيص وفي فرش مرفوعة عالية علو الدرجات التي هي فيها وقوله: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} 5 يعني الحور العين اللائي سبق في الآيات ذكرهن منهن من أنشأهن الله إنشاء لم يسبق لهن خلق ووجود، ومنهن نساء الدنيا فقد كانت فيهن السوداء والعمشاء والرمصاء والعجوز فيعيد تعالى إنشاءهن فيجعلهن من بين الحور العين كأنهن اللؤلؤ المكنون، وقوله {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} عذارى لم يمسهن قبل أزواجهن إنس ولا جان عربا أتراباً العروب6 هي المتحببة إلى زوجها العاشقة له المتغنجة والأتراب المتساويات في السن، وترب7 الإنسان من ولد معه في وقت واحد فمس جلده التراب مع مس التراب جلدك وقوله لأصحاب اليمين أي أنشأ هؤلاء الحور العين لأجل أصحاب اليمين ليستمتعوا بهن. وقوله {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} أي من الأمم الماضية {وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} أي من هذه الأمة المسلمة اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وأدخلنا الجنة معهم.
__________
1 هذا شروع في تفصيل ما أجمل عند التقسيم من شؤونهم الفاضلة على إثر تفصيل شؤون السابقين.
2 الإخبار ب (ما أصحاب اليمين): فيه من التفخيم ما فيه!!
3 خبر محذوف المبتدأ تقديره: هم في سدر.
4 لا مقطوعة ولا ممنوعة: هذا وصف للفاكهة، والنفي هنا أثبت من الإثبات لأنه بمنزلة وصف وتوكيد.
5 لما ذكر الفرش قد يخطر بالبال هل هناك نساء يكن بصحبة أهلها؟ فأجيب بقولي: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ} أي: الحور العين {إِنْشَاءً} فكانت الجملة مستأنفة استأنفاً بيانياً، وضمير المؤنث (أنشأناهن) عائد إلى غير مذكور في الكلام لكنه ملحوظ في الأفهام.
6 العرب: جمع عروب، ويقال: عربة ويجمع على عربات، وهذا اسم خاص بالمرأة المتحببة إلى زوجها كما في التفسير.
7 الأتراب: جمع ترب وهي المرأة التي تساوى سنها سن من تضاف إليه من النساء، وقيل: إن الترب خاص بالمرأة، وأما المساواة في السن من الرجال فيقال له قرن، ولدة.

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان إكرام الله وإنعامه على المؤمنين المتقين.
2- بيان أن العجوز في الدنيا إذا دخلت الجنة تصير شابة حسناء حوراء عروباً.
3- تقرير أن ثمن الجنة الإيمان والتقوى فلا دخل للحسب ولا للنسب والأول كالآخر على حد سواء فيها.
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
شرح الكلمات :
وأصحاب الشمال :أي هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال في الموقف يوم القيامة وهم أهل الشرك والمعاصي في الدنيا.
في سموم :أي ريح حارة تنفذ في مسام الجسد.
وحميم :أي ماء حار شديد الحرارة.
وظل من يحموم :أي دخان شديد السواد.

لا بارد ولا كريم :أي لا بارد كغيره من الظلال ولا كريم حسن المنظر.
كانوا قبل ذلك :أي في الدنيا.
مترفين :أي منعمين لا ينهضون بالتكاليف الشرعية ولا يتعبون في طاعة الله ورسوله.
يصرون على الحنث العظيم :أي الذنب العظيم وهو الشرك.
وكانوا يقولون أئذا متنا الآن :أي وكانوا ينكرون البعث الآخر.
لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم :أي لوقت يوم معلوم وهو يوم القيامة.
أيها الضالون المكذبون :أي الضالون عن طريق الهدى المكذبون بالبعث والجزاء.
من شجر من زقوم :أي من أخبث الشجر المر في غاية الكراهة والبشاعة طعماً ولوناً.
فشاربون شرب الهيم :أي شاربون شرب الإبل العطاش، إذ الهيمان العطشان والهيمى العطشى.
هذا نزلهم يوم الدين :أي هذا ما أعد لهم من قرىً يوم الجزاء والحساب وهو يوم القيامة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بيان أحوال الأصناف الثلاثة التي انقسمت البشرية إليها عند خروجها من قبورها فذكر حال السابقين وحال أصحاب اليمين وذكر هنا حال أصحاب المشأمة وهم أصحاب الشمال فقال تعالى: {وَأَصْحَابُ1 الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} تنديد بحالهم وإعلان عن سوء عاقبتهم وما هم فيه من عذاب إنهم {فِي سَمُومٍ2} أي ريح حارة تنفذ في مسام الجسم {وَحَمِيمٍ} وهو ماء حار شديد الحرارة هذا شرابهم، {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ3 لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} إنه دخان أسود شديد السواد {لا بَارِدٍ} كغيره من الظلال {وَلا كَرِيمٍ} أي وليس بذي حسن في منظره. وقوله تعالى {إِنَّهُمْ4 كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} 5 هذه علة جزائهم بالعذاب الأليم
__________
1 هذا شروع في تفصيل أحوالهم التي أشير عند التوزيع إلى هولها وفظاعتها بعد تفصيل حسن حال أصحاب اليمين.
2 (السموم): الريح الشديدة الحرارة التي لا بلل معها كأنها مأخوذة من السم.
3 اليحموم: الدخان الأسود مشتق من الحمم على وزن صرد اسم للفحم والحممة: الفحمة. وفي قوله تعالى: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} تهكم ظاهر.
4 الجملة تعليلية إذ هي علة لما أصاب أصحاب الشمال من الهون والدون والعذاب الأليم.
5 ظاهر اللفظ أن الترف هو سبب كفرهم وإصرارهم على ذلك وجائز أن يكون الترف بعض السبب لا كله، والعبرة بالواقع والإشارة في قوله: (قبل ذلك) عائدة إلى السموم واليحموم والظل من اليحموم.

إنهم كانوا في الدنيا منعمين لا يصلون ولا يصومون ولا يجاهدون ولا يرابطون، {وَكَانُوا يُصِرُّونَ1 عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} أي على الإثم العظيم أي الشرك وكبائر الإثم والفواحش.
{وَكَانُوا يَقُولُونَ} منكرين للبعث والجزاء جاحدين باليوم الآخر- {أَإِذَا مِتْنَا2 وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} أي أحياء كما كنا في الدنيا {أَوَآبَاؤُنَا} أيضا مبعوثون كذلك والاستفهام في الموضعين للاستبعاد والإنكار. وهنا أمر تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بقوله {قُلْ} أي قل لهم: {إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ} أي أنتم وآباؤكم من عهد آدم والآخرين منكم ومن ذريتكم إلى نهاية حياة الإنسان { لَمَجْمُوعُونَ3 إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} أي لوقت يوم معلوم عند الله محدد باليوم والساعة والدقيقة {ثُمَّ4 إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ} عن سبيل الهدى المعرضون عن الحق المكذبون بالبعث لداخلون جهنم ماكثون فيها أبداً وإنكم {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} وهو شر ثمر وأخبث ما يؤكل مرارة {فَمَالِئُونَ مِنْهَا} بطونكم لما يصيبكم من الجوع الشديد، {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ ،فَشَارِبُونَ شُرْبَ5 الْهِيمِ} أي الماء الحار الشديد الحرارة مكثرين منه كما تكثر الإبل الهيم6 التي أصابها العطش واشتد بها داء الهيام الذي أصابها. قوله تعالى {هَذَا نُزُلُهُمْ7 يَوْمَ الدِّينِ} أي هذا الذي ذكرنا من طعام الضالين المكذبين وشرابهم هو نزلهم الذي ننزلهم يوم الدين وأصل النزل ما يعد للضيف النازل من قرى: طعام وشراب وفراش.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- أصحاب الشمال يدخل فيهم كل كافر وجد على وجه الأرض فإنهم في التقسيم ثلث الناس وفي الواقع هم أضعاف أضعاف السابقين وأصحاب اليمين لأن أكثر الناس لا يؤمنون.
2- التنديد بالترف والتنعم في هذه الحياة الدنيا فإنه يقود إلى ترك التكاليف الشرعية فيهلك
__________
1 صيغة المضارع (يصرون) دالة على تجدد الإصرار منهم.
2 قرأ الجمهور ومنهم حفص بإثبات الاستفهام الأول والثاني، وقرأ نافع بالاستفهام في (أإذا متنا) والإخبار في (إنا لمبعوثون).
3 (مجموعون): أي: مبعوثون دفعة واحدة جميعاً دفعاً لما قد يتوهم أنهم يبعثون على فترات كما كان وجودهم وموتهم في الدنيا على فترات مختلفة.
4 هذا من جملة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم.
5 الهيم: جمع أهيم وهو البعير الذي أصابه الهيام بضم الهاء وهو داء يصيب الإبل يورثها حمى في الأمعاء فلا تزال تشرب ولا تروى والمؤنث هيمى إذ المذكر أهيم.
6 قرأ نافع وحفص: (شرب) بضم الشين، وقرأ بعض شرب بفتح الشين مصدر شرب يشرب شرباً.
7 النزل: بضم النون والزاي: ما يعد للضيف ويقدم له من طعام وشراب وهو هنا تشبيه تهكمي كالاستعارة كما في قول الشاعر:
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا
جعلنا القنا والمرهفات له نزلا

صاحبه لذلك لا لكون طعامه وافراً وشرابه لذيذاً.
3- تقرير عقيدة البعث والجزاء بما لا مزيد عليه من العرض والوصف لحال الناس.
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
شرح الكلمات:
نحن خلقناكم :أي أوجدناكم من العدم.
فلولا تصدقون :أي فهلا تصدقون بالبعث إذ القادر على الإنشاء قادر على الإعادة بعد الفناء والبلى.
أفرأيتم ما تمنون :أي الذي تصبونه من المني بالجماع في أرحام نسائكم.

أأنتم تخلقونه :أي بشراً أم نحن الخالقون له بشراً.
نحن قدرنا بينكم الموت :أي قضينا به عليكم وكتبناه عليكم وعجلنا لكل واحد أجلاً معيناً لا يتعداه ولا يتأخر منه بحال من الأحوال.
وما نحن بمسبوقين :أي بعاجزين.
على أن نبدل أمثالكم :أي ما أنتم عليه من الخلق والصور.
وننشئكم فيما لا تعلمون :أي ونوجدكم في صور لا تعلمونها وهذا تهديد لهم بمسخهم وتحويلهم إلى أبشع حيوان وأقبحه.
ولقد علمتم النشأة الأولى :أي ولقد علمتم خلقنا لكم كيف تم وكيف كان.
أفلا تذكرون : فتعلمون أن الذي خلقكم أول مرة قادر على إعادة خلقكم مرة أخرى بعد موتكم وفنائكم.
أفرأيتم ما تحرثون :أي من إثارة الأرض بالمحراث وإلقاء البذر فيها.
أأنتم تزرعونه :أي تنبتونه.
أم نحن الزارعون :أي نحن المنبتون له يقال زرعه الله أي أنبته.
لو نشاء لجعلناه حطاما :أي لو نشاء لجعلنا الزرع حطاماً يابساً بعد أن أصبح سنبلاً وقارب أن يفرك فتحرمون منه.
فظلتم تفكهون :أي تتعجبون في مجالسكم من الجائحة التي أصابت زرعكم.
إنا لمغرمون :أي قائلين إنا لمغرمون أي ما أنفقناه على حرثه ورعايته معذبون به.
بل نحن محرومون :أي لسنا بمعذبين به وإنما نحن محرومون من زرعنا وما بذلناه فيه ليس لنا من حظ ولا جد أي غير محظوظين ولا مجدودين.
أفرأيتم الماء الذي تشربون :أي أخبرونا عن الماء الذي تشربونه وحياتكم متوقفة عليه.
أأنتم أنزلتموه من المزن :أي من السحاب في السماء إلى الأرض.
أم نحن المنزلون :أي له إلى الأرض.
لو نشاء لجعلناه أجاجا :أي ملحاً مراً لا يمكن شربه.

فلولا تشكرون :أي فهلا تشكرون أي الله بالإيمان والطاعة.
أفرأيتم النار التي تورون :أي أخبرونا عن النار التي تخرجون من الشجر.
أأنتم أنشأتم شجرتها :أي خلقتم شجرتها كالمرخ والعفار والكلخ.
أم نحن المنشئون :أي نحن المنشئون لتلك الأشجار.
نحن جعلناها تذكرة :أي جعلنا تلك النار تذكرة أي تذكر بنار جهنم.
ومتاعاً للمقوين1 :أي بلغةً للمسافرين يتبلغون بها في سفرهم.
فسبح باسم ربك العظيم :أي نزه اسم ربك عما لا يليق به كذكره بغير احترام ولا تعظيم أو الاسم صلة والتقدير نزه ربك عن الشريك ومن ذلك قولك سبحان ربي العظيم.
معنى الآيات:
السياق هنا في تقرير عقيدة البعث والجزاء التي أنكرها المشركون وذلك بذكر الأدلة العقلية الموجبة للعلم واليقين في المعلوم المطلوب تحصيله قال تعالى { نَحْنُ2 خَلَقْنَاكُمْ} وأنتم معترفون بذلك إذ لما نسألكم من خلقكم تقولون الله. إذاً {فَلَوْلا 3تُصَدِّقُونَ} أي فهلا تصدقون بالبعث والحياة الثانية إذ القادر على الخلق الأول قادر على الإعادة. وهذه أدلة قدرتنا تأملوها أولاً {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} أي أخبرونا عما تمنون أي تصبونه في أرحام نسائكم بالجماع {أَأَنْتُمْ4 تَخْلُقُونَهُ} ولداً {أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} والجواب نحن الخالقون إذاً القادر على خلقكم بواسطة هذا الإمناء والتكوين في الأرحام قادر على خلقكم بطريق آخر وثانيا {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} وقضينا به عليكم فلا يستطيع أحد منكم أن يمنعنا من إماتته وفي الوقت المحدد له. بحيث لو طلب التقديم أو التأخير لما قدر على ذلك أليس القادر على خلقكم وإماتتكم قادر على بعثكم
__________
1 المقوى: من نزل القوى والقواء والقي أيضاً: أي الأرض القفر التي لا شيء فيها ولا أنيس بها يقال: أقوت الدار وقويت أيضاً أي: خلت من سكانها، قال النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند
أقوت وطال عليها سالف الأمد
وقال عنترة:
حييت من طلل تقادم عهده
أقوى وأقفر بعد أم الهيثم2
موقع هذه الجملة: الاستدلال والتعليل لما تضمنه جملة { قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} من عقيدة البعث والجزاء وتقريرها.
3 الفاء للتفريع فالجملة متفرعة عن قوله تعالى {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} وهي متضمنة للتحضيض على التصديق بالبعث الآخر إذ لولا هنا للتحضيض على ذلك.
4 الاستفهام للتقرير بتعيين خالق الجنين من النطفة إذ لا يسعهم إلا الإقرار بأن خالق الجنين من نطفة هو الله.

بلى وثالثاً {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ1 فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} بحيث نخلقكم في صور وأشكال غير ما أنتم عليه فنخلقكم خلقاً ذميما وقبيحاً كالقردة والخنازير، وما نحن بعاجزين عن ذلك فهل نعجز إذاً عن بعثكم بعد موتكم أحياء لنحاسبكم ونجزيكم {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى} كيف تمت لكم بما لا تنكرونه.
إذاً {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} فتعلمون أن الذي خلقكم أول مرة قادر على خلقكم ثانية مع العلم أن الإعادة ليست بأصعب من الإنشاء من عدم لا من وجود. ورابعاً {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ}2 من إثارة الأرض وإلقاء البذر فيها أخبرونا أأنتم تنبتون الزرع {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} له أي المنبتون والجواب معروف وهو أننا نحن الزارعون لا أنتم. إذاً فالقادر على إنبات الزرع قادر على إنباتكم في قبوركم على نحو إنبات الزرع وعجب الذنب هو النواة التي تنبتون منها وخامسا هو أن ذلك الزرع الذي أنبتناه لو نشاء لجعلناه بعد نضرته وقرب حصاده حطاما يابساً لا تنتفعون منه بشيء3 فظلتم تفكهون متعجبين من حرمانكم من زرعكم تقولون {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} أي ما أنفقناه على حرثه ورعايته معذبون به4 ثم تضربون عن قولكم ذلك إلى قول آخر وهو قولكم {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} ما لنا من حظ ولا جد فيه أي لسنا محظوظين ولا مجدودين. إن أنبات الزرع ثم حرمانكم منه بعد طمعكم في الانتفاع به مظهر من مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته وتدبيره وكلها دالة على قدرته على بعثكم لمحاسبتكم ومجازاتكم على عملكم في هذه الحياة الدنيا. وسادسا الماء الذي تشربون وحياتكم متوقفة عليه أخبروني {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ} من السحاب {أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} والجواب نحن المنزلون لا أنتم هذا أولاً وثانياً لو نشأ لجعلنا الماء ملحاً مراً لا تنتفعون منه بشيء وإنا لقادرون فهلا تشكرون هذا الإحسان منا إليكم بالإيمان بنا والطاعة لنا. وسابعا النار التي تورون وتشعلونها أخبروني {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} والجواب نحن لا أنتم فالذي يوجد النار في الشجر قادر على أن يبعثكم أحياء من قبوركم ليحاسبكم على
__________
1 السبق: كناية عن الغلبة والتعجيز، لأن السبق يستلزم أن السابق غالب للمسبوق فمعنى: وما نحن (بمسبوقين) أي: غير مغلوبين. قال الشاعر:
كأنك لم تسبق من الدهر مرة
إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب
2 الشبه قوي بين تحويل النطفة إلى جنين، والحبة إلى نبات فهي مناسبة عجيبة بين الدليلين.
3 أصل (فظلمتم) فظللتم فحذت إحدى اللامين تخفيفاً كما حذفت إحدى التاءين من (تفكهون) إذ الأصل (تتفكهون).
4 هذا بناء على ا، الغرام: هو العذاب كقوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} أو هو من الغرامة التي هي ذهاب مال المرء وأخذه منه بغير عوض.

سلوككم ويجزيكم به. وقوله تعالى {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا} أي النار {تَذْكِرَةً} لكم تذكركم بنار الآخرة فالذي أوجد هذه النار قادر على إيجاد نار أخرى لو كنتم تذكرون وجعلناها أيضاً متاعاً أي بلغة للمقوين1 المسافرين يتبلغون بها في سفرهم حتى يعودوا إلى ديارهم. فالقادر على الخلق والإيجاد والتدبير لمصالح عباده قادر على إيجاد حياة أخرى يجزي فيها المحسنين اليوم والمسيئين إذ الحكمة تقتضي هذا وتأمر به.
وقوله تعالى {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ2 الْعَظِيمِ} بعد إقامة الحجة على منكري البعث بالأدلة العقلية أمر تعالى رسوله أن يسبح ربه أي ينزهه عن اللعب عن اللعب والعبث اللازم لخلق الحياة الدنيا على هذا النظام الدقيق ثم إفنائها ولا شيء وراء ذلك. إذ البعث والحياة الآخرة هي الغاية من هذه الحياة الدنيا فالناس يعملون ليحاسبوا ويجزوا فلابد من حياة أكمل وأتم من هذه الحياة يتم فيها الجزاء وقد بينها تعالى وفصلها في كتبه وعلى ألسنة رسله، وضرب لها الأمثال فلا ينكرها إلا سفيه هالك.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- إقامة الأدلة والبراهين العديدة على صحة البعث وإمكانه عقلا.
3- بيان منن الله تعالى على عباده في طعامهم وشرابهم.
4- وجوب شكر الله تعالى على إفضاله وإنعامه.
5- في النار التي توقدها عبرة، وعظة للمتقين.
6- وجوب تسبيح3 الله وتنزيهه عما لا يليق بجلاله وكماله من العبث والشريك.
فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)
__________
1 المقوى: الداخل في القواء وهو القفر، فالمقوون، الداخلون في القواء الذي هو القفر والقفار وهذه حال المسافر، والمقوى أيضاً: الجائع القفر البطن الخاوي من الطعام، فالنار يتمتع بها المسافرون للاستضاءة والاستدفاء وطبخ الطعام.
2 الباء في باسم: زائدة لتوكيد اللصوق أي: اتصال الفعل بمفعوله وذلك لوقوع الأمر بالتسبيح عقب ذكر عدة أمور تقتضيه حسبما دلت عليه فاء الترتيب والتعقيب، واسم الرب هو الله الدال على ذاته سبحانه وتعالى، والتسبيح. التنزيه عما لا يليق ولفظه سبحان الله أي: ننزه الله عما أضافه إليه المشركون من الأنداد والعجز عن البعث.
3 في الصحيح: "لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم" قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في ركوعكم" فكان المصلي إذا ركع قال: سبحان ربي العظيم ثلاثاً أو أكثر امتثالا لأمر الله ورسوله".

إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
شرح الكلمات:
فلا أقسم :أي فأقسم ولا صلة لتقوية الكلام وتأكيد القسم.
بمواقع النجوم :أي بمساقطها لغروبها وبمنازلها أيضا ومطالعها كذلك.
وإنه :أي القسم بها.
لو تعلمون عظيم :أي لو كنتم من أهل العلم لعلمتم عظم هذا القسم.
إنه :أي المتلو عليكم لقرآن كريم وهو الذي كذب به المشركون.
في كتاب مكنون :أي مصون وهو المصحف.
لا يمسه إلا المطهرون :أي من الملائكة والأنبياء وكل طاهر غير محدث حدثا أكبر وأصغر.
تنزيل من رب العالمين :أي منزل من رب العالمين وهو الله جل جلاله.
أفبهذا الحديث :أي القرآن.
أنتم مدهنون :أي تلينون القول للمكذبين به ممالأة منكم لهم على التكذيب به والكفر.
وتجعلون رزقكم :أي شكر الله على رزقكم.
أنكم تكذبون :أي تكذيبكم بسقيا الله وتقولون مطرنا بنوء كذا وكذا.
معنى الآيات:
قوله تعالى {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} 1 أقسم بمواقع النجوم وهي مطالعها ومغاربها وإنه أي قسمي هذا لقسم لو تعلمون أي لو كنتم من أهل العلم عظيم. لأن النجوم ومنازلها ومطالعها ومساقطها ومغاربها التي تغرب فيها أمور عظيمة في خلقها وتدبير الله فيها إنه لقسم بشيء عظيم.
__________
1 (لا) صلة في قول أكثر المفسرين أي: فأقسم بمواقع النجوم وقيل: هي نفي أي ليس الأمر كما تقولون ثم استأنف فقال: فأقسم كقول الرجل: لا والله ما كان كذا وكذا، ولا يريد به نفي اليمين بل يريد به نفي كلام سابق وقيل: لا بمعنى ألا أداة تنبيه وشاهده قول الشاعر:
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي
وهل ينعمن من كان في العصر الخالي

والمقسم عليه هو قوله إنه أي المكذب به لقرآن كريم1، لا كما قال المبطلون شعر وسحر وكذب واختلاق {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} أي مصون {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} سواء ما كان في اللوح المحفوظ أو في مصاحفنا فلا ينبغي أن يمسه إلا المطهرون من الأحداث الصغرى2 والكبرى {تَنْزِيلٌ مِنْ3 رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي منزل منه سبحانه وتعالى ولذا وجب تقديسه وتعظيمه فلا يمسه إلا طاهر من الشرك والكفر وسائر الأحداث. وقوله تعالى {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ} أي القرآن أنتم مدهنون تلينون القول للمكذبين به ممالأة منكم لهم على التكذيب به والكفر وتجعلون رزقكم4 أي وتجعلون شكر الله تعالى على رزقه لكم أنكم تكذبون أي تكذيبكم بسقيا الله لكم بالأمطار وتقولون مطرنا ينوء كذا ونوء كذا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته، وإن العبد لا يقسم إلا بربه تعالى.
2- تقرير الوحي الإلهي وإثبات النبوة المحمدية، وأن القرآن الكريم منزل من عند الله تعالى.
3- وجوب صيانة القرآن الكريم، وحرمة مسه على غير طهارة.
4- حرمة المداهنة في دين الله تعالى وهي أن يتنازل عن شيء من الدين ليحفظ شيئا من دنياه والمداراة جائزة وهي أن يتنازل عن شيء من دنياه ليحفظ شيئاً من ديته.
فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ
__________
1 (كريم) لما فيه من كريم الأخلاق، ومعالي الأمور ولأنه يكرم حافظه ويعظم قارئه ويسعد وينجو العامل به.
2 قال القرطبي: اختلف في مس المصحف على غير وضوء، فالجمهور على المنع لحديث عمرو بن حزم، وهو مذهب علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء وزهري والنخعي والحكم وحماد وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي وأحمد.
3 (تنزيل) بمعنى: منزل من إطلاق المصدر وإرادة المفعول كالرد بمعنى المردود.
4 صلح وضع لفظ الرزق موضع الشكر لأن شكر الرزق يسبب الزيادة في الرزق فأطلق السبب وأريد المسبب.

الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
شرح الكلمات:
فلولا :أي فهلا وهي للحض على العمل والحث عليه.
إذا بلغت الحلقوم :أي مجرى الطعام وذلك وقت النزع.
وأنتم تنظرون :أي وأنتم أيها الممرضون والعواد تنظرون إليه.
ونحن أقرب إليه منكم : أي ورسلنا ملك الموت وأعوانه أقرب إلى المحتضر منكم.
ولكن لا تبصرون :أي الملائكة.
فلولا إن كنتم غبر مدينين :أي فهلا إن كنتم غير مدينين أي محاسبين بعد الموت.
ترجعونها إن كنتم صادقين :أي ترجعون الروح إلى الجسم بعد وشوك مفارقتها له إن كنتم صادقين في أنكم لا تبعثون ولا تحاسبون.
فأما إن كان :أي الميت.
من المقربين :أي من السابقين وهو الصنف الأول من الأصناف الثلاثة التي تقدمت في أول السورة.
فروح وريحان : أي استراحة وريحان أي رزق حسن وجنة نعيم.
وأما إن كان من أصحاب اليمين :أي من الصنف الثاني فسلام لك يا صاحب اليمين من أصحاب اليمين. أي من إخوانك يسلمون عليك فإنهم في جنات النعيم.
فنزل من حميم :أي فله نزل من ماء حار شديد الحرارة.
وتصلية جحيم :أي احتراق بها.
إن هذا لهو حق اليقين :أي إن هذا الذي قصصناه عليك في هذه السورة لهو حق اليقين.

فسبح باسم ربك العظيم :أي نزه وقدس اسم ربك العظيم.
معنى الآيات:
بعد تقرير النبوة المحمدية وأن القرآن كلام الله وتنزيله عاد السياق الكريم إلى تقرير البعث والجزاء فقال تعالى 1 {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ} أي الروح2 {الْحُلْقُومَ} وهو مجرى الطعام {وَأَنْتُمْ} في3 ذلك الوقت {تَنْظُرُونَ} مريضكم وهو يعاني من سكرات الموت، ونحن أقرب إليه منكم أي رسلنا أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون إذ لا قدرة لكم على رؤية الملائكة ما لم يتشكلوا في صورة إنسان. وقوله {فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} أي محاسبين بعد الموت ومجزيين بأعمالكم ترجعونها الروح بعد ما بلغت الحلقوم إن كنتم صادقين في أنكم غير مدينين لله بأعمالكم، أي فلا يحاسبكم عليها ولا يجزيكم بها.
وقوله تعالى {فَأَمَّا إِنْ4 كَانَ} أي المحتضر من المقربين وهم السابقون {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ}5 أي فإن له الاستراحة التامة من عناء تعب الدنيا وتكاليفها وريحان وهو الرزق الحسن وجنة نعيم. وأما إن كان من أصحاب اليمين الذين يؤخذ بهم في عرصات القيامة ذات اليمين فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين الذين سبقوك إلى دار السلام.
وأما إن كان المحتضر من المكذبين لله ورسوله المنكرين للبعث الآخر الضالين عن الهدى ودين الحق { فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} أي ضيافة على الماء الحار هذه ضيافته وتصلية6 جحيم أي واحتراق بالجحيم.
وقوله تعالى {إِنَّ هَذَا7 لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ}8 أي هذا الذي حدثناك به عن المحتضرين الثلاثة وما لهم وما نالهم لحق اليقين. وقوله {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} يأمر تعالى رسوله بالتسبيح باسم
__________
1 لم يجر للروح ذكر إلا أن المقام دال عليها كما قال حاتم.
أما وي ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرت يوماً وضاق بها الصدر2
(لولا) حرف تحضيض مستعمل هنا في التعجيز، لأن المحضوض إذا لم يفعل ما حض عليه كان عاجزا (وإذا بلغت) ظرف متعلق ب(ترجعونها) مقدم عليه لتهويله والتشويق إلى الفعل المحضوض عليه.
3 (وأنتم) الجملة الحالية وكذا جملة (ونحن أقرب إليه منكم) حالية أيضاً.
4 الفاء للتفريع إذ ما بعدها من بيان حال من مات من سعادة أو شقاء متفرع عن الموت وانتهاء الحياة.
5 الروح: الراحة أي: هو في راحة ونعيم، وعلى قراءة روح بضم الراء فالمعنى: أن روح المؤمن معها الريحان وهو الطيب والريحان شجر لورقه وقضبانه رائحة ذكية طيبة.
6 التصلية: مصدر صلاه المشدد: إذا أحرقه وشواه يقال: صلى اللحم تصلية: إذا شواه والجحيم: النار المؤججة، وهو علم على جهنم دار العذاب.
7 هذه الجملة تذييل لجميع ما تقدم في هذه السورة من وعد ووعيد واستدلال على تقرير النبوة والبعث والتوحيد ويدخل فيه دخولا أولياً الأقرب ذكراً وهو ما ذكر في التفسير.
8 اشتملت جملة: (إن هذا لهو حق اليقين) على أربع مؤكدات وهي: إن، ولام الابتداء، وضمير الفصل، وإضافة شبه المترادفين وهما: الحق واليقين، وخامس وهو الجملة الاسمية لإفادتها الدوام والثبوت.

ربه العظيم صح أنه لما نزلت هذه الآية قال صلى الله علي وسلم لأصحابه "اجعلوها في ركوعكم" ، والتسبيح التقديس والنزيه لله تعالى عما لا يليق بجلاله وكماله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
2- بيان عجز كل الناس أمام قدرة الله تعالى.
3- أن في عجز الإنسان على رد روح المحتضر ليعيش بعد ذلك ولو ساعة دليلا على أنه لا إله إلا الله.
4- بيان فضل السابقين عن أصحاب اليمين.
5- القرآن الكريم أحكامه كلها عدل وأخباره كلها صدق.
6- مشروعية قول العبد سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وهما من الكلم الطيب وكذا سبحان ربي العظيم حال الركوع.

سورة الحديد
...
سورة الحديد
مدنية
وآياتها تسع وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ

بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)
شرح الكلمات:
سبح لله ما في السموات1 والأرض :أي نزه الله تعالى جميع ما في السموات والأرض بلسان الحال والقال.2
وهو العزيز الحكيم :أي في ملكه، الحكيم في صنعه وتدبيره.
له ملك السموات والأرض :أي يملك جميع ما في السموات والأرض يتصرف كيف يشاء.
يحيى ويميت :يحييى بعد العدم ويميت بعد الإيجاد والإحياء.
وهو على كل شيء قدير :وهو على فعل كل ما يشاء قدير لا يعجزه شيء.
هو الأول والآخر :أي ليس قبله شيء وهو الآخر الذي ليس بعده شيء.3
والظاهر والباطن :أي الظاهر الذي ليس فوقه شيء والباطن الذي ليس دونه شيء.
وهو بكل شيء عليم :أي لا يغيب عن علمه شيء ولو كان مثقال ذرة في السموات والأرض.
في ستة أيام :أي من أيام الدنيا مقدرة بها أولها الأحد وآخرها الجمعة.
ثم استوى على العرش4 :أي ارتفع عليه وعلا.
__________
1 (الله) الإله المنفرد بالإلية ومعنى: سبح نزه وورد لفظ التسبيح بالمصدر في (سبحان الذي أسرى بعبده) وبالماضي في الحشر والحديد والصف، والمضارع في الجمعة والتغابن، والأمر في الأعلى فسبح تعالى بكل ألفاظ التسبيح.
2 رد أهل العلم القول بأن تسبيح غير العالمين هو تسبيح دلالة لا تسبيح قالة، إذ لو كان تسبيح دلالة وظهور لما قال: (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) إذ تسبيح الدلالة مفهوم معلوم.
3 روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء أقض عنا الدين وأغننا من الفقر".
4 قال القرطبي: قد جمع تعالى بين الاستواء على العرش وبين (وهو معكم) والأخذ بالظاهر تناقض فدل على أنه لابد من التأويل والإعراض عن التأويل اعتراف بالتناقص. وأقول: إن كان يعني بالتأويل قول السلف: معنا بعلمه وقدرته فهذا صحيح ومع هذا فإنه لا تناقض أبداً إذ هو تعالى على عرشه بائن من خلقه، والخلق كله بين يديه كحبة خردل يتصرف فيه كما يشاء لا يغيب عن علمه ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا يعجزه شيء فيهما ولذا قال بعضهم: إن محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء لم يكن بأقرب إلى الله عز وجل من يونس بن متى حين كان في بطن الحوت.

يعلم ما يلج في الأرض :أي ما يدخل في الأرض من كل ما يدخل فيها من مطر وأموات.
وما يخرج منها :أي من نبات ومعادن.
وما ينزل من السماء :أي من رحمة وعذاب.
وما يعرج فيها :أي يصعد فيها من الأعمال الصالحة والسيئة.
وهو معكم أينما كنتم :أي بعلمه بكم وقدرته عليكم أينما كنتم.
والله بما تعملون بصير :أي لا يخفي عليه من أعمال عباده الظاهرة والباطنة شيء.
وإلى الله ترجع الأمور1 :أي مرد كل شيء إلى الله خالقه ومدبره يحكم فيه بما يشاء.
يولج الليل في النهار :أي يدخل جزءاً من الليل في النهار وذلك في الصيف.
ويولج النهار في الليل :ويدخل جزءاً من النهار في الليل وذلك في الشتاء كما يدخل كامل أحدهما في الآخر فلا يبقى إلا ليل أو نهار إذ أحدهما دخل في ثانيهما.
وهو عليم بذات الصدور :أي ما في الصدور من المعتقدات والأسرار والنيات.
معنى الآيات:
يخبر تعالى في هذه الآيات الخمس عن وجوده وعظمته من قدرة وعلم وحكمة ورحمة وتدبيره وملكه ومرد الأمور إليه وكلها مظاهر الربوبية الموجبة للألوهية فأولا تسبيح كل شيء في السموات والأرض أي تنزيهه عن كل نقص كالزوجة والولد والشريك والوزير المعين والعجز والجهل, ثانيا إنه تعالى العزيز ذو العزة التي لا ترام العظيم الانتقام الحكيم في تدبير ملكه فلا شيء في خلقه هو عبث أو لهو أو باطل. ثالثا له ملك السموات والأرض ملكاً حقيقياً يتصرف كيف يشاء يهب من شاء ويمنع من شاء. رابعاً يحيى من العدم ويميت الحي الموجود, خامساً هو على كل شيء قدير لا يعجزه شيء ولا يعجز عن شيء متى أراد الشيء وقال له كن فيكون ولا يتخلف.
__________
1 قرأ الجمهور ونافع وحفص وغيرهما (نُرجع) بالبناء للمفعول وقرأ بعض (ترجع) بالبناء للفاعل، رجوع الأمر معناه: مرد كل شيء إلى الله تعالى إذ هو خالقه ومدبره والحاكم فيه إذ هو رب العالمين وإله الأولين والآخرين.

سادساً: هو الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء إذ له ميراث السموات والأرض . سابعاً: علمه محيط بكل شيء. ثامناً: خلقه السموات والأرض في ستة أيام الدنيا ابتداء من الأحد وانتهاء بالجمعة وما مسه من لغوب ولا تعب ولا نصب ثم استوى على العرش يدبر ملكوت خلقه بالحكمة ومظاهر العدل والرحمة. تاسعاً: مع علوه وبعده من خلقه فالخلق كله بين يديه يعلم ما يلج في الأرض أي يدخل فيها من أمطار وأموات وما ينزل من السماء من مطر ورحمة وعذاب وملك وغيره, وما يعرج أي يصعد فيها من ملك ومن عمل صالح ودعاء وخاصة دعوة المظلوم فإنها لا تحجب عن الله أبداً. وعاشراً: معية الله تعالى الخاصة والعامة فالخاصة معيته بنصره لأوليائه, والعامة علمه بكل عباده وسائر خلقه, وقدرته عليهم وعلمه بهم. الحادي عشر: بصره تعالى بكل أعمال عباده فلا يخفى عليه شيء منها ليحاسبهم بها ويجزيهم عليها. الثاني عشر: له ملك السموات والأرض أي كل ما في السموات وما في الأرض من سائر الخلق هو ملك لله تعالى وحده لا شريك له فيه ولا في غيره. الثالث عشر: رد كل الأمور إليه فلا يقضي فيها غيره ولا يحكم فيها سواه والظاهر منها كالباطن. الرابع عشر: إيلاجه الليل في النهار والنهار في الليل لمصلحة عباده وفائدتهم إذ لولا هذا التدبير الحكيم لما صلح أمر الحياة ولا استقام هذا الوجود.
وأخيراً علمه1 الذي أحاط بكل شيء وتغلغل في كل خفي حتى ذات الصدور من خاطر ووسواس وهم وعزم ونية وإرادة فسبحانه من إله لا إله غيره ولا رب سواه, بهذه المظاهر من الكمالات استحق العبادات فلا تصح العبادة لغيره, ولا تنبغي الطاعة لسواه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضل التسبيح وأفضله سبحان الله وبحمده2 سبحان الله العظيم.
2- مظاهر القدرة والعلم والحكمة في هذه الآيات الخمس هي موجبات ربوبية الله تعالى وألوهيته وهي مقتضية للبعث الآخر والجزاء فيه.
3- في خلقه تعالى السموات والأرض في ستة أيام وهو القادر على خلقهما بكلمة التكوين تعليم لعباده التأني في الأمور وعدم العجلة فيها لتخرج متقنة صالحة نافعة.
__________
1 روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن اسم الله الأعظم هو في ست آيات: من أول سورة الحديد كأنه يعني مجموع هذه الأسماء والصفات الخمسة عشر.
2 في الصحيح: " كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم".

4- بطلان دعاء غير الله تعالى ورجاء غيره إذ له ملك السموات والأرض وليس لغيره شيء من ذلك.
5- وجوب مراقبة الله تعالى والحياء منه وتقواه وذلك لعلمه بظواهرنا وبواطننا وقدرته على مجازاتنا عاجلاً وآجلاً.
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
شرح الكلمات:
آمنوا بالله ورسوله : أي صدقوا بالله ورسوله يا من لم تؤمنوا بعد واثبتوا على إيمانكم يا من آمنتم قبل.
وأنفقوا :أي وتصدقوا في سبيل الله.
مما جعلكم مستخلفين فيه :أي من المال الذي استخلفكم الله فيه إذ هو مال من قبلكم وسيكون لمن بعدكم.

فالذين آمنوا منكم وأنفقوا :أي صدقوا بالله ورسوله وتصدقوا بأموالهم المستخلفين فيها.
لهم أجر كبير :أي ثواب عظيم عند الله وهو الجنة.
وما لكم لا تؤمنون بالله؟ :أي أي شيء يمنعكم من الإيمان.
والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم :أي والحال أن الرسول بنفسه يدعوكم لتؤمنوا بربكم.
وقد أخذ ميثاقكم :أي على الإيمان به وأنتم في عالم الذر حيث أشهدكم فشهدتم.
إن كنتم مؤمنين :أي مريدين الإيمان فلا تترددوا وأمنوا وأسلموا تنجوا وتسعدوا.
هو الذي ينزل على عبده :أي هو الله ربكم الذي يدعوكم رسوله لتؤمنوا به ينزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم.
آيات بينات :هي آيات القرآن الكريم الواضحات المعاني البينات الدلالة.
ليخرجكم من الظلمات إلى النور :أي ليخرجكم من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم.
وإن الله بكم لرءوف رحيم :ويدلكم على ذلك إرسال رسوله إليكم وإنزال كتابه ليخرجكم من الظلمات إلى النور.
وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله :أي أي شيء لكم في عدم الإنفاق في سبيل الله.
ولله ميراث السموات والأرض :أي ومن ذلك المال الذي أيديكم فهو عائد إلى الله فأنفقوه في سبيله يؤجركم عليه. وإلا فسيعود إليه بدون أجر لكم.
من قبل الفتح وقاتل :أي لا يستوي مع من أنفق وقاتل بعد صلح الحديبية حيث عز الإسلام وكثر مال المسلمين.
وكلاً وعد الله الحسنى :أي الجنة, والجنة درجات.
من ذا الذي يقرض الله :أي بإنفاقه ماله في سبيل الله الذي هو الجهاد.
قرضا حسنا :أ يقرضا لا يريد به غير وجه الله تعالى.
فيضاعفه له :أي الدرهم بسبعمائة درهم.
وله أجر كريم :أي يوم القيامة وهو الجنة دار النعيم المقيم.

معنى الآيات:
بعد ذكر الأدلة والبراهين على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته ووجوب عبادته وتوحيده فيها وتقرير البعث والجزاء يوم لقائه رحمة منه ورأفة بعباده أمرهم جميعا مؤمنيهم وكافريهم بالإيمان به وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم فالمؤمنون مأمورون بزيادة الإيمان والثبات عليه والكافرون مأمورون بالإيمان والمبادرة إليه. وبما أن الآيات نزلت بالمدينة بعد الهجرة وبعد صلح الحديبية فإن هذه الأوامر والتوجيهات الإلهية تشمل المؤمنين الصادقين والمنافقين الكاذبين في إيمانهم تشمل الراغبين في الإيمان في مكة وغيرها وهم يترددون في ذلك فوجه الخطاب إلى الجميع لهدايتهم ودخولهم في رحمة الله الإسلام بسرعة ودون تباطئ فقال تعالى {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي صدقوا بوحدانية الله ورسالة رسول الله وأنفقوا مما جعلكم1 مستخلفين فيه من الأموال, ووجه الاستخلاف أن العبد يرث المال عمن سبقه ويموت ويتركه لمن بعده فلا يدفن معه في قبره. وقوله تعالى {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} أي ثواب عظيم عند الله وهو الجنة والرضوان فيها. وهذا الإخبار يفيد تنشيط الهمم الفاترة والعزائم المترددة. وقوله: {وَمَا لَكُمْ لا2 تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ3 يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ4} أي أي شيء يجعلكم لا تؤمنون وفرص الإيمان كلها متاحة لكم فإيمانكم الفطرى صارخ في نفوسكم إذ كل من سألكم: من خلقكم؟ من خلق العالم حولكم؟ سماء وأرضا تقولون الله. وأنتم في حرمه وحمى بيته والرسول الكريم بين أيديكم يدعوكم صباح مساء إلى الإيمان بربكم وقد أخذ الله ميثاقكم عليكم بأن تؤمنوا به وذلك يوم أخرجكم في صورة الذر من صلب آدم أبيكم وأشهدكم على أنفسكم فشهدتم. إذاً ما هذا التردد إن كنتم تريدون الإيمان فآمنوا قبل فوات الأوان.
وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي إنكم تدعون إلى الإيمان بالله الذي ينزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم آيات واضحات المعاني بينات الدلائل كل ذلك ليخرجكم من الظلمات إلى النور من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم, فما لكم لا تؤمنون إذاً ما هذا التردد والتلكؤ يا عباد الله في الإيمان بالله وبرسول الله, وإن الله بكم لرءوف رحيم فاعرفوا هذا وآمنوا به ويدلكم على ذلك إنزاله الكتاب وإرساله الرسول وتوضيح الأدلة
__________
1 قوله: (مستخلفين) دال على أن أصل الملك لله تعالى وما العبد إلا مستخلف فيه فتعين أن يتصرف فيه بإذن المالك الحق فال ينفق إلا حيث يأذن ويرضى سبحانه وتعالى.
2 ( وما لكم لا تؤمنون) الاستفهام للتوبيخ أي: أي عذر لكم في ألا تؤمنوا وكل دواعي الإيمان وأسبابه متوفرة لديكم.
3 جملة: (والرسول): حالية.
4 (إن كنتم مؤمنين) أي: إن كنتم مريدي الإيمان فهذه دواعيه قد كملت وأسبابه قد حضرت أخذ عليكم الميثاق فيه والرسول يدعوكم إليه. فبادروا ولا تباطأوا.

وإقامة الحجج والبراهين.
وقوله: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا1 فِي سَبِيلِ اللَّهِ} التي هي سبيل إسعادكم وإكمالكم بعد نجاتكم من العذاب في الحياتين مع العلم أن لله ميراث السموات والأرض إذ ما بأيديكم هو لله هو واهبه لكم ومسترده منكم فلم لا تنفقون منه.
وقوله تعالى {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ 2الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} 3 أي صلح الحديبية لقول الله تعالى {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} والمراد به صلح الحديبية. أي لا يستوون في4 الأجر والمثوبة مع من قاتل وأنفق بعد الفتح {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً} من الفريقين {وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أي الجنة {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} لا يخفى عليه إنفاقكم وقتالكم وعدمهما كما لا يخفى عليه نياتكم وما تخفون في نفوسكم فاحذروه وراقبوه خيراً لكم.
وقوله تعالى {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} أي مخلصا فيه لله طيبة به نفسه {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} ربه في الدرهم سبعمائة درهم, {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} ألا وه الجنة دار السلام.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب الإيمان بالله ورسوله وتقويته.
2- وجوب الإنفاق في سبيل الله من زكاة ونفقة جهاد وصدقة على الفقراء والمساكين.
3- بيان لطف الله ورأفته ورحمته بعباده مما يستلزم محبته وطاعته وشكره.
4- الإنفاق في المجاعات والشدائد والحروب أفضل منه في اليسر والعافية.
5- الترغيب في الإنفاق في سبيل الله بمضاعفة الأجر حتى يكون الدينار بألف دينار عند الله تعالى وما عند الله خير وأبقى، وللآخرة خير من الأولى.
__________
1 الاستفهام للتوبيخ واللوم والعتاب وهذا مخاطب به المؤمنون.
2 جائز أن يكون المراد بالفتح: فتح مكة، وكونه صلح الحديبية أولى وأرجح.
3 في الكلام حذف دل عليه المذكور وهو: (من أنفق بعد الفتح وقاتل) وقد ذكرته في التفسير بدون الإشارة إلى الحذف.
4 روى أشهب عن مالك أنه قال: ينبغي أن يقدم أهل الفضل والعزم وقد قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ 4الْفَتْحِ وَقَاتَلَ}. ولهذا قدم أبو بكر على سائر الصحابة لأنه أول من آمن وأول من أنفق وأول من قاتل قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وقدمه المؤمنون بالخلافة، وقال فيه علي رضي الله عنه: سبق النبي صلى الله عليه وسلم وثنى أبو بكر وثلث عمر فلا أوتى برجل فضلني على أبي بكر إلا جلدته حد المفتري ثمانين جلدة وطرح الشهادة) ومما يشهد لقول مالك قوله صلى الله عليه وسلم "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا" وفي بعض الروايات: "ويعرف لعالمنا حقه".

يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
شرح الكلمات:
يسعى نورهم بين أيديهم1 وبأيمانهم :أي يتقدمهم نورهم الذي اكتسبوه بالإيمان والعمل الصالح بمسافات بعيدة يضيء لهم الصراط الذي يجتازونه إلى الجنة.
بشراكم اليوم جنات تجري :أي تقول لهم الملائكة الذين أعدوا لاستقبالهم بشراكم...
من تحتها الأنهار
ذلك هو الفوز العظيم :أي النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم الذي ى أعظم منه.
المنافقون والمنافقات :أي الذين كانوا يخفون الكفر في نفوسهم ويظهرون
__________
1 (يسعى نورهم) عندما يسعون هم إذ هو منهم يتقدمهم فلا ينفصل عنهم بحيث إذا وقفوا وقف وإذا مشوا تقدمهم بين أيديهم.

الإيمان والإسلام بألسنتهم.
نقتبس من نوركم :أي أنظروا إلينا بوجوهكم نأخذ من نوركم ما يضيء لنا الطريق.
قيل ارجعوا رواءكم فالتمسوا نوراً :أي يقال لهم استهزاءً بهم ارجعوا رواءكم إلى الدنيا حيث يطلب النور هناك بالإيمان وصالح الأعمال بعد التخلي عن الشرك والمعاصي فيرجعون وراءهم فلم يجدوا شيئاً.
فضرب بينهم بسور له باب :أي فضرب بينهم وبين المؤمنين بسور عال له باب باطنه الذي هو من جهة المؤمنين الرحمة.
وظاهره من قبله العذاب :أي الذي من جهة المنافقين في عرصات القيامة العذاب.
ينادونهم ألم نكن معكم :أي ينادي المنافقون المؤمنين قائلين ألم نكن معكم في الدنيا على الطاعات أي فنصلي كما تصلون ونجاهد كما تجاهدون وننفق كما تنفقون.
قالوا بلى :أي كنتم معنا على الطاعات.
ولكنكم فتنتم أنفسكم : أي بالنفاق وهو كفر الباطن وبغض الإسلام والمسلمين.
وتربصتم :أي الدوائر بالمسلمين أي كنتم تنتظرون متى يهزم المؤمنون فتعلنون عن كفركم وتعودون إلى شرككم.
وغركم بالله الغرور :أي وغركم بالإيمان بالله ورسوله حيث زين لكم الكفر وكره إليكم الإيمان الشيطان.
فاليوم لا يؤخذ منكم فدية :أي مال تفدون به أنفسكم إذ لا مال يومئذ ينفع ولا ولد.
ولا من الذين كفروا :أي ولا فدية تقبل من الذين كفروا.
مأواكم النار هي مولاكم :أي مستقركم ومكان إيوائكم النار وهي أولى بكم لخبث نفوسكم.
و بئس المصير : أي مصيركم الذي صرتم إليه وهو النار.
معنى الآيات:
قوله تعالى {يَوْمَ تَرَى1 الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} هذا الظرف متعلق بقوله {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} في آخر الآية السابقة
__________
1 الخطاب في قوله: ؛ (ترى) لغير معين إذ هو صالح لكل ذي أهلية للخطاب والرؤية.

أي لهم أجر كريم يوم ترى المؤمنين والمؤمنات1 في عرصات القيامة نورهم الذي اكتسبوه بإيمانهم وصالح أعمالهم في دار الدنيا ذلك النور يمشي أمامهم يهديهم إلى طريق الجنة، وقد أعطوا كتبهم بأيمانهم. وتقول لهم الملائكة الذين أعدوا لتلقيهم واستقبالهم بشراكم2 اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار أي تجري الأنهار أنهار الماء واللبن والخمر والعسل من خلال الأشجار والقصور خالدين3 فيها ماكثين أبدا لا يموتون ولا يخرجون. قال تعالى {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} إذ هو نجاة من النار ودخول الجنان في جوار الرحمن. وقوله تعالى {يَوْمَ4 يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ} بدل من قوله يوم ترى المؤمنين والمؤمنات، والمنافقون والمنافقات وهم الذين كانوا في الحياة الدنيا يخفون الكفر في أنفسهم ويظهرون الإيمان بألسنتهم والإسلام بجوارحهم يقولون للذين آمنوا انظرونا أي اقبلوا علينا بوجوهكم ذات الأنوار نقتبس5 من نوركم أي نأخذ من نوركم ما يضيء لنا الطريق مثلكم قيل فيقال لهم استهزاء بهم {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} إشارة إلى أن هذا النور يطلب في الدنيا بالإيمان وصالح الأعمال فيرجعون إلى الوراء وفوراً يضرب بينهم وبين المؤمنين بسور عال {لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ} وهو يلي المؤمنين فيه الرحمة {وَظَاهِرُهُ} وهو يلي المنافقين {مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} فيأخذون في ندائهم ألم نكن معكم على الطاعات أيها المؤمنون فقد كنا نصلي معكم ونجاهد معكم وننفق كما تنفقون فيقول لهم المؤمنون بلى أي كنتم معنا في الدنيا على الطاعات في الظاهر ولكنكم فتنتم أنفسكم بالنفاق وتربصتم بنا الدوائر لتعلنوا عن كفركم وتعودوا إلى شرككم، وارتبتم أي شككتم في صحة الإسلام وفي عقائده ومن ذلك البعث الآخر وغرتكم الأماني الكاذبة والأطماع في أن محمداً لن ينتصر وأن دينه لن يظهر، حتى جاء أمر الله بنصر رسوله وإظهار دينه وغركم بالله الغرور أي بالإيمان بالله أي بعد معاجلته لكم بالعذاب والستر عليكم وعدم كشف الستار عنكم وإظهاركم على ما أنتم عليه من الكفر الغرور أي الشيطان إذ هو الذي زين لكم الكفر وذكركم بعفو الله وعدم مؤاخذته لكم.
قال تعالى: {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} أي فداء مهما كان ولا من الذين كفروا كذلك
__________
1 وجه عطف المؤمنات على المؤمنين هنا وفي نظائره من القرآن إشارة بل التنبيه إلى أن حظوظ النساء في الإسلام مساوية لحظوظ الرجال إلا فيما خصصن فيه من أحكام مبينة في الكتاب والسنة.
2 التقدير: فقال لهم بشراكم.
3 (خالدين) حال مقدرة أي: حالة كونهم مقدرين الخلود إذ لم يدخلوها بعد.
4 هذا بدل من اليوم الأول.
5 قال الكلبي: يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون نوراً خاصاً بهم فبينما هم يمشون إذ بعث الله فيهم ريحاً وظلمة فأطفأ بذلك نور المنافقين فذلك قوله تعالى: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} يقوله المؤمنون خشية أن يسلبوه كما سلبه المنافقون، فإذا بقي المنافقون في الظلمة لا يبصرون مواضع أقدامهم قالوا للمؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} هذا أحسن توجيه للآية الكريمة.

مأواكم النار أي محل إيوائكم وإقامتكم الدائمة النار هي مولاكم1 أي من يتولاكم ويضمكم في أحضانه وهي أولى بكم لخبث نفوسكم وعفن أرواحكم من جراء النفاق والكفر، و بئس المصير الذي صرتم إليه إنه النار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير البعث بذكر أحداثه وما يجري فيه.
2- تقرير أن الفوز ليس ربح الشاة والبعير ولا الدار ولا البستان في الدنيا وإنما هو الزحزحة عن النار ودخول الجنان يوم القيامة هذا هو الفوز العظيم.
3- من بشائر السعادة لأهل الإيمان قبل دخولهم الجنة تلقي الملائكة لهم وإعطاؤهم كتبهم بإيمانهم ووجود نور عال يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يتقدمهم على الصراط إلى الجنة.
4- نور يوم القيامة في وجوه المؤمنين أخذوه من الدنيا وفي الحديث: "بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة"2.
5- بيان صفات المنافقين في الدنيا وهي إبطان الكفر في نفوسهم والتربص بالمؤمنين للانقضاض عليهم متى ضعفوا أو هزموا وأمانيهم في عدم نصرة الإسلام. وشكهم الملازم لهم حتى أنهم لم يخرجوا منه إلى أن ماتوا شاكين في صحة الإسلام وما جاء به وأخبر عنه من وعد ووعيد.
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا
__________
1 المولى: من يتولى غيره، وما دامت النار هي التي تولتهم لتذيقهم ألوان عذابها صح إطلاق المولى عليها مع أن النار تتكلم وتتغيظ فلذا كانت تتولى أهلها فتسقيهم مر العذاب.
2 الحديث رواه أبو داود والترمذي وغيرهما والظلم: جمع ظلمة.

اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
شرح الكلمات:
ألم يأن للذين آمنوا :أي ألم يحن الوقت للذين أكثروا من المزاح.
أن تخشع قلوبهم لذكر الله :أي تلين وتسكن وتخضع وتطمئن لذكر الله ووعده ووعيده.
وما نزل من الحق :أي القرآن وما يحويه من وعد ووعيد.
ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب :أي ولا يكونوا كاليهود والنصارى في الإعراض والغفلة.
من قبل
فطال عليهم الأمد :أي الزمن بينهم وبين أنبيائهم.
فقست قلوبهم :أي لعدم وجود من يذكرهم ويرشدهم فقست لذلك قلوبهم فلم تلن لذكر الله.
وكثير منهم فاسقون :أي نتيجة لقساوة القلوب المترتبة على ترك التذكير والإرشاد ففسق أكثرهم فخرج عن دين الله ورفض تعاليمه.
اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها :أي بالغيث ينزل بها وكذلك يحيي القلوب بالذكر والتذكير فتلين وتخشع لذكر الله ووعده ووعيده.
قد بينا لكم الآيات لعلكم :أي بينا لكم الآيات الدالة على قدرتنا وعلمنا ولطفنا ورحمتنا رجاء أن تعقلوا
تعقلون فتحفظوا أنفسكم مما يرديها ويوبقها.
إن المصدقين والمصدقات :أي المتصدقين بفضول أموالهم والمتصدقات كذلك.
واقرضوا الله قرضا حسنا :أي وكانت صدقاتهم كالقرض الحسن الذي لا منة معه والنفس طيبة به وراجية من ربها جزاءه.
يضاعف لهم :أي القرض الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة إلى ألف ألف.
والذين آمنوا بالله ورسوله :أي صدقوا بالله رباً وإلهاً وبرسله هداة ودعاة صادقين.

أولئك هم الصديقون :أي الذين كتبوا عند الله صديقين وهي مرتبة شرف عالية.
والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم :أي وشهداء المعارك في سبيل الله عند ربهم أي في الجنة لهم أجرهم العظيم ونورهم التام يوم القيامة.
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا :أي كفروا بالله وتوحيده وكذبوا بالقرآن وبما حواه من الشرائع والأحكام.
أولئك أصحاب الجحيم :أي أولئك البعداء هم أهل النار الذين لا يفارقونها أبداً.
معنى الآيات:
قوله تعالى {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا}1 أي بالله رباً وإلهاً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً وبوعد الله ووعيده صدقا وحقا ألم يحن2 الوقت لهم أن تخشع قلوبهم فتلين وتطمئن إلى ذكر الله وتخشع كذلك {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} في الكتاب الكريم فيعرفون المعروف ويأمرون به ويعرفون المنكر وينهون عته إنها لموعظة إلهية عظيمة وزادها عظمة أن تنزل في أصحاب رسول الله تستبطئ قلوبهم. فكيف بمن بعدهم.
وقوله: {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} أي من قبل البعثة المحمدية وهم اليهود والنصارى فطال عليهم الأمد وهو الزمان الطويل بينهم وبين أنبيائهم فلم يذكروا ولم يرشدوا فقست قلوبهم من أجل ذلك وأصبح أكثرهم فاسقين3 عن دين الله خارجين عن شرائعه لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً.
وقوله تعالى {اعْلَمُوا} أي أيها المؤمنون المصابون ببعض الغفلة فكثر مزاجهم وضحكهم {أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} يحييها بالغيث فتنبت وتزدهر فكذلك القلوب4 تموت بترك التذكير والتوجيه والإرشاد وتحيا على التذكير والإرشاد.
وقوله تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ} أي وضحناها لكم في هذا الكتاب الكريم لعلكم
__________
1 روى مسلم عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله تعالى بهذه الآية: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ...} إلا أربع سنين قال الخليل: العتاب خطاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة.
2 هنا فعلان: أنى يأني مشتق من الإنى وهو اسم جامد بمعنى الوقت وآن يئين مشتق من الأين الذي هو الحين قال الشاعر:
ألما يئن لي أن تحلى عمايتي
وأقصر عن ليلي بلى قد أنى ليا
فجمع بين لغتين أي: بين أنى يأني وبين آن يئين.
3 عن مالك قال: بلغني آن عيسى عليه السلام قال لقومه: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسوا قلوبكم، فإن القلب القاسي يبعد من الله ولكنكم لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس أنكم أرباب وانظروا فيها كأنكم عبيد فإنما الناس رجلان: معافىً ومبتلىً، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية.
4 وكذلك القلوب تقسوا فتليينها بعد قساوتها يكون بذكر الله والدار الآخرة والتذكير بهما.

تعقلون أي لنعدكم بذلك لتعقلوا عنا ما نخاطبكم به وننصح لكم فيه فاذكروا هذا ولا تنسوه. وراجعوا قلوبكم وتعهدوها بذكر الله والدار الآخرة. وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ} أي المتصدقين بفضول أموالهم في سبيل الله والمصدقات أي والمتصدقات كذلك وأقرضوا الله قرضاً حسناً بما أنفقوه في الجهاد طيبة به نفوسهم لا منة فيه ولا رياء ولا سمعة هؤلاء يضاعف لهم أي ثواب صدقاتهم وإقراضهم ربهم إلى عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف إلى ألف ألف ولهم أجر كريم وهو الجنة والذين آمنوا بالله ورسله فصدقوا بالله رباً وإلهاً وبرسل الله المصطفين هداة إلى الله ودعاة إليه هؤلاء هم الصديقون1 ففازوا بمرتبة الصديقية والشهداء الذين2 استشهدوا في معارك الجهاد هم الآن عند ربهم لهم أجرهم ونورهم أرواحهم في حواصل طير خضر ترعى في الجنة. هؤلاء الأصناف الثلاثة مثلهم مثل السابقين وأصحاب اليمين. والذين كفروا أي بالله ورسله وكذبوا بآياتنا أي بآيات ربهم الحاوية لشرائعه وعبادته فلم يعبدوه بها هؤلاء الأدنون هم أصحاب الجحيم الذين يلازمونها وتلازمهم أبداً نعوذ بالله من حالهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التحذير من الغفلة ونسيان ذكر الله وما عنده من نعيم وما لديه من نكال وعذاب.
2- وجوب التذكير للمؤمنين والوعظ والإرشاد والتعليم خشية أن تقسوا قلوبهم فيفسقوا كما فسق أهل الكتاب ويكفروا كما كفروا.
3- تقرير حقيقة وهي أن الأرض تحيا بالغيث والقلوب تحيا بالعلم والمواعظ والتذكير بالله.
4- بيان أصناف المؤمنين ورتبهم وهم المتصدقون والمقرضون في سبيل الله أموالهم والمؤمنون بالله ورسله حق الإيمان والصديقون وشهداء الجهاد في سبيل الله جعلنا الله منهم.
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ
__________
1 الصديق: هو من آمن بالله ورسله ولم يكذب طرفة عين، وممن ذكروا بالفوز بها، أبو بكر الصديق ومؤمن آل فرعون وصاحب يس، وفي الحديث: "ولا يزال المرء يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً" فهذا مطلب سهل اللهم حققه لنا.
2 اختلف في هل (الشهداء) موصول بما قبله أو مقطوع فإن كان موصولاً فالصديقون والشهداء: هم المؤمنون بالله ورسله، وللجميع أجرهم ونورهم ويكون المدح والثناء وعظم الجزاء للجميع وهي بشرى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وإن كان مقطوعاً فقد فاز الشهداء بمزية لم تكن لغيرهم، وهذا ما ذهبت إليه قي التفسير، وهو ما اختاره ابن جرير.

وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
شرح الكلمات:
إنما الحياة الدنيا لعب ولهو :أي أن الحياة الدنيا أشبه بالأمور الخيالية قليلة النفع سريعة الزوال.
وزينة :أي ما يتزين به المرء من أنواع الزينة والزينة سريعة التغير والزوال.
وتفاخر بينكم وتكاثر في :أي أنها لا تخرج عن كونها لهواً ولعباً وزينة وتفاخراً وتكاثراً في الأموال والأولاد.
الأموال والأولاد
كمثل غيث أعجب الكفار نباته :أي مثلها في سرعة زوالها وحرمان صاحبها من الدار الآخرة ونعيمها كمثل مطر
أعجب الكفار : أي الزراع أعجبهم نباته أي ما نبت به من الزرع.
ثم يهيج فتراه مصفراً :أي يبس فتراه مصفراً آن أوان حصاده.
ثم يكون حطاما :ثم يتحول بسرعة إلى حطام يابس يتفتت.
إلا متاع الغرور :أي وما الحياة الدنيا في التمتع بها إذ الحياة نفسها غرور لا حقيقة لها.
سابقوا إلى مغفرة من ربكم :أي سارعوا بالتوبة مسابقين غيركم لتغفر لكم ذنوبكم وتدخلوا جنة ربكم.
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء :أي الموعود به من المغفرة والجنة.

والله ذو الفضل العظيم :أي فلا يبعد تفضله بذلك الموعود به وإن كان عظيماً.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في توجيه المؤمنين وإرشادهم إلى ما يزيد في كمالهم وسعادتهم في الحياتين فخاطبهم قائلا: اعلموا أيها1 المؤمنون الذين استبطانا قلوبهم أي خشوعها إذ الإقبال على الدنيا هو سبب الغفلة عن الآخرة ومتطلباتها من الذكر والعمل الصالح {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ2 وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} هذه حقيقتها وهي أمور خيالية قليلة النفع سريعة الزوال. فلا تغتروا بها ولا تقبلوا بكلكم عليها أنصح لكم بذلك. فاللهو كاللعب لا يخلفان منفعة تعود على اللاهي اللاعب، والزينة سرعان ما تتحول وتتغير وتزول والتفاخر بين المتفاخرين مجرد كلام ما وراءه طائل أبداً والتكاثر لا ينتهي إلى حد ولا يجمع إلا بالشقاء والنصب والتعب ثم يذهب أو يذهب عنه فلا بقاء له ولا دوام وله تبعات لا ينجو منها صاحبها إلا برحمة من الله وإليكم مثل الحياة الدنيا إنها {كَمَثَلِ 3غَيْثٍ} أي مطر {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ} أي الفلاحين الذين كفروا بذرة بالتربة {نَبَاتُهُ} الذي نبت به أي المطر {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ} بعد أيام {مُصْفَرّاً} 4 ثم يهيج أي ييبس {ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} يتفتت هذه هي الدنيا من بدايتها إلى نهايتها المؤلمة أما الآخرة ففيها عذاب شديد لأهل الشرك والمعاصي لابد لهم منه يفارقونه، ومغفرة من الله ورضوان لأهل التوحيد وصالح الأعمال وما الحياة الدنيا وقد عرضنا عليكم مثالها فما هي إلا متاع الغرور أي إنها لا حقيقة لها وكل ما فيها من المتع التي يتمتع بها إلا غرور باطل. وعليه فأنصح لكم5 سابقوا إلى مغفرة من ربكم أي سارعوا بالتوبة مسابقين بعضكم بعضا لتغفر ذنوبكم وتدخلوا جنة ربكم التي عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله أي هيئت وأحضرت فهي معدة مهيأة. ذلك فضل الله أي المغفرة ودخول الجنة يؤتيه من يشاء ومن سارع إلى التوبة فآمن وعمل صالحاً وتخلى عن الشرك والآثام فهو ممن شاء له فضله ولذلك وفقه للإيمان وصالح الأعمال. والله ذو الفضل
__________
1 في هذه الآية الكريمة تنبيه عظيم إلى علة كل معوق عن الكمال والإسعاد من أمراض الشح والحرص والغفلة وإيثار الملاذ والجري وراءها ألا وإنها حب الدنيا العاجلة، وفي الأثر: حب العاجلة رأس كل خطيئة.
2 اللهو واللعب: كل ما شغل عن ذكر الله تعالى، والإكثار منهما دليل على خسة العقل وضعفه، وصورتهما ترى من لعب الأطفال وتلهيهم بما يلعبون به من أنواع اللعب، والزينة: ما يتزين به من لباس وأثاث ونحوهما والتفاخر والتكاثر تحمل عليهما النفس الضعيفة ويولدهما الغرور وهما من صفات المفتونين بحب الحياة الدنيا.
3 جائز أن يكون (كمثل) في موضع خبر، والمبتدأ محذوف تقديره: هي أي الحياة الدنيا (كمثل غيث).
4 الاصفرار بعد الهيجان واليبوسة بعد الاصفرار أما الهيجان فهو عبارة عن سرعة بلوغ النبات مستواه كبلوغ الإنسان أشده ثم يأخذ في الاصفرار فيصفر فلذا عبر بـ ثم الدالة على التراخي، وبعد الاصفرار اليبوسة وهي الإفناء والتلاشي.
5 بعد أن كشف لهم عن حال الدنيا وأنها سريعة الزوال حثهم على المسابقة بتصحيح الإيمان وتقويته بالعمل الصالح للفوز بالجنة فالله الحمد وله المنة.

العظيم فلا يستبعد منه ذلك المطلوب المرغوب من النجاة من النار ودخول الجنة دار الأبرار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- التحذير من الاغترار بالحياة الدنيا.
2- الدعوة إلى المسابقة في طلب مغفرة الذنب ودخول الجنة.
3- بيان الجنة وبيان ما يكسبها وهو الإيمان بالله ورسله ومستلزماته من التوحيد والعمل الصالح.
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ ِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
شرح الكلمات:
ما أصاب من مصيبة في الأرض :أي بالجدب وذهاب المال.
ولا في أنفسكم :أي بالمرض وفقد الولد.
إلا في كتاب من قبل أن نبرأها :أي في اللوح المحفوظ قبل أن نخلقها.

إن ذلك على الله يسير : أي سهل ليس بالصعب.
لكيلا تأسوا على ما فاتكم :أي لكيلا تحزنوا على ما فاتكم أي مما تحبون من الخير.
ولا تفرحوا بما آتاكم :أي بما أعطاكم فرح البطر أما فرح الشكر فهو مشروع.
والله لا يحب كل مختال فخور :أي مختال بتكبره بما أعطى، فخور أي به على الناس.
الذين يبخلون :أي بما وجب عليهم أن يبذلوه.
ويأمرون الناس بالبخل :أي بمنع ما وجب عليهم عطاؤه.
ومن يتول :أي عن الإيمان والطاعة وقبول مواعظ ربهم.
فإن الله غني :أي غني عن سائر حلقه لأن غناه ذاتي له لا يستمده من غيره.
حميد :أي محمود بجلاله وجماله وآلائه ونعمه على عباده.
بالبينات :أي بالحجج والبراهين القاطعة على صدق دعوتهم.
وأنزلنا معهم الكتاب :أي وأنزل عليهم الكتب الحاوية للشرائع والأحكام.
والميزان : أي العدل الذي نزلت الكتب بالأمر به وتقريره.
ليقوم الناس بالقسط :أي لتقوم حياتهم فيما بينهم على أساس العدل.
فيه بأس شديد :أي في الحديد بأس شديد والمراد آلات القتال من سيف وغيره.
ومنافع للناس :أي ينتفع به الناس إذ ما من صنعة إلا والحديد آلتها.
وليعلم الله من يصره ورسله :أي وأنزلنا الحديد وجعلنا فيه بأساً شديداً ليعلم الله من ينصره في دينه وأوليائه وينصر رسله المبلغين عنه.
بالغيب :أي وهم لا يشاهدونه بأبصارهم في الدنيا.
إن الله قوي عزيز :أي لا حاجة إلى نصرة أحد وإنما طلبها يتعبد بها عبادة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في إرشاد المؤمنين وتوجيههم إلى ما يكملهم ويسعدهم فقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ} أي ما أصابكم أيها المؤمنون من مصيبة في الأرض بالجدب والقحط أو الطوفان أو الجوائح تصيب الزرع {وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} بالمرض وفقد الولد إلا وهي في كتاب أي في كتاب المقادير، اللوح المحفوظ مكتوبة بكميتها وكيفيتها وزمانها ومكانها {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} أي وذلك قبل خلق الله تعالى لها

وإيجادها. وقوله: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي علمه بها وكتابته لها قبل خلقها وإيجادها في وقتها سهل على الله يسير. وقوله {لِكَيْلا تَأْسَوْا} أي أعلمناكم بذلك بعد قضائنا وحكمنا به أزلاً من أجل ألا تحزنوا على ما فاتكم مما تحبون في دنياكم من الخير، ولا تفرحوا بما آتاكم1 فرح الأشر والبطر فإنه مضر أما فرح الشكر فلا بأس به فقد ينعم الله على العبد ليشكره. وقوله: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ 2مُخْتَالٍ فَخُورٍ} يحذر أولياءه من خصلتين ذميمتين لا تنبغيان للمؤمن وهما الاختيال أي التكبر والفخر على الناس بما أعطاه الله وحرمهم. وقوله {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} هذا بيان لمن لا يحبهم الله وهم أهل الكبر والفخر بذكر صفتين قبيحتين لهم وهما البخل الذي هو منع الواجب والأمر بالبخل والدعوة إليه فهم لم يكتفوا ببخلهم فأمروا غيرهم بالبخل الذي هو منع الواجب وعدم بذله والعياذ بالله من هذه القبائح الأربع. وقوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ} أي3 عن الإيمان والطاعة وعدم قبول وعظ الله وإرشاده {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} عن سائر خلقه لأن غناه ذاتي له لا يستمده من غيره {الْحَمِيدُ} أي محمود بجلاله وجماله وإنعامه على سائر عباده. وقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا4 بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالحجج القواطع وأنزلنا معهم الكتاب الحاوي للشرائع والأحكام التي يكمل عليها الناس ويسعدون وأنزلنا الميزان وذلك ليقوم الناس بالعدل أي لتقوم حياتهم على أساس العدالة والحق.
وقوله تعالى {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} أي وكما أنزلنا الكتاب للدين والعدل للدنيا أنزلنا الحديد لهما معاً للدين والدنيا فيما فيه من البأس الشديد في الحروب فهو لإقامة الدين بالجهاد {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} إذ سائر الصناعات متوقفة عليه فهو للدنيا.
__________
1 إنه لما يبين تعالى لأوليائه المؤمنين علة الإفساد والشر وهي حب العاجلة أعلمهم تشجيعاً لهم على الزهد فيها والإعراض عنها أن ما يصيب أحدهم من فقر، أو مرض أو خوف قد يفضي إلى الموت هو مما كتبه الله تعالى عليهم أزلا وأنه واقع بينهم لا محالة فلذا لا داعي إلى الحزن كما أن ما يحصل للعبد مما هو خلاف ذلك من المال والولد لا ينبغي أن يفرح به وبذلك يتغلب على الدنيا ويفوز بالآخرة.
2 وفي إعلام الله تعالى أولياءه بعدم حب المختال الفخور دفع لهم إلى الأمام حيث التنزه عن حب العاجلة التي المعوق لهم عن الكمال والإسعاد الأخروي.
3 في الآية تحذير من الجزع وقلة الصبر في السير إلى الله تعالى بالتخلي عن حب العاجلة. فقد ذكرهم بأن التولي أي الرجوع بعد الضرب في طريق الآخرة حيث الجوار الكريم مما يسبب تخلي الرب عن العبد، فإنه تعالى غني حميد لا حاجة به إلى طاعة العباد ولا إلى حمدهم.
4 كلام مستأنف المراد به أن ما كلف به عباده من طاعته بذكره وشكره إنما هو لمجرد الإبتلاء وليس لحاجة إليه لأنه الغني الحميد فإنه أرسل الرسل وأنزل الكتب وأوجد أسباب القوة المادية لمجرد الابتلاء ,ذلك الابتلاء المترتب عليه الإسعاد والإشقاء فإنه تعالى يسعد بظاعته ويشقى بمعصيته وهذا هو العدل الكريم البر بعباده المؤمنين الرحيم.

وقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ1 اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} أي من الحكمة في إنزال الحديد أن يعلم الله من ينصره أي ينصر دينه ورسله بالجهاد معهم والوقوف إلى جانبهم وهم يبلغون دعوة ربهم بالغيب أي وهم لا يشاهدون الله تعالى بأعينهم وإن عرفوه بقلوبهم. قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} إعلام بأنه لا حاجة به إلى نصرة أحد من خلقه وذلك لقوته الذاتية وعزته التي لا ترام، وإنما كلف عباده بنصرة دينه ورسله وأوليائه تشريفاً لهم وتكريماً وليرفعهم بذلك إلى مقام الشهداء.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير عقيدة القضاء والقدر.
2- بيان الحكمة في معرفة القضاء والقدر والإيمان بهما.
3- حرمة الاختيال والفخر والبخل والأمر بالبخل .
4- بيان إفضال الله وإنعامه على الناس بإرسال الرسل وإنزال الكتب والميزان وإنزال الحديد بما فيه منافع للناس وبأس شديد.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
__________
1 هذا العلم: علم ظهور وكشف عما هو معلوم لله تعالى مستور عن عباده لا أنه علم يستجد لله تعالى فإنه قد كتب ذلك في كتاب المقادير وعلمه قبل وجوده، وإنما يظهره في وقته كما كتبه فيعلمه بعد كشفه وإظهاره لتقوم الحجة به على عباده.

شرح الكلمات:
ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم :أي وتالله لقد أرسلنا نوحاً هو الأب الثاني للبشر وإبراهيم هو أبو الأنبياء.
والكتاب :أي التوراة والزبور والإنجيل والفرقان.
فمنهم مهتد :أي من أولئك الذرية أي سالك سبيل الحق والرشاد.
وكثير منهم فاسقون :أي عن طاعة الله ورسله ضال في طريقه.
ثم قفينا على آثارهم برسلنا : أي أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهينا إلى عيسى.
وقفينا بعيسى بن مريم :أي أتبعناهم بعيسى بن مريم لتأخره عنهم في الزمان.
وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه :أي على دينه وهم الحواريون وأتباعهم.
رأفة ورحمة :أي ليناً وشفقة.
ورهبانية ابتدعوها :أي وابتدعوا رهبانية لم يكتبها الله عليهم. وهي اعتزال النساء والانقطاع في الأديرة والصوامع للتعبد.
إلا ابتغاء رضوان الله :أي إلا طلبا لرضوان الله عز وجل.
فما رعوها حق رعايتها :أي لم يلتزموا بما نذروه على أنفسهم من الطاعات.
فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم :أي فأعطينا الذين ثبتوا على إيمانهم وتقواهم أجرهم.
وكثير منهم فاسقون :لا أجر لهم ولا ثواب إلا العقاب.
معنى الآيات:
يخبر تعالى أنه كما أرسل رسله وأنزل معهم الكتاب والميزان أرسل كذلك نوحاً وإبراهيم فنوح هو أبو البشر الثاني1 وإبراهيم هو أبو الأنبياء من بعده ذكرهما لمزيد شرفهما، ولما لهما من آثار طيبة فقال {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ} أي في أولادهما النبوة والكتاب فهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط من ذرية نوح وإسماعيل وإسحاق وباقي أنبياء من ذرية إبراهيم وقوله {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ2} أي فمن أولئك الذرية المهدى وأكثرهم فاسقون وقوله {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ3 بِرُسُلِنَا} أي رسولا بعد رسول عيسى بن مريم، وقفينا بعيسى بن مريم أي أتبعاتهم بعيسى
__________
1 هذا كلام معطوف على سابقه المراد منه تفصيل ما أجمل في قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ..} الخ وهم من باب عطف الخاص على العام.
2 كأكثر قوم هود وقوم صالح وقوم شعيب، وقوم تبع وغيرهم والمراد بالفسق هنا: الخروج عن جادة الإيمان والتوحيد، والوقوع في مضلات الشرك والكفر.
3 التقفية: إتباع الرسول على أثر الآخر مشتق لفظها من القفا.

بن مريم كل ذلك لهداية العباد إلى ما يكملهم ويسعدهم وقوله {وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ} أي آتينا عيسى بن مريم الإنجيل وجعلنا في1قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة والرأفة أشد الرحمة. وقوله تعالى {وَرَهْبَانِيَّةً2 ابْتَدَعُوهَا} أي ابتدعها الذين اتبعوا عيسى {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ3} أي لم يكتبها الله عليهم لما فيها من التشديد ولكن ما ابتدعوها إلا طلباً ًلرضوان الله ومرضاته فما رعوها حق رعايتها حيث لم يوفوا بما التزموا به من ترك الدنيا والإقبال على الآخرة حيث تركوا النساء ولبسوا الخشن من الثياب وأكلوا الخشن من الطعام ونزلوا الصوامع والأديرة.
ولهذه الرهبانية سبب مروى عن ابن عباس رضي الله عنهما نذكره باختصار للفظه ومعناه قال كان بعد عيسى ملوك بدلوا التوراة وحرفوا الإنجيل وألزموا العامة بذلك، وكان بينهم جماعة رفضوا ذلك التحريف للدين ولم يقبلوه ففروا بدينهم، والتحقوا بالجبال وانقطعوا عن الناس مخافة قتلهم أو تعذيبهم لمخالفتهم دين ملوكهم المحدث الجديد فهذا الانقطاع بداية الرهبانية ، وهاش أولئك المؤمنون وماتوا وجاء جيل من أبناء الدين المحرف فذكروا سيرة الصالحين الأولين فأرادوا أن يفعلوا فعلهم فانقطعوا إلى الصوامع والأديرة، ولكنهم جهال وعلى دين محرف مبدل فاسد فما انتفعوا بالرهبانية المبتدعة وفسق أكثرهم عن طاعة الله ورسوله. وهو ما دل عليه قوا الله تعالى: { فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} وهم الأولون المؤمنون الذين فروا من الكفر والتعذيب وعبدوا الله تعالى بما شرع، وقوله {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} وهم الذين أتوا من بعدهم إلى يومنا هذا إذ هم يعبدون الله بدين محرف باطل ولم يلتزموا بالرهبنة الصادقة بالزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين :
1- بيان منة الله على عباده بإرسال الرسل.
2- بيان سنة الله في الناس وهي أنه إذا أرسل الرسل لهداية الناس يهتدي بعض ويضل بعض فيفسق.
__________
1 وذلك لأن عيسى عليه السلام بعث لتهذيب نفوس بني إسرائيل واقتلاع جذور القسوة من قلوبهم تلك القسوة التي أثمرها حب الدنيا والإقبال على الشهوات والملاذ الفانية.
2 الرهبانية: نسبة إلى الرهبنة والراهب هو الخائف من الله تعالى، والأصل أن يقال الراهبية، فزيدت فيها النون كما زيدت في شعراني ولحياني ورباني وكذا نصراني على غير قياس.
3 جملة:(ما كتبناها عليهم) مبنية لجملة (ابتدعوها).

3- ثناء الله على عيسى بن مريم وأتباعه بحق الحواريين وغيرهم إلى أن غيرت الملوك دين المسيح وضل الناس وأصبحوا فاسقين عن دين الله تعالى.
4- تحريم البدع والابتداع ولا رهبانية في الإسلام ولكن يعبد الله بما شرع.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
شرح الكلمات:
يا أيها الذين آمنوا :أي بعيسى بن مريم وموسى.
اتقوا الله وآمنوا برسوله :أي خافوا عقاب الله وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبعوه.
يؤتكم كفلين :يعطكم الله نصيبين من الأجر مقابل إيمانكم بنبيكم وبمحمد صلى الله عليه وسلم.
ويجعل لكم نوراً تمشون به :أي في الدنيا إذ تعيشون على هداية الله وفي الآخرة تمشون به على الصراط.
لئلا يعلم أهل الكتاب :أي لكي يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله. واللم في لئلا مزيدة لتقوية الكلام.
معنى الآيتين:
هذا نداء الله لأهل الكتاب بعد أن ذكر نبذة عن رسلهم وأتباعهم نادى الموجودين منهم بعنوان الإيمان1 أي يا من آمنتم بالرسل السابقين حسب إدعائكم اتقوا الله فلا تفرقوا بين رسل الله وآمنوا
__________
1 استعمل الإيمان هنا استعمالاً لقبياً إذ المراد بالذين آمنوا: اليهود والنصارى إذ هم يؤمنون بالله ولقائه وكتبه ورسله في الجملة.

برسوله محمد صلى الله عليه وسلم يؤتكم أي يعطكم كفلين أي حظين ونصيبين من رحمته ومثوبته ويجعل لكم نوراً تمشون به في الدنيا وهو الهداية الإسلامية إذ الإسلام صراط مستقيم صاحبه لا يضل ولا يشقى وتمشون به في الآخرة على الصراط إلى دار السلام الجنة,ويغفر لكم ذنوبكم الماضية والحاضرة والله غفور رحيم1. وذلك ليعلم أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين رفضوا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والدخول في الإسلام أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله أي لا يقدرون على الحصول على شيء2 من فضل الله، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- أعظم نصيحة تقدم لأهل الكتاب لو أخذوا بها تضمنها نداء الله لهم وما وعدهم به في هذه الآية الكريمة.
2- فضل الإيمان والتقوى إذ هما سبيل الولاية والكرامة في الدنيا والآخرة.
3- إبطال مزاعم أهل الكتاب في احتكار الجنة لهم، وإعلامهم بأنهم محرومون منها ما لم يؤمنوا برسول الله ويتقوا الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
__________
1 هذا بناء على أن (لا) زائدة في قوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ } إذ الأصل لأن يعلم فزيدت اللام لتوكيد الكلام فصارت {لِئَلَّا يَعْلَمَ} أي: لأن يعلم.
2 أي: إلا بأذن الله إذ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. والظاهر أن المراد من الفضل هنا خصوص النبوة والرسالة وأن أهل الكتاب من اليهود يريدون حصر النبوة والرسالة في شعب إسرائيل فلذا جحدوا نبوة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم وكفروا بهما فناداهم تعالى بعنوان الإيمان الذي يدعونه وأمرهم بتقواه بترك الكذب والاحتيال وأمرهم بالإيمان برسوله وواعدهم مضاعفة الأجر إن هم آمنوا، وكان هذا إعلاماً منه تعالى أن أهل الكتاب لا يقدرون على حصر الفضل فيهم ومنعه عن غيرهم فقد نبأ وأرسل من بني عمهم محمداً صلى الله عليه وسلم وهم كارهون منكرون مكذبون، وهم بين خيار بين إما الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والفوز بالجنة والنجاة من النار وإما الإصرار على إنكار رسالته والكفر به مع الخسران في الحياتين ولا يهلك على الله إلا هالك.

سورة المجادلة
...
الجزء الثامن والعشرون
سورة المجادلة
مدنية وآياتها اثنتان وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
شرح الكلمات:
قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها :أي تراجعك أيها النبي في شأن زوجها أوس بن الصامت.
وتشتكي إلى الله :أي وحدتها وفاقتها وصبية صغاراً إن ضمتهم إليه ضاعوا وإن ضمهم إليها جاعوا.
والله يسمع تحاوركما :أي تراجعكما أنت أيها الرسول والمحاورة لك وهي خولة بنت ثعلبة.
إن الله سميع بصير :أي لأقوالكما بصير بأحوالكما.

الذين يظاهرون منكم من :أي يحرمون نساءهم يقول أنت علي كظهر أمي.
نسائهم
ما هن أمهاتهم :أي ليس هن بأمهاتهم.
إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم :ما أماتهم إلا اللائي ولدنهم، أو أرضعنهم.
وإنهم ليقولون منكراً من القول وزورا :أي وإنهم بالظهار ليقولون منكراً من القول وزوراً أي كذباً.
وإن الله لعفو غفور :أي على عباده أي ذو صفح عليهم غفورٌ لذنوبهم إن تابوا منها.
والذين يظاهرون من نسائهم1 :أي بأن يقول لها أنت علي كظهر أمي أو أختي ونحوها من المحارم.
ثم يعودون لما قالوا :أي يعزمون على العودة للتي ظاهروا منها، إذ كان الظهار في الجاهلية طلاقاً.
فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا :أي فالواجب عليه تحرير رقبة مؤمنة قبل أن يجامعها.
ذلكم توعظون به :أي تأمرون به فافعلوه على سبيل الوجوب.
فمن لم يجد فصيام شهرين :أي فمن لم يجد الرقبة لانعدامها أو غلاء ثمنها فالواجب صيام شهرين متتابعين.
متتابعين
من قبل أن يتماسا :أي من قبل الوطء لها.
فمن لم يستطع: أي الصيام لمرض أو كبر سن.
فإطعام ستين مسكيناً :أي فعليه قبل الوطء، أن يطعم ستين مسكيناً يعطي لكل مسكين مداً من2 بر أو مدين من غير البر كالتمر والشعير ونحوهما من غالب قوت أهل البلد.
ذلك: أي ما تقدم من بيان حكم الظهار الذي شرع لكم.
لتؤمنوا بالله ورسوله :أي لأن الطاعة إيمان والمعصية من الكفران.
__________
1 قرأ نافع (يظهرون) فأدغمت التاء في الظاء فصارت يظهرون بتشديد الظاء والهاء وقرأ حفص (يظاهرون).
2 وردت روايات متعددة في كمية الإطعام الإجماع على أنها إطعام ستين مسكيناً، وإنما الخلاف في المقدار، فأظهرها وأصحها حديث البخاري وفيه: "فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعا. فتصدق بها على ستين مسكيناً فهذا ظاهر في أنها ستون مداً لكل مسكين مد لأن الخمسة عشر صاعاً بستين مداً إذ الصاع أربعة أمداد بمد النبي صلى الله عليه وسلم.

وتلك حدود الله :أي أحكام شرعه.
وللكافرين عذاب أليم :أي وللكافرين بها الجاحدين لها عذاب أليم أي ذو ألمٍ.
معنى الآيات:
قوله تعالى {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} هذه الآية الكريمة نزلت في خولة بنت ثعلبة الأنصارية وفي زوجها أوس بن الصامت أخي عبادة بن الصامت رضي الله عنهم أجمعين كان قد ظاهر منها زوجها أوس، فقال لها في غضب غير مغلق أنت علي كظهر أمي، وكان الظهار يومئذٍ طلاقاً، وكانت المرأة ذات أطفال صغار وتقدم بها وبزوجها السن فجاءت لرسول الله صلى الله عليه وسلم تشكوا إليه ما قال زوجها فذكرت للرسول صلى الله عليه وسلم ضعفها1 وضعف زوجها وضعف أطفالها الصغار، وما زالت تراجع الرسول صلى الله عليه وسلم وتحاوره في شأنها وشأن زوجها حتى نزلت هذه الآيات الأربع من فاتحة سورة المجادلة التي سميت بها السورة فقيل سورة المجادلة بكسر الدال، ويصح فتحها فقال تعالى مخاطباً رسوله {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} أي قد سمع الله قول المرأة التي تجادلك أي تراجعك في شأن زوجها الذي ظاهر منها، وتشتكي إلى الله بعد أن قلت لها: والله ما أمرت في شأنك بشيء، تشكو إلى الله ضعف حالها. {وَاللَّهُ يَسْمَعُ2 تَحَاوُرَكُمَا} أي مراجعتكما لبعضكما بعضاً الحديث وأجابكما {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي سميع لأقوال عباده عليم بأحوالهم وهذا حكم الظهار فافهموه واعملوا به.
أولاً: أن الظهار الذي هو قول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي لا يجعل المظاهر منها أماً له إذ أمه هي التي ولدته وخرج من بطنها، والزوجة لا تكون أماً بحال من الأحوال.
ثانياً: هذا القول كذب وزور ومنكر من القول وقائله آثم فليتب إلى الله ويستغفره.
ثالثاً: لولا عفو الله وصفحه على عباده المؤمنين ومغفرته للتائبين لعاقبهم على هذا القول الكذب الباطل.
رابعاً: على الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا أي يعزمون على وطئها بعد الظهار منها فالواجب عليهم قبل الوطء لها تحرير رقبة ذكراً كانت أو أنثى صغيرة أو كبيرة لكن مؤمنة لا كافرة، فمن لم يجد الرقبة لانعدامها، أو غلاء ثمنها فيجزئه صيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع لعلة قامت به فالواجب إطعام ستين مسكيناً يعطى كل مسكين مداً من بر أو نصف صاع من
__________
1 من جملة ما روي أنها قالت: يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أوحي إلي في هذا شيء فقالت: يا رسول الله أوحي إليك في كل شيء وطوي عنك هذا؟ فقال: هو ما قلت لك فقالت: إلى الله أشكوا لا إلى رسوله فأنزل الله {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ...} الخ.
2 روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}

غير البر كالشعير والتمر ونحوهما كل ذلك من قبل أن يتماسا من باب حمل المطلق على المقيد إذ قيد الأول بقبل المسيس1 فيحمل هذا الأخير عليه.
وقوله {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي ذلك الذي تقدم من بيان حكم الظهار2 شرعه لكم لتؤمنوا بالله ورسوله إذ الإيمان اعتقاد وقول وعمل، فطاعة الله ورسوله إيمان ومعصيتهما من الكفران. وقوله تعالى {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي لا تعتدوها بل قفوا عندها وللكافرين بها المتعدين لها عذاب أليم أي ذو ألم موجع جزاء تعديهم حدود الله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- إجابة الله لأوليائه بتفريج كروبهم وقضاء حوائجهم فله الحمد وله الشكر.
2- حرمة الظهار باعتباره منكراً وكذباً وزوراً فيجب التوبة منه.
3- بيان حكم المظاهر وهو أن عليه عتق رقبة قبل أن يجامع امرأته المظاهر منها. فإن لم يجد الرقبة المؤمنة صام شهرين متتابعين من الهلال إلى الهلال وإذا انقطع التتابع لمرض بنى على ما صامه. فإن لم يستطع لمرض ونحوه أطعم ستين مسكيناً فأعطى لكل مسكين على حدة مداً من بر أو مدين من غير البر كالشعير والتمر.
4- لو جامع المظاهر قبل إخراج الكفارة أثم فليستغفر ربه وليخرج كفارته. ولا شيء عليه لحديث الترمذي الصحيح.
5- طاعة الله ورسوله إيمان، ومعصية الله ورسوله من الكفران.
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ
__________
1 من مس امرأته قبل الكفارة فليكف عنها مرة أخرى حتى يكفر لحديث النسائي: "أن رجلا ظاهر من امرأته ولم يكفر حتى وطئها فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره ألا يقربها حتى يكفر".
2 هل على المرأة إذا ظاهرت من زوجها شيء؟ الجمهور: أنه لاشيء عليها وإن كفرت كفارة يمين فذلك اللائق بها.

مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
شرح الكلمات:
إن الذين يحادون الله ورسوله :أي يخالفون الله ورسوله ويعادونهما.
كبتوا كما كبت الذين من قبلهم: أي ذلوا وأهينوا كما ذل وأهين من قبلهم لمخالفتهم رسولهم.
وقد أنزلنا آيات بينات :أي والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات دالة على صدق الرسول.
عذاب مهين :أي يوقعهم في الذل والهوان.
يوم يبعثهم الله جميعاً: أي يوم القيامة.
أحصاه الله ونسوه :أي جمعه وعده ونسوه هم.
والله على كل شيء شهيد :أي لا يغيب عنه شيء من الأشياء.
ما يكون من نجوى :أي من متناجين.
ثلاثة إلا هو رابعهم :إلا هو تعالى رابعهم بعلمه بهم، وقدرته عليهم.
ولا أدنى من ذلك :أي أقل من الثلاثة وهما الاثنان.
إلا هو معهم أينما كانوا :أي في أي مكان من الأرض أو السماء.
معنى الآيات:
قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} هذه الآية تحمل بشرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بإعلامه بهزيمة قريش وهي تحزب الأحزاب لحربه في غزوة الخندق فقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ1 وَرَسُولَهُ} أي يخالفون الله ورسوله ويعادونهما2 كبتوا أي ذلوا وأهينوا كما كبت الذين من قبلهم الذين كذبوا رسلهم فأكبتهم الله أي أذلهم وأهانهم.
وقوله تعالى: {وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} كلها دالة على صدق رسولنا فيما جاءهم به ودعاهم
__________
1 المحادة والمشاقة والمعاداة متقاربة المعنى فالمحاد الواقف في حد وخصمه في آخر، وكذلك المشاق: هو في شق والآخر في شق مقابل، وكذا المعادي هو في عدوة والآخر في أخرى مقابلة له، والعدوة: هي عدوة الوادي أحد جانبيه.
2 الكبت: الخزي والإذلال، وعبر في الآية بالماضي (كبتوا) لتحقق وقوعه كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}.

إليه، ومع هذا عادوه وحاربوه فلهذا يكبتهم الله ويذلهم في الدنيا وللكافرين1 أمثالهم عذاب مهين يوم القيامة يوم2 يبعثهم الله جميعاً لا يتخلف منهم أحد فينبئهم بما عملوا من الشر والفساد. أحصاه الله إذ كتبته ملائكته وكتب قبل فعلهم له في كتاب المقادير اللوح المحفوظ ونسوه لعمى قلوبهم وكفرهم بربهم ولقائه فلا يذكرون لهم ذنباً حتى يتوبوا منه ويستغفروا. وقوله تعالى {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي زيادة على أن أعمالهم كتبها في اللوح المحفوظ وأن الملائكة من الكرام الكاتبين قد كتبوها فإن الله تعالى شهيد على كل شيء فلا يقع شيء إلا تحت بصره وعلمه.
وقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} تقرير لما سبق من إحاطة علم الله بكل شيء وأن أعمال أولئك المخالفين المحادين محصية معلومة وسيجزيهم بها أي ألم تعلم يا رسولنا أن الله تعالى يعلم ما في السموات وما في الأرض من دقيق الأشياء وجليلها ورد أن جماعة من المنافقين تخلفوا يتناجون بينهم إغاظة للمؤمنين فنزلت هذه الآية تعرض بهم وتكشف الستار عن نياتهم. {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى3} أي من ذوي نجوى أو من متناجين ثلاثة إلا وهو رابعهم، أي إلا والله تعالى رابعهم بعلمه بهم وقدرته عليهم وهذه فائدة المعية العلم والقدرة على الأخذ والعطاء، ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك كالأثنين، ولا أكثر إلا هو معهم بعلمه وقدرته وإحاطته أينما كانوا تحت الأرض أو فوقها في السماء أو دونها، ثم ينبئهم أي يخبرهم ويعلمهم بما عملوا يوم القيامة ليجزيهم به {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تقرير لما سبق من علمه بالمحادين له وبالمنافقين المناوئين للمؤمنين وسيجزى الكل بعدله وهو العزيز الحكيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وعيد الله الشديد بالإكبات والذل والهوان لكل من يحاد الله ورسوله.
2- أحاطة علم الله بكل شيء وشهوده لكل شيء وإحصاه لكل أعمال العباد حال توجب مراقبة الله تعالى والخشية منه والحياء منه أشد الحياء.
3- الإرشاد إلى أن التناجي للمشاورة في الخير ينبغي أن يكون عدد المتناجين ثلاثة أو خمسة
__________
1 الجملة معطوفة على جملة (كبتوا) و (ال) في الكافرين: للجنس ليعم الوعيد كل كافر.
2 يجوز أن يكون (يوم) متعلقاً بالكون المقدر الذي تعلق به (للكافرين عذاب مهين) أي للكافرين عذاب مهين (يوم يبعثهم الله} وجائز أن يكون منصوباً على تقدير فعل اذكر كما هو شائع في أمثاله.
3 النجوى اسم مصدر فعله: ناجاه يناجيه مناجاة واسم المصدر نجوى فهو بمعنى التناجي أي: ما يكون تناجي ثلاثة من الناس إلا الله مطلع عليهم كرابع لهم وكل سرار نجوى.

أو سبعة ليكون الواحد عدلا مرجحا للخلاف قاضيا فيه إذ اختلف اثنان لابد من واحد يرجح جانب الخلاف وإذا اختلف أربعة لابد من خامس يرجح جانب الخلاف.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
شرح الكلمات:
ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى :أي المسارة الكلامية والمنهيون هم اليهود والمنافقون.
ثم يعودون لما نهوا :أي من التناجي تعمداً لأذية المؤمنين بالمدينة.
ويتناجون بالإثم والعدوان :أي بما هو إثم في نفسه, وعداوة الرسول والمؤمنين.
ومعصية الرسول :أي يتناجون فيوصي بعضهم بعضاً بمعصية الرسول وعدم طاعته.
وإذا جاءوك حيوك :أي جاءوك أيها النبي حيوك بقولهم السام عليك.
بما لم يحبك به الله :أي حيوك بلفظ السام عليك, وهذا لم يحيي الله به رسوله بل حياه بلفظ السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.

ويقولون في أنفسهم :أي سراً فيما بينهم.
لولا يعذبنا الله بما نقول :أي هلا يعذبنا الله بما نقول له, فلو كان نبياً لعاجلنا الله بالعقوبة.
حسبهم جهنم يصلونها:أي يكفيهم عذاب جهنم يصلونها فبئس المصير لهم.
فلا تتناجوا بالإثم والعدوان:أي فلا يناج بعضكم بما هو إثم ولا بما هو عدوان وظلم ولا بما هو معصية للرسول.
وتناجوا بالبر والتقوى :أي وتناجوا إن أردتم ذلك بالبر أي الخير والتقوى وهي طاعة الله والرسول.
إنما النجوى من الشيطان :أي إنما النجوى بالإثم والعدوان من الشيطان أي بتغريره.
ليحزن الذين آمنوا :أي ليوهمهم إنها بسبب شيء وقع مما يؤذيهم.
وليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله :أي وليس التناجي بضار المؤمنين شيئاً إلا بإرادة الله تعالى.
وعلى الله فليتوكل المؤمنون :أي وعلى الله لا على غيره يجب أن يتوكل المؤمنون.
معنى الآيات:
قوله تعالى ألم تر الآية.. هذه نزلت في يهود المدينة والمنافقين فيها.إذ كانوا يتناجون أي يتحدثون سراً على مرأىً من المؤمنين, والوقت وقت حرب فيوهمون المؤمنين إن عدواً قد عزم على غزوهم, أو أن سرية هزمت أو أن مؤامرة تحاك ضدهم فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التناجي, وقال لا يتناج اثنان1 دون ثالث وأبوا أن يتناجوا فأنزل الله تعالى هذه الآية يعجب رسوله منهم ويوعدهم بعد فضحهم وكشف الستار عن كيدهم للمؤمنين ومكرهم بهم فقال تعالى لرسوله ألم تر الذين2 نهوا عن النجوى وهي التناجي المحادثة السرية أمام الناس, ثم يعودون لما نهوا عنه عصياناً وتمرداً عن الرسول صلى الله عليه وسلم, ويتناجون لا بالبر والتقوى, ولكن بالإثم والعدوان ومعصيت3 الرسول أي بما هو إثم في نفسه كالغيبة والبذاء في القول, وبالعدوان وهو الاعتداء على المؤمنين وظلمهم, وبمعصية الرسول فيوصي بعضهم بعضاً بعصيان الرسول وعدم طاعته في أمره ونهيه. هذا وشر منهم أنهم إذا جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيوه بما لم يحيه به الله فلم يقولوا السلام عليكم ولكن
__________
1 الحديث ثابت في الصحيح وفي الموطأ قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون واحد" وفي الحديث دليل على التحريم ونظيره: أن يتكلم اثنان بلغة غير لغة الثالث فإنه كنجوى اثنين دون ثالث.
2 الاستفهام للتعجب والمراد به توبيخ اليهود الذين نزلت الآية فيهم مع إخوانهم المنافقين.
3 كتبت (معصيت) بالتاء المفتوحة دون المربوطة التي يوقف عليها بالهاء في موضعين من هذه السورة, ويوقف عليها بالهاء ويجوز بالتاء أمل في الوصل فلا بد من التاء.

يقولون السام عليكم والسام الموت يلوون بها ألسنتهم, ويأتونا الرسول واحداً واحداً ليحيوه بهذه التحية الخبيثة ليدعوا عليهم بالموت لعنة الله عليه مما أكثر أذاهم وما أشد مكرهم وما أنتن خبثهم ويقولون في أنفسهم أي فيما بينهم لو كان محمد صلى الله عليه وسلم نبياً لآخذنا الله بما نقول له من الدعاء عليه بالموت وهذا معنى قوله تعالى عنهم: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} أي هلا عذبنا الله بما نقول لمحمد صلى الله عليه وسلم لو كان نبياً.1 قال تعالى حسبهم2 عذاباً جهنم يصلونها يحترقون بحرها ولظاها يوم القيامة فبئس المصير الذي يصيرون إليه في الدار الآخرة جهنم وزقومها وحميمها وضريعها وغسلينها ويحمومها وفوق ذلك غضب الله ولعنته عليهم.
وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} هذه الآية والتي بعدها نزلت في تربية المؤمنين روحياً وتهذيبهم أخلاقياً فقال تعالى يا أيها الذين آمنوا أي صدقوا الله ورسوله إذا تناجيتم لأمر استدعى ذلك منكم فلا3 تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول فتكون حالكم كحال اليهود والمنافقين ولكن {تَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} أي بما هو خير في نفسه لا إثم في هو بطاعة الله ورسوله إذ هما التقوى, واتقوا الله الذي إليه تحشرون يوم القيامة لمحاسبتكم ومجازاتكم فاتقوه بطاعته وطاعة رسوله.
وقوله تعالى {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} أي هو الدافع إليها والحامل عليها وذلك لعلة وهي أن يوقع المؤمنين في غم وحزن, وليس التناجي ولا الشيطان بضار المؤمنين شيئاً إلا بإرادة الله تعالى لحكم عالية يعلمها الله, ولذا فلا تحزنوا ولا تغتموا لما ترون من تناجي أعدائكم من اليهود والمنافقين, وتوكلوا على الله في أموركم كلها. وعلى الله تعالى لا على غيره فليتوكل المؤمنون في كل زمان ومكان. فإن الله تعالى كاف من يتوكل عليه كافيه كل ما يهمه والله على ذلك قدير.
__________
1 قال ابن العربي: جهل هؤلاء اليهود أن الله تعالى حليم لا يعاجل بالعقوبة من سبه فقد قال صلى الله عليه وسلم "لا أحد أصبر على الأذى من الله يدعون له الصاحبة والولد وهو يعافيهم ويرزقهم".
2 روى الترمذي وصححه عن أنس "أن يهودياً أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه فقال: السام عليكم. فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال أتدرون ما قال هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال كذا ردوه علي فردوه فقال: قلت السام عليكم؟ قال: نعم فقال النبي عند ذلك إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: عليك ما قلت, فأنزل الله تعالى (وإذا جاؤوك) الآية.
3 الجمهور أن حرمة تناجي الاثنين دون الثالث والثلاثة دون الرابع وهكذا هو باق على تحريمه وليس مخصوصاً بحالة الحرب كما في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن ألفاظ الحديث عامة. منها حديث الصحيح عن ابن عمر: "إذا كان ثلاثة فلا ينتاجى اثنان دون الواحد". وقوله صلى الله عليه وسلم "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه".

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان مكر اليهود والمنافقين وكيدهم للمؤمنين في كل زمان ومكان.
2- إذا حيا الكافر المؤمن ورد عليه المؤمن رد عليه بقوله وعليكم لما صح أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه ناس من اليهود فقالوا السام عليك يا أبا القاسم فقال صلى الله عليه وسلم وعليكم. فقالت عائشة رضي الله عنها عليكم السام ولعنكم1 الله وغضب عليكم. فقال لها عليه الصلاة والسلام يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش فقالت ألا تسمعهم يقولون السام؟ فقال لها أو ما سمعت ما أقول: وعليكم. فأنزل الله هذه الآية رواه الشيخان.
3- إذا سلم الذمي وكان سلامه بلفظ السلام عليكم لا بأس أن يرد عليه بلفظه.
4- حرمة التناجي بغير البر والتقوى وقوله تعالى إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس الآية من سورة النساء.2
5- لا يجوز أن يتناجى اثنان دون الثالث لما يوقع ذلك في نفس الثالث من حزن لا سيما إن كان ذلك في سفر أو في حرب وما إلى ذلك.
6- وجوب التوكل على الله وترك الأوهام والوساوس فإنها من الشيطان.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
__________
1 اختلف في جواز ومنع السلام على أهل الكتاب والذي عليه الجمهور جوازه للسنة الصحيحة في ذلك ويرى بعضهم وجوب الرد لعموم الآية: { فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}.
2 هي قوله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}

(12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
شرح الكلمات:
تفسحوا في المجالس: أي توسعوا في المجالس التي هي مجالس علم وذكر.
فافسحوا يفسح الله لكم :أي في الجنة وفي الرزق والقبر.
انشزوا فانشزوا :أي قوموا للصلاة أو لغيرها من أعمال البر.
يرفع الله الذين آمنوا منكم :أي بالنصر وحسن الذكر في الدنيا وفي غرفات الجنان في الآخرة.
والذين أوتوا العلم درجات :أي ويرفع الذين أوتوا العلم درجات عالية لجمعهم بين العلم والعمل.
إذا ناجيتم الرسول :أي أردتم مناجاته.
فقدموا بين يدي نجواكم صدقة :أي قبل المناجاة تصدقوا بصدقة ثم ناجوه صلى الله عليه وسلم.
ذلك خير لكم وأطهر: أي تقديم الصدقة بين يدي المناجاة خير لما فيه من نفع الفقراء وأطهر لذنوبكم.
فإن لم تجدوا :أي فإن لم تجدوا ما تتصدقون به.
فإن الله غفور رحيم: أي غفور لمناجاتكم رحيم بكم فليس عليكم في المناجاة بدون صدقة إثم.
أأشفقتم أن تقدموا بين يدي :أي أخفتم الفقر إن قدمتم بين يدي نجواكم صدقات.
نجواكم صدقات؟
فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم :أي تقديم الصدقات، وتاب الله عليكم بأن رخص لكم في تركها.
فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة :أي على الوجه المطلوب من إقامتها وأخرجوا الزكاة.
وأطيعوا الله ورسوله :أي وداوموا على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله.
والله خبير بما تعملون :أي من أعمال البر والإحسان وسيثيبكم على ذلك بالجنة.

معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تربية المؤمنين وتهذيبهم ليكملوا ويسعدوا فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي صدقوا الله ورسوله {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ} أي إذا قال لكم الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره توسعوا1 في المجلس ليجد غيركم مكاناً بينكم فتوسعوا ولا تضنوا بالقرب من الرسول أو من العالم الذي يعلمكم أو المذكر الذي يذكركم وإن أنتم تفسحتم أي فإن الله تعالى يكافئكم فيوسع عليكم في الدنيا بسعة الرزق وفي البرزخ في القبر وفي الآخرة في غرفات الجنان.
وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا}2 أي قوموا من المجلس لعلة أو للصلاة أو للقتال أو لفعل بر وخير فانشزوا أي خفوا وقوموا يئبكم الله فيرفع الله الذين آمنوا منكم درجات3 بالنصر والذكر الحسن في الدنيا وفي غرف الجنة في الآخرة والذين أوتوا العلم درجات أي ويرفع الذين أوتوا العلم منكم أيها المؤمنون درجاتٍ عالية لجمعهم بين الإيمان والعلم والعمل.
وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} يذكرهم تعالى بعلمه بهم في جميع أحوالهم ليراقبوه ويكثروا من طاعته ويحافظوا على تقواه.
وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} أمرهم تعالى إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم و يكلمه وحده أن يقدم صدقة أولاً ثم يطلب المناجاة وكان هذا لمصلحة الفقراء أولا ثم للتخفيف4 عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كل مؤمن يود أن يخلو برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقرب منه ويكلمه والرسول بشرٌ لا يتسع لكل أحد فشرع الله هذه الصدقة فأعلمهم أنه يريد التخفيف عن رسوله. فلما علموا بذلك وتحرجوا من بذل صدقة وأكثرهم فقراء
__________
1 قال قتادة: كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض، وروي عن ابن عباس أن هذا في صفوف القتال إذ كانوا يتشاحون على الصف الأول فأمروا بالفسح لبعضهم حتى يتمكنوا من الوقوف في الصف الأول مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واللفظ عام يشمل هذا وذاك. قال القرطبي: والصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر سواء كان مجلس حرب أو علم أو ذكر أو مجلس صلاة كيوم الجمعة وفي الحديث الصحيح: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر ولكن تفسحوا وتوسعوا".
2 قال قتادة: المعنى: أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بمعروف، والنشر: الارتفاع مأخوذ من نشز الأرض وهو ارتفاعها، ومنه قيل للمرأة التي تترفع على زوجها ناشز.
3 في الآية مدح لأهل العلم: قاله ابن مسعود وفي الحديث: "فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب". وقيل لعمر رضي الله عنه في مولى استخلفه فقال: إنه قارئ لكتاب الله وإنه عالم بالفرائض أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع آخرين" وعن ابن عباس: خير سليمان بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه.
4 قال ابن عباس: نزلت بسبب أن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه فأراد الله أن يخفف عن رسوله فأنزل هذه الآية فلما نزلت كف الناس.

لا يجدها نسخ تعالى ذلك ولم تدم مدة الوجوب أكثر من ليالي ونسخها الله تعالى بقوله الآتي أأشفقتم. الآية.
وقوله تعالى {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ}1 أي تقديم الصدقة بين يدي المناجاة خير لكم حيث تعود الصدقة على الفقراء إخوانكم وأطهر أي لنفوسكم لأن النفس تطهر بالعمل الصالح وقوله تعالى {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا} أي ما تقدمونه صدقة قبل المناجاة فناجوه صلى الله عليه وسلم ولا حرج عليكم لعدم وجدكم فإن الله غفور لكم رحيم بكم. وقوله تعالى {أَأَشْفَقْتُمْ2} أي أخفتم الفاقة والفقر إن أنتم ألزمتم بالصدقة بين يدي كل مناجاة وعليه فإن لم تفعلوا وتاب الله عليكم برفع هذا الواجب ونسخه فرجع بكم إلى عهد ما قبل وجوب الصدقة فأقيموا الصلاة بأدائها في أوقاتها في جماعة المؤمنين مراعين شرائطها وأركانها وسننها وآدابها وآتوا الزكاة الواجبة في أموالكم. وأطيعوا الله ورسوله في أمرها ونهيهما يكفكم ذلك عوضاً عن الصدقة التي نسخت تخفياً عليكم ورحمة بكم.
وقوله {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ3} أي فراقبوه في طاعته وطاعة رسوله تفلحوا فتنجوا من النار وتدخلوا الجنة دار الأبرار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- الندب إلى فضيلة التوسع في مجالس العلم والتذكير.
2- الندب والترغيب في القيام بالمعروف وأداء الواجبات إذا دعى المؤمن إلى ذلك.
3- فضيلة الإيمان وفضل العلم والعمل به.
4- مشروعية النسخ في الشريعة قبل العمل بالمنسوخ وبعده إذ هذه الصدقة نسخت قبل أن يعمل بها اللهم إلا ما كان من علي4 رضي الله عنه فإنه أخبر أنه تصدق بدينار وناجى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نسخت هذه الصدقة فكان يقول في القرآن آية لم يعمل بها أحد غيري وهي فضيلة له رضي الله عنه.
__________
1 قال ابن العربي: في الآية دليل على أن الأحكام لا تترب بحسب المصالح فإن الله تعالى قال {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} ثم نسخ ذلك مع كونه خيراً وأطهر. ولكن قد يقال إن ما قد نسخ من أجله قد يكون أكثر منفعة للمسلمين في دينهم ودنياهم. وإن كان خافياً عن المسلمين لا يعلمونه.
2 الاستفهام المراد به لوم الأصحاب على تأخرهم عن المناجاة لما فرضت عليها الصدقة. قيل كان ما بين الآيتين الناسخة والمنسوخة عشرة أيام.
3 الجملة تذييل لجملة: (فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) وهي كناية عن التحذير من التفريط في طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
4 روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: لقد كانت لعلي رضي الله عنه ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى.

5- في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله في الواجبات والمحرمات عوض عما يفوت المؤمن من النوافل.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)
شرح الكلمات:
ألم تر إلى الذين تولوا: أي ألم تنظر إلى المنافقين الذين تولوا.
قوما غضب الله عليهم :أي اليهود.
ما هم منكم ولا منهم: أي ما هم منكم أيها المؤمنون ولا منهم أي من اليهود بل هم مذبذبون.
ويحلفون على الكذب وهم :أي يحلفون لكم أنهم مؤمنون وهم يعلمون أنهم غير مؤمنين.
يعلمون
إنهم ساء ما كانوا يعملون: أي قبح أشد القبح عملهم وهو النفاق والمعاصي.
اتخذوا أيمانهم جنة :أي ستراً على أنفسهم وأموالهم فادعوا الإيمان كذباً وحلفوا أنهم مؤمنون وما هم بمؤمنين.

فصدوا عن سبيل الله :أي فصدوا بتلك الأيمان المؤمنين عن سبيل الله التي هي جهادهم وقتالهم.
فيحلفون له كما يحلفون لكم :أي يوم يبعثهم من قبورهم يوم القيامة يحلفون لله أنهم كانوا مؤمنين كما يحلفون اليوم لكم أنهم مؤمنون.
ويحسبون أنهم على شيء :أي يظنون في أيمانهم الكاذبة أنهم على شيء من الحق.
استحوذ عليهم الشيطان :أي غلب عليهم الشيطان.
فأنساهم ذكر الله :فلم يذكروه بألسنتهم إلا تقية ولا يذكرون وعده ولا وعيده.
أولئك حزب الشيطان :أي أولئك البعداء أتباع الشيطان وجنده.
ألا إن حزب الشيطان هم: أي إن أتباع الشيطان وجنده هم المغبونون الخاسرون في صفقة حياتهم.
الخاسرون
معنى الآيات:
في هذه الأيام التي نزلت فيها هذه السورة كان النفاق بالمدينة بالغاً أشده، وكان اليهود كذلك كثيرين ومتحزبين ضد الإسلام والمسامين وذلك قبل إجلائهم من المدينة ففي هذه الآية يحذر الله تعالى رسوله والمؤمنين من العدوين معاً ويكشف الستار عنهم ليظهرهم على حقيقتهم ليحذرهم المؤمنون فيقول تعالى {أَلَمْ تَرَ1} أي تنظر يا رسولنا إلى الذين تولوا قوماً غضب2 الله عليهم وهم اليهود تولاهم المنافقون ولاية نصرة وتحزب ضد الرسول والمؤمنين. يقول تعالى هؤلاء المنافقون ما هم منكم أيها المؤمنون ولا منهم من اليهود بل هم مذبذبون حيارى يترددون بينكم وبين اليهود معكم في الظاهر ومع اليهود في الباطن.
وقوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ3} أي أنهم كاذبون إذ كانوا يأتون رسول الله ويحلفون له أنهم مؤمنون به وبما جاء به وهم يعلمون أنهم كاذبون إذ هم غير مؤمنين به ولا مصدقين. فتوعدهم الله عز وجل بقوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} أي هيأ لهم وأحضره وذلك يوم القيامة، وندد بصنيعهم وقبح سلوكهم بقوله إنهم ساء ما كانوا يعملون ولذا أعد لهم العذاب
__________
1 الاستفهام تعجبي ووجه التعجب من حالهم أنهم تولوا قوما من غير جنسهم وليسوا على دينهم وإنما حملهم الاشتراك في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
2 عرف اليهود بالقرآن بأنهم المغضوب عليهم وتكرر ذلك في القرآن الكريم.
3 روي عن عكرمة وابن عباس في سبب نزول هذه الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً في ظل شجرة قد كان الظل يتقلص عنه إذ قال يجيئكم الساعة رجل أزرق ينظر إليكم نظر شيطان فنحن على ذلك إذ أقبل رجل أزرق قد عاينه النبي صلى الله عليه وسلم فقال. علام تشتمني أنت وأصحابك؟ قال دعني أجيئك بهم فمر فجاء بهم فحلفوا جميعاً أنه ما كان من ذلك شيء فأنزل الله تعالى: (يوم يبعثهم الله جميعاً).

الشديد لسوء سلوكهم وقبح أعمالهم.
وقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ1 جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي اتخذ هؤلاء المنافقون أيمانهم التي يحلفونها لكم بأنهم مؤمنون وما هم بمؤمنين اتخذوها ستارة ووقاية يقون بها أنفسهم من القتل وأموالهم من الأخذ فصدوا بتلك الأيمان الكاذبة المؤمنين عن سبيل الله التي هي قتالهم لأنهم كفار مشركون يجب قتالهم حتى يدخلوا في دين الله أو يهلكوا لأنهم ليسوا أهل كتاب فتقبل منهم الجزية.
وقوله تعالى {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي يوم القيامة يهانون ويذلون به.
وقوله تعالى {لَنْ تُغْنِيَ 2عَنْهُمْ} أي يوم القيامة أموالهم التي يجمعونها ويتمتعون بها اليوم كما لا تغني عنهم أولادهم الذين يعتزون بهم من الله شيئاً من الإغناء فلا تقبل منهم فدية فيفتدون بأموالهم ولا يطلبون من أولادهم نصرة فينصرونهم. أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون لا يخرجون منها ولا يموتون فيها ولا يحيون.
وقوله تعالى {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً} أي اذكر يا رسولنا يوم يبعثهم الله جميعا في عرصات القيامة فيحلفون3 له أنهم كانوا مؤمنين كما يحلفون لكم اليوم أنهم مؤمنون. ويحسبون اليوم أي يظنون أنهم على كل شيء من الصواب والحق ألا إنهم هم الكاذبون استحوذ4 عليهم الشيطان أي غلب عليهم فأنساهم ذكر الله فلا يذكرونه إلا قليلاً كما أنساهم ذكر وعده ووعيده فلذا هم لا يرغبون في ما عنده ولا يرهبون مما لديه. أولئك حزب الشيطان أي أتباعه وجنده. ألا إن حزب5 الشيطان أي أتباعه وجنده هم الخاسرون أي المغبونون في صفقتهم في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة.
__________
1 (اتخذوا أيمانهم جنة) الجملة مستأنفة استأنافاً بيانياً لأن سائلا قد يسأل: ما الذي حملهم على الحلف الكاذب؟ فالجواب اتخاذهم أيمانهم جنة والجنة الوقاية من جن إذا استتر أي: وقاية من شعور المسلمين ليتمكنوا من الصد عن الإسلام تحت شعاره.
2 في الآية إشارة إلى أن كبار المنافقين كانوا ذوي ثروة ومال وهذا من الأسباب الحاملة لهم على البقاء على الكفر حفاظاً على أموالهم ومراكزهم في المجتمع في نظرهم، فأخبر تعالى أن مالهم الذي يحافظون عليه أولادهم الذين يعتزون بهم إذا نزل بهم عذاب الله لن يغني ذلك عنهم من الله شيئاً.
3 صح الحديث بأن من مات على شيء يبعث عليه، ولما مات المنافقون على النفاق بعثوا عليه، فلذا يحلفون لله تعالى أنهم كانوا مؤمنين كما هم يحلفون في الدنيا بأنهم مؤمنون وهم كاذبون، وهذا كقوله تعالى: {وما كان فتنتهم إلا أن قالوا والله ما كنا مشركين} . وهذا في عرصات القيامة.
4 مجرد استحوذ: حاذ الشيء: إذا أحاطه وصرفه كيف يريد، يقال: حاذ العير: إذا جمعها وساقها غالباً لها فاشتقوا منه استفعل: للاستيلاء، والتدبير والمعالجة ولا يقال استحوذ إلا لمن كان عاقلا يحسن التدبير والتصريف.
5 جيء بحرف التنبيه والاستفتاح (ألا) تنبيهاً على أهمية ما دخلت عليه وأنه مما يحق أن ينتبه له. وضمير الفصل (هو) لإفادة القصر، وهو قصر إدعائي للمبالغة في مقدار خسرانهم.

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمة موالاة اليهود.
2- حرمة الحلف على الكذب وهي اليمين الغموس.
3- من علامات استحواذ الشيطان على الإنسان تركه لذكر الله بقلبه ولسانه ولوعده ووعيده بأعماله وأقواله.
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
شرح الكلمات:
إن الذين يحادون الله ورسوله: أي يخالفون الله ورسوله فيما يأمران به وينهيان عنه.
أولئك في الأذلين :أي المغلوبين المقهورين.
كتب الله لأغلبن أنا ورسلي :أي كتب في اللوح المحفوظ أو قضى وحكم بأن يغلب بالحجة أو السيف.
يوادون من حاد الله ورسوله :أي يصادقون من يخالف الله ورسوله بمحبتهم ونصرهم .
ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو :أي يقصدونهم بالسوء ويقاتلونهم على الإيمان كما وقع للصحابة.
إخوانهم أو عشيرتهم

أولئك كتب في قلوبهم الإيمان :أي أثبت الإيمان في قلوبهم.
وأيدهم بروح منه :أي برهان ونور وهدىً.
رضي الله عنهم ورضوا عنه :أي رضي الله عنهم بطاعتهم إياه في الدنيا ورضوا عنه في الآخرة بإدخاله إياهم في الجنة.
ألا أن حزب الله هم المفلحون :أي ألا إن جند الله وأولياءه هم الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة.
معنى الآيات:
يخبر تعالى موجها المؤمنين مرشداً لهم إلى أقوم طريق وأكمل الأحوال فيقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي يخالفونهما في أمرهما ونهيهما وما يدعوان إليه من الدين الحق {أُولَئِكَ} أي المخالفون في زمرة الأذلين1 في الدنيا والآخرة. وقوله تعالى {كَتَبَ2 اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} أي كتب في اللوح المحفوظ وقضى بأن يغلب رسوله أعداءه بالحجة والسيف3. {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي ذو قوة لا تقهر وعزة لا ترام فلذا قضى بنصرة رسوله على أعدائه مهما كانت قوتهم.
وقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ4 بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} يقول تعالى لرسوله لا تجد أناساً يؤمنون بالله إيماناً صادقاً بالله رباً وإلهاً وباليوم الآخر يوادون بالمحبة والنصرة من حاد الله ورسوله بمخالفتهما في أمرهما ونهيهما وما يدعوان إليه من توحيد الله وطاعته وطاعة رسوله ولو كانوا أقرب قريب إليهم من أب أو أبن أو أخ أو عشيرة. وقوله تعالى {أُولَئِكَ كَتَبَ} أي الله تعالى في قلوبهم الإيمان أي أثبته وقرره فيها فهو لا يبرح ينير لهم طريق الهدى حتى ينتهوا إلى جوار ربهم.
__________
1 (الأذلين) جمع الأذل وهو: الأكثر ذلاً من كل ذليل والذل المهانة والصغار والإحتقار.
2 روي أن مقاتلا قال: قال المؤمنون لئن فتح الله لنا مكة والطائف وخيبر وما حولهن رجونا أن يظهرنا الله على فارس والروم فقال عبد الله بن أبي بن سلول أتظنون أن الروم وفارس مثل القرى التي غلبتم عليها، والله لأنهم أكثر عدداً وأشد بطشاً من أن تظنوا فيهم ذلك فأنزل الله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ} أي: قضى الله ذلك.
3 من بعث منهم بالحجة فإنه غالب بالحجة ومن بعثه بالسيف فهو غالب بالسيف بإذنه تعالى.
4 ذكر لنزول هذه الآية عدة أسباب وهي وإن لم تنزل في كلها فإنها منطبقة عليها فقيل: إنها نزلت في عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول فقد جاء لوالده بفضلة ماء من شراب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله يطهر قلبه من النفاق فسأله ما هذا فأخبره فقال عليه لعائن الله: فهلا جئتني ببول أمك فإنه أطهر منها فغضب وجاء يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله فلم يأذن له، وقيل نزلت في أبي بكر الصديق لما ضرب والده بشدة لما سب له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: نزلت في الذين بارزوا أقربائهم يوم بدر.

{وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ1} أي ببرهان ونور منه سبحانه وتعالى هذا في الدنيا وأما في الآخرة فيدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار أي بساتين غناء تجري الأنهار المختلفة من خلال الأشجار والقصور خالدين فيها لا يخرجون منها أبدا، وفوق ذلك رضي الله عنهم بطاعتهم إياه ورضوا عنه في الآخرة بإدخاله إياهم الجنة دار المتقين.
وقوله تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} أي أولئك العالون في كمالاتهم الروحية حزب الله أي جنده وأولياؤه، ثم أعلن تعالى عن فوزهم ونجاحهم فقال: {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}2 أي الفائزون يوم القيامة بالنجاة من النار ودخول الجنة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- كتب الله الذل والصغار على من حاده وحاد رسوله بمخالفتهما فيما يحبان ويكرهان.
2- قضى الله تعالى بنصرة رسوله فنصره إنه قوي عزيز.
3- 3حرمة موالاة الكافر بالنصرة والمحبة ولو كان أقرب قريب، وقد قاتل أصحاب رسول الله آباءهم وأبناءهم وإخوانهم وعشيرتهم في بدر. وفيهم نزلت هذه الآية تبشرهم برضوان الله تعالى لهم، وإنعامه عليهم اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم.
__________
1 قيل هو جبريل، وقيل: بنصر منه، وقال الربيع بن أنس: بالقرآن وحججه.
2 استدل مالك بهذه الآية (لا تجد قوما ..) الخ على معاداة القدرية وترك مجالستهم. إذا كان هذا في القدرية فكيف بالرافضة؟!
3 روي أن داود عليه السلام قال: إلهي: أمن حزبك وحول عرشك؟ فأوحى الله إليه: يا داود: الغاضة أبصارهم النقية قلوبهم السليمة أكفهم. أولئك حزبي وحول عرشي.

سورة الحشر
...
سورة الحشر1
مدنية وآياتها أربع وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ
__________
1 وسماها ابن عباس سورة بني النضير لذكر قصة بني النضير فيها وسماها الرسول صلى الله عليه وسلم (سورة الحشر) في حديث الترمذي عن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر (هو الله) الخ وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي وإن مات في يومه مات شهيداً، ومن قرأها حين يمسي كذلك". وقال فيه: حسن غريب.

لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
شرح الكلمات:
سبح1 لله ما في السموات وما في الأرض :أي نزه الله تعالى وقدسه بلسان الحال والقال ما في السموات وما في الأرض من سائر الكائنات.
وهو العزيز الحكيم :أي العزيز في انتقامه من أعدائه الحكيم في تدبيره لأوليائه.
هو الذي أخرج الذين كفروا من :أي أخرج يهود بني النضير من ديارهم بالمدينة.
أهل الكتاب من ديارهم
لأول الحشر: أي لأول حشر كان وثاني حشر كان من خيبر إلى الشام.
ما ظننتم أن يخرجوا :أي ما ظننتم أيها المؤمنون أن بني النضير يخرجون من ديارهم.
وطنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله :أي وظن يهود بني النضير أن حصونهم تمنعهم مما قضى الله به عليهم من إجلائهم من المدينة.
__________
1 في قوله تعالى: (سبح لله) الخ تذكير للمؤمنين بتسبيح الله تعالى وأنه من الذكر الذي هو علة الوجود، وتركه مهلكة كالتي حلت ببني النضير لتركهم ذلك.

فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا: أي فجاءهم الله من حيث لم يظنوا أنهم يؤتون منه.
وقذف في قلوبهم الرعب :أي وقذف الله تعالى الخوف الشديد من محمد وأصحابه.
يخربون بيوتهم بأيديهم :أي يخربون بيوتهم حتى لا ينتفع بها المؤمنون وليأخذوا بعض أبوابها وأخشابها المستحسنة معهم.
وأيدي المؤمنين :إذ كانوا يهدمون عليهم الحصون ليتمكنوا من قتالهم.
فاعتبروا يا أولي الأبصار :أي فاتعظوا بحالهم يا أصحاب العقول ولا تغتروا ولا تعتمدوا إلا على الله سبحانه وتعالى.
ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء :أي ولولا أن كتب الله عليهم الخروج من المدينة.
لعذبهم في الدنيا :أي بالقتل والسبي كما عذب بني قريظة إخوانهم بذلك.
ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله: جزاهم بما جزاهم به من عذاب الدنيا والآخرة بسبب مخالفتهم لله ورسوله ومعاداتهم لهما.
ما قطعتم من لينة أو تركتموها :أي ما قطعتم أيها المؤمنون من نخلة لينة أو تركتموها بلا قطع.
فبإذن الله وليخزي الفاسقين :أي فاقطع ما قطعتم وترك ما تركتم كان بإرادة الله وكان ليجزي الله الفاسقين يهود بني النضير.
معنى الآيات:
يخبر تعالى عن جلاله وعظمته بأنه سبحه أي نزهه عن كل النقائص من الشريك والمصاحبة والولد والعجز والنقص مطلقاً بلسان القال ولسان الحال جميع ما في السموات وما في الأرض من الملائكة والإنس والجن والحيوان والشجر والحجر والمدر، وأنه هو العزيز الانتقام الحكيم في تدبير حياة الأنام. هو الذي أخرج الذين كفروا من ديارهم يهود بني النضير1 أجلاهم من ديارهم بالمدينة لأول الحشر2 إلى أذرعات بالشام ومنهم من نزل بخيبر وسيكون لهم حشر آخر حيث حشرهم عمر وأجلاهم من خيبر إلى الشام.
وقوله تعالى في خطاب المؤمنين: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} أي من ديارهم وظنوا هم أنهم مانعتهم حصونهم من الله. فخاب ظنهم إذ أتاهم أمر الله من حيث لم يظنوا وذلك بأن قذف في
__________
1 بنو النضير: رهط من اليهود من ذرية هارون عليه السلام نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انتظاراً لمحمد صلى الله عليه وسلم وكان من أمرهم ما قص تعالى في هذه السورة.
2 الحشر: الجمع أي: جمع الناس في مكان واحد، والمراد هنا: حشر يهود جزيرة العرب إلى أرض غيرها أي: جمعهم للخروج، ولذا هو يرادف الجلاء إذ كان الجلاء لجماعة عظيمة تجمع من الديار المتفرقة، واللام في قوله: (لأول الحشر) هي لام التوقيت التي تدخل على أول الوقت نحو (فطلقوهن لعدتهن) أي: لأول عدتهن وهو الطهر الذي لم تمس فيه.

قلوبهم الرعب والخوف الشديد من الرسول وأصحابه حتى أصبحوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين. المؤمنون يخربونها من الظاهر لفتح البلاد وهم يخربونها من الباطن وذلك أن الصلح الذي تم بينهم وبين الرسول والمؤمنين أنهم يحملون أموالهم إلا الحلقة أي السلاح ويجلون عن البلاد إلى الشام وهو أول حشر لهم فكانوا إذا أعجبهم الباب أو الخشبة نزعوها من محلها فيخرب البيت لذلك. وقوله تعالى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} أي البصائر والنهي أي اتعظوا بحال بني النضير الأقوياء كيف قذف الله الرعب في قلوبهم وأجلوا عن ديارهم فاعتبروا يا أولي البصائر فلا تغتروا بقواكم ولكن اعتمدوا على الله وتوكلوا عليه.
وقوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ1 الْجَلاءَ} أزلا في اللوح المحفوظ لعذبهم في الدنيا بالسبي والقتل كما عذب بني قريظة بعدهم. ولهم في الآخرة عذاب النار، ثم علل تعالى لهذا العذاب الذي أنزله وينزله بهم بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي خالفوهما وعادوهما، ومن يشاق الله يعاقبه بأشد العقوبات فإن الله شديد العقاب.
وقوله تعالى {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ2 لِينَةٍ} أي من نخلة لينة أو تركتموها بلا قطع قائمة على أصولها فقد كان ذلك بإذن الله فلا إثم عليكم فيه فقد أسر به المؤمنون وأخزى به الفاسقين اليهود.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان جلال الله وعظمته مع عزه وحكمته في تسبيحه من كل المخلوقات العلوية والسفلية وفي إجلاء بني النضير من ديارهم وهو أول حشر وإجلاء تم لهم وسيعقبه حشر ثانٍ وثالثٌ.3
2- بيان أكبر عبرة في خروج بني النضير، وذلك لما كان لهم من قوة ولما عليه المؤمنون من ضعف ومع هذا فقد انهزموا شر هزيمة وتركوا البلاد والأموال ورحلوا إلى غير رجعة. فعلى مثل هذا يتعظ المتعظون فإنه لا قوة تنفع مع قوة الله، فلا يغتر العقلاء بقواهم المادية بل عليهم أن يعتمدوا على الله أولاً وآخراً.
3- علة هزيمة بني النضير ليست إلا محادتهم لله والرسول ومخالفتهم لهما وهذه سنته تعالى في
__________
1 الفرق بين الجلاء والإخراج أن الجلاء يكون بالأهل والأولاد وأما الإخراج قد يكون بدون ذلك وكلاهما مفارقة المرء وطنه ويقال: جلا المرء بنفسه وأجلاه غيره.
2 كان هذا من باب إلجاء العدو إلى ترك المقاومة والاستسلام واللينة: بمعنى: النخلة، واختير لفظ اللينة دون النخلة: لخفته وهو اللون دون العجوة والبرني.
3 الحشر: أي الجمع الأول هو إجلاؤهم من المدينة، والثاني: هو إجلاؤهم عن الديار الحجازية على يد عمر رضي الله عنه لوصية الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله " لا يجتمع دينان في الجزيرة" والثالث: هو إجلاؤهم من فلسطين بعد تجمعهم فيها وإقام دولتهم. جاء بهذا حديث مسلم "لتقاتلن اليهود..." الحديث فسوف يتم إجلاؤهم حتى لا يجتمعوا مرة أخرى إلى قيام الساعة.

كل من يحاده ويحاد رسوله فإنه ينزل به أشد أنواع العقوبات.
4- عفو الله تعالى على المجتهد إذا أخطأ وعدم مؤاخذته، فقد اجتهد المؤمنون في قطع نخل بني النضير من أجل إغاظتهم حتى ينزلوا من حصونهم. و أخطأوا في ذلك إذ قطع النخل المثمر فساد، ولكن الله تعالى لم يؤاخذهم لأنهم مجتهدون.
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
شرح الكلمات:
وما أفاء الله على رسوله منهم :أي وما رد الله ليد رسول الله صلى الله عليه وسلم من مال بني النضير.
1 فما أوجفتم عليه من خيل ولا :أي أسرعتم في طلبه والحصول عليه خيلاً ولا إبلاً أي لم تعانوا فيه مشقة.
ركاب
ولكن الله يسلط رسله على من يشاء :أي وقد سلط رسول الله محمداً صلى الله عليه وسلم على بني النضير ففتح بلادهم صلحاً.
وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى :أي وما رد الله على رسوله من أموال أهل القرى التي لم يوجف عليها بخيل ركابٍ.
فلله وللرسول ولذي القربى :أي لله جزء وللرسول جزء ولقرابة الرسول جزء ولليتامى جزء وللمساكين
واليتامى والمساكين وابن جزء ولابن السبيل جزء تقسم على المذكورين
__________
1 (فما أوجفتم) هذه الفاء واقعة في جواب الذي، إذ الموصول فيه معنى الشرط فقوله: (وما أفاء) أي: والذي أفاءه الله على رسوله منهم فما أوجفتم...) الخ.

السبيل بالسوية.
كي لا يكون دولة بين الأغنياء :أي كيلا يكون المال متداولاً بين الأغنياء الأقوياء ولا يناله الضعفاء والفقراء.
منكم
وما آتاكم الرسول فخذوه وما :أي وما أعطاكم الرسول وأذن لكم فيه أو أمركم به فخذوه وما نهاكم عنه
نهاكم عنه فانتهوا وحظره عليكم ولم يأذن لكم فيه فانتهوا عنه.
واتقوا الله إن الله شديد العقاب :أي واتقوا الله فلا تعصوه ولا تعصوا رسوله واحذروا عقوبة الله على معصيته ومعصية رسوله فإن الله شديد العقاب.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في غزوة بني النضير إنه بعد الصلح الذي تم بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تركوا حوائطهم أي بساتينهم فيئاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورغب المسلمون في تلك البساتين ورأى بعضهم أنها ستقسم عليهم كما تقسم الغنائم فأبى الله تعالى ذلك عليهم وقال: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} أي وما رد الله تعالى على رسوله من مال بني النضير. وكلمة رد تفسير لكلمة أفاء لأن الفيء الظل يتقلص ثم يرجع أي يرد وأموال بني النضير الأصل فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن بني النضير عاهدوا رسول الله وبمقتضى المعاهدة أبقى عليهم أموالهم فإذا تقضوا العهد وخانوا لم يستحقوا من المال شيئاً لا سيما وأنهم تآمروا على قتله وكادوا ينفذون جريمتهم التي تحملوا تبعتها ولو لم ينفذوها. وبداية القضية كالتالي:
أن المعاهدة التي تمت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين بني النضير من جملة بنودها أن يؤدوا مع الرسول ما يتحمل من ديات. وبعد وقعة أحد بنصف سنة حدث أن عمرو بن أمية الضمري قتل خطأ رجلين من بني كلب أو بني كلاب فجاء ذووهم يطالبون بديتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هو المسئول عن المسلمين فخرج صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير في قريتهم1 التي تبعد عن المدينة بميلين يطالب بالإسهام في دية الرجلين الكلابيين بحكم المعاهدة فلما انتهى إليهم أنزلوه هو وأصحابه بأحسن مجلس وقالوا ما تطلبه هو لك يا أبا القاسم ثم خلوا بأنفسهم وقالوا أن الفرصة سانحة للتخلص من الرجل فجاءوا برحىً (مطحنة) من صخرة وطلعوا بها إلى سطح المنزل وهموا أن يسقطوها على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الجدار مع أصحابه، وقبل أن يسقطوا الرحى أوحى الله إلى رسوله أن قم من مكانك فإن اليهود أرادوا إسقاط حجر عليك ليقتلوك فقام صلى الله عليه وسلم على الفور
__________
1 وكانت تسمى الزهرة وكان لها خمسة حصون.

وتبعه أصحابه وسقط في أيدي اليهود. وما إن رجع الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أعلن الخروج إلى بني النضير فإنهم نقضوا عهدهم ووجب قتالهم فنزل بساحتهم وحاصرهم وجرت سفارة وانتهت بصلح يقضى بأن يجلوا بني النضير عن المدينة يحملون أموالهم على إبلهم دون السلاح ويلتحقوا بأذرعات بالشام فكان هذا أول حشر لهم إلى أرض المعاد والمحشر إلا أسرتين نزلتا بخيبر أسرة بني الحقيق الذين منهم حيي بن أخطب والد صفية زوج الرسول صلى الله عليه وسلم. ولهذه الغزوة بقيت ستأتي عند قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} الآيات.
من هنا علمنا أن مال بني النضير هو لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفاءه الله عليه فقال وما أفاء الله على رسوله منهم أي من بني النضير. ولما طمع المؤمنون فيه قال تعالى رداً عليهم فما أوجفتم1 عليه أي على أموال بني النضير أي ما ركبتم إليه خيلاً ولا إبلاً ولا أسرعتم عدواً إليهم لأنهم في طرف المدينة فلم تتحملوا سفراً ولا تعباً ولا قتالاً موتاً وجراحات فلذا لا حق لكم فيها فإنها فيء وليست بغنائم. ولكن الله2 يسلط رسله على من يشاء بدون حرب ولا قتال فيفيء عليهم بمال الكفرة الذي هو مال الله فيرده على رسله,وقد سلط الله حسب سنته في رسله محمداً صلى الله عليه وسلم على أعدائه بني النضير فحاز المال بدون قتال ولا سفر فهو له دون غيره ينفقه كما يشاء ومع هذا فقد أنفقه صلى الله عليه وسلم ولم يبق منه إلا قوت سنة لأزواجه رضي الله عنهن وأرضاهن. وقوله تعالى {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} لا يمتنع منه قوى, ولا يتعزز عليه شريف سرى.
وقوله تعالى {مَا أَفَاءَ اللَّهُ3 عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} أي من أموال أهل القرى التي ما فتحت عنوة ولكن صلحاً فتلك الأموال تقسم فيئاً على مل بين تعالى فلله وللرسول ولذي القربى أي قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم وبنو المطلب. واليتامى الذين لا عائل لهم, والمساكين الذين مسكنتهم الحاجة وابن السبيل وهو المسافر المنقطع عن بلاده وداره وماله؟ وعلة ذلك بينها تعالى بقوله {كَيْ لا يَكُونَ } أي المال {دُولَةً4} أي متداولاً بين الأغنياء منكم, ولا يناله الضعفاء والفقراء فمن الرحمة والعدل أن يقسم الفيء لعى هؤلاء الأصناف المذكورين وما لله فهو ينفق في المصالح العامة وكذلك ما للرسول بعد وفاته صلى الله عليه وسلم والباقي للمذكورين, وكذا خمس الغنائم فإنه يوزع على المذكورين في هذه الآية أما الأربعة أخماس فعلى المجاهدين.
__________
1 الإيجاف: ضرب من سير الخيل وهو سير سريع والمراد: الركض للإغارة و(الركاب) اسم جمع للإبل التي تركب.
2 في الكلام حذف اقتضاه الإيجاز إذ التقدير: ولكن الله سلط عليهم رسوله, والله يسلط رسله على من يشاء.
3 هذه الآية بداية كلام مستأنف ابتدائياً فالأولى كانت بخاصة قسمة أموال بني النضير, وأما هذه فهي في بيان حكم الفيء في الإسلام.
4 (دولة): ما يتداوله المتداولون, والتداول: التعاقب في التصرف في شيء وأصبحت خاصة بتداول الأموال.

وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} من مال وغيره {فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} أي من مال وغيره فانتهوا عنه واتقوا الله فلا تعصوه ولا تعصوا رسوله و أحذروا عقابه فإن الله شديد العقاب أي معاقبته قاسية شديدة لا تطاق فيا ويل من تعرض لها بالكفر والفجور والظلم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان أن مال بني النضير كان فيئاً خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- أن الفيء وهو ما حصل عليه المسلمون بدون قتال1 وإنما بفرار العدو وتركه أو بصلح يتم بينه وبين المسلمين هذا الفيء يقسم على ما ذكر تعالى في هذه الآية إذ قال وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله، وللرسول، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل. وأما الغنائم وهي ما أخذت عنوة بالقوة وسافر إليها المسلمون فإنها تخمس خمس لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل يوزع بينهم بالسوية، والأربعة الأخماس الباقية تقسم على المجاهدين الذين شاركوا بالمعارك وخاضوها للراجل قسم وللفارس قسمان.
3- وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطبيق أحكامه والاستنان بسنته المؤكدة وحرمة مخالفته فيما نهى عنه أمته روى الشيخان أن ابن مسعود رضي الله عنه قال لعن الله الواشمات2 والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله فبلغ ذلك امرأة من أسد يقال لها أم يعقوب كانت تقرأ القرآن فقالت بلغني أنك لعنت كيت وكيت. فقال: مالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله عز وجل؟ فقالت لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته، قال إن كنت قرأته فقد وجدته. أما قرأت قوله تعالى {وَمَا آتَاكُمُ3 الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} قالت: بلى. قال: فإنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عنه. أي الوشم الخ..
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ
__________
1 هذه المسألة خلافية بين الفقهاء وما في التفسير هو الذي عليه الأكثرون منهم وهو الراجح والله أعلم.
2 الوشم معروف، ملعونة فاعلته والمفعول لها، والتنمص نتف الشعر من الوجه والتفلج توسعة ما بين الأسنان بمنشار وغيره للتجمل بذلك.
3 الإيتاء: مستعار لتبليغ الأمر إليهم إذ جعل تشريعه وتبليغه كإيتاء شيء بأيديهم كقوله تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} إذ يريد التشريع الذي شرعه لهم في التوراة.

يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (10)
شرح الكلمات:
يبتغون فضلا من الله ورضوانا :أي هاجروا حال كونهم طالبين من الله رزقاً يكفيهم ورضا منه تعالى.
أولئك هم الصادقون :أي في إيمانهم حيث تركوا ديارهم وأموالهم وهاجروا ينصرون الله ورسوله.
والذين تبوءوا الدار والإيمان :أي والأنصار الذين نزلوا المدينة وألفوا الإيمان بعدما اختاروه على الكفر.
من قبلهم :أي من قبل المهاجرين.
ولا يجدون في صدورهم حاجة :أي حسداً ولا غيظاً.
مما أوتوا : أي مما أوتي إخوانهم المهاجرون من فيء بني النضير.
ويؤثرون على أنفسهم: أي في كل شيء حتى إن الرجل منهم تكون تحته المرأتان فيطلق أحداهما ليزوجها مهاجراً.
ولو كان بهم خصاصة :أي حاجة شديدة وخلة كبيرة لا يجدون ما يسدونها به.
ومن يوق شح نفسه :أي ومن يقه الله تعالى حرص نفسه على المال والبخل به.
والذين جاءوا من بعدهم :أي من بعد المهاجرين والأنصار من التابعين إلى يومنا هذا فما بعد.
ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين :أي حقداً أي انطواء على العداوة والبغضاء.
آمنوا

معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن فيء بني النضير وتوزيع الرسول صلى الله عليه وسلم له فقال تعالى {لِلْفُقَرَاءِ} أي أعجبوا1 أن يعطى فيء بني النضير للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون أي حال كونهم في خروجهم يطلبون فضلا من الله أي رزقاً يكف وجوههم عن المسألة ورضواناً من ربهم أي رضاً عنهم لا يعقبه سخط. إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى فيء بني النضير للمهاجرين ولم يعط للأنصار إلا ما كان من أبي دجانة وسهل بن حنيف فقد ذكروا لرسوله الله صلى الله عليه وسلم حاجة فأعطاهما. فتكلم المنافقون للفتنة وعابوا صنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية يعجب منهم الرسول والمؤمنون في إنكارهم على عطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين دون الأنصار، وهو قوله تعالى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا2 مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} أي في إيمانهم إذ صدقوا القول بالعمل، وما كان معتقداً باطناً أصبح عملاً ظاهراً بهذه الأوصاف التي ذكر تعالى للمهاجرين أعطاهم الرسول من فيء بني النضير. وأما الأنصار الذين لم يعطهم المال الزائل وهم في غير حاجة إليه فقد أعطاهم ما هو خير من المال. واسمع ثناؤه تعالى عليهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ} 3 أي المدينة النبوية والإيمان أي بوأوه قلوبهم وأحبوه وألفوه. من قبلهم أي من قبل نزول المهاجرين4 إلى المدينة يحبون من هاجر إليهم من سائر المؤمنين الذين يأتون فراراً بدينهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة أي حسداً ولا غيظاً مما أوتوا أي مما أعطوا الرسول صلى الله عليه وسلم المهاجرين. ويؤثرون على أنفسهم5 غيرهم من المهاجرين ولو كان بهم خصاصة أي حاجة شديدة وخلة كبيرة لا يجدون ما يسدونها به، وفي السيرة من عجيب إيثارهم العجب العجاب في أن الرجل يكون تحته امرأتان فيطلق إحداهما فإذا انتهت عدتها زوجها أخاه المهاجر فهل بعد هذا الإيثار من إيثار؟.
__________
1 وقيل: إن (للفقراء) بيان لقوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} ويكون: (للفقراء): قيداً لذي القربى بحيث لا يعطى منهم إلا الفقراء، وهذا مردود رده الشافعي على أبي حنيفة رداً عنيفاً.
2 (أخرجوا): أي: أحوجهم المشركون إلى الخروج وكانوا مائة رجل كذا قال القرطبي.
3 (تبوءوا الدار والإيمان) لما كان التبوء يكون في الأماكن كان لابد من تقدير لكلمة الإيمان نحو: تبوءوا الدار والتزموا الإيمان أو ألفوا الإيمان على حد قولهم: علفتها تبناً وماءً بارداً. أي: وسقيتها ماءً.
4 في العبارة تجوز أي: من قبل نزول أكثر المهاجرين أو من قبل نزول الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو سيد المهاجرين وسيد جميع العالمين.
5 أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة "أن رجلا بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه فقال لامرأته: نومي الصبيان وأطفئي السراج وقربي للضيف ما عندك" فنزلت هذه الآية: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.

وقوله تعالى {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} 1أي من يقيه الله تعالى مرض الشح وهو البخل بالمال والحرص على جمعه ومنعه فهو في عداد المفلحين وقد وقى الأنصار من هذا الخطر فهم مفلحون فهذا أيضاً ثناءٌ عليهم وبشرى لهم.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} أي من بعد المهاجرين الأولين والأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان يقولون في دعائهم الدائم لهم {رَبَّنَا} أي يا ربنا {اغْفِرْ لَنَا} أي ذنوبنا واغفر {وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} وهم المهاجرون والأنصار، {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} بك وبرسولك {رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} أي ذو رأفة بعبادك ورحمة بالمؤمنين بك فاستجب دعاءنا فاغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا في الإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً لهم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان فضل المهاجرين والأنصار, وأن حبهم إيمان وبغضهم كفران.
2- فضيلة الإيثار على النفس.
3- فضيلة إيواء المهاجرين ومساعدتهم على العيش في دار الهجرة المهاجرين الذين هاجروا في سبيل الله تعالى فراراً بدينهم ونصرة لإخوانهم المجاهدين والمرابطين.
4- خطر الشح وهو البخل بما وجب إخراجه من المال والحرص على جمعه من الحلال والحرام.
5- بيان طبقات المسلمين ودرجاتهم وهي ثلاثة بالإجمال:
1- المهاجرون الأولون.
2- الأنصار الذين تبوءوا الدار "المدينة" وألفوا الإيمان.
3- من جاء بعدهم من التابعين وتابعي التابعين إلى قيام الساعة من أهل الإيمان والتقوى.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ
__________
1 ومما ورد في ذم الشح قوله صلى الله عليه وسلم "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم".

أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14)
شرح الكلمات:
ألم تر: أي ألم تنظر.
نافقوا : أي أظهروا الإيمان وأخفوا في نفوسهم الكفر.
لإخوانهم الذين كفروا من أهل : أي يهود بني النضير.
الكتاب
لئن أخرجتم :أي من دياركم بالمدينة.
لنخرجن معكم :أي نخرج معكم ولا نبقى بعدكم في المدينة.
وإن قوتلتم :أي قاتلكم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
لننصرنكم :أي بالرجال والسلاح.
والله يشهد إنهم لكاذبون :أي فيما وعدوا به إخوانهم بني النضير.
ولئن نصروهم :أي وعلى فرض أنهم نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون المنافقون كاليهود سواء.
لأنتم أشد رهبة في صدورهم:أي تالله لأنتم أشد خوفاً في صدورهم.
من الله :لأن الله تعالى يؤخر عذابهم وأنتم تعجلونه لهم.
ذلك بأنهم :أي المنافقين.
قوم لا يفقهون :لظلمة كفرهم وعدم استعدادهم للفهم عن الله ورسوله.

لا يقاتلونكم جميعا :أي لا يقاتلكم يهود بني النضير مجتمعين.
إلا في قرى محصنة :أي بالأسوار العالية.
أو من وراء جدر :أي من رواء المباني والجدران أما المواجهة فلا يقدرون عليها.
بأسهم بينهم شديد :أي العداوة بينهم شديدة والبغضاء أشد.
تحسبهم جميعاً :أي مجتمعين.
وقلوبهم شتى :أي متفرقة خلاف ما تحسبهم عليه.
بأنهم قوم لا يعقلون :إذ لو كانوا يعقلون لاجتمعوا على الحق ولا ما كفروا به وتفرقوا فيه فهذا دليل عدم عقلهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن غزوة بني النضير فيقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم {أَلَمْ تَرَ} أي تنظر1 يا رسولنا إلى الذين نافقوا وهم عبد الله بن أبي بن سلول ووديعة ومالك ابنا نوفل وسويد وداعس إذ بعثوا إلى بني النضير حين نزل بساحتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحربهم بعثوا إليه أن اثبتوا وتمنعوا وإن قوتلتم قاتلنا معكم وإن أخرجتم خرجنا معكم غير أنهم لم يفوا لهم ولم يأتهم منهم أحد وقذف الله الرعب في قلوبهم فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة "السلاح" هذا معنى قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ2 نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ في الكفر} من أهل الكتاب "يهود بني النضير" لئن أخرجتم من المدينة لنخرجن معكم, ولا نطيع فيكم أي في نصرتكم والوقوف إلى جنبكم أحداً كائناً من كان وأن قوتلتم أي قاتلكم محمد صلى الله عليه وسلم ورجاله لننصرنكم. والله يشهد إنهم لكاذبون فيما قالوا لهم وفعلا لم يقاتلوا معهم ولم يخرجوا معهم كما خرجوا من ديارهم. وهو قوله تعالى {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا3 يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ} وعلى فرض أنهم نصروهم ليولن الأدبار هاربين من المعركة, ثم لا ينصرون اليهود كالمنافقين سواء. وقوله تعالى {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} يخبر تعالى رسوله والمؤمنين بأنهم أشد رهبة أي خوفاً في صدور المنافقين من الله
__________
1 بعد ذكر ما حل ببني النضير من خزي وعذاب حيث أجلوا عن ديارهم تاركينها وراءهم وذكر ما أفاء الله على رسوله من أموالهم شرع تعالى في تعجيب رسوله والمؤمنين من حال المنافقين وما لحقهم من عار وشنار فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم {ألم تر إلى الذين...} الخ.
2 الاستفهام للتعجب والأخوة هنا هي أخوة التلاقي في الكفر وفي بغض الإسلام ورسوله وأهله. فما هي بأخوة نسب ولا دين.
3 جملة (لئن أخرجوا..) الخ بيان لجملة: (والله يشهد إنهم لكاذبون).

تعالى لأنهم يرون أن الله تعالى يؤجل عذابهم، وأما المؤمنون فإنهم يأخذون بسرعة للقاعدة " من بدل دينه فاقتلوه" فإذا أعلنوا عن كفرهم وجب قتلهم وقتالهم.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} 1هذا بيان لجبنهم وخوفهم الشديد من الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. إذ لو كانوا يفقهون لما خافوا العبد ولم يخافوا المعبود.
وقوله تعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً2} أي اليهود والمنافقين {إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ} بأسوار وحصون أو من وراء جدر أي في المباني ووراء الجدران. وقوله تعالى بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا في الظاهر وأنهم مجتمعون ولكن {قُلُوبُهُمْ شَتَّى} أي3 متفرقة لا تجتمع على غير عداوة الإسلام وأهله، وذلك لكثرة أطماعهم وأغراضهم وأنانيتهم وأمراضهم النفسية والقلبية.
وقوله تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ4} إذ لو كانوا يعقلون لما الحق وكفروا به وهم يعلمون فعرضوا أنفسهم لغضب الله ولعنته وعذابه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير حقيقة وهي أن الكفر ملة واحدة وأن الكافرين إخوان.
2- خلف الوعد آية النفاق وعلاماته البارزة.
3- الجبن والخوف صفة من صفات اليهود اللازمة لهم ولا تنفك عنهم.
4- عامة الكفار يبدون متحدين ضد الإسلام وهم كذلك ولكنهم يما بينهم تمزقهم العداوات وتقطعهم الأطماع وسوء الأغراض والنيات.
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)
__________
1 الفقه: إدراك المعاني الدقيقة والأسرار الخفية في كلام أهل الحكمة وذوي البصيرة.
2 الملة بدل اشتمال من جملة (لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله) أي: لا يقاتلكم اليهود مع المنافقين مجتمعين في جيش واحد وفي الآية تهديد ليهود بني قريظة أما بنو النضير فقد انتهى أمرهم.
3 (شتى) جمع تشتيت: بمعنى مفارق كقتيل وقتلى.
4 (ذلك) الإشارة إلى ما ذكر من عدم اتفاقهم وتفرق قلوبهم، والباء سببية ونفي العقل عنهم للازمه وهو ما يقود إليه من النجاة والسعادة.

فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (19) لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
شرح الكلمات:
كمثل الذين من قبلهم قريباً :أي مثل يهود بني النضير في ترك الإيمان ومحاربة الرسول صلى الله عليه وسلم كمثل إخوانهم بني قينقاع والمشركين في بدر.
ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب :أي ذاقوا عاقبة كفرهم وحربهم لرسول الله ولهم عذاب أليم في الآخرة.
أليم
كمثل الشيطان إذ قال للإنسان :أي ومثلهم أيضا في سماعهم من المنافقين وخذلانهم لهم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان.
اكفر فلما كفر قال إني بريء منك : أي قال له الشيطان بعد أن كفره أنا بريء
وذلك جزاء الظالمين: أي خلودهما في النار أي الغاوي والمغوى ذلك جزاءهما وجزاء الظالمين.
ولتنظر نفس ما قدمت لغد: أي لينظر كل أحد ما قدم ليوم القيامة من خير وشر.
ولا تكونوا كالذين نسوا الله: أي ولا تكونوا أيها المؤمنون كالذين نسوا الله فتركوا طاعته.
فأنساهم أنفسهم: أي فعاقبهم بأن أنساهم أنفسهم فلم يعملوا خيراً قط.
لا يستوي أصحاب النار :أي لأن أصحاب الجنة فائزون بالسلامة من المرهوب والظفر بالمرغوب
وأصحاب الجنة المحبوب. وأصحاب النار خاسرون في جهنم خالدون، فكيف يستويان؟.
أصحاب الجنة هم الفائزون

معنى الآيات:
قوله تعالى {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}1 هذه الآية (15) واللتان بعدها (16)و (17) في بقية الحديث عن بني النضير إذ قال تعالى مثل بنو النضير في هزيمتهم بعد نقضهم العهد كمثل الذين من قبلهم في الزمان والمكان وهم بنو قينقاع إذ نقضوا عهدهم فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وذاقوا وبال أمرهم أي عاقبة نقضهم وكفرهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب أليم أي موجع شديد وقوله تعالى {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ2} بوسائله الخاصة فلما كفر الإنسان تبرأ منه الشيطان وقال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين كذلك حال بني النضير مع المنافقين حيث حرضوهم على الحرب والقتال وواعدوهم أن يكونوا معهم ثم خذلوهم وتركوهم حدهم.
وقوله تعالى: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا} أي عاقبة أمرهما أنهما أي الإنسان والشيطان أنهما في النار خالدين فيها، وذلك أي خلودهما في النار جزاء الظالمين أي المشركين والفاسقين عن طاعة الله عز وجل.
وبعد نهاية قصة بني النضير نادى تعالى المؤمنين ليوجههم وينصح لهم فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي صدقوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولا اتقوا الله بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، ولتنظر نفس ما قدمت3 لغد أي ولينظر أحدكم في خاصة نفسه ماذا قدم لغدٍ أي يوم القيامة. واتقوا الله، أعاد الأمر بالتقوى لأن التقوى هي ملاك الأمر ومفتاح دار السلام والسعادة، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} يشجعهم على مراقبة الله تعالى والصبر عليها. وقوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} أي لا تكونوا كأناسٍ تركوا العمل بطاعة الله وطاعة رسوله فعاقبهم ربهم بأن أنساهم أنفسهم فلم يعملوا لها خيراً وأصبحوا بذلك فاسقين عن أمر الله تعالى خارجين عن طاعته. وقوله تعالى {لا 4يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ
__________
1 هذا ضرب مثل للمنافقين واليهود في تخاذلهم وعدم الوفاء في نصرتهم، وحذف العطف لأن الكلام معطوف على سابقه وهو (كمثل الذين من قبلهم) الخ
لن حذف حرف العطف شائع تقول: أنت عاقل أنت كريم أنت كذا بلا حرف عطف.
2 هنا روى غير واحد من السلف حديثاً يتضمن قصة تشرح هذه الآية الكريمة كمثل الشيطان إذ قال للإنسان ..الخ وهي أن راهباً تركت عنده امرأة أصابها لمم ليدعوا لها فزين له الشيطان فوطئها فحملت ثم قتلها خوفاً أن يفتضح فدل الشيطان قومها على موضعها فجاءوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه فجاءه الشيطان فوعده أنه إن سجد له أنجاه منهم فسجد له فتبرأ منه فأسلمه لقاتله وتركه، واسم هذا الراهب، برصيصا.
3 أطلق لفظ الغد وأريد به يوم القيامة جرياً على عادة العرب فإنهم يطلقون لفظ الغد كناية عن المستقبل، وقيل إطلاق لفظ الغد هنا إشارة إلى قرب الساعة كما قال الشاعر:
فإن يك صدر هذا اليوم ولى
فإن غداً لناظره قريب
4 هذه الجملة: (لا يستوي...)الخ تذييل لما سبقها وهي كالفذلكة لما تقدم من الأمر بتقوى الله عز وجل وبيان حال المتقين الذاكرين والناسين الفاسقين.

وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ}، أصحاب النار في الدركات السفلى، وأصحاب الجنة في الفراديس العلا فكيف يستويان، إذ أصحاب الجنة فائزون، وأصحاب النار خاسرون.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- ضرب مثل لحال الكافرين في عدم الاتعاظ بحال غيرهم.
2- التحذير من سبل الشيطان وهي الإغراء بالمعاصي وتزيينها فإذا وقع العبد في الهلكة تبرأ الشيطان منه وتركه في محنته وعذابه.
3- وجوب التقوى بفعل الأوامر وترك النواهي.
4- وجوب مراقبة الله تعالى والنظر يومياً فيما قدم الإنسان للآخرة وما أخر.
5- التحذير من نسيان الله تعالى المقتضى لعصيانه فإن عقوبته خطيرة وهي أن ينسي الله العبد نفسه فلا يقدم لها خيراً قط فيهلك ويخسر خسراناً مبيناً.
6- عدم التساوي بين أهل النار وأهل الجنة، إذ أصحاب النار لم ينجوا من المرهوب وهو النار، ولم يظفروا بمرغوب وهو الجنة، وأصحاب الجنة على العكس سلموا من المرهوب، وظفروا بالمرغوب نجوا من النار ودخلوا الجنان.
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)

شرح الكلمات:
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل :أي وجعلنا فيه تميزاً وعقلاً وإدراكاً.
لرأيته خاشعاً متصدعاً :أي لرأيت ذلك الجبل متشققاً متطامناً ذليلاً.
من خشية الله: أي من خوف الله خشية أن يكون ما أدى حقه من التعظيم.
وتلك الأمثال نضربها للناس1 : أي مثل هذا المثل نضرب الأمثال للناس.
لعلهم يتفكرون :أي يتذكرون فيؤمنون ويوحدون ويطيعون.
هو الله الذي لا إله إلا هو :أي الله المعبود بحق الذي لا معبود بحق إلا هو عز وجل.
عالم الغيب والشهادة :أي عالم السر والعلانية.
هو الرحمن الرحيم :أي رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.
هو الله الذي لا إله إلا هو :أي لا معبود بحق إلا هو لأنه الخالق الرازق المدبر وليس لغيره ذلك.
ا لملك القدوس :أي الذي يملك كل شيء ويحكم كل شيء القدوس الطاهر المنزه عما لا يليق به.
السلام المؤمن المهيمن :أي ذو السلامة من كل نقص الذي لا يطرأ عليه النقص المصدق رسله بالمعجزات. المهيمن : الرقيب الشهيد على عباده بأعمالهم.
العزيز الجبار المتكبر :العزيز في انتقامه الجبار لغيره على مراده، المتكبر على خلقه.
سبحان الله عما يشركون :أي تنزيها لله تعالى عما يشركون من الآلهة الباطلة.
هو الله الخالق البارئ :أي هو الإله الحق لا غيره الخالق لكل المخلوقات المنشئ لها من العدم.
المصور : أي مصور المخلوقات ومركبها على هيئات مختلفة.
له الأسماء الحسنى :أي تسعة وتسعون اسماً كلها حسنى في غاية الحسن.
يسبح له ما في السموات والأرض :أي ينزهه ويسبحه بلسان القال والحال جميع ما في السموات والأرض.
وهو العزيز الحكيم :أي العزيز الغالب على أمره الحكيم في جميع تدبيره.
__________
1 هذه الجملة في الآيات تذييل لأن ما قبلها سيق مساق المثل فذيل بأن الأمثال التي يضربها الله تعالى في كلامه المراد منها أن يتفكر فيها الناس ليهتدوا إلى ما ينجيهم ويسعدهم.

معنى الآيات:
قوله تعالى {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ..1} لما أمر تعالى في الآيات السابقة ونهى ووعظ وذكر بما لا مزيد عليه أخبر أنه لو أنزل هذا القرآن العظيم على جبل بعد أن خلق فيه إدراكاً وتمييزاً كما خلق ذلك في الإنسان لرؤى ذلك الجبل خاشعاً ذليلاً متصدعاً متشققاً من خشية الله أي من الخوف من الله لعله قصر في حق الله وحق كتابه ما أداهما على الوجه المطلوب, وفي هذا موعظة للمؤمنين ليتدبروا القرآن ويخشعوا عند تلاوته وسماعه. ثم أخبر تعالى أن ما ضرب من أمثال في القرآن ومنها هذا المثل المضروب بالجبل. يقول نجعلها للناس رجاء أن يتفكروا فيؤمنوا ويهتدوا إلى طريق كمالهم وسعادتهم ثم أخبر تعالى عن جلاله وكماله بذكر أسمائه وصفاته فقال {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي لا معبود بحق إلا هو, عالم الغيب والشهادة أي السر والعلن والموجود والمعدوم والظاهر والباطن. هو الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء الرحيم بعباده المؤمنين,الملك الذي له ملك السموات والأرض والمدبر للأمر في الأرض والسماء, القدوس2 الطاهر المنزه عن كل نقص وعيب عن الشريك والصاحبة والولد. السلام ذو السلامة3 من كل نقص مفيض السلام على من شاء من عباده. المؤمن المصدق رسله بما آتاهم من المعجزات المصدق عباده المؤمنين فيما يشكون إليه مما أصابهم, ويطلبونه ما هم في حاجة إليه من رغائبهم وحاجاتهم, المهيمن على خلقه الرقيب عليهم المتحكم فيهم لا يخرج شيء من أعمالهم وتصرفاتهم عن إرادته وإذنه, العزيز الغالب على أمره الذي لا يمانع فيما يريده. الجبار للكل4
على مراده وما يريده, المتكبر على كل خلقه وله الكبرياء في السموات والأرض والجلال والكمال والعظمة.
وقوله تعالى {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} نزه تعالى نفسه عما يشرك به المشركون من عبدة الأصنام والأوثان وغيرها
من كل ما عبد من دونه سبحانه وتعالى هو الله الخالق البارئ المصور:
__________
1 (لو) هذه حرف امتناع لامتناع أي: امتنع إنزال القرآن على جبل فامتنعت رؤيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله, ولو حصل الأول لحصل الثاني.
2 لفظ القدوس: مشتق من القدس بلغة الحجاز وهو: السطل لأنه يتطهر به, ومنه القادوس لواحد الأواني التي يستخرج بها الماء للتطهر وغيره قال ثعلب اللغوي: كل اسم على وزن فعول هو مفتوح الأول نحو سعود, وكلوب, وتنور إلا السبوح والقدوس فإن الضم فيها أكثر من الفتح.
3 لاسم السلام ثلاث معاني صادقة: منها ذو السلامة كما في التفسير ومنها ذو السلام: أي المسلم على عباده في الجنة: ومنها الذي سلم من كل عيب وبرئ من كل نقص.
4 الجبار: قال ابن العباس: هو العظيم وجبروت الله: عظمته وه على هذا القول صفة ذات من قولهم: نخلة جبارة. قال الشاعر:
سوامق جبار أثيث فروعه
وعالين قنواناً من البسر أحمرا
السوامق: مرتفعات, وأثيث: الملتف: والقنوان: العذق.

المقدر للخلق الباريء له المصور له في الصورة التي أراد أن يوجده عليها. له الأسماء الحسنى وهي مائة اسم إلا اسماً واحداً كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وأسماؤه متضمنة صفاته وكل أسمائه حسنى وكل صفاته عليا منزه عن صفات المحدثين يسبح له ما في السموات والأرض من مخلوقات وكائنات أي ينزهه ويقدسه عما لا يليق به ويدعوه ويرغب إليه في بقائه وكمال حياته. وهو العزيز الحكيم الغالب على أمره الحكيم في تدبير ملكه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان ما حواه القرآن من العظات والعبر, والأمر والنهي والوعد والوعيد الأمر الذي لو أن جبلاً ركب فيه الإدراك والتمييز كالإنسان ونزل عليه القرآن لخشع وتصدع من خشية الله.
2- استحسان ضرب الأمثال للتنبيه والتعليم والإرشاد.
3- تقرير التوحيد, وأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
4- إثبات أسماء الله تعالى, وأنها كلها حسنى, وأنها متضمنة صفات عليا.
5- ذكر أسمائه تعالى تعليم لعباده بها ليدعوه بها ويتوسلوا بها إليه.

سورة الممتحنة
...
سورة الممتحنة1
مدنية وآياتها ثلاث عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ
__________
1 قال القرطبي: المشهور في اسم هذه السورة أنه الممتحنة بكسر الحاء اسم فاعل, وه الذي جزم به السهلي, والمراد من الممتحنة الآية التي في هذه السورة إذ بها تمتحن المرأة التي تجيء مهاجرة من بلادها وتترك زوجها. والآية هي قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} الخ ورجح الحافظ ابن حجر فتح الحاء باسم المفعول أي: المرأة الممتحنة.

يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
شرح الكلمات :
لا تتخذوا عدوي وعدوكم :أي الكفار والمشركين.
أولياء تلقون إليهم بالمودة :أي لا تتخذوهم أنصاراً توادونهم.
وقد كفروا بما جاءكم من الحق :أي الإسلام عقيدة وشريعة.
يخرجون الرسول وإياكم :أي بالتضييق عليكم حتى خرجتم فارين بدينكم.
أن تؤمنوا بربكم :أي لأجل أن آمنتم بربكم.
إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي :فلا تتخذوهم أولياء ولا تبادلوهم المودة.
وابتغاء مرضاتي
تسرون إليهم بالمودة :أي توصلون إليهم خبر خروج الرسول لغزوهم بطريقة سرية.
ومن يفعله منكم :أي ومن يوادهم فينقل إليهم أسرار النبي في حروبه وغيرها.
فقد ضل سواء السبيل :أي أخطأ طريق الحق الجادة الموصلة إلى الإسعاد.
إن يثقفوكم :أي أن يظفروا بكم متمكنين منكم في مكان ما.
يكونوا لكم أعداء :أي لا يعترفون لكم بمودة.
ويبسطوا إليكم أيديهم :أي بالضرب والقتل.
وألسنتهم بالسوء :أي بالسب والشتم.
وودوا لو تكفرون :أي وأحبوا لو تكفرون بدينكم ونبيكم وتعودون إلى الشرك معهم.
لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم : أي إن توادوهم وتسروا إليهم بالأخبار الحربية تقربا إليهم من أجل أن يراعوا لكم أقرباءكم وأولادكم المشركين بينهم فاعلموا أنكم لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة.
يوم القيامة يفصل بينكم :أي فتكونون في الجنة ويكون المشركون من أولاد وأقرباء وغيرهم في النار.

معنى الآيات:
فاتحة هذه السورة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي1 وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ...} الآيات. نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة وكان من المهاجرين الذين شهدوا بدراً روى مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال ائتوا روضة خاخ (موضع بينه وبين المدينة اثنا عشر ميلا) فإن بها ظعينة (امرأة مسافرة)2 معها كتاب فخذوه منها فانطلقنا نهادى خيلنا أي نسرعها فإذا نحن بامرأة فقلنا أخرجي الكتاب، فقالت ما معي كتاب. فقلنا لتخرجن الكتاب، أو لتلقن الثياب3 (أي من عليك) فأخرجته من عقاصها أي من ظفائر شعر رأسها فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا به من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب ما هذا؟ فقال لا تعجل علي يا رسول الله إني كنت امرءاً ملصقاً في قريش (أي كان حليفاً لقريش ولم يكن قرشياً) وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي، ولم أفعله كفراً ولا ارتداداً عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم من الله شيئاً، وأن الله ناصرك عليهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم صدق. فقال عمر رضي الله عنه دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه شهد بدراً، وما يدريك لعل الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فأنزل الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي يا من صدقتم الله ورسوله { لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ} من الكفار و المشركين {أَوْلِيَاءَ} أي أنصاراً {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ4 بِالْمَوَدَّةِ} أي أسرار النبي صلى الله عليه وسلم الحربية ذات الخطر والشأن. والحال أنهم قد كفروا بما جاءكم من الحق الذي هو دين الإسلام بعقائده وشرائعه وكتابه ورسوله. يخرجون الرسول وإياكم من5 دياركم بالمضايقة لكم حتى هاجرتم فارين بدينكم، أن تؤمنوا6 بربكم أي من أجل أن آمنتم بربكم.، أمثل هؤلاء الكفرة الظلمة تتخذونهم أولياء تدلون إليهم بالمودة... إنه لخطأ جسيم
__________
1 العدو: ذو العداوة وهو فعول بمعنى فاعل من عدا يعدو وأصله مصدر على وزن فعول مثل قبول، ولما كان على وزن المصادر عومل معاملة المصدر فاستوى في الوصف به المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث.
2 تسمى سارة مولاة لأبي عمرو بن صغير بن هاشم بن عبد مناف وهي يومئذ مشركة.
3 في رواية، أو لتلقين الثياب أي: لنجردك من ثيابك..
4 جائز أن تكون جملة: (تلقون) في محل نصب على الحال من ضمير (لا تتخذوا) والإلقاء حقيقته: رمي ما في اليد على الأرض، واستعير لإلقاء الشيء بدون تدبر في موقعه أي: تصرفون إليهم مودتكم بدون تأمل في آثارها الضارة.
5 الجملة: حال من الضمير في كفروا وحكيت بالمضارع لاستحضار الصورة البشعة في الذهن.
6 أي: لأن تؤمنوا بالله ربكم علة وسبب إخراجهم إياكم من دياركم أي: هو اعتداء حملهم عليه أنكم آمنتم بالله ربكم.

ممن فعل هذا.
وقوله تعالى: {إِنْ1 كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} أي إن كنتم خرجتم من دياركم مجاهدين في سبيلي أي لنصرة ديني ورسولي وأوليائي المؤمنين وطلبا لرضاي فلا تتخذوا الكافرين أولياء من دوني تلقون إليهم بالمودة.
وقوله تعالى تسرون2 إليهم بالمودة أي تخفون المودة إليهم بنقل أخبار الرسول السرية والحال أني {أَعْلَمُ} منكم ومن غيركم {بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ}. وها قد أطلعت رسولي على رسالتكم المرفوعة إلى مشركي مكة والتي تتضمن فضح سر رسولي في عزمه على غزوهم مفاجأة لهم حتى يتمكن من فتح مكة بدون كثير إراقة دم وإزهاق أنفس.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ} أي الولاء والمودة للمشركين فقد ضل سواء السبيل أي أخطأ وسط الطريق المأمون من الانحراف يريد جانب الإسلام الصحيح.
وقوله تعالى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} أي أنهم أعداؤكم حقاً إن يثقفوكم أي يظفروا بكم متمكنين منكم يكونوا لكم أعداء ولا يبالون بمودتكم إياهم، ويبسطوا إليكم أيديهم بالضرب والقتل وألسنتهم بالسب والشتم وتمنوا كفركم لتعودوا إلى الشرك مثلهم.
وقوله تعالى: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ3} الذين واددتم الكفار من أجلهم من عذاب الله في الآخرة إذ حاطب كتب الكتاب من أجل قرابته وأولاده فبين تعالى خطأ حاطب في ذلك.
وقوله تعالى: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} بأن تكونوا في الجنة أيها المؤمنون ويكون أقرباؤكم وأولادكم المشركون في النار. فما الفائدة إذاً من المعصية من أجلهم؟! والله بما تعملون بصير فراقبوه واحذروه فلا تخرجوا عن طاعته وطاعة رسوله.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمة موالاة الكافرين بالنصرة والتأييد والمودة دون المسلمين.
__________
1 هذه الجملة شرطية ذيل بها النهي: (لا تتخذوا عدوي) والغرض هو تأكيد الكلام السابق.
2 الجملة بيانية لسابقتها، والجملة: (وأنا أعلم) حالية فيها معنى التعجب بضميمة التي قبلها.
3 (لن تنفعكم ..) الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً إذ الذي يسمع جملة: (ودوا لو تكفرون) بتطلع إلى ما يترتب على الكفر فيجاب بجملة: لن تنفعهم أرحامهم ولا أولادهم ولو في قوله: (ودوا لو تكفرون) مصدرية أي: ودوا كفركم.

2- الذي ينقل أسرار المسلمين الحربية إلى الكافرين على خطر عظيم وإن صام وصلى.
3- بيان أن الكافرين لا يرحمون المؤمنين متى تمكنوا منهم لأن قلوبهم عمياء لا يعرفون معروفاً ولا منكراً بظلمة الكفر في نفوسهم وعدم مراقبة الله عز وجل لأنهم لا يعرفونه ولا يؤمنون بما عنده من نعيم وجحيم يوم القيامة.
4- فضل أهل بدر وكرامتهم على الله عز وجل.
5- قبول عذر الصادقين الصالحين ذوي السبق في الإسلام إذا عثر أحدهم اجتهاداً منه.
6- عدم انتفاع المرء بقرابته يوم القيامة إذا كان مسلماً وهم كافرون.
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
شرح الكلمات:
قد كان لكم : أي أيها المؤمنون.
أسوة حسنة :أي قدوة صالحة.
في إبراهيم والذين معه :من المؤمنين فأتسوا بهم.
إذ قالوا لقومهم :أي المشركين.
إنا براء منكم ومما تعبدون من :أي نحن متبرئون منكم، ومن أوثانكم التي تعبدونها.
دون الله

كفرنا بكم :أي جحدنا بكم فلم نعترف لكم بقرابة ولا ولاء.
وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء :أي ظهر ذلك واضحاً جلياً لا لبس فيه ولا خفاء.
حتى تؤمنوا بالله وحده :أي ستستمر عداوتنا لكم وبغضنا إلى غاية إيمانكم بالله وحده.
وإليك أنبنا :أي رجعنا في أمورنا كلها.
ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا :أي بأن تظهرهم علينا فيفتنوننا في ديننا ويفتتنون بنا يرون أنهم على حق لما يغلبوننا.
لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة :أي لقد كان لكم أيها المؤمنون في إبراهيم والذين معه أسوة حسنة.
لمن كان يرجو الله واليوم الآخر :أي هي أسوة حسنة لمن كان يؤمن بالله ويرجو ما عنده يوم القيامة.
ومن يتول :أي لم يقبل ما أرشدناه إليه من الإيمان والصبر فيعود إلى الكفر.
فإن الله غني حميد : أي فإن الله ليس في حاجة إلى إيمانه وصبره فإنه غنيٌ بذاته لا يفتقر إلى غيره، حميد أي محمود بآلائه وإنعامه على عباده.
معنى الآيات:
لما حرم تعالى على المؤمنين موالاة الكافرين مع وجود حاجة قد تدعو إلى موالاتهم كما جاء ذلك في اعتذار حاطب بن أبي بلتعة أراد تعالى أن يشجعهم على معاداة الكافرين وعدم موالاتهم بحال من الأحوال لما في ذلك من الضرر والخطر على العقيدة والصلة بالله وهي أعز ما يملك المؤمنون أعلمهم بأنه يوجد لهم1 أسوة أي قدوة حسنة في إبرايم خليله والمؤمنين معه2 فإنهم على قلتهم وكثرة عدوهم وعلى ضعفهم وقوة خصومهم تبرأوا من أعداء الله وتنكروا لأية صلة تربطهم بهم فقالوا ما قص الله تعالى عنهم في قوله {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (من أصنام وأوثان) كفرنا بكم فلم نعترف لكم بوجود يقتضي مودتنا ونصرتنا لكم، وبدا أي ظهر بيننا وبينكم العداوة3 والبغضاء بصورة مكشوفة لا ستار عليها لأننا موحدون وأنتم مشركون،
__________
1 قرأ نافع (إسوة) بكسر الهمزة، وقرأها حفص بالرفع وهي القدوة الصالحة.
2 هم: سارة زوجه ولوط ابن أخيه فهم المعنيون بقوله تعالى: (والذين معه).
3 العداوة: هي المعاملة بالسوء والاعتداء والبغضاء نفرة النفس والكراهية للمبغض.

لأننا مؤمنون وأنتم كافرون، وسوف تستمر هذه المعاداة وهذه البغضاء بيننا وبينكم حتى تؤمنوا بالله وحده رباً وإلهاً لا رب غيره و إله سواه إذاً فأتسوا أيها المسلمون بإمام الموحدين إبراهيم اللهم إلا ما كان من استغفار إبراهيم لأبيه فلا تأتسوا به ولا تستغفروا لموتاكم المشركين فإن إبراهيم قد ترك ذلك لما علم أن أباه لا يؤمن وأنه يموت كافراً وأنه في النار فقال تعالى إلا قول إبراهيم1 لأبيه (آزر) لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء أي غير الاستغفار. وكان هذا عن وعد قطعه له ساعة المفارقة له إذ قال في سورة مريم: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} وجاء في سورة التوبة قوله تعالى {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}.
وقوله تعالى {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} أي رجعنا من الكفر إلى الإيمان بك وتوحيدك في عبادتك، وإليك المصير. أي مصير كل شيء يعود إليك وينتهي عندك فتقضي وتحكم بما تشاء.ربنا لا تجعلنا فتنة2 للذين كفروا أي لا تظهرهم علينا فيفتنونا في ديننا ويردونا إلى الكفر, ويفتنون بنا فيرون أنهم لما غلبونا أنهم على حق ونحن على باطل فيزدادون كفراً ولا يؤمنون. واغفر لنا ربنا أي ذنوبنا السالفة واللاحقة فلا تؤاخذنا بها إنك أنت العزيز الغالب المنتقم ممن عصاك الحكيم في تدبيرك لأوليائك فدبر لنا ما ينفعنا ويرضيك عنا. هذا الابتهال والضراعة من قوله تعالى ربنا عليك توكلنا إلى الحكيم من الجائز أن يكون هذا مما قاله إبراهيم والمؤمنون معه وأن يكون إرشاداً من الله للمؤمنين أن يقولوه تقوية لإيمانهم وتثبيتاً لهم عليه كما فعل ذلك إبراهيم ومن معه. وقوله تعالى لقد كان لكم فيهم3 أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر تأكيد لما سبق وتقرير له وتحريك للهمم لتأخذ به. وقوله لمن4 كان يرجو بالله واليوم الآخر إذ هم الذين ينتفعون بالعبر ويأخذون بالنصائح لحياة قلوبهم بالإيمان.
وقوله تعالى: ومن يتول أي عن الأخذ بهذه الأسوة فيوالي الكافرين فإن الله غني عن إيمانه وولايته له التي استبدلها بولاية أعدائه حميد أي محمود بآلائه وإنعامه على خلقه.
__________
1 الاستثناء منقطع إذ هذا القول ليس من جنس قولهم: (إنا براء منكم) إذ قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك هو رفق بأبيه وهو مغاير للتبرؤ.
2 هم: سارة زوجة ولوط ابن أخيه فهم المعنيون بقوله تعالى: (والذين معه).
3 (فيهم): أي في إبراهيم والمؤمنين معه، والأسوة لحسنة: القدوة الصالحة أي: اقتدوا بهم في البراءة من الشرك والمشركيهن.
4 هذه الجملة بدل من جملة: (لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة ...).

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب الاقتداء بالصالحين في الإيتساء بهم في الصالحات.
2- حرمة موالاة الكافرين ووجوب معاداتهم ولو كانوا أقرب قريب.
3- كل عداوة وبغضاء تنتهي برجوع العبد إلى الإيمان والتوحيد بعد الكفر والشرك.
4- لا يجوز الاقتداء في غير الحق والمعروف فإذا أخطأ العبد الصالح فلا يتابع على الخطأ.
5- وجوب تقوية المؤمنين بكل أسباب القوة لأمرين الأول خشية أ، يغلبهم الكافرون فيفتنوهم في دينهم ويردوهم إلى الكفر والثاني حتى لا يظن الكافرون الغالبون أنهم على حق بسبب ظهورهم على المسلمين فيزدادوا كفراً فيكون المسلمون سبباً في ذلك فيأثمون للسببية في ذلك.
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
شرح الكلمات:
عاديتم منهم : أي من كفار قريش بمكة طاعة لله واستجابة لأمره.
مودة :أي محبة وولاء وذلك بأن يوفقهم للإيمان والإسلام فيؤمنوا ويسلموا ويصبحوا أولياءكم.
والله قدير : أي على ذلك وقد فعل فأسلم بعد الفتح أهل مكة إلا قليلاً منهم.
لم يقاتلوكم في الدين :أي من أجل الدين.
أن تبروهم :أي تحسنوا إليهم.

وتقسطوا إليهم : أي تعدلوا فيهم فتنصفوهم.
إن الله يحب المقسطين :أي المنصفين العادلين في أحكامهم ومن ولوا.
وظاهروا على إخراجكم :أي عاونوا وناصروا العدو على إخراجكم من دياركم.
أن تولوهم :أي تتولوهم بالنصرة والمحبة.
فأولئك هم الظالمون : لأنهم وضعوا الولاية في غير موضعها، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بيان حكم الموالاة للكافرين فإنه لما حرم تعالى ذلك، وكان للمؤمنين قرابات كافرة وبحكم إيمانهم واستجابتهم لنداء ربهم قطعوهم فبشرهم تعالى في هذه الآية الكريمة بأنه عز وجل قادر على أن يجعل بينهم وبين أقربائهم مودة فقال عز من قائل {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ} أي من المشركين {مَوَدَّةً}1 . وذلك بأن يوفقهم للإسلام، وهو على ذلك قدير وقد فعل وله الحمد والمنة فقد فتح على رسوله مكة وبذلك آمن أهلها إلا قليلاً فكانت المودة وكان الولاء والإيخاء مصداقاً لقوله عز وجل عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم فقد تاب عليهم بعد أن هداهم وغفر لهم ما كان منهم من ذنوب ورحمهم.
وقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ2 الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} بمضايقتكم أن تبروهم أي بالإحسان إليهم بطعام3 كسوة أو ركاب وتقسطوا أي تعدلوا فيهم بأن تنصفوهم وهذا عام في كل الظروف الزمانية والمكانية وفي كل الكفار. ولكن بالشروط التي ذكر تعالى. وهي:
أولا: أنهم لم يقاتلونا من أجل ديننا.
__________
1 هذا بعد أن يسلم الكافرون ويوحد المشركون وفعلاً فقد أسلم قوم منهم بعد فتح مكة ووالاهم المسلمون كأبي سفيان بن حرب والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام ومن مظاهر هذه المودة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان وبذلك لانت عريكة أبي سفيان واسترخت شكيمته في العداوة حتى إنه لما بلغه تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بها قال: ذلك الفحل لا يقدح أنفه أي: لا يضرب أنفه، وهي كلمة مدح.
2 اختلف في هل هذه الآية محكمة أو منسوخة بقتال المشركين؟ والذي عليه أكثر أهل العلم سلفاً وخلفاً أنها محكمة بما ذكر فيها من شروط وأن العمل بها باق ببقاء الإسلام كما هو في التفسير.
3 روى البخاري ومسلم وأبو داود أن قتيلة أم أسماء بنت أبي بكر الصديق قدمت عليها أمها في فترة الهدنة بين الرسول صلى الله عليه وسلم والمشركين وأهدتها قرطاً وأشياء فكرهت أن تقبل ذلك فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فأذن لها في قبول هدية أمها واستأذنته في صلتها؟ فقال لها صلي أمك.

وثانيا: لم يخرجونا من ديارنا بمضايقتنا وإلجائنا إلى الهجرة.
وثالثا : أن لا يعاونوا عدواً بأي معونة ولو بالمشورة والرأي فضلاً عن الكراع والسلاح.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} ترغيب لهم في العدل والإنصاف حتى مع الكفار وقوله تعالى {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} عن موالاة الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا أي أعانوا {عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} أي ينهاكم عن موالاتهم. {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ منكم} معرضاً عن هذا الإرشاد الإلهي والأمر الرباني {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي لأنفسهم المعترضون لعذاب الله ونقمته لوضعهم الموالاة في غير موضعها بعدما عرفوا ذلك وفهموه.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان حكم الموالاة الممنوعة والمباحة في الإسلام.
2- الترغيب في العدل والإنصاف بعد وجوبهما للمساعدة على القيام بهما.
3- تقرير ما قال أهل العلم: أن عسى من الله تفيد وقوع ما يرجى بها ووجوده لا محالة. بخلافها من غير الله فهي للترجي والتوقع وقد يقع ما يترجى بها وقد لا يقع.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)

شرح الكلمات:
إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات :أي المؤمنات بألسنتهم مهاجرات من الكفار.
فامتحنوهن :أي اختبروهن بالحلف أنهن ما خرجن إلا رغبة في الإسلام لا بغضاً لأزواجهن، ولا عشقا لرجال من المسلمين.
فإن علمتموهن مؤمنات :أي صادقات في إيمانهن بحسب حلفهن.
فلا ترجعوهن إلى الكفار :أي لا تردوهن إلى الكفار بمكة.
لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن :لا المؤمنات يحللن لأزواجهن الكافرين، ولا الكافرون يحلون لأزوجهم المؤمنات.
وآتوهم ما أنفقوا :أي وأعطوا الكفار أزواج المؤمنات المهاجرات المهور التي أعطوها لأزواجهم.
ولا جناح عليكم أن تنكحوهن :أي مهورهن، وإن لم يتم طلاق من أزواجهن لانفساخ العقد بالإسلام. وبعد
إذا آتيتموهن أجورهن انقضاء العدة في المدخول بها وباقي شروط النكاح.
ولا تمسكوا بعصم الكوافر :أي زوجاتكم، لقطع إسلامكم للعصمة الزوجية. وكذا من ارتدت ولحقت بدار الكفر. إلا أن ترجع إلى الإسلام قبل انقضاء عدتها فلا يفسخ نكاحها وتبقى العصمة إن كان مدخولا بها.
واسألوا ما أنفقتم :أي اطلبوا ما أنفقتم عليهن من مهور في حال الارتداد.
وليسألوا ما أنفقوا :أي على المهاجرات من مهور في حال إسلامهن.
وإن فاتكم شيء من أزواجكم :أي بأن فرت امرأة أحدكم إلى الكفار ولحقت بهم ولم يعطوكم مهرها فعاقبتم أي إلى الكفار الكفار فغنمتم منهم غنائم.
فآتوا الذين ذهبت أزواجهن مثل :أي فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم إلى الكفار مثل ما أنفقوا عليهن من مهور.
ما أنفقوا
واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون :أي وخافوا الله الذي أنتم به مؤمنون فأدوا فرائضه واجتنبوا نواهيه.

معنى الآيتين:
قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} الآيتين (10) و (11) نزلتا بعد صلح الحديبية إذ تضمنت وثيقة الصلح أن من جاء الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة من الرجال رده إلى مكة ولو كان مسلماً، ومن جاء المشركين من المدينة لم يردوه إليه ولم ينص عن النساء، وأثناء ذلك جاء أم كلثوم بنت عقبة1 بن أبي معيط مهاجرة من مكة إلى المدينة فلحق بها أخواها عمار2 والوليد ليرداهما إلى قريش فنزلت هذه الآية الكريمة فلم يردها عليهما صلى الله عليه وسلم قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا3} أي يا من آمنتم بالله رباً وإلهاً وبمحمد نبيناً ورسولاً والإسلام ديناً إذ جاءكم المؤمنات مهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام فامتحنوهن4- الله أعلم بإيمانهن- فإن علمتموهن أي غلبة على ظنكم أنهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار وصورة الامتحان أن يقال لها احلفي بالله أي قولي بالله الذي لا إله إلا هو ما خرجت إلا رغبة في الإسلام لا بغضاً لزوجي، ولا عشقا لرجل مسلم.
وقوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} لأن الإسلام فصم تلك العصمة التي كانت بين الزوج وزوجته، إذ حرم الله نكاح المشركات، وإنكاح المشركين، ولذا لم يأذن الله تعالى في ردهن إلى أزواجهن الكافرين.
وقوله تعالى {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} إذا جاء زوجها المشرك يطالب بها أعطوه ما أنفق عليها من مهر والذي يعطيه هو جماعة المسلمين وإمامهم.
وقوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} أي تتزوجهن إذا آتيتموهن أجورهن أي مهورهن مع باقي شروط النكاح من ولي وشاهدين وانقضاء العدة في المدخول بها.
وقوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} أي إذا أسلم الرجل وبقيت امرأته مشركة انقطعت عصمة الزوجية وأصبحت لا تحل لزوجها الذي أسلم، وكذا إذا ارتدت امرأة مسلمة
__________
1 وكذلك جاءت سبيعة الأسلمية مهاجرة هاربة من زوجها صيفي، وجاءت أميمة بنت بشر هاربة من زوجها ثابت بن الشمراخ، فجاء أزواجهن مطالبين بهن فقال زوج سبيعة للنبي صلى الله عليه وسلم إن طينة الكتاب الذي بيننا وبينك لم تجف بعد فنزلت هذه الآية.
2 ذكر القرطبي أن أخوي أم كلثوم أتيا النبي صلى الله عليه وسلم مع أختهما مهاجرين وأن النبي صلى الله عليه وسلم ردهما على المشركين ولم يرد أختهما أم كلثوم وكانت تحت عمرو بن العاص وهو مشرك يومئذ، وذكر ابن كثير: أن أخوي أم كلثوم وفدا يطالبان بأختهما لا مهاجرين وهذا الظاهر.
3 لما كانت المعاهدة لم تنص على النساء بلفظ صريح وهو لفظ أحد وهو صالح للرجال والنساء نزلت هذه الآية مخرجة لنساء من عموم لفظ (أحد) فالآية مبينة أو ناسخة والكل صالح.
4 اختلف في صيغة الامتحان فقال ابن عباس: كانت المحنة أن تستحلف بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها ولا رغبة عن أرض إلى أرض ولا التماس دنيا ولا عشقاً لرجل منا بل حباً بالله ورسوله فإن حلفت على ذلك، أعطي النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها.

ولحقت بدار الكفر فإن العصمة قد انقطعت, ولا يحل الإمساك بها وفائدة ذلك لو كان تحت الرجل نسوة له أن يزيد رابعة لأن التي ارتدت أو التي كانت مشركة وأسلم وهي في عصمته لا تمنعه من أن يتزوج رابعة لأن الإسلام قطع العصمة لقوله تعالى ولا تمسكوا بعصم الكوافر والعصم جمع عصمة.
وقوله تعالى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} اطلبوا من المرتدة ما أنفقتم عليها من مهر يؤدى لكم وليسألوا هم ما أنفقوا وأعطوهم أيضا مهور نسائهن اللائي أسلمن وهاجرن إليكم وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بخلقه وحاجاتهم {حَكِيمٌ} في قضائه وتدبيره فليسلم له الحكم وليرض به فإنه قائم على أساس المصلحة للجميع.
وقوله تعالى {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا1 الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} أي وإن ذهب بعض نسائكم إلى الكفار مرتدات, وطالبتم بالمهور فلم يعطوكم, ثم غزوتم وغنمتم فأعطوا من الغنيمة قبل قسمتها الذي ذهبت زوجته إلى دار الكفر ولم يحصل على تعويض أعطوه مثل ما أنفق.
وقوله: {وَاتَّقُوا2 اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} أي خافوا عقابه فأطيعوه في أمره ونهيه ولا تعصوه.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- وجوب امتحان المهاجرة فإن علم إسلامها لا يحل إرجاعها إلى زوجها الكافر لأنها لا تحل له, وإعطاؤه ما أنفق عليها من مهر. ويجوز بعد ذلك نكاحها بمهر وولي وشاهدين إن كانت مدخولا بها فبعد انقضاء عدتها وإلا فلا حرج في الزواج بها فوراً.
2- حرمة نكاح المشركة.
3- لا يجوز الإبقاء على عصمة الزوجة3 المشركة, وللزوج المسلم الذي بقيت زوجته على الكفر, أو ارتدت بعد إسلامها أن يطالب بما أنفق عليها من مهر وللزوج الكافر الذي أسلمت زوجته وهاجرت أن يسأل كذلك ما أنفق عليها.
4- ومن ذهبت زوجته ولم يرد عليه شيء مما أنفق عليها, ثم غزا المسلمون تلك البلاد وغنموا
__________
1 (عاقبتم) أي: غزوتم فغنمتم فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم من المسلمين. حكى الثعلبي: عن ابن عباس أن ستا من النسوة رجعن عن الإسلام ولحقن بالمشركين وسماهن واحدة واحدة وأكرمهن: أم الحكم بنت أبي سفيان وفي هذه نزلت الآية.
2 الجملة تذييلية المراد منها تحريض المؤمنين على الوفاء بما أمروا به ونهوا عنه واتبع اسم الجلالة بجملة (الذي أنتم به مؤمنون) إشارة إلى أن الإيمان يبعث على التقوى التي هي: امتثال واجتناب.
3 اختلف في الرجل يسلم وتحته كافرة أو كافرة تسلم وهي تحت زوج كافر. والذي عليه الشافعي وأحمد أن العصمة تبقى مدة العدة فإذا انقضت العدة ولم يسلم الكافر منهما يفرق بينهما ولا يحلان لبعضهما, وقال مالك: يفرق بينهما من يوم إسلام أحدهما.

فإن ذهبت زوجته ولم يعوض عنا يعطى ما أنفقه من الغنيمة قبل قسمتها. وإن لم تكن غنيمة فجماعة المسلمين وإمامهم يساعدونه ببعض ما أنفق من باب التكافل والتعاون.
5- وجوب تقوى الله تعالى بتطبيق شرعه وإنفاذ أحكامه والرضا بها.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌرَحِيمٌ(12)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
شرح الكلمات:
إذا جاءك المؤمنات يبايعنك :أي يوم الفتح والرسول صلى الله عليه وسلم على الصفا وعمر أسفل منه.
فبايعهن :أي على أن لا يشركن بالله شيئاً إلى ولا يعصينك في معروف.
أن لا يشركن بالله :أي أي شيء من الشرك أو الشركاء.
ولا يقتلن أولادهن :أي كما كان أهل الجاهلية يقتلون البنات وأداً لهن.
ولا يأتين ببهتان يفترينه :أي بكذب يكذبنه فيأتين بولد ملقوط وينسبنه إلى الزوج وهو ليس بولده.
ولا يعصينك في معروف :أي ما عرفه الشرع صالحاً حسناً فأمر به وانتدب إليه. أو ما عرفه الشرع منكراً محرماً.
فبايعهن :أي اقبل بيعتهن.
واستغفر لهن الله :أي أطلب الله تعالى لهن المغفرة لما سلف من ذنوبهن وما قد يأتي.
قوماً غضب الله عليهم :أي اليهود.

قد يئسوا من الآخرة :أي من ثوابها مع إيقانهم بها, وذلك لعنادهم النبي مع علمهم بصدقه.
كما يئس الكفار من أصحاب :أي كيأس من سبقهم من اليهود الذين كفروا بعيسى وماتوا على ذلك فهم أيضاً
القبور قد يئسوا من ثواب الآخرة.
معنى الآيات:
قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} إلى قوله {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هذه آية بيعة النساء، فقد بايع عليها رسول 1الله صلى الله عليه وسلم نساء قريش يوم الفتح وهو جالس على الصفاء وعمر دونه أسفل منه، وهو يبايع، وطلب إليه أن يمد يده فقال إني لا أصافح النساء فبايعهن على أن لا يشركن2 بالله شيئاً أي من الشرك أو الشركاء ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن كما كان نساء الجاهلية يئدن بناتهن ولا يأتين ببهتان أي كذب يفترينه أي يكذبنه بين أيديهن وأرجلهن أي لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهن، ولا يعصينك في 3معروف بصورة عامة وفي النياحة بصورة خاصة إذ كان النساء في الجاهلية ينحن على الأموات ويشققن الثياب ويخدشن الوجوه قال تعالى يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك فبايعهن على ألا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن، ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف، فبايعهن واستغفر لهن الله فيما مضى من ذنوبهن وما قد يأتي إن الله غفور رحيم.
وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي يا من صدقتم الله ورسوله لا تتولوا قوما غضب الله عليهم وهم اليهود لا تتولوهم بالنصرة والمحبة وقد يئسوا من الآخرة أي من ثواب الله فيها بدخول الجنة وذلك لعنادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفرهم به مع علمهم أنه رسول الله ومن كفر به وكذبه أو عانده وحاربه لا يدخل الجنة فلذا هم آيسون من دخول الجنة. وقوله تعالى {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ4
__________
1 في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحن بقول الله تعالى {يا أيها النبي إذا جاءك..}الخ الآية وكان صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك بقولهن قال لهن صلى الله عليه وسلم انطلقن فقد بايعتكن ولا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام).
2 روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (على أن لا يشركن بالله شيئاً قالت هند بنت عتبة وهي متنقبة والله إنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيتك أخذته على الرجال وكان بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط ولما قال: ولا يسرقن قالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصيب من ماله قوتاً فقال أبو سفيان هو لك حلال فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وعرفها لأنها كانت متنكرة لما نالت من حمزة رضي الله عنه وقال: أنت هند؟ فقالت: عفا الله عما سلف. ثم قال: ولا يزنين فقالت هند: أو تزني الحرة؟
3 قال قتادة: لا ينحن ولا تخلوا امرأة منهن إلا بذي محرم وفي صحيح مسلم عن أم عطية:لما نزلت هذه الآية قالت يا رسول الله إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية فلابد أن أسعدهم فقال صلى الله عليه وسلم إلا آل فلان فأذن لها أ، تفي بوعدها.
4 (كما يئس الكفار) صالح لأن يكون معنى الكلام كما يئس الكفار من عودة أصحاب القبور إليهم. وكما يئس أصحاب القبور من العودة إلى الحياة الأولى، وما في التفسير اختيار ابن جرير رحمه الله تعالى.

أَصْحَابِ الْقُبُورِ} أي كما يئس إخوانهم الذين ماتوا قبلهم من دخول الجنة إذ كفروا بعيسى عليه السلام وحاربوه ووالدته واتهموا عيسى بالسحر ووالدته بالعهر، والعياذ بالله فيئس هؤلاء من دخول الجنة كما يئس من مات منهم ممن هم أصحاب قبور.
هداية الآيتين:
من هداية الآيتين:
1- مشروعية أخذ البيعة لإمام المسلمين ووجوب الوفاء بها.
2- حرمة الشرك وما ذكر معه من السرقة والزنا وقتل الأولاد والكذب والبهتان وإلحاق الولد بغير أبيه.
3- حرمة النياحة وما ذكر معها من شق الثياب وخمش الوجوه والتحدث مع الرجال الأجانب.
4- بعد الحرة كل البعد من الزنا إذ قالت هند وهي تبايع أو تزني الحرة؟ قال لا تزني الحرة.
5- حرمة مصافحة النساء لقوله صلى الله عليه وسلم في البيعة "إني لا أصافح النساء".
6- حرمة موالاة اليهود بالنصرة والمحبة.

سورة الصف
...
سورة الصف
مدنية وآياتها أربع عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا

زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
شرح الكلمات:
سبح لله ما في السموات وما :أي نزه وقدس بلسان القال والحال جميع ما في السموات وما في الأرض من
في الأرض كائنات.
وهو العزيز الحكيم :أي العزيز الغالب على أمره الحكيم في تدبيره وصنعه.
لم تقولون ما لا تفعلون :أي لأي شيء تقولون قد فعلنا كذا وكذا وأنتم لم تفعلوا؟ والاستفهام هنا لتوبيخ والتأنيب.
كبر مقتاً عند الله :أي عظم مقتاً والمقت: أشد البغض والمقيت والممقوت المبغوض.
أن تقولوا مالا تفعلون :أي قولكم ما لا تفعلون يبغضه الله أشد البغض.
صفاً كأنهم بنيان مرصوص :أي صافين: ومرصوص ملزق بعضه ببعض لا فرجة فيه.
لم تؤذونني :أي إذ قالوا أنه آدر كذباً فوبخهم على كذبهم وأذيتهم له.
وقد تعلمون أني رسول الله إليكم :أي أتؤذونني والحال أنكم تعلمون أني رسول الله إليكم.
فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم : أي فلما عدلوا عن الحق بإيذائهم موسى أزاغ الله قلوبهم أي أمالها عن الهدى.
والله لا يهدي القوم الفاسقين :أي الذين فسقوا وتوغلوا في الفسق فما أصبحوا أهلاً للهداية.
يا بني إسرائيل :أي أولاد يعقوب الملقب بإسرائيل، ولم يقل يا قوم كما قال موسى لأنه لم يكن منهم لأنه ولد بلا أب، وأمه صديقة.
مصدقاً لما بين يدي :أي قبلي من التوراة.

يأتي من بعده اسمه أحمد :هو محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحمد أحد أسمائه الخمسة المذكوران والماحي، والعاقب والحاشر.
فلما جاءهم بالبينات :أي على صدق رسالته بالمعجزات الباهرات.
قالوا: هذا سحر مبين :أي قالوا في المعجزات إنها سحر.
معنى الآيات:
قوله تعالى {سَبَّحَ لِلَّهِ 1مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} يخبر تعالى أنه قد سبحه جميع ما في السموات وما في الأرض بلسان القال والحال، وأنه العزيز لحكيم العزيز الغالب على أمره لا يمانع في مراده الحكيم في صنعه وتدبيره لملكه. بعدما أثنى تعالى على نفسه بهذا الخطب المؤمنين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ 2تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ3} لفظ النداء عام والمراد به جماعة من المؤمنين قالوا لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لفعلناه فلما علموه ضعفوا عنه ولم يعملوا فعاتبهم الله تعالى في هذه الآية ولتبقى تشريعا عاماً إلى يوم القيامة فكل من يقول فعلت ولم يفعل فقد كذب وبئس الوصف الكذب ومن قال سأفعل ولم يفعل فهو مخلف للوعد وبئس الوصف خلف الوعد وهكذا يربي الله عباده على الصدق والوفاء. وقوله تعالى {كَبُرَ4 مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَْ} أي قولكم نفعل ولم تفعلوا مما يمقت عليه صاحبه أشد المقت أي يبغض أشد البغض.
وقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ5 الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} أي صافين متلاصقين لا فرجة بينهم كأنهم بنيان مرصوص بعضه فوق بعض لا خلل فيه ولا فرجة كأنه ملحم بالرصاص.
وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ6} أي اذكر إذ قال موسى لقومه من بني إسرائيل يا قوم لم تؤذوني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم والحال أنكم تعلمون أني رسول الله إليكم حقاً وصدقاً، وقد آذوه بشتى أنواع الأذى بألستهم السليطة وآرائهم الشاذة من ذلك قولهم إن موسى آدر ولذا هو لا يغتسل معنا، ومعنى آدر به أدرة وهي انتفاخ الخصية.
__________
1 في جامع الترمذي عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه فأنزل الله تعالى: { سَبَّحَ لِلَّهِ 1مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ...} الخ السورة. ورواه الحاكم وأحمد وغيره.
2 اللام حرف جر والميم حرف استفهام وهو هنا إنكاري نوبيخي.
3 النداء بوصف الإيمان فيه التعريض بأن الإيمان من شأن صاحبه أن لا يخلف إذا وعد وأن يفي إذا نذر لأنه روح وصاحبه حي قادر على الفعل والترك بخلاف الكفر وأهله.
4 (مقتاً): منصوب على التمييز وهو تمييز نسبة والتقدير: كبر ممقوتاً قولكم ما لا تفعلون.
5 هذا جواب لقولهم: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملناه فبين لهم أحب الأعمال إليه وهو أحب العاملين عنده فله الحمد وله المنة.
6 لعل وجه المناسبة بين قصة موسى هنا وعتاب المؤمنين على فرار من فر يوم أحد هو: أن قوم موسى أيضاً جبنوا عن قتال عدوهم وقالوا لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون.

وقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا} أي مالوا عن الحق بعد علمه غاية العلم فآثروهم الباطل على الحق والشر على الخير والكفر على الإيمان عاقبهم الله فصرف قلوبهم عن الهدى نقمة منه تعالى عليهم، وذلك لأنه سنته تعالى فيمن عرض عليه الخبر فأباه بعد علمه به، ثم دعى إليه فلم يستجب ثم رغب فيه فلم يرغب وواصل الشر مختاراً له عندئذ يصبح ما اختار من الفسق أو الكفر أو الظلم أو الإجرام طبعاً له وخلقاً ثابتاً لا يتبدل ولا يتغير. وعلى هذا يؤول مثل قوله تعالى والله لا يهدي القوم الفاسقين، والله لا يهدي القوم الظالمين، والله لا يهدي القوم المجرمين, والله لا يهدي القوم الكافرين لأنه تعالى أضلهم حسب سنته في الإضلال فلا يستطيع أحد غيره تعالى أن يهدي عبداً أضله الله على علم وهذا معنى قوله تعالى من سورة النحل {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يضل}.
وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ1 يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} أي اذكر يا رسولنا للاتعاظ والعبرة قول عيسى بن مريم لليهود: يا بني إسرائيل نسبهم إلى جدهم يعقوب الملقب بإسرائيل بن اسحق بن إبراهيم الخليل عليهم السلام. إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة وهذا برهان على صدقي في دعوتي إذ لم أخالف فيما أدعو إليه من عبادة الله وحده ما في التوراة كتاب الله عز وجل وهو بين أيديكم فوفاقنا دال على أن مصدر تشريعنا واحد هو الله عز وجل فكما آمنتم بموسى وهرون وداود وسليمان آمنوا بي فإني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة, ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه2 احمد, فلهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنا دعوة3 أبي إبراهيم وبشارة عيسى", إذ إبراهيم لما كان يبني البيت مع إسماعيل كانا يتقاولان ما أخبر تعالى به في قوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ..} الآية.
وقوله تعالى {فَلَمَّا جَاءَهُمْ} أي محمد4 صلى الله عليه وسلم بالبينات أي بالحجج الدالة على صدق رسالته ووجوب إتباعه في العقيدة والشريعة كفروا به وقالوا في القرآن هذا سحر مبين كما قالها فرعون مع موسى. وكما قالتها اليهود مع عيسى عليه السلام.
__________
1 وجه مناسبة قصة عيسى لما قبلها أن بني إسرائيل كما فسقوا عن أمر الله وعصوا رسوله موسى فسقوا كذلك عن أمر الله وعصوا عيسى وكفروا فكان هذا تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما لقيه ويلقاه من اليهود.
2 هل الاسم هو عين المسمى؟ خلاف كبير والصحيح: أن الاسم هو اللفظ الدال على ذات به تتميز عن سائر الذوات.
3 رواه ابن اسحق بسند جيد ورواه أحمد بألفاظ مختلفة.
4 جائز أن يكون الضمير في جاءهم عائد إلى عيسى عليه السلام وعلى محمد صلى الله عليه وسلم إذ كلاهما قيل فيه سحر أو ساحر قرأ الجمهور (سحراً) في الآيات وقرأ بعضهم: ساحر أي: محمد أو عيسى عليهما السلام.

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- بيان غنى الله تعالى عن خلقه وأنه سبح لله ما في السموات وما في الأرض وأن ما شرعه لعباده من العبادات والشرائع إنما هو لفائدتهم وصالح أنفسهم يكملوا عليه أرواحاً وأخلاقاً ويسعدوا به في الحياتين.
2- حرمة الكذب وخلف الوعد إذ قول القائل أفعل كذا ولم يفعل كذب وخلف وعدٍ. ولذا كان قوله من المقت الذي هو أشد البغض، ومن مقته الله فقد أبغضه أشد البغض وكيف يفلح من مقته الله.
3- فضيلة الجهاد والوحدة والاتفاق وحرمة الخلاف والقتال والصفوف ممزقة حسياً أو معنوياً.
4- التحذير من مواصلة الذنب بعد الذنب فإنه يؤدي إلى الطبع وحرمان الهداية.
5- بيان كفر اليهود بعيسى عليه السلام وازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
6- بيان كفر النصارى إذ رفضوا بشارة عيسى وردوها عليه ولم يؤمنوا بالمبشر به محمد صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْأِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
شرح الكلمات:
ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب :أي لا أحد أعظم ظلماً ممن يكذب على الله فينسب إليه الولد والشريك،والقول والحكم وهو تعالى بريء من ذلك.
وهو يدعى إلى الإسلام :أي والحال أن هذا الذي يفتري الكذب على الله يدعى إلى الإسلام الذي هو الاستسلام والانقياد لحكم الله وشرعه.
والله لا يهدي القوم الظالمين :أي من ظلم ثم ظلم وواصل الظلم يصبح الظلم طبعاً له فلا يصبح قابلاً للهداية فيحرمها حسب سنة الله تعالى في ذلك.

ليطفئوا نور الله بأفواههم :أي يريد المشركون بكذبهم على الله وتشويه الدعوة الإسلامية، ومحاربتهم لأهلها يريدون إطفاء نور الله القرآن وما يحويه من نور وهداية بأفواههم وهذا محال فإن إطفاء نور الشمس أو القمر أيسر من إطفاء نور لا يريد الله إطفاءه.
هو الذي أرسل رسوله بالهدى :أي أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى أي بالهداية البشرية.
ودين الحق :أي الإسلام إذ هو الدين الحق الثابت بالوحي الصادق.
ليظهره على الدين كله :أي لينصره على سائر الأديان حتى لا يبقى إلا الإسلام ديناً.
ولو كره المشركون :أي ولو كره نصره وظهوره على الأديان المشركون الكافرون.
معنى الآيات:
يقول تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ1 مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} والحال أنه يدعى للإسلام الدين لحق إنه لا أظلم من هذا الإنسان أبداً، إن ظلمه لا يقارن بظلم هذا معنى قوله تعالى في الآية الأولى (7) {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}. أي اختلق الكذب على الله عز وجل وقال له كذا وكذا أو قال أو شرع كذا وهو لم يقل ولم يشرع. كما هي حال مشركي قريش نسبوا إليه الولد والشريك وحرموا السوائب والبحائر والحامات وقالوا في عبادة أصنامهم لو شاء الله ما عبدناهم إلى غير ذلك من الكذب والاختلاق على الله عز وجل. وقوله وهو يدعى إلى الإسلام إذ لو كان أيام الجاهلية حيث لا رسول ولا قرآن لهان الأمر أما أن يكذب على الله والنور غامر والوحي ينزل والرسول يدعو ويبين فالأمر أعظم والظلم أظلم.
وقوله تعالى في الآية الثانية (8) {يُرِيدُونَ2 لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ3} أي يريد أولئك الكاذبون على الله القائلون في الرسول: ساحر وفي القرآن إنه سحر مبين إطفاء نور الله الذي هو القرآن وما حواه من عقائد الحق وشرائع الهدى وبأي شيء يريدون إطفاءه إنه بأفواههم وهل نور الله يطفأ بالأفواه كنور شمعة أو مصباح. إن نور الله متى أراد الله إتمامه إطفاء نور القمر أو الشمس أيسر من إطفائه فليعرفوا هذا وليكفوا عن محاولاتهم الفاشلة فإن الله يريد أن يتم4 نوره ولو كره
__________
1 الاستفهام وإن كان للنفي فهو متضمن الإنكار الشديد على كل من المشركين وأهل الكتابين إذ الجميع افتروا على الله الكذب، فالمشركون قالوا: الملائكة بنات الله، واليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: عيسى ابن الله.
2 استئناف بياني ناشيء عن الإخبار عنهم بأنهم افتروا على الله الكذب في الوقت الذي هم يدعون إلى الإسلام فلما فضحهم القرآن راموا اطفاء نور الله الذي هو كتابه ورسوله ودينه بأفواههم بالكذب والدعاوى الباطلة بل والحروب الشرسة القاسية.
3 اللام في (ليطفئوا) زائدة لتأكيد الكلام وتقويته إذ الأصل يريدون إطفاء نور الله.
4 (والله متم نوره) قرأ نافع بتنوين الميم من متمم ونصب نوره على المفعولية، وقرأ حفص بدون تنوين على أن متم مضاف إلى نور ونور مضاف إلى الضمير.

المشركون إنه تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق دين الله الحق الذي هو الإسلام ليظهره على الدين كله وذلك حين نزول عيسى إذ يبطل يومها كل دين ولم يبق إلا الإسلام ولو كره ذلك المشركون فإن الله مظهره لا محالة.
هداية الآيات:
من هداية الآيات :
1- عظم جرم الكذب على الله وأنه من أفظع أنواع الظلم.
2- حرمان الظلمة المتوغلين في الظلم من الهداية.
3- إيئاس المحاولين إبطال الإسلام وإنهاء وجوده بأنهم لا يقدرون إذ الله تعالى أراد إظهاره فهو ظاهر منصور لا محالة.
4- تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
شرح الكلمات:
هل أدلكم على تجارة :أي أرشدكم إلى تجارة رابحة.
تنجيكم من عذاب أليم :أي الربح فيها هو نجاتكم من عذاب مؤلم يتوقع لكم.
تؤمنون بالله ورسوله :أي تصدقون بالله رباً وإلهاً وبمحمد نبيناً ورسولاً لله تعالى.

وتجاهدون في سبيل الله :أي وتبذلون أموالكم وأرواحكم جهاداً في سبيل الله تعالى.
ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون :أي الدخول في هذه الصفقة التجارية الرابحة خير لكم من تركها حرصاً على بقائكم وبقاء أموالكم مع أنه لا بقاء لشيء في هذه الدار.
يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم : أي هذا هو الربح الصافي مقابل ذلك الثمن الذاهب الزائل الذي هو المال
جنات تجري من تحتها الأنهار والنفس مع أن الكل لله تعالى واهبكم أنفسكم وأموالكم.
ومساكن طيبة في جنات عدن
ذلك الفوز العظيم : أي لنجاة من عذاب النار الأليم ثم دخول الجنة والظفر بما فيها من النعيم المقيم هو حقاً الفوز العظيم.
وأخرى تحبونها نصر من الله :أي وعلاوة أخرى تحبونها قطعاً إنها نصر من الله لكم ولدينكم وفتح قريب
وفتح قريب للأمصار والمدن، وما يتبع ذلك من رفعة وسعادة وهناء.
وبشر المؤمنين :أي وبشر يا رسولنا المؤمنين الصادقين بذاك الفوز وهذه العلاوة.
كونوا أنصار الله :أي لتنصروا دينه ونبيه وأولياءه.
كما قال عيسى بن مريم : أي فكونوا أنتم أيها المؤمنون مثل الحواريين، والحواريون أصحاب عيسى وهم
للحواريين من أنصاري إلى الله أول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلاً.
قال الحواريون نحن أنصار الله
فآمنت طائفة من بني إسرائيل :أي بعيسى عليه السلام، وقالوا إنه عبد الله رفع إلى السماء.
وكفرت طائفة :أي من بني إسرائيل فقالوا إنه ابن الله رفعه إليه.
فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم :فاقتتلت الطائفتان: فنصرنا وقوينا الذين آمنوا.
فأصبحوا ظاهرين :أي غالبين عالين.
معنى الآيات:
قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ1 آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أي يا من صدقتم الله ورسوله هل لنا أن ندلكم على تجارة عظيمة الربح ثمرتها النجاة من عذاب أليم في
__________
1 هذا جواب ما سألوه عنه وطلبوا معرفته وهو: أحب الأعمال إلى الله تعالى، والاستفهام مستعمل في العرض كما يقال: هل لك في كذا؟ أو هل لك إلى كذا؟ على سبيل العرض والترغيب والتشويق إلى ما يذكر به.

الدنيا والآخرة. وقوله {تُؤْمِنُونَ1 بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} هذا هو رأس المال الذي تقدمونه. إيمان بالله ورسوله حق الإيمان، جهاد في سبيل الله بالنفس والمال وأنبه إلى أن هذه الصفقة التجارية خير لكم من عدمها إن كنتم تعلمون ربحها وفائدتها. 2 {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} إنها النجاة من العذاب الدنيوي والأخروي أولاً، ثم مغفرة ذنوبكم وإدخالكم جنات تجري من تحتها الأنهار، أي من تحت قصورها وأشجارها، ومساكن طيبة في جنات عدن أي إقامة دائمة. ثانياً ثم زاد الحق في ترغيبهم فقال {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} إنه النجاة من النار، ودخول الجنة، فلا فوز أعظم منه قط هذا ولكم علاوة على ذلك الربح العظيم وهي ما أخبر تعالى عنها بقوله: 3 {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا } أي وفائدة أخرى تحبونها: نصر من الله أي لكم على أعدائكم ولدينكم على سائر الأديان وفتح قريب لمكة ولباقي المدن والقرى في الجزيرة وما وراءها. وقوله تعالى {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أي وبشر4 يا رسولنا الذين آمنوا بنا وبرسولنا وبوعدنا ووعيدنا بحصول ما ذكرناه كاملا، وقد تم لهم كاملاً ولله الحمد والمنة. وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} هذا نداء ثانٍ في هذا السياق الكريم ناداهم بعنوان الإيمان أيضاً إذ الإيمان هو الطاقة المحركة الدافعة فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ5 اللَّهِ} أي التزموا بنصرة ربكم وإلهكم الحق في دينه ونبيه وأوليائه المؤمنين. قولوا كما قال الحواريون6 لما دعاهم عيسى نبيهم لنصرته قائلاً من أنصاري إلى الله أي من ينصرني في حال كوني متوجهاً إلى الله انصر دينه وأولياءه، فأجابوه قائلين نحن أنصار الله. فكونوا أنتم أيها المسلمون مثلهم، وقد كانوا رضي الله عنهم كما طلب منهم.
__________
1 جملة: (تؤمنون) بيانية لأهل العرض السابق يثير سالاً وهو: ما الذي ريد أن يدلنا عليه؟ فالجواب: الإيمان والجهاد. (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله...}الخ.
2 (يغفر لكم بالجزم لأن الفعل واقع موقع جواب الطلب إذ: تؤمنون وتجاهدون لفظهما لفظ الخبر وعناهما الإنشاء أي: آمنوا وجاهدوا يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم، وجزم (ويدخلكم) أيضاً على العطف على يغفر.
3 (وأخرى) الجملة معطوفة على (يغفر لكم) وما بعدها وجيء بالجملة اسمية للدلالة على الثبوت والتحقق، فأخرى: مبتدأ خبره محذوف أي: وأخرى لكم أي ثابتة لكم وتحبون: صفة لأخرى.
4 لقد شوق الله أصحاب رسوله إلى تحقيق الإيمان بالجهاد فأيقنوا وعزموا على الجهاد فأصبح أسمى أمانيهم فأنجز الله لهم ما وعدهم فأمر رسوله أن يبشرهم بما وعدهم تعجيلاً للمسرة.
5 الأنصار: جمع نصير وهو الناصر: القوي النصرة، وقرأ نافع (كونوا أنصاراً لله) بتنوين (أنصاراً) وقرأ حفص بدون تنوين مضاف إلى اسم الجلالة.
6 الحواريون: جمع حواري بفتح الحاء وتخفيف الواو وهي معربة عن الحبشية (حوارياً) وهو الصاحب الصفي وأطلق هذا الاسم على أصحاب عيسى الإثني عشر رجلا، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام حواريه على التشبيه بأحد الحواريين فقال: "لكل نبي حواري وحواري الزبير).

وقوله تعالى {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي فاقتتلوا فأيدنا أي قوينا ونصرنا الذين آمنوا وهم الذين قالوا عيسى عبد الله ورسوله رفعه ربه تعالى إلى السماء، على عدوهم وهم الطائفة الكافرة التي قالت عيسى ابن الله رفعه إليه تعالى الله أن يكون له ولد.
وقوله تعالى {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} أي غالبين عالين إلى أن احتال اليهود على إفساد الدين الذي جاء به عيسى وهو الإسلام أي عبادة الله وحده بما شرع أن يعبد به فحينئذ لم يبق من المؤيدين إلا أنصار قليلون هنا وهناك وعلا الكفر والتثليث واستمر الوضع كذلك إلى أن بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم فانضم إلى الإسلام من انضم من النصارى فأصبحوا بالإسلام ظاهرين على عدوهم من المشركين المؤلهين لعيسى والحيارى في تقويمه مرة يقولون هو الله، ومرة يقولون: هو ابن الله، ومرة يقولون: ثالث ثلاثة هو الله. وضللهم وتركهم في هذه المتاهات الانتفاعيون من الرؤساء والجاهلون المقلدون من المرءوسين كما فعل نظراؤهم في الإسلام فحولوه إلى طوائف وشيع إلا أن الإسلام تعهد الله بحفظه إلى يوم القيامة فمن أراده وجده صافياً كما نزل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن لم يرده وأراد الضلالة وجدها في كل عصر ومصر.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- فضل الجهاد بالمال والنفس وأنه أعظم تجارة رابحة.
2- تحقيق بشرى المؤمنين التي أمر الله رسوله أن يبشرهم بها فكان هذا برهاناً على صحة الإسلام وسلامة دعوته.
3- بيان استجابة المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طلب منهم نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه والمؤمنين معه. وهي نصرة الله تعالى المطلوبة.

سورة الجمعة
...
سورة الجمعة1
مدنية وآياتها إحدى عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
شرح الكلمات:
يسبح لله ما في السموات :أي ينزه الله تعالى عما لا يليق به ما في السموات وما في الأرض من سائر
وما في الأرض الكائنات بلسان القال والحال، ولم يقل (من) بدل (ما) تغليباً لغير العاقل لكثرته على العاقل.
في الأميين :أي العرب لندرة من كان يقرأ منهم ويكتب.
رسولاً منهم :أي محمداً صلى الله عليه وسلم إذ هو عربي قرشي هاشمي.
ويزكيهم :أي يطهرهم أرواحاً وأخلاقاً.
ويعلمهم الكتاب والحكمة :أي هدى الكتاب وأسرار هدايته.
وإن كانوا من قبل لفي ضلال :أي وإن كانوا من قبل بعثة الرسول في ضلال الشرك والجاهلية.
مبين
وآخرين منهم لما يلحقوا بهم :أي وآخرين مؤمنين صالحين لما يلحقوا أي لم يحضروا حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلم الكتاب والحكمة, وسيلحقون بهم وهم
__________
1 سورة الجمعة أي: السورة التي يذكر فيها لفظ الجمعة وهل المراد بالجمعة يوم الجمعة أو صلاة الجمعة الظاهر أن المراد بلفظ الجمعة: صلاة الجمعة، وجائز أن يكون المراد يوم الجمعة وقد نزلت الجمعة جملة واحدة سنة ست من الهجرة.

كل من لم يحضر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب والعجم.
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء : أي كون الصحابة حازوا فضل السبق هذا فضل يؤتيه من يشاء فلا اعتراض ولكن الرضا وسؤال الله من فضله فإنه ذو فضل عظيم.
معنى الآيات:
قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} يخبر تعالى عن نفسه أنه يسبحه بمعنى ينزهه عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله من سائر مظاهر العجز والنقص ويقدسه كذلك وذلك بلسان القال والحال وهذا كقوله من سورة الإسراء وإن من شيء إلا يسبح بحمده, ولكن لا تفقهون تسبيحهم. ومع هذا شرع لنا ذكره وتسبيحه وتعبدنا به, وجعله عونا لنا على تحمل المشاق واجتياز الصعاب فكم أرشد رسوله له في مثل قوله: سبح اسم ربك, وسبحه بكرة وأصيلا, وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب, ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً. وواعد على لسانه رسوله بالجزاء العظيم على التسبيح في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر" ورغب فيه مثل قوله: "كلمتان ثقيلتان في الميزان خفيفتان على اللسان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم".
وقوله {الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ} أي المالك الحاكم المتصرف في سائر خلقه لا حكم إلا له. ومرد الأمور كلها إليه المنزه عن كل ما لا يليق بجماله وكماله من سائر النقائص والحوادث.
وقوله تعالى {وهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي كل خلقه ينزهه ويقدسه وهو العزيز الغالب على أمره الذي لا يحال بينه وبين مراده الحكيم في صنعه وتدبيره لأوليائه وفي ملكه وملكوته. وقوله تعالى {هُوَ الَّذِي1 بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ2} أي بعث في الأمة العربية الأمية رسولا منهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم إذ هو عربي قرشي هاشمي معروف النسب الي جده الأعلى عدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل.
وقوله: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} أي آيات الله التي تضمنها كتابه القرآن الكريم وذلك لهدايتهم وإصلاحهم, وقوله ويزكيهم أي ويطهرهم أرواحاً وأخلاقاً وأجساماً من كل ما يدنس الجسم
__________
1 قال ابن عباس رضي الله عنهما: الأميون العرب كلهم من كتب منهم ومن لم يكتب لأنهم لم يكونوا أهل كتاب وكونه صلى الله عليه وسلم أمياً ومن أمة أمية هو دليل معجزته وصدق نبوته.
2 (رسولاً منهم) قال ابن اسحق: ما من حي من أحياء العرب إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة وقد ولدوه إلا حي تغلب فإن الله تعالى طهر نبيه صلى الله عليه وسلم منهم لنصرانيتهم، فلم يجعل لهم عليه ولادة.

ويدنس النفس ويفسد الخلق. وقوله ويعلمهم الكتاب والحكمة. أي يعلمهم الكتاب الكريم يعلمهم معانيه وما حواه من شرائع وأحكام، ويعلمهم1 الحكمة في كل أمورهم والإصابة والسداد في كل شؤونهم، يفقههم في أسرار الشرع وحكمه في أحكامه. وقوله {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي والحال والشأن أنهم كانوا من قبل بعثته فيهم لفي ضلال مبين ضلال في العقائد ضلال في الآداب والأخلاق ضلال في الحكم والقضاء في السياسة، وإدارة الأمور العامة والخاصة.
وقوله تعالى: وآخرين 2منهم لما يلحقوا بهم أي وآخرين من العرب والعجم جاءوا من بعدهم وهم التابعون وتابعوا التابعين3 إلى يوم القيامة آمنوا وتعلموا الكتاب والحكمة التي ورثها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم لما يلحقوا بهم في الفضل لأنهم فازوا بالسبق إلى الإيمان وبصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- تقرير التوحيد.
2- تقرير النبوة المحمدية.
3- بيان فضل الصحابة على غيرهم.
4- شرف الإيمان والمتابعة للرسول وأصحابه رضي الله عنهم.
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ
__________
1 قال مالك بن أنس: الحكمة الفقه في الدين.
2 روى مسلم عن أبي هريرة قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة فلما قرأ (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم) قال رجل: من هؤلاء يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثاً قال: وفينا سلمان الفارسي قال فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: "لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء" نعم فقد دخلت فارس في الإسلام بعد الفتح العمري وآمن رجال فوفوا وكانوا من أفاضل الرجال وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن الحزب الوطني الذي تكون في الظلام للانتقام من الإسلام فعل العجب في إفساد أمة الإسلام ومن ذلك ضرب الأمة بالمذهب الرافضي الذي فرق المسلمين ودمرهم أيما تدمير.
3 من العرب وغيرهم من سائر العجم كبعض الفرس والروم والبربر والسودان والترك والمغول والأكراد والصين والهنود وغيرهم وفي هذا معجزة قرآنية إذ صدق قوله {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم) وقد لحقوا فآمنوا وتعلموا وزكوا.

دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
شرح الكلمات:
حملوا التوراة : أي كلفوا بالعمل بها عقائد وعبادات وقضاء وآداباً وأخلاقاً.
ثم لم يحملوها : أي لم يعملوا بما فيها، ومن ذلك نعته صلى الله عليه وسلم والأمر بالإيمان فجحدوا نعته وحرفوه ولم يؤمنوا به وحاربوه.
بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله : أي المصدقة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم هذا المثل الذي ضربه الله لليهود هو كمثل الحمار يحمل أسفاراً أي كتباً من العلم وهو لا يدري ما فيها.
قل يا أيها الذين هادوا :أي اليهود المتدينون باليهودية.
إن زعمتم أنكم أولياء لله من :أي وأنكم أبناء الله وأحباؤه وأن الجنة خاصة بكم.
دون الناس
فتمنوا الموت إن كنتم صادقين :أي إن كنتم صادقين في أنكم أولياء الله فتمنوا الموت مؤثرين الآخرة على الدنيا ومبدأ الآخرة الموت فتمنوه إذاً.
بما قدمت أيديهم :أي بسبب ما قدموه من الكفر والتكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يتمنون.
والله عليم بالظالمين :أي المشركين ولازم علمه بهم أنه يجزيهم بظلمهم العذاب الأليم.
تفرون منه :أي لأنكم لا تتمنونه أبداً وذلك عين الفرار منه.
فإنه ملاقيكم :أي حيثما اتجهتم فإنه ملاقيكم وجهاً لوجه.
ثم تردون إلى عالم الغيب :أي إلى الله تعالى يوم القيامة.
والشهادة

معنى الآيات:
قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} أي كلفوا بالعمل بها من اليهود والنصارى ثم لم يحملوها أي ثم لم يعملوا بما فيها من أحكام وشرائع ومن ذلك جحدهم لنعوت النبي محمد صلى الله عليه وسلم والأمر بالإيمان به واتباعه عند ظهوره. وقوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً1} أي كمثل حمار يحمل على ظهره أسفاراً من كتب العلم النافع وهو لا يعقل ما يحمل ولا يدري ماذا على ظهره من الخير، وذلك لأنه لا يقرأ ولا يفهم2. وقوله تعالى {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ} أي المصدقة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم هذا المثل الذي ضربه تعالى لأهل الكتاب من يهود ونصارى. وقوله والله لا يهدي القوم الظالمين، ولهذا ما هداهم إلى الإسلام. لتوغلهم في الظلم والكفر والشر والفساد لم يكونوا أهلاً لهداية الله تعالى.
وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا} أي قل يا رسولنا يا أيها الذين هادوا أي يا من هم يدعون أنهم على الملة اليهودية، إن زعمتم أنكم أولياء الله من دون الناس حيث ادعيتم أنكم أبناء الله وأحباؤه، وأن الجنة لكم دون غيركم إلى غير ذلك من دعاويكم فتمنوا الموت إن3 كنتم صادقين في دعاويكم إذ الموت طريق الدار الآخرة فتمنوه لتموتوا فتستريحوا من كروب الدنيا وأتعابها.
وقوله تعالى: {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً} أخبر تعالى وهو العليم أنهم لا يتمنونه في يوم من الأيام أبداً، وبين تعالى علة ذلك بقوله: بما قدمت أيديهم من الذنوب والآثام الموجبة للعذاب. وقوله {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} أي من أمثال هؤلاء اليهود وسيجزيهم بظلمهم عذاب الجحيم. وقوله تعالى {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ4} أي قل لهم يا رسولنا إن الموت الذي تفرون منه ولا تتمنونه فراراً وخوفاً
__________
1 قال بعض أهل العلم: أبطل الله ادعاء اليهود في ثلاث آيات من هذه السورة افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه فكذبهم بقوله: (فتمنوا الموت) وبأنهم أهل كتاب فشبههم بالحمار يحمل أسفاراً، وبالسبت فشرع الله للمسلمين الجمعة فلم يبق لهم ما يفتخرون به على المسلمين.
2 أنشد بعضهم عائباً بعض من يحمل رواية الحديث وهو لا يفهم المراد منها:
إن الرواة على جهل بما حملوا
مثل الجمال عليها يحمل الودع
لا الودع ينفعه حمل الجمال له
ولا الجمال بحمل الودع تنتفع
الودع والواحدة ودعة مناقيف صغار تخرج من قاع البحر.
3 الأمر في قوله تعالى: (فتمنوا الموت) للتعجيز فلذا لم يفعلوا ولو فعلوا لما بقيت فيهم عين تطرف؛ لأنهم كاذبون.
4 جملة (الذي تفرون منه) صفة للموت، وفيه إشارة إلى خطإهم في الهلع والخوف من الموت ولا تعارض بين هذه الآية وهي تدعو إلى تمني الموت، وبين النهي عنه في الحديث الصحيح: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به" لأن طلب التمني من اليهود كان لتحديهم، والنهي عن تمني الموت كان بسبب الجزع من الضر حيث يجب الصبر لما في المرض من تكفير الذنوب، وفي الحديث: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" وهذا الحديث يفسر ما تقدم فإن العبد الصالح إذا كان في سياقات الموت يحب الموت للقاء الله تعالى، والعبد غير الصالح يكره لقاء الله كراهية اليهود لما يعلم من ذنوبه وعظيم آثامه فهو يخاف الموت لذلك.

منه فإنه1 ملاقيكم لا محالة حيثما كنتم سوف يواجهكم وجهاً لوجه ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة وهو الله تعالى الذي يعلم ما غاب في السماء والأرض، ويعلم ما يسر عباده، وما يعلنون وما يظهرون وما يخفون فينبئكم بما كنتم تعملون ويجزيكم الجزاء العادل إنه عليم حكيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- ذم من يحفظ كتاب الله ولم يعمل بما فيه.
2- التنديد بالظلم والظالمين.
3- بيان كذب اليهود وتدجيلهم في أنهم أولياء الله وأن الجنة خالصة لهم.
4- بيان أن ذوي الجرائم أكثر الناس خوفاً من الموت وفراراً منه.
يَا َيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
شرح الكلمات:
إذا نودي للصلاة : أي إذا أذن المؤذن لها عند جلوس الإمام على المنبر.
من يوم الجمعة : أي في يوم الجمعة وذلك بعد الزوال.
فاسعوا إلى ذكر الله :أي امضوا إلى الصلاة.
وذروا البيع :أي اتركوه، وإذا لم يكن بيع لم يكن شراء.
__________
1 من أحسن ما قيل في الوعظ بالموت قول طرفة:
وكفى بالموت فاعلم واعظاً
لمن الموت عليه قد قدر
فذكر الموت وحاذر تركه
إن في الموت لذي اللب عبر
كل شيء سوف يلقى حتفه
في مقام أو على ظهر سفر
والمنايا حوله ترصده
ليس ينجيه من الموت حذر
وقال زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
ولو رام أسباب السماء بسلم

وابتغوا من فضل الله :أي اطلبوا الرزق من الله تعالى بالسعي والعمل.
تفلحون :أي تنجون من النار وتدخلون الجنة.
انفضوا إليها :أي إلى التجارة.
وتركوك قائماً :أي على المنبر تخطب يوم الجمعة.
ما عند الله خير من اللهو ومن :أي ما عند الله من الثواب في الدار الآخرة خير من اللهو ومن التجارة.
التجارة
والله خير الرازقين :أي فاطلبوا الرزق منه بطاعة وإتباع هداه.
معنى الآيات:
قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي يا من صدقتم الله ورسوله {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ 1الْجُمُعَةِ2} أي إذا أذن المؤذن بعد زوال يوم الجمعة وجلس الإمام على المنبر {فَاسَعَوْا3 إِلَى ذِكْرِ4 اللَّهِ} أي امضوا إلى ذكر الله الذي هو الصلاة والخطبة إذ بهما يذكر الله تعالى. وقوله {وَذَرُوا الْبَيْعَ5} إذ هو الغالب من أعمال الناس، وإلا فسائر الأعمال يجب إيقافها والمضي إلى الصلاة.
وقوله {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي ترك الأعمال من بيع وشراء وغيرها والمضي إلى أداء صلاة الجمعة وسماع الخطبة خير ثوابا وعاقبة.
وقوله تعالى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} أي أديت وفرغ منها فانتشروا في الأرض أي لكم بعد انقضاء الصلاة أن تتفرقوا حيث شئتم في أعمال الدين والدنيا. تبتغون فضل الله، {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} أي أثناء تفرقكم وانتشاركم في أعمالكم اذكروا الله ولا تنسوه واذكروه ذكراً كثيراً لعلكم تفلحون أي رجاء فلاحكم وفوزكم في دنياكم وآخرتكم.
__________
1 المراد من النداء: الأذان الذي يكون الإمام على المنبر إذ كان الأذان واحداً حتى زاد عثمان رضي الله عنه ثانياً حين كثر الناس بالمدينة.
2 لفظ الجمعة: بضم كل من الجيم والميم، وبتسكين الميم، والجمع: جمع كغرفة وغرف وجمعات كغرفات وكان يومها يسمى العروبة بفتح العين وقيل أول من سماها الجمعة كعب بن لؤي وقيل: الأنصار، وأول جمعة صليت في الإسلام هي الجمعة التي جمع فيها أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير أهل المدينة وصلوها زكانوا اثني عشر رجلا: وأول جمعة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة هي جمعته في بني سالم بن عوف وهو في طريقه من قباء إلى المدينة، وأول جمعة بعدها كانت بجواثي: قرية من قرى البحرين.
3 ليس المراد بالسعي الجري واشتداد العدو وإنما هو المشي والمضي لحديث صحيح: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ولكن أئتوها وعليكم السكينة" ومن إطلاق السعي والمراد المضي والعمل لا غير قول الشاعر:
أسعي على جل بني مالك
كل امرئ في شأنه ساعي
وفي القرآن: { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها}.
4 ذكر الله: الصلاة والخطبة قبلها.
5 لا خلاف في حرمة البيع والشراء عند الأذان الثاني.

وقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} هذه الآية نزلت في شأن قافلة زيت كان صاحبها دحية بن خليفة الكلبي الأنصاري رضي الله عنه قدمت من الشام، وكان عادة أهل المدينة إذا جاءت قافلة تجارية تحمل الميرة يستقبلونها بشيء من اللهو كضرب الطبول والمزامير. وصادف قدوم القافلة يوم الجمعة والناس في المسجد، فلما انقضت الصلاة وطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب، وكانت الخطبة بعد الصلاة لا قبلها كما هي بعد ذلك فخرج الناس يتسللون حتى لم يبق مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً وامرأة فنزلت هذه الآية تعيب عليهم خروجهم وتركهم نبيهم يخطب. فقال تعالى في صورة عتاب شديد {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} أي خرجوا إليها {وَتَرَكُوكَ} يا رسولنا قائما على المنبر تخطب. وقوله تعالى: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ} أي أعلمهم يا نبينا أن ما عند الله من ثواب الآخرة خير من اللهو والتجارة التي خرجتم إليها، {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} فاطلبوا الرزق منه بطاعته وطاعة رسوله ولا يتكرر منكم مثل هذا الصنيع الشين. وإلا فقد تتعرضون لعذاب عاجل غير آجل.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- وجوب صلاة الجمعة ووجوب1 المضي إليها عند النداء الثاني الذي يكون والإمام على المنبر.
2- حرمة البيع والشراء وسائر العقود إذا شرع المؤذن يؤذن الأذان الثاني.
3- الترغيب في ذكر الله تعالى والإكثار منه والمرء يبيع ويشتري ويعمل ويصنع ولسانه ذاكر.
4- ينبغي أن لا يقل المصلون الذين تصح صلاة الجمعة بهم عن اثني عشر رجلاً أخذاً من حادثة انفضاض الناس عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخطب إلى القافلة حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً.
__________
1 ورد في فضل الجمعة والغسل لها قوله صلى الله عليه وسلم "فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه" وقوله: "الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما ما لم تغش الكبائر" (مسلم) وقوله: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم" (في الصحيح).

سورة المنافقون
...
سورة المنافقون
مدنية وآياتها إحدى عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
شرح الكلمات:
إذا جاءك المنافقون :أي حضر مجلسك المنافقون كعبد الله بن أبي وأصحابه.
قالوا نشهد إنك لرسول الله :أي قالوا بألسنتهم ذلك وقلوبهم على خلافه.
والله يشهد إن المنافقين لكاذبون :أي والله يعلم أن المنافقين لكاذبون أي بما أضمروه من أنك غير رسول الله.
اتخذوا أيمانهم جنة :أي سترة ستروا بها أموالهم وحقنوا بها دماءهم.
فصدوا عن سبيل الله :أي فصدوا بها عن سبيل الله أي الجهاد فيهم.
إنهم ساء ما كانوا يعملون :أي قبح ما كانوا يعملونه من النفاق.
ذلك :أي سوء عملهم.
بأنهم آمنوا ثم كفروا :أي آمنوا بألسنتهم، ثم كفروا بقلوبهم أي استمروا على ذلك.
فطبع على قلوبهم :أي ختم عليها بالكفر.

فهم لا يفقهون :أي الإيمان أي لا يعرفون معناه ولا صحته.
تعجبك أجسامهم :أي لجمالها إذ كان ابن أبي جسيما صحيحاً وصبيحاً ذلق اللسان.
وإن يقولوا تسمع لقولهم :أي لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم.
كأنهم خشب مسندة :أي كأنهم من عظم أجسامهم وترك التفهم وعدم الفهم خشب مسندة أي أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام.
يحسبون كل صيحة عليهم :أي يظنون كل صوت عال يسمعونه كنداء في عسكر أو إنشاد ضالة عليهم وذلك لما في قلوبهم من الرعب أن ينزل فيهم ما يبيح دماءهم.
هم العدو فاحذرهم :أي العدو التام العداوة فاحذرهم أن يفشوا سرك أو يريدوك بسوء.
قاتلهم الله أنى يؤفكون :أي لعنهم الله كيف يصرفون عن الإيمان وهم يشاهدون أنواره وبراهينه.
معنى الآيات:
قوله تعالى {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} لنزول هذه السورة سبب هو أن زيد1 بن أرقم رضي الله عنه قال كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبي سلول يقول لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل, فذكرت ذلك لعمى فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل رسولاً إلى ابن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني فأصابني هم لم يصبني مثله فجلت في بيتي فأنزل الله عز وجل إذا جاءك المنافقون إلى قوله الأعز منها الأذل فأرسل إلى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال إن الله قد صدقك.
قوله إذا جاءك المنافقون أي إذا حضر مجلسك المنافقون عبد الله بن أبي ورفاقه قالوا نشهد إنك لرسول الله وذلك بألسنتهم دون قلوبهم. قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ2 إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} سواء شهد بذلك المنافقون أو لم يشهدوا. والله يشهد إن المنافقين لكاذبون في شهادتهم لعدم مطابقة قولهم لاعتقادهم. اتخذوا أيمانهم جنة أي جعلوا من أيمانهم الكاذبة جنة كجنة المقاتل يسترون
__________
1 رواه البخاري في صحيحه والترمذي وغيرهما كانت هذه الحادثة في غزوة بني المصطلق سنة خمس من الهجرة.
2 جملة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين وفائدة هذا الاعتراض دفع ما قد يتوهمه من يسمع جملة: (والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) أنه تكذيب لجملة (إنك لرسول الله).

بها كما يستتر المحارب بجنته فوق رأسه، فهم بأيمانهم الكاذبة أنهم مؤمنون وقوا بها أنفسهم وأزواجهم وذرياتهم من القتل والسبي، وبذلك صدوا عن1 سبيل الله أنفسهم وصدوا غيرهم ممن يقتدون بهم وصدوا المؤمنين عن جهادهم بما أظهروه من إيمان صورى كاذب. قال تعالى: {إِنَّهُمْ2 سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يذم تعالى حالهم ويقبح سلوكهم ذلك وهو اتخاذ أيمانهم جنة وصدهم عن سبيل الله وقوله تعالى الآية رقم 3 {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ3 عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي سوء عملهم وقبح سلوكهم ناتج عن كونهم أمنوا ثم شكوا أو ارتابوا فنافقوا وترتب على ذلك أيضاً الطبع على قلوبهم فهم لذلك لا يفقهون معنى الإيمان ولا صحته من بطلانه وهذا شأن من توغل في الكفر أن يختم على قلبه فلا يجد الإيمان طريقاً إلى قلب قد أقفل عليه بطابع الكفر وخاتم النفاق والشك والشرك.
وقوله تعالى في الآية (4) {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ4 تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} أي وإذا رأيت يا رسولنا هؤلاء المنافقين ونظرت إليهم تعجبك أجسامهم لجمالها إذ كان ابن أبي جسيما صبيحاً وإن يقولوا تسمع لقولهم وذلك لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم. وقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} وهو تشبيه رائع: إنهم لطول أجسامهم وجمالها وعدم فهمهم وقلة الخير فيهم كأنهم خشب مسندة على جدار لا تشفع ولا تنفع كما يقال.
وقوله تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} وذلك لخوفهم والرعب المتمكن من نفوسهم نتيجة ما يضمرون من كفر وعداء وبغض للإسلام وأهله فهم إذا سمعوا صيحة في معسكر أو صوت منشد ضاله يتوقعون أنهم معنيون بذلك شأن الخائن وأكثر ما يخافون أن ينزل القرآن بفضيحتهم وهتك أستارهم. قال تعالى هم5 العدو فاحذرهم يا رسولنا إن قلوبهم مع أعدائك فهم يتربصون بك الدوائر.
قال تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} فسجل عليهم لعنة لا تفارقهم إلى يوم القيامة كيف يصرفون عن الحق وأنواره تغمرهم القرآن ينزل والرسول يعلم ويزكى وآثار ذلك في المؤمنين
__________
1 الفاء للتفريع فجملة (فصدوا عن سبيل الله) متفرعة عن جملة (اتخذوا أيمانهم جنة).
2 الجملة تذييلية من أجل تفظيع حالهم، والتنديد بسوء سلوكهم.
3 الإشارة إلى قوله: (إنهم ساء ما كانوا يعملون).
4 هذه الجملة معطوفة على سابقتها وهي (فهم لا يفقهون) وهي واقعة موقع الاحتراس والتتميم لدفع إيهام من يغره ظاهر صورهم وأشكالهم كما في قول حسان رضي الله عنه.:
لا بأس بالقوم من طول ومن غلظ
جسم البغال وأحلام العصافير
5 الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً إذ قوله تعالى: (يحسبون كل صيحة عليهم) يثير تساؤلات فأجيب السائل المتطلع بقوله تعالى: (هم العدو فاحذروهم) ونفسيتهم المريضة هي التي جعلتهم يحسبون كل صيحة عليهم كما قال المتنبي:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
وصدق ما يعتاده من توهم

ظاهرة في لآرائهم وأخلاقهم. ولم يشاهدوا شيئاً من ذلك والعياذ بالله من عمى القلوب وانطماس البصائر.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1-بيان أن الكذب ما خالف الاعتقاد وإن طابق الواقع.
2- التحذير من الاستمرار على المعصية فإنه يوجب الطبع على القلب ويحرم صاحبه الهداية.
3- التحذير من الاغترار بالمظاهر كحسن الهندام وفصاحة اللسان.
4- الكشف عن نفسية الخائن والظالم والمجرم وهو الخوف والتخوف من كل صوت أو كلمة خشية أن يكون ذلك بياناً لحالهم وكشفاً لجرائمهم.
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8)
شرح الكلمات:
وإذا قيل لهم تعالوا :أي معتذرين.
لووا رؤوسهم :أي رفضوا الاعتذار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورأيتهم يصدون :أي يعرضون عما دعوا إليه وهم مستكبرون.

سواء عليهم استغفرت لهم :أي يا رسولنا.
أم لم تستغفر لهم :
لن يغفر الله لهم :أي إيأس من مغفرة الله لهم.
إن الله لا يهدي القوم الفاسقين :أي لأن من سنة الله أنه لا يهدي القوم الفاسقين المتوغلين في الفسق عن طاعة الرب تعالى وهم كذلك.
يقولون :أي لأهل المدينة.
لا تنفقوا على من عند رسول الله :أي من المهاجرين.
حتى ينفضوا : أي يتفرقوا عنه.
لئن رجعنا إلى المدينة :أي من غزوة كانوا فيها هي غزوة بني المصطلق.
ليخرجن الأعز منها الأذل :يعنون بالأعز أنفسهم، وبالأذل المؤمنين.
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين :أي الغلبة والعلو والظهور.
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم في الحديث عن المنافقين فقوله تعالى في الآية (5) { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} وذلك عندما قال ابن أبي ما قال من كلمات خبيثة منها قوله في المهاجرين: سمن كلبك يأكلك. وقوله لصاحبه: لا تنفقوا على المهاجرين حتى يتفرقوا عن محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله مهدداً لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز يعني نفسه ورفاقه المنافقين الأذل يعني الأنصار والمهاجرين. فلما قال هذا كله وأكثره في غزوة بني1 المصطلق وأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فحلف بالله ما قال شيئاً من ذلك أبداً وذهب فنزلت هذه السورة الكريمة تكذبه. ولما نزلت هذه السورة بفضيحته جاءه من قال له: يا أبا الحباب (كنية ابن أبي) إنه قد نزل فيك آي شداد فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك فلوى رأسه أي عطفه إلى جهة غير جهة من يخاطبه وقال: أمرتموني أن أؤمن فآمنت وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فأعطيت فما بقي إلا أن أسجد لمحمد صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآيات الثلاث وإذا قيل لهم تعالوا أي معتذرين يستغفر لكم رسول الله. لووا رؤوسهم أي رفضوا العرض ورأيتهم يصدون عنك وهم مستكبرون والمراد بهم ابن أبي عليه لعائن الله قال تعالى لرسوله: سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم فأيأس رسوله من المغفرة لهم، وعلل تعالى ذلك بقوله: إن الله لا يهدي القوم الفاسقين2
__________
1 سبب نزول هذه السورة والآيات منها أن النبي صلى الله عليه وسلم (غزا بني المصطلق على ماء يقال له (المريسيع) من ناحية قديد إلى الساحل فازدحم أجير لعمر يقال له: جهجاه مع حليف لابن أبي يقال له: سنان على ماء بالمشلل فصرخ جهجاه بالمهاجرين وصرخ سنان بالأنصار فجاء ابن أبي وقال كلماته الخبيثة التي هي في التفسير. ونزلت السورة.
2 وهم كل من يسبق في علم الله أنه لا يتوب لما أحاط به من الذنوب.

وابن أبي من أكثر الفاسقين فسقاً! إذ جمع بين الكذب والحلف الكاذب والنفاق والشقاق والعداء والكبر والكفر الباطني وذكر تعالى قولات هذا المنافق واحدة بعد واحدة فقال هم الذين يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله أي قال لإخوانه لا تنفقوا على المهاجرين حتى يتفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرعه رب العزة وأدبه ببيان فساد ذوقه ورأيه فقال تعالى: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ1 وَالْأَرْضِ} فجميع الأرزاق بيده وهو الذي يرزق من يشاء والمنافق نفسه رزقه على الله فكيف يدعي أنه إذا لم ينفق على من عند رسول الله يجوعون فيتفرقون يطلبون الرزق بعيداً عن محمد صلى الله عليه وسلم. ولكن المنافقين لعماهم وظلمة نفوسهم ومرض قلوبهم لا يفقهون هذا ولا يفهمونه، ولذا قال رئيسهم كلمته الخبيثة. تلك كانت القولة الأولى. والثانية هي قوله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قالها في غزوة بني المصطلق وهي غزوة سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم أن بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحارث بن أبي ضرار وهو أبو جويريه زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى أمهات المؤمنين. فلما سمع بذلك خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فوقع القتال فهزم الله بني المصطلق وأمكن رسوله من أبنائهم ونسائهم وأموالهم وأفاءها على المؤمنين، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه جويرية بوصفها بنت سيد القوم إكراماً لها ثم عتقها وتزوجها فرأى المؤمنون أن ما بأيديهم من السبي لا ينبغي لهم وقد أصبحوا أصهار نبيهم فعتقوا كل ما بأيديهم فقالت عائشة رضي الله عنها ما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها من جويرية بنت الحارث فقد أعتق بتزويج رسول الله لها مائة أهل بيت من بني المصطلق.
في هذه الغزاة قال ابن أبي قولته الخبيثة وذلك أن رجلين2 أنصارياً ومهاجراً تلاحيا على الماء3 4فكسع المهاجر الأنصاري برجله فصاح ابن أبي قائلا عليكم صاحبكم، ثم قال: والله ما مثلنا ومحمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وغاب عن ذهن هذا المنافق أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين أي الغلبة والظهور والعلو لا للمنافقين والمشركين الكافرين ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك ولا غيره لعمى بصائرهم ولما
__________
1 (الخزائن) جمع خزانة وهي البيت الذي يخزن فيه الطعام. وروى الترمذي أن عمر رضي الله عنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم إشفاقاً عليه ورحمة به: ما كلفك الله يا رسول الله مالا تقدر عليه، عندما قال لرجل سأله عطاء ابتع علي فإذا جاء شيء قضيته فقال رجل من الأنصار يا رسول الله أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف في وجهه البشر وقال: بهذا أمرت).
2 تقدم ذكر اسميهما وهما: جهجاه، وسنان.
3 تقدم أن هذا الماء كان بالمشلل.
4 كسعه: ضربه في دبره.

بلغ الغزاة المدينة وقف عبد الله بن عبد الله بن أبي في عرض الطريق واستل سيفه فلما جاء أبوه يمر قال له والله لا تمر حتى تقول: محمد الأعز وأنا الأذل، فلم يبرح حتى قالها: وكان ولد مؤمناً صادقاً من خيرة الأنصار.
هداية الآيات:
من هداية الآيات :
1- لا ينفع الاستغفار للكافر ولا الصلاة عليه بحال.
2- ذم الإعراض والاستكبار عن التوبة والاستغفار. فمن قيل له استغفر الله فليستغفر ولا يتكبر بل عليه أن يقول: استغفر الله أو اللهم اغفر لي.
3- مصادر الرزق كلها بيد الله تعالى فليطلب الرزق بطاعة الله ورسوله لا بمعصيتهما.
4- العزة الحقة لله ولرسوله وللمؤمنين، فلذا يجب على المؤمن أن لا يذل ولا يهون لكافر.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
شرح الكلمات:
لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم :أي لا تشغلكم.
عن ذكر الله :كالصلاة والحج وقراءة القرآن وذكر الله بالقلب واللسان.
ومن يفعل ذلك فأولئك هم :أي ومن ألهته أمواله وأولاده عن أداء الفرائض فترك الصلاة أو الحج وغيرهما
الخاسرون من الفرائض فقد خسر ثواب الآخرة.
وأنفقوا مما رزقناكم :أي النفقة الواجبة كالزكاة وفي الجهاد والمستحبة.

لولا أخرتني :أي هلا أخرتني يطلب التأخير ولا يقبل منه.
فأصدق وأكن من الصالحين :أي حتى أزكي وأحج وأكثر من النوافل والأعمال الصالحة.
معنى الآيات:
قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}1 نادى تعالى المؤمنين لينصح لهم أن لا تكون حالهم كحال المنافقين الذين تقدم في السياق تأديبهم فقال لهم يا من آمنتم بالله ورسوله: لا تلهكم أموالكم2 ولا أولادكم أي لا تشغلكم عن3 ذكر الله بأداء فرائضه واجتناب نواهيه والإكثار من طاعته والتقرب إليه بأنواع القرب. ثم خوفهم نصحاً لهم بقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} أي بأن ألهته أمواله وأولاده عن عبادة الله فأولئك البعداء هم الخاسرون يوم القيامة بحرمانهم من الجنة ونعيمها ووجودهم في دار العذاب لا أهل لهم فيها ولا ولد. وبالغ عز وجل في إرشادهم فقال: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} مبادرين الأجل فإنكم لا تدرون متى تموتون. من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول4 متمنياً طالباً حاثاً في طلبه: رب أي يا رب لولا أخرتني إلى أجل قريب أي إلى وقت قريب من هذا فأصدق5 بمالي، وأكن من الصالحين فأحج وأتقرب إليك يا رب بما تحب من أنواع القربات والطاعات ولكن لا ينفعه التمني ولا الطلب والدعاء، لأن حكم الله الأزلي أنه تعالى لن يؤخر 6نفساً أي نفس إذا جاء أجلها أي إذا حضر وقت وفاتها وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} يحض المؤمنين على إصلاح أعمالهم والتزود لآخرتهم بإعلامهم بأنه مطلع على أعمالهم خبير بها.
__________
1 قد تكون المناسبة بين هذه الآية وما سبقها هي قول المنافقين: (لا تنفقوا على من عند رسول الله) فحذر تعالى المؤمنين من التأثر بالنظرية المادية التي يحملها ابن أبي وصرخ بها، ودعاهم إلى الإنفاق في سبيل الله قبل فوات الأوان بالموت أو الفقر وقلة ما ينفقون.
2 (لا) هي النافية اشربت معنى النهي فجزمت المضارع وفي الآية دليل على أن ما لا يشغل عن ذكر الله من مال وولد لا إثم فيه.
3 ذكر الله هنا مستعمل في الحقيقة والكناية فيشمل الذكر باللسان وهو فعل سائر الطاعات، والذكر بالقلب: وهو التذكر الموجب للطاعة.
4 قال القرطبي: في الآية دليل على وجوب تعجيل أداء الزكاة ولا يجوز تأخيرها أصلا وكذلك سائر العبادات إذا تعين وقتها. وهو كما قال رحمه الله تعالى.
5 المضارع منصوب بأن المضمرة بعد فاء السببية الواقعة في جواب الطلب، وجزم (أكن) لأنه في جواب الطلب مباشرة فلم تسبقه الفاء حتى يتعين نصبه بأن المضمرة.
6 (نفساً) نكرة في سياق النفي وهو (ولن يؤخر) تعم كل نفس، والمراد من النفس الروح وقيل فيها: نفس أخذاً من النفس وهو الهواء الذي يخرج من الأنف والفم من كل حيوان ذي رئة وسميت روحاً أخذاً من الروح بفتح الراء لأن الروح به، والروح: الراحة.

هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- حرمة التشاغل بالمال والولد مع تضييع بعض الفرائض والواجبات.
2- حرمة تأخير الحج مع القدرة على أدائه تسويفاً وتماطلاً مع الإيمان بفرضيته.
3- وجوب الزكاة والترغيب في الصدقات الخاصة كصدقة الجهاد والعامة على الفقراء والمساكين.
4- تقرير عقيدة البعث والجزاء.

 

ج11. أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري

ج11. أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير جابر بن موسى بن عبد القادر بن جابر أبو بكر الجزائري سورة التغابن مكية إلا آخرها فمدني وآياتها ث...